وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
سرى وأسرى: سار ليلا. متبعون: يتبعكم فرعون وجنوده. الشرذمة: الجماعة القليلة من الناس، والشرذمة: القطعة من الشيء جمعها شراذم. غائظون: جمع غائظ، وهو الذي يفعل ما يغضب.
حَاذرون: جمع حاذر وهو الذي يكون يقِظا محترزا. مقام كريم: القصور العالية، والمنازل المريحة والنعمة الوافرة. اورثناها: ملّكناها لهم. مشرقين: وقت شروق الشمس، تراءى الجمعان: تقابلا ورأى كل منهما الآخر. لمدرَكون: سيدركوننا. انفلق: انشق. الفِرق: بكسر الفاء الجزء. الطود: الجبل. أزلفنا: قربنا. ثم: هناك. لآية: لعظة وعبرة.
وأوحى الله الى موسى ان يَسْرِيَ ببني إسرائيل ليلاً ويخرج من مصر، وان يمضيَ بهم حيث ما يؤمر. ففعل. كذلك أعلمه الله ان فرعون سيتبعهم. وبالفعل، فقد أرسل فرعون الى جميع المدائن بمصر يقول لهم: ان موسى ومن معه شِرذمة قليلة قد أغاظونا بإيمانهم بموسى وربه، فعليكم جميعا ان تحذَروهم. وخرج فرعون بجيوشه ليلحقوا بموسى ومن معه، وتركوا تلك البلاد وما فيها من نعيم، ومنازِل وقصورٍ وجنات.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ}
يعني أنه أخرج بني إسرائيل من ذلك النعيم، واورث بني اسرائيل جناتٍ وعيوناً مماثلة لها في ارضٍ غيرها، ولا يمكن ان يكون بنو اسرائيل عادوا الى مصر وورثوها واقاموا بها.
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ}
ولحقَ فرعون وجنوده موسى ومن معه عند شروق الشمس. فلما رآهم قوم موسى خافوا وقالوا: أردكَنا فرعون!! فقال موسى: لا تخافوا إن معي ربي وهو سيَهديني الى الصواب، ويرشدّني الى طريق النجاة.
فأوحى الله الى موسى أن اضرِبْ بعصاك البحر، فضربه، فانفلق البحر قسمين عظيمين كل قسم كالجبل. وسار موسى وقومه ونجضوا، وتبعهم فرعون وجيشه فانطبق عليهم الماء فغرقوا جميعا. وفرعونُ كما تقدم هو امنفتاح بن رعمسيس، وجسده موجود الآن في المتحف المصري يشاهده الناس.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}
ان في هذا الذي حدثَ في البحر لمعجزةً وعبرة لمن اراد ان ينتفع. لكنّ اكثرَهم لم يؤمنوا ولم يعتبروا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}
يتكرر هذا التعقيب في هذه السورة ثماني مرات في ختام كل قصة
قراءات:
قرأ أهل الكوفة وابن عامر: «حاذرون» بالف بعد الحاء. والباقون: حذرون. وقرأ حفص: معيَ ربي بفتح الياء، والباقون: معي ربي بسكونها.(3/23)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
اتلُ عليهم: أخبرهم، واقرأ عليهم. عاكفين: ملازمين على عبادتها ومواظبين. يوم الدين: يوم القيامة. حُكما: علما بالخبر والعمل به. لسانَ صدق: ذكراً جميلا بين الناس. يوم يُبعثون: يوم القيامة.
في هذه الآيات الكريمة عرضٌ لقصة إبرهيم والحِجر ومريم والأنبياء والحج، وكانت القصة في كل سورة مناسبةً لسياقها العام، وعُرِض منها ما يتفق مع موضوع السورة.
وخلاصتها: أخبرْ يا محمد الناس قصة ابراهيم إذ قال لأبيه وقومه: أي شيء هذا الذي تعبدونه؟ قالوا: نعبد أصناماً ونلتزم طاعته ونواظب على ملازمتها. فقال ابراهيم: هل تسمعكم هذه الأصنام حين تدعونها، وهل تضركم او تنفعكم؟ قالوا: لا يفعلون لنا شيئا من ذلك، ولكننا وجدْنا آباءنا يعبدونها فقلّدناهم فيما كانوا يفعلون. قال ابراهيم: هل فكّرتم فيما تفعلون وما تعبدون، انتم وآباؤكم، بأن هذه الأصنام أهلٌ للعبادة؟ انني عدو لهذه الأصنام، فأنا اعبد رب العالمين الذي خلقني وتكفّل برعايتي، وهداني الى الدين الذين يدلّني على أسلوب الحياة الصحيح. انه هو الذي يسّر لي الرزقَ وأنعم عليّ بالطعام والشراب، وهو الذي ينعم علي بالشفاء إذا مرضتُ. . (الم يقل والذي يُمرْضني، بل قال واذا مرضتُ، وهذا من الأدب مع ربه) . . . . وهو الذي يميتني اذا حلّ أجَلي، والذي يحييني مرةً أخرى للحساب والجزاء، وأما أطمع ان يغفر لي ذنوبي يوم القيامة.
ثم توجه ابراهيم الى ربه بالدعاء فقال: يا رب، امنحني عِلماً أسير على هداه، ووفّقني لأنتظمَ في عداد الصالحين، واجعل لي ثناءً حينا، وذِكراً جميلاً يبقى أثره بين الناس الى يوم القيامة. واجعلني يا ربّ من عبادِك الذين يدخلون جنة النعيم، واغفر لأبي إنه كان من الكافرين، ولا تُذلّني يوم القيامة، يوم لا ينفعُ أحداً مالُه ولا أولاده لا من جاء الله بقلبٍ سليم من كل كفر ورياءٍ ونفاق.(3/24)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
أُزلفت:: قربت. وبُرّزت: بضم الباء وتشديد الراء المكسورة: جُعلت ظاهرة. الغاوين: الضالين عن طريق الحق. كبكبوا: ألقوا على وجوههم مرة بعد اخرى. نسوّيكم: نجعلكم مساوين له في استحقاق العبادة. ولا صديق حميم: ولا صديق خالص الود. فلو ان لنا كرّة: لو ان لنا رجعة ثانية الى الدنيا.
وقُرّبت الجنةُ وهيئت للسعداء الذين أطاعوا الله وآمنوا برسُله واتبعوا دينه، كما أُظهِرت جهنّم للضالين الجاحدين، وقيل لهم: أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ هل يستطيعون إنقاذكم اينتصرون لأنفسهم؟ انكم وإياهم جميعاً في النار.
ثم أُلقوا في الجحيم على وجوههم. فلما احتشدوا جميعاً في جهنّم أخذوا يتخاصمون مع أربابهم، فقالوا لهم: واللهِ إنّا كنا في الدنيا ضالّين باتّباعكم حين أطعناكم وسوّيناكم برب العالمين. وما أضلَّنا الا المجرمون من أعوانكم. . . . ونحن ليس لنا اليومَ منيشفع فينا ويُخرجنا منهذه النار، ولاصديقَ يحمينا منها! يا ليتنا نعودُ الى الدنيا فنؤمن بالله ونكفر بكم.
ان فيما ذكِر من نبأ ابراهيم لعظةً وعبرة لمن أراد ان يتعظ ويعتبر، وما كان اكثرُ قومِك يا محمد من المؤمنينَ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}(3/25)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
نذير: مخبر مع تخويف من العاقبة، ضد البشير. من المرجومين: بالحجارة، رجمه يرجمه رجما: قتله بالحجارة. فافتح بيني وبينهم: فاحكم بيني وبينهم. الفلك: السفينة، للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث. المشحون: المملوء، شحن السفينة: ملأها.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين}
جاء التعبير بأنهم كذّبوا جميعَ المرسَلين لأنهم كذبوا نوحا. اذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تحذَرون بطش الله بكم؟ اني لكم يا قومي رسولٌ امين، فاتقوا الله واطيعوني وتبعوا ديني. أنا لستُ أطلب منكم أجرا، وما أجري الا على رب العالمين. قالوا: انؤمن لك يا نوح ولم يؤمن الا البسطاء وأراذل القوم!؟ قال نوح: إن لي ظاهرَ احوالهم، ولا أعلم ما في باطنهم. إني أقبَلُ كل من يؤمن بديني، وحسابهم على الله، وما انا بطاردهم ما داموا مؤمنين، فلستُ الا نذيراً أُبلّغ عن ربي. فهدده قومه وقالوا له: لئن لم ترجعْ عن دعواك هذه لنرجمنَّك كالمجرمين. قال نوح: يا ربّ غن قومي كذّبوني ولم يبقَ لي أملٌ في اصلاحهم، فاحكم بيني وبينهم ونجّني ومن معي من المؤمنين.
فأجاه الله ومن معه في سفينته المشحونة بالخلْق والدوابّ، وأغرق قومه الآخرين الذين لم يؤمن منهم الا القليل.
ان فيما ذكره القرآن من نبأ نوح لحجةً على صدقِ الرسُل وقدرة الله، وما كان أكثر الين تتلو عليهم يا محمدُ هذا القَصص مؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .
قراءات:
قرأ يعقوب: واتباعك الارذلون. وقرأ الباقون: واتبعك الارذلون.(3/26)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
عاد: قبيلة. رِيع: بكسر الراء وفتحها: المكان المرتفع. آية: قصرا عاليا. تعبثون: تفعلون ما لا فائدة فيه. مصانع: قصورا وحسونا منيعة. لعلكم تخلدون: كأنكم خالدون في هذه الدنيا. بطشتم: اختذهم بالعنف. جبارين: متسلطين بلا رأفة ولا شفقة. أمدّكم: سخر لكم. الوعظ: الكلام اللين بذكر الوعد والوعيد. خلق الأولين: عاداتهم التي كانوا تقدمت قصة عادٍ في سورة الأعراف مفصَّلة، وفي سورة هود، وفي سورة المؤمنون بدون ذكر اسم هود وعاد. وتُعرَض هنا مختصرةً، وتبدأ كما بدأت قصة نوح وقومه.
{كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} .
اذ قال هود لقومه: أل تخافون الله وتحسبون حساباً لبطشِهِ؟ إني لكم رسولٌ أمين. وأكرر لكم القول أنِ اتقوا الله وأطيعوني فيما أبلّغكم من عند الله، وما أريد منكم أجرا، انّ أجريَ على الله رب العالمين. أتشيدون بكل مكانٍ مرتفع من الأرض بناءً شامخا تتفاخرون به وتعبثون فيه بالفسق والفجور! وتتخذون القصورَ المشيدة والحصونَ المنيعة كأنكم خالدون في هذه الدنيا! وإذا اخذتُم قوماً في حربٍ اخذتموهم بعنف الجبابرة دون شفقة او رحمة! اتقوا الله الذي أمدّكم بالأنعام والاولاد وجناتٍ تحيط بها العيون، فأنا اخاف عليكم عذاب يوم القيامة. قالوا: إننا لدعوتك مكذّبون، سواء علينا أوعظتَنا ام لم تعِظنا. نحن لن نطيع امرك، لأننا نتّبع أخلاق آبائنا وما كانوا يعملون، وما نحن بمعذَّبين عليهم كما تنذرنا به.
فكذّبوه، فأهلكناهم. ان في ذلك لآيةً يتناقلها الناس، وما أكثر الذين تتلو عليهم يا محمد نبأ عاد بمؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: ان هذا الا خُلْق الأولين بضمّ الخاء وسكون اللام وقرأ الباقون: خَلَق بفتح الخاء واللام.(3/27)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
ضيم: الطلع: اول ما يطلع من الثمر في اول تكوينه. هضيم: ناضج لين. تنحتون: تحفرون البيوت في الصخر، وهو موجود الى الآأن في مداين صالح. فارهين: نشطين فرحين. من المسحَّرين: الذين سُحروا حتى ذهبت عقولهم. شِرب: نصيب. عقروها: ذبحوها. وقبل ان يذبحوا الناقة كانوا يقطعون قوائمها، وهذا هو العقر.
تقدمت قصة صالح مع قومه في سورة الأعراف وفي سورة هود. وكانوا يسكنون بالحِجر وهي المحلّة التي تسمى الآن «مداين صالح» في شمال الحجاز.
وكذّب قوم ثمود نبيّهم صالحا، اذ قال صالح لقومه يا قومي: الا تخشَون ربك؟ إني رسول منه اليكم، فاحذَروا الله وأطيعوني، ولا أيد منكم اجرا، فأجري على الله رب العالمين. اتظنّون انكم تُتْركون في دياركم آمنين، وانتم على ما أنتم عليه من الكفر والظلم؟ وترتعون في جناتٍ وعيون وزرع ونخلٍ ثمرُها يانعٌ لطيف، وتنحتون من الجبال بيوتا مترفين نشطين؟ خافوا الله وأطيعوني أنا، ولا تطيعوا الّذين اسرفوا على أنفسِهم بالشِرك واتباع الهوى، فهم يفسدون في الارض ولا يصلحون. قالوا: ما انتض إلا من المسحورين، وما انت الا رجل مثلنا فأتِ بمعجزة ان كنت من الصادقين. قال: ان معجزتي هذه الناقة، لها نصيبٌ من الماء في يومٍ لها ولكم نصيب مثلُه في يوم آخر. اتركوها ولا تمسّوها بسوء فيعذّبكم الله عذابا شديدا.
فعقروها ثم ندموا على ما فعلوا خوفاً من العذاب. فأخذهم العذابُ، وجاءتهم صيحة عظيمة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. إن في ذكر قصتهم لدلالةً على قدرة الله على اهلاك الكافرين، وما كان اكثر قومك ايها الرسول بمؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .
قراءات:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: فَرِهين بدون الف، وقرأ الباقون: فارهين: بالف بعد الفاء.(3/28)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
أخوهم: في البلد والسكنى، وكان لوط غريباً من ارض العراق وهو ابن أخ ابراهيم. الذكران: جمع ذكر. عادون: متعدّون. المخرَجين: الذين نطردهم. القالين: المبغِضين. الغابرين: الباقيون.
تقدمت قصة لوط في سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الحجر.
أرسل الله لوطاً إلى قومٍ يسكنون في منطقة البحر الميت، أخفضِ بقعة في العالم، وهي واقعة في وادي الاردن. وكانت مدينة سَدُوم وما حولها من القرى عامرة بالخيرات. فدعاهم لوط الى عبادة الله، وَتركِ أقبح عادةٍ كانوا يعملونها وقال لهم! ألا تتقون الله وتخافون عذابه: ان الله قد أرسلني إليكم وانا أمين على رسالته، فاتقوا الله واطيعوني، لا اريد منكم أجرا انما أجري من عند الله. انكم يا قومُ دون الناس جميعاً تفعلون الفاحشة بالذكور وتتركون ما خلق الله لكم من النساء! فأجابوه: يا لوط، إما ان تتركنا مع شهواتنا وتترك دينَك او نخرجك من بلادنا. فقال لهم: إني لعملكم هذا من المبغضين.
فلما يئس منهم توجّه الى ربه وقال: يا رب، نجّني وأهلي مما يعملون. فنجاه الله مع أهله، إلا زوجته العجوز التي كفرت بدينه. ودمر الله الآخرين كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ} [هود: 82] . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .(3/29)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
الأيكة: الشجر الكثيف، وهي غَيضة قرب مَدْيَنَ في شمال الحجاز. المخسرِين: هم الذين يأخذون من الناس اكثر ما لهم. القسطاس: الميزان. لا تعثوا: لا تفسدوا. لا تبخسوا الناس أشياءهم: لا تنقصوا حقوق الناس. الجبلّة: الطبيعة والخلقة، يقال جُبل فلان على كذا: خُلق. كسفا: قطعا، جمع كسفة. الظلّة: السحابة التي جاءت بالعذاب.
تقدمت قصة شعيب في سورة الأعراف، وفي سورة هود. وكان اصحاب الأيكة يسكنون في غايةٍ قرب «مدين» أرسل الله اليهم شُعيباً فكذّبوه. ونصحهم وقال لهم: أوفوا الكيلَ وزِنوا للناس دون زيادة او نقصان، ولا تنقصوا حقوق الناس، ولا تفسدوا في الارض بقتل الناس وقطع الطرقات، اتقوا الله الذي خلقكم والذين من قبلكم. فقالوا له: أنت رجل مسحور مختلّ العقل، ولستَ الا بشراً مثلنا، ونحن نعتقد أنك كاذب، لم يرسلك الله إلينا. اسقطْ علينا قطعاً من السماء ان كنت من الصادقين! فقال لهم: ان رب عليم بما تَعملون من سيئات، وبما تستحقونه من العذاب. فكذّبوهن فأهلكهم الله بتسليط الحر الشديد، وأظلّتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأسقطها الله عليهم ناراً فاهلكتهم جميعا، في يوم شديد الهول. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} .
انتهى قصص الانبياء. . . . ويلاحَظ انه لم يأت القصص حسب التواريخ والاقدمية، وقد جاء اكثرها مختصرا حسب سياق السورة. والمقصود بذلك كله هو الانذارُ والتذكير، وتسلية الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: اصحاب ليكة بدون الف. والباقون: الأيكة.(3/30)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
الروح الأمين: جبريل عليه السلام: جبريل عليه السلام. على قلبك: عليك وعلى روحك. زُبُر الاولين: كتب الاقدمين. الآية: الدليل والبرهان. الأعجمين: كل من لا يتكلم العربية. سلكناه: ادخلناه. بغتة: فجأة. منظَرون: مؤخرون. ذِكرى: تذكرة وعبرة. ما ينبغي لهم: لا يقدرون عليه، ولا يتيسر لهم. لمعزولون: لممنوعون.
بعد ان اختتم سبحانه هذا القصص، وبيّن ما دار بين الأنبياء واقوامهم من الجدل، وذَكَرَ انه قد أهلك المكذّبين، فدالت دولةُ الباطل وانتصر الحق (وفي ذلك كله تسلية لرسوله الكريم) - وعد الله رسولَه بأنه منتصر على قومه مهما آذوه ولقي منهم من الشدائد: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62] .
بعد ذلك بين الله تعالى ان هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحيٌ من عنده أنزله على عبده ورسوله بلسان عربيّ مبين، لينذر به ويبشّر عباده، وان ذكره في الكتب المتقدمة المأثورة عن الانبياء الذين بشروا به كما جاء على لسان عيسى بن مريم {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] .
وان العلماء من بني اسرائيل يجدون ذكره في كتبهم كما قال تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الاعراف: 157] .
وان قومك ايها الرسول سمعوا القرآن وعرفوا فصاحته، وأدركوا انه معجز لا يعارَضُ بكلام مثله، ومعهذا لم يؤمنوا به فلو أنّا انزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم لكفروا به.
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين}
بيَّنا لهم القرآن ودخل قلوبهم ولم يؤمنوا به. وهم لا يؤمنون به كفرا وعنادا منهم، حتى يأتيهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون، فيتمنون عند ذلك ان يؤخَّروا حتى يؤمنوا. ولكن هيهات. . . فات الاوان. فقد جرت سنة الله ان لا يُهلك قوماً الا بعد ان يبعث فيهم مبشّرين ومنذرين.
ثم ردّ على مشركي قريش الذين قالوا: ان لمحمدٍ تابعاً من الجنّ يخبره كما يخبر الكهف فقال: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} يذكّرونهم وينذرونهم، وما كان شأننا الظلم فنعذّبَ أُمه قبل ان نبعث اليها رسولا. وما تنزلت الشياطينُ بهذا القرآن، وما يجوز لهم، وما يستطيعون.
قراءات:
قرأ ابن عامر وابو بكر وحمزة والكسائي: نزّلَ به الروحَ الأمينَ بتشديد الزاي المفتوحة ونصب الروح الامين، والباقون: نَزَلَ به الروح الامين: بفتح الزاي دون تشديد، ورفع الروح الامين. وقرأ ابن عامر: اولم تكن لهم آيةٌ، بالتاء ورفع آية، اسم تكن. والباقون: اولم يكن لهم آيةً بالياء ونصب آية، خبر يكن.(3/31)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
فلا تدعُ مع الله الها آخر: لا تعبد غير الله. واخفضْ جناحك: ترفّق بمن اتبعك من المؤمنين، وكن ليِّناً معهم. وتقلُّبك في الساجدين: يراك مع المصلين حين تصلّي.
أخلِص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، كما يدعوك قومك، فإن فعلت ذلك كنتَ منن المعذَّبين وانذر أقرب الناس اليك من عشريتك.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، وأتى» الصَّفا «فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس اليه، فقال: يا بني عبدِ المطّلب، يا بني فِهر، يا بني لؤي، ارأيتم لو أخبرتكم ان خيلاً بسفح هذا الجبل تريد ان تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديدز فقال ابو لهب: تباً لك سائر اليوم، اما دعوتنا الا لهذا» ؟ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} ألنْ جانبك، وترفّق مع المؤمنين.
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ}
فإن عصاك من انذرتَهم من العشيرة وغيرهم فلا ضير عليك، وقد أديت ما أُمرت به، وقل لهم اني بريء منكم ومن شِرككم بالله.
وتوكل على الله وفوِّض جميع امورك اليه، وهو الذي يراك حين تقوم للعبادة، ويراك وانت تصلّي بين المصلين، انه هو السميع لدعائك وذكرك، العليم بنيتّك وعملك انت وجميع العباد واقوالهم وأفعالهم.(3/32)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
انبئكم: أخبركم. كل أفّاك: كل كذاب، أثيم: مجرم كثير الذنوب. يُلقون السمع: يصغون اشد الاصغاء الى الشياطين، فيتلقون منهم. الغاوون: الضالون. في كل واد يهيمون: في كل مكان يسيرون وراء خيالاتهم. أيّ منقلَب: اي مرجع ومآب.
لقد اتهمت قريش النبيَّ صلى الله عليه وسلم ان الشياطين هي التي توحي اليه القرآن، فردّ عليهم ان الشياطين لا تُنَزل على الانبياء، بل على الكذّابين الآثمين المنحرفين الذين تلقي اليهم الإفكَ والكذب، وهم كاذبون يختلقون من عندهم ما يقولونه لأتباعهم. وأنّ الشعراء يتّبعهم الضالون الحائدون عن الطريق القويم، ألم تَرَ أنهم يجرون وراء خيالهم في ضروب من القول، ويقولون ما لا يفعلون!
ولما وصف الشعراء بهذه الاوصاف الذميمة استثنى منهم المؤمنين المتصفين بالصفات الحميدة من الايمان، والعمل الصالح، والقول الصادق، وعدمِ هجاءِ الناس واختلاق الاقوال السيئة مثلَ حسّان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك وغيرهم رضوان الله عليهم. والى هذا اشار بقوله تعالى:
{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} .
روى ابن جرير: «انه لما نزلت هذه الآية جاء حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب ابن مالك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم محزونون وقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فتلا النبي قوله تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وقال: انتم. ثم تلا {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} وقال: انتم. ثم {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} وقال: انتم. . . . يعني بردّهم على المشركين، ثم قال لهم رسول الله:» انتصِروا ولا تقولوا إلا حقا، ولا تذكروا الآباء والامهات «
ثم ختم الله السورة بالتهديد العظيم، والوعيد الشديد للكافرين فقال:
{وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}
سيعلم الظالمون أي مصيرٍ ينتظرهم من الهلاك والشرّ والعذاب.(3/33)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
يعمهون: يتحيرون، ويترددون في الضلال. الأخسَرون: أشد الناس خسرانا.
طاسين: هكذا يقرأ هذان الحرفان، وتقدم الكلام في المراد من فواتح السور، وان الأصح انها جاءت تنبيهاً الى سر الاعجاز في القرآن مع الاشارة الى انه من جنس ما يتكلمون ولتنبيه الاذهان للاستماع اليه.
{تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ}
هذه الآيات التي انزلتها اليك ايها الرسول هي آيات القرآن، وهو كتاب واضح بيّن لما تَدبره وفكر فيه انه من عند الله.
{هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ}
هذا الكتاب هو الدليل الذي يهدي الناسَ الى سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو يشير المؤمنين بأن اله سيُدخلهم جناتٍ لهم فيها نعيم مقيم. {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}
هذا وصفٌ للمؤمنين بأنهم آمنوا بالله، وعملوا الأعمالِ الصالحة، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وآمنوا ايمانا صادقا بيوم القيامة والبعث والجزاء، فالايمان وحده لا يكفي.
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} .
اما الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء فقد زينّا لهم أعمالَهم السيئة، ومددْنا في غَيِّهم فهم يترددون في ضلالهم، فلهم في الدنيا سوءُ العذاب بقتلِهم وأسْرِهم، وهم في الآخرة أعظمُ خسراناً مما هم فيه في الدنيا، لنه عذابٌ مستمر لا ينقطع.(3/34)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
لتلقَّى: لتعطى، لتلقَّن. آنست: أبصرت. بشهاب: بشعلة نار. قبس: قطعة من نار. تصطلون: تستدفئون. جان: حية سريعة الحركة. ولّى مدبرا: هرب راجعا. ولم يعقّب: لم يرجع، ولم يلتفت. من غير سوء: يعني ان يده صارت بيضاء من غير مرض كالبرص ونحوه. آيات: معجزات دالة على صدقك. مبصِرة: واضحة، بينة. حجَدوا بها: كذّبوا بها. استيقنتْها انفسُهم: علمتُ علما يقينا انها من عند الله. علوّا: ترفعا واستكبارا.
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}
وانك أيها الرسولُ لتتلقى القرآن وتتعلّمه من عند الله، الحكيم بتدبيرِ خلقه، العليم بأخبارهمن وما فيه خير لهم. وما هو من عندك كما يزعم الجاحدون.
واذكر ايها الرسول لقومك خبراً عن موسى وهو عائد من «مَدْيَن» الى مصر ومعه زوجته، وكانا يسيران ليلاً فاشتبه عليهما الطريقُ، والبرد شديد. فرأى موسى ناراً فقال لأهله: سآتيكم منها بخبرٍ عن الطريق، أو آتيكم بشعلةٍ لعلّكم تستدفئون بها من البرد. فلما وصل المكان الذي رأى فيه النارَ ناداه الله: إن الله باركَ من في مكان النار ومن حولَها. (واللهُ منزّهٌ عن مشابهة المخلوقين) يا موسى: إني انا الله المستحقّ للعبادة وحده، العزيزُ الذي لا يُقهر، الحكيم في أقواله وأفعاله. . . . أَلقِ عصاك. فلما ألقاها رآها تهتز وتنقلب الى حيّة عظيمة. فهرب موسى منها ولم يلتفت وراءة من شدة الخوف. فطمأنه الله بقوله: لا تخفْ، ان المرسَلين لا يخافون وأنا معهم. لكنّ من ظلم وعمل شيئا غير مأذون فه، ثم بدّل حُسناً وتابَ بعد هفوة {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وأخلْ يَدك في جيبك تخرجْ بيضاء من غير بَرَصٍ او مرض. وكان موسى أسمر البشرة. اذهبْ إلى فرعونَ وقومه في تسع آيات انهم كانوا قوماً خارجين عن امر الله. والآياتُ التسع هي: فلْق البحر، والطوفان، والجراد، والقملَّ، والضفادع، والدم، والجدْب، والعصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء.
فلما جاءت هذه الآيات واضحةً ظاهرة الى فرعون وقومه قالوا: هذا سِحر، وكذّبوا بها ظلمات واستكبارا، فانظر ايها النبي كيف كانت عاقبة المفسدين.
هذا عرضٌ سريع لقصة سيدنا موسى التي تكررت في الأعراف وطه والإسراء والشعراء يعرضها سبحانه وتعالى ليسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: بشهابٍ قبسٍ، بالتنوين. والباقون: بشهابِ قبسٍ.(3/35)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
منطِق الطير: لغته. حشر: جمع. يوزعون: يمنعون من الفوضى ويسيرون بانتظام. لا يحطمنّكم: لا يهلكنكم. أوزِعني: يسِّر لي شكر نعمتك.
ذُكرت قصةُ داود في تسع سورة هي: سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام والإسراء والأنبياء وسورة النمل، وسبأ، وص، وورد ذكر سليمان في سبع سور هي: البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وص.
وجاء ذكر داود هنا فقط، وبُسطت قصةُ سليمان بتوسع في هذه السورة اكثر مناه في اية سورة اخرى، وركزت على قصة سليمان مع الهدهدِ وملكةِ سبأ، ثم مشهد موكبه العظيم، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وبذلك سُميت السورة «سورة النمل» وذلك من الآية 15 الى الآية 44.
ولقد اعطينا داود وسليمان عِلما، فَحَمِدا الله على ما أولاهما، وفضّلهما بذلك على كثير من المؤمنين. ويتبين لنا من الآية الكريمة فضلُ العلم وشرفه وشرف أهله، وأن الإسلام قام على العلم كما ورد في اول ما نزل منه: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ. . . .} وفي آيات كثيرة، كقوله تعالى: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} سورة المجادلة.
وقد آل الحكمُ والنبوة من داودَ إلى سليمان ابنه، الذي أخبرَ الناسَ تحدُّثاً بنعم الله عليه بأنه أثوتي فَهْمَ لغة الطير، وانه مُنح من جميع النعم قسطاً وافرا، وان هذا الذي آتاه الله لهو الفضل الكبير. وقد دلّت الابحاث الحديثة على ان لكل جماعةٍ من الطير طريقة خاصة تتفاهم بها الأفراد.
وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يتلاحقون، حتى اذا مروا بوادٍ فيه نمل كثير قالت نملة لجماعتها: يا معشر النمل، ادخلوا مساكنكم لا يهلكنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم. فسمعها سليمان فتبسم ضاحكا متعجباً من قولها، وسأل الله تعالى ان يلهمه شكره على ما انعم عليه وعلى والديه من عِلم وملك، وان يوفقه للعمل الصالح الذي يرضاه، وان يدخله في رحمته وكرمه وفضله ويجعله من جملة عباده الصالحين.
وقد كتب كثير من الكتاب والباحثين عن معيشة النمل ونظامها، وما لها من عجائبض في معيشتها وتدبير شئونها، ومثابرتها على العمل. وانها تتخذ القرى في باطن الارض، وتخزن قوتها لأيام الشتاء.(3/36)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
تفقّد الشيء: سأل عنه وطلب معرفة احواله. بسلطان مبين: بحجة واضحة. أحطتُ بما لم تحط به: علمتُ أشياء لا تعرفها. سبَأ: ابو قبيلة من اليمن، ومملكة ظهرت في شرق المنطقة المعروفة الآن باسم صِرواح ومأرِب فسميت البلاد باسمها، واليها تنسب اللغة السبئية والديانة السبئية. بنبأ: بخبر عظيم. العرش: سرير الملك. فصدّهم عن السبيل: منعهم عن طريق الحق والصواب. يُخرج الخبء: يخرج المخبوء من كل شيء.
وتفقد سليمان جماعةَ الطير التي تجتمع عنده فلم يجد الهدهد، فقال: أين الهدهد، فقال: أين الهدهد، اين غاب عني؟ ثم توعده بالعذاب اذا لم يجدْ سبباً يبرر به غيبته، او يأتِهِ بحجّة واضحة تظهر له عذره. وجاء الهدهد بعد غياب قليل وقال لسليمان: علمتُ ما لم تعلم، وجئتك من دولة سبأ بخبرٍ ذي شأن عظيم. إني وجدتُ في سبأ امرأةً تحكمهم، أوتيتْ من كل شيء يحتاج اليه الملوك في تَرَفِهم، ولها عرش عظيم. وهي وقومها يعبدون الشمس ولا يعبدون الله، لقد زيَّن الشيطانُ لهم عبادتعهم وأبعدهم عن دين الله فهم لا يهتدون، وأمَرَهم ان لا يسجدوا لله الذي يُخرج كل شيء مخبوء في السماوات والأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} . وهنا موضع سجدة.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «اوليأتينَّني» بنونين، والباقون: «او ليأتينّي» بنون واحدة. قرأ عاصم: «ومكَث» بفتح الكاف. والباقون: «ومكُث» بضم الكاف وهما لغتان. وقرأ ابن كثير: وابو عمرو «من سبأَ» بتفح الهمزة على انه ممنوع من الصرف، والباقون: «من سبأ» بالتنوين والجر.(3/37)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
تولّ عنهم: تنحّ، ابعد عنهم. ماذا يرجعون: ماذا يدور بينهم. الملأ: اشراف القوم. ألاّ تعلو عليَّ: الا تتكبروا. مسْلِمين: منقادين. افتوني: أشيروا علي. ما كنت قاطعةً أمراً: ما كنت لأعملَ أي شيء. حتى تشهَدون: حتى تحضرون.
أراد سليمان ان يختبر الهدهد: أصادق هو ام كاذب.؟ فأعطاه كتاباً ليوصله الى ملكة سبأ، واسمُها بلقيس. ذهب الهدهد بالكتاب وألقاه على سريرها، فاخذته فإذا به: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .
لم ترِد الملكة ان تستبدّ بالجواب، شأن بعض الملوكن فجمعتْ رجال دولتها وأشراف القوم وأطلعتْهم على الكتاب. فأخذتهم العِزّةُ وثارت فيهم الحماسة وقالوا:
{قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} .
وكانت الملكة عاقلةً فنظرت في الأمر بعين الفطنة، ولم تغترّ بما أبداه رجالها من الحماسة وقالت لهم: ان دخول املوك المدنَ والقرى فاتحين ليس من الأمور الهّينة، وليس أثره بالسّهل على أهلها. (وكان من عادات الفاتحين قبل الاسلام ان يستعبِدوا المغلوبين، ويذبحوا رجالهم ويستحييوا نساءهم ويفسدوا الحرث والنسل) . وعرضتْ عليهم رأياً آخر وجدته أقربَ الى حلّ هذه الأزمة التي أتتها من حيثُ لم تحتسِب، ذلك ان تُرسلَ إلى سليمان بهدية تصانعه بها، وتطلب مودّته، ثم تنظر ماذا يرجع به رسُلُها الى سليمان.(3/38)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
لا قِبل لهم بها: لا طاقة لهم بمقاومتها. صاغرون: مهانون محتقرون. العرش: سرير الملك. العِفريت من البشر: الخبيث الماكر، ومن الشياطين: المارد. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب: رجل أعطاه الله علماً خاصا، وقوة روحية. قبل ان يرتد اليك طرفُك: قبل ان تطرف عينك، والمراد هو السرعة الفائقة. ليبلوَني ربي: ليختبرني ربي.
فلما جاء رسلُها الى سليمان بالهدية لم يَقبلْها وقال إنه ليس في حاجةٍ إلى اموالهم لما عنده من الثروة والملك، كما توعّدهم بأنه سيرسل الى بلادهم جنوداً لا طاقة لهم بهم، وان اقبة ذلك إخراجُهم من بلادهم أذِلَّةً صاغرين.
فلما جاء الخبر من الرسُل الى الملكة وعلمت عظَمةَ سليمان وقوة ملكه - أشفقت على قومها. فأجمعت أمرها على الذهاب إليه في بعض أشراف قومها وتوجهت الى القدس بهدية عظيمة. ولمّا علم سليمان باعتزام ملكه سبأ زيارته، شيّد لها صَرحاً عظيما، ومرَّدَ أرضَه بالزجاج: وهذا شيء لا عهد لأهل اليمن بمثله.
ولما قربت من ديار سليمان أراد ان يفاجئها بشيء يَبْهَرُها، كأن ترى بعينها ما لم تر من قبلُ في الاحلام، وهو أن يأتيها بعرشِها الجميل ليكون جلوسُها عليه في ذلك الصرح. فسأل جنوده عن قويّ يأتيه بذلك العرش: فانتدب له عفريت من الجن وقال:
{أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}
إني لقادر على ذلك وأمين على كل ما في العرش من جواهر وحلي. وقال رجل {عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} وكان الأمر كما قال. فجاء به ووُضع في الصرح الذي هُيِّىء لاستقبالها. فلما رأى سليمان عرش بلقيس أمامه قال: الحمد لله. . . . هذا من فضلِ ربي ليختبرني أأشكر ام اكفر. . ومن شكَر الله ففائدة الشكر تعود اليه، ومن جَحد ولم يشكر فان الله غنيّ عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وان لم يعبدوه.
اما الطريقة التي جيء بها بالعرض فشيءٌ لم يأت تفصيل له بخبر صحيح، وهو معجزة خارقة للعادة، كبقية المعجزات نسلّم بها تسليما.
وأهل القصص وبعض المفسرين يذكرون ان سليمان تزوّج منها وجاءه منها ولد، ويزعم ملوك الحبشة أنهم أبناء سليمان من الولد الذي ولدته من سليمان، لكن هذا زعمٌ منهم.
قراءات:
قرأ حمزة ويعقوب: اتمدونّي بنون واحدة مشددة. الباقون: اتمدونني بنونين.(3/39)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
نكّروا لها عرشها: غيِّروا فيه. صدّها: منعها. الصرح: كل بناء مرتفع. حسبته لجّة: ظننته ماء. ممرَّد: ذو سطح املس. من قوارير: من زجاج وتحته الماء.
وقال سليمان لجنده: نكِّروا لها عرشها ببعض التغيير في مظاهره. وسنرى هل تعرفه ام لا. فلما جاءت ورأت العرش قِيل لها: أهكذا عرشك؟ فقالت: كأنه هو. وقال سليمان وقومه: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لله ولحكمه. وهذا قول اكثر المفسرين، وبعضهم يجعل عبارة: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من قول بلقيس ويكون معنى الكلام: وأوتينا العِلم بكمال قدرة الله وصِدق نبوتك من قبلِ هذه المعجزة بما شاهدناه وبما سمعناه، وكنا منقادين لك من ذلك الحين.
ثم ذكر سبحانه ما منعها من إظهار ما ادّعت من الاسلام الى ذلك الحين فقال:
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ}
ولقد صرفها عن عبادة الله ما كانت تعبده من آلهة غير الله تعالى، فانها كانت تعبد الشمس، وكانت من قوم كافرين.
{قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ}
ولما أرادت دخول الصرح والوصولَ الى العرش رأت ماءً يتموّج، فيه انواع من حيوان البحر ودوابه. فكشفت عن ساقيها لئلا تبتلّ أذيالها بالماء، كما هي عادة من يخوض الماء. فقال لها سليمان: إن ما تظنّينه ماءً ليس بالماء، بل هو صرح أملسُ مكوَّن من زجاج: فراعها ذلك المنظر، وعلمت ان مُلكها لا يساوي شيئا بجوار ملكِ سليمان، فقالت: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} .(3/40)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
فريقان: طائفتان. طائفة مؤمنة، واخرى كافرة. يختصمون: يتنازعون. السيئة: العقوبة. الحسنة: الرحمة. اطّيرنا: تشاءمنا. طائركم: ما يصيبكم من الخير والشر. تفتنون: تختبرون. المدينة: الحِجر، مداين صالح. الرهط: النفر من الثلاثة الى التسعة. تقاسموا: حلفوا. لنبيتنّه: نهجم عليه بغتة ليلا. وليّه: أقرب الناس اليه. مهلك اهله. أهلاك أهله. دمرناهم: أهلكناهم. خاوية: خالية.
ولقد بعثنا الى قوم ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم اعبدوا الله، فإذا هم طائفتان يختصمون: جماعةُ تؤمن بالله، واخرى كافرة، هي الأكثرُ والأقوى. فقال صالح لقومه: لِمَ يستعجلون طلبَ العذاب قبل الرحمة؟ هلاّ تستغفرون ربكم لعله يرحمكم! قالوا: إننا تشاءمنا بك وبمن اتبعك. (وأصلُ التطيرُّ: ان العرب كانوا اذا خرجوا مسافرين فمرّوا بطائر وزجروه فان طار الى جهة اليمين تيمّنوا به، وان مرّ الى جهة اليسار تشاءوموا به) .
قال لهم صالح: ان سببَ تشاؤمكم هو كفركم بالله، فقد اراد الله ان يختبركم ليعرف من منكم سيؤمن، ومن يكفر.
وكان في مدينة صالح تسعةُ رجال من المفسِدين، طواغيتُ لا يسلم من شرهم احد، تحالفوا على مباغتته ليلاً وقتله هو واهله، وان يقولوا لوليّ دمه: لا علم لنا بمن قتلهم. ومكَر هؤلاء مكرهم، ودبّر الله ردّ كيدهم في نحرهم وهم لا يشعرون، فكان عاقبة مكرهم ان دمّرهم الله أجمعين. وتلك بيوتُهم خالية. والمشركون من مكة يمرّون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: لتبيّتنّه واهله ثم لتقولن، بالتاء، وقرأ مجاهد: «ليبيتنه» بالياء، والباقون: لنبيتنه. . . . بالنون. وقرأ عاصم: مهلك اهله، بكسر اللام، وقرأ ابو بكر: مهلك بفتح الميم واللام. والباقون: مهلك بضم الميم وفتح اللام.(3/41)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
ذُكرت قصة لوط في عدد من السور: في سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل هنا، والتحريم، وذلك باختلافٍ يسير وبعضها يكمل بعضا.
وخلاصة ما جاء هنا ان لوطا قال لقومه: ويلكم، أتأتون الفاحشة بالذكور وبعضكم ينظر الى بعض، وتأتون الذكور وتتركون النساء!! إنكم قوم جاهلون بنتائج ما سيحدُث لكم من هلاكٍ ودمار وعذاب في الآخرة. فما كان جواب قومه الا ان قال بعضهم لبعض: اطردوا لوطاً ومن آمن معه من بلادكم، إنهم اناس يتطهرون. فأنجاه الله وأهلَه والمؤمنين به الا امرأته التي كانت من الكافرين، ثم دمر بلادَهم، وامطر على أولئك المفسدين مطر عذابٍ ونقمة.(3/42)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
عباده الذين اصطفى: الأنبياء عليهم السلام: حدائق: بساتين. ذات بهجة: ذات منظر حسن يبتهج به من يراه: يَعدلِون: يميلون عن الحق وينحرفون حيث يجعلون لله عديلا. قرارا: مستقرا. خلالها: بينها. الرواسي: الجبال. حاجزا: فاصلا بينهما. الرياح بُشرا: مبشرة بالرحمة، أي المطر.
قل يا محمد: الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اختارهم لرسالته، وجَمْعِ المتقين المصلحين واسأل معارِضيك: أي الآلهة أفضل، الله ام الاصنامُ التي يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع؟ . اسألهم أيها الرسول: من خَلَق السمواتِ والأرض على ما يهما من ابداع وحكمة، وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبت به بساتينَ جميلة تسرّ الناظرين، ما كنتم تستطيعون ان تنبتوا شجرها؟ ولكن الكفار يعدلِون عن الحق والإيمان، ويميلون الى الباطل والشرك.
اسألهم ايها الرسول: من الذي جعلَ الأرضَ للاستقرار عليها، وخلق وسطها انهارا، وخلق عليها جبالا تمنعها من الميل، وجعل بين الماء العذبِ والماء المالح فيها فاصلاً يمنع امتزاج احدهما بالآخرة، هل هناك إله مع الله؟ بل اكثرهم لا يعلمون.
واسألهم ايها الرسول: من يجيب المضطرَّ اذا دعاه ويكشف عنه السوء، ويجعلكم خلفاء في الأرض تتصرفون فيها، هل هناك اله مع الله؟ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
اسألهم أيها الرسول: من يهديكم في ظلُمات البرّ والبحر وأنتم لا تدرون اين تذهبون، ومن يرسل الرياح مبشِّرة بمطر هو رحمة من الله؟ أهناك إله مع الله تعالى يصنع ذلك {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
واسألهم ايها الرسول: من ينشىء الخلق ابتداءً ثم يوجده بعد فنائه كما كان، ومن يرزقكم من السماء والارض، هل هناك إله مع الله يفعل ذلك؟ قل ايها الرسول: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
قراءات:
قرأ الجمهور: قليلاً ما تذكرون بالتاء. وقرأ ابن عمرو وهشام وروح: قليلا ما يذكرون. بالياء.(3/43)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
أيان يُبعثون: متى يبعثون للحساب والجزاء. ادّراك: تدراك تلاحق. في شكل: في حيرة. عَمُون: عميان. أساطير: خرافات. رَدِف لكم: لحق بكم. تكنّ: تخفي.
قل ايها الرسول للناس: لا يعلم جميعُ من في السموات والارض الغيبَ غير الله وحده، ولا يعرفون متى يبعثون من قبورهم يوم القيامة.
ثم اكّد الله جهلهم بهذا اليوم فقال:
{بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة}
بل تلاحقَ عليمُهم في الآخرة من جهل الى شك وحيرة، بل هم في ضلالة وجهلٍ عظيم من أمرها.
وقال الذين كفروا: أإذا استحالت اجسادُنا الى تراب نحن وآباؤنا، هل نخرج من قبورنا لحياة اخرى؟ لقد وعدنا الرسلُ هذا ووعدا آباءنا قبلنا، لكنّ هذا خرافات القدماء يتناقلونها.
ثم أمر رسوله الكريم ان يرشدهم الى وجه الصواب مع التهديد والتوعيد فقال:
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين}
تقدم مثل هذه الآية في آل عمران 137.
ثم سلّى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما يناله من عماهم عن السبيل القويم الذي يدعو اليه فقال:
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} . وتقدمت هذه الآية في النحل 127.
ويقول الكافرون: متى يتم الوعد المنذِرُ بحلول العذاب ان كنتم صادقين؟ .
{قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ}
قل ايها الرسول: عسى ان يكون قد لحق بكم وقرُب منكم بعض ما تستعجلونه من العذاب.
ثم بين الله السبب في ترك تعجيل العذاب فقال:
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}
ان ربك لهو المنعِم المتفضل على الناس جميعاً بتأخير عقوبتهم ليتوبوا، ولكن اكثر الناس لا يشكرونه على ذلك.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}
ان الله يعلم كل ما يفكر فيه الانسان ويكتمه في صدره، وكلّ ما يعلنه من الأقوال والأفعال.
ثم بين ان كل ما يحصل في هذا الوجود محفوظٌ في كتاب واضح دقيقٍ لا يغادر كبيرةً ولا صغيرة الا أحصاها.
قراءات:
قرأ الجمهور: بل ادّراك بتشديد الدال المفتوحة بعدها الف. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ابو جعفرن: بل أدْرك باسكان الدال وبدون الف بعدها.(3/44)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
وقع: حدث وحصل. القول: مجيء الساعة. فوجا: جماعة. يُوزَعون: يمنعون ويجمعون ويزجرون.
ان هذا الكتاب الذي أُنزل على محمد يبين لبني إسرائيلَ حقيقةَ ما جاء في التوراة من عقائدَ وأحكام وقصص، ويردّهم الى الصواب فيما اختلفوا فيه.
وهو مصدرُ هداية للمؤمنين، ورحمة لمن صدَّق به وعمل بما فيه، يرحمهم به الله من الشك والقلق والحَيرة.
وبعد ان ذكر فضله وشرفه أتبعه دليلَ عدله فقال:
{إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز العليم}
فهو يفصِل بين الناس جميعاً يوم القيامة بعدله، وهو العزيز الذي لا يُرَدُّ قضاؤه، العليم بأفعال العباد واقوالهم.
ثم امر رسوله الكريم ان يتوكل عليه وحده في جميع اموره، فانه كافيه كلَّ ما يهمه، وناصرُهُ على اعدائه، لأنه على الحق الواضح: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} .
ثم يمضي في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد واصرارهم على الكفر فيقول
{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} .
انك ايها الرسول لا تستطيع هدايتهم، لأنهم كالموتى في عدم الوعي، وكالصم في فقدان السمع فليسوا مستعدّين لسماع دعوتك، فلا أمل في استجابتهم للدعوة، ولا في قبولهم للحق.
ثم اكّد ما سلف وقطع اطماعه في ايمانهم فقال:
{وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ}
ولا تستطيع ان تهديَ الى الحق من عميتْ ابصارُهم وبصائرهم، ولا يمكنك ان تُسمع الا من يقبل الايمان بآياتنا فانهم هم الذين يسمعون منك ويؤمنون برسالتك.
وبعد ان ذكر الله ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان إنكان البعث والحشر والنشر، ثم فصّل القولَ في إعجاز القرآن الكريم، ونبه بذلك الى إثبات نبوة محمد لله - ذَكَرَ بعض أشراط الساعة، وبعض مشاهدها، ومقدِّمات القيامة وما يحدث من الاهوال حين قيامها، فذكر خروج دابةٍ تكلِّم الناسَ وتبين للذين لا يؤمنون بآيات ربهم أنهم على الباطل.
وانه حينئذ ينفخ في الصور فيفزع من في السموات والأرض الا من شاء الله فيثبتهم ويطمئنهم، وكل المخلوقات يأتون الى ربهم صاغرين.
قراءات:
قرأ ابن كثير: ولا يَسمع الصمُّ بفتح الياء ورفع الصم. والباقون: ولا تُسمع الصمَّ، بضم تاءِ تسمع ونصب الصم. وقرأ حمزة وحده: وما انت تهدي العُمْي.(3/45)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
الم يروا: الم يعلموا. ليسكنوا فيه: ليستريحوا فيه. مبصرا: ليبصروا فيه ويسعوا وراء معاشهم. الصُّور: البوق. داخرين: أذلاء صاغرين. جامدة: ثابتة في اماكنها. الحسنة: كل عمل صالح نافع. السّيئة: كل عمل مخالف للدين والنظام. فكُبَّتْ وجوهُهم: القيت منكوسة. البلدة: مكة.
الم يعلموا ويشاهدوا بأنسهم انا جعلنا الليل للراحة والهدوء، والنهار واضحا للسعي وراء معاشهم وتدبير امورهم، ان في ذلك لآيات دالةً على وجود الله ورحمته للمؤمنين.
ويوم ينفخ اسرافيل في البوق ويدعى الناس للحساب يَفْزَعُ الناس ويخافون من هول ذلك اليوم الا من يشاء الله من المؤمنين فيطمئنهم ويجعلهم في امان.
في ذلك اليوم ترى الجبال فتحسبها ثابتة، مع انها تسير بسرعة هائلة كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] ، ذلك من صنع الله الذي اتقن كل شيء وابدعه، انه سبحانه كامل العلم بما يتصل الناس.
ثم بين حال السعداء والاشقياء يومئذ فقال:
{مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
الذي يعملون في الدنيا الأعمالَ الصالحة آمنون في ذلك اليوم، ولهم خير مما قدموا، أما الذين كفروا وجحدوا واساؤوا التصرف فانهم يكبّون على وجوههم في النار، ويقال لهم هذا جزاء ما كنتم تعملون.
ثم تأتي خاتمة السورة بتوجيهات قدسيّة من الله لرسوله الكريمِ والمؤمنين، وبتنبيه المشركين الى ما هم فيه من الغفلة وسوءِ الحال، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: انما أُمِرتُ أن أعبد ربَّ هذه البلدة «مكة» الذي حرّمها الله (حتى ينبه المشركين بأنهم على خطأ في عبادة الاصنام، وتركِ عبادة رب البيت الذي له ملك كل شيء) وأُمرت ان اكون من المسلمين له المخلصين في عبادتي وديني، وان اتلو هذا القرآن على الناس، فمن اهتدى فإنما يهتدي لخير نفسه، ومن ضلّ فلست عليه حسيباً وانما أنا منذِرٌ للناس.
وقل يا محمد: الحمد لله على ما افاض عليّ من نعم، وسيريكم ربكم آياته فيكشف لكم في الدنيا عن آثار قدرته، وفي الآخرة عن صدق ما اخبركم به فتعرفونها حق المعرفة، وما هو بغافل عما يعمل المشركون.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/46)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
نتلو عليك: ننزل عليك، نقصّ عليك. من نبأ: من خبرعجيب. شِيعا: فرقاً مختلفة. نمنّ: نتفضل. نمكّن لهم: نقويهم ونجعلهم الحاكمين. هامان: وزير فرعون.
طاسين ميم، هكذا تقرأ. . وهي حروف صوتيه سبقت لبيان ان القرآن المعجز يتألّف من هذه الحروف التي يتألف منها حديثكم، ولتنبيه السامعين. والمعنى: ان هذه الآياتِ التي نوحيها إليك أيها الرسول آياتُ القرآن الواضح، وفيها نقصّ عليك بعض أخبار موسى وفرعون بالحقّ ليعتبر المؤمنون بما فيه. ان فرعون تعاظَمَ في نفسه، وجاوز الحدّ في ظلمه، واستكبر في مصر، وفرّق أهلها فجعلهم فِرقاً وطوائف، يصطفي بعضهم ويسخّر البعض الآخر. لقد كان يستضعف بني إسرائيل، فيذبح الذكور من أولادهم ويستبقي الاناث، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} .
وأراد الله ان يتفضّل على الذين استضعّفهم فرعونُ في الأرضِ، وان يمكّن لهم سلطانَهم، ويثبتَ لفرعون ووزيره هامان وجنودهما ما كانوا يخشونه من ذَهاب مُلكهم على يد مولود من بني اسرائيل.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي: ويرى فرعونَ وهامان: بالياء وفرعون مرفوع وهامان كذلك. وقرأ الباقون: ويُري فرعونَ وهامانَ بضم النون، ونصب فرعون وهامان.(3/47)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وأوحينا الى أم موسى: ألهمناها. اليمّ: البحر والمراد هنا نهر النيل. حَزنا: الحزن بفتح الحاء والزاي، والحزن بضم الحاء وسكون الزاي. . . الغم ولمكروه من الشدة. قرة عين: فرح وسرور لنا. فراغا: خاليا من القعل. وان كادت لتبدي به: كادت تذهب الى آل فرعون وتعرّف نفسها بأنها أمه. ولولا ان ربطنا على قلبها: لولا ان ثبتناها وجعلناها تصبر. قُصّيه: اقتفي أثره وتتبعي خبره. فبصرت به عن جُنب: فأبصرته عن بعد وكأنها لا تريد ان تتبع أثره. وهم لا يشعرون: لا يدرون أنها اخته. حرّمنا عليه المراضع: جعلناه لا يقبل ان يرضع من غير امه. يكفلونه: يضمنون رضاعته وتربيته.
ولما وُلد موسى في أثناء تلك المحنة ألهمنا أمه أن تُرضعه وتخفيَه ما استطاعت الى ذلك سبيلا، وقلنا لها: إن خِفتِ عليه فألقيه في النيل، في صندوق، ولا تخافي عليه ولا تحزني، فنحن سنردّه اليك، وسيكون من الانبياء المرسلين.
فالتقطه آل فرعون وجاؤوا به الى سيّدتهم، امرأة فرعون، فأحبّته تلك المرأة وقالت لزوجها: لا تذبحْه، بل اتركه ليكون لنا مصدر سرور وفرح. كانوا لا يدرون أنه سيكون لهم عدواً وسببَ حزنٍ كبير، بإبطال دينهم وزوال مُلكهم على يديه. . ان فرعون ووزيره هامان وجنودهما كانوا مجرمين.
{وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بما قدّر الله في شأنه.
وصابح فؤادُ أم موسى فارغاً من العقلِ خوفاً على ابنها لوقوعه في يد فرعون، حتى إنها كادت تذهبُ الى آل فرعون وتعرِّف نفسَها بانها امه، لولا ان ثبّتها الله بالصبر.
وقالت لأخته: اقتفي أثر أخيك، وتتبعي خبره عن بعدٍ وهم لا يشعرون بك. ولم يقبل موسى ان يرضع من أي امرأة، فقال اخته لآل فرعون: هل ادّلكم على امرأة ترضعه وتقوم بأمره وتنصح في خدمته؟ ووافقوا. وهكذا ارجعناه الى امه لتطمئنّ الى وعدِنا ويذهب عنها الحزن، ولتعلم ان وعد الله حق، وانه سيكون من المرسَلين.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: حُزنا بضم الحاء وسكون الزاي. والباقون: وحَزنا: بفتح الحاء والزاي وهما لغتان.(3/48)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
بلغ أشدّه: استكمل قوته وكفاية نموه. استوى: اعتدل وكمل عقله. حُكما: حكمة. المدينة: مصر. على حين غفلة: في وقت لا يتوقعون دخوله، من شيعته: من بني قومه. من عدوه: من الاقباط. فاستغاثه: طلب العون منه. فوكزه: ضربه بجمع يده. فقى عليه: فقتله. بما أنعمتَ عليّ: اقسم بنعمك علي. ظهيرا: معينا. يترقب: ينتظر ما يناله من اذى. استنصره: طلب نصره. يستصرخه: يطلب الاغاثة بصوت مرتفع. لغويٌّ مبين: ضال كبير. ان يبطش: ان يسطو عليه بعنف.
فلما بلغ موسى رشده واكتمل نموه، واستوى جمسا وعقلاً آتيناه حكمة ومعرفة وعلما، وكذلك نكافىء كل محسن.
ودخل موسى المدينةَ على حين غفلةٍ في وقت ليس من المعتاد الدخولُ فيه، فوجد رجلّين يقتتلان: أحدهما من بني دينه، والآخر من الاقباط. وحين استغاث به الذي من جماعته، ضرب موسى القبطيَّ بجُمعِ يده فقى عليه من غير قصد، فقال: هذا من عملِ الشيطان، إنه عدوٌّ مضلٌّ ظاهر العداوة.
ثم قال موسى متضرعا الى الله نادما على ما فعل: ربّ اني ظلمتُ نفسي بعملي هذا فاغفْر لي. فغفر الله له، إنه غفور رحيم.
قال موسى: يا رب، بحقّ إنعامك عليّ بالحكمة والعلم وَفِّقْني للخير والصواب، ولن أكون بعدَ هذا معيناً للمجرمين. وأصبح في مصر خائفاً يترصد وقوع القصاص به. فإذا صاحبُه الذي استنجد به بالأمس يستغيث به ثانية، فقال له موسى: إنك شرير ضالّ. ودفعته الغيرة عليه حتى هم ان يبطِش به فقال له الرجل: يا موسى، اتريد ان تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس؟ أتريد ان تكون طاغية في الأرض من الجبابرة السفاكين لا الخيّرين!!(3/49)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
أقصى المدينة: من ابعد مكان فيها. يسعى: يسرع. الملأ: أشراف القوم ووجوههم. يأتمرون بك: يتشاورون في امرك. يترقب: يلتفت يمنة ويسرة. توجَّه تلقاء مدين: ذهب الى جهة مدينة مدين، وهي بأرض الحجاز محاذية للبحر الاحمر. سواء السبيل: أوسط الطرق وأسهلها. ولما ورد ماءَ مدين: لما وصل مكان الماء في مدين. تذودان: تمنعان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء. أُمة: جماعة. ما خطبكما: ما شأنكما. حتى يصدر الرِعاء: حتى يسقي الرعيان وينصرفون. الرعاء والرعاة والرعيان بمعنى واحد. تولّى الى الظل: ذهب الى الظل. الاستحياء: شدة الحياء. ليجزيك: ليعطيك أجرَ ما سقيت لنا. وقصّ عليه القصص: أخبره بخبره وقصته. أنكحك: أزوجّك. على ان تأجُرني ثماني حجج: على ان تكون عندي أجيراُ مدة ثمان سنين. فان أتممت عشرا فمن عندك. فان زدت وبقيت عندي مدة عشر سنين فهذا من فضلك. وما اريد ان اشقّ عليك: لا اريد ان ادخل عليك مشقة. ايما الأجَلين قضيت: اي أجل قضيته ثماني سنين او عشراً. فلا عدوان عليّ: لا حرج علي. والله على ما نقول وكيل: شهيد.
وجاء رجلٌ من شِعيته من أقصى المدينة مسرعاً، فقال: يا موسى، ان زعماء القوم يتشاورون في أمرك ليقتلوك. اخرج من مصر، إني لك من الناصحين. فخرج منها موسى وهو خائف يترقب أن يلحقه أحدٌ منهم، ضارعا الى الله ان ينجيه من الظالمين. ولما توجه الى «مدين» لعله يجد فيها مأمناً سأل ربه ان يهديه طريقَ الخير والنجاة. وهناك في مَدْيَنَ وجد ماءً، وكان عليه جماعة كبيرة يسقون مواشيهم. ووجد امرأتين في ناحيةٍ تمنعان اغنامهما ان ترد الماء، فسألهما عن شأنهما، ولماذا لا ترِدان الماء؟ قالتا: لا نستطيع ان نسقي حتى ينصرف الرعاة، وأبونا شيخ كبير فتولى موسى سقي غنمهما ثم انصرف الى الظل، وسأل ربه ان يسوق اليه رزقاً من خيره لأنه لا يملك شيئا.
وبعد برهة جاءت إحدى الفتاتين تسير في حياء، وقال له: إن أبي يدعوك ليعطيَك أجْرَ ما سقيتَ لنا. فلما ذهب معها الى ابيها وقص عليه قصة خروجه من مصر، قال له الشيخ: لا تخفْ، نجوتَ الآن من القوم الظالمين.
قالت احدى الفتاتين، يا أبتِ، استأجرْه ليكون راعياً لغنمنا، إنه خير من تستأجر، فهو قوي وأمين. فعرض عليه أبوهما ان يزوّجه واحدة من ابنتيه على ان يؤجِّره نفسَه مدةَ ثماني سنين، فان أتمها عشراً كان ذلك من فضله. فقبل موسى الشرط، وعاهده على الوفاء به، وقال: أي مدة من المدّتين أقضيها في العمل أكون وفيتك عهدك فلا اطالَب بزيادة عليها، والله شاهد على ما نقول.
لم يُذكر اسم الشيخ الكبير هذا في القرآن، ويقال إنه ابن أخِ شُعيب النبي، اذ ان موسى لم يدرك النبي شعيبا على الصحيح.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وابن عامر: حتى يصدرُ ارعاء بفتح الياء وضم الدال. والباقون: حتى يصدر بضم الياء وكسر الدال.(3/50)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
قضى الأجل: اتم المدةَ المتفق عليها. آنس: أبصر. جذوة: جمرة ملتهبة. تصطلون: تستدفئون. البقعة المباركة: المكان الذي بارك الله فيه. جانّ: حية سريعة الحركة. ولم يعقّب: لم يرجع. اسلك يدَك: أدخِلها. الرهب: المخافة، الخوف.
فلما أتم موسى المدة التي اتفق عليها مع عمه حنّ الى وطنه، فاستأذن بالرحيل وسار بزوجته وما معه من الغنم التي حصل عليها من صهره عائدا الى مصر. وكان الجو باردا، وقد أظلم الليل، فضلّ موسى الطريق. وبينما هو كذلك رأى ناراً من ناحية جبل الطور، فقال لزوجته: امكثي، اني رأيت ناراً، لعلّي آتيك منها بخبر عن الطريق، او آتيك بشيء من النار تستدفئين بها.
فلما وصل الى المكان الذي رأى فيه النار، سمع مناديا من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة يقول له: يا موسى، إني انا الله ربّ العالمين. . ألقِ عصاك. فألقاها موسى. فلما رآها تهتز كأنها حيّة هرب منها ولم يرجع اليها. فناداه ربّه: أقدم يا موسى ولا تخفْ، إنك من الآمنين. أدخِل يدك في جيبك تخرج بيضاءَ من غير مرض ولا عيب، (وكان موسى اسمر اللون) ، هاتان معجزتان من الله، تواجه بهما فرعونَ وقومه.
ولما اعترى موسى الخوفُ من العصا وأخذته الدهشةُ من شعاعِ يده - أمره ربه ان يضع يدَه على صدره ليزول ما به من الخوف فقال: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} . قال ابن عباس: كل خائف اذا وضع يده على صدره زال خوفه.
قراءات:
جذوة: مثلثة الجيم وقرىء بها جميعا. وقرأ حفص: من الرَهْب بفتح الراء وسكون الهاء. وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو: من الرَهَب بفتح الراء والهاء. وقرأ حفص: من الرَّهْب بفتح الراء وسكون الهاء. والباقون: من الرُهْب بضم الراء وسكون الهاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فذانّك بتشديد النون، والباقون: فذانِك: بكسر النون دون تشديد.(3/51)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
رداءا: معينا. يصدقني: يوضح ما أقوله، ويجادل عني المشركين. سنشدّ عضُدك: سنقوّيك ونعينك بأخيك. ونجعل لكما سلطانا: قوة وغلبة. مفترى: مختلّق. ومن تكون له عاقبة الدار: ومن الذي يفوز.
قال موسى: يا رب لقد قتلتُ من قوم فرعونَ نفساً، فأخاف ان يقتصّوا مني. . . . إن أخي هارون ألإصحُ مني لساناً فأرسلْه معي معينا يُصدِّقني بحجتي ويجادل عني، لأأني أخاف ان يكذّبوني. هذا كما أن لساني لا يطاوعني عند المجادلة. قال الله: سنُعينك ونقوّيك بأخيك هارون، ونجعل لكما قوةً وحجة دافعة فلا يصلون إليكما. . . . اذهبا بآياتنا اليهم، فأنتما ومن اتبعكما الغالبون.
قراءات:
قرأ نافع: رِداء بكسر الراء وفتح الدال بغير همز. والباقون: رداءا بكسر الراء وسكون الدال بعدها همزة. وقرأ عاصم وحمزة: يصدقُني: بضم القاف. والباقون: يصدقني بسكون القاف.(3/52)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
هامان: وزير فرعون. صرحا: قصرا عاليا. اطّلع: أصعد واتطلع من فوقه. فنبذناهم: طرحناهم. يدعون الى النار: يدعون الى الكفر الموجب الى النار. لعنة: طرداً من الرحمة. من المقبوحين: المخزيين المهلكين. القرون الأولى: قوم نوح وهود وصالح. بصائر: أنوارا تهدي قلوبهم.
وقال فرعون عندما عجز عن محاجّة موسى: يا أيها القوم، ما علمت لكم إلهاً غيري كما يدّعي موسى، فاعملْ يا هامان لي بناءً عالياً أصعد وأرى اله موسى {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} .
واستكبر فرعون وجنودُه في أرض مصر. . . بغير الحق، وحسِبوا أنهم لا يُرْجَعون الينا حتى يلاقوا جزاءهم. فأخذْنا فرعونَ وجنوده فألقيناهم في البحر حين تعقبوا موسى ومن معه حتى يمنعوهم من الخروج من مصر. . . . فانظر يا محمد كيف كانت عاقبة الظالمين.
وجعلناهم دعاةً يدعُون إلى الكفر الذي يؤدي الى النار {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} وجعلنا اللعنة تتبعهم في هذه الدنيا، وهم يوم القيامة من المهلكين.
ولقد أنزلْنا التوراةَ على موسى بعد ما أهلكنا الأممَ التي سبقتْهم من الكافرين نوراً للناس ينصرون به الحق، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون.
قراءات:
قرأ ابن كثير: قال موسى، والباقون: وقال موسى بالواو. وقرأ حمزة والكسائي: ومن يكون له عاقبة الدار بالياء، والباقون: ومن تكون بالتاء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: لا يَرجِعون بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون: لا يُرجَعون بضم الياء وفتح الجيم.(3/53)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
بجانب الغربي: هو جبل الطور في سيناء. قضينا: عهِدنا اليه وكلفناه أمرنا ونهينا. فتطاول عليهم العمُر: طال عليهم الأمد الذي بينهم وبين القرون الماضية. ثاويا: مقيما. وصّلنا لهم القولَ: انزلنا متواصلا بعضه اثر بعض.
وما كنتَ يا محمد حاضراً بجانب الوادي الغربي الذي وقع فيه الميقاتُ وأعطى الله فيه ألواحَ التوراة إلى موسى حين عهد إليه امرَ النبوة، فكيف يكذّب قومُك برسالتك وانت تتلو عليهم انباء السابقين!؟ .
لقد كان ذلك منذ قرونٍ طويلةِ انقطعت فيها الرسالاتُ وطال الزمن فأتينا بك لقومك لتنذرَهم برسالتك، وما كنتَ مقيماً في «مدين» حتى تخبرَ أهلَ مكة بأنبائهم، ولكنّا أرسلناك وأخبرناك بقصصهم واخبارهم.
ولم تكن ايها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادى الهُ موسى واصطفاه لرسالته، ولكن الله أعلمَكَ بهذا القرآنِ رحمةً منه بك وبأمتك، لتبلّغه قوماً لم يأتهم رسول من قبلك، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . وحتى لا يقول قومك حين تصيبهم كارثةٌ بسبب كفرهم: يا ربّ، إنك لم ترسلْ إلينا رسولاً يبلّغنا فنتبعه {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} فأزحْنا العذرَ وبعثناك ايها الرسول اليهم.
فلما جاء محمد بالحق قالوا تمرداً وعنادا: هلاّ أوتيَ مثلَ ما أوتيَ موسى من المعجزات الحسيّة حتى نؤمن به! ويلهم، ألم يكفُروا بموسى كما كفروا بك! وقالوا إنما انتما ساحران ينصر أحدُكما الآخر ويعاونه.
ثم امر رسوله ان يتحدّى قومه أن يأتوا بكتابٍ أهدى من القرآن والتوراة للبشرَ وأصلحَ لحالهم فقال:
{قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
ثم توعّدهم لأنهم لم يستطيعوا ان يأتوا بالكتاب فقال:
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ}
ومن أضلُّ ممن اتبعَ هواه بغيرِ هدى من الله! ان الله لا يهدي الذين يظلمون أنفسهَم بالتمادي في اتباع الهوى.
قراءات
قرأ اهل الكوفة: سِحران بغير الف يعني القرآن والتوراة. الباقون: ساحران: يعني موسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.(3/54)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
مسلمين: منقادين لله. يدرأون: يدفعون: اللغو: ما لا فائدة فيه. لا نبتغي الجاهلين: لا نطلب صحبتهم.
قال ابن اسحاق: قدِم جماعة من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من الحبشة فوجدوه في المسجد، فجلسوا اليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش حول الكعبة. فلما فرغوا من اسئلتهم عما أرادوا دعاهم الرسولُ الى الله تعالى وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعيُنهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوا الرسول، وعرفوا منه ما كان يوصَف لهم في كتابهم من أمره. فاعترضهم أبو جهل ونفرٌ من قريش وحاولوا ان يصدّوهم عن إيمانهم. وأغلظوا لهم القول. فقالوا لهم: سلامٌ عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه.
وقال بعض المفسرين: إنهم نصارى من أهل نَجران.
والحق، أن بعض أهلِ الكتاب من النصارى يؤمنون بهذا القرآن، ويقولون: إنه الحقُّ من ربنا، بشّرنا الله به من قبلِ ان ينزل القرآن. . . . هؤلاء يعطيهم اللهُ أجرهم مرتَين نتيجةَ صبرهم على اذى الناس، وإيمانِهم، وايثارهم العملَ الصالح، وأنهم يقابلون السيئة بالعفو والاحسان، وينفقون في سبيل الله مما أعطاهم من اموال وخيرات، وإذا سمعوا الباطل من الجاهلين انصرفوا عنهم، وقالوا: لنا أعمالُنا ولكم اعمالكم، سلام عليكم لا نريد مصاحبة الجاهلين.(3/55)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
نتخطف: نسلب بلدنا ونقتل. يُجبى اليه: يجلب اليه. بطِرت معيشتَها: بغت وتجبّرت وكفرت بالنعمة. أمها: اكبرها، عاصمتها. من المحضَرين: الذين يحشرون للحساب والجزاء. وقد تكرر هذا التعبير في القرآن: {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} [الصافات: 57] . {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127] {فأولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ} [الروم: 16] [سبأ: 38] .
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}
يقرر جمهور المفسرين ان هذه الآية نزلت في ابي طالب، فقد ورد في الصحيحين أنها نزلت فيه. وروي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب. ففي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيّب: «لما حضرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدَ الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدَ الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله: يا عم، قل لا اله الا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقال ابو جهل وعبد الله بن امية: يا أبا طالب، أترغبُ عن ملّة عبد المطلب؟ . فكان آخر ما قال: انه على ملة عبد المطلب» وعند الشيعة الامامية الاجماع على ان ابا طالب مات مسلما، والله أعلم.
ومعنى الآية: انك لا تستطيع هداية من أحببتَ من قومك او غيرهم، وانما عليك البلاغ، واللهُ يهدي من يشاء، وله الحكمة بالبالغة في ذلك. {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} .
ثم اخبر سبحانه عن اعتذار كفار قريش في عدم اتّباع الهدى فقال:
{وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ}
وقال مشركو مكة: إننا نخشى إن اتبعناك على دينك وخالفنا من حولنا من العرب ان يقصدونا بالأذى، ويُجلونا عن ديارنا، ويغلبونا على سلطاننا.
وقد رد الله عليهم مقالتهم فقال:
{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
إن ما اعتذرتم به غيرُ صحيح، فقد كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غير، افتخافون اذا عبدتموني وآمنتم بي؟ وقد تفضّل عليكم ربك وأطعمكم من كل الثمرات التي تُجلَب من فِجاج الارض. ولكن اكثرهم جهلةٌ لا يعلمون ما فيه خيرهم وسعادتهم.
قراءات
قرأ الحمهور: يُجبى بالياء وقرأ نافع: تُجبى بالتاء.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين}
وكثير من القرى أثرى أهلُها فبطِروا وأفسدوا في الأرض فخرّب الله ديارهم واصبحت خاوية لم يسكنها أحدٌ بعدهم الا فترات عابرةً للمارين بها، وورثها الله جل جلاله. ومثلُه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}(3/56)
[هود: 117] .
ثم اخبر سبحانه عن عدله وانه لا يُهلك أحدا الا بعد الإنذار وقيام الحجّة بارسال الرسل فقال:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
ليست سنّة الله وعدله ان يُهلك القرى حتى يبعثَ في كُبراها رسولاً يتلو عيلهم الآياتِ ويدعوهم الى الله، ولا يمكن ان نهلك القرى والمدنَ الا اذا استمر أهلهُها على الظلم والفساد والاعتداء.
{وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ؟
وما أُعظيتم أيها الناس من أعراضِ الدنيا وزينتِها من الأموال والاولاد إلا مجرد متاعٍ محدود تتمتعون به في هذه الحياة، أما الذي عند الله فهو خيرٌ من ذلك وأبقى لأهل طاعته من ذلك كله. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أيها الناس وتتدبرون اموركم فتعرفون الخير من الشر!؟
قراءت
قرأ ابو عمرو: يعقلون بالياء. والباقون: تعقلون بالتاء.
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} ؟
هل يستوي المؤمن الذي وعدَه الله السعادةَ والنصر ثم يوم القيامة يدخله الجنة، مع الكافر الذي أعطاه الله الرزقَ الكثير وتمتّع في حياته، ثم هو يوم القيامة من المحضَرين للحساب والجزاء، الهالكين في النار!! انهما لا يستويان.(3/57)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
حقّ عليهم: وجب عليهم. القول: العذاب. أغويناهم: أضللناهم، الغواية: الضلال والفعل غوى يغَوى غياً وغواية فهو غاو. وفي سورة النجم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} . فعميت: خفيت. الأنباء: الحجج والاعذار، الخِيرة: الاختيار. تكنّ: تخفي. يعلنون: يظهرون. وله الحكم: له القضاء النافذ في كل شيء.
اذكر ايها الرسول لقومك يومَ ينادي ربُّ العزة المشركين ويقول لهم: أين الذين زعمتم انهم شركائي وعبدتموهم من دوني.
فيجيبه قادةُ الكفر ودعاة الضلال الذين ثَبَتَ عليهم العذابُ قائلين: يا ربنا، هؤلاء الذين أضللناهم، إنما أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن. لقد دعوناهم إلى ما نحن فضلّوا مثلنا باختيارهم، واننا نبرأ اليك منهم فما كانوا يعبدوننا في الحقيقة، وانما كانوا يعبدون أهواءهم.
ويقال للأتباع ادعوا شركاءَكم واستغيثوا بهم، ففعلوا فلم يجيبوهم، ورأوا العذابَ حاضرا، وتمنّوأنهم كانوا في دنياهم مؤمنين.
ويوم ينادي الله المشركين ويقول لهم: بماذا أجبتم الرسَلين؟ هل آمنتم بهم. فلا يستطيعون ان يقولوا شيئا، وغابت عنهم الحُجج، ولم يجدوا معذرة، ولا يسأل بعضهم بعضا من الدَّهَش والخوف.
وبعد ان بيّن حال الكفار المعذَّبين وما يجري عليهم من التوبيخ والاهانة - أَتبعه بذِكر من يتوب في الدنيا وما ينتظره من نعيم فقال:
{فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} .
وأما من تاب من الشِرك، وآمن ايماناً قادقا وعمل الأعملَ الصالحةن فانهم يكونون عند الله من الفائزين برضوان الله وبالنعيم الدائم.
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما يريد، ليس لأحدٍ الخيارُ في شيء، تنزه وتعالى عما يشركون، وربك يعلم ما تخفي صدورهم وما به يجهرون.
وهو الله لا إله يُعبد ويرجى الا هو، له الحمد في الدنيا من عباده على إنعامه وهدايته، وفي الآخرة على عدله ومثوبته. وهو وحده صاحب الحكم والفضل، واليه المرجع والمصير.(3/58)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
أرأيتم: أخبرِوني. سرمدا: دائما. تسكنون فيه: تستقرون فيه من متاعب الأعمال. ونزعنا: أخرجنا. شهيدا: شاهدا. وضلّ: غاب.
في هذه الآيات الكريمة تنبيهٌ للناس الى حقيقةٍ يجب ان يعوها، وهي ان الله تعالى لو خلق الأرضَ بحيث يكون ليلُها دائماً او نهارُها دائما لكان في ذلك حَرَجٌ على الخلق ولتَعَذّرت الحياة عليها. وليس غير الله تعالى مَن يستطيع ان ينعم علينا بالنهار والليل، لنسكنَ ونستريح بالليل من عناء العمل، وننشط في النهار لنبتغي فيه الرزق. وما أقسى الحياةَ لو كانت عملاً بلا راحة. . . . لذلك يجب ان نشكره تعالى على هذه النعم الجزيلة.
فاذكر ايها الرسول يوم ينادي اللهُ المشركين ويقول لهم: أين الشركاء الذين عبدتموهم من دوني؟ فلا يجيبون.
ويوم القيامة يُحضر الله من كل أمةٍ شاهداًهو نبيُّها يشهد عليهم بالحق، ثم يطلب الله منهم بعد ذلك حجتهم {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فيعجزن عن الجواب {فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ويكذبون على ربهم في الدنيا.(3/59)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
فبغى عليهم: تكبر وتجبر. الكنوز: جمع كنز: وهو المال المدفون في باطن الأرض والمراد به هنا المال المدخَر. مفاتحه: جمع مفتح: ومفاتيح جمع مفتاح والمعنى واحد، وهو المفتاح المعروف لفتح الابواب. لَتنوء بالعصبة أولي القوة: يعني ان مفاتيح خزائنه من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الاقوياء. لا تفرح: لا تبطَر، وتتمسك بالدنيا. على علم عندي: على حسن تصرفٍ في التجارة واكتساب المال. ويلكم: كلمة تستعمل للزجر. وي: كلمة يراد بها التندم والتعجب. ويقدر: يضيّق، يقلل.
كان قارون من قوم موسى، ويقول بعض المفسرين انه تكبّر على قومه غروراً بنفسه وماله، حيث أعطاه الله من الأموال قدراً كبيرا، بلغت مفاتيحُ خزائنها من الكثرة بحيث يثقل حملُها على الجماعة الأقوياء من الرجال. وحين اغترّ وكفر بنعمة الله عليه نصحه قومه قائلين: لا تغترّ بمالك ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله، ان الله لا يرضى عن المغرورين المفتونين.
وقد أورد القرآن هذه القصة حتى يعتبر قومُ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إذ أنهم اغترّوا باموالهم، فبيّن لهم ان أموالهم بجانب مال قارون ليست شيئاً مذكورا.
ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا:
1 - {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة} اجعلْ نصيباً منه في سبيل الله والعملِ للدار الآخرة.
2 - {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} لا تمنع نفسك نصيبها من التمنع بالحلال في الدنيا. كما في الحديث الشريف: «ان لربك عليك حقاً، ولنفسِك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا»
3 - {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} أحسنْ الى عباد الله كام احسن الله اليك بنعمته، فأيمنْ خلْقه بمالك وجهك، وطلاقة وجهك، وحسن لقائهم.
4 - {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} لا تفسد في الأرض متجاوزا حدود الله، ان الله سبحانه لا يرضى عن ذلك.
قال قارون وقد نسي فضلَ الله عليه: انما أوتيتُ هذا المالَ بعلمٍ خُصصت به.
ألم يعلم هذا المغرور ان الله قد أهلكَ من أهلِ القرون الأولى من هم أشدّ منه قوة واكثر جمعا؟ إنه عليم بالمجرمين، في غير حاجة لأن يسألهم ماذا يعملون.
وتجاهل قارون كل هذه النصائح وخرج على قومه في زنيته، فتمنّى الذين يطلبون الحياة الدنيا مثلَ ما عند قارون، وقال الذين رزقَهم اللهُ العلم النفع: ويلكم، ثوابُ الله خيرٌ من هذا لمن آمن وعمل الاعمال الصالحة.
ثم ذكر الله ما آل اليه بطره من وبال ونكال فقال:
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض. . . .}
فخسفنا به الأرض فابتلعته هو وداره بما فيها من أموال وزينة، فلم يكن له أنصار يمنعونه من عذاب الله، وما أغنى عنه مالُه ولا خدَمه، ولا استطاع ان ينصر نفسه.(3/60)
ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب، صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا وداعيا الى الرضا بقضاء الله وبما قسمه لهم. وصاروا يرددون عباراتِ التحسّر والندم، ويقولون: ان الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده المؤمنين وغير المؤمنين، ويقتر ويضيّق على من يشاء منهم.
{لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} .
لولا لَطَفَ الله بنا لخسَف بنا الأرض. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم: «وَي، كأنه لا يفلِح الكافرون» ان الكافرين بنعمة الله لا يفلحون.
قراءات:
قرأ يعقوب وحفص: لخسف بنا بفتح الخاء والسين، والباقون: لخسف بنا، بضم الخاء وكسر السين.(3/61)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
فرضَ عليك: أوجب عليك. لرادّك الى معاد: لمعيدك الى بلدك. ظهيرا: معينا. هالك: ذاهب، معدوم. وجهه: ذاته. له الحكم: له القضاء.
تلك الدارُ الآخرة (وهي الجنة) نجعلها للذين لا يريدون تكبراً في الأرض ولا فسادا، والعاقبة الحميدة للمؤمنين المتقين.
وفي الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنةَ من كان في قبله مثقالُ ذرة من كِبر، فقال رجل: ان الرجل يحبّ ان يكون ثوبُه حسناً وفعله حسنا فقال عليه الصلاة والسلام: ان الله جميلٌ يحب الجَمال، الكِبر بطر الحق، وغمط الناس» رواه مسلم وابو داود.
من جاء بالحسنة له يومَ القيامة أفضلُ منها والله يضاعف لمن يشاء، ومن جاء بالعمل السيء فان الله لا يجزيه الا بمثل علمه، وهذا منه سبحانه رحمة وتفضل.
{إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}
ان الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك تلاوته والعملَ بما فيه - لمعيدُك الى الأرض اتي اعتدتها، وهي مكة؛ او: إن المعادَ يوم القيامة، فقل ربي أعلم بمن جاء بالهدى وما يستحقه من الثواب والنصر والتمكين في الأرض، وبمن هو في ضلال مبين، وما يستحقه من القهر والاذلال والعذاب المهين.
{وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ. . . .}
ما كنت ايها الرسول تأمل ان ينزَّلَ عليك القرآن، لكن الله أنزله عليك من عنده رحمةً بك وبأمتك، فاذكر هذه النعمة، وثابر على تبليغ الرسالة، ولا تكن أنت ومن اتبعك عوناً للكافرين.
ولا يمنعك الكافرون يا محمد من تلاوة آياتنا والعملِ بها بعدَ إذ أُنزلتْ اليك، وادعُ الناس الى عبادة ربك وتوحيده، ولا تكوننّ من المشركين.
ولا تعبد مع الله آلهاً غيره، فانه لا اله الا هون، كل شيء فانٍ الا ذاتُه فإنها أزليّة ابدية، له الحكمُ المطلَق النافذ وإليه تردّون يوم القيامة.
وهكذا تختم هذه السورة الكريمة بتقرير قاعدة الدعوة الى وحدانية الله سبحانه، تفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء، ليمض أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى، وعلى ثقة وعلى طمأنينة وفي يقين.(3/62)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
لا يُفتنون: لا يمتحنون. الفتنة: الامتحان والاختبار. ساء ما يحكمون: قَبُح حكمهم. يرجو لقاء الله: يطمع بنيل ثوابه. أجَل الله: الوقت المضروب للقائه. جاهد: بذل جهده في حرب نفسه. جاهداك: حملاك على الشرك.
{الم} حروف صوتيه تقرأ هكذا ألف، لام، ميم، افتتحت بها السورة لبيان ان القرآن المعجز مؤلَّفٌ من هذه الحروف، ولتنبيه السامعين وتوجيه أنظارهم الى الحق، وكل سورةٍ صدرت بهذه الأحرف تتضمن حديثا عن القرآن إما مباشرة، واما في ثنايا السورة، كقوله تعالى في الآية 45 من هذه السورة {اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب. . . .} والآية: 47 {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب. . . .} والآية 51 {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب. . . .}
{أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}
ايظنّ الناس أنهم يُتركون بمجرد قولهم آمنا بالله دون ان يُختبروا بما تتبيَّن به حقيقةُ إيمانهم. لا بدَّ من امتحانهم بذلك.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين}
لقد اختبرنا الناسَ من الأمم السابقة بضروبٍ من البأساء والضراء فصبروا وتمسكوا بدِينهم، والله يعلم الذين صدقوا في ايمانهم، ويعلم الكاذبين.
روى البخاري وابو داود والنسائي «عن خَبَّاب بن الأرتّ قال: شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقينا من الشمركين من شدةٍ فقلنا: الا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلِكم يؤخَذُ الرجل فيُحفَرُ له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعل نصفَين، ويمشَط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه. والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء الى حضرموتَ لا يخاف الا الله، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»
{أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}
ام يظن المشركون والذين يرتكبون الأمورَ السيئة أننا لا نقدِر عليهم!! بئسَ هذا الحكم الذي يحكمونه بجهلهم وغرورهم.
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السميع العليم}
من كان يؤمن بالبعثِ، فوي لقاء الله - فان إيمانه حق، واليومُ الموعود الذي عيّنه الله آت لا محالة، وهو سميع لاقوال العباد، عليم بأفعالهم.
ثم بين الله تعالى أن التكليفَ بجهاد النفس وغيرها ليس لنقعٍ يعود اليه بل لفائدة الناس. {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} .
ومن جاهدَ نفسه بالصبر على الطاعة، فإن ثواب جهاد لنفسه، والله سبحانه لا يحتاج الى شيء من اعمالنا، كما قال: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصّلت: 46] وقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] .
لقد ظن بعض المفسّرين ان هذه الآية مدينة لأن فيها {وَمَن جَاهَدَ} والصوابُ ان الآية مكّية والمراد هنا بالجهاد جهادُ النفس والصبر على الأذى.(3/63)
{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
والذين آمنوا إيماناً صادقا وعملوا الاعمالَ الصالحة سنمحو عنهم خطاياهم، ونجزيهم بأحسنَ مما عملوا، وأضعاف أضعافه.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} تقدم في سورة الاسراء {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً. . . .} الآية 23.
{وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ. . . .}
على المرء أن يعامل والديه بالرِفق واللين ولو كانا مشركَين، فأما إذا اراد منه ان يشرك بالله، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق.
{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين}
والذين آمنوا إيماناً صادقا مع العمل الطيب الخالص لله - يدخلُهم ربهم في زمرة من أنعمَ عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] .(3/64)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
فتنة الناس: أذاهم. ونحمل خطاياكم: لتكون ذنوبكم علينا. الأثقال: واحدها ثقل بكسر الثاء وسكون القاف: الحمل الثقيل، والمراد هنا الذنب والاثم.
الناي في الدين ثلاثة أقسام: مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما، يُظهر الايمانَ لبسانه، ويبطن الكفر في قلبه، وقد بيّن الله تعالى القسمين الاولين بقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} وهنا يبين القسم الثالث بقوله تعالى:
{وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ} .
ومن الناس من يقول بلسانه آمنتُ بالله ويدعي الإيمانَ ظاهرا، فإذا أُصيب بأذىً بسبب ايمانه جزعَ وسوّى بين الناس وعذابِ الله في الآخرة، واعتقدَ ان هذا من نقمةِ الله تعالى، فيرتدّ عن الاسلام. وهذا كقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ} [الحج: 11] .
{وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}
لئن فتحَ الله على المؤمنين وجاءهم بعضُ الخيرات يقول المنافقون إنا كنّا معكم فأشركونا فيها معكم.
وقد توعّدهم الله وذكر انه عليمٌ بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرِهم فقال: {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} .
ثم بين ان هذه الفتنة إنما هي اختبارٌ من الله ليظهر المؤمنَ الصادقَ من المنافق: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} فيجازي الفريقين كلا بما يستحقه.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
كان زعماء قريش من المشركين يقولون للذين دخلوا في الاسلام: ارجِعوا إلى ديننا واتّبعوا ما نحن عليه، واذا كان هناك بعثٌ وحساب تخشونه فنحن نحمل عنكم ذنوبكم. فردّ الله عليهم قولهم بأنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ولن تحمل نفسٌ وِزرَ نفسٍ أخرى، وان الكافرين لكاذبون في وعدهم.
وبعد ان بين عدم منفعة كلامهم لمخاطِبيهم، بيّن ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم فقال:
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
سوف يحمل أَولئك الكفار أوزارَ أنفسِهم الثقيلة، ويحملون معها مثل اوزارِ من أضلّوهم وصرفوهم: عن الحق، وسيحاسَبون يوم القيامة على ما كانوا يختلقون في الدنيا من الأكاذيب.
وفي الصحيح: ما دعا الى هدىً كان له من الأجرِ مثلُ أجور من اتبعه الى يوم القيامة، من غير ان ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا الى ضلالٍ كان عليه من الإثمِ مثلُ آثام من اتبعه الى يوم القيامة من غيرِ ان ينقص من آثامهم شيئا.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}
لا يحزنك أيها الرسول ما تلقى من أذى المشركين أنت واصحابُك، فإن مصيرهم الى البوار، ومصيرك وأصحابك الى العلوّ والنصر.(3/65)
ان نوحاً مكث في قومه تسعمائةٍ وخمسين سنة يدعوهم وهم لا يستجيبون له، فأغرقهم الله بالطوفان وهم ظالمون لأنفسِهم، وأنجاه ومن معه من المؤمنين في السفينة، وجعل قضيّتهم عبرةً للعالمين.
وقد تقدّم ذكر نوح في آل عمران والنساء والأنعام والأعراف والتوبة ويونس وهود وابراهيم والإسراء ومريم والانبياء والحج والمؤمنون والفرقان والشعراء والعنكبوت. هذا وسيأتي في عدد من السور.
وقوله تعالى: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} لم يقل الف سنة الا خمسين سنة، حتى لا يكرر كلمة سنة فلا يكون الكلام بليغا، والعرب تعبر عن الخِصب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة، ونوح لما استراح بقي في زمن حسن.(3/66)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
تخلقون افكا: تختلقون كذبا. فابتغوا: فاطلبوا.
مرت قصةُ إبراهيم في عدد من السورة وستأتي ايضا، وفي إيراد هذا القصص تثبيتٌ للنبي عليه الصلاة والسلام وان النتيجة هي النصرُ له باذن الله.
أذكُر أيها الرسول قصة ابراهيم حين دعا قومه الى توحيد الله، ثم أرشدهم الى فضلِ ما يدعوهم اليه وفسادِ ما هم عليه، بعبادتهم الأصنامَ التي يصنعونها بأيديهم، وقال لهم إن هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولا تعطيكم رزقاً، فاطلبوا الرزق من الله وحده، واعبدوه واشكروه، فإليه مصيركم أجمعن.
وان تستمروا على الكذب، فقد كذّبت الأمم السابقةُ رسلَها، وما ضر ذلك الرسلَ شيئا، وليس على الرسول الا تبليغ الرسالة بأمانة ووضوح.(3/67)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
يبدىء الخلق: يخلقه اول مرة. ويعيده: في الآخرة يوم القيامة: ينشىء: يخلق. النشأة: الخلق. تقلبون: تردون بعد موتكم. من ولي: قريب. ولا نصير: ولا معين.
في هذه الآية تكملةٌ لقصة إبراهيم فانه لهم: ألم تروا كيف بدأ الله الخلق؟ انه سيعيد الخلق يوم القيامة كما خلقه اول مرة. وذلك على الله يسير. ثم ارشدهم الى الاعتبار بما في هذه الأرض من دلائلَ وما في الآفاق من شواهد، وقال لهم: سيروا في هذه الأرض، ابحثوا فيها كيف بدأ الله الخلق، فانكم ستجدون الدلائلَ الكافية على كيفية تكوين الخلق كما بدأه الله، وهو سيعيد غنشاءه يوم القيامة. وهو حسب حكمته يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء بعدله في حكمه، إليه مرجعُكم جميعا يوم الحساب والجزاء. لستم أيها المكذِّبون بمعجزين اينما كنتم، ولا يستطيع أحدٌ نصركم. إن الذين كفروا بالدلائل التي بينّها الله في هذا الكون، وكذّبوا برسله وكتبه - انما يئسوا من رحمة الله، ولهم عذابٌ شديد مؤلم.
فما كان جوابُ قوم إبراهيم على هذا الحوار العظيم إلا الامعان في الكفر، وقالوا: اقتلوا إبراهيم او احرقوه في النار، فأنجاه الله من النار وجعلها بردا وسلاما، وإن في ذلك لدلائل واضحة لمن يصدق بالله.
وقال ابراهيم لقومه: انما اتخذتم هذه الأصنامَ تعبدونها من دون الله، لا اعتقاداً واقتناعا بعبادتها، وانما يجاملُ فيها بعضكم بعضا. ان مودّة بعضكم بعضا هي التي دعتكم الى عبادتها، لكن هذه المودة ستنقلب الى عداوةٍ يوم القيامة، حيث يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا، ومصيركم جميعا الى النار.
وآمن لوط واجاب دعوته وكان ابن اخيه، وقال: إني مهاجر الى بلاد الشام. ووهب الله لابراهيم اسحاق ويعقوب وجعلَ من نسله النبوةَ، وأحسنَ إليه جزاء عمله، في الدنيا وفي الآخرة.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر: ألم تروا بالتاء. والباقون: الم يروا بالياء. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: النشَاءة بفتح الشين ومدها. الباقون: النشْأة: بسكون الشين.
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: مودةُ بينِكم برفع مودة وجر بينكم بالاضافة، وقرأ نافع وابو بكر وابن عامر: مودةً بينكم بنصب مودة منونا ونصب بينكم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة: مودةَ بينِكم بنصب مودة وخفض بينكم بالاضافة وهي قراءة المصحف.(3/68)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
الفاحشة: العمل القبيح الذي تنفر منه النفوس. السبيل: الطريق. القرية: سدوم في منطقة البحر الميت بالأردن. الغابرين: الباقين. سيء بهم: حصل له سوء وغم بسببهم. ضاق بهم ذرعا: عجز عن تدبير شئونهم. الرجز: العذاب.
ذُكرت قصة لوط في عدد من السور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا، وقد مرت في كل من سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل.
وخلاصتها ان قوم لوط كانوا أشراراً يقطعون الطريق على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسَن. وكانوا يأتون الذكورَ من الناس، ويُعلنون ذلك ولا يرون فيه سوءا. فكانوا يتربصون لكل داخلٍ مدينتَهم من التجّار ويجتمعون عليه ويمدون ايديهم الى بضاعته يأخذُ كل واحد منها شيئا حتى لا يبقى معه شيء. كما قال تعالى: {وَتَقْطَعُونَ السبيل} .
ولقد أنجىلله لوطاً وابنتَيه من القرية وبقيت امرأته فيها، لأنها كانت كافرة مع قومها، فحل بهم العذاب، وامطر الله عليهم حجارةً من سِجِّيل، قلبتْ ديارَهم عاليَها سافلها، وبقيت الى آيامنا آية بيّنة لقوم يعقلون.
قراءات:
قرأ أهل الحجاز وابن عامر ويعقوب وحفص: إنكم لتأتون الفاحشة بهمزة واحدة. وقرأ اهل الكوفة أإنكم بهمزتين على الاستفهام.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب: لنُنَجينه بفتح النون الثانية وتشديد الجيم المكسورة. وانا مُنَجوك: بفتح النون وتشديد الجيم المضمومة.
وقرأ ابن عامر والكسائي: منزلون بفتح النون وتشديد الزاي المكسورة. والباقون: منزلون، باسكان النون وكسر الزاي دون تشديد.(3/69)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
مدين: اسم قرية شعيب في شمال الحجاز، وشُعيب عربي. وارجو اليوم الآخر: توقعوا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال. لا تعثوا: لا تفسدوا. الرجفة: الزلزلة. جاثمين: باركين على ركبكم، هالكين. ما كانوا سابقين: وما كانوا هرابين. حاصبا: ريحا فيها رمل وحجارة صغيرة.
تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف وهود والشعراء بأطولَ مما هنا، وكذلك مرت قصة صالح مع قومه عادٍ في سورة الأعراف وهود وغيرها، وهم عربٌ مساكنهم في الأحقاف في شمال حضرموت. وموضع بلادهم اليوم رمال خالية على اطراف الرَّبع الخالي. وصالح وقومه ثمود عربٌ ايضا، ومساكنهم الحِجر في شمال الحجاز وتُعرف اليوم بمدائن صالح، واسماؤهم عربية. وهذا نصّق وجده المنقبون على حجرٍ بالحرف النبطي وتاريخه قبل الميلاد.
«هذا القبرُ الذي بنته كمكم بنتُ وائلة بنت حرم وكليبة انتها لأنفسِهن وذريتهن، في أشهرٍ طيبةٍ من السنة التاسعة للحارث ملك النبطيين محب شعبه. . . . الخ» .
لقد أهلك الله قوم شعيب في «مدين» ، وقوم هود في «الاحقاف» ، وقوم ثمود في «الحجر» ويخاطب قريشاً بقوله تعالى: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} لانهم يمرون عليها في ذهابهم الى اليمن والشام.
وأهلك الله فرعون وقارون وهامان الذي جاءهم موسى بالمعجزات الواضحة فاستكبروا وكفروا، فما استطاعوا ان ينجوا من عذاب الله الأليم، بل أخذَهم الله بذنوبهم. فعادٌ أخذهم حاصبٌ، وهو الريحُ الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم. وثمود اخذتهم الرَّجفة والصيحة. وقارون خَسف به وبداره الأ {ض. وفرعون وهامان غرقا في اليمّ وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
وذا نظرنا الى احوال الأمم الآن في معظم أقطار الأرض نجد الفتنَ والحروب والمشاكل التي لا تنتهي، وغلاءض الاسعار المتزايدَ في جميع أقطار الأرض، أليسَ هذا كلّه من انواع العذاب والبلاء! لكن فرعون اليوم هو أمريكا وأوروبا من دول الاستعمار، وهامان هو بعض الحكّام الذين لا يخلصون لشعوبهم.
اما نحن، المسلمين، فقد حِدنا عن جادة الصواب، وانحرفنا عن ديننا واتبعنا اهواءنا فضعُفنا وتخاذلنا وتأخرنا، وصرنا نبهاً للأمم تنهب شركاتها خيراتنا حتى التي في باطن الارض، وتغتصب اراضينا بتواطؤ بعضنا في ذلك. أليس هذا من العذاب!!(3/70)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
بعد هذه الجولة في سورة العنكبوت، والحديث عن الفتنة والابتلاء والاغراء وقصص بعض الانبياء وأممهم، والذين بهرتهم قوى المال والجاه، فظنوا انها تحميهم من الله - يضرب الله المثلَ لحقيقة القوى المتصارعة في هذه الميادين وانهم خاطئون بكل تقديراتهم، وان هنالك قوة واحدة هي قوة الله، وما عداها فهو هزيل ضعيف، لن يحميهم الا كالعنكبوت الضعيفة التي اتخذت أوهنَ البيوت لحمايتها.
ثم زاد الله الانكار توكيدا بقوله:
{إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ العزيز الحكيم}
فكيف يتسنى للعاقل ان يترك القادر الحكيمويعبد سواه!! ،
بعد ذلك بين الله فائدة ضرب الامثال للناس، وانه لا يدرك مغزاها الا ذوو الألباب الذين يعلمون ويعقلون. إن الإله الذي يستحق العبادة هو الذي {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} ، لا عبثا ولا لعباً بل لحكمة يعلمها المؤمنون، وفي نظام دقيق لا يتخلف ولا يبطىء ولا يصدم بعضه بعضا. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية وعجائب هذا الكون الكبير.
وبعد نهاية هذه الجولة العظيمة سلّى رسوله الكريم بتلاوة ما أوحى اليه من الكتاب، وامره بإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، هي اكبر مطهر للانسان حين يقيمها حق الاقامة.
{وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .
فذِكر الله اكبر من كل شيء، واكبر من كل تعبد وخشوع. والله يعلم ماتفعلون من خيرٍ وشر فيجازيكم عليه.
قراءات:
قرأ ابو عمرو ويعقوب عاصم: ان الله يعلم ما يدعون من دونه، بالياء، والباقون: ان الله يعلم ما تدعون من دونه، بالتاء.(3/71)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
الجدَل: الحِجاج والمناظرة، مأخوذ من جدلَ الحبلَ وفتله، والمُناظر يفتل خصمه عن رأيه. مسلمون: مطيعون، خاضعون. وما يجحدون بآياتنا: وما ينكر. اذاً لارتاب المبطلون: اذا لشك أهل الباطل.
يؤكد القرآن الكريم على الدعوة بالرِّفق واللين، ومجادلة اهل الكتاب بالتي هي أحسن، ومقابلة الغضب ولاعصبية بالهدوء وكظم الغيظ، فيقول {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} . ويقول: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . ويقول: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] .
هذه أوامر الله تعالى في القرآن الكريم، يأمرنا ان نتحلّى بالرفق واللين، وندعو ونجادل بالتي هي أحسن. لكننا مع الأسف نجد معظم الذين يرتدون في الظاهر زِيّ الدين، ويدعون الى الله - لا يتحلّون بهذه الاخلاق، فتجدهم على المنابر متشنّجين متشدّدين، وقد لا نظلمهم إذا قلنا ان بعضهم يتشنّج في خدمة جيبه، لا خدمة ربّه.
{إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}
اما الذين ظلمونا وحاربونا وناصبونا العداء فإن الله تعالى أمرنا ان نقابلهم بالمثل، حيث لا ينفع معهم الرفق ولا اللين. وفي مذابح لبنان وافغانستان شاهدٌ على ذلك.
{وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
قولوا لهم: آمنّا بالقرآن الذي أُنزل الينا، والتوراةِ والإنجيل، معبودُنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، ومنقادون لأمره.
ثم بين الله انه لا عجبَ في إنزال القرآن على الرسول الكريم، فهو على مثال ما أُنزل من الكتب من قبل فقال:
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون} .
كما أنزلنا الكتب على من قبلَك من الرسل أنزلنا إليك القرآن، فالذين آتيناهم الكتابَ قبل القرآن من اليهود والنصارى - يؤمنون به، اذ كانوا مصدّقين بنزوله حسب ما ورد في كتبهم. ومن هؤلاء العربِ من يؤمن به، وما يكذّب بآياتنا بعد ظهورها الا المصرّون على الكفر.
ثم اكد الله إنزاله من عنده، وأزال الشبهة في افترائه فقال:
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} .
ما كنتَ يا محمد تقرأ ولا تكتب من قبل ان ينزل اليك القرآن، وهذا أمرٌ يعلمه جميعُ أهل مكة، ولو كنتَ تقرأ وتكتب لشكّ أهل الباطل في أن هذا القرآن من عند الله.
ثم اكد ما سلف وبيّن ان هذا القرآن منزلٌ من عند الله حقا فقال:
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون} .
ان هذا القرآن لا يمكن ان يكون موضعَ ارتياب، بل هو آياتٌ واضحات محفوظة في صدور الذين آتاهم الله العلم. ولا ينكر آياتن الا الظالمون للحقّ ولأنفسِهم، الذين لا يَعدلِون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور.(3/72)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
فاجابهم الله بقوله:
{قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله}
قل يا محمد: إن المعجزات عند الله ينزلها حين يشاء، وانما أنا مكلف بالإنذار الواضح، وتبليغ الرسالة، وليس عليَّ هداكم.
ثم قال تعالى: كيف يطلبون الآياتِ مع نزول القرآن! أليس فيه ما يكفي ويقنع!
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
انهم يطلبون المعجزات الحسية، أما كفاهم دليلاً على صدقك هذا القرآنُ الذي أنزلناه عليك يُقرأ عليهم، وهو الآيةُ الخالدة على الزمن! . ان في إنزال هذا الكتاب عليك لرحمةً من الله بهم وبالناس اجمعين، وتذكرةً دائمة نافعة لمن يؤمن به.
{قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون} .
بعد ان أقام الله الادلة على صدق رسالة النبي الكريم، وبيّن أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به - أمر رسوله ان يَكِلَ عِلم ذلك الى الله، فهو العليم بصدقه. أما الذين عبدوا غيره فقد خسروا الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ نافع وابو عمرو وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم: لولا انزل عليه آياتٌ من ربه، بالجمع، وقرأ الباقون: لولا انزل عليه آيةٌ من ربه، بالإفراد.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب. . . .} الآيات.
بعد ان أنذر المشركين بالعذاب وهدّدهم، قالوا تهكماً واستهزاء: ان كان هذا حقاً فأْتنا بالعذاب. فأجابهم الرسول بانه لا يأتيكم بسؤالكم، ولا يعجّل باستعجالكم، لأن الله أجَّله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمّى الذي اقتضته حكمته لعجّله لكم، ولَيأتينكم فجأة وانتم لا تشعرون.
ثم تعجّب منهم في طلبهم استعجال العذاب، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويكون من الأهوال ما لا يوصف، ويقال لهم على سبيل التوبيخ {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قراءات:
قرأ أهل الكوفة ونافع: ويقول ذوقوا. . . . بالياء. والباقون: ونقول: بالنون.(3/73)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
فإياي فاعبدون: فاعبدوني. لنبوّئنهم: لننزلنّهم، بوأهم: أنزلهم منزلا حسنا. يؤفكون: يُصرَفون عن الحق. ويقدر: ويضيق.
بعد ان بيّن حال الجاحدين المكذّبين، وما يغشاهم من عذاب محيط بهم، لأنهم قد اشتد عنادهم وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من أداء عبادتهم - امره الله بالهجرة الى دار اخرى حتى ينجوا بعقيدتهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس، بيَّن لهم ان المكروه واقع لا محالة، ان لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، وأنتم ايها المؤمنون، لا تستصعِبوا مفارقة الأوطان في مرضاة الله، فان أرض الله واسعة، ومدى الدنيا قريب، والموتُ لا بد منه، ثم مرجعكم الى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فهنالك الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين} .
وقد بين الله هؤلاء العاملين الذي استحقوا تلك الجنات بقوله:
{الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
ولا تقلقوا على توفّر الرزق ولا تخافوا بعد مغدرة الأوطان، إن الله هو الكافي أمرَ الرزق في الوطن والقرية.
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا. . .}
ان الله يرزق الجميع حيث كانوا، هو يسمع لهم، ويعلم حالهم، ولا يدعهم وحدهم {وَهُوَ السميع العليم} .
قراءات:
قرأ ابو بكر: ثم الينا يرجعون بالياء. والباقون: ترجعون بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي لنتوينهم بالثاء، يعني لنقيمنهم، من: ثوى بالمكان: أقام. والباقون: لنبوئنّهم: بالباء.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ؟} .
انهم يعترفون بأن الله هو خالق السموات والأرض والمسخِّر للشمس والقمر، وهم مع ذلك يعبدون سواه، فلماذا هذا التناقض؟! وكيف إذْن يُصرفون عن توحيد الله وعن عبادته، مع اقرارهم بهذا كله؟
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ. . .}
ما دام الخالقُ هو الله، فانه يوسع الرزق على من يشاء، ويضيق على من يشاء، حسبما يقتضيه علمه بالمصالح، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ} .
وان اقوال هؤلاء المشركين تخالف أفعالهم، فهم يقرّون بالوحدانية ثم هم يعبدون مع الله سواه، ولذلك يقول:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله}
إنهم مقرّون بان الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو مدبّر الكون، لكنهم انحرفوا وعبدوا غيره ولذلك يتعجب من أقوالهم ويقول:
{قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} .
قل يا محمد، الحمدُ لله على اعترافهم بالحق، ولكن اكثرهم لا يَستعملون عقولهم، ولا يفهمون ما يقعون فيه من تناقض.(3/74)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
لما بين الله فيما تقدم ان المشركين يعترفون بان الله هو الخالق والمدبر لهذا الكون، ومع ذلك فانهم يتركون عبادته اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها - بين هنا ان الدنيا وما فيها باطلٌ وعبث زائل، وانما الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها، ولكنهم لا يعلمون.
ثم ارشد الى انهم مع اشراكهم بربهم سِواه في الدعاء والعبادة، اذا هم ابتلوا بالشدائد كما اذا ركبوا البحر وعلتهم الامواج من كل جانب، وخافوا الغرق - دعوا الله معترفين بوحدانيته ولكنهم سرعان ما يرجعون بعد نجاتهم ويعودون سيرتهم الأولى.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ}
لينكروا ما أعطيناهم من النعم، ويتمتعوا بلذّاتهم وشهواتهم، فسوف يعلمون عاقبةَ الكفر حين يشاهدون العذابَ الأليم. وفي هذا تهديد كبير لو كانوا يعلمون.
ثم يذكّرهم بنعمة الله عليهم باعطائهم هذا الحرمَ الآمن يعيشون فيه بأمن وسلام، فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ؟}
لقد جعلهم الله تعالى في بلد آمن يعيشون فيه، يعظّمهم الناس من أجل بيت الله، ومن حولهم القبائل تقتتلُ وتتناحر، فلا يجدون الأمان الا في ظل البيتِ العظيم. وقد من الله عليهم بقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} .
ثم بين ان العقل كان يقضي بأن يشكروا هذه النِعم، لكنهم كفروا بها فقال:
{أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ؟} .
ولما وضحت الحُجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنَع - بين انهم قوم ظلمة مفترون مكذبون فقال:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} .
ليس هناك أحدٌ أشدَّ ظلماً ممن نَسَب الى الله ما لم يشرعه، او كذّب بالدين الحق. ان مثوى هؤلاء واشباههم جَهنمُ وبئس المصير.
ثم يختم السورةَ بصورة المؤمنين الّذين جاهدوا في الله، واحتملوا الأذى، وصبروا ولم ييأسوا، الذين اهتدوا بهدى الله وساروا على الصراط المستقيم فقال:
{والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} .
أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع ايمانهم، ولن ينسى جهادهم، وان الله لمعهم يعينهم ويؤيدهم بالنصر والتوفيق.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لْيكفروا ولْيتمتعوا، بسكون اللام. والباقون: لِيكفروا وليتمتعوا، بكسر اللام.(3/75)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
أدنى الأرض: بلاد الشام والعراق، لأنها أقرب البلاد الى مكة. من بعد غَلَبِهِم: من بعد ما غلبوا. في بضع سنين: البضع ما بين الثلاثة الى العشرة. ظاهر الحياة الدنيا: هو كل ما يشاهَد ويدرك بالحواس.
كانت الدولة الرومانية والدولة الفارسية أعظمَ دولِ العالم في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروبُ بينما دائمة. وفي عصر كسرى أبرويز نَشِطت الدولةُ الفارسية وانتصرتعلى الروم واستولت على جميع ممتلكاتهم في العراق وبلاد الشام ومصر وآسيا الصغرى. يومذاك تقلصت الامبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسُدّت عليها جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس، وعم القحط، وفشت الامراض الوبائية. وأخذ الفرس يستعدبون الرعايا الروم ويستبدّون بهم للقضاء على المسيحية، فدمروا الكنائس وأخذوا خشبة الصليب المقدس وأرسولها الى المدائن. وأراقوا دماء ما يقرب من مائة الف من السكان المسيحيين. وأوشكت الامراطورية الرومانية على الانهيار.
في هذه الفترة كان المسلمون في مكّةَ في أصعبش أيامهم وأشدّ مِحنتهم، وفي حالةٍ من الضعف والضَنْك لا يمكن تصوُّرها. وقد فرح المشركون بنصر الفُرس لأنهم وثنيون مثلهم، وحزِن المسلمون باندحار الروم لأنهم أهلُ كتاب. وقال المشركون شامتين: لقد غلب إخوانُنا إخوانكم، وكذلك سوف نقضي عليكم إذا لم تتركوا دينكم الجديد هذا.
{الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} .
يقول المؤرخ البريطاني «جيبون» في كتابه «تدهور الامبراطورية الرومانية وسقوطها» تعليقا على نبوءة القرآن هذه: «في ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذا لم تكن آية نبوءة ابعدَ منها وقوعا، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة هِرَقل كانت تؤذِن بانتهاء الامبراطورية الرومانية» ، المجلد الخامس صفحة 74.
«فلما سمع ابو بكر رضي الله عنهـ هذه الآيات خرج الى المشركين فقال لهم: أفرِحتم بظهور إخوانكم الفرس، فواللهِ لتظهرنَّ الرومُ على فارس كما أخبرنا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم. فقام اليه أُبيّ بن خلف فقال له: كذبتَ. فقال أبو بكر: أنت كذبتَ يا عدو الله. اجعل بيننا أجَلاً أراهنك على عشر قلائص منّي وعشرٍ منك، فان ظهرت الرومُ على فارس ربحتُ انا الرهان، وان ظهرت فارس ربحتَ أنت الرهان. ثم جاء الى النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبره، فقال الرسول الكريم: زايدْه في الرِهان ومادَّه في الأجلِ.
فخرج ابو بكر، فلقي أُبي بن خلف فقال له: لعلّك ندمتَ؟ فقال: لا. فقال أبو بكر: تعالى أزايدْك في الرهان، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال: قد فعلت. وقد قتل أُبي في معركة أُحُد. ولما ظهرت الرومُ على الفرس واستعادوا بلادهم وصدقت نبوءة القرآن، أخذ ابو بكر مائةَ ناقة من ورثةِ أُبيّ وتصدّق بهاز وهذا كان قبل تحريم الميسر»(3/76)
وهكذا صدقت نبوءةُ القرآن الكريم عن غلبة الروم في أقلَّ من عشر سنين، وفي هذا اكبرُ دليلس على ان القرآن كتابُ الله، وان هذه النبوءة جاءت من لدن مهيمنٍ على كل الوسائيل والأحوال، ومَن بيده قلوبُ الناس وأقدارُهم.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله}
فقد فرح المؤمنون بنصرهم في معركة بدر، وجاءتهم الأخبارُ في نفسِ التاريخ بنصرِ الروم على الفُرس، فكان ذلك فرحاً عظيماً بنصرهم على قريش، بوصدق نبوءةِ القرآن الكريم.
{ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ}
{وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}
ذلك النصرُ وعدٌ من الله للمؤمنين فلا بدّ من تحققه في واقع الحياة، فالله تعالى لا يُخلفُ وعده، ولكن اكثر الناس لا يعلمون، ولو بدا في الظاهر انهم يعرفون الكثير من امور الدنيا.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا}
ثم لا يتجاوزون هذا الظاهرَ ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه. وظاهرُ الحياة الدنيا محدودٌ صغير، مهام بدا للناس واسعاً شاملا. فما هذه الأرض بل هذا النظام الشمسي بأجمعه - الا ذرةً في هذا الكون الكبير الذي لا نعرف عنه شيئا. . . .
{وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ}
فالآخرة حياةٌ ثانية تختلف عن كل ما نرى وما نعلم، وهي صفحة من صفحات الوجود الكثيرة، وصاحبُ الحظ من تزوّد لها، وعمل لها الأعمال الصالحة، {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} .(3/77)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
أثاروا الأرض: حرثوها وأصلحوها. عمروها: بالبناء والعمران. السَّوأى: الحالة السيئة، وهي مؤنث الاسوأ. يُبلِسُ المجرمون. ييأس المجرمون. في روضة: الروضة هي الأرض ذات النبات والماء المعني في رضوان الله. يحبُرون: يسرون. محضَرون: مدخلون فيه.
لمّا أنكَرَ المشركون الإله، والبعث كما قال {وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} ، أردف هذا بأن الأدلة متظاهرةٌ ومحسوسة في الأنفس والآفاق على وجوده وتفرده بخلْقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سوا. وأن الأنفسَ لم تُخلق سدى ولا باطلا، بل بالحق، وأنها مؤجَّلة الى اجل محدودٍ هو يوم القيامة. ثم امرهم بالسير في اقطار الأرض ليعلموا حالَ المكذبين من الأمم قبلهم، وقد كاناو أشد منهم قوة، وزرعوا الأرض وعمروا البلاد اكثر من قريش - لكنّهم كذبّوا رسلهم فأهلكهم الله، ثم كانت نهايتُهم. فلتأخذ قريش عبرة من ذلك.
قراءات:
قرأ ابن عامر والكوفيون: ثم كان عاقبةَ بالنصب، والباقون: عاقبةُ بالضم.
{الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. . . . الآيات} .
يبين الله ان هناك حياةً ثانية فيها الحسابُ والجزاء، وان الله قادر على اعادة هذا الخلق يوم القيامة كما بدأ إنشاءه. ثم يبيّن ما يكون حين الرجوع إليه من إبلاس المجرمين ويأسِهم من الدفاع عن انفسهم، وان شركاءهم لا ينفعونهم ولا يستطيعون الدفاع عنهم، بل يكفرون بهم. يومئذٍ ينقسم الناس الى فريقين: فريقٍ في الجنة عند ربهم في عيشى راضية، وفريقٍ في السعير وبئس المصير.(3/78)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
تمسون: تدخلون في وقت المساء. تُصبحون: تدخلون في وقت الصباح. عشياً: من صلاة المغرب الى العتمة. وحين تُظهرون: تدخلون في وقت الظهيرة. من أنفسِكم: من جنسكم. لتسكنوا اليها: لتأنسوا بها وتطمئنوا اليها.
سبِّحوا اللهَ أيها الناس في وقت المساء، وفي الصباح، لتَجَلِّي عظمتِه في هذين الوقتين اكثر من كل وقت، واحمَدوه أثنوا عيه بما هو أهله في وقت الظهر وفي الليل. وتدل هذه الاوقات على اوقات الصلوات الخمس كام روي عن ابن عباس: (حين تُمسون) صلاة المغرب والعشاء، و (تصبِحون) صلاة الفجر، (وعشياً) صلاة العصر. (وحين تظهِرون) صلاة الظهر.
انه هو الذي يخلق الحيَّ من الجسم الميت، ويخلق الميتَ من الحيّ، ويحيي الأرضَ بالمطر بعد موتها، {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ومثلُ ما تقدَّمَ من إخراج الحيّ من الميت وإحياء الأرض بعد موتها كذلك يُخرجكم الله من قبوركم الى الحاسب والجزاء.
ومن آياته انه خلقكم من ترابٍ ميت لا حراك به، ثم إذا انتم بشرٌ أحياء تنتشرون في الأرض وتعملون. ومن آياته أنه خلق لكم من جنسِكم أزواجاً لتأنسوا بها، وجعل بينكم مودّة ورحمة. ومن آياته الكبرى خلثُ السموات والأرض من العدَم، على ما فيها من إبداع وجمال، وعَظَمةٍ وجلالٍ، واختلافُ ألسِنتكم والوانكم وما يتبع ذلك من تخالفكم في طبائعكم وعاداتكم. ومن آياته أنه هيّأ لكم أسبابَ الراحة بمنامكم، ويسّر لكم طلب الرزِق ليلاً ونهارا من فضله الواسع. ومن آياته انه يريكم البرقَ من خلال السحاب، تخويفاً من صواعقه، وطمعاً في المطر، وينزّل لكم من السماء ماء فيحيي به الأرضَ بعد يبسها.
كل هذه الآيات لقوم يتفكرون، ويسمعون ويعقلون ويعلمون، فالله تعالى ينير العقل والعلم والفكر للوصول الى الحق. أما الجاهلون الغافلون الجاحدون فإنهم من كل ذلك مبعَدون.
ومن الدلائل على كمال قدرته تعالى وسعة رحمته ان تقوم السماءُ بأمره على ما ترون بأعينكم من صَنعةٍ محكمة، وتدبير دقيق منتظم. ثم اذا دعاكم للبعث تخرجون من القبور مسرعين مستجيبين لدعائه.
قراءات:
قرأ حفص: للعالِمين بكسر اللام. والباقون: للعالَمين بفتح اللام.(3/79)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
قانتون: طائفون منقادون. المثل الأعلى: الوصف الارفع، الصفة العليا لا يشاركه فيها احد. مما ملكت أيمانكم: من العبيد.
ولله كلُّ من في السموات والارض من الأحياء والجمادات كلٌّ له خاضعٌ منقاد. وهو الذي يبدأ الخلق على غير مثال، ثم يعيده بعد الموت، والاعادةُ أهونُ عليه من البدء. وله الوصف الأرفع لا يشاركه احد فيه.
{وَهُوَ العزيز الحكيم} لا يغالَب ولا يغلَب، حكيم في تدبيره وتصريف شئونه فيما اراد.
لقد بين لكم الله مثلا منتزعا من أنفسكم: هل لكم من عبيدِكم شركاءَ في أموالكم فأنتم وهم سواء في التصرف فيها، تخافون منهم الاستبدادَ في التصرف فيها كما يخاف بعضكم بعضا؟ اذا كان أحدكم يأنف ان يساويه عبيدُه في التصرف بأمواله، فكيف تجعلون لله أنداداً من خلقه؟ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ثم بيّن الله ان المشركين إنما عبدوا غيره سَفَهاً من أنفسهم وجهلاً بغير علم فقال:
{بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله} ؟ لا أحد. . . .
{وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ليس لهم من يشفع لهم ويدفع عنهم عذابَهُ يومَ القيامة.(3/80)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
أقمْ وجهك للدين: أَقبل عليه وأخلص له. حنيفا: مائلا من الشر الى الخير، بعيدا عن الضلال. فطرةَ الله: خلقة الله. القيم: المستقيم. منيبين: راجعين اليه بالتوبة، واخلاص العمل. فرّقوا دينهم: اختلفوا فيما يعبدونه. شيعا: فرقا مختلفة.
وتوجّه يا محمد الى هذا الدين المستقيم، بعيداً عن العقائد الزائفة، فهو دينُ الفطرة التي خلق الله الناس عليها، وهي الاسلام.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}
لذا يحسبون ان الدِين أمرٌ معقّد يحتاج الى وسطاء بين الله وعباده ليفسروه لهم ويهدوهم اليه. أما هذا الدين فهو يصل الانسان بالله دون واسطة.
ولما كان الخطاب للرسول الكريم وأصحابه رجع الى صيغة الجمع فقال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: أقيموا وجوهكم للدّين تائبين الى الله، واتقوه، واقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين الذي اختلفوا في دينِهم وكانوا فِرقاً واحزبا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر: من الذين فارقوا، بالالف. والباقون: فرّقوا بتشديد الراء.(3/81)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
منيبين اليه: راجعين اليه بالتوبة. سلطانا: حجة وبرهانا. يَقدر: يضيق. ابن السبيل: المسافر الذي انقطع عن ماله وأهله. الربا: الزيادة. المضعِفون: الذين يضاعف الله لهم الأجر.
في هذه الآيات الكريمة صورةٌ للنفس البشرية وتقلُّب الأهواء في السّراء والضراء وعند قبْضِ الرزق وبسطِه. فبعد أن أرشد الله سبحانه الى التوحيد، وأقام الادلة عليه، وضرب المثل له - أعقبه هنا بذِكر حال للمشركين يُعرفون بها، وهي أنهم حين الشدة يتضرعون الى ربهم وينيبون اليه، فإذا خَلَصوا منها رجعوا الى كفرهم واوثانهم. لذلك خاطبهم الله بصورة الأمر مع التهديد بقوله: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
فليضِلّوا ما شاؤا، فان لهم يوماً يرجعون فيه إلى ربهم. . . . تمتّعوا كما تشاؤن، فسوف تعلمون عاقبتكم.
ثم انكر على المشركين ما اختلقوه من عبادةِ غيره بلا دليل فقال:
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ}
هل أنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الأوثانَ والأصنامَ كتاباً فيه تصديقٌ لما يقولون، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون!!
ثم ذكر حالَ طائفة من الناس دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتُهم الله رهنَ إصابتهم من الدنيا. . . فإن آتاهم ربهم منها رَضُوا وفرحوا، واذا مُنعِوا سَخِطوا وقنِطوا فقال:
{وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}
فلو انهم آمنوا ايمانا صادقاً لسلَّموا أمرهم الى الله واستراحوا. وفي الحديث الصحيح:
عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاءً الا كان خيراً له، فان أصابته سراء شكرَ فكان خيرا له، وان اصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
وهذا انكارٌ من الله على هؤلاء الناس لما يلحقهم من اليأس والقنوط. . . . ألم يشاهِدوا ويعلموا ان كل شيء بيدِ الله؛ يوسف الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء بحسب ما تقتضيه حكمته!!
{فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله وأولئك هُمُ المفلحون}
بعد ان بيّن الله تعالى انه هو الذي يرزق ويمنع - بيّن هنا الطريقَ الذي به تزداد أموالهم فيه وتربح، فاذا كان المال مالَ الله أعطاكم إياه، فأعطوا الأقرباءَ من الفقراء، والمساكين الذين لا يعملون، والغريبَ المسافرَ الذي نفد مالُه ولا يستطيع ان يرجع الى بلده. . . أعطوهم مما آتاكم الله، ذلك هو الخيرُ للذين يريدون رضا الله ويطلبون ثوابه، والفاعلون له هم الفائزون بالنعيم المقيم.
وقد جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» رواه البخاري ومسلم.
{وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} .(3/82)
وما أعطيتم من مال ليزيد وينمو في أموال الناس على طريق التسليف بفائدةٍ فانه رِبا حرّمه الله ولا يمكن ان يزيدَ لكم عند الله. أما ما أعطيتم من صدقاتٍ تبتغون بها وجه الله فهو الذي يضاعِف الله به حسناتكم أضعافا مضاعفة.
ولما بين الله انه لا زيادة الا فيما يزيده، ولا خير الا في الطريق المستقيم والبذل في سبيله - أكد ذلك بقوله:
{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} ؟
إنه الله، هوالذي خلقكم ثم أعطاكم الرزق الذي تعيشون به، ثم يقبض أرواحكم في هذه الدنيا، ثم يحييكم يوم القيامة، فهو الذي يستحق العبادة. . . . هل يستطيع احدٌ من الذين تبعدونهم ان يعمل لكم شيئاً مما ذكر؟ الجواب: لا. {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟
قراءات:
قرأ الكسائي وابو عمرو: يقنِطون بكسر النون، والباقون: بضمها. وقرأ ابن كثير: وما أتيتم بالهمزة دون مد، والباقون: وما آتيتم بالمد. وقرأ نافع ويعقوب: لتربو بالتاء. والباقون: ليربوا بالياء. وقرأ حمزة والكسائي: تُشركون بالتاء. والباقون: يُشركون.(3/83)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
الفساد: الخلل والاضطراب وإلحاق الضرر بالغير، والجدب والقحط والظلم والبغي. لعلّهم يرجعون: لعلهم يتوبون. لا مردّ له: لا يقدر احد ان يرده. يصّدّعون: يتصدعون، يتفرقون. يمهَدون: مهد الفراش: وطأهُ، ومهد لنفسه خيرا: هيأه.
يبّين الله تعالى هنا ان الفسادَ يظهر في الأرض متمثِّلاً بالظلم والبغي والبؤس والفقر والقلق والحيرة، وذلك بسبب ما كسَبت أيدي الناس من الذنوب، وتركِهم لأوامر الله، والبعدِ عن دينهم.
إذن فإن الفساد في العباد إنما كان نتيجةَ أفعالهم. من ثَم أرشدهم الله الى ان من كان قبلَهم ممّن كانت أفعالُهم كأفعالهم - قد أصابهم الله بعذاب من عنده، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم فقال:
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ}
قل يا ايها النبي للمشركين: سيروا في نواحي الأرض، فانظُروا كيف كانت نهايةُ الذين مضَوا قبلكم؟ لقد أهلكهم الله وخرّب ديارهم لأن اكثرهم كانوا مشركين مثلكم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}
اسلك ايها الرسول الطريقَ المستقيم الذي رسمه لك ربكن وهو الدين الكامل، منقبلِ ان يأتي يوم لا يستطيع احد ان يرده، هو يوم الحساب. يومئذ يتفرق الناس بحسب اعمالهم {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] .
ثم بين أن ما ناله كل منهم من الجزاء كان نتيجةً حتمية لعمله فقال:
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
إنهم يهيّئون لأنفسهم الخيرَ وهم في الجنة خالدون.
{لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين}
وهذا سيكون يوم القيامة، حيث يياقي كل انسانٍ ما عمله حاضراً.
قراءات:
قرأ ابن كثير ويعقوب: لنذيقهم بالنون. والباقون: ليذيقهم بالياء(3/84)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
فتثير: تحرك. فيبسطه: فينشره. كسفا: قطعا. الودق: المطر. من خلاله: من بينه من بين السحاب. لَمبلسين: لآيسين، مفردُها: مبلس، وهو المتحسر الآيس.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ. . . . الآية}
من الدلائل على قدرة الله ورحمته انه يبعث الرياحَ مبشّراتٍ بالمطر الذي يسقيكم ويروي زروعكم، ولتجري فيه السفن في البحار. كذلك تلطلبوا الرزق من فضل الله بالتجارة وغيرها، واستغلال ما في البر والبحر، ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى. {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} سورة ابراهيم 34.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ. . . . الآيات} .
ان الله تعالى يجمع في هذه الآيات بين ارسال الرياح مبشرات بالغيث والخير، وارسال الرسل الكرام بالحجج والبينات مبشرين ومنذرين، ونصرِ المؤمنين بالرسل، وانزال المطر الذي يحيي الارض، واحياء الموتى بعثهم، (وهذا كله من رحمة الله بالعباد. وكلها تتبع سُنة الله) . وبين نظام هذا الكون البديع، ورسالات الرسل بالهدى، ونصر المؤمنين - صلةٌ وثيقة، وكلها من آيات الله، ومن نعمته ورحمته، وبها تتعلق حياتهم، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون البديع.
فالله سبحانه يحمي عباده المؤمنين، وينتقم من المجرمين، ويتعهد بنصر المؤمنين، ولكن اين المؤمنون؟
لو أن المؤمنين حضروا فكرة وجهادا، وتعاونوا تعاونا وثيقا كالجسد الواحد على هدف واحد لنصرهم الله كما وعد هنا، ووعدُه الحق.
{الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً. . . .}
ان الله تعالى يرسل الريح فتحرك السحاب فينشره الله في السماء، حتى اذا تكاثف وبرد الجو انزل الله المطر في المكان الذي يريده من الأرض، فيبشر الناس بالخصب بعد ان يكونوا يائسين قبل نزول المطر. وبالمطر يحيي الله الأرض بعد موتها، وكذلك سيحيي الموتى يوم القيامة {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} .
ولئن ارسلنا ريحا عاصفة مضرة بالنبات فرأوا زرعهم مصفرا جافا، لظلوا من بعده يكفرون بالله وبرحمته، وكان الأجدر بهم ان يصبروا ويسألاو الله من فضله فانه رحيم بعباده.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: ومن آياته يرسل الريحَ: بالافراد، والباقون: الرياح بالجمع. وقرأ ابن عامر: ويجعله كِسْلإا بسكون السين. الباقون: كِسَفا بفتحها. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: فانظر الى آثار، بالجمع. والباقون: الى أثرِ، بالافراد.(3/85)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى. . .} مر في سورة النمل في الآية 80 و 81 بالنص.
فالله تعالى هنا بعد تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله وحججه، يتوجه بالخطاب الى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام يسلّيه عن إعراض المشركين من قومه وانهم كالموتى والصم لا يسمعون، ولا يهتدون، ولا يرجعون عن ضلالهم، وانما الذي يسمع ويستجيب من يؤمن بآيات الله. اولئك هم المسلمون الصادقون، المطيعون لأوامر الله ورسوله
{الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير}
والله تعالى خلق الأنفس في اطوارها المختلفة من ضعف الى قوة ثم يتغير حالها من قوة في حال الشباب الى ضعف، ثم الى الشيخوخة وهرم وشيبه، انه يخلق ما يشاء وهو العلم بتدبير خلقه، القدير على ايجاد ما يشاء، وفي هذا اكبر الأدلة على قدرته تعالى.
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ}
ويوم تقوم القيامة ويبعث الله من في القبور، يحلف المجرمون انهم ما لبثوا في قبورهم أو في الدنيا غير ساعة من الزمن، والواقع انهم لبثوا عمراً مديدا. كذلك كانوا يُصرفَفون عن الحقّ في الدنيا فلا يرون الشيء على حقيقته.
ثم بين ما يقوله المؤمنون لهم ويتهكمون عليه فقال:
{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .
وقال الذين أتاهم الله العلم والايمان. لقد لبثتم في حُكم الله وقضائه في قبوركم من يومِ مماتكم الى يوم القيامة، فإن كنتم تنكرونه فهذا هو يومُ البعث الذي انكرتموه، ولكنكم كنتم في الدنيا لا تعلمون انه حق.
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
ان يوم القيامة لا ينفع فيه عذر ولا تُقبل شكوى، ولا يُسترضون ولا يعاتَبون بل يذهبون الى جهنم وبئس المصير. {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} [فصلت: 24] ، فلا عذر ولا إقالة.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} .
ولقد بينالهداية الناس في هذا القرآن كل مثل يرشدهم الى طريق الهدى، ولكنهم أعرضوا وكذبوا. ولئن جئتهم يا محمد بالآيات المعجزة الواضحة - ليقولنّ الذين كفروا ما أنت واتباعك الا مبطلون في دعواكم. كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم من العبر والعظات، والآيات البينات.
ثم ختم السورة بأمر الرسول الكريم بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفاتِ الى عنادهم حتى يأتي وعدُ الله فقال:
{فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ}
اصبر ايها النبي على أذاهم، انّ وعد الله بنصرك واظهار الاسلام على كل دين وعدٌ حق لا يتخلق ابدا. (والصبر وسيلة المؤمنين في جهادهم ودعوتهم الى الله) ، ولا يحملنّك الذين لا يؤمنون على القلق والخفة وعدم الصبر. وفي هذا ارشاد للنبيّ عليه الصلاة والسلام ولنا وتعليمٌ بان نتلقى المكاره بصدر رحب وسعة حلم. . والله ولي الصابرين والحمد الله رب العالمين.(3/86)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
لهو الحديث: كل ما يصد عن ذكر الله والحق. سبيل الله: دينه. هُزُوا: سخرية. وقْرا: صمما يمنعهم عن السماع. الرواسي: الجبال. تَميد: تضطرب. بثّ: فرّقز زوج كريم: صنف حسن.
{الم}
تقدم اكثر من مرة ان هذه الحروف قد ابتدأ الله بها بعض السور، ليشير الى إعجاز القرآن.
{تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم. . . .}
هذه آيات القرآن الكريم، أنزلناها هدى ورحمة للذين يحسِنون فيما يقولون ويفعلون. والذين يقيمون الصلاةَ على أحسن وجه، وفي وقتها، ويتقنونها، ويعطون الزكاةَ الى مستحقيها، ويؤمنون إيماناً جازما بالآخرة والبعث والجزاء. . .
هؤلاء هم المحسنون الذين يكون الكتابُ لهم هدى ورحمة، وأولئك هم الفائزون.
قراءت:
قرأ حمزة وحفص: هدىً ورحمةً بالنصب، والباقون: بالرفع.
{وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث. . . .}
ومن الناس من يشتري بماله الأحاديث الملهية، وكتبَ الاساطير والخرافات ليصدّ بها الناس عن سبيل الله بغير علم، {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
روي ان النضر بن الحارث من بني عبد الدار (صاحبَ لواء المشركين ببدر وأحَد شياطين قريش) - كان يجلس لقريش ويحدّثهم بأخبار ملوكِ الفرس وخرافاتهم، ويقولك انا احسنُ من محمد حديثاً، انما يأتيكم بأساطير الأولين.
وقد أسِر يوم بَدرٍ وقتل بمكان يقال له «الأثيل» . فكان النضر وامثاله كما يقول تعالى:
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
قراءات: قرأ ابن كثير وابو عمرو: ليَضِل عن سبيله بفتح الياء. والباقون: بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص: ويتخذَها بنصب الذال. الباقون: بالرفع.
وبعد ان ذكر الكتابُ حالض الكافرين المعرِضين عن آيات الله، تحدّث هنا عن حال المؤمنين العالمين وما ينتظرهم من جزاء فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ الله حَقّاً وَهُوَ العزيز الحكيم} .
ونلاحظ ان الرآن عندما يذكر المؤمنين يصفهم (بالعاملين، الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وهذا يُفهمنا أن الإيمان وحدَه لا يكفي. وقد جزم الله بوعده وأوجبه على نفسه وهو الغني عن الجميع، تفضّلاً منه وكرمه.
{خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا. . . .}
يتحدث الله هنا عن القدرة العظيمة وحكمته، ودليلُ ذلك هذا الكونُ الهائل بجميع ما نرى من سمات بغير عمد، وبجالٍ تحفظ توازن الأرض، وهذه الانواع التي لا تُحصى من المخلوقات المبثوثة في هذه الأرض، وإنزالِ الماء الذي يُحيي الأرضَ فتُنْبتُ من كل زوج كريم، بنظام دقيق متكامل، متناسق التكوين، ثم يقول بعد ذلك كله:
{هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} .
هذا الكون الكبير الهائل وما فيه من نظام هو من خلْق الله، أروني ماذا خلق الذين تعبدونهم من دونه {بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .(3/87)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
لقمان: عرف العرب بهذا الاسم شخصين احدهما لقمان بن عاد وكانوا يعظّمون قدره في النباهة والرياسة والدهاء.
واما الآخر فهو لقمان الحكيم الذي اشتهر بحكَمه وامثاله. وهو المقصود هنا، وسُميت السورة باسمه، وقد كانت حِكمه شائعة بين العرب. ويقول بعض المفسرين إنه نبي، وآخرون يقولون انه حكيم آتاه الله الحكمة والعقل والفطنة. وأورد الامام مالك كثير من حِكمه في كتابه «الموطأ» ، ويقال انه كان اسود من سوداء مصر او من الحبشة او النوبة.
الحكمة: العلم مع العمل، وكل كلام وافق الحقَّ فهو حكمة. وقيل الحكمة: هي الكلام المعقول المصون عن الحشو، وقال ابن عباس الحكمة: تعلُّم الحلالِ والحرام. وقال الراغب: الحكمة: معرفة الموجودات وفعل الخيرات. وقال الرسول الكريم: «ان من الشعر لحكمة» يعني كلاما صادقا. وقال تعالى {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} الخ. . . .
يعظه: يذكّره بالخير وعمله. الوهن: الضعف. الفصال: الفطام. جاهداك: بذلا جهدهما لتكفر معهما. أناب: رجع. مثقال: وزن. مثقال حبة من خردل: شيء صغير جدا. لطيف: يصل علمه الى كل شيء خفي. خبير: عليم بكنْه الاشياء وحقائقها. من عزْم الأمور، العزم: عقدُ القلب على إمضاء الأمر، من عزم الامور: من الأمور المؤكدة. لا تصعّر خدك: لا تتكبر، وغالبا ما يمشي المتكبر وهو مائل الوجه مبديا صفحة وجهه عنهم. ولا تمشِ في الأرض مرحا: مختلا بطِرا. مختال فخور: يمشي الخيلاء ويفخر على الناس ويتباهى بماله وجاهه. والقصِد في مشيك: توسط واقصد في مشيك. واغضض من صوتك: اخفض منه ولا ترفعه. أَنكرُ الاصوات: اقبحها.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَنِ اشكر للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
لقد منحْنا لقمانَ الحكم والعلم والاصابة في القول، وقلنا له اشكرِ الله، ومن يشكر فان فائدةَ ذلك الشكر عائدةٌ اليه، ومن جَحَدَ نعمةَ الله فإنه غنيّ عن شكره غير محتاد اليه، محمود في ذاته.
واذكر ايها الرسول الكريم لَمّا قال لقمانُ لابنه وهو يعظه ويذكّره: يا بنّي لا تشركْ بالله أحدا، إن الشِركَ ظلمٌ عظيم لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه.
ثم بعد ان ذكر الشِرك وما فيه من شفاعة أتبعه بوصية الولد بوالديه، لكونهما السببَ في ايجاده فقال:
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ. . . .}
أمرناه ببرّهما وطاعتهما، والقيام بحقوقهما لأنها تعبا في تربيته. . . . لقد حملته أمه في بطنها، وما زالت تضعف كلما مرت الأيام ضعفاًعلى ضعف حتى وضعتْه، ثم أرضعتْه عامين وفطمته، وكل ذلك ببذل جهود عظيمة، فاشكر لي ايها الانسان ولوالديك وأحسنْ إليهما فإليَّ الرجوع لا الى غيري.
{وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً}
ما أحلى هذا الكلام! فإن كانا كافرين، وحاولا ان تكفر أنت بالله فلا تطعمها، ومع ذلك يجب عليك ان تبقى باراً بهما، تصاحبهما بالمعروف والاحسان والعطف.(3/88)
اما من جهة الدين:
{واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
إن عليك ان تتبع طريقَ الهدى، وطريق من تاب الى الله، ومصيركم جميعاً اليّ بعد مماتكم فأخبركم بما كنتم تعلمون في الدنيا من خير او شر.
ثم عاد الى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه فقال:
{يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} .
يا بنِيّ، ان الله لا يَفلِتُ من حسابه شيء، إن الخصلةَ من الإحسان أو الاساءة إن تكن وزنَ حبة خردلٍ تائهة في وسط صخرة او في السموات او في الأرض - يأتِ بها الله ويُحضرها يوم القيامة حين يضع الموازينَ بالقسط. ان الله لطيف يصل علمه الى كل خفي، خبير يعلم ظواهر الأمور وبواطنها.
{يابني أَقِمِ الصلاة. . . .}
يا بني حافظْ على الصلاة، وأَمر بكل حَسَن، وانهَ عن كل قبيح، واحتملْ ما أصابك من الشدائد، فان المحافظة على الصلاة والصبرَ على الشدائد من عزم الامور. . . . بدأ هذه الوصيةَ بالصلاة وختمها بملازمة الصبر لأنهما من أعظمِ ما يستعان بهما كما قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} البقرة: 45 و 153.
وبعد ان أمره بعمل اشياء خيرة، حذّره من أمور غير مستحسنَة وأدّبه خير تأديب فقال:
{وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ واقصد فِي مَشْيِكَ واغضض مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} .
إنها حِكم تُكتب بماء الذهب. . . . لا تتكبر وتُعرِضْ بوجهك عن الناس، ان الله لا يحب المتكبرين. وامشِ بهدوء، وتوسَّط في مشيك بين السرعة والبطء، ولا ترفع صوتك لأن اقبح ما يُستنكر من الأصوات هو صوت الحمير.(3/89)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
أسبغ: أتم، وسع. السعير: النار المتأججة. يُسْلم وجهه: يفوض أمره ويخلِص. محسن: مطيع لله. العروة الوثقى: اوثق الاسباب وامتنها. والعروة في اللغة مقبض الكوز، والدلو. الوثقى: المتينة الشديدة. بذاتِ الصدور: القلوب وما يهجس فيها. نضطرهم: نُلزمهم. غليظ: شديد ثقيل.
ألم تروا ان الله سخرّ لكم جميع ما في السموات والأرض، ووسّع عليكم نعمه وأتمّها على أحسن ما يكون، ومع ذلك ففي الناس من يجادل في توحيد الله ووجوده بغير علمٍ يستند إليه ولا هدى، ولا كتاب يستأنس به.
قراءات:
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر: ولا تصغَّر بتشديد العين. والباقون: ولا تصاعر بألف من: صاعر يصاعر. وقرأ نافع: مثقالُ حبة برفع مثقال. والباقون: بالفتح. وقرأ نافع وابن كثير وابو عمرو وحفص «نِعَمَه» بالجمع والباقون نعمةً بالافراد.
واذا قيل لهؤلاء المجادِلين الجاحدين: اتّبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع، لم يجدوا ردّاً لذلك الا قولهم {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} .
ثم وبّخهم الله على تلك المقالة فقال:
{أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير!} .
اما كان لهم عقلٌ يفكرون به ويتدبرون حتى يعلموا الحقَّ من الباطل!! يفضّلون اتّباع الشيطان الذي يقودهم الى النار!
ومن أخلصَ لله وهو محسن في جميع ما يقول ويعمل فقد تسمَّكَ من حَبْلِ الله بأوثقِ عراه {وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور} اليه المصير والمراجع.
ثم سلّى رسول الله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال:
{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}
ومن كفر يا محمد فلا تحزن عليه، إلينا مصيرهم فنخبرهم بما عملوا، إن الله يعلم ما يدور في صدورهم فضلاً عن علمه بظاهرهم.
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ}
نحنُ نمتّع الكافرين في هذه الدنيا مدةً قصيرة ثم نوردهم جهنم ليذوقوا العذاب الشديد.
ومن أعجبِ الأمور أنك ايها الرسول ان سألتَهم من خَلَقَ السمواتِ والأرض - ليقولُنّ خَلَقَها الله، فقل الحمد لله على إلزامهم الحجة، بل اكثرُ المشركين لا يعلمون، وهم في جهلهم يعمهون.
{لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} .
لله ما في السموات والأرض، فلا يصحّ ان يُعبد فيهما غيره، وهو الغني عن الناس المستحق للحمد.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ. . . .}
يبين الله تعالى ان نِعم الله وهذه المخلوقات لا حصر لها، ولا يعلمها الا خالقها، وان حكم الله وآياته وكلماته لا تنفد ولا تُحصر ولا تعدّ كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [ابراهيم: 34] .
لو تحولت كل اشجار الأرض اقلاما، وصارت مياه البحار الكثيرة مداداً تُكتب به كلماتُ الله - لَفَنِيت الاقلامُونفد المداد قبل ان تنفد كلمات الله.
قراءات:
قرأ ابو عمرو ويعقوب: والبحرَ يمده بنصب البحر، والباقون: والبحرُ بالرفع.
ثم بين ان كل هذه الأمور هينة عليه سهلة لا تكلفه شيئا فقال:
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
ما خلقكم ايها الناس من العدم، ولا بعثكم من قبوركم، في قدرة الله، الا كخلْق نفس واحدة وبعثها، انه سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم فيجازيهم عليها.(3/90)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يولج: يُدخل، والمعنى: يضيف الليل الى النهار والعكس بالعكس. تجري: تسير سيرا سريعا. بنعمة الله: بما تحمله من خيرات للناس. غشيَهم: غطاهم. كالظلل: ما يظلل الناسَ من سحاب، يعني ان الموج يرتفع حتى يغطي السفينة. فمنهم مقتصد: سالك للطريق المستقيم. ختّار: غدار.
نحن نرى دائماً تقلُّب الليل وتناقصَهما وزيادتهما عند اختلاف الفصول، لذلك ألِفْنا هذه الآيات، مع أنها حقاً من المعجزات، فهذا الكون وما فيه من آيات عجيبة واسعة تحير الألباب، واللهُ وحده القادرُ على انشاء هذا النظام الدقيق العجيب وحفظه. وكل ما نرى في هذا الكون متحرك {يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ووقتٍ معلوم.
ثم يعقّب الله على ما تقدم بأنه الحق، وان كل ما يدعونه من دونه الباطل {هُوَ العلي الكبير} سبحانه وتعالى عما يصفون.
وبعد ان ذكر الآيات العلوية الدالة على واحدانيته أشار الى آيةٍ أرضية فقال:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
ألم تشاهد ايها الرسول تلك السفن تمخر عباب البحر بنعم الله المحملة عليها للناس ليريكم من آياته ولدلائله، ان في ذلك لآيات لكل من راض نفسه على الصبر على المشاق، طلباً للنظر في نفسه وفي الآفاق، وعوّدها الشكر لمانح النعيم ومسديها لنا سبحانه وتعالى.
ولكن الناس لا يصبرون، ولا يشكرون، فان اصابهم الضر جأروا وصاحوا واستجاروا، وعندما ينجيهم الله من الضر لا يشكر منهم الا القليل.
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} .
وهذه طبيعة البشر عندما يحيط بهم الخطر يخلصون لله ويؤمنون، واذا نجوا فمنهم من يشكر وهم القليل، والكثير جاحد غدار كفور. وهذا المعنى جاء في سورة يونس الآيتان 22 و 23.(3/91)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
اتقوا ربكم: خافوا عقابه. لا يجزي: لا يغني ولا ينفع. الغرور: بفتْح الغَين، ما غرَّ الانسان من مال وجاه وشهوة وشيطان. الساعة: يوم القيامة. الغيث: المطر. ما في الارحام: ما في بطون الحبالى من مواليد.
يختم الله هذه السورة الكريمة بآيتين عظيمتين، الأولى فيها يذكّر الناسَ بالتقوى والعمل الصالح، وان هناك هولاً أكبر من هول البحر، وذلك هو يوم القيامة بحيث لا ينفع والد ولدَه، ولا ولد ولاده.
والثانية قوله تعالى {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فقرر أن ثلاثة من هذه الخمسة لا يعلمها الا هو، وهي وقت قيام الساعة وعدم علمِ أي انسان ماذا يكسب غداً، ولا في أي ارضٍ يموت.
وقال: {وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} فلم يحصر هذين الأمرين بعلمه. وذلك لسابق علمه أن الانسان بإعمال عقله يمكنه ان يكتشف اموراً كثيرة. وقد استطاع الانسان باستعمال عقله والعلم وتوفيق الله ان ينزل المطر في بعض المناطق وان كل على نطاق ضيق، ونفقات عالية.
وساتطاع بوساطة الآلات الحديثة ان يعلم نوع الجنين في الأرحام ولا يزال يجهل كثيراً من الأمور. {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً. . . .} [الاسراء: 85]
وهكذا تختم هذه السورة بهذا الستار المسدول والعلم العجيب. فتبارك الله خالق القلوب ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للعالمين.(3/92)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
افتراه: اختلقه. استوى على العرش: استولى عليه. يعرج اليه: يصعد اليه والعروج هو الصعود، ومنه المعراج. ماءٍ مهين: ماء ضعيف، لا يُرى الا بالمكبرات.
الم: تقرأ هكذا الف، لام، ميم. وقد مر الكلام عليها ومثيلاتها.
{تَنزِيلُ الكتاب. . .}
ان هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شكّ انه من عند الله. ويقولون: اختلقه محمد ونسبه الى الله. كلا، انه هو الحق ولاصدق من عند ربك أنزله اليك أيها الرسول لتنذرَ قومك، حيث لم يأتهم نذير من قبلك، ولعلّهم بهذا الانذار يهتدون الى الحق.
{الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش}
الله هو الخالق لهذا الكون الواسع في ستة أيام، لكنها لا تشابه أيامنا ولا تقاس بها، لانه يجوز ان يكون اليوم بليون سنة او اكثر، فأيامنا محدودة، وايام الله غير محدودة. ثم انه استوى على العرش استواء يليق به.
{مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} ليس لكم ايها الناس ما يلي امروكم ويدبرها غيره، وليس لكم شفيع غيره. ثم أمَرنا بالتذكّر والتدبير فقال: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} ؟
{يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}
ان الله يدبر شئونَ الخلق وأمرَ الأرض من سماء جلاله من يومِ وجودها الى ساعة تلاشيها، ثم يصعد اليه الأمرُ كله ليحكم فيه في يوم مقداره الفُ سنة مما تعدّون، ذلك هو يوم القيامة. والمراد بالالف هو الزمن المتطاول، وليس المقصود وحقيقةَ العدد، كما قدّمت. فيجوز ان يكون ذلك اليوم اطول بكثير مما ذكر.
{ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم. . .}
ذلك الموصوف بالخلْق والاستواء والتدبير هو الله عالِم ما غاب عنا من الأمور، وما نشاهده، القويُّ اقادر على ما يريد، الرحيم في إرادته وتدبيره للخلق، الذي أجاد كل شيء خَلَقَه، وأحكمه، وبدأ تكوين الانسان من الطين، ثم جعل ذريته تخرج من نطفة ضعيفة فيها مخلوقاتٌ لا تُرى بالعين المجردة، فيسوّيه بقدْرته وينفخ فيه من روح. ثم تنمو الحيوانات بعد ذلك وتتحرك.
ثم التفت بالخطاب الى الناس فقال:
{وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}
انها نِعم عظيمة. . لقد اعطاكم السمع، وجهازُ السمع كما يقول الاطباء جهاز دقيق أهم من اي جهاز في الجسم. . ثم اعطاكم البصر لتبصروا. .، والأفئدة لتميزوا وتفهموا وتعقِلوا، ولكنّكم مقابل هذا كله لا تشكرونه الا قليلا على هذا الفيض من الفضل الجزيل. اللهم الجعلنا من لاشاكرين لفضلك وكرمك يا رب العالمين.
تقدم في سورة المؤمنون آية 78 {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} وهنا: وجعل لكم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: احسن كل شيء خلْقه باسكان اللام، والباقون: بفتحها كما هو في المصحف.(3/93)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
ضللنا في الأرض: معناه هنا غبنا فيها. ناكسوا رؤوسِهم: مطأطئو رؤوسهم، خافضوها من الذل. إنا نسيناكم: أهملناكم.
بعد ان بيّن الله فائدة رسالة النبي الكريم، والخلقَ، ووحدانيته تعالى، وتدبيره لهذا الكون - ذكر هنا اعتراضَ المشركين وعدم إيمانهم بالبعث، وقولهم أإذا متنا وتحلّلت اجسادُنا فصارت ترابا وغبنا في هذه الأرض أسنُخلق من جديد!؟ ان هؤلاء المشركين ينكرون كل شيء فهم بلقاء ربهم يجحدون.
وبعد ذلك يردّ الله عليه ويوبّخهم.
قل لهم ايها الرسول: يتوفاكم ملكُ الموت الموكل بقبض أرواحكم ثم الى الله وحده ترجعون. ولو أُتيح لك يا محد ان ترى المجرمين في موقف الحساب يوم القيامة لرأيتَ عَجَبا، فان هؤلاء المكذّبين يكونون بحال سيئة، رؤوسُهم منكّسة الى الأرض خِزياً من ربهم، يقولون في ذلة: ربنا أبصَرْنا الآن ما كنا نتعامى عنه، وسمعنا ما كنا نُصم آذاننا عنه، فارجِعنا الى الدنيا لنعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل. لقد آمنّا الآن. . لكنه يكون فات الأوان.
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. . . .}
ولو شئتُ لهديتُ كل نفس، ولكن ثبت منّي القول، لحكمةٍ أعلمها؛ بأن أملأ جهنم من الجنّ والانس معا، ونقول لهم: ذوقوا العذاب بسبب غفلتكم عن لقاء يومك هذا، وقد اهملناكم وتركناكم في العذاب كالمنيسيّين، فذوقوا العذاب الخالدَ بما كنتم تعلمون.
فيا ايها العاقلون اعتبِروا بمصير أولئك المجرمين، واعملوا صالحاً قبل لان تندموا يومَ ذلك الموقف الرهيب.(3/94)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
ذُكّروا بها: وعظوا بها. خرّوا: سقطوا ساجدين. تتجافى: تبتعد. جنوبهم: جوانب اجسامهم. المضاجع: فرش النوم. أُخفي لهم: خُبِّىءَ لهم. من قرة أعين: من الأشياء النفيسة التي تفرح بها الأنفس والاعين. المأوى: المسكن الذي نأوي اليه. نزلا بما كانوا يعملون: ضيافة منا لهم على اعمالهم الصالحة. الأدنى: عذاب الدنيا. الاكبر: عذاب الآخرة.
بعد ان صوّر حالَ المجرمين يوم القيامة، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين - أتى بالصورة المقابلة، صورة المؤمنين الذين يسبّحون بحمد ربهم ويسجدون له عند ذكر آياته، فهؤلاء لهم عنده الجزاء العظيم. وعند قوله تعالى {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} موضع سجدة.
ان الذين يؤمنون بآيات الله يَقَعون ساجدين حين يُوعَظون بها، ويسبّحون الله ويحمدونه في سجودهم. وهم يقومون لله في الليل متهجّدين مبتعدين عن مكان نومهم يدعون الله خوفاً من عذابه، وطمعاً في ثوابه. كما ينفق مما رزقهم الله من الأموال في وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم.
قالنس بن مالك رضي الله عنهـ: نزلتْ فينا معاشرَ الأنصار، كنا نصلي المغرب، فلا نرجع الى رحالنا حتى نصلّي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى عام يعم جميع المؤمنين في كل زمان ومكان.
ولذلك يقول الله تعالى:
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
فلا تعلم نفس مقدار ما أعدّه الله وأخفاه لهؤلاء المؤمنين من النعيم المقيم الذي تقر هـ أعينهم، جزاء بما كانوا يعملون. وانه لجزاء عظيم، واكرام آلهيّ، وحفاوة ربانية بهذه النفوس المؤمنة.
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً؟ لاَّ يَسْتَوُونَ. . . . .}
يبين الله تعالى في هذه الآيات مبدأ الجزاءِ العادل، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا والآخرة على أساس العدل.
كيف يستوي الناس في مجازاتهم وقد اختلفوا في أعمالهم!! لا يستوي المؤمن المصدق بالله مع الكافر الجاحد العاصي. كما قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} سورة ص 28.
ام الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى التي فيها مساكنهم، ضيافةً منا لهم جزاء أعمالهم الصالحة.
واما الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله فمقامهم في النار، كلما حاولوا الخروجَ منها أُعيدوا فيها، ثم يقال لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم تكذّبون به في الدنيا.
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
ان الله تعالى لا يحب ان يعذب عباده اذا لم يستحقوا العذاب، وهو يقسِم هنا بأنه سوف يعذّبهم في الدنيا لعلهم يتوبون وتستيقظ فطرتهم، أما اذا أصرّوا على الكفر والعناد فإن العذاب الاكبر ينتظرهم يوم القيامة.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ}
ليس هناك من هو أظلمُ ممن ذكّروا بآيات ربهم وحُججه البينات ثم انصرفوا عنها ولم يؤمنوا بها، وهؤلاء ينالون اشد العذاب ويستحقون الانتقام من العزيز الجبار.
قراءات:
قرأ حمزة ويعقوب: ما اخفي لهم باسكان الياء والباقون: اخفيَ بفتحها.(3/95)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
في مرية: في شك. يهدون بأمرنا: يقومون بهداية الناس كما امرنا. اولم يهدِ لهم: او لم يتبين لهم. الارض الجُرُزِ: الارض اليابسة لا نبات فيها. متى هذا الفتح: متى هذا الفصل في الحكم وهو يوم القيامة.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ}
ولقد أنزلنا التوراةَ على موسى كما أنزلنا عليك القرآن، فلا تكن في شكٍّ من لقائك الكتاب، وجعلنا الكتاب الذي أنزلناه على موسى مرشِدا لنبي اسرائيل.
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}
وجعلنا من بني اسرائيل أئمةً في الدّين من انبيائهِم يقومون بهداية الناس كما أمرناهم لأنهم صبروا على طاعتنا، وكانوا من أهْل الايمان واليقين. ولكن عهد هؤلاء الأنبياء قد ولىّ، وعاد اليهود الى عبادة العجل من الذهب.
قراءات:
قرأ حمزة واكسائي ورويس: لِمَا صبروا بكسر اللام وتخفيف الميم. والباقون: بفتح اللام وتشديد الميم لَمَّا صبروا.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
ان الله تعالى يقضي بين خلقه يوم القيامة فيما اختلفوا فيه.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ}
أوَلم تبيّن لهم طريقَ الحق كثرةُ ما اهلكنا من الأمم الماضية، وهم يمشون في ارضهم ويشاهدون آثارهم كعادٍ وثمود وقوم لوط، ان في ذلك لعظاتٍ تبصرّهم بالحق، أفلا يسمعون؟
وبعد ان بين قدرته على الاهلاك، يبين الله تعالى قدرته على الاحياء فيقول: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} .
الم يشاهد هؤلاء الجاحدون أنّا ننزل الماء على الأرض اليابسة التي لا نبات فيها فنخرج به زرعاً تأكل منه انعامهم، وتتغذّى به أجسامهم؟! أفلا يبصرون دلائل قدرة الله على إحياء الارض بعد موتها!!
ثم يذكر الله تعالى استعجالَ اولئك الجاحدين بالعذاب الذي يوعَدون وأنهم في شك منه، ويردّ عليهم مخوِّفاً ومحذّرا من تحقيق ما يستعجلون به فيقول:
{وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ؟ قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} .
ويقول المشركون: متى ستنصَرون علينا في الدنيا، ويفصل بيننا وبينكم في الآخرة؟ قل لهم ايها الرسول: إن يومَ الفصل ان كان في الدنيا وفي الآخرة سيأتي، فلا تستعجلوه، واذا حل بكم ذلك اليوم فإنه لن ينفعكم الإيمان، ولا تُمهَلون لحظة عن العذاب الذي تستحقونه. وقد صدق الله رسولَه ففتح عليه في الدنيا ونصره. وسيلقون يوم القيامة جزاءهم.
ثم يختم السورة بامر رسوله بالاعراض عنهم، بآية قصيرة في طياتها تهديد خفي بعاقبة الامور ويدعهم لمصيرهم المحتوم فيقول: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} وسترى عاقبة صبرك عليهم.(3/96)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
اتق الله: اعمل صالحا وأطع الله. وتوكل على الله: اعمل وفوض أمورك اليه. وكيلا: حافظا.
في هذه الآيات الكريمة توجيهٌ للنبيّ الكريم ان يستمر على تقواه حتى يكونَ قُدوةً للمؤمنين، وان لا يُخدع بالكافرين والمنافقين بل يظل حذِرا منهم ومن مكايدهم، وأن يعملَ بما يوحيه الله إليه ومن ثم يتوكّل على الله ويفوّض جميع أموره اليه، {وكفى بالله وَكِيلاً} يحفظُه ويحرسه ويمنع عنه كلَّ شرّ، وقد فَعل.
قراءات:
قرأ ابوعمرو: بما يعملون خبيرا، والباقون: بما تعملون بالتاء.(3/97)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
تظاهِرون: تقولون للمرأة: انتِ عليَّ كظهر أمي، وكانت عادةً في الجاهلية، اذا قال الرجل لزوجته هذا القول حرُمت عليه ابداً. فجاء الاسلام وأبطل هذه العادة وجعل الحرمة مؤقتة وعليها غرامة. الادعياء مفردها دعي: هو الذي يتبناه الانسان. وكان ذلك معمولا به في الجاهلية وصدرِ الاسلام ثم حَرُم بهذه الآيات. السبيل: طريق الحق. أسط: اعدل. مواليكم: أولياؤكم. المولى له عدة معان: المولى الربّ، والمالك، والولي المحب، والصاحب، والجار، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق والعبد. . . .
{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} حتى يطيعَ بأحدِهما ويعصي بالآخرة، وكان العرب في الجاهلية يقولون: للرجل الذكيّ قَلْبان، وهذه خرافة.
وما جعل زوجةَ أحدِكم حين يقول لها: أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، أمّاً له حقيقة، فأبطِلوا، وعلى من تفوّه بها كفّارة.
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ. . . .} حرم الإسلام ان يتخذ الانسانُ ولداً او بنتا ويقول هذا ابني، أرِثه ويرثني، وأمرنا ان ندعوهم لآبائهم، فاذا لم نعلم آباءهم فانهم إخواننا في الدّين وموالينا واحبابنا.
ويرفع الله عنا الحرج بما أخطأنا به: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} ويحذّرنا من ان نتعمد الأعمالَ الممنوعة، ومع هذا فانه غفور رحيم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع: اللاءِ بهمزة مكسورة بدون ياء. والباقون: اللائي بهمزة بعدها ياء.
وقرأ نافع وابن كثير وابو عمرو: تَظَّهَّرون، بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء المفتوحتين. وقرأ ابن عامر: تظّاهرون، بفتح التاء وتشديد الظاء بعدها الف. وقرأ عاصم: تُظاهِرون، بضم التاء وفتح الظاء بدون تشديد كما هو في المصحف.(3/98)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
اعلموا ايها المؤمنون أن النبيّ احرصُ على استقامة امركم وأحقّ بولايتكم من أنفسِكم، فعليكم ان تطيعوه وتتبعوا شرعه. وازواجُه مُنَزَّلاتٌ منازلَ أمهاتكم فعليكم ان توقّروهن ولا تتزوجوهن من بعده. وذوو القرابات أولى ببعض في امر الوراثة من المؤمنين والمهاجرين، (وكان المؤمنون يتوارثون كأنهم أسرة واحدة) لكن يجوز ان تعطوا بعضَ من والَيتم في الدين من المتّصلين بكم، او توصوا لهم بجزء من مالكم. كان هذا ثابتا في اللوح المحفوظ والقرآن.
واذكر يا محمد حين أخذْنا على النبيّين عهدا، وأخذنا مثلَه عليك وعلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم بتبليغ الرسالة والدعوة الى الدين {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} عظيمَ الشأن. وسوف يسأل الله يوم القيامة جميع الانبياء عما قالوه لقومهم، ولما لاقَوه منهم وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.(3/99)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
جاءتكم جنود: الاحزاب، وهم قريش وبنو اسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم ومن اليهود بنو النضير وبنو قريظة. جنود لم تروها: الملائكة. زاغت الابصار: تحيرت من الدهشة والخوف. بلغت القلوب الحناجر: فزعت فزعاً شديداً كأنها قفزت الى الحُلُوق من الخوف. ابتلي المؤمنون: اختُبروا وامتحنوا. وزُلزلوا زلزالا شديدا: اضطربوا من الفزَع بشكل رهيب من كثرة العدو. والذين في قلوبهم مرض: ضعفاء الايمان من المسلمين قريبي العهد بالاسلام. الا غرورا: وعداً باطلا قصد به التغرير بنا. يثرب: من اسماء المدينة، ولها مائة اسم. لا مقام لكم: لا ينبغي لكم الاقامة هنا. ان بيوتنا عورة: يعني مكشوفة للعدو خالية من الرجال المدافعين عنها. من اقطارها: من جوانبها. الفتنة: الردة ومقاتلة المؤمنين. آتوها: اعطوها. وما تلبّثوا بها: ما اقاموا بالمدينة. لا يولّون الادبار: لا يفرون منهزمين.
نزلت هذه الآيات الى آخر الآية السابعة والعشرين في تفصيل غزوة الأحوزاب، أو غزوة الخندق.
كانت غزوة الأحزاب في شوّال سنة خمسٍ من الهجرة، وكانت نم أخطرِ الحوادث التي واجهها رسول الله والمسلمون، في تقرير مصير الدعوة الاسلامية. وكانت معركةً حاسمة ومحنة ابتُلي المسلمون فيها ابتلاءً لم يبتلوا بمثله.
أما سببها فهو أنه خرج نفرٌ من بني النضير، ونفر من بني وائل من اليهود، فقدِموا على قريش في مكة. وهناك دعوا قريشاً الى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنا سنكون معكم حتى نستأصلَه هو ومن معه. فسرّ ذلك قريشاً، ونشِطوا لما دعوهم اليه. ثم خرج وفد اليهود فجاؤوا غطفان ودعوهم الى حرب المسلمين. وطافوا في القبائل، حتى تمت لهم اتفاقية عسكرية، كانت قريش وغطفان من أهم اعضائها. فحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل، وغطفان ستة آلاف. وأُسندت قيادةُ الجيش الى ابي سفيان، وتعهد اليهود ان يدفعوا الى غطفان كل ثمرِ نخلِ خيبرَ لسنة واحدة.
ولما سمع رسول الله وأصحابه عن تجمُّع القبائل مع قريش لقتال المسلمين وزحفهم الى المدينة - تهيأ المسلمون للحرب، وقرروا التحصنّ في المدينة والدفاع عنها. وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل.
وفي هذه الاثناء أشار سلْمان الفارسيّ، رضي الله عنهـ، بحفر الخندق حول المدينة، وكانت هذه خطةً حربية متّبعة عند الفرس، فأمر الرسول الكريم بحفر الخندق في السهل الواقع شماليّ غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يُخاف منه اقتحام العدو. وقد قسم رسول الله الخندقَ بين اصحابه لكل عشرةٍ اربعين ذراعا. وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع (نحو اربعة كيلو مترات) ، وعمقه من سبعة اذرع إلى عشرة، وعرضهُ من تسعة أذرع الى ما فوقها.
وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية، حرة الوبرة.(3/100)
وعمل السلمون في حفر الخندق بجدٍّ ونشاط. وكان كلما عَرَضَ لهم مكان صعب فيه صخرة لجأوا الى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيأخذ المِعولَ بيده ويضربها حتى تتفتت، حتى أكملوه وتحصنوا وراءه.
وكان بين المسلمين وبني قريظة من اليهود معاهدةٌ، فحملهم حُييّ بن أخطَب، سيدُ بني النضير، على نقض تلك المعاهدة. فنقضوها، وتأهبوا لقتال المسلمين مع المشركين من قريش والعرب. وعظُم عند ذلك البلاءن واشتد الخوف، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجر.
وجاء ابو سفيان يقود ذلك الجيشَ الجرار وأحاطوا بالمدينة. وفوجئوا بالخندق، فوقفوا من ورائه، وقفز احد أبطالهم وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري بحاصنه فاجتاز الخندقَ وطلب المبارزة. فبرز له عليّ بن ابي طالب كرم الله وجهه، وقتله. ثم حصل بعضُ التراشق بالسهام، ودام الحصار نحو شهر، اشتد فيه البلاء. واستأذن بعض المنافقين في الذهاب الى المدينة وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} . وكان الوقت شتاءً واشتد البرد وهبّت ريح عاتية فقلبت القدور وقوضت الخيام. فقام ابو سفيان وقال: يا معشر قريش، إنكم واللهِ ما صبحتم بدار مقام، وقد أخلفتنا بنو قريظة، وبلغَنا عنهم الذي نَكره، ولَقِينا من شدة الريح ما ترون، فارتحِلوا فإني مرتحِل.
فانطلَقوا، واصبح الصباح فاذا القوم قد ارتحلوا. وانصرف المسلمون ووضعوا السلام وصدق الله العظيم: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} .
ووضعت الحربُ أوزارها، فلم ترجعْ قريش بعدَها الى حرب المسلمين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تَغزُوكم قريش بعد عامِكم هذا، ولكنّكم تغزونهم» والقصةُ بطولِها في سيرة ابن هشام وفي صحيح مسلم، وابن كثير.
واستُشهدوا من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقُتل من المشركين اربعة.
{إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا. . . .} .
إنها صورة هائلة مرعبة، فقد جاء ابو سفيان بذلك الجيش الكبير وحاصروا المسلمين من كلّ مكان، وبنو قريظة من ورائهم، فَبَلَغ الخوف أقصاه، وبلغت القلوبُ الحناجر خفقاناً واضطرابا، وظنّ بعضهم بالله ظنونا سيئة.
وكان ذلك اختباراً كبيرا وامتحاناً شديدا للمؤمنين، وأخذ المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ من ضعاف المسلمين يقولون: ما وعدَنا الله ورسولُه من النصر وعلوّ الكلمة الا وعداً باطلا!
وقالت طائفة من المنافقين كعبد الله بن أُبيّ واصحابه: يا أهلَ الميدنة، ليس هذا المقام بمقامٍ لكم فارجعوا الى منازلكم، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} وهم من بني حارثة.(3/101)
وما كان استئذانهم إلا جبناً وفِراراً من القتال. ثم بين الله وَهْنَ الدينِ وضعفه في قلوبهم فقال:
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً} .
ولو دخل عليهم الاحزابُ من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليه الارتدادَ عن دِينهم وأن يقاتِلوا المؤمنين - لفعلوا ذلك مسرِعينَ من شدة الخوف.
ولقد كانوا عاهدوا الله لا ينهزمون امام عدوٍّ قط، {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} .
قراءات:
قرأ ابو عمرو ويعقوب وحمزة: الظنون بدون ألف. والباقون: الظنونا بالف بعد النون وقرأ حفص: لا مُقام لكم بضم الميم بمعنى الاقامة. والباقون: لا مَقام لكم بفتح الميم بمعنى الموضع. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: لأتوها من غير مد، والباقون: لآتوها بالمد. يقول الطبري: قرأ بعض المكيين وعامة قراء الكوفة والبصرة لآتوها بمد الألف. وحفص كوفي، فتكون قراءة المصحف الصحيحة لآتوها بالمد.(3/102)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
يعصمكم: يمنعكم. المعوِّقين: المانعين المثبطين عن القتال. هلم الينا: اقبلوا الينا. البأس: الشدة والمراد بها هنا الحرب والقتال. اشحة: جمع شحيح وهو شديد البخل. تدور أعينهم: تدور مُقَلُأعينهم من شدة الخوف مثل الذي يغشى عليه من الموت. سلقوكم: آذوكم بألسنتهم السليطة. أشحّة على الخير: بخلاء حريصين على مال الغنائم. فأبحط الله أعمالهم: أبطلها. بادون في الأعراب: لو انهم من اهل البادية مع الاعراب.
لا يزال القول فيغزوة الخندق وما لا بَسَها. قل لهم ايها الرسول: لا ينجيكم الفرارُ من الموت او اقتل، وانْ نَفَعَكم ظاهراً فلا تتمتعون بتأخير يومكم إلا تمتعا قليلا.
وقل لهم: من ذا الذي يحميكم من الله إن أراد بكم رحمة؟ {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} .
والله يعلمُ المعوقين الذي يثّبطون الناسَ عن القتال ويمنعونهم، والذين يقولون لإخوانهم هلمُّوا إلينا {وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} فلا يَقْرَبون القتالَ إلا زمنا قصيراً ثم يتسلّلون ويهربون الى مساكنهم.
ثم ذكر الله بعضض معايبهم من البُخل والخوف والفخر الكاذب فقال:
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} .
إنهم بخلاءُ عليكم بالمعونة والانفاق، فإذا طرأ الخوفُ من الحرب رأيتَهم ينظرون إليك بحالة عجيبة، تدور اعينُهم في محاجرها كالذي يقع مغشيّا عليه في حالة الموت. فإذا ذهب الخوف وأمِنتم، {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} طالبين أن يشارِكوكم في الغنيمة.
{أَشِحَّةً عَلَى الخير أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ}
وهم بخلاء في كل خير، حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون. انهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء، {فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} .(3/103)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
أُسوة، وإسوة: قدوة. قضى نحبه: مات او استُشهد في سبيل الله. بغيظهم: بأشد ما يكون من الغضب. ظاهَروهم: عاونهم. من اهل الكتاب: اليهود من بني قريظة. من صياصيهم: من حصونهم، واحدها صِيصِية وهي كل ما يُمتنع به. قذف في قلوبهم الرعب: القى في قلوبهم الخوف الشديد.
لا يزال الحديث عن غزوة الاحزاب.
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. . . .}
في هذه الآية عتاب من الله للمتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان لكم في رسول الله قُدوة حسنةٌ أن تتأسُّوا به، ولا تتخلّفوا عنه، وتصبروا على الحرب ومعاناة الشدائد، لمن كان يرجو ثواب الله والفوز بالنجاة في اليوم الآخر. وقد قرن الله الرجاء بكثرة ذكر الله.
قراءات:
قرأ عاصم: أُسوة بضم الهمزة، والباقون: إسوة بكسرها وهما لغتان.
ولما رأى المؤمنون الأحزابِ مقبِلين للقتال، يتوافدون حماسةُ وحباً للانتقام {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من نزول الشدائد ووقوع الفتن، امتحاناً لإيمان عباده. وقد صدق الله ورسوله وما زادَهم هولُ ما رأوا الا إيماناً بالله، وتسْليماً لأوامره وقضائه. هذا هو الإيمان الحق، الصبر والثبات، والتسليم الى الله ورسوله، والثقة بنصر الله.
{مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} .
من المؤمنين بالله ورسوله رجال وَفَوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر على الشدائد، فمنهم من فَرَغَ من العمل الذي كان نَذَرَه لله وأوجبَه علىنفسه، فاستُشهد بعضُهم يوم بدر، وبعضهم يوم أحد، وبعضهم في غير ذكل من المواطن المشرفة، {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الشهادةَ، وما غيَّروا العهدَ الذي عاهدوا ربهم، كما غيره المعوِّقون القائلون لإخوانهم: هلمّ الينا، والقائلون: إن بيوتَنا عَورة.
{لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}
ان الله سبحانه يختبر عبادَه بالخوفِ والشدائد ليُظهرَ الصادقَ بإيمانه من المنافق الكذاب كما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} سورة محمد 31. ويعذّب المنافِقين إذا استمرّوا على نفاقِهم. فإن تابوا، فإن الله غفور رحيم. وباب التوبة عنده مفتوحٌ دائما وابدا، وهو يغفر الذنوب جميعا.
{وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} .
انتهت المعركة وانفرجت الغُمة، وردَّ الله الكفار ممتلئةً قلوبُهم بالغيظ خائبين، لم ينالوا خيراً من نصرٍ او غنيمة. وكفى الله المؤمنين مشقَّة القتال، وكان الله عزيزاً بحَوْله وقوته.
روى الشيخان من حديث ابي هريرة «ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:» لا اله الا الله وحدَه، صدق عبدَه، وأعزَّ جنده، وهزم الاحزابَ وحده، فلا شيء بعده «(3/104)
وروى محمد بن اسحاق انه لما انصرف الاحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغزوكم قريشُ بعدَ عامِكم هذا، ولكنكم تغزونهم» وقد تحقق هذا ونصر الله رسولَه والمؤمنين الى ان فتح عليهم مكة.
{وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} .
انتهت المعركة مع الأحزاب من قريش وحلفائها وردّهم الله خائبين، لكنّها لم تنتهِ مع اليهود من بني قريظة، الذين نقضوا العهد مع رسول الله والمؤمنين. وكان الرسول لما قَدِم المدينة، كتبَ كتاباً بين المهاجرين والانصار وادَعَ فيه اليهودَ وعاهدَهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشَرَطَ لهم واشترط عليهم، وجاء فيه: «انه من تَبِعنا من يهودَ فان له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، ان اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وان قبائلَ يهودَ أثمة مع المؤمنين. لليهود دينُهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم. . . . وان بينهم النصرَ على ما حارب أهل هذه الصحيفة وان بينهم النُّصحَ والنصيحة، والبِرّ دون الاثم، وان بينهم النصرَ على من دهم يثرب.» .
والعهدُ طويلٌ موجود في سيرة ابن هشام وعدد من المراجع.
ولكن اليهودَ، هم اليهود في كل زمان ومكان، فقد نقضوا العهد واتفقوا مع قريش والأحزابِ على أن يهجُموا على المدينة من خلْفِ المسلمين. ولما علم رسول الله بذلك بعث سعدَ بن مُعاذ، وسعدَ بن عبادة - في رجالٍ من الانصار ليتحققوا الخبر. فوجدوهم على شرّ ما بلَغَهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسولُ الله؟ لا عهدَ بيننا وبين محمد ولا عقد.
وهكذا حاولوا طعنَ المسلمين من الخلق، ولكنّ الله خيبّهم، إذ أنهم اختلفوا مع قريش وتحصنوا في حصونهم ولم يحاربوا.
فلما انصرف الرسولُ الكريم والمسلمون من الخندق راجعين الى المدينة - أمَرَ الرسول مؤذنا فأذن في الناس: إن من كان سمعاً مطيعاً فلا يصلِّيَنَّ العصرَ الا في بني قريظة.
ونزل رسول الله ببني قريظة فحاصرَهَم خمساً وعشرين ليلة حتى تعبوا وجَهَدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعبَ، ونزلوا على حُكم سعد بن معاذ حَليفِهم. فحكم فيهم ان تُقتل الرجال، وتقسَم الأموال، وتسبى الذراري والنساءن لأنهم لو نَفَّذوا عهدهم مع قريشٍ لقضَوا على المسلمين واستأصلوهم، ولكن الله سلّم ونَصَرَ المسلمين {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} . وقد توفي سعدُ بن عاذ شهيد من سهم أصابه في ذراعه رضي الله عنهـ.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}
وأورثكم الله ايها المؤمنون ارض اليهود وحصونهم وديارهم واموالهم التي ادّخروها، وموارعهم. وقد قسمها الرسول الكريم بين المسلمين، واخر الخمس لرسول الله يصرفه في سبيل الله وأرضاً لم تطئها: خيبر ومكة، وكل ما لم يُفتح بعد. .(3/105)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
زينة الدنيا: كل ما فيها من متاع ونعيم. أمتعكن: اعطيكن المتعة من مال ولباس بحسب ما أستطيع. وأسرّحكن: اطلقكنّ. سَراحا جميلا: طلاقا من غير ضرر ولا مخاصمة ولا مشاجرة. الفاحئة: المعصية. مبيّنة: ظاهرة واضحة. ضِعفين: ضعفي عذاب غيرهن من النساء. يسيرا: هيّنا.
بعد ان نصر الله رسوله والمؤمنين وفتح عليهم بني قريظة واموالهم، طلب نساء النبي ان يوسع ليهن بالنفقة، وقلن له: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحَلْي والحلل، والاماء والخدم والحشَم، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق! فأنزل الله تعالى في شأنهن قوله:
{ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا. . .} الآيات.
فبدأ بعائشة، فقال لها: إني أذكر لك أمراً ما أحبُّ ان تعجَلي حتى تستأمري أبويك. قالت: وما هو؟ فتلا عليها: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ. . . . الآية} قالت عائشة: أفيكَ أَستأمر ابويَّ! بل اختارُ الله تعالى ورسولَه. ثم تابعها بقيةُ نسائه. وكنّ تسعاً: سِتّاً من قريش، وهن عائشة وحفصة وام حبيبة وسودة وام سلمة وزينب بنت جحش الاسدية، وثلاثاً من غير قريش وهن: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حُيي بن أخطب يهودية الأصل، وجويرية بنت الحارث المصطَلَقية.
وبعد ان خيّرهن واخترن الله ورسولَه وعَظَهن بقوله تعالى: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} .
وفي هذا تهديد شديد، لأنهن لسن كغيرهن من النساء. . . . والذنبُ من العظيم عظيم، فمن تفعل منهن ذنباً يضاعَف لها العذاب من الله.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابن عامر نُضَعِّف العذابَ: بضم النون وتشديد العين المكسورة ونصب العذاب. وقرأ ابو عمرو: يُضَعَّف بضم الياء وتشديد العين المفتوحة على البناء للمفعول، العذاب مرفوع. وقرأ الباقون: يُضاعَف لها العذاب بألف بعد الضاد، للمجهول.
هكذا كانت آيتا التخيير تحدّدان الطريقَ الواضح: فإما الحياةَ الدنيا وزينتها، واما اللهَ ورسوله والدارَ الآخرة. وقال نساء الرسول الكريم بعد ذلك: واللهِ لا نسألُ رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وفرح الرسولُ بذلك صلى الله عليه وسلم.(3/106)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
يقنت: يطع الله ويخضع له. س يقال قَنَتَ لله وقنت اللهَ، متعد ولازم. أعتدنا: هيّأنا وأعددنا. كريما: سالما من الآفات والعيوب. لستنّ كأحد من النساء: لا يساويكن احد من النساء في الفضل والمنزلة. فلا تخضعن بالقول: فلا تِجبن احداً بقول لين مريب. في قلبه مرض: في قلبه ريبة وفجور. وقلن قولا معروفا: قولا حسنا لطيفا بعيدا عن الريبة. وقَرن في بيوتكن: إلزمن بيوتكن. التبرج: اظهار الزينة. الجاهلية الاولى: الجاهلية القديمة التي لا تعرف دينا ولا نظاما. ليُذهب عنكم الرجس: الاثم والذنب. آيات الله: القرآن الكريم. والحكمة: ما ينطق به الرسول من السنة والحديث.
ومن تطعْ منكنّ يا نساء النبيّ اللهَ ورسولَه وتخضع لأوامرهما، وتعمل صالح الأعمال، يعطِيها الله أجرها مرتين (كما هدّد بمضاعفة العذاب) ، وزيادةً على مضاعفة الأجر أعدّ الله لكنّ الكرامة في الدنيا والآخرة.
ثم بين لهنّ أنهن لسن كغيرِهن من النساء بقوله تعالى:
{يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} .
ليس هناك جماعة من النساء تساويكن في الفضل والكرامة، لأنكن أَزواج خاتَم النبييّن، وأمهات المؤمنين، وهذه منزلةٌ عظيمة لم يتشرّف بها احدٌ من النساء غيركن.
ولذلك نهاهنّ الله عن الهزل في الكلام إذا خاطبهنّ الناس، حتى لا يطمع فيهنَّ منْ في قلبه نِفاق، ثم أمَرَهنّ ان يقُلن قولاً معروفا بعيداً عن الريبة.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} .
وهذا أمرٌ من الله أن يلزمن بيوتَهن، وان لا يظهِرن زينتهن ومحاسنَهن كما يفعل اهل الجاهلية الاولى. ثم أمرهنّ بأهم اركان الدين وهو إقامة الصلاة وايتاء الزكاة، واطاعة الله ورسوله.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
ليُذهب عنكُم كلَّ دَنَس وإثمٍ يا أهلَ بيت النبي الكريم ويجعلكم طاهرين مطهَّرين. ثم امرهن بتعلُّم القرآن وتعليمه لغيرِهن، وان يستوعبن ما يقول الرسولُ الكريم من الحكمة المبثوثة في سُنَّته، لأن الناس سيهرَعون إليهن ليأَخذوا منهنَّ ما سمعنَه منه.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: ومن يقنت منكن. . . . ويعمل صالحا، بالياء في الفعلين. وقرأ الباقون: ومن يقنت. . . . وتعمل بالتاء في الأخير.
وقرأ عاصم ونافع: وقَرن بفتح القاف. والباقون: وقِرن بكسر القاف.(3/107)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
الاسلام: الانقياد والخضوع لأمر الله، والايمان: التصديق بما جاء عن الله من أمرٍ ونهى. القنوت: الطاعة في سكون. الصبر: تحمل المشاق والمكاره والعبادات والبعد عن المعاصي. الخشوع: السكون والطمأنينة. اعدّ الله لهم مغفرة: هيأ لهم الرحمة والغفران واحسن الجزاء.
ذكر الله تعالى في هذه الآية عشر صفات من صفات المؤمن المخلص الصادِق الإيمان، وهي الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدُّق، والصوم، وحفظ الفرْج، وذِكر الله كثيرا.
فهذه الصفات تجعلُ من يتحلّى بها من المؤمنين رجلا مثاليا او امرأة مثالية. ويلاحَظ ان الله تعالى لم يفرّق بين المرأة والرجل، فالكل سواء في العمل والايمان والأجر والكرامة. وأيّ منزلة أرفعُ من هذه المنزلة للمرأة، فهي تُذكر في الآية بجنب الرجل، مع رفع قيمتها، وترقية النظرة اليها في المجتمع واعطائها مكانها اللائق في التطهر والعبادة والسلوك القويم في الحياة.(3/108)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
ما كان لمؤمن. . . .: لا ينبغي لمؤمن ان يختار غير ما يختار الله. الخيرة: الاختيار. مبينا: ظاهرا. الذي انعم الله عليه. هو زيد بن حارثة انعم الله عليه بالاسلام. وأنعمتَ عليه: بالعتق والحرية. الوطر: الحاجة. الحرج: المشقة. فرض الله له: قدر الله له. خلَوا: مضوا. قَدَرا مقدورا: قضاء مقضيا.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً. . . .}
ليس الاختيار بيد الانسان في كل شيء، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمنٍ ولا لمؤمنة فيها، وهي ما حَكَمَ اللهُ فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فهو الحقّ، ومن يخالفْ ما حكم به الله ورسوله {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} .
نزلت هذه الآية في زينبَ بنتِ جحش، ابنة عمةِ النبي عليه الصلاة والسلام، فقد خطَبها الرسول الكريم ليزوّجها من زيد بن حارثة مولاه، فلم يقبل أخوها عبدُ الله ان تكون أختُه، وهي قرشية هاشمية، تحت عبدٍ اشترته خديجةُ ثم أعتقه الرسول الكريم.
وقد اصر الرسول عليه الصلاة والسلام على تزويجها من زيدٍ لإزالة تلك الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيّات، ولهدْم تقاليد العرب القديمة.
فلما نزلت هذه الآية أذعَن عبدُ الله وأختُه زينب وقبلت ان تتزوج زيدا. ولم ينجح هذا الزواج. فقد تطاولت زينب على زوجها وجعلت تتكبر عليه، وتعيّره بأنه عبد رقيق، وهي قرشية. وآذتْه بفخرها عليه، واشتكى الى النّبي ذلك مرارا، وطلب اليه ان يأذَن له بتطليقها فكان النبي يقول له: «أمسِك عليك زوجَك» لكن زيدا لم يُطِقْ معاشرةَ زينب فطلّقها.
وبعد ذلك تزوّجها الرسول الكريم، وهي ابنةُ عمته، ولأنه يريد ان يُبطِل عادة التبنّي الذي كان معمولاً به في الجاهلية. وكل ذلك بأمرٍ من الله كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} .
فالذي أنعم الله عليه هو زيد، أنعم عليه بالاسلام، والذي انعمتَ يا محمد عليه هو زيدٌ أيضا، أنعمتَ عليه بالعتق من الرق وجعلته حراً. وتخفي يا محمد في نفسِك ما سيُظهره الله من ان زيدا سوف يطلق زينب وانك ستتزوجها بأمر الله. هل تخاف ان يعيّرك الناس أنك تزوّجت امرأة ابنِك (وكان يقال له زيد بن محمد) ؟ ان الله وحده هو الذي يجب ان تخشاه، فانك انت القدوة في كل ما امر الله به، وما ألقى عليك ان تبلّغه للناس، فلتكن أيضا القدوةَ فيما أبطلَ الشارعُ الحكيم من الحقوق المقررة للتبني والادعاء. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} .(3/109)
وقد قامت قيامة المبشّرين والمستشرقين لهذا الحادث وكتبوا فيه وأوّلوا وأطلقوا لخيالهم العِنان، وهم يعلمون حقَّ العلم أن الرسول الكريم كان مبشّرا ونذيراً ومعلّماً وداعياًالى الله بإذنه ومشرعاً يريد ان يهدِم عاداتِ الجاهلية، ولذلك يقول تعالى:
{مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} .
ما كان على النبي من إثمٍ في عمل أمره الله به، فلا حرجَ في هذا الأمر، وليس النبي فيه بِدعاً بين الرسل، فهو أمرٌ يمضي وَفقَ سنّة الله التي لا تتبدل في الانبياء الذي مضوا.
ثم وصف الذين خَلوا بصفاتِ الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيباً} .
كفى ان يكون الله الرقيبَ المحاسب، فهو وحده يحاسبهم.
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين}
وفي هذه الآية قطعٌ لألسنة المنافقين وشياطينهم من اليهود الذين قالوا إن محمداً تزوج حليلة ابنة زيد. ان محمداً ليس اباً لأحد من رجالكم حتى يحرُم عليه التزوج من مطلقته ولكنّه أبٌ للمؤمنين جميعا، ولذلك فهو يشرّع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية، وفق آخر رسالة السماء الى الأرض، {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} يعلم ما يصلح لهذه البشرية، فقضى الله هذا وفق علمه بكل شيء.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: ان يكون لهم الخيرة بالياء. والباقون: ان تكون بالتاء. وقرأ عاصم وحده: خاتَم بفتح التاء. والباقون: خاتم بكسر التاء.(3/110)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
أصيلا: الأصيل هن الوقت حين تصفرّ الشمس عند الغروب. الصلاة من الله: المغفرة والرحمة. النكاح: عقد الزواج. من قبل ان تمسّوهن: من قبل ان تدخلوا بهن. فمتِّعوهن: اعطوهن ما يخرج من نفوسكم من المال لتطيب به نفوسهن.
يا أيها الذين آمنوا، أكثِروا من ذكر الله وسبّحوه كلَّ وقت، ولا سيمّا أول النهار وآخره، هو الذي يرحمكم ويغفر لكم بصلاته عليكم، وتستغفر لكم الملائكة، ليخرجكم من ظلماتِ الجهل الى نور الاسلام {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} . وهذا أمرُهم في الدنيا دار العمل. أماأمرهم في الآخرة وعندما يلقونه فلهم الكرامةُ والحفاوة والأجر الكريم: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} .
يا أيها النبي إنا أرسلنا شاهداً على أُمتك ترفع أمرهم الى الله يوم القيامة، ونذيراً لهم حتى لا يتهاونوا، وداعياً الى الله بإذنه لنشْرِ الدين، ومصباحاً مضيئا يهدي بنوره الحائرين ويقتبس من نوره المهتدون.
وبعد هذا يأتي الفضل كله {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} على سائرِ الأمم بحَمْلهم أعباءَ هذا الدين الكريم وابلاغه الى الناس.
ثم بعد ذلك ينهي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهمل الكافرين والمنافقين ولا يحمل بأذاهم، وأن يتوكل على الله وحده ويفوّض أمره إليه كما أَمَرَه في مطلع السورة. . {وكفى بالله وَكِيلاً} .
ثم يبين تشريعاً مهماً لحفظ الأُسرة، وكرامة المرأة وحفظ حقوقها بقوله:
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} .
في هذه الآية الكريمة أمران:
الأول: اذا عقدتم عقدكم على امرأة ثم لم يحصَل وِفاق وطلقتموها قبل الدخول فليس عليها عِدّة.
الثاني: على المطلّق ان يمّتعِ المطلقةَ بشيء من المال حسب قُدرته حتى يطيبَ خاطرُها وليكون في ذلك بعضُ السلوة لها عما لحِق بها من أذى الطلاق.
{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} .
سبق في سورة البقرة نفس الموضوع في قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ. . . . .} [الآية: 236 و 237] .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: من قبل ان تُماسّوهن بضم التاء والف بعدها. الباقون: تمسوهن، بفتح التاء من غير الف بعدها.(3/111)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
آتيتَ أجورهن: اعطيت مهورهن. وما ملكت يمينُك: من الإماء التي جاءتك من المغانم. خالصةً لك: خاصة بك. حرج: ضيق، مشقة. ترجِي: تؤخر، تبعد. تؤوي اليك: تسكن معك. ومن ابتغيتَ ممن عزلتَ: ومن طلبتَ ممن ابعدتَ من نسائك. ذلك أدنى ان تقر اعينهن: ذلك أقرب ان تسر نفوسهن.
في هذه الآياتِ الكريمة يبيّن الله لرسوله الكريمِ ما يحِلّ له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصِه الكريم ولأهل بيته.
يا أيها النبي: إنا أحبنا لك أزواجَك اللاّتي اعطيتّهن مهورَهن، وأحللنا لكم ما ملكتْ يدُك من الجواري، ويجوز لك ان تتزوج من بناتِ عمك، وبناتِ عماتك، وبناتِ خالك وبناتِ خالاتك اللاتي هاجرْن معك.
ويجوز لك ان تتزوّج امرأةً مؤمنة ان وهبتْ نفسَها لك بلا مهر.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من شروط العقد الشرعي.
وهذه الإباحةُ خالصة لك من دون المؤمنين، أما غيْرك من المؤمنين إن وهبْت امرأةٌ الشرعي.
لقد أحلَلنا لك ذلك لِكَيلا يكونَ عليك حَرَجٌ في نِكاح من تريدُ من الأصنافِ التي ذُكرتْ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} .
{تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤويا إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} . . . الآية.
يخّير الله الرسول الكريم في هذه الآية بأن يدنيَ إليه من يشاءُ من نسائه ويؤخّر منهنّ من يشاء. وإذا اراد ان يطلب واحدةً كان أبعدَها فله الخيارُ في ذلك دون حَرَجٍ او تضييق عليه. وكلُّ ذلك حتى يكنَّ مسرورات قريراتِ الأعين، ولا يحزنّ بل يرضين بما قَسَم بينهن، ويعلمن أن هذا كلَّه بأمرِ الله وترخيصِه لرسوله الكريم.
روى ابن جرير عن ابي رزين قال: لما نزلت ية التخيير السابقةُ خاف نساء النبي ان يطلّقهن فقلن: يا رسول الله، لنا من مالك ومن نفسِك ما شئت، ودعنا كما نحنُ، فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله خمساً من نسائه وهن: ام حبيبة، وميمونة، وصفية، وجويرية، وسودة، فكان لا يقسم بينهن ما شاء، يعني لم يجعل دورا في المبيت عندَهن منتظَما.
وآوى اليه أربع نساء هن: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسِم بينّهن على السواء، لكل واحدة ليلة.
{والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} من الميل الى بعضِهن دون بعض مما لا يمكن دفعُه، {وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً} .
ثم ختم هذا الموضع بآيةِ كريمة فيها حكمان: ان لا يتزوج عليه الصلاة والسلام غيرَ نسائه التسعَ الموجودات في عصمته، وان لا يستبدل بهن غيرَهن فقال:
{لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} .
لا يحِل لك النساء بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك، ولا أن تستبدلَ بهن ازواجاً غيرهن، مهما كانت الواحدةُ بارعةً في الحسَب والجمال، الا ما ملكتْ يمينك من الجواري، وكان الله على كل شيء مطّلعا.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابوعمرو وابو بكر عن عاصم: ترجىء بالهمزة، والباقون: ترجي بدون همزة. وقرأ ابو عمرو وحده: لا تحل لك النساء بالتاء. والباقون: لا يحل لك النساء بالياء.(3/112)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
غير ناظرين أَناهُ: غير منتظرين نضجه، أنى الطعامُ يأني: نضج واستوى. طَعِمتم: أكلتم. فانتشروا: اذهبوا وتفرقوا. ولا مستأنسين لحديث: لا تمكثوا بعد الطعام تتحدثون. متاعا: اي شيء. من وراء حجاب: من وراء حاجز.
في هذه الآيات إرشادٌ وتعليم للناس كيف يدخلون بيوتَ النبي، وفي اي وقت. وقد كان بعض المنافقين يؤذون الرسولَ عليه الصلاة والسلام بالتردّد على بيوته. وكان بعَضُ أصحابه يطلبون الجلوس، فأرشدَ الله أصحابه الى تعظيم الرسول، وعيّ الحالاتِ والأوقات التي يُسمح لهم بدخول بيوته، وأدّبهم خير تأديب.
روى الامام احمد والبخاري ومسلم وغيرهن عن أنس رضي الله عنهـ قال: «لما تزّوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش دعا القومَ الى طعام، فأكلوا ثم جلسوا يتحدّثون، واذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قامَ، فلما قام ذهب جماعةٌ وبقي ثلاثةُ نفر، فجاء النبي ليدخلَ فإذا القومُ جلوس. ثم إنهم قاموا، فانطلقتُ فأخبرتُه بذهابهم. . . .» .
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي. . . . الآية} .
يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا اذا أذن لكم، او دعاكم الى طعام، فاذا دعيتم الى طعام فلا تأتوا مبكرين لتنتظروا نضجه، بل ادخلوا عندما يكون قد تم إعداده فقبلَ ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم.
فاذا دعيتم فلبوا الدعوة، واذا اكلتم الطعام فتفرقوا واخرجوا ولا تطيلوا الجلوس وتمكثوا تتحدثون. فان ذلك كان يؤذي النبي ويستحي منكم، والله لا يستحي من الحق. وقد سمى بعض المفسرين هذه الآية آية لاثقلاء، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «حسبك في الثقلاء ان الله عز وجل لم يحتملهم» .
ثم علّمهم كيف يسألون نساء النبي وتيأدبون معهن فقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} .
وذلك اعظم طهارةً لقلوبكم وقولوبهن من وساوس الشيطان.
ولما ذكر الله تعالى بعض الآداب التي يجب ان يراعوها في بيت رسول الله اكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} ، ولا ان تتزوجوا نساءه من بعده ابدا، احتراما لهن لأنهنّ أمهات المؤمنين.
{إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} ولا يخفى ما ي هذا من الوعيد الشديد، وعظيم التهديد على هذا العمل.
والله يعلم ما تظهرونه وما تخفونه في صدوركم، لا تخفى عليه خافية.
ثم بين بعد ذلك الاقارب الذين يمكن ان يدخلو على نساء النبي ولا يحتجبن منه وهم: الآباء والابناء واخوانهن، وابناء اخوانهن، وابناء اخواتهم، والنساء المسلمات، وما ملكت ايمانهن من العبيد، وعليهن ان يتقين الله، ان الله كان على كل شيء شهيدا.(3/113)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
الصلاة من الله: الرحمة وذكره بالثناء على الملأ الاعلى، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء له بالرحمة. والمعنى ان الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة. يا ايها المؤمنون: ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل اليه قدرتكم.
ان الذين يؤذون الله ورسوله من المنافقين وشياطينهم اليهود، بتدبير المؤامرات والدس للتفرقة بين المؤمنين - لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وطردهم من رحمته وأعدّ لهم عذابا كبير يهينهم يوم القيامة ويذل كبرياءهم.
والذين يؤذنو المؤمنين والمؤمنات بقولٍ او فعل من غير ذنب فعلوه، فقد تحملوا وزر كذبهم عليهم، {فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} فلا يجوز ايذاء الناس بالغيبة، او الافتراء عيلهم او الكيد لهم وما الى ذلك.
وفي الحديث: «سئل رسول الله عن الغِيبة فقال: ذِكرك أخاك بما يكره. قيل: ارأيت ان كان فيه ما أقول؟ قال: ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وان لم يكن فيه منا تقول فقد بهتّه»(3/114)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
الجلباب: ثوب واسع اوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها. وقيل هو الملحفة. يُدين: يُسدلِن. أدنى ان يُعرفن: اقرب ان يميَّزن من الإماء والفتيات. المرجفون: اليهود، كانوا يلفقون اخبار السوء وينشرونها. لنغرينك بهمك لنسلطنك عليهم. اينما ثقفوا: اينما وجدوا. خلَوا: مضوا.
لم يكن في منازل المدينة مراحيض، فكان النساء يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في البساتين وبين النخيل، وكان الاماء والحرائر يخرجن في زِيّ واحد، وكان فسّاق المدينة من المنافقين وغيرهم يتعرضون للاماء، وربما تعرضوا للحرائر، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة اذا خرجن لحاجتهن ان يتسترن بلبس الجلابيب ويسترن اجسامهما ما عدا الوجه والكفين. {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} .
فعلى المسلمة اذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها ولا تبدي شيئاً من مواضع الفتنة. {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لما سلف في أيام الجاهلية.
ولما كان الذى يحصل من المنافقين وشياطينهم ومن على شاكلتهم حذرّهم الله بقوله:
{لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} .
توعّد الله في هذه الآية ثلاثة اصناف من الناس وهم: المنافقون الذين يؤذون الله ورسوله، ومن في قلوبهم مرض من فساق المدينة الذين يؤذون المؤمنين باتباع نسائهم، والمرجفون وهم اليهود الذين يؤذون النبي صلى الله عليه سولم بترويج الاشاعات الكاذبة والتشويش على المؤمنين. وانهم اذا لم ينتهوا سلّط عليهم الرسولَ واصحابه فيقاتلونهم ويخرجونهم من المدينة.
ثم بين ما آل إليه امرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة فقال:
{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً}
مستحقين اللعنة والطرد اينما وجدوا أخُذوا وقتّلوا تقتيلا، عقوبةً لهم.
وهذه سنة الله في امثال هذه الفئات في كل زمان، لا تتغير ولا تتبدل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.(3/115)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
الساعة: يوم القيامة. وما يدريك: وما يعرّفك بوقتها. سعيرا: نارا شديدة، مستعرة. سادتنا: ملوكنا. كبراءنا: علماءنا وزعماءنا. ضِعفين: مثلين. وجيهاً: له جاه ومنزلة عظيمة.
يسألك الناس عن وقت قيام الساعة، قل لهم: ان علمها عند الله وحده، ولعل وقتها يكون قريبا. وقد كثر في القرآن الحديث عن اقتراب الساعة: {اقتربت الساعة وانشق القمر} سورة القمر (1) {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] . {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] . وفي هذه كله تهديد للمستعجلين المستهزئين، والمتعنتين الغافلين عنها. وقد ابقى الله علمها عنده حتى يبقى الناسُ على حذر من امرها، وفي استعداد دائم لمفاجأتها، ذلك لمن اراد الله الخير.
{إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. . . .} .
ان الله طرد الكافرين من رحمته وهيأ لهم نارا شديدة متوقدة {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} باقين فيها امدا طويلا لا يعلم مداه الا الله. ولا يجدون لهم من ينصرهم، لوتراهم يتقلّبون في تلك النار الموقدة، ويتحسرون على كفرهم {يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} . ولكن فاتهم ذلك ولا ينفعهم قولهم، ولا تستجاب دعواتهم، ثم يتذكرون سادتهم ورؤساءهم، فتنطلق من نفوسهم النقمة عليهم وينادون ربهم بقولهم: ربنا، لقد اطعنا رؤساءنا وكبراءنا فأضلونا السبيلَ وابعدونا عن الصراط المستقيم {رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} .
هذه هي الساعة وتلك هي القيامة، وهذا مشهد من مشاهدها.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً}
يا ايها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا فعلٍ لا يحبه، كالذين آذاوا موسى فرمَوه بالغيب كذباً وباطلا، فبرأه الله مما قالوه عنه من الزور، وكان موسى عند الله ذا وجاهة وكرامة.
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: «قَسَمَ رسول الله ذات يوم قَسْما فقال رجل من الانصار: ان هذه القسمة ما اريدَ بها وجه الله، فاحمر وجه النبيّ ثم قال:» رحمة الله على موسى، رُمي باكثر من هذا فصبر «
قراءات:
قرأ ابن عامر ويعقوب: ساداتنا بالف بعد الدال، والباقون: سادتنا. وقرأ عاصم وابن عامرك لعنا كبيرا بالباء. والباقون: كثيرا بالثاء.(3/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قولا سديدا: قول الحق والصدق. عرضنا الأمانة: عرضنا التكاليف. أشفقن منها: خفن منها. حَمَلها الانسان: كان مستعدا لها. ظلوما: جهولا، كثير الجهل.
لقد امر الله المؤمنين في ختام هذه السورة ان يصدُقوا في قولهم ويتقوا الله في عملهم وبذلك تصلح اعمالهم، ويغفر الله لهم ذنوبهم، ويبين لهم ان من يطع الله ورسوله فسوف يفوز فوزا عظيما.
ثم ختم السورة بتعظيم امر الأمانة، وضخامة تبعتها، وما فيها من تكاليف شاقة وان السماوات والأرض والجبال اشفقن منها، وان هذا الانسان الضعيف حملها وكان مستعداً لها وقام بأعبائها، انه كان شديد الظلم لنفسه، جهولا بما يطيق حمله، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات وقلة العلم، وقصر العمر.
ثم بين عاقبة تلك الامانة وما فيها من تكاليف فقال:
{لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين}
وكان عاقبة حمل الانسان لهذه الامانة ان يعذِّب الله من خانها وأبى الطاعة والانقياد لها، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات، والله كثير المغفرة واسع الرحمة.(3/117)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
ما يلج في الارض: ما يدخل فيها. وما يعرج فيها: ما يصعد الى السماء. لا يعزب عنه: لا يغيب عنه. مثقال ذرة: ثقْل اصغر نملة. معاجزين: سابقين لإظهار عجزه. من رجز: الرِجزُ أشدّ العذاب، وله معان اخرى. صراط العزيز الحميد: طريق الهدى.
الحمد لله وحده مالكِ الكون ومدبّره، وله الحمد في الآخرة على جميل إحسانه ورحمته وهو الحكيم الخبير ببواطن الأمور وجميع ما يدور في هذا الكون. إنه يعلم ما يدخل في جوف الأرض وما فيها من ماء وكنوز ومعادن وغير ذلك، وما يخرج منها كالحيوان والنبات ومياه الآبار والعيون، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها ويرقى اليها، كالملائكة وأعمالِ العباد والأرواح والأبخرة والدخان وكل ما يطير ويحلّق في الأجواء. . . . لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة مما يحصل في هذا الكون الواسع العجيب. وهو مع كثرة نِعمه وفضله، واسع الرحمة عظيم الغفران، بابُه مفتوح لكل تائب أواب.
ومع كل هذا فقد أنكر الذين كفروا مجيء يوم القيامة، فقلْ لهم أيها الرسول: ستأتيكم الساعة وحقِّ ربي، عالمِ الغيب الذي لا يغيب عن علمه مقدارُ ذرَة في السموات والارض، ولا أصغرُ من ذلك ولا اكبر. . . . وكل ذلك مسطور في كتاب مبين.
والحكمةُ من البعث وإعادة الناس يوم القيامة أن يجزيَ الله الذين آمنوا وعملوالصالحات ويثيبهم خيراً ومغفرة ورزقاً كريما، ويثْبت للذين كفروا وسعَوا في الأرض فسادا انهم كانوا خاطئين، وانهم في العذاب الأليم مخلدون.
وهذا هو العدل من الله تعالى. . . . . ينعُم السعداءُ المؤمنون ويعذَّب الاشقياء الكافرون. إن الذين منّ الله عليهم بالعلم من اهل الكتاب وغيرهم يعلمون ان القرآن الذي أنزله عليك ربك يا محمد هو الحق الذي لا مرية فيه، وانه يهدي الى صراط العزيز الحميد وهو الاسلام، الدين القويم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: علاّم الغيب، وقرأ أهل المدينة وابن عامر ورويس: عالِمُ الغيب برفع الميم. والباقون: عالِمِ الغيب بكسر الميم. وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص: من رجز أليمٌ برفع الميم صفة لعذاب، والباقون: بكسرها. وقرأ الكسائي وحده: لا يعزِب بكسر الزاي والباقون: يعزب بضم الزاي.(3/118)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
اذا مُزقتم كل ممزق: متُّم وتفرقت اجسامكم في التراب. لفي خلْق جديد: يوم البعث في القيامة. افترى على الله؟ : هل اختلق هذا الكلام من عنده. ام به جِنة: جنون. كسفا من السماء: قطعا من السماء نعذبكم بها. لعبد منيب: تائب راجع الى ربه.
قال بعض الذين كفروا تعجباً واستهزاءً: هل ندلكم على رجل يخبركم أنكم إذا متم وتمزقتْ اجسامكم وتفرقت في ذرات التراب ستبعثون من جديد!
أكذبَ على الله ام به جنون جعله يتوهم ذلك ويتكلم بما لا يدري!؟ ليس الأمر كما زعموا، بل الحقيقة ان الذين لا يؤمنون بالآخرة في ضلال كبير سيؤدي بهم الى جهنم.
أفلَمْ ينظر هؤلاء المكذّبون بالمعاد الى ما حولهم من السماء والأرض ليعلمواقدرتنا على فعل ما نشاء؟ فنحن إن نشأ نخسفْ بهم الارض، او نسقطْ عيلهم قطعاً من السماء تسحقهم. وفي ذلك دليل كاف لكل عبد تواب راجع الى ربه.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: ان يشأ يخسف بهم بالياء، والباقون: ان نشأ نخسف بهم بالنون.(3/119)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
فضلا: نعمة واحسانا. أوّبي معه: سبّحي معه. أَلنّا له الحديد: سهّلنا له العمل به. سابغات: جمع سابغ، الدروع الكاملات. قدِّر في السرد: احكم نسجها وصنعها. غدوّها شهر: سيرها في الغداة اول النهار مدة شهر. ورواحها: رجوعها عشيا مدة شهر. القطر: بكسر القاف، النحاس الذائب. عين القطر: معدن القطر. يزغ: ينحرف. محاريب: مفردها محراب: المعبد، وكل بناء مرتفع. وتماثيل: مفردها تمثال، الصور المجسمة. وجفان: جمع جفنة، وهي القصعة التي يوضع فيها الطعام. كالجوابي: كالاحواض الكبيرة، مفردها جابية. وقدروا راسيات: قدور كبيرة ثابتة في مكانها لعِظمها. اعملوا آل داود شكرا: اعملوا يا آل داود عملا تشكرون به الله. قضينا عليه الموت: حكمنا عليه بالموت. دابة الارض: الأَرَضَة وهي حشرة تأكل الخشب. منسأته: عصاه. خرّ: سقط. ما لبثوا في العذاب المهين: ما مكثوا في العذاب الشاق المذل.
ولقد آتينا داود منّا فضلاً على سائر الناس في وقته، وهو النبوّة والزبورُ والملك والصوت الحسن، وقلنا للجبال رجِّعي معه التسبيح، كما مرنا الطيرَ بالتسبيح معه، وجعلنا الحديد ليِّناً بين يديه. وفي عصر داودَ اكتشف الحديد.
وأوحينا اليه ان يعمل دروعا سابغات طويلة تامة، ثم امرناه ان يعمل هو وآله وكل من يلوذ بهأعمالا صالحة، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
وسخّرنا لسليمان الريح، ذهابُها صباحاً مدة شهر ورجوعُها شهر، يرسلها الى حيث يشاء، وسهّلنا له إذابة معدن النحاس، وسخّرنا له الجنّ يعملون له ما يريد من شتى المصنوعات والقصورَ الشامخة، والمحاريب، والتماثيل، والجِفان الكبيرة التي تشبه الأحواض، والقدورَ الضخمة الثابتة لا تتحرك لعظمها. {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} .
روى الترمذي قال: «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فتلا هذه الآية ثم قال ثلاثٌ من أوتيهنّ فقد أوتيَ مثلَ ما أوتي آل داود: العدْل في الرضا والغضب، والقصد والغنى، وخشية الله في السر والعلانية»
فلما حكمنا على سليمان بالموت لم يدلَّ الجن على موته الا دابةُ الأرض، إذا اكلت عصاه التي كان متكئاً عليها فسقط، فلما سقط علمت الجنُّ انه مات، وانهم لا يعلمون الغيب.
قراءات:
قرأ نافع: منسأته بغير همزة. والباقون: منسأته بالهمزة.(3/120)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
سبأ: منطقة واسعة شرقي اليمن كان بها مملكة مدينتُها مأرب. آية: علامة. جنتان: بستانان. سيل العرم: سيل المطر الشديد، والعرم: السد الذي يمسك الماء. الأكُل: الثمر، والرزق الواسع. الخَمط: المُر من كل شيء، ونوع من شجر الأراك. الأثل: الطفراء لا ثمر له. السِدر: شجر بري يحمل ثمراً يقال له النبق، يؤكل. القرى التي باركنا فيها: هي قرى بلاد الشام. مزّقناهم كل ممزق: فرقناهم في البلاد. سلطان: تسلُّط.
لقد كان لأهل سبأ في مسكنهم بالمين علامة دالة على قدرتنا. . . . كان لهم حديقتان واسعتان تحفّان ببلدهم عن اليمين والشمال، وقد أرسل الله اليهم الرسل تأمرهم ان يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه على هذه النعم الجليلة، ففعلوا الى حين. ثم إنهم اعرضوا، فعاقبهم الله بإرسال سيل العرِم عليهم، فهدم السدَّ وخرّبه وذهب بالجنتين والبساتين، واهلك الحرثَ والنسل، وبدلهم بجنتيهم المثمرتين بساتين فيها من الشجر البرّي الذي لا ثمر له، وشيئاً قليلاً من السدر يثمر النبق لا غناء فيه.
ذلك هو الجزاء الذي جازاهم اياه الله بكفرهم النعمة وعدم شكرها {وَهَلْ نجزي إِلاَّ الكفور} .
كان سد مأرب من أعظم السدود التي تجمع المياء في المين، وكان يسقي مساحة كبيرة قرها المؤرخون والخبراء بنحو ثلاثمئة ميل مربع.
وكانت مدينة مأرب أغنى المدن القديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية ومن أهم المراكز لحضارةٍ وثقافة قديمتين، يرجع تاريخهما الى ما قبل ثلاثة آلاف عام مضت. وكانت محطةَ استراحة لرحلات طويلة لقوافل التصدير التي كانت تنقل المنتجاتِ الزراعيةَ والصناعية كالبخور واللبان والدارصيني والمُرَ والقرنفل والبلسم وسائر العطور، وكذا الصمغ والقرفة ثم الاحجار الكريمة، والمعادن. . . . وعلى مسافة كيلومترين الى الجنوب من مدينة مأرب يقول احد روائع الفن اليمني القديم وهو معبد «المقه» ، ومعناه في لغة سبأ «الإله القمر» ، ويطلق عليه المؤرخون: عرش بلقيس. وهو بناء ضخم على شكل مثلث لا يزال محتفظا برونقه الزاهي ومظهره المصقول، ويبلغ قُطره نحو الف قدم، ولا تزال بعض أعمدته قائمة حتى اليوم.
ولا تزال آثار السد باقيةً الى الآن، ويرجع تاريخ بنائه الى ما قبل 2700 عام، وقد بناه سبأ الأكبر حفيد جد العرب: يعرب بن قحطان. «ملخص عن اليمن عبر التاريخ» .
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا. . . .}
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها. . . .}
وجعلنا بين مسكنهم بالمين والقرى التي باركنا فيها قرىً متقاربة متراصّة، وكانوا في نعمة وغبطة عيش هنيء في بلاد مرضيّة مع كثرة اشجارها وزروعها وخيراتها، حتى إن المسافر لا يحتاج الى حملِ زادٍ ولا ماء، حيث نَزَلَ وجَدَ ماء وثمرا، وقلنا لهم:
{سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} متمتعين بهذه النعم.(3/121)
فبطروا وملّوا تلك النعم،
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ}
اذ عرّضوها للسخط والعذاب، بنكران النعمة وعدم الوفاء بشكرها، فجلعناهم احاديث للناس، وفرقناهم مشتتين في البلاد حتى صار يضرب بهم المثل فيقال: «تفرّقوا أيدي سبأ» أي: متفرقين كأهل سبأ، وأيدي: تعني طُرقا، ومن معاني اليد: الطريق.
ونزلت قبيلة غسان في حوران وأنشأت دولة الغساسنة، وكانت عاصمتهم بُصرى، وعدد ملوكهم 32 ملكا أولهم جفنة بن عمرو وآخرهم جَبَلَة بن الأيهم. «اولاد جفنة بالزمان الأول» . ونزلت قبيلة لَخْم في الحِيرة من ارض العراق واقامت دولة المناذرة. ونزلت قبيلة كِندة في نجد، وبعضهم ذهب الى حضرموت، واسسوا دويلات اليمن عبر التاريخ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
ان فيما حلّ بهؤلاء من النعمة والعذاب عظاتٍ لكل صبّار على البلاء، شكور على النعم والعطاء.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين}
ولقد حقق ابليس ظنه عليهم فأطاعه من كفر، وعصاه قليل من المؤمنين. فبقوا في بلادهم آمنين.
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} .
ما كان لإبليسَ عليهم من سلطاة وقوة يخضعهم بها، ولكن الله امتحنَهم ليَظْهَرَ من يصدّق بالآخرة ممن هو في شك منها، وربك ايها الرسول حفيظٌ على كل شيء، لا يعزُب عن علمه صغير ولا كبير.
قراءات:
قرأ ابو عمر: ذواتَي أكلِ خمطٍ بالاضافة. الباقون: ذواتي أكلٍ خمط بالتنوين. قرأ حمزة ويعقوب والكسائي وحفص: هل نجازي الا الكفورَ، نجازي بالنون، وبنصب الكفور. والباقون: هل يجازي الا الكفورُ، يجازى بالياء مبني للمجهور والكفور مرفوع. وقرأ أبوعمرو وابن كثير وهشام: ربنا بعّد بين اسفارنا، وقرأ يعقوب: باعدَ فعل ماضي، والباقون: باعدْ بين اسفارنا. وقرأ اهل الكوفة: ولقد صدّق ابليس: بتشديد الدال المفتوحة، والباقون صدَق بفتح الدال من غير تشديد.(3/122)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
ادعوا: نادوا. من شِرك: من شركة. من ظهير: معين. فزع عن قلوبهم: ذهب الخوف من قلوبهم. اجرمنا: اذنبنا. يفتح بيننا: يحكم بيننا. الفتّاح: الحاكم.
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ادعوا هؤلاء الأصنام فليجلبوا إليكم نفعاً او يدفعوا عنكم ضرا، إنهم لا يملكون وزن ذرةٍ من الهباء في السموات ولا الارض، وما لهم فيهما من شِركة، وليس لله من هؤلاء الآلهة المزعومة من يعينه على تدبير شئون خلقه.
ولا تنفع الشفاعة عند الله الا لمن يأذَن له ان يشفع عنده، فالشفاعة مرهونةٌ بإذن الله، والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين.
اما الذين جحدوا وأشركوا بالله فليسوا أهلاً لان يأذن بالشفاعة فيهم.
ثم بعد ذلك بيَّن المشهد الذي تقع فيه الشهادة فقال:
{حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلي الكبير} .
وهذا يوم القيامة، اذ يقف الناس وينتظر الشفعاء والمشفعوع فيهم ان يأذن الله بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام، حتى اذا ذهب الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في الشفاعة؟ قالوا: قالاو الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وهم المؤمنون.
{وَهُوَ العلي الكبير} صاحب العلو والكبرياء، يأذن ويمنع من يشاء كما يشاء.
قل ايها النبي: من يأتيكم برزقكم من السماء والأرض، فان قالوا: لا ندري، قل لهم: الله وحده هو الذي يرزق الجميع، وإنا معشرَ المؤمنين او أنتم معشر المشركين - لعلى أحدِ الأمرين من الهدى او الضلال الواضح المبين.
ثم قل لهم ايها الرسول: إنكم لا تُسألون عما ارتكبناه من ذنوب، ونحن لا نُسأل عما تعملون. وقل لهم: الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة ويقضي بيننا بالحق، وهو الحاكم في كل أمرٍ، العليم بحقيقة ما كان منا ومنكم، وهو خير الحاكمين.
وقل لهم ايها الرسول: أروني هؤلاء الذي عبدتموهم وجعلتموهم شركاءَ مع الله وهم لا يستحقون!
{كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم}
ليس الأمر كما وصفتم، فلا نظيرَ له تعالى والذين عبدتموهم لا يستحقون العبادة فهو ذو العزّة المنفر بها، والحكيم في تدبيره للأمور وتصريفه.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي: لمن أُذن له بضم الهمزة. والباقون: أَذن بفتح الهمزة. وقرأ ابن عامر ويعقوب: اذا فَزَع بفتح الفاء والزاي، والباقون: اذا فُزع بضم الفاء وكسر الزاي.
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}
في هذه الآيات الكريمة يبيّن الله ان رسالة سيدنا محمد عامةٌ للناس أجمعين، جاء مبشراً من أطاع بالثواب العظيم، ومنذِرا من عصا بالعذاب الأليم.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ، وهذا الجهل يحملهم على الإصرار على ما هم فيه من الضلال.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
تقدمت هذه الآية بالنص في سورة يونس 48.
قل لهم ايها الرسول: لا تستعجِلوا، ان لكم ميعاد يوم عظيم، لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون. وان هذا اليوم كائنٌ لا محالة.(3/123)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
يرجع بعضهم الى بعض القولَ: يتحاورون ويرد بعضهم على بعض. أندادا: نظراء، جمع ند. يقال هو نده ونديده: مماثل له. وأسرّوا: أخفوا. الاغلال: قيود الاعناق.
وقال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته. ولو ترى ايها الرسول موقفَ هؤلاء الظالمين يوم القيامة، ففيه يتحاور المشركون ويكذّب بعضهم بعضا، ويتلاومون على ما كان بينهم.
يقول الأتباع لسادتِهم وكبرائهم: لولا أنّكم صددتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول. فيرد عليهم الذين استكبروا في الدنيا وكانوا رؤوس الكفر والضلال: أنحنُ منعناكم من اتّباع الحق! بل انتم أجرمتم وآثرتم الكفر على الايمان.
ثم يقول المستضعَفون: ما صدَّنا عن الإيمان الا مكركم ايها الرؤساء بالليل والنهار، اذ تأمروننا بالكفر بالله وان نجعل له شركاء وامثالاً.
وعند ذلك يندمون على ما عملوا ولا ينفعهم الندم {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} ، وهذا جزاء الظالمين الجاحدين.(3/124)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
مترفوها: المتنعمون الذين أبطرتهم النعمة. يبسط الرزق: يوسعه. ويقدر: يضيق. زُلفى: قربى، زلف يزلف زلفا: تقرب. فأولئك لهم جزاء الضعفِ: الجزاء المضاعف. الغرفات: جمع غرفة في أعالي الجنان. معاجزين: جمع معاجز وهو الذي يحاول تعجيز الانبياء.
يسلّي الله تعالى رسوله الكريم على ما ابتلي به من مخالفة مترفي قومه له، وعداوتهم إياه، بالتأسي بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعاً من بينهم، فما من نبيّ بُعث في مكان الا كذّبه المتنعمون واتَّبعه ضعفاؤهم. وهو هنا يبيِّن حجتهم وتبجّحهم بقولهم إنهم لا حاجة لهم الى الايمان بالله، فما هم فيه من مال وما عندهم من اولاد برهانٌ على محبة الله لهم. فيرد عليهم بأن بَسْطَ الرزق وتقتيره ليس دليلا على رضا الله او غضبه، وان ذلك مرتبط سننٍ قدّرها الله في هذه الحياة، فمن احسنَ استعمالها استفاد منها. . . . وأن كثرة الأموال والاولاد لا تقربهم الى الله اذا لم يؤمنوا، وان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يضاعَفُ لهم الجزاء ويتمتّعون بغُرف الجنان، {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} . أما الذين يصدّون عن سبيل الله فإنهم {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} .
ثم يحثّ المؤمنين على الانفاق وبذل المال واللهُ يخلُفه عليهم ويعوضهم بأكثر منه {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} .
روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة رضي الله عنهـ «ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» ما من يومٍ يصبح العباد فيه الا مَلَكان ينزلان، فيقول احدهما: اللهمّ أعطِ منِفقاً خَلَفا، ويقول الآخر اللهم أعطِ ممسِكاً تلفا «
ثم بين بعد ذلك كيف يسأل الله الملائكة يوم القيامة ويقول لهم:
{ {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ؟ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}
فيتنصل الملائكة من ذلك ويقولون: إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم، بل كانوا يعبدون الجن وكانوا لتأثيرهم خاضعين.
ثم بين بعد ذلك أنهم لا ناصرَ لهم ولا ينفع بعضهم بعضا، إذ يقال للظالمين {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدنيا.
قراءات:
قرأ حمزة وحده: في الغرفة بالافراد، والباقون: في الغرفات بالجمع.(3/125)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
تتلى: تقرأ. بينات: واضحات. يصدكم: يمنعكم. افك: كذب، واختلاق. معشار: عشر. نكيري: انكاي. مثنى: اثنين اثنين. فرادى: واحدا واحدا. ما بصاحبكم من جنة: ليس صاحبكم مجنونا. بين يدي عذاب: امام عذاب. يقذف بالحق: يلقي بالحق. ما يبتدىء الباطل: ما يبتدىء الباطل. وما يعيد: وما يكرره.
بعد ان ذكر الله ان المشركين هم أهل النار يوم القيامة حيث قال لهم: ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذّبون - أعقب ذلك بذكرِ ما لأجله استحقوا العذاب، وهو صدّهم الناس عن دعوة الرسول الكريم، وأنهم إذا قرأ الرسول عليهم آياتنا واضحات، قالوا: هذا رجل يريد ان يمنعكم عبادة ما كان يعبد آباؤكم من الاصنام، فقولُه كذبٌ مفترى، وسحر مبين، وخِداع ظاهر، واننا لم نؤتهم كتبا قبل القرآن يدرسونها، وما ارسلنا اليهم قبلك من نذير.
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
لقد كذّب الرسلَ قبلكم كثير من الأمم، وكانوا اكثر منكم قوة ومالا، ولم تبلُغوا أيها المشركون معشار ما منحنا أولئك من القوة والمنعة، ومع ذلك أخذهم الله بظُلْمِهم وتمردهم، وأهلكهم أجمعين.
{قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
قل لهم ايها الرسلو: إنما أعظُكم بخصلة واحدة هي: ان تقوموا مخلِصين لله بعيدين عن التقاليد والأهواء، وفكِّروا بجِدٍّ مجتمعين ومتفرقين بأن صاحبكم ليس مجنونا، وما هو الا نذير لكم أما عذابٍ شديد قادم عليكم.
وقل ايها الرسول: ما سألتكم أجراً على هذه الرسالة التي أحملها اليكم لإصلاح أمركم، خذوا انتم الأجر، وما أجريَ الا على الله وهو كل شيء رقيب مطلع.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب}
قل ايها الرسول: ان - الله يلقي بالحق على من يصطفيه، وهو يرمي بهذا الحق في وجه الباطل فيمحقه. إنه هو علام الغيوب، لا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية.
{قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ}
قل ايها لارسول: لقد جاء هذا الحق في الرسالة والقرآن وفي منهجهما المستقيم، وقد انتهى أمرُ الباطل، وهلك الشِرك وما عادت له حياة ولم تبقَ منه بقية تبدي شيئاً او تعيده.
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}
قل ايها الرسول: ان ضلَلتُ وانحرفت عن الهدى فإنما ضرر ذلك يعود على نفسي، وان اهتديتُ فبإرشاد ربي، وبوحيه وتوفيقه، غنه سميع لقولي وقولكم، قريبٌ مني ومنكم، والخير كله منه.(3/126)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
اذ فزعوا: اذ خافوا. فلا فوت: فلا مهرب. ويقذفون بالغيب: ويرجّحون بالظنون. أنى لهم التناوش: من اين لهم التناول، يقال ناشه: تناوله. بأشياعهم: بأشباههم وأمثالهم من كفرة الأمم. مريبٍ: مُوقعٍ في الريبة.
في ختام السورة يبين الله حالة الجاحدين وكيف يتولاهم الفزعُ والخوف الرهيب في ذلك اليوم العصيب. ولو ترى ايها الرسول هؤلاء المكذّبين اذ تملّكهم الفزعُ يوم القيامة عندما يرون العذاب الشديد - لرأيتَ ما يعجز القول عن وصفه، فلا مهربَ لهم من العذاب، وأُخذوا الى النار من مكان قريب.
وقالوا عندما شاهدوا العذاب: آمنا بالحق، لكنْ أنى لهم تناولُ الايمان بسهولة من مكان بعيد هو الدنيا، وقد خرجوا منها وانقضى وقتها! لقد كفروا بالله ورسوله وملائكته من قبل.
{وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}
ذلك حين أنكروا هذا اليومَ، وكذّبوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء، واليوم يحاولون تناول الايمان، وذلك بعيد عنهم.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}
فلا رجوعَ الى الدنيا، ولا ينفع يمانُهم، كما قال تعالى ايضا: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84، 85] .
{كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبِ}
لقد كان لهم أِباهٌ ونظائر من الأمم السابقة، أعرضوا عن ربهم في الحياة الدنيا فتمنَّوا الرجوع الى الدنيا حين رأوا بأس الله: لأنهم كانوا في حياتهم السابقة شاكّين فيما أخبرتْ به الرسلُ من البعث والجزاء.
وهكذا ختمت هذه السورة الكريمة بهذا العنف، وبتصويرٍ حيّ لمشهد من مشاهد القيامة، وعندها يظهر اليقينُ بعد الشك المريب.(3/127)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
فاطر السموات والأرض: خالقهما، فَطَرَ الشيءَ أوجده على غير مثال: رسلا: وسائط بينه وبين انبيائه يبلّغون عنه رسالاته. مثنى وثلاث ورباع: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة اربعة، ما يفتح الله: ما يعطي الله. انى تؤفكون: كيف تُصرفون عن توحيد الخالق، وعن الحق الى الضلال.
الثناء الجميل والشكر لله تعالى، منشىء هذا الكون وما فيه من خلائق على غير مثال سابق، جاعل الملائكة رسُلا الى خلقه، ذوي اجنحة متعددة مختلفة. فهو {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ} ان يزيدَ من الأعضاء، لا يعجزه شيء {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ولأول مرة يأتي وصف للملائكة بأنهم أشكال، لهم اجنحة متعددة. وليس هذا بغريب، فان بعض المخلوقات لها عدد من الأرجل والاشكال. وفيما نشهده ونراه اشكال لا تحصى من الخلق، وما لا نعلم اكثرُ بكثيرٍ مما نعلم، ولا نعرف إلا القليل القليل عما هو موجود في هذا الكون: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الاسراء: 85] .
وبعد ان يقرر الله تعالى انه على كل شيء قدير - يوضح هنا ان كل شيء في هذا الكون بيده، يتصرف فيه كيف يشاء، فحين يفتح الله أبواب رحمته للناس لا يستطيع أحدٌ إغلاقها، ومتى أَمسكها فلا احد يستطع فتحها، فمفاتيحُ الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه وتعالى، {وَهُوَ العزيز الحكيم} صاحب العزة والسلطان والحكمة.
روى ابن المنذر عن عامر بن عبد القيس قال: اربع يات من كتاب الله اذا قرأتُهن فما أبالي ما أُصبح عليه وأمسي:
1 - ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل لها من بعده.
2 - وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو، وإن يردْك بخير فلا رادّ لفضله. . . . يونس: 107
3 - سيجعل اللهُ بعد عسرٍ يسراً. . . . الطلاق 7.
4 - وما من دابةٍ في الأرض الا على الله رزقها. . . هود 6
وهذا يعني ان عامر بن عبد القيس كان يقرأ هذه الآيات ويستأنس بها ويعمل بها.
ثم يؤكد الله تعالى في الآية الثالثة أنه الخالقُ الوحيد الذي يرزق عبادَه من السماء والارض، وانه لا اله الا هو، لذلك يجب على الناس جميعاً ان يذكروا نعمة الله عليهم ويحمدوه ويشكروه، ليحفظوا هذه النعم ويؤدوا حقها.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: هل من خالق غير الله بجرّ غيرِ، والباقون: غير بالرفع.(3/128)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
الغرور: بفتح الغين: الشيطان، وقد فسره في الآية التي بعدها. السعير: نار جهنم.
بعد ان قرر الله التوحيدَ وهو أصلُ الأصول في الايمان - ذكر هنا الأصلَ الثاني وهو الرسالة، وسلّى رسوله الكريم عن تكذيب قومه له بأنه ليس ببدعٍ بين الرسل، فقد كُذِّب كثيرٌ منهم قبله، فعليه ان يتأسّى بهم ويصبر على أذى قومه، والى الله مرجعُ الجميع.
ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعثُ والنشور، وانه حق لا شك فيه. . . فلا تغرَّنكم الحياة الدنيا، فيذهلكم التمتعُ بها وبزخرفها عن طلب الآخرة، ولا يخدعنّكم الشيطان عن اتّباع الرسول، ان الشيطان لكم عدوٌّ قديم فلا تنخدعوا بوعوده، واحذروا منه واتخذوه عدوا حقيقيا.
{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
الذين كفروا من أتباعِ الشيطان واغتروا به هم أصحابُ النار، يقابلهم الذين آمنوا فلم ينخدعوا باقوال الشيطان، بل آمنوا بالله وعزّروا إيمانهم بالعمل الصالح. . . وهؤلاء اصحاب الجنة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} من الله.
ثم بيّن البعدَ بين الفريقين: الضالين والمهتدين، واختلاف حالهم فقال:
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}
أفمن زين له الشيطان عمله السيّء فرآه حسنا هو في الواقع كمن هداه الله فرأى الحسنَ حسنا والسيء سيئا؟ انهما لا يستويان أبدا.
{فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}
يضلّ من يشاء من الجاحدين الذين ارتضوا سبيل الضلال، ويهدي من يشاء ممن اختاروا سبيل الهداية.
ثم يخاطب الرسولَ الكريم حتى يسليه فيقول:
{فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
فلا تُهلك نفسَك حزناً على الضالين الذين لم يؤمنوا وحسرةً عليهم، ان الله محيط علمه بما يصنعون من شر فيجزيهم به.(3/129)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
ارسل الرياح: أطلقها. تثير: تحرك. بلد ميت: لا نبات فيه. النشور: إحياء الاموات يوم القيامة. العزة: الشرف والمنعة. يبور: يفسد ويهلك من البوار وهو الهلاك. ازواجا: اصنافا، ذكورا واناثا. يعمّر: يمد في عمره: طال عمره.
الله الذي يرسل الرياحَ فتحرّك سحاباً كان ساكنا، فيسوقه الى بلدٍ ميتٍ لا نبات فيه، فيحيي به أرضَها بعد جدْبها ويبسها، كذلك يحيي الامواتَ ويبعثهم للحشر يوم القيامة.
من كان يريد الشرف والمَنَعة فإنهما لله جميعا يَهبُهما لمن يطيعه، إليه يرتفع الكلام الطّيب والعملُ الصالح فيقبلهما ويثيب عليهما، وللذين يمكرون ويدبّرون المكائد للمؤمنين عذابٌ شديد، أما تدبيرهم ومكرهم فهو فاسد لا قيمة له ولا يحقق غرضاً.
والله تعالى خلقكم ايها البشَر من تراب، ثم خَلَقَكم من نطفة هي الماء الذي يصبّ في الأرحام، ثم جعلكم ذكوراً واناثا. وما تحمل انثى ولا تضع حَملها الا بعلمه تعالى، وما يمد في عمرِ أحدٍ ولا ينقص من عمره الا مسجَّلٌ في كتاب، ومقرر في علم الله القديم.
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} .
قراءات:
قرأ ابن كثير والكسائي: الريح بالافراد. والباقون: الرياح بالجمع. وقرأ نافع وحمزة اولكسائي وحفص: الى بلد ميّت بتشديد الياء. والباقون ميت بسكون الياء. وقرأ يعقوب وحده: ولا ينقص بفتح الياء. وضم القاف. والباقون: ولا ينقص بضم الياء وفتح القاف.(3/130)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
العذب: الطيب السائغ من الماء والشرب والطعام والكلام. الفرات: الوافر والشديد العذوبة. سائغ: سهل المرور في الحلق. أُجاج: شديد الملوحة. حلية: كل ما يتحلى به الانسان من لؤلؤ ومرجان وغير ذلك. مواخر: جمع ماخرة تشق الماء حين جريانها. يولج: يدخل. القطمير: القشرة الرقيقة التي على نواة التمرة. يكفرون بشرككم: يجحدون باشراككم وعبادتكم لهم. ولا ينبئك مثل خبير: ولا يخبرك بالأمر مثل الخيبر به. ولا تزر وازرة وزر اخرى: لا تحمل نفس آثمة اثم نفس اخرى، يعني لا يحمل احد ذنب الآخر، الوزر: الذنب. المثقلة: النفس التي أثقلتها الذنوب. تزكى: تطهر من دنس الأوزار.
وما يستوي البحران: أحدُهما ماؤه عذْب شرابه سائغ يجري في الانهار المفيدة للناس فيحي الاقاليم والامصار، والثاني مالح ساكن تسير فيه السفن. ومن كلٍ منها تأكلون السمك الطري فضلا من الله، كما تستخرجون حلياً، كالدرّ والأصداف والمرجان وغيرها، وتجري السفن في كل منهما تشقه شقا لتطلبوا من فضل الله ما تحصلونه بالتجارة. ولعلّكم تشكرون لربكم هذه النعم.
إنه يُدخل الليلَ في النهار ويدخلُ النهارَ في الليل، وسخَّر الشمس والقمر كلٌّ يجري الى موعدٍ مقرر. والذي يصنع هذا كلَّه هو الله ربكم، له الملك التام والسلطان الملطق، أما لاذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان فإنهم لا يملكون شيئا مهما كان صغيرا تافها.
وهذه الآلهة لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرّون، وان تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا دعاءَكم ما أجابوكم بشيء مما تطلبون. وهم ينكرون اشراككم لهم مع الله يوم القيامة.
{وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
ولا يخبرك الحقيقة الا الخبير العليم، الله تعالى:
يا ايها الناس: انتم الفقراء المحتاجون إلى الله في كل شيء والله هو الغني عن خلقه المستحق للحمد على كل حال.
والله إن شاءَ يهلككم ويأتي بخلْقٍ جديد يطيعونه ويؤمنون به، وليس هذا على الله بمستحيل.
ثم أخبرَ عن أحوال يوم القيامة فقال:
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}
في ذلك اليوم العصيب يكون كلُّ انسان مسئولا عن اعماله وعن نفسه، فلا تحمل نفسٌ مذنبةٌ ذَنْبَ نفس اخرى.
وان تسأل نفسٌ ذاتُ حَملٍ ثقيل أحداً أن يحمل عنها بعض ذنوبها لن تجد من يجيبها أو يحمل عنها شيئا، وذلك لانشغال كل انسان بنفسه. {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوتَه وإصرارهم على عنادهم فقال:
{إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير}
لا تحزن ايها النبي لعنادِ قومك، انماينفع تحذيرُك الذين يخافون ربهم ويقيمون الصلاة، ومن تطهَّرَ فانما يتطهر لنفسه، والى الله المرجع في النهاية.(3/131)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
استوى هذا وذاك: تساويا. الظل: الفيء جمعه ظلال. الحرور: الريح الحارة، السموم. خلا: سلف ومضى. الزُّبُر: مفردها زبور: الكتب. نكيري: انكاري لعملهم. جدد: واحدها جدة، وهي الطرق المختلفة الألوان في الجبل ونحوه. غرابيب: واحدها غربيب وهو شديد السواد.
ليس يتساوى الأعمى الذي لا يهتدي والبصيرُ الذي آمن واهتدى، ولا ظلمات الكفر مع نور الايمان، وما يستوي أحياءُ القلوب بالإيمان بالله ورسوله مع أمواتِ القلوب بالكفر والعناد. {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا؟} [الأنعام: 126] .
{إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} ان الهداية والتوفيق بيده سبحانه. {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} جعل الله المشركين كالأموات الذين في القبور لا يسمعون. وما انت ايها لرسول الا نذير تبلّغ وتنذر.
إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي مبشراً بالجنة من صدَّقك، ومنذرا بالعقاب من كذَّبك، وما من أمة من الأمم الماضية الا جاءها من عند الله من ينذرها. وإن يكذَّبْك قومك فقد كذّب الذين من قبلهم رسُلهم حين {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} .
ثم أخذتُ الذين كفروا أخذاً شديدا، فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وغضبي عليهم!!
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}
الم تشاهد أيها الرائي أنا خلقنا الاشياءَ المختلفة من الشيء الواحد، فأنزلنا من السماءِ ماءً وأخرجنا به ثمراتٍ مختلفةً ألوانُها وطعمها ورائحتها.
{وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}
وخلق في الجبال طرقاً بيضاً وحمرا وذات الوان اخرى، وجعل منها جبالاً سودا حالكة.
هذا كما خلق من الناس والدوابّ والإبل والبقر والغنم الواناً مختلفة كذلك في الشكل والحجم واللون.
ولم عدّد الله آياتِه وأعلامَ قدرته وآثارَ صنعه بيّن انه لا يعرف ذلك حقَّ المعفرة الا العلماءُ بأسرار الكون، العالمون بدقائق صنعه، فهم الذين يخشون ربهم حقَّ الخشية:
{إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} .(3/132)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
يتلون كتاب الله: يقرأونه ويتّبعونه. يرجون تجارةً لن تبور: مغفرة من الله لن تكسد. الكتاب: القرآن. مقتصد: عاملٌ به تارةً ومخالف له اخرى. سابق: متقدم الى ثواب الله. جنات عدْن: جنات الاقامة. أذهَبَ عنا الحزن: الخوف. دار المقام: دار الاقامة، دار الخلود، وهي الجنة. النصَب: التعب. اللغوب: الفتور والكلال.
ان الذين يقرأون كتاب الله، فيعملون به، قد أقاموا الصلاة على وجهها، وانفقوا مما رزقناهم على المحتاجين والمصالح العامة وفي سبيل الله، سرا وجهرا يتاجرون تجارة رابحة عند الله لا تكسد، وسيوفّيهم الله أجورهم ويزيدهم من فضله {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
ثم اشار الى طبيعة الكتاب، وما فيه من الحق، تمهيداً للحديث عن ورثة هذا الكتاب:
{والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لما سبقه في العصور من الكتب المنزلة على الرسل قبلك، أنها من نبع واحد، {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
ثم جعلْنا هذا الكتابَ ميرثاً للذين اخترناهم من عبادنا، فكانوا فئات ثلاثاً: فمنهم ظالمٌ لنفسه بغَلَبة سيئاته على حسناته، ومنه مقتصد لم يسرف في السيئات ولم يكثر من الحسنات، ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله.
{ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من الله لا يقدَّر قدره.
ثم بين جزاءهم ومآلهم بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
ويقولون عند دخولهم الجنة: الحمدُ لله الذي أذهبَ عنا الخوفَ من كل ما نحذر. {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أنزَلَنا دار النعيم الدائم من فضله لا يصيبنا فيه تعبٌ ولا يمسّنا فيها إعياءٌ ولا فتور.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: يدخَلونها بضم الياء وفتح الخاء، والباقون يدخلونها بفتح الياء وضم الخاء.(3/133)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
لا يقضي عليهم: لا يحكم عليهم بموت ثان. يصطرخون: يصيحون أشد الصياح للاستغاثة.
نعمّركم: نمهلكم. خلائف: جمع خليف وهو الذي يخلق من قبله.
ثم بيّن حال الجاحدين الكافرين وما ينتظرهم من عذاب فقال:
{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا}
هؤلاء الذين لم يؤمنوا واستمرّوا على عنادهم وجحودهم سيكون مقامُهم في نارِ جهنّم يعذَّبون فيها لا يموتون، ولا يخفف عنهم العذاب.
{كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} هذا جزاء كل من يكفر.
وهم من شدة العذاب يستغيثون فيها قائلون: ربنا، أخرِجنا من النار حتى نعملَ صالحاً غير الذي كنا نعمله في الدنيا، فيقول لهم:
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}
ألم نمكّنكم من العمل ونُطِلْ أعماركم زمنا يمكن فيه التدبر لِمَنْ يريد ذلك؟ لقد جاءكم الرسول يحذّركم من هذا العذاب. . . . فذوقوا في جهنم جزاء ظُلمكم ومخالفتكم للانبياء في حياتكم الدنيا. {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} .
ان الله مطلع على كل غائب في السموات والأرض، لا يغيبُ عن علمه شيء، ولو أجابكم وأعادكم الى الدنيا لعُدتم الى ما نهاكم عنه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} .
والله هو الذي جعل بعضكم يخلُفُ بعضاً في تعمير الأرض وتثميرها، فمن كفر بالله فعليه وِزْرُ كفرِه، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم الا مقتا وبغضا.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وحده: كذلك يجزي كل كفور بضم الياء وفتح الزاي. والباقون: نجزي بفتح النون وكسر الزاي.(3/134)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
أرأيتم: أَخبروني. ام لهم شِرك: ام لهم شركة. يمسك: يحفظ. جهد ايمانهم: بالغو في ايمانهم. نفورا: تباعد.
أخبِروني ايها المشركون عن شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله، ماذا خلقوا؟ ألهم شركة مع الله في خلق السموات؟ أم أعطيناهم كتابا ينطق بأنّا اتخذناهم شركاءَ، فهم على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب
{بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً}
ان وعد بعضهم لبعض أن الآلهة التي يعبدونها من دون الله ستشفع لهم - هو كذب وغرور.
ان الله يحفظ السمواتِ من الخلل او من الزوال، بنظام دقيق. ولو انها زالت لما كان هناك احد في الكون يمنعها الا الله.
{إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} يحلم وينظِر، ويؤجّل ولا يعجّل، ويستر ويغفر.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}
أقسم المشركون بالله باغلظ الايمان، وبالغوا فيها اشد المبالغة، لئن جاءهم رسول ينذرهم ليكونُنّ اكثر هداية من كل امة من الأمم التي خلت من قبلهم.
{فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً}
فلما جاءهم رسول منهم ينذرهم ما زادهم مجيئه وانذارُه ونصحه الا نفورا عن الحق. {استكبارا فِي الأرض وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ}
لقد نفروا استكبارا في الأرض وأنفة من الخضوع للرسول الكريم وللدينِ الذي جاء به، ومكروا مكرا سيئا، ولا يحيط شرر المكر السيء الا بأهله الذين دبروه.
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً}
هل ينتظر هؤلاء المشركون الا ما جرت به سنّة الله في الذين سبقوهم، وسنّةُ الله في معاملة الأمم لن تتبدل، ولن تتحول.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وحفص: على بينة بالافراد والباقون: على بينات بالجمع.(3/135)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
الدابة: كل حيوان يدب على الأرض بما فيه الانسان.
أوَلَم يَسِرْ هؤلاء المشركون أثناء رضحلاتهم الى الشام ويروا الأرض التي اهلكنا فيها أهلَها بكفرهم وجعلناهم مثلاً لمن بعدهم. لقد كان أولئك أقوى منهم واغنى فلم تمنعهم قوتهم من عذاب الله.
{وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً}
وهذا تهديدٌ لهم أنهم إذا ساروا على تمرّدِهم وعنادهم فمصيرهم مصيرُ منسبقَهم، وان هذا سهلٌ عليه، ولا يُعجِزه شيء يريده في هذا الكون الكبير كله.
ولو يؤاخذ الله الناس بما يكسبونه من آثام وما يجرّونه على أنفسهم من الفتن، ما تَرَكَ على ظهر الأرض دابةً تدبّ عليها، ولكنه يؤخرهم الى يوم الحساب والجزاء، فإذا جاء موعدُهم هذا فسيجازيهم بكل ما عملوا ولا يفلِتُ من حسابه احد، إنه باعمال عباده بصير لا يخفى عليه شيء.(3/136)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
صراط مستقيم: طريق قويم من عقائد صحيحة وشرائع حقة. حق القول: ثبت القول. الأغلال: واحدها غُل بضم الغين، وهوما تشد به اليد الى العنق للتعذيب. قمح الغلُّ الأسير: ضاق على عنقه فاضطره الى رفع رأسه. فمعنى فقمحون: رفعوا رؤوسهم وغضوا ابصارهم من الذل. من بين ايديهم: من امامهم. فأغشيناهم: غطينا ابصارهم وجعلنا على اعينهم غشاوة. الذِكر: القرآن. ما قدّموا: ما عملوا من الأعمال. وآثارهم: ما أبقوه من الحسنات او السيئات. في امام مبين: في أصلٍ يؤتمّ به. . . .
يس: تُلفظ ياسين. من الحروف التي ابتدئت بها بعض السور، وتقدّم الكلامُ عليها، وقال بعضهم: معناها: يا إنسان، او الحكيم. وشاع عند الناس أنها اسم للرسول الكريم، وسمّوا بها. أقسم الله تعالى بالقرآن الكريم أنك أيها الرسول الكريم من المرسَلين الذين أرسلهم لهداية الناس الى دين قويم، وشرع مستقيمٍ من التوحيد ومكارم الأخلاق. وذلك لتنذِرَ قوماً لم يأتِهم نذير قبلك، فهم غافلون عما يجب عليهم وفي غفلة ساهون.
{لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}
لقد وجب العقاب على أكثرِهم لعدم إيمانهم.
{إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً. . . .} مرتفعة إلى أذقانِهم، ولذلك ترى رؤوسَهم مرتفعة مشدودةً الى الوراء، لا يستطيعون ان يطأطئوها. وجعلنا أمامهم سدّا ومن خلْفِهم سدّا فهم محبوسون في سِجن الجهالة، وغطينا على أعينِهم فهم لا يُبصرِرون. وإن إنذارَك لهم وعدَمه سوء، فهم لا يؤمنون.
انما تنذرُ من اتبع القرآنَ، وخشي الله في سريرته، فبشِّره بمغفرةٍ من الله وأجرٍ كريم.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} ونسجل عليهم ما قدّموا من الأعمال الحسنة والسيئة.
{وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} في اللوح المحفوظ.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي وروح وابو بكر: يس بإمالة الياء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص: تنزيلَ بفتح اللام، والباقون: تنزيلُ بالضم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: سَدّا بفتح السين. والباقون: بضمّها، وهما لغتان.(3/137)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
ضربُ المثل: تشبيه حالٍ غريبة بأخرى مثلها. القرية: يقول كثير من المفسرين انها انطاكية، والرسل غير معروفين ولم يردْ خبر صحيح عنهم. فعزّزنا بثالث: فقويناهم بثالث. البلاغ المبين: التبليغ الواضح. تطيّرنا: تشاءمنا بكم. لنرجُمنكم: لنرمينكم بالحجارة. طائركم معكم: شؤمكم معكم. ائن ذكِّرتم: أئن وُعظتم بما فيه سعادتكم تتشاءمون بنا! مسرفون: مجازون الحد في العصيان. لا تغني: لا تنفع. ولا يُنقِذون: ولا يخلصونني. . . .
يذكّرهم الله تعالى بقومٍ مثلهم في الكفر والعناد والإصرار على التكذيب، فيقول: اذكر لقومك أيها النبي قصةَ أهل قريةِ انطاكية لمّا أرسلنا إليهم الرسلَ لهدايتهم. . . . أرسلنا اليهم رسولَين اثنين، فكذّبوهما، فوّيناهما بثالثٍ وقالوا لهم: لقد أرسلَنا الله إليكم، فقال اهل القرية لهم: ما أنتم الا بشرٌ مثلنا وليس لكم علينا مَزِية، وما أنزل الرحمنُ إليكم شيئا، ولا أمَرَكم بشيء، وما انتم الا كاذبون.
قال الرسل مؤكدين رسالتهم: الله يعلم أنّا رسُلُه اليكم، وما علينا الا ان نبلّغكم رسالته. . . وقد فعلْنا.
فقال اهل القرية مهدِّدين: إنّا تشاءمنا بكم، لئن لم تتركوا ما تقولون قتلْناكم رجماً بالحجارة ولحِقَكم منا عذابٌ شديد.
فقال الرسل لهم: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} شؤمُكم معكم {أَإِن ذُكِّرْتُم؟} بمعنى: أئن وُعظتم بما فيه سعادتكم تتشاءمون بنا؟ فخبر «أئن ذُكرتم» محذوفٌ. . . .
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} بالبغي والعناد والكفر.
وفي هذه الأثناء يأتي رجلٌ مؤمن من أقصى أطراف المدينة مسرعاً لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل.
{قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}
بعد ذلك بيّن لهم ذلك الساعي انه ما اختار لهم الا ما اختار لنفسه فقالك وأيَّ شيء يمنعني ان أعبدَ الذي خلقني {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وكيف أعبد آلهة لا تفيدني شفاعتُهم شيئاً إن أرادني الله بسوء، {وَلاَ يُنقِذُونَ} ولا يخلصونني من أي سوء! اذا فعلت ذلك فأنا في ضلال مبين.
ثم التفت الى الرسل وخاطبهم بما يثبت ايمانه بالله فقال:
{إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} اشهدوا لي بذلك عنده.
{قِيلَ ادخل الجنة قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ} بغفران ربّي لي وإكرامه إياي، فيؤمنون كما آمنت. إنه يتمنى لو يرى قومُه ما اعطاه الله من الرضى والكرامة لعلهم يؤمنون.
قراءات
قرأ ابو بكر: فعززنا بفتح الزاي الأولى من غير تشديد. والباقون بالتشديد.(3/138)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
الجند: الملائكة. خامدون: ميتون. الحسرة: شدة التلهف والحزن. ويقال: واحسرتا، ويا حسرتا. محضَرون: للحساب والجزاء. من القرون: من اهل القرون القديمة. الازواج: الأصناف.
وما انزلنا على قوم ذلك المؤمنِ جندا من السماء نهلكهم على أيديهم. إن أمْرَهم كان أهونَ من لذلك، وما تحمَّلوا إلا صيحة واحدة فاذا هم أمواتٌ لا حراك بهم.
{ياحسرة عَلَى العباد} تُتاح لهم فرصة النجاة فيُعرِضون عنها، وما نبعث إليهم برسولٍ إلا كانوا به يستهزئون.
ألم يروا مصارع الهالكين قبلهم من أهل القرون الغابرة ويدركون أنهم لا يرجعون على مدار السنين وتطاول القرون!! لقد كان في هذا عظةً لمن يتدبّر.
ولكن الله تعالى لا يتركه يفتلون من الحساب.
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}
ذلك يوم القيامة. والدليل على قدرتنا على البعث والنشور تلك الأرض المجدبة، نحييها بانزال الماء عليها ونخرج منها حَباً يأكلون منه، كما نُنشىء فيها حدائق وبساتين من نخيل وأعناب، ونجعل فيها أنهاراً وعيونا من الماء العذب الصافي {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} خالقَ هذا النعم؟
سبحان الذي خلق هذا الخلْقَ العظيم، من أزواج على سُنّة الذكورةِ والأنوثة، وخَلَقَ أنواعَ الكائنات مما تنبت الأرض ومن الأنفس، وخَلَقَ ما نعلم، وفيه الدليل الكبير على عظيم قدرته تعالى.
قراءات
قرأ عاصم وابن عامر وحمزة: وان كل لمّا بتشديد الميم. والباقون: لما بفتح الميم دون تشديد. وقرأ نافع: الأرض المِّيتة بتشديد الياء. والباقون: المْيتة باسكان الياء. وقرأ الكوفيون: ما عملتْ ايديهم، الا عاصما: ما عملته أيديهم.(3/139)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
نسلخ منه النهارَ: نزيل النهار منه ونضع الليل مكانه. مظلِمون: داخلون في الظلام. قدّرناه منازل: جمعُها منزلة، وعددها اثنتا عشرة منزلة. العُرجُون: العنقود من النخلة الذي يحمل الرطب. لا ينبغي لها: لا يتيسر لها. أن تدرك القمر: ان تجتمع معه في وقت واحد. وكل في فلكٍ يسبحون: كل هذه الاجرام يسبح في فلك عظيم واسع. الفُلك: السفينة. المشحون: المملوء. فلا صريخَ لهم: فلا مغيث لهم.
من آيات الله وبديع صُنعه تعاقبُ الليل والنهار، فالليلُ يسلخ من النهار والنهار يسلخ من الليل، نتيجةً لدوران الأرض حول محورها من الغرب الى الشرق، فتشرق الشمس على بعض الآفاق فيكون عندهم نهار، وتغيب عن البعض الآخر بانتظام فيكون عندهم ليل. وإنها لَظاهرة فلكية عظيمة الأهمية في حياة لاجنس البشري وكافة الأحياء على هذه الارض.
والشمس تسير الى مستَقّرٍ لهان بقدرة الله العزيز العليم. وقد ثبت للعلماء أخيراً ان للمشس دورتين: احداهما حول محورها مرة في كل ستة وعشرين يوما تقريبا، والثانية دورانها مع كل توابعها من الكَواكب السيارة واقمارها حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدَّر بنحو مائتي ميل في الثانية. والشمس واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومي.
واذا علمنا ان هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثاً - أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم.
{والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم}
وجعلْنا سير القمر منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل واحد منها كل ليلة، إذ يبدو في اول الشهر هلالاً ضئيلا، ثم يزداد ليلة بعد ليلة الى ان يكتمل بدراً، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود ضئيلاً مثل عُرجون النخلة. ثم يستتر ليلتين، او ليلة اذا نقص الشهر.
والمنازل هي: السرطان، البطين، الثريا، الدبرَان، الهقعة، الهنعة، الذراع المقبوضة، النثرة، الطرف، جبهة الأسد، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك الأعزل، الغفر، الزبانى الاكليل، قلب العقرب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الاخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخر، بطن الحوت.
لا الشمسُ يمكنها أن تخرج عن هذا النظام البديع فتلحقَ بالقمر وبينهما مسافة هائلة، ولا الليل يتأتى له ان يغلب النهار ويحول دون مجيئه، بل هما متعاقبان، وكل من الشمس والقمر والكواكب والنجوم يَسْبَحون في هذا الكون الفسيح بنظام دقيق عجيب.
ومن آيات الله وقدرته ان هيّأ للناس البحرَ يركبونه في السفن المشحونة بالبضائع تجري فيه لمصلحتهم، و {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} من الابل والخيل وغيرها من الحيوانات المسخّرة لأمر الانسان، وكذلك في عصرنا الحضر جميع انواع المواصلات في البحر والبر والجو.
ثم بين لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن وغيرها فقال:
{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ}
كل هذه الوسائل تسير بتقديرِنا وبأمرنا، ولو أردْنا إغراقهم فليس لهم مغيث، ولا هم يَنْجُون من الهلاك، ولكن تشملهم رحمتُنا فيتمتعون بلذات الحياة الدنيا الى اجل مقدر.
قراءات
قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو وروح: والقمرُ قدرناه برفع القمر، والباقون بالنصب. قرأ نافع وابن عامر ويعقوب: ذرياتهم بالجمع، والباقون ذريتهم بالافراد.(3/140)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
ما بين ايديكم: ما جرى للأمم السابقة. وما خلفكم: عذاب الآخرة. يخصِّمون: بكسر الصاد المشددة، يتخاصمون. الاجداث: جمع جدث، القبر. ينسِلون: يخرجون من قبورهم. من مرقدنا: من مكان نومنا، كأنهم كانوا نانئمين في قبورهم.
واذا قيل لهؤلاء المكذّبين: خافوا ان يصيبكم مثلُ ما جرى للأمم الماضية بتكذيبهم الرسل، وخافوا عذاب الآخرة لعلّ الله يرحمكم - أعرضوا وولّوا مستكبرين.
ولا تجيئهم حجة من حجج الله الدالة على وحدانيته الا كانوا عنها منصرفين. أما اذا قيل لهم أنفِقوا على الفقراء والمحتاجين مما رزقكم الله، قالوا للمؤمنين: أتطلبون منا ان نطعم من لو أراد الله إطعامه لفعل!؟ انكم حقا في ضلال مبين.
ويقول الكافرون مستهزئين: متى يحصل هذا البعث الذي تعدوننا به!
{مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}
ستأتيهم الساعة بغتة، وما ينتظرون الا صوتاً واحداً يقضي عليهم بغتة، وهم يتنازعون في شئون الدنيا غافلين عن الآخرة.
ثم بين الله سرعة حدوثها وأنها كلمح البصر او هي اقرب فقال:
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} يومذاك لن يوصوا في اموالهم بشيء، ولن يرجعوا الى أهلهم.
وقد رويت في ذلك احاديث كثيرة تبين هول ذلك الموقف.
ثم بين الله أنهم بعد موتهم يُنفخ في الصور النفخةَ الثانية، نفخةَ البعث من القبور فقال:
{وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}
وبعد النفخة الثانية يخرجون من قبورهم مسرعين الى الله. . . . وكل هذه المواقف من الحياة الاخرى لا نعلم عن حقيقتها شيئا الا ما ورد في القرآن الكريم.
ثم بيّن الله تعالى انهم يعجبّون حين يرون انفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث فيقولون:
{قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا؟}
فيقال لهم:
{هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن. . . .} لَقد صدقَ المرسولن فيما أخبروا عنه.
ثم تأتي الصيحة الأخيرة:
{فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}
ويقف الجميع صفاً صفا منتظمين منتظرين حسابهم وجزاءهم، وعند ذلك يعلن القرار:
{فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
فيذهب اهل الجنة الى الجنة، واهل النار الى النار، ويلقى كلٌّ جزاءه بالعدل.
قراءات
قرأ ابن عامر وعاصم والكسائي: يَخِصّمون بفتح الياء وكسر الخاء والصاد المشددة. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: يَخَصمون: بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد المكسورة. وقرأ نافع: يخْصّمون: باسكان الخاء وتشديد الصاد وبهذا يكون جمع بين ساكنين. وفي المصحف الذي طبعه الملك الحسن في المغرب يَخَصّمون بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد المسكورة. وقرأ حمزة: يخْصِمون: باسكان الخاء وكسر الصاد بدون تشديد.(3/141)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
في شغل: في شأن كبير من المسرة والنعيم. فاكهون: مرحون في عيش ناعم. ظلال: جمع ظل وهو الفيء. الأرائك: جمع أريكة، وهي كل ما استراح عليه الانسان من مقعد وسرير او فراش او منصة. ما يدّعون: ما يطلبون. امتازوا: انفرِدوا وابتعدوا عن المؤمنين. الم أعهد: ألم أوصِ، الم اعرض ما فيه الخير. جبلاّ كثيرا: خلقا كثير. اصلَوها: ادخلوها، ذوقوا حرها. لطمسنا على أعينهم: لأعميناهم. فاستبقوا لاصراط: تسابقوا الى الطريق المألوف. لمسخناهم: لغيرنا صورهم الى أقبح صورة. على مكانتهم: في اماكنهم. نعمّره: نطل عمره. ننكّسه في الخلق: نردّه من القوة الى الضعف حتى يردّ الى أرذل بعد انتها الحساب يذهب كلٌّ الى مقرة الأخير، أهل الجنة الى الجنّة وغيرهم الى النار.
ويحدّثنا القرآن عما هم فيه نم نعيم ملتذون فيه متفكهون، هم وازواجهم في ظِلال مستطابةٍ على الفُرش والأرائك متكئون، لهم في جنّتهم فاكهة ولهم كل ما يطلبون ويشتهون، ولهم فوق كل هذه اللذائذ والمتع تكريم من الله ويقال لهم: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} .
اما اصحاب الجحيم فعلى العكس من ذلك فانهم يلقون التحقير والاهانة، ويقال لهم:
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون}
أبعِدوا عن المؤمنين، وادخلوا جهنم، ألم أُوصِكم يا بني آدم ان لا تطيعوا الشيطان؟ إنه لكم عدو ظاهر العداوة يوردكم موارد الهلاك.
{وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} .
اطيعوني، فإن طاعتي هي التي توصلكم الى الطريق المستقيمة. لقد بيّنتُ لكم ذلك فلم تحذَروا عدوكم الذي اضل منكم أجيالا كثيرة {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} حين أطعتموه! اذهبوا الى مصيركم المحتوم.
{هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}
ادخولها وقاسوا حرّها واحترقوا يها بسبب كفركم وجحودكم.
ثم بين الله تعالى ان جوارحهم تشهد عيلهم، وذلك بمشهد عجيب.
{اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
اليوم تُلجَم أفواههم فلا ينطِقون، وتتكلم جوارحهم بما اقترفته. . . . ويا له من موقف رهيب مخيف.
{وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ}
ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم فطمسْنا على أعينهم فصيّرناهم عمياً لا يبصرون طريقا ولا يهتدون. ولو اردنا لغيّرنا صورهم وحولناهم الى تماثيل جامدة {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} بل يبقون في اماكنهم جامدين.
{وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق أَفَلاَ يَعْقِلُونَ!}
ومن يُطِل الله عمره يَخْرَفُ وينتكس بعد شبابه وعقله الى ضَعفٍ وخَرَفٍ وهزال. افلا يعلمون ان الدنيا دارُ فناء وان الآخرة دار البقاء! .
قراءات:
قرأ ابو عمرو ونافع وابن كثير: في شغْل باسكان الغين، والباقون: في شغُل بضم الشين والغين وهما لغتان. وقرأ ابو جعفر: فكِهون بكسر الكاف بدون الف بعد الفاء. والباقون: فاكهون. قرأ حمزة والكسائي: في ظلل جمع ظلة، والباقون: في ظلال. قرأ نافع وعاصم وابو جعفر: جِبلاّ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس: جُبلا بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وقرأ ابو عمرو وابن عامر: جُبْلا بضم الجيم وسكون الباء، وهذه كلها لغات معناها واحد. وقرأ ابو بكر: على مكاناتهم بالجمع، والباقون: على مكانتهم بالافراد. وقرأ عاصم وحمزة: نُنَكسه بضم النون الاولى وفتح الثانية وكسر الكاف المشددة. والباقون: نُنْكسه بضم النون الاولى واسكان الثانية وكسر الكاف من غير تشديد. وقرأ نافع وابن ذكوان ويعقوب: افلا تعقلون بالتاء، والباقون: افلا يعقلون بالياء.(3/142)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
ما ينبغي: لا يليق به ولا يصح له. ذِكر: عظة من الله. حيّا: حي القلب مستنير البصيرة. يحق القول: يجب العذاب.
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} .
وما علّمنا رسولَنا الشعر ولا يليق به لمكانته ومنزلته ان يكون شاعرا، وما هذا القرآن الا كتاب عظةٍ وآداب وأخلاق وتشريع، فيه سعادة البشر في دنياهم وأخراهم فلا مناسبة بينه وبين الشعر، لينذر من كان حيَّ القلب مستنير العقل، وتجبَ كلمة العذاب على الكافرين الجاحدين.
قراءات:
قرأ أهل المدينة وابن عامر: لتنذر بالتاء. والباقون: لينذر بالياء.(3/143)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
ركوبهم: بفتح الراء، هو ما يركب. ذلّلناها لهم: سخّرناها لهم.
الم يشاهد هؤلاء المشركونبالله أنّا خلقنا لهم بقُدْرتنا أنعاماً من الإبل والغنم والبقر فهم لها مالكون يتصرفون فيها كمايشاؤون! وسخّرناها لهم فمنها ما يركبون، ومنها ما يأكلون، ولهم فيها ما ينتفعون به من أصوافِها وأوبارِها وأشعارها وجلودها وغير ذلك، ولهم شماربُ من ألبانها ايضاً! أيجحدون هذه النعم الكثيرة فلا يشكرون الله عليها!! . ومع كل هذه النعم اتخذ المشركون آلهة يعبدونها من دون الله، رجاء ان تنصرهم! غن هذه الالهة لا تستيطع نصر احد، ولا تقدر ان ترد عن أحدٍ أذى إن أراد الله بهم سوءا.
{وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ}
وهم لسخفهم جنودٌ لهذه الآلهة يحمونها ويذبُّون عنها المهتدين.
ثم بعد ذلك يسلّي الله رسوله الكريم بقوله:
{فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
لا يحزنك قولهم فيك بالتكذيب والافتراء عليك، انا نعلم ما يخفون وما يعلنون، وسيلقون جزاءهم.(3/144)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
أولم ير: أولم يعلم. الخصم: الشديد الخصومة والجدل. رميم: البالي من كل شيء. ملكوت: الملك التام، كالجبروت والرحموت.
في آخر هذه السورة الكريمة يَرِدُ ختامها بالأدلة على قدرة الله تعالى على إعادة الخلق، فانه تعالى خَلَق للانسان النعمَ التي لا تحصَى ليشكر، فكفر وجحد. . . . ألا يَستدل من أنكرَ البعثَ بسهولة المبدأ! وأنا خلقناه من العدَم من شيء لا يُرى بالعين المجردة لصغرها فاذا هو يخاصم ويجادل!
ثم ضرب مثلا ينكر به قدرتنا على إحياء العظام بعد ان تبلى، ونسيَ أنا خلقناه من العدم! . . .
{قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ}
قال مجاهد وعكرمة وعمرو بن الزبير وقتادة: «جاء أُبَيّ بن خلق (وهو من كبار مشركي مكة) الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده عظم يفتُّه بيده ويذروه في الهواء ويقول: أتزعم يا محمد ان الله يبعث هذا؟ فقال الرسول الكريم:» نعم، يُميتك الله ثم يبعثك ثم يحشُرك الى النار «ونزلت هذه الآية.
ثم أمر الله تعالى رسوله الكريم ان يقول لهم:
{قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}
فالذي خلق هذا الخلق من البدء قادرٌ على إحيائه بعد موته.
ثم ذكر دليلاً ثانيا يبطل إنكارهم فقال:
{الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ}
ان من جعل لنا النار من الشجر الأخضر قادرٌ على ما يريد، لا يمنعه شيء.
ثم جاء بدليل ثالث على قدرته أعجبَ من سابقَيه فقال:
{أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم}
فإن خلْقَ هذا الكون الكبير العجيب لهو أعظمُ واكبر من خلق الانسان واعادته، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] .
ثم بين ما هو كالنتيجة لما سلف من تقرير واسع قدرته، واثبات عظيم سلطانه فقال:
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .
فالله سبحانه وتعالى يخلق كل ما يريد بلا كلفة ولا جهد، وليس هناك صعوبة، وليس هناك قريب ولا بعيد، فعندما يأمر بالشيء يكون بلا توقف ولا تردد.
وعندما اثبت لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة نزّه نفسه عما وصفوه به، فقال:
{فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
فتنزيهاً للذي بيدِه مقاليدُ كل شيء، وبقدرته مُلْكُ كل شيءٍ، واليه المرجع والمصير.(3/145)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
الصافات: جماعة الملائكة. فالزاجرات: من صِفات أعمال الملائكة. فالتاليات: من صفات أعمالهم ايضاً المشارق: مشارق الشمس وجميع الكواكب والنجوم، لن الشمس تشرق كل يوم من جهة، وكذلك المغارب لم يذكرها اكتفاء بتعدُّد المشارق. السماء الدنيا: اقرب سماءٍ لنا. مارد: متمرد. الملأ: الجماعة يجتمعون على رأي، والمراد هنا الملائكة: يقذفون: يرجمون. دحورا: طرداً وابعادا. واصِب: دائم. خطف الخطفة: أخذ بسرعة على غِرة. الشهاب: الشعلة من النار، والنجم المضيىء المنقضّ من السماء. ثاقب: مضىء.
أقسَم الله سبحانه وتعالى بالملائكة المصطفّين في مقام العبودية، الذين يردعون الناسَ عن الشر، ويتلون آياتِه على الأنبياء أن الله المعبود واحدٌ، لا شريك له، هو رب السموات والأرض وما بينهما، وربّ المشارق والمغارب.
وانه زيّن السماءَ الدنيا التي نراها بالكواكب وجعل هذه الكواكب حفاظاً للسماء من كل شيطان متمرد، فلا يمكن للشياطين المتمرّدين التسمُّعُ الى ما يجري في عالم الملائكة، واذا أرادوا ذلك رُجموا من كل جانب، وطُردوا طرداً عنيفاً، ولهم عذاب شديدٌ دائم، الا من اختلس الكلمةَ من أخبار السماء فإننا نُتبعه بشهابٍ ثاقب يلحقه فيصيبه ويحرقه حرقا.
اما كيف يتم هذا كله فإننا لا نعرفه. . فهو من الغيبيات التي تعجز طبيعتنا البشرية عن تصوّر كيفياتها، ونصدّق بها وبما جاء من عند الله.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: بزينةِ الكواكب بجر زينة والكواكب مضاف اليه. وقرأ ابو بكر: بزينةٍ الكواكبَ بنصب الكواكب وجر زينة منونا. والباقون: بزينةٍ الكواكبِ بتنوين زينة مجردا وخفض الكواكب على البدل. وقرأ الكسائي وحمزة وخلف وحفص: لا يَسَّمّعون بفتح السين والميم وتشديدهما. وقرأ الباقون: لا يسمعون باسكان السين وفتح الميم بدون تشديد.(3/146)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
فاستفْهم: اسألهم. أشد خلْقا: أصعب خلقا. لازِب: لازم ثابت، لاصق. اذا ذُكّروا لا يذكرون: اذا وُعظوا لا يتعظون. آية: معجزة. يستسخرون: يسخرون، يستهزئون. داخرون: صاغرون. زجرة واحدة: صيحة واحدة. يا ويلنا: يا هلاكنا. يوم الفصل: يوم الحساب بين الناس. فاهدوهم: دُلّوهم. الى صراط الجحيم: الى طريق الجحيم. قِفوهم: احبسوهم في الموقف. لا تَناصرون: لا تتناصرون، لا ينصر بعضكم بعضا.
اسأل أيها الرسول هؤلاء المنكرين للبعث: أهُمْ اعصبُ خلقاً أم السمواتُ والأرض وما في هذا الكون الكبير! لقد خلقنا كل ذلك من لا شيء، وخلقناهم من طين لاصقٍ بعضُه ببعض، فأين هم من خلق هذا الكون العجيب!
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ}
بل عجبتَ أيها النبيّ من إنكارهم للبعث وهم يسخَرون من تعجّبك ويستهزئون. واذا وُعظوا ودعوا الى عبادة الله لا يتّعظون. واذا رأوا برهاناً على قدرة الله بالغوا في السخيرة والاستهزاء وقالوا: ما هذا الذينراه إلا سحر ظاهر، وخدجعة من الخدع. أئذات مِتنا وصرنا تراباً وعظاماً سنُبعث مرة أُخرى من قبورنا، وكذلك يُبعث آباؤنا الأولون الذين ماتوا من قرون قديمة!؟
{قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ}
قل لهم ايها النبي: نعم ستبعثون جميعا وأنتم أذلاء صاغرون. فانما البعثة صيحة واحدة فاذا هم أحياء ينظرون الى ما كانوا يوعدون، وعند ذلك يقولون: يا ويلنا هذا هو يوم القيامة الذي يفصَل فيه بين الناس، والذي كنتم به تكذِّبون. ويقول الله للملائكة: اجمعوا الذين ظلموا انفسهم بالكفر، وأزواجَهم وجميع من على شاكلتهم وما كانوا يعبدون من الاصنام وغيرها من دون الله - فقودوهم الى طريق جهنم، مقرهم الأخير.
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} عما كاناو يعملون في الدنيا من كفر والحاد وفساد. ويقال لهم {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ؟} لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا تفعلون! ولكنهم لا يستطيعون عمل شيء وينقادون مستسلمين أمر الله. قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: بل عجبتُ بضم التاء. والباقون: بل عبجتَ بفتح التاء. وقرأ ابن عامر: إذا متنا بهمزة واحدة، والباقون: أإذا متنا بهمزتي نعلى الاستفهام. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب: إنا لمبعوثون بهمزة واحدة والباقون: أإنا لمبعوثون. وقرأ ابن عامر أوْ آباؤنا الأولون: بسكون الواو.(3/147)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
عن اليمين: عن جهة الخير، واليمينُ لها عدة معانٍ منها: اليد والجهة المقابلة لليسار، والخير وغير ذلك. من سلطان: من قهر وتسلط. طاغين: متجاوزين الحدَّ في العصيان. فحق علينا: فوجب علينا. فأغويناكم: اضللناكم.
وبعد ان بيّن الله تعالى أنهم يوم القيامة يندمون عندما يرون العذابَ - ذكر هنا أنهم يُقبلون على بعضهم البعض، ويتلاومون ويتخاصمون، ويسأل بعضهم بعضاً عن مصيرهم السيّىء ويقول التابعون للمتبوعين.
{قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين}
قالوا لهم: إنكم كنتم تغشوننا وتأتوننا من الناحية التي نظنُّ فيها الخير واليمن، لتصرفونا عن الحق الى الضلال.
فيرد عليهم الرؤساء بقولهم:
{بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ}
إنا ما أضللناكم بل كنتم أنتم بطبيعتكم مستعدّين للكفر.
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ}
وجبض علينا ما قاله الله في أننا لذائقون العذاب في هذا اليوم، وكل ما فعلناه بكم أننا دعوناكم لتكونوا مثلنا فاستجبتم لدعوتنا، فلا لومَ علينا. ويومئذ يكون التابعون والمتبوعون في العذاب مشتركين.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين}
هذه سنةُ الله في خلقه، يعطي كل عامل جزاء ما قدّمت يداه.
ان هؤلاء المجرمين كانوا اذا قيل لهم لا إله الا الله يستكبرون ويقولون: أنترك عبادةَ آلهتنا لقول شاعر مجنون!
ومن ثم يكذّبهم الله تعالى ويّرد عليهم بقوله:
{بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين}
بل جاءهم رسولهم بالحق الذي هو التوحيد الذي دعا اليه جميع الرسل، وصدّق بذلك دعوة المرسَلين الذين جاؤوا قبله.(3/148)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
بكأس: فيه شرابٌ صاف: من مَعين: من ماءٍ غزير. لذة: فيها لذة. غَوْل: ما ينشأ عن الخمر من صداع، وهو الكحول. يُنزفون: لا تذهب عقولهم بالسُّكر. قاصرات الطرف: عفيفات. عِين: عيناء، واسعات العيون جميلات. مكنون: مصون لا تمسّه الأيدي، والمراد: اللؤلؤ.
يبن الله تعالى هنا أنه لا فائدةَ من هذا الخصام والجدال فالعذابُ واقع بكم جميعا.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
وهذا هو العدل. . . كل غنسان يلاقي عمله ويجزى به.
بعد ذلك بيّن الله حال عباده المؤمنين العاملين، وهم في جنات يتمتعون فيها بكل ما لذَّ وطاب من انوع الفواكه، وفوق ذلك اكرامُ الله لهم في ضيافته. ويأتيهم ذلك الرزق الكريم وهم جالسون على سُرر متقابلين، يتمتعون بطيّب الحديث، يطوف عليهم الولدان بكأس من أجودِ الشراب في الجنة بألوان مشرقة، لا تورث صُداعاً ولا تُذهب وعيَ شاربيها، ويظلّون في هذا النعيم المقيم. ثم بيّن محاسنَ زوجاتهم، لبيان تمام السرور فقال:
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ}
ولديهم زوجاتٌ عفيفات لا ينظرن الى غير أزواجهن، وهن في غاية الجمال، بيضٌ كأنهن البيض النقيّ المصون. والعرب يشبّهون النساء البيض الخُود باللؤلؤ. قال الشاعر:
وبيضةِ خودٍ لا يرام خباؤها. . . . . . ... وقال الشاعر:
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا ... ص ميزت من جوهرٍ مكنون
ويقول تعالى:
{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22 - 23] .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: ينزِفون بكسر الزاي، والباقون: يُنْزَفون بفتح الزاي على البناء للمجهول.(3/149)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
قرين: صاحب. لمدينون: لمحاسَبون، لمجزيّون. مطلعون: مشرفون. سواء الجحيم: وسط النار. لتُردِين: لتهلكني. لمحضَرين: لمسوقين للعذاب. نزلا: كل ما يهيأ للضيف. شجرة الزقوم: شجرة كريهة في جهنم. فتنة: محنة. أصل الجحيم: قعر جهنم. طلعُها: ثمرها. رؤوس الشياطين: في قبح الشياطين، والعربُ تشبه كل قبيح بالشيطان. الشوْب: الخلط. الحميم: الحار. مرجعهم: مصيرهم.
لا يزال الحديث عن أهل الجنة، فإنهم وهم في متعتهم وسرورهم، يساءلون عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا. قال قائلم منهم: كان لي صاحب من المشركين يجادلني في ادين ويقول: أإنك لمن الذين يصدّقون بالبعث بعد الموت وبالحساب والجزاء!! وهل بعد ان نموت ونصير تراباً وعظاماً بالية نحيا مرةً لنحاسَب على ما قدّمنا من عمل!! . فيتطلّع ذلك المؤمن ويدعو اخوانه ان يتطلعوا معه.
{فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم}
حينما رآه قال: تاللهِ لقد كدتَ تهلكني لو أطعتك على الكفر معك، ولولا نعمةُ ربي بأن هداني للايمان بالله والبعث لكنتُ مثلك من المحضَرين في العذاب.
ثم يقول لجلسائه تحدثاً بنعمة ربه عليه وعلى مسمعٍ من قرينه:
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}
لقد اجتزنا الامتحان بنجاح والحمد لله، فلا موتَ بعد الموتة الأولى ولا تعبَ بعد اليوم.
{إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}
وفي معنى هذه الآية يتوضح اكثر قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [الدخان: 56] .
اما كيفية رؤية أهل الجنة لأهل النار وبينهم مسافاتٌ شاسعة فإنها من الغيبيات اليت تخالف وضعنا وحياتنا، ونحن لا نعرف كيف تجري احوال الدار الآخرة جميعهان ولا نستطيع فهمها.
ثم بيّن أحوال أهل جهنم وما يلاقون فيها من العذاب الدائم ليظهر الفرقُ بين أهل النعيم واهل الجحيم، فقال:
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم؟ . . . .}
اهذا الرزقُ الذي ناله أهل الجنة خيرٌ أم حالُ أهلِ النار الذين يأكلون من شجرة الزقوم التي جعلناها فتنةً وبلاء للكافرين!؟ والزقّوم شجرةٌ تنبت ف وسط الجحيم، ثمرها قبيح المنظر كريه الصورة كأنه رؤوس الشياطين. ومن ثمرها يأكل الكفار. وهم يملأون بطونهم منه، فاذا عطشوا وأرادوا شرب الماء، يغاثون بماء حار مشوب باخلاط من جهنم يشوي وجوههم، وتتقطع منه أمعاؤهم، كما قال في سورة الكهف 29 {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً}(3/150)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
يُهرعون: يسرعون. وتركنا عليه: ابقينا لنوحٍ ذكراً جميلا.
ان هؤلاء الجاحدين وجدوا آباءهم ضاليّن، فاقتفوا آثارهم من غير ان يستعملوا عقولهم، بل مقلّدين غير مستبصرين. فهم وآباؤهم صورة من صور الضلال التي يمثلها اكثر الأولين. ولقد أرسلنا في هذه الامم الخالية رسُلا ينذرونهم، فكذّبوهم، فانظر كيف كان مآل الذين أنذرَتْهم رسلُنا. . لقد هلكوا فصاروا عِبرةً للأولين والآخرين.
ولكنْ هناك مؤمنون استخلصهم الله، ففازوا بثوابه. ثم يذكر بعد ذلك بعض قصص الأنبياء باختصار للعبرة والذكرى.
ولقد نادانا نوح حين يئس من قومه، فكنّا له نعم المجيبين، ونجيناه ومن آمن معه من الغرق والطوفان، وجعلنا ذرّيته هم الباقين في الأرض، وتركنا له ذِكراً جميلا في العالم الى يوم القيامة.(3/151)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
من شيعته: من جماعته الذين ساروا على منهاجه. سليم: سالم من جميع العلل والآفات النفسية. أئفكاً: اكذبا. سقيم: مريض. راغ الى: مال اليهم سرا. وراغ عليهم: مال عيهم ضربا، وراغ لها معان اخرى. باليمين: بقوة وشدة. يزِفّون: يسرعون.
وان من شيعة نوحٍ الذي ساروا على نهجه ابراهيمَ عليه السلام، اذ أقبل على ربه بقلبٍ طاهر خالٍ من كل سوء، وانكر على قومه وأبيه ما يعبدون من الاصنام، وقال لهم: اتعبدون آلهةً غير الله كذباً وزورا! .
{فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} حى تعبدوا غيره من هذه الاصنام.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم} ليستدل بها على خالق الكون، فوجدها متغيرة متحولة.
{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} من هذ الاحوال ومن عبادة غير الله.
فأعرض عنه قومه وتركوه. فذهب مستخفيا الى اصنامهم وسألهم مستهزئا فقال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ؟ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} ؟ لماذا لا تتكلمون؟ . فمال عليهم بضربٍ شديد فكسّرهم حتى حطمهم جميعا. فأقبل قومه اليه مسرعين يعاتبونه على ما ارتكب في شأن آلهتهم. فقال لهم ابراهيم، موبخا لهم: أتعبدون ما تنحتونه بأيديكم من حجارة، واللهُ خلقكم وخلقَ ما تصنعون بأيديكم، أين عقولكم!!
فلما أعجزتْهم الحيلةُ ولزمتْهُم الحجة قالوا: ابنوا له بنيانا، واملأؤه ناراً وألقوه فيها. لقد أرادوا ان يحرقوه وينتقموا منه، فأنجاه الله من النار بعد أن ألقوه فيها، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} . وقال ابراهيم لمّا يئس من ايمانهم: إني مهاجرٌ إلى ربي، وهو سيهديني إلى الخير والمقر الأمين.
قراءات:
قرأ حمزة: يزِفون بضم الياء. والباقون: يَزفون. وهما لغتان.(3/152)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
فلما بلغ معه السعي: فلما أدرك وكبر. أسلما: استسلما لأمر الله. تلّه: كبّه على وجهه. صدّقت الرؤيا: حققت ما طلب منك. البلاء المبين: الاختبار الواضح. بِذبح: حيوان يُذبح. باركنا عليه: أفضنا عليه البركات.
لا يزال الكلام عن سيّدنا إبراهيم بعد أن نجّاه الله وهاجر الى ربه، وكان وحيداً لم يُرزق ذرية، فاتجه الى ربه يسأله الذريةَ الصالحة، فاستجاب الله دعاءه بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} هو اسماعيل. وكان كما قال تعالى: من الصالحين. وشبّ وكبر، ولما بلغ مبلغ الرجال قال له أبوه إبراهيم: يا بنيّ، إني رأيت في المنام وحياً يطلب مني أن أذبحك تقرباً الى الله، فانظر ماذا ترى؟ . فقال اسماعيل: يا أبت، افعلْ ما تؤمر به، {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} . فلما استسلما وانقادا لأوامر الله وقضائه، ووضع ابراهيمُ ابنَه على الأرض ليذبحه (وبذلك نجح ابراهيم وابنه في الامتحان) ، ناداه الله تعالى {أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} وحقّقتها فعلا. وعلم الله بذلك صِدْق ابراهيم واطاعة ابنه له ولربه.
{كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}
نجزيهم أحسنَ الجزاء لقاءَ إطاعة اوامرنا، ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها الى مستوى الوفاء.
ثم بين الله عظيم صبر إبراهيم على امتثال امر ربه مع ما فيه من عظم المشقة فقال:
{إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
ما دمت يا ابراهيم قد جُدْتَ بأعزّ شيء عندك، وهو ابنك الوحيد، (وما أعظم هذا الابتلاء الذي ابتليناك به أنت وولدك) فقد امرنا افتداءه بكبش عظيم. واصحبت تلك سُنّةٌ له ولمن جاء بعده، وهي سنة النحر في عيد الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين}
وابقينا له الثناءَ والذِكر الحسن على الألسنة الى يوم القيامة، فهو مذكور على توالي الاجيال والقرون. {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} .
سلام عليه من ربه يسجَّل في كتابه الباقي الى يوم الدين.
وكرر الله قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} على الوفاء والطاعة والاستقامة بالذكر الحسن والسلام والتكريم. فانه من عباد الله المؤمنين حقا.
ثم يتجلى عيله ربه بفضله مرة أخرى فيهبُ له (إسحاق) في شيخوخته، ويباركه ويبارك ذريته: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} .
وفي ذلك تنبيه الى ان النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وان الظلم في الأعقاب لا يعود الى الأصول بنقيصة، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] [الإسراء: 15] [وفاطر: 18] .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: ماذا تُرِي بضم التاء وكسر الراء. والباقون: ماذا ترى: بفتح التاء والراء.(3/153)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
الكرب: الشدة. المستبين: الواضح. بعلاً: اسم الصنم الذي كانوا يعبدونه.
في هذه الآيات الكريمة يتحدّث القرآن الكريم عن سيدنا موسى وهارون وإلياس. وقد تقدّم الكلام عن موسى اكثر من مرة، وهنا ذُكر باختصار. اما الياس فقد ذكر مرة في سورة الانعام بقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين} وهنا في عشر آيات.
والمعنى: ولقد تفضلنا على موسى وهارون، ونجّيناهما وقومهما من فرعون وقومه بعد ان كانوا في كرب عظيم من الظلم والاضطهاد، ثم نصرناهم على الكافرين. وآتينا موسى وهارون التوراة ذات البيات العظيم {وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم} وأبيقنا لهما لاذكر الحسن والثناء الجميل.
{سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ}
اننا على هذا النحو نكافىء المحسنين، انهما من عبادنا المؤمنين.
قال ابن جرير: ان الياس من انبياء بني اسرائيل، ويقول بعضهم: إنه إدريس الذي جاء ذكره في سورة مريم والأنبياء، فنصح قومه ان يتركوا عبادة صنمهم بعل، ويعبدوا الله، فكذّبوه، فجزاؤهم جهنم يوم القيامة الا قوما منهم أخلصوا العمل لله وأنابوا اليه.
إل ياسين: لغة في الياس.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص: الله ربكم ورب بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع ويعقوب وابن عامر: سلام على آل ياسين بمد همزة آل والاضافة. والباقون: إلْ ياسين. فمن قرأ آل ياسين: يكون معناه آل محمد، وقال بعضهم آل القرآن.(3/154)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
في الغابرين: الباقين مع الكافرين. مصبحين: في وقت الصباح. إذ أبقَ: هرب من سيده. المشحون: المملوء. فساهَمَ: ضرب اهل السفينة القرعة. المدحَضين: المغلوبين. مُليم: فَعَلَ ما يستحق عليه اللوم. العَراء: المكان الخالي. يقطين: اليقطين: كل ما لا ساق له من النبات، وغلب على القرع.
وقد نجينا لوطاً وأهله إلا امرأته العجوز التي بقيت مع الهالكين، ثم دمّرنا قومه. وإنكم يا مشركي قريش لتمرون على أطلال بيوتهم بسَدوم في البحر الميت في طريقكم إلى الشام. وقد تقدم ذكرُ لوط في سور الاعراف وهود والعنكبوت.
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين}
إذ يئس من هداية قومه فهرب منهم قبل ان يأذن له الله، وركب في سفينة مملوءة بالمسافرين والامتعة، فوقفت السفينة ولم تتحرك، فقال ركابها: ان هنا رجلاً هارباً من سيده. فعملوا قرعة بينهم، فخرجت القرعة على يونس، ورمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت.
{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين}
لولا ذلك لبقي في بطن الحوت الى يوم القيامة. فَلَفَظَه بأرض خالية من النبات، وهو سقيم من شدة ما لقي في بطن الحوت.
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} .
وبعد ان شفي أرسلناه الى اهل نينوى، وهم اكثر من مائة الف، فآمنوا به فمتعناهم الى وقت معلوم.(3/155)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
إفكهم: كذبهم. اصطفى البنات: اختار لنفسه البنات. سلطان: حجة. لمحضَرون: لمجلوبين للعذاب.
اسأل قومك ايها النبي، مؤنّباً لهم، كيف جعلوا له البنات، ولهم البنين؟ ومن الذي قال ان البنين افضل من البنات؟ واذا كانت البنات اقل رتبة من البنين كما يزعمون فكيف جعلوا لله البنات واستأثروا لأنفسهم بالبنين؟ وكل هذا غير وارد، لأن الله تعالى لم يلد ولم يولد. . . ثم هناك اسطورة اخرى ينفيها الله تعالى وهي قولهم إن الملائكة إناث، فهل شهدوا ولادتهم؟ ان اكبر فرية لهم قولهم ان الله تعالى له ولد، وهذا من كذبهم الواضح وإفكهم. وكيف يختار البنات على البنين؟ ومثلُ هذا قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الاسراء: 40] .
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
ماذا أصابكم حين حكمتم بلا دليل، ومن اين تستمدون الدليلَ على الحكم المزعوم؟ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ؟} افلا تتذكرون. .
ثم زاد في توبيخهم وطالبهم ببرهان يؤيد صحة ما يدّعون بقوله:
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
هل عندكم حجةٌ واضحة تبرهن على أقوالكم؟ إذا كان عندكم حجة فأتوا بكتابكم ان كنتم صادقين فيما تقولون وتفترون.
واكنوا يزعمون ان الملائكة بنات الله، ولدتْهم له الجنّ، ولذلك يردّ الله عليهم كذبهم وافتراءهم وينزه نفسه عن هذا الافك بقوله:
{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}
ان الجانّ يعلمون أنهم محضَرون يوم القيامة للحساب والجزاء.
{سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} تنزه الله عما يذكره المفترون.
ثم يستثنى من الجن الذين يحضَرون للعذاب أولئك المخلصين المؤمنين بقوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} فانهم براءُ مما يصفه الكافرون، فهؤلاء المخلصون ناجون يوم القيامة، مكرمون عند الله، يثيبهم على إيمانهم واخلاصهم بأحسن ما كانوا يعملون.(3/156)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
بفاتنين: بمضلّين، بمفسدين. الفتنة: الضلال، والعذاب، والفساد. صالِ الجحيم: داخل في النار. وما منّا: من كلام الملائكة. الصافّون: المصطفون للعبادة، وفي أداء الطاعة. ذِكرا من الأولين: كتابا من كتب الاقدمين. المخلَصين بفتح اللام: الذين اخلصهم الله لنفسه.
فانكم ايها المشركون، وما تعبدون من الأصنام لا يمكنكم ان تُضِلُوا أحداً بإغوائكم، الا الضالين مثلكم الذي يدخلون النار ويصْلونها من أصحاب الجحيم.
ثم حكى الله اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم بقوله:
{وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}
وقالت الملائكة: ما أحدٌ منا الا له مقام يقف عنده، وإنا لنحن المصطفّون في أداء طاعته وتنفيذ اوامره، وإنا لنحن المسبِّحون المنزهون لربنا عن النقائص.
وكان المشركون يقولون: لو أن عندَنا كتاباً من كُتب الأولين، لكنّا من عباد الله المخلصين. ثم بيّن الله تعالى أنهم كانوا كاذبين في قولهم فقال:
{فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وجاءهم الكتاب، وهو القرآن الكريم، فكفروا به فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وعنادهم وما سيحل بهم من العذاب يوم القيامة.(3/157)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
سبقت كلمتنا: وعدُنا بالنصر. وأبصِرهم: انظرهم وارتقب. بساحتهم: بفناء دارهم، بديارهم. تولّ عنهم: أعرِض عنهم.
يقسِم الله تعالى ان وَعْدَه قد سبق ان العاقبة بالنصر لرسُله وأتباعهم، فهم المنصورون، وان جنود الله المخلصين المؤمنين هم الغالبون، فأعرِض عنهم ايها الرسول وانتظر الى وقتٍ مؤجل، فاننا سنجعل لك النصر والظفر، وانتظر ماذا يحل بهم من العذاب {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ذلك بأنفسهم ويندمون.
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فإذا نزل العذاب بديارهم فبئس صباحهم ذلك الصباح، إنه يوم دمارهم وهلاكهم. ثم أكدَ ما سبق من وقوع الميعاد فقال مكرراً وعيده لهم:
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
أعرِض ايها الرسول عنهم، وانظر اليهم فسوف يرون ما يحل بهم من العذاب العظيم. ثم يأتي بحسن الختام بكلمات غاية في البلاغة والسهولة والرقة فيقول تعالى:
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ على المرسلين والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} .
ما أجمل هذا الكلام، وما احلاه وما أبلغه، فانه تعليم لنا لنقوله دائما ونتمثل به.
روي عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنهـ قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف هذه الآيات الكريمة» ، واللهَ نسأل حسن الختام.(3/158)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
الذكر: الشرف. في عزة وشقاق: في استكبار ومخالفة للرسول. فنادوا: فاستغاثوا: لاتَ حين مناص: ليس الوقت وقتَ مفر وهروب. عُجاب: امر مفرط في العجب. الملّة الآخرة: دين آبائنا الذين ادركناهم. الملأ: اشراف القوم. اختلاق: كذب. فيلتقوا: فليصعدوا. الأسباب: الطرق والوسائل التي يتوصل بها الى الغاية. جندٌ ما هنالك: جند كثير. مهزوم: مغلوب. الاحزاب: المجتمعين لايذاء النبي عليه الصلاة والسلام.
ص: من الحروف التي بدئت بها بعض السور، وتقدّم الكلام عليها اكثر من مرة، وهناك رواية عن ابن عباس انها قسَم.
اقسم الله تعالى بالقرآن الكريم ذي الشرف والشأن العظيم، إنه لحقُّ لا ريب فيه، وإنك يا محمد لصادق فيما تقول، وان الكافرين لم يعرِضوا عن هذا القرآن لخلل وجدوه فيه، بل هم في استكبار عن اتباع الحق ومعاندة لأهله. وكم اهلكنا من قبلهم من جيل، فلما رأوا العذابَ نادوا ربهم مستغيثين، ولكن الوقت ليس وقت خلاص من العذاب. وقد عجب الجاحدون أن جاءهم رسول بشر منهم، وقالوا: هذا ساحر كذاب، كيف جعل الآلهة كلها الهاً واحدا! ان هذا لأمر عجيب. وانطلق اشراف القوم منهم قائلين: سيروا على طريقتكم واثبتوا على عبادة آلهتكم، انْ هذا إلاَّ أمرٌ عظيم يراد بكم، ما سمعنا بهذا التوحيد في دين آبائنا الذين أدركنا، وما هذا الا كذب لا حقيقة له. أأُنزل القرآن على محمد من بيننا، وفينا من هو أعظمُ منه في السيادة! بل هم في شك من القرآن لميلهم الى الشرك والتقليد الأعمى، كما انهم لم يذوقوا عذابي بعد، وسيذوقونه.
وهل عندهم خزائن رحمة الله يتصرفون فيها فيصيبوا بها من شاؤا ويصرفوها عمن أرادوا؟ ، {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الانعام: 124] .
ام لهم مُلك هذا الوجود؟ إن كان لهم ذلك فلْيصعدوا في الأسباب التي توصلهم الى مرتقىً يشرفون منه على العالم ويدبّرونه. . . . لا تكترث أيها الرسول بما يقولون، فهنالك جند كثيرون من الاحزاب مهزومون ومغلوبون. وقد هُزموا بإذن الله.(3/159)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
أصحاب الأيكة: قوم شُعيب. الأيكة: الشجرة الملتّف. الفَواق: الوقت اليسير، الراحة والتمهل. قِطّنا: نصيبنا وحظنا. عجّل لنا: عجل لنا نصيبنا من العذاب. ذا الأيد: ذا القوة. اواب: تواب. الاشراق: الصباح. محشورة: مجموعة ومحبوسة. شددنا ملكه: قويناه. الحكمة: اصابة الصواب في القول والعمل. فصْل الخطاب: الكلام الفاصل بين الحق والباطل.
يبين الله تعالى في هذه الآيات أنباء أقوام الأنبياء الماضين كيف كذّبوا رُسُلَهم فحاق بهم ما كانوا به يكذّبون.
كذّبت قبلهم قومُ نوح، وعاد، وقوم فرعون صاحبِ الملك الكبير والأبنية العظيمة الراسخة كالجبال. وقوم عاد وقوم لوط واصحاب الأيكة (وهم قوم شعيب) {أولئك الأحزاب} كلهم حقّ عليهم العذاب وأهلكهم الله بفجورهم.
ثم بيّن بعد ذلك عقاب قريش فقال:
{وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً}
ما ينتظر كفار مكة الا صيحةً واحدة لا تحتاج الى تكرار في وقت قصير جدا.
وقالوا استهزاء وسخرية: ربّنا عجّل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، ولا تؤخره الى يوم القيامة.
اصبر يا محمد على ما يقولون: واذكر كيف صبر عبدُنا داود ذو القوة، إنه توّاب. لقد سخّرنا الجبالَ معه يسبّحن بالعشي والإصباح، وسخّرنا الطير مجموعة له {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} . وقوّينا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب بالفصل في الخصومات على اساس العدل.
بهذه الاوصاف الكاملة نعت القرآن الكريم داود، اما التوراة فقد وصفته بأقبح النعوت كالظلم والفسق والغدر واغتصاب النساء من أزواجهن!! وجاء في قاموس الكتاب المقدس صفحة 365 طبعة 15 ما نصه: ارتكب داود في بعض الأحيان خطايا يندى لها الجبين خجلا. قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: فُواق بضم الفاء، والباقون: فَواق بالفتح، وهما لغتان.(3/160)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
الخصم: المخاصم، يطلق على المفرد المثنى والجمع، ويُجمع على خصوم. تسوّروا: تسلقوا السور. المحراب: مكان العبادة، والغرفة، واكرم مكان في المنزل، ومقام الإمام في المسجد. ففزع: خاف. بغى بعضنا على بعض: جار ولظم. ولا تشطط: ولا تبعد عن الحق، ولا تتجبّر في الحكم. سواء الصراط: طريق الحق. النعجة: انثى الضأن. اكفلنيها: أعطني اياها، واجعلن كافلها. وعزّني في الخطاب: وغلبني في الكلام. الخلطاء: الشركاء: فتنّاه: ابتليناه. خر: سقط على وجهه. راكعا: ساجداً لربه. وأناب: رجع الى ربه. زلفى: قربى: مآب: مرجع.
لا يزال الحديث في قصة داود. هل أتاك يا محمد خبر الخصمين اللذين تسلّقا السور ودخلا عليه في مكان عبادته، لا من الباب.
وعندما دخلوا عليه بهذه الطريقة الغريبة خاف منهم واضطرب، قالوا: لا تخف، نحن خصمان ظلم بعضُنا بعضا، وجئناك لتحكم بيننا بالعدل، لا تجُرْ في حُكمك وأرشِدنا الى الحق. ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال أعطِني إياها لتكون في كفالتي وغلبني بكلامه وحججه.
قال داود قبل ان يسمع كلام الخصم الآخر: لقد ظلمك يا هذا حين طلب ضمَّ نعجتك إلى نعاجه، ان كثيراً من الشركاء والمتخالطين ليجوز بعضهم على بعض، {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ولكنهم قلة نادرة.
{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}
وعرف داود ان الأمر ما هو الا امتحان من الله، فطلب المغفرة، وخرّ ساجدا لله، وأنا اليه بالتوبة. فغفرنا له تعجُّلة في الحكم، وان له عندن امكانةً عالية وحُسنَ مآب. وهنا عند قوله فخرّ راكعاً وأناب موضع سجدة.
نقل كثير من المفسرين ما جاء في التوراة، من ان داود كان يحب امرأة أُوريا الحثّين وانه أرسله الى الحرب حتى قُتل ثم تزوجها، ولم يثبت عندنا في الأثرِ شيء من هذا، ولذلك يجب ان نكون على حذر من هذه الأمور، فان التوراة قد حُرِّفت من الدفة الى الدقة كما يقول «لوثر» وغيره، وكما نص القرآن الكريم.(3/161)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
باطلا: عبثا. ويل: هلاك. مبارك: كثير الخيرات. ليدّبّروا: ليتفكروا. وليتذكر: وليتعظ. اولو الالباب: أصحاب العقول المدركة.
يا داود إنا استخلفناك في الأرض، فاحكم بين الناس بام شرعتُ لك، {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} في الحكم وغيره من امور الدين والدنيا، فيحيد بك عن سبيل الله. ان الذين يَضلّون ويحيدون عن سبيل الله باتباع أهوائهم لهم عذاب شديد {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} . أيليق بحكمتنا وعدلنا ان نسوّي بين المؤمنين الصالحين، وبين المفسدين في الأرض؟ ام يليق ان نسوي بين المتقين وبين الفجارالمتمردين على أحكامنا!؟
ان هذا الذي أنزلناه اليك كتابٌ مبارك كثير الخيرات، ليتدبروا آياته ويفهموها، وليتعظ به أصحاب العقول السليمة، والبصائر المدركة.(3/162)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
الصافنات: جمع صافن من الخيل الأصائل، وغالباً ما يقف على ثلاث قوائم، ويرفع احدى يديه. الجياد: جمع جواد، وهو السريع العدو، كما ان الجواد من الناس هو السريع البذل والعطاء. حب الخير: حب الخيل. توارت: غابت عن الانظار. طفق: شرع. مسحاً بالسُّوق والاعناق: جعل يمسح أعناقها وسوقها ترفقاً بها وحباً لها. فتناه: ابتليناه. لا ينبغي لأحد بعدي: لا يليق بأحد بعدي. رخاء: لينة. حيث اصاب: حيث قصد وأراد. مقرّنين بالأصفاد: مربوطين بالسلاسل، والاغلال. فامنن، أعطِ، وامسك: امنع.
ورزقنا داودَ ابنه سليمان، وكان عبداً مطيعاً لربه يستحق كل ثناء ومدح. ومن أخباره انه عُرضت ليه الخيل الأصيلة بالعشيّ لينظر اليها، ويُسرّ برؤيتها، فأطال الوقوف عندها حتى اضاع وقت الصلاة، فلام نفسه:
{فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي}
والخير هنا هو الخيل، وهي من اجود المال عند العرب، و {عَن ذِكْرِ رَبِّي} عن الصلاة، حتى توارت الشمس بالحجاب. ثم امر بردّها اليه فأخذ يمسح أعناقها وسوقها ترفقاً بها وحباً لها.
وقال بعض المفسرين انه أخذ يضرب سوقها واعناقها بالسيف. ومن الصعب ترجيح رواية على الأخرى، ولكن ابن حزم لم يقبل رواية قتل الخيل. وكذلك الرازي والطبري، بل رأوا انه أخذ يمسح اعناقها وسوقها ترفقاً بها وحبا لها.
لقد امتحنّا سليمان فابتليناه بمرضٍ شديد فألقيناه جسدا على كرسيه لا يستطيع تدبير الأمور، فتنبّه الى هذا الامتحان، فرجع الى الله تعالى، وتاب ثم اناب، ودعا ربه بقوله {رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي} انك انت الكثير العطاء.
وهنا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً} تكلم المفسرون كلاما كثيرا وكله من الاسرائيليات لا صحة له، فأعرضنا عنه.
ثم اخبر اللهُ بانه أجاب دعاءه ووفقه لما اراد وعدّد نعمه عليه فقال:
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ}
فذللّنا له الريح تجري حسب مشيئته، رطبة هينة، الى اي جهة قصد. وتقدم في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . وفي سورة الانبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ. . . .} [الانبياء: 81] .
وذلّّلنا له كل بناء في الارض، وغوّاص في أعماق البحار من الشياطين الأقوياء، حتى انه قَرَنَ قسماً من الشياطين المتمردين في السلاسل والقيود، ليكفّ شرهم عن الناس. واوحى الله تعالى اليه بأن يتصرف في ملكه الواسع كما يشاء دون رقيب ولا حسيب فقال:
{هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
هذا عطاؤنا الخاص بك، فأعطِ من شئت وامنع من شئت، غير محاسَب على شيء من ذلك.
ثم بين ان له في الآخرة عند ربه مقاماً كريما في جنات النعيم بقوله:
{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} ومرجعٍ الينا.(3/163)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
تقدم ذكر أيوب باختصار في سورة النساء والانعام، وفي سورة الانبياء بآيتين، وهنا في سورة ص في أربع آيات. وقد مر ذكره بالتفصيل في سورة الانبياء عند قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} 83. وهنا جاءت آيتان زيادة على ما مر، وهما قوله تعالى:
{اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}
اضرب برجليك الارض، فَثَمَّتَ ماء بارد تغتسل منه وتشرب، فيزول ما بك من بلاء وعذاب. والآية الثانية:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ}
كان أيوب قد حلفَ ان يضرب أحداً من اهله، يقال انها امرأته، عدداً من العصّي، حلل الله يمينه بان يأخذ حزمة فيها العدد الذي حلف ان يضرب به، فيضرب بالحزمة مَنْ حَلَفَ على ضربه، فيبر بيمينه بأقل ألم. وقد منّ الله عليه بذلك، لأنَّ الله وجده صابراً على بلائه، فاستحق بذلك الثناء، {نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} منيبٌ الى الله.
وكذلك اذكر يا محمد عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب، اصحابَ القوة في طاعة الله، والبصائر المنيرة، إنا خصصناهم فجعلناهم خالصين لطاعتنا، يعملون للآخرة ويؤثرونها على كل شيء، انهم عندنا لمن المختارين الاخيار. وكذلك اسماعيل واليسع وذو الكفل وكلهم من الاخيار. وقد ذكر اليسع في سورة الأنعام، ومر ذِكر ذي الكفل في سورة الانبياء ايضا.
قراءات:
قرأ يعقوب: بنَصَب بفتح النون والصاد. والباقون: بنصب بضم النون واسكان الصاد. وقرأ ابن كثير: واذكر عبدنا ابراهيم. . . . بالافراد. والباقون: واذكر عبادنا بالجمع. وقرأ نافع: بخالصةٍ ذكرى الدار بالاضافة. والباقون: بخالصةٍ ذكرى الدار، بالتنوين. وقرا حمزة والكسائي: والليسع بلامين. والباقون واليسع بلام واحدة.(3/164)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
مآب: مرجع. جنات عدْن: جنات الاقامة والاستقرار. قاصرات الطرف: عفيفات. أتراب: متساويات في الأعمار. فبئس المهاد: فَسَاء الفراش. الحميم: شدة الحرارة، غسّاق: ما يسيل من صديد اهل النار. من شكله: من مثله. ازواج: الون. فوج: جمع كثير. لا مرحبا بهم: غير مرغوب فيهم، ولذلك لا يرحب بهم. زاغت عنهم: مالت عنهم.
هذا الذي قصصّنا عليك أيها النبي، نبأَ بعض المرسَلين - تذكير لك ولقومك، وان الله اعطى المتقين حسن المرجع إليه، حيث أعدّ لهم جناتِ عدْنٍ أبوابُها مفتحة اكراما لهم، يجلسون فيها متكئين على الأرائك مسرورين، يتمتعون فيها بأطيب انواع الفواكه، وخير الشراب، وعندهم ازواجهم من الحور العِين القاصراتِ الطرف الفيفات، متساويات في العمرُ، على خير ما يرام من الوفاق والسعادة والسرور.
{هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} أيها المؤمنون المخلصون، وهو بعض عطائنا الذي لا ينفد ولا ينتهي.
ثم بعد ان وصف ثواب المتقين وما أعدّ لهم، أردفه بوصف عقاب الطاغين، فقال: ان هذا النعيم لهو جزاء المتقين، وان للطاغين المتمردين لشر عاقبة، وسوء منقلب.
{هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}
هذا حميم بالغ الحرارة وصديدٌ من نار جهنم، فليذوقوه. ولهم عذاب آخر في أشكال متعددة وانواع متشابهة في شدتها وقسوتها.
ويقال للطاغين وهم رؤساء المشركين: هذا جمعٌ كثير داخلون النار معكم يقتحمونها فوجا اثر فوج، وهم اتباعكم، فيقول هؤلاء الرؤساء: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النار} وداخلون فيها غير مرحَّب بهم.
ثم يرد عليهم الداخلون من الاتباع ويقولون لهم: {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} لأنكم الذين قدّمتم لنا هذا العذاب بإغرائكم لنا ودعوتنا الى الكفر، {فَبِئْسَ القرار} لكم في جهنم.
ثم يزيد الأتباع بدعائهم على رؤساء الضلال قائلين: يا ربنا، من تسبّب لنا في هذا العذاب فزدْه عذابا مضاعفا في النار. وفي سورة الاعراف 38 {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} وكذلك قوله تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الاحزاب: 67، 68] .
ثم يتساءل اهل الكفر في النار عن الذين آمنوا من الضعفاء وفقراء المسلمينن فيقولون: ما لنا لا نرى رجالاً كنّ نعدّهم في الدنيا من الاشرار الذي لا خير فيهم، وقد كنّا نسخَر منهم في الدنيا ونهزأ بهم فأين هم؟ ام ان اعيننا زاغت عنهم فلا نراهم! .
ثم يبين الله تعالى ان هذا التساؤل وهذا الكلام والتخاصم مع بعضهم البعض حقٌّ يوم القيامة لا مرية فيه فيقول: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو عمرو: اتخذناهم على الاخبار، وقرأ الباقون: أتخذناهم بفتح الهمزة على الاستفهام. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: سُخريا بضم السين، والباقون بكسرها، وهما لغتان.
وقرأ ابن كثير وابوعمرو: هذا ما يوعدون بالياء. والباقون: بالتاء.(3/165)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
الملأ الاعلى: الملائكة. فقعوا له: اسجدوا له. خلقتُ بيدي: بقدرتي من غير أبٍ ولا أُم. العالين: المتكبرين. فاخرجْ منها: من الجنة. فأنظِرني: فأمهلني. الى يوم يبعثون: الى يوم القيامة. المخلَصين: بفتح اللام: الذين استخلصتُهم للعبادة.
في ختام السورة تعود الى تقرير القضايا التي عرضت لها في اولها وهي قضية التوحيد، والوحي والجزاء في الآخرة، ثم تستعرض قصة آدم، دليلا على الوحي بما دار في الملأ الاعلى، وتتضمن حسد إبليس لأدم وطرده من رحمة الله، ثم دوام المعركة بين الشيطان وابناء آدم التي ستدوم ما دامت الأرض والسماء. ثم تختم السورة بتوكيد قصة الوحي، وان الرسول الكريم لا يُسأل على أدائه الرسالة اجراً، وما هذا القرآن الا ذكر للعالمين.
قل يا محمد للمشركين: ما انا الا نذير مرسَل من قِبل رب الاله الواحد القهار، مالكِ هذا الكون بما فيه، وهو مع ذلك كله عزيز لا يُغلب، غفار يتجاوز عن الذنوب، ويقبل التوبة. . إذا سبقتْ رحمته غضبه.
وقل لهم: إن ما أقوله لكم من الوحي امرٌ عظيم، اكبر مما تظنون وما تفكرون. أنتم تعلمون حالي، كنت لا أعلم شيئا قبل ان يأتيني الوحي، وما كان لي اي علم باختلاف الملأ الاعلى في قضية آدم، فأنا لم اجلس الى معلّم، ولا دخلت مدرسة، وطريق علمي هو الوحي من عند رب العالمين. وما يوحى إلي إلا أن أنذركم وأبلّغكم رسالة ربي بأوضح تعبير.
ثم تأتي قصة آدم وقد تقدمت في سورة البقرة والاعراف والحِجر والإسراء والكهف، وفي كل مرة تأتي بأسلوب جديد. ومعنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} جعلتُ في هذا الطين سر الحياة. وقد طلب الله من الملائكة ان يسجدوا لآدم سجود تعظيم فأطاعوا الا ابليس استكبر، وحسد آدم وقال إنه خير منه، فطرده الله من رحمته. وطلب ابليس ان يُنظره الله الى يوم القيامة.
{قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} المُمْهَلين الى ذلك اليوم المعيَّن.
فحلف ابليس بعزة الله الخالق انه لَيُغوينَّ بني آدم الا الذين آمنوا باخلاص وصِدق، فانه لا سلطان له عليهم، وهان يقول تعالى:
{قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
الحق يميني وقسَمي، ولا اقول الا الحق، لملأن جهنم من جنسك واتباعك من الشياطين، وممن تبعك من بني آدم.
ثم تختم السورة بهذه الآيات الكريمة:
{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}
قل يا محمد لأمتك: ما أسألكم على تبليغ ما يوحى اليّ اجراً، وما انا من الذين يتصنعون ويتكلفون حتى أدّعي النبوة، وما هذا القرآن الا تذكير وعظة للعالمين جميعا، ولتعلمُنَّ أيها المكذّبون به صِدق ما اشتمل عليه من الخير للبشرية جمعاء بعد حين. صدق الله العظيم.(3/166)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
زلفى: قربى. اصطفى: اختار.
ان هذا الكتاب العظيم مُنزل من عند الله العزيز الحكيم، أنزلناه اليك ايها النبي آمراً بالحق لإظهاره وتفصيله للناس، فاعبد الله {مُخْلِصاً لَّهُ الدين} لا شِرك فيه ولا باطل.
{أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص}
فالعبادة يجب ان تكون لله وحده، خالصة له، وكذلك جميع الأعمال.
في الحديث الصحيح: «جاء رجلٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء وأَصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس، فقال الرسول الكريم: والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يقبل الله شيئا شُورك فيه، ثم تلا قوله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} »
وبعد ان بين تعالى ان رأس العبادة الاخلاص، أعقب ذلك بذّم طريق المشركين، الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، ويقولون: ما نعبدهم الا ليقرّبونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا.
{إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيه من أمرِ الشِرك والتوحيد، وهو لا يوفق للهداية من هو كثير الكذب والكفر.
ولو اراد الله ان يتخذ ولدا، لاختار من خلْقه كما يشاء، ولكنه لم يلد ولم يولد، وهو منزه عن هذا كله {هُوَ الله الواحد القهار} وكل ما سواه مفتقرٌ إليه.(3/167)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
يكوّر الليل على النهار: يلفّ الليلَ على النهار، والنهارَ على الليل، ويدخلهما في بعض وذلك بفعل دوران الأرض حول نفسها فيُحدِث الليل والنهار. لأجل مسمى: يوم القيامة. أنزل لكم من الأنعام: خلقَ لكم من الانعام. في ظلماتٍ ثلاث: ظُلمة البطن، وظلمة الرحم داخله، وظلمة المشيمة. فأنى تصرفون: فإلى أين يعدِل بكم عن عبادة الله الى الشِرك. الوزر: الذنب. ولا تزر وازرة وزر اخرى: لا تحمل نفسٌ آثمة حمل أخرى. بذات الصدور: بما يدور في نفس الانسان. منيباً إليه: راجعاً اليه بالطاعة، تائبا. خوّله: ملكه. اندادا: جمع نِدّ وهو المثل.
خلق الله هذا الكون بما فيه بأبدع نظام وأروع هيئة فهو:
{يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل}
وهذا تعبير عجيب ينطق بالحقّ والواقع، فإن تعاقُبَ الليل والنهار لا يحصلان الا لكروية الأرض ودورانها حول نفسها، فالتكوير معناه لفُّ الشيء على الشيء على سبيل التتابع، وهذا لم يُعلم الا منذ سنين معدودة. وهذا اكبر دليل على ان القرآن ليس من صنع البشر بل {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} .
{وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار}
وجعل الشمس والقمر كل منهما يجري لوقت معلوم، وكذلك دوران الشمس وجريانها لم يكتُشَف الا بعد الرسول، وفي بدء دراستنا نحن وأبناء جيلنا مثلاً كان معلمو الجغرافيا يقولون لنا إن الشمس لا تجري، وكل هذه الكواكب تدور حولها. . . .
ثم بعد أن بيّن تعالى أن هذا النظام من خلقه وإبداعه، وانه مسخّرٌ للإنسان - ذيّل هذه الآية بقوله {أَلا هُوَ العزيز الغفار} حتى يبين للناس بأنه غفور رحيم، فلا يقنطون من رحمته بل يسارعون الى طلب المغفرة والرجوع اليه.
لقد خلقكم الله ايها الناس من نفسٍ واحدة، وخلق من هذه النفس زوجاً لها، وخلق لكم من الانعام ثمانية أزواج هي: الإبل والبقر والضأن والماعز، فهذه اربعة انواع ثمانية أزواج، يخلقكم في بطون أمهاتكم طورا بعد طور في ظلمات ثلاث، هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. ان خالق هذه الأمور العجيبة هو الله المنعم المتفضّل، ربكم ومالكُ امركم، له الملك على الاطلاق في الدنيا والآخرة، لا معبود بحقٍّ سواه، فكيف تعدِلون عن عبادته الى عبادة يغره؟ اين ذهبت عقولكم!؟ .
وبعد ان اقام الدليل على وحدانيته، وبيّن أن المشركين ذهبت عقولُهم حين عبدوا الأصنام - بين هنا ان الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جَرَّ منفعة، ولادفع مضرة، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} فكل نفس مطالَبةٌ بما عملت، وبعدئذ تُردّ الى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت.(3/168)
وهذا مبدأ جاء به الاسلام، وأصّله القرآن الكريم، ولم يستقرّ في فقه القانون الا في العصور الحديثة.
ثم بين تناقُضَ المشركين فيما يفعلون، فاذا أصابهم الضرُّ رجعوا في طلب دفْعه الى الله.
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} وعاد الى عبادة الأوثان.
ثم أمر الله رسوله ان يقول لهم متهكّما بهم:
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} مخلَّد فيها.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي: وان تشكروا يرضهُ لكم باشباع ضمة الهاء. وقرأ يعقوب يرضهْ باسكان الهاء. والباقون: يرضهُ بضم الهاء بدون مد ولا اشباع. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ورويس: لِيَضِل عن سبيله بفتح الياء من يضل. والباقون: لِيُضل بضم الياء.(3/169)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
قانت: قائم بما يجب عليه من الطاعة. آناء الليل: ساعاته، واحدها آن. يحذر الآخرة: يخشى عذابها. ظُلل: جمع ظُلة، ما يستظل به من حر او برد.
بعد ان ذكر الله من يؤمن عندما يمسَه ضر، ويكفر عند السرّاء - بين انه ليس سواءً عند اله مع من هو قانت يعبد الله في جميع حالاته، ولا تزيده النعمة الا إيماناً وشكراً، رجاءَ رحمة ربه. قل لهم ايها الرسول: هل يستوي الذين يعلمون حقوق الله، والذين لا يعلمون! انما يعتبر ويتعظ اولو الألباب، اصحاب العقول الواعية المدركة.
وقدر كرر الله تعالى هذا التعبير {أُوْلُو الألباب} ثلاثَ مرات في هذه السورة الكريمة دلالة على قيمة من يستعمل عقله ويفكر تفكيراً سليما.
وبعد اننفى المساواة بين من يعبد الله في جميع حالاته ومن يلجأ اليه عند الاضطرار وينساه عند النعمة، ثم من يعلم ومن لا يعلم - امر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ان ينصح المؤمنين بجملة نصائح.
1 - قل ايها النبي: يا عبادي الذين آمنوا بي، اتقوا ربكم بالأعمال الصالحة، فان الله قرر ان يُجزل الحسناتِ للذين آمنوا. واذا تعذرتْ طاعته في بلدٍ فتحولوا عنه الى بلد غيره {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} . ثم بيّن فضيلة الصبر، وأن جزاءها للصابرين بغير حساب. وهل هناك وعدٌ أعظم من هذا الجزاء!
2 - وقل لهم: إني أُمرت بعبادة الله مخلصاً له الدين، ولا تنظر لي ما يقوله كفار قريش بأن تعود الى ملّة أبيك وجدّك وتعبد الاصنام. فاعتبِروا ايها المسلمون واتبعوا رسولكم الكريم وأخلصوا العبادة والطاعة لله.
3 - وقل لهم: إني أخاف عذابَ يوم القيامة ان عصيتُ ربي، ولذلك فإني أعبد الله مخلصاً له ديني، فأخلِصوا بعبادتكم لله.
4 - اما انتم ايها الجاحدون فاعبدوا ما شئتم من الأصنام والأرباب من دون الله. وذكِّرهم ايها الرسول ان الخاسرين هم الذين أضاعوا أنفسَهم بضلالهم، وخسروا أهلهم بإضلالهم، وان ذلك هو الخسران الكبير.
ثم فصّل ذلك الخسران وبينه بقوله تعالى:
{لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ}
طقات متراكمة من النار حتى تحيط بهم النار من كل جانب. هذا ما خوّف الله به عباده وحذّرهم منه، فاتقون يا عبادي واحذروا ذلك الشر العظيم. وتلك منّةٌ من الله تعالى تنطوي على غاية اللطف والرحمة منه وهو الغفور الرحيم دائما.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وحمزة: أمَن هو قانت: بفتح الميم بدون تشديد. والباقون: أمّن بفتح الميم المشددة.(3/170)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
الطاغوت: الطاغي المعتدي وكل رأسٍ في الضلال، وكل ما عُبد من دون الله. فسلكه: فأدخله. مختفا ألوانه: مختلفا انواعه. يهيج: يجفّ ويبلغ نهايته. حطاما: فُتاتا مثل التبن.
بعد ان ذكر وعيده لعَبَدة الأصنام، بيّن هنا ما أعده للذين آمنوا واجتنبوا ذلك وأنابوا الى الله ورجعوا اليه. هؤلاء لهم البشارةُ العظيمة من الله، فبشرّ أيها الرسول عبادي الذين يستمعون القول، فيتّبعون أحسنه وأهداه - بأنهم هم الذين وفقهم الله للرشاد، وهم أًحاب العقول المدركة النيّرة.
ثم بيّ الذين انحرفوا فحقّت عليهم كلمةُ العذاب. ويخاطب بذلك رسوله الكريم فيقول:
{أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار؟} ليس يمكنك ان تنقذ هؤلاء الذين كفروا ووجبت عليهم النار.
ثم كرر القول في الذين آمنوا واتقوا، عنايةً بأمرهم، فقال:
{لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ. . . .}
سيكون لهم في أعالي الجنان غرف مبنيّة بأحسن طراز، بعضُها فوق بعض، تجري من تحتها الأنهار. هذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده.
وبعد ذلك اعقب بذكر صفات الدنيا وأنهار زائلة مهما طال عمر الانسان فيها، تحذيراً من الاغترار بما فيها من متعة، فمثّل حالها بحال نباتٍ يُسقى بماء المطر فيخرج به زرعٌ مختلف الأصناف والانواع والالوان. بعد ذلك يجفّ الزرع ويصير حطاماً يابسا، فما اسرع زواله! .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب}
ان في هذا الذي بينّاه لَذكرى لأصحاب العقول المدركة فلا تغتروا بها وببهجتها.(3/171)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
شرح الله صدره: اناره بالاسلام وجعله مطمئنا. فهو على نور: على هدى وبصيرة. للقاسية قلوبهم: الجامدة المظلمة التي لا تلين. احسن الحديث: القرآن. متشابها: متناسقا، يشبه بعضه بعضا في نَسَقه واسلوبه. مثاني: جمع مثنى: يتكرر المعنى بعدة اساليب تقشعرّ: تخشع وترتعد من الرهبة. تلين جلودُهم: تطمئن.
هل كان الناس سواه؟ أفمن دخل نورُ الاسلام قلبه وهداه الله فهو على بصيرة من ربه كمن أعرض عن ذكر الله، وطُبع على قلبه! ويلٌ لمن قسَت قلوبهم عن ذكر الله، {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وشتّان بين الفئتين.
الله نزل احسن الحديث كتاباً متناسقا لا اختلاف في معانيه والفاظه، وهو في الذروة في الإعجاز والمواعظ والأحكام، تكرر مقاطعه وققصه وتوجيهاته ومشاهدة، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، بل تُعاد في تناسق على أصول ثابتة متشابهة لا ولا تصادم فيها. فاذا تليت آياته اقشعرّت جلود الذين يخشَون ربهم، ووجلت قلوبهم، ثم تلين جلودهم، وتطمئن قلوبهم الى ذكر الله، ذلك الكتاب هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلله الله فليس له من يهديه.
{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة. . . .} لأن يده مغلولةٌ الى عنقه، كمن هو آمن لا يعتريه سوء، ويأتي آمنا يوم القيامة!
{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} القَوا جزاء أعمالكم الشريرة من الكفر والعصيان والجحود.(3/172)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
غير ذي عوج: مستقيم على الحق، لا اختلاف فيه. متشاكسون: مختلفون يتنازعون. سلما: خالصا لسيد واحد لا ينازعه فيه احد. ميت: ستموت. وميْت باسكان الياء: الذي مات. تختصمون: تتجادلون.
ثم يعرض الكتابُ حال المكذّبين لرسول الله ويذكر ما جرى للمكذّبين من الأمم الماضية قبلهم لعلّهم يتعظون ويرجعون عن كفرهم وجحودهم. ان بعض الأمم الماضية كذّبت رسُلَها في الدنيا فأتاها العذابُ نم حيث لا تَحتسِب ولا يخطر لها على بال.
فأذاقهم الله الذلّ والصَّغار في الدنيا، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الاكبر {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ولكنهم عن ذلك كله غافلون.
ولقد بينّا للناس في هذا القرآن من كل مثل يذكّرهم بالحق {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، وأنزلناه قرآنا عربياً بلسانه ليفهموه، ولكنه إنسانيُّ للناس كافة لا يحدُّه ومانٌ ولا مكان. وهو {عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بل مستقيم في مبناه ومحتواه.
وبعد ان ذكر الحكمة في ضرب الامثال للناس، جاء بمثل هنا فيه عبرة فقال:
{ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
ان المشرك الذي يعبد اكثر من إله هو أشبه بعبدٍ مملوك لجماعة مختلفين متشاكسين فيه فلا يتفقون على شيء، ولا يستطيع هو تلبية طلبات الجميع.
اما المؤمن الموحِّد الذي يعبد إلهاً واحداً فهو أشبه ما يكون بعبد يمتلكه رجل واحد، فالاثنان لا يستويان ابدا. الحمد لله على إقامة الحجة على الناس، ولكن أكثرهم لا يعلمون الحق.
ثم بين الله تعالى ان مصير الجميع اليه، وان النبي الكريم ميت وهم ميتون، وانهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحَكَم العدل، يجازي كلاًّ على ما قدم.
قراءات:
قرا ابن كثير وابو عمر: ورجلا سالما: بمعنى خالصا. والباقون: سَلَما.(3/173)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
مثوى: مقاما والفعل ثوى بالمكان أقام. والذي جاء بالصدق: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصدّق به: أصحابه الكرام واتباعه.
ليس هناك اظلم ممن كذب على الله فنسب اليه ما ليس فيه، وأنكر الحق حين جاءه على لسان الرسُل، فمثلُ هؤلاء الناس ستكون إقامتهم في جهنم كما قال تعالى: {فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} .
ثم بين حال الصادقين المصدّقين، وما ينتظرهم من حسن جزاء وكرم ضيافة، هم ومن جاءهم بالصدق، وهو الرسول الكريم، والذين ساروا على نهجه، {أولئك هُمُ المتقون} لهم من الكرامة عند ربهم ما يشاؤون ويحبون. وذلك جزاء كل من احسن عملا، وأخلص في دينه.
والله سبحانه وتعالى سيكفّر عنهم أسوأ ما عملوا من السيئات في الدنيا ويغفر لهم كل ذنوبهم {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وهذا يدل على سعة رحمة الله، وعظيمة غفرانه والحمد لله.
ثم بين الله تعالى انه مع رسوله الكريم، فلا يستطيع احد ان يؤذي ذلك الرسول والله وحده يكفيه كل ما يهمه. انهم يخوفونك يا محمد بآلهتهم واصنامهم، وذلك من ضلالهم وتعاستهم. يقولون لك: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عنها لنصيبنّك بسوء. لا تخف منهم فانهم لن يضرّوك أبدا، {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} والله هو العزيز الذي بيده كل شيء، لا يغالَب، وهو ذو انتقام من أعدائه لأوليائه، يحفظهم ويمنعهم من كل شيء.
قراءت:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: اليس الله بكافٍ عبادَه بالجمع. والباقون: عبده بالافراد.(3/174)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
حسبي: كافيني. من دونه: الاصنام. مكانتكم: الحال التي انتم عليها. اشمأزت: ضاقت ونفرت، انقبضت.
بعد ان بين الله تعالى حال المؤمنين في الجنة، حيث يتمتعون بنعيمها ويؤتيهم الله ما يشاؤون - يؤكد هنا انه يكفيهم في الدنيا ما أهمَّهم، ولا يضيرهم ما يخوّفهم به المشركون من غضب الأوثان وما يعبدون من آلهة مزيفة. فالأمور كلها بيد الله. كذلك بيّن ان قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم: من خلق السموات والارض؟ يقولون: الله. وهم مع ذلك يعبدون غيره.
ثم يسألهم سؤال تعجيز:
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ؟} كلا، طبعا. وما دامت هذه الاصنام لا تنفع ولا تضر، فقل يا محمد {قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} .
ثم أمر رسوله الكريم ان يقول لهم:
{قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ. . . .}
اعملوا ما تشاؤون وعلى الحال التي تحبو، اني عاملٌ حسب ما أمرني الله، ويوم الحساب ترون المحقَّ من المبطِل، ومن سيحل عليه عذاب مقيم يخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد ان حاجّهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة على وحدانية الله تعالى - بيّن الله تعالى أنه انما انزل عليه القرآن بالحق وليس عليه الا إبلاغه للناس، فمن اهتدى فقد فاز، ومن ضل فعليه وزره يتحمله، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لتجبرهم على الإيمان والهدى.
ثم بين الله تعالى انه يأمر بقبض الأرواح حين موتها بانتهاء أجلها، ويقبض الأرواح التي لم يحنْ اجلُها حين نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت لا يردّها الى بدنها، ويرسل الاخرى التي لم يحن أجلها عند اليقظة الى أجل محدد عنده. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} من اهل العقول المفكرة المدبرة.
ثم بين ان الاصنام التي اتُخذت شفعاء لا تملك لنفسهاشيئاً ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع لهم؟ .
قل لهم يا محمد: الشفاعة لله وحده، وله وحده ملك السموات والارض. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
ثم بين الله معايب المشركين وسُخفهم بانه اذا قيل لا اله الا الله وحده نفرت قلوبهم وانقبضت وظهر الاشمئزاز على وجوههم، واذا ذُكرت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ويفرحون.
قراءات: قرأ ابو عمرو والكسائي عن ابي بكر: كاشفاتٍ ضره. . . . ممسكاتٍ رحمته. بتنوين كاشفات وممسكات، ونصب ضره ورحمته، والباقون بالاضافة كشافات ضره. . . . وقرأ حمزة والكسائي: فيمسك التي قُضي عليها. . . . بالبناء للمفعول. والباقون: قَضى بفتح القاف والضاد.(3/175)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
اللهمّ: كلمة تستعمل للنداء، يا الله. حاق بهم: أصابهم، وأحاط بهم. خولناه: أعطيناه. فتنة: بليّة، مصيبة، لأن النعمة قد تكون فتنة احيانا.
قل يا محمد متوجهاً الى مولاك: يا الله، أنت خالق السموات والأرض، وعالم السر والعلَن، انت تحكم بين عبادك وتفصِل بينهم فيما كانوا يختلفون بشأنه في الدنيا.
وبعد ان علّم الله تعالى رسوله الكريم هذا الدعاء يعرِض حال الظالمين المخيفة يوم القيامة، يوم يرجعون للحكم والفصل. ولو ان للذين ظلموا أنفسهم بالشِرك جميعَ ما في الارض وضعفه معه لدّموه فداءً لأنفسهم من سوء العذاب يوم القيامة، يوم يرون بأعينهم ما لم يخطر لهم على بال من العذاب الأليم، وتظهر لهم سيئاتهم التي عملوها في الدنيا، ويحيط بهم ما كانوا به يستهزئون.
ثم بين الله تعالى أن الانسان إذا اصابه ضر نادى الله متضرعاً، لكنه اذا اعطاه نعمة قال: ما أوتيتُ هذه النعم الا لعلمٍ عندي، وجميل تدبيري، وقد غاب عنه ان الأمر ليس كما قال، بل ان هذه النعمة التي تفضّل الله بها عليه هي اختبارٌ له وفتنةٌ ليظهر الطائع من العاصي، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
ثم بين الله ان هذه مقالة قديمة قد سبقهم بها كثير من الأمم قبلهم فقال:
{قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
فما دفع عنهم العذابَ كل ما اكتسبوه من مال ومتاع، فحلّ بالكفار السابقين جزاءُ سيئات أعمالهم، والذين كفروا من قومك وظلموا انفسهم ايها النبيّ، سيصيبهم ايضا وبالُ السيئات التي اكتسبوها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
انما خص المؤمنين بذلك، لأنهم هم الذين يفكرون وينتفعون بايمانهم. وقد تقدم مثل هذا المعنى في سورة الرعد 26، والاسراء 30، وغيرها من السور.(3/176)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
اسرفوا على انفسهم: تجاوزا الحد فيما فعلوه من المعاصي. لا تقنطوا: لا تيأسوا. أنيبوا: ارجعوا إلى ربكم. وأسلموا: أخلصوا له. احسن ما انزل اليكم: القرآن. قرّطت: اهملت وقصرت. في جنب الله: في حقه وطاعته. لو ان لي كرّة: لو ان لي رجعة.
{قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله. . . .}
ان هذه الآية الكريمة اعظم بشرى لنا نحن المؤمنين، فهي دعوة صريحة من الله لنا الى التوبة، ووعدٌ باعلفو ولاصفح عن كل ذنبٍ مهما كبر وعظم. وقد ترك الله تعالى بابه مفتوحا للرجوع اليه امام من يريد ان يكفّر عن سيئاته، ويصلح ما أفسد من نفسه.
روى الامام احمد عن ثوبان مولى رسول الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ. . . .} فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت الرسول الكريم، ثم قال: أَلا ومن الشرك - ثلاث مرات» الى احاديث كثيرة كلها تبشر بسعة رحمة الله، والبشرى بالمغفرة مهما جل الذنب وكبر، ويا لها من بشرى. {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} صدق الله العظيم. {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسين، وجعل يقنّط الناس، وتزمّتَ مثل كثير من وعَاظ زماننا، وبعض فئات المتدينين على جَهل - فقد ركب أعظم الشطط، فبشّروا ايها الناس ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، يرحمكم الله.
ثم امر سبحانه بشيئين: فقال:
1 - {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ. . . .} اغتنموا هذه الفرصة ولا تضيعوها ايها الناس، وتبوا الى بارئكم.
2 - {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ. . . .} .
ثم بين بعد ذلك ان عاقبة من أهل التوبةَ هو ما يحل به من الندامة يوم القيامة فقال:
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} .
بادروا الى العمل الصالح والتوبة واحذَروا ان تفوتكم الفصرة، فتوقل بعض الانفس يوم القيامة: يا حسرتا على تقصيري وتفريطي في طاعة الله، وكثرة سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه ورسوله. او تقول: لو ان الله هداني الى دينه وطاعته لكنتُ من الفائزين. او تقول حين ترى العذاب: ليس لي رجعةً الى الدنيا فأكون من المهتدين. فيقال له:
{بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا}
ليس الأمر كما زعمتَ، ولا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي فكذّبته وكذّبت بآتي، واستكبرت عن قبولها {وَكُنتَ مِنَ الكافرين} .(3/177)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وجوههم مسودّة: كناية عن الذل والحسرة. مثوى: مقام. بمفازتهم: بفوزهم ونجاتهم. وكيل: قيم بالحفظ ولاحراسة. مقاليد السموات والارض: مفرده مقلاد ومقلد: وتطلق على الخزانة والمفتاح. ليحبطن عملك: ليذهب هباء. ما قدروا الله حق قدره: ما عظّموه كما يليق به. والأرض جميعا قَبضتُه: في ملكه وتحت امره. بيمينه: بقدرته.
ويوم القيامة أيها الرسول يدل على الذين كذبوا على الله ذلٌّ وحسْرة ظاهرة على وجوههم. ان في جعهنم مقاما كبيرا للمتكبرين. وينجي الله من عذابه الذين اتقوا ربَّهم فلا يصيبهم سوء ولا هم يحزنون. . لقد أمِنوا من كل خوف وشر، والله وحده خالق هذا الكون {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} قائم بالحفظ، يتولى التصرف بحسب حكمته.
{والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله}
لأنهم حُرموا من الرحمة يوم القيامة بخلودهم في النار.
قل لهم يا محمد: أبعد وضوح الآيات على وحدانية الله تأمرونني ان أعبد غيره أيها الجاهلون!!
ثم بين الله تعالى أنه قد أوحى الى الرسول الكريم والأنبياء من قبله ان يكونوا موحِّدين ولا يشركون بالله شيئاً، ومن يشركْ يذهبْ عملُه هباءً ويكون من الخاسرين.
ثم بين لرسوله الكريم أن لا يجيب المشركين الى ما طلبوه من عبادة الأوثان، وان يعبد هو ومن اتبعه من المؤمنين الله وحده، وان يكون من الشاكرين لنعم الله التي لا تحصى.
ثم بين الله تعالى جهل اولئك الجاحدين بقوله:
{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}
اذ أشركوا معه غيره ودعوالرسول الى الشرك به، واللهُ سبحانه هو مالك هذا الكون، وتكون السموات مطوية بيمينه يوم القيامة {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
والغرض من هذا الكلام تصوير عظمة الله وجلاله، وكل ما يرد في القرآن الكريم من هذه الصورة والمشاهد انما هو من باب تقريب الحقائق الى أفهام الناس الذين لا يدركونها بغير ان توضع لهم في تعبير يدركونه.
قراءات:
قرأ الكوفيون غير حفص: بمفازاتهم بالجمع، والباقون: بمفازتهم. وقرأ ابن عامر: تأمرونني وقرأ ابن كثير: تأمرونّيَ بتشديد النون وفتح الياء. وقرأ ناف: تأمرنيَ بتخفيف النون وفتح الياء.(3/178)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
الصور: بوق ينفخ فيه. صُعق: غشي عليه. يَنظرون: ينتظرون ماذا يفعل بهم. واشرقت الارض: اضاءت بنور الله وعدله. ووضع الكتاب: وهو صحائف الأعمال. بالحق: بالعدل. وسيق الذين كفروا: حثّوهم على السير. زُمرا: افواجا. حقّت: وجبت.
في هذه الآيات والتي بعدها تصوير حيّ لمشهد يوم القيامة وما فيه من حساب وجزاءه، وهو يبدأ بالنفخ في الصور (وهو بوق لا ندري كيف شكله) فيصعق جميع من في السموات والارض إلا من اراد الله ان يؤخرهم الى وقت آخر، ثم ينفخ فيه مرة اخرى فاذا الجميع قائمون من قبورهم ينتظرون ما يُفعل بهم.
واشرقت ارض المحشر بنور الله، ووُضع الكتاب الذي سُجلت فيه أعمالهم، وجيء بالانبياء والعدول ليشهدوا على الخلق.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق}
وفصل اللهُ بين الخلق بالعدل، فهم لا يُظلمون بنقص ثوابٍ او زيادة عقاب. وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} دون حاجة الى كتاب او حاسب. اما حشرُ الناس ومحاسبتهم ووضع الكتاب فهو لتكميل الحجة عليهم وقطع المعذرة.
ثم بعد ان يحاسَب كل انسان ويأخذ كتابه بيمينه او شماله ينقسم الناس فريقين: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} فيساق الذين كفروا الى جهنم جماعات جماعات، حتى اذا وصلوا الى جهنم تفتح لهم ابوابها، ويدخلونها مهانين، ويوبخهم خزنة جهنم بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} فيجيبونهم معترفين ولا يقدروا على الجدل بقولهم: {بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} . ثم يقال لهم ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها أبداً {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} على الحق، والخارجين على العدل.
قراءات:
قرأ الكوفيون: فتحت بتخفيف التاء. والباقون: فتحت بالتشديد.(3/179)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
حافين من حول العرش: محيطين به.
بعد ان بين الله تعالى حالَ أهل النار وكيف يساقون الى جهنم جماعاتٍ باذلالاٍ وتوبيخ، وان ابواب جهنم لا تفتح لهم الا عند وصولهم اليها لتبقى امية تنتظرهم - يذكر هنا حالَ أهل الجنة وما ينتظرهم من استقبال طيب، وثناء ومدح وترحيب. فهم يساقون الى الجنة جماعاتٍ، واذا وصلوها وجدوا ابوابها مفتوحة ليستنشقوا روائحها عن بعد. وهناك يرحب بهم الملائكة بقولهم {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} فيها ابدا في ضيافة رب العالمين، ونعم الضيافة في ذلك النعيم الخاليد.
وعندما يستقرون فيه مكرّمين معززين يقولون: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} وحقق لنا ما وعدَنا به على لسان رسله، وملَّكنا الجنة ننزِل منها حيث ما نشاء {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} .
ويومها يكون الملائكة محيطين بالعرش، ينزّهون اللهَ عن كل نقص، ويكون قد قضى بين العباد، وذهب كلٌّ الى مأواه، ونطق الكون كله بحمد ربه. {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} .
قراءات:
قرأ أهل الكوفة: وفُتِحت بتخفيف التاء. والباقون: وفُتِّحت بتشديد التاء.
وهكذا تختم هذه السورة الجليلة بهذا المشهد الذي يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلال، وقد بدأ الله سبحانه هذه الآية الأخيرة بالحمد وختمها بالحمد، وبهذا يختم المجلد الثالث ونسأ الله حسن الختام.(3/180)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
التوب والتوبة: معناهما واحد. ذي الطَّول: ذي الفضل. يجادل: يخاصم. تقلُّبهم في البلاد: تصرفهم فيها للتجارة ونحوها. الأحزاب: جميع الذين تحزبوا ضد رسلهم. همّت: عزمت على قتلهم. ليأخذوه: ليقتلوه أو يعذبوه. ليدحضوا: ليبطلوا. حقت: وجبت. كلمة ربك: حكمه بالهلاك.
حاميم هكذا تقرأ. حرفان من حروف الهجاء، بدئت بهما السورة للاشارة الى ان القرآن مؤلف من جنس هذه الحروف، ومع ذلك عجِز المشركون عن الإتيان بأصغر سورة من مثله.
إن هذا القرآن منزَّل من عند الله الغالب القاهر، وهو الذي يغفر الذنبَ مهما جلّ، ويقبل التوبة من عباده في كل آن، فبابُه مفتوح دائما وابدا، فلا يقنط أحدٌ من ذلك. وهو شديد العقاب، ومع هذا فهو صاحبُ الإنعام والفضل، لا معبودَ بحقٍّ الا هو، إليه وحده المرجع والمآل.
وقد كثر في القرآن الكريم الجمع بين الوصفين كقوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} [الحجر: 49-50] ليبقى الناسُ بين الرجاء والخوف، ولكن الرحمة دائماً مقدَّمة على العذاب.
وبعد ان بيّن الله ان القرآن كتابٌ أُنزل لهداية الناس وسعادتهم في الدارَين، بيّن هنا أنه لا يخاصِم في هذا القرآن - بالطعن فيه وتكذيبه - الا الذين كفروا، فلا يخدعك أيها الرسول تقلّبُهم في البلاد وما يفعلونه من تجارة وكسب، ولا تغترَّ بسلامتهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
ثم قال مسلّياً رسوله عن تكذيب مَن كذّبه من قومه بأن له أسوةً في الأنبياء مع اقوامهم من قبله بقوله:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ}
الأحزابُ كل من تحزَّب ضد الحق واهله في كل زمان ومكان، وقصة الرسالة والتكذيب والطغيان طويلة طويلة على مدى القرون.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}
ليقتلوه او يعذّبوه، وخاصموا رسولهم بالباطل ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}
ليقتلوه او يعذّبوه، وخاصموا رسولهم بالباطل ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله.
{فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}
فاستأصلتهم فلم أُبْقِ منهم احدا وكان عقابي لهم شديداً مدمرا.
وكما حقت كلمةُ العذاب على الأمم التي كذّبت أنبياءها - حقّت كلمة ربك على الكافرين، لانهم اصحاب النار. وهذا تحذير شديد لجميع المنحرفين من أهل الضلال.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر: حقت كلمات بالجمع، والباقون: كلمة بالافراد.(3/181)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
العرش: المُلْك، وسرير الملك. وهنا معناه مركز تدبير العالم، ولا نعرف صفاته وكيف هو. قِهِم: احفظهم، من الفعل: وقَى يقي. مقْتُ الله: اشدّ غضبه.
ثم بين الله تعالى ان حملة العرش من الملائكة، ومَن حول العرش مِنهم {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود، يذكُرون المؤمنين عند ربهم ويستغفرون لهم ضارعين الى الله تعالى بقولهم:
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ}
اغفر لهم ذنوبهم بعد ان تابوا واستقاموا على هداك، وجنّبهم عذاب النار.
ويقول الملائكة: ربنا أدخِل المؤمنين جناتِ الاقامة التي وعدْتهم بها على لسان رسُلك، وأدخل معهم الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم، {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
ويقولون في دعائهم ايضاً: واحفظْهم يا رب من سوء عاقبة سيّئاتهم التي وقعوا فيها، ومَنْ جنّبتَه سيئاتِه يوم القيامة فقد رَحِمتَه بفضلك، {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} بل هو أكبر فوز يحصل عليه المؤمن مكافأة له على ما قدّم من صالحات الأعمال.
وتنادي الملائكةُ الكافرين يوم القيامة وهم في أشد العذاب فيقولن لهم: إن مَقْتَ الله لكم وغضبه عليكم في الدنيا على كفركم أشدُّ من مقتكم الآن لأنفسِكم، فقد دعاكم سبحانه بواسطة رسُله الى الإيمان فأبيتم إلا الكفر. وما أوجعَ هذا التأنيبَ في هذا الموقف العصيب!! .(3/182)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
أمتّنا اثنتين، وأوحييتنا اثنتين: خلقتنا من العدم، ثم أمتّنا بعد انقضاء آجالنا. وأحييتنا اثنتين: عند ميلادنا، ويوم البعث يوم القيامة. يوم التلاق: يوم القيامة؟ بارزون: ظاهرون.
ويقول الكافرون يوم القيامة: يا ربنا أمتّنا موتَتين: الأولى حين خلقْتَنا من العدم، والثانية يوم توفّيتنا عند انقضاء أجلنا. وأحييتنا مرتين: مرة هي حياتنا الدنيا، والثانية يوم بعثِنا هذا فاعترفنا أننا أنكرنا البعث وكفرنا وأذنبنا. ونحن الآن قادمون، فهل من سبيل الى الخروج من النار، ولك منا عهدَ الطاعة والامتثال؟ فيجيبهم الله: لا.
{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ}
إنكم ان عدتم الى الدنيا فلن تؤمنوا، فقد كفرتم بالله، وآمنتم بالشركاء، وهذا العذابُ الذي انتم فيه من حُكم الله عليكم نتيجة لأعمالكم {فالحكم للَّهِ العلي الكبير} .
هو الذي يريكم دلائل قدرته، وينزل لكم من السماء ماءً يكون سببَ رزقكم، لكنه لا يعتبر بتلك الآيات ويستدلّ بها على عظمة الخالقِ الأوحد الا من يُنيب إلى الله ويرجع اليه.
ثم لما ذكر ما وجّههم اليه من الأدلة على وحدانيته - أمر عباده بالدعاء والتوجه اليه:
{فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}
فادعوا الله مخلصين له العبادةَ ولو كره الكافرون عبادتكم. . ولن يرضوا عنكم ابدا. والدعاء عبادة، وفي الحديث الصحيح: «ادعوا الله تباركَ وتعالى وانتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءَ قلبٍ غافل لاهٍ» .
ثم ذكر الله تعالى بعض صفاته بقوله:
{رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} .
فهو وحده صاحبُ المقام العالي، وصاحب المُلك والسلطة المطلقة، وهو الذي يلقي الوحيَ على من يشاء من رسُله. وسمّى الوحيَ روحاً لأنه روحٌ وحياة للبشر. وذلك لينذر هؤلاء الرسلُ الناسَ أنهم سيُبعثون يوم التلاقي (وهو يوم القيامة) حيث يتلاقون - في ذلك اليوم يبرزون مكشوفين ظاهرين لا يخفى على الله من أمرهم شيء، ويسمعون نداءً رهيباً: {لِّمَنِ الملك اليوم؟} ويأتي الجواب الحاسم {لِلَّهِ الواحد القهار} . وفي ذلك اليوم يتضاءل المتكبرون، ويقف الوجود كله خاشعاً، والعباد كلهم خاضعين.
في ذلك اليوم الرهيب يُثاب كلُّ عامل بعمله، ويقال بوضوح: {لاَ ظُلْمَ اليوم} فإنه يوم الجزاء الحق، ويوم العدل، والقضاء الفصل، هذا كله يسير بسرعة {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} .(3/183)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
يوم الآزفة: يوم القيامة، ومعنى الآزفة: القريبة. الحناجر: جمع حنجرة، الحلقوم. كاظمين: ممسكين، محزونين. حميم: صديق. خائنة الأعين: الأعين التي تزوغ وتنظر بخبث. وما تخفي الصدور: ما تكتمه الضمائر. من واق: من حافظ.
أنذِر أيها الرسول مشركي قومك عذابَ يوم القيامة وهوله، حين تصير القلوب عند الحناجر من شدة الخوف. يومئذ ليس لهم صديق ينفعهم، ولا شفيع تُقبل شفاعته لهم، والله تعالى لا يخفى عليه شيء، يعلم النظرة الخائنة، والسرَّ المستور الذي تخفيه الصدور. وهو تعالى يقضي بالعدل والحق، فلا يظلم احداً ولا ينسى شيئاً، والآلهة المزعومة لا يستطيعون عمل شيء، {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير} .
ألم يسافر المشركون في الأرض، فيروا كيف كان مآل الأمم الماضية!! كانوا أشدّ منهم قوة وتركوا آثاراً عظيمة في الأرض، فاستأصلهم الله بذنوبهم.
{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ}
لم يكن لهم من ينصرهم ويحفظهم من عذاب الله.
وقد تكرر هذا المعنى في أكثر من آية، ولكن بأسلوب مختلف.
ولقد نزل بهم ذلك العذاب لأنهم كذّبوا رسُلهم وجحدوا آيات الله {فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب}
قراءات:
قرأ نافع وهشام: والذين تدعون: بالتاء. والباقون: يدعون: بالياء.(3/184)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
سلطان مبين: حجة واضحة. هامان: وزير فرعون. قارون: من أغنى الأغنياء في ذلك الزمان. اني عُذت بربي: اني التجأت اليه. رجل مؤمن من آل فرعون: يقال إنه ابن عم فرعون. المسرف: الذي تجاوز الحد في المعاصي. ظاهرين: غالبين. ما أريكم الا ما أرى: ما أعلّمكم الا ما أعلم من الصواب.
لقد تقدمتْ قصةُ موسى أكثر من مرة، ذُكر هامان وقارون كل منهما ست مرات، وهذه آخر سورة يُذكران فيها. والجديد في قصة موسى هنا هو ذِكر الرجل الؤمن من آل فرعون. فإن الله تعالى لما أرسل موسى الى فرعون وهامان وقارون كذّبوه وقالوا ساحر مبالغ في الكذب. ولمّا أعيت فرعونَ الحيلة ولم يستطع ان يأتي بحجة ضد موسى - صال لقومه: دعوني أقتلُ موسى، وليدعُ ربه لينقذه، فاني أخاف عليكم ان يغير دينكم {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} فقال موسى لفرعون وملئه: إني تحصنت والتجأتُ الى ربي ولا اخاف منكم احدا.
وهنا يتدخل الرجل المؤمن من آل فرعون فيما لا يعرفُ أحدٌ أنه آمن، فيقول: اتقتلون رجلاً لأنه يقول إن الهي الله!! ولقد جاءكم بالأدلة الواضحة من رب العباد، وأفحمكم بالحجة القاطعة وعجزتم عن اقناعه!
{وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} وما عليكم من تبعته شيء.
{وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} .
ثم أضاف يقول: يا قومي، ان الملك لكم اليوم وانتم ظاهرون في ارض مصر، فمن ينقذنا من عذاب الله ان جاءنا!؟
فلم يلتفت فرعون اليه، وقال لقومه: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} واستمر على عناده وكفره.(3/185)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
ثم يتابع الرجل الؤمن من آل فرعون كلامه ويقول: يا قومِ، اني أخشى عليكم يوماً مثل يوم الأحزاب الذين تحزَّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وكل من جاء بعدهم من المعاندين الجاحدين، ولا اقول لكم هذا غلا خوفاً عليكم من ان يصيبكم ما اصاب هؤلاء الأولين من الهلاك، يوم تولّون مدْبِرين من عذاب النار فلا يكون لكم من الله مانع يمنعكم {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه او يرشده.
ولقد جاء يوسفُ من قبل بالأدلَّة الواضحة، فما زلتم في شكٍ مما أتاكم به، حتى اذا مات قلتم لن يرسلَ الله من بعدِ يوسفَ رسولا {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} .
ثم بين الله هؤلاء المسرفين المرتابين فقال:
{الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} فهم يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان.
{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ} ان يجادلوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} .
كما يطبع الله على قلوب المسرفين المرتابين فهو يطبعُ على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب: او ان يظهر، والباقون: وان يظهر. وقرأ حفص ونافع ويعقوب وابو عمرو: يُظهر الفسادَ بضم الياء ونصب الدال. والباقون: يَظهر الفسادُ بفتح الياء، وبضم الدال.(3/186)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
الصرح: البناء العالي. الأسباب: واحدها سبب، وهو ما يُتوصَّل به الى الغرض المطلوب. التباب: الخسران والهلاك. متاع: ما يستمتع به من كل شيء في هذه الدنيا. دار القرار: الجنة، دار البقاء.
لا يزال الكلام في قصة فرعون وموسى.
ظن فرعون ان الأمر بهذه البساطة فقال لوزيره هامان: ابنِ لي صرحا عالياً لأصعد به الى السماء لعلّي أطّلع الى اله موسى هذا. ثم قال مستهزئا:
{وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}
وهو يعني موسى في دعواه انه رسولُ رب العالمين.
وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العملَ السيء حتى رآه حسنا، ولم يرعوِ بحال، وحاد عن سبيل الرشاد.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ}
ان مكر فرعون وعاقبة امره وكذبه تذهب سدى وفي خيبة ودمار.
ويأتي دور الرجل المؤمن من آل فرعون، ويستمر في نصيحته لقومه، مبيّناً لهم أن هذه الجياة الدنيا زائلة، وان الحياة الباقية هي حياة الخلد في الجنة، فيقول: يا قوم اتّبعوني أرشدْكم الى طريق الصلاح. يا قوم، ما هذه الحياة الدنيا الا متاع زائل لا دوام له، {وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار} .
ثم بين الله تعالى كيف يكون الجزاء في الآخرة، واشار الى ان جانب الرحمة فيها غالبٌ على جانب العقاب. . . . فمن أتى في الدنيا معصية من المعاصي مهما كانت لن يعذِّب الا بقدرها، ومن عمل صالحا، ذكرا كان او انثى، وهو مؤمن بربه مصدّق بأنبيائه ورسله، {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
وهذه اكبر بشرى للمؤمنين، ورحمة الله وسِعتْ كل شيء.
قراءات:
قرأ حفص وعاصم: فأطلعَ بنصب العين. والباقون: فأطلعُ بارفع. وقرأ اهل الكوفة: وصُد بضم الصاد. والباقون: وصَد بفتح الصاد. وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابو بكر: يُدخَلون: بضم الياء وفتح الخاء. والباقون: يدخُلون بفتح الياء وضم الخاء.(3/187)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
لا جَرَم: لا ريبَ في. أفوّض: أسلّم. حاق: نزل.
لا يزال الكلام في قصة فرعون وقومه، وحديث المؤمن من آل فرعون. ويظهر ان هذا الرجل كان من ذوي المكانة والنفوذ حتى جرؤ على هذا الحديث الطويل، فهو يُهيب بقومه ويحثهم على الايمان، ويتعجب من عنادهم فيقول لهم: يا قوم إن أمركم لعجيبٌ، فإني ادعوكم الى الايمان الذي ينجيكم من النار، وتدعونني الى الكفر الله وإشراك غيره في العبادة. وهذا يوجب دخول النار. إنني أدعوكم إلى رُشْدكم، الى عبادة رب عزيز كثير المغفرة واسع الرحمة.
ثم أكد ان أولئك الشركاء الذي يعبدونهم لا مقدرة لهم على شيء، ولا شأن لهم في الدنيا ولا في الآخرة، وان مرد الجميع الى الله.
{وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} سيدخلون فيها.
ثم ختم نصيحته بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم فقال:
{فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ}
وذلك يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله، ويأخذ كل واحد منكم كتابه.
ثم لما يئس منهم قال:
{وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} .
من ثم نجّاه الله من مكرهم، وأحاط بآل فرعون العذابُ السيّء، النار يدخلونها صباحا ومساء. هذا في الدنيا وهم في عالم البرزخ. . ويومَ تقوم القيامة يقول الله تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} .
قراءات:
قرأ اهل الكوفة الا أبا بكر: أدْخِلُوا آل فرعون، بقطع الهمزة. والباقون: ادخلوا آل فرعون، على ان آل فرعون منادى.(3/188)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
يتحاجّون: يتجادلون ويتخاصمون. الضعفاء: الأتباع. المستكبرون: الرؤساء، السادة اولو الرأي فيهم. تبعا: تابعين لهم. مغنون عنا: دافعون الشر عنا. نصيبا: قسطا، وجزءا. حكم: قَضَى. خَزنة جهنم: القائمون عليها. يوم يقوم الأشهاد: يوم القيامة، والاشهاد: الشهود الذين يشهدون على الناس. العشيّ: من نصف النهار الى آخره الإِبكار: اول النهار.
اذكرْ لهم أيها النبي حين يتخاصم أهل النار فيها، فيقول الأتباع من الضعفاء للذين اضلوهم من الرؤساء: إنا كنّا لكم في الدنيا تَبَعا، فهل انتم حاملون عنا بعض العذاب؟ فيرد المستكبرون قائلين: إننا جميعاً في النار، هذا هو حكم الله في عباده، ولا نستطيع ان نساعدكم بشيء. وفي سورة ابراهيم {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [الآية: 21] .
ثم خاطب الضعفاءُ خزنةَ جهنم وتوسّلوا إليهم أن يخفّف الله عنهم يوما من العذاب فأجابوهم موبّخين لهم: ان الله تعالى أرسَل إليكم رسُلاً مكرَّمين فلم تستجيبوا لهم. فاعترفوا بأنهم كذّبوا رسلهم. فقال لهم خزنة جهنم: فاذا كان الأمرُ كذلك فادعوا مهما شئتم، {وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} .
ان طلبَكم مرفوض، فلوموا أنفسَكم على ما أسلفتم.
ثم بين الله تعالى انه ينصر رسُله، والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا، {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} وهو يوم القيامة. وقد يكون الشهود من الإنسان نفسه كما قال تعالى {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] . وفي ذلك اليوم لا ينفع الظالمين اعتذارُهم عما فَرَطَ منهم في الدنيا.
{وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار}
جزاؤهم الطردُ من رحمة الله وإنزالهم من جهنم في اسوأ مكان.
ثم ببين الله تعالى انه نَصَرَ موسى ومن معه، وآتاه هدى منه، واعطى بني اسرائيل التوراة الصحيحة غير المحرفة، {هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} هاديةً ومذكِّرة لأصحاب العقول المدركة المفكرة.
وبعد ان بيّن أنه ينصر رسله والمؤمنين خاطب الرسولَ الكريم أن يصبر، وطمأنه إلى ان النصر له فقال: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغفر لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار}
اصبر ايها الرسول على ما ينالك من الأذى من الناس، انّ وعد الله بنصرك ونصر المؤمنين حقٌّ لن يتخلف. ثم أكد عليه بان لا يترك الاستغفار والدعاء والتسبيح بحمده دائماً صباحاً ومساء، شكراً له على نعمه التي لا تحصى.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة ونافع: يوم لا ينفع الظالمين: بالياء والباقون: لا تنفع بالتاء.(3/189)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
بغير سلطان: بغير دليل ولا حجة. ادعوني: اسألوني. داخرين: صاغرين، أذلاء. لتسكنوا فيه: لتستريحوا فيه. تؤفكون: تصرَفون عن الحق.
اعلم يا محمد ان الذين يجادلونك في دين الله بغير حجّةٍ أو برهان يعلمونه إنما يدفعهم الى ذلك ما يجدونه في صدورهم من الكيد والحسد، وعنادُهم وطمعهم في ان يغلبوك.
{مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}
وما هم ببالغي إرادتهم، ولن يصِلوا الى ذلك ابدا.
ثم امر رسوله ان يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين بقوله:
{فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير}
الجأ الى الله واستعنْ به فهو السميع لاقوالهم، البصيرُ بأفعالهم.
ثم بين الله تعالى للناس وضعهم في هذا الكون الكبير، وضآلتهم بالقياس الى بعض خلْق الله حتى يعلموا حقيقتهم، فيقول:
{لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}
هذا ما يفهمه أصحاب العقول المدركة، فان إعادة خلْق الانسان أهونُ بكثير من ابتداء خلقه، ومن خلْق هذا الكونِ العجيب. ان قدرةَ اله لا تُحَدّ، فاين الانسان من هذا الكون الهائل؟ .
ليس يستوي الأعمى عن الحق والبصير العارف به، ولا يستوي المؤمن العامل بإيمانه والمسيء في عقيدته وعمله، ذلك أن المؤمنين ابصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير، اما الأعمى بجهله فهو يسيء كل شيء. {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} وما أقلّ ما تتذكرون.
وبعد أن قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث، أخبر بأنه واقع لا محالة:
{إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}
فآمنوا بها أيها الناس تفوزوا، وأطيعوا ربكم اذ أمركم أن تسألوه، فانه قريب يجيب داعءكم ويعطيكم. أما الذين يتكبرون عن عبادة الخالق فجزاؤهم جهنّم يدخلونها صاغرين.
ثم شرع الله يبين بعض نعمه على الناس، وهي تُظهر عظمته تعالى، لكنهم لا يشكرون عليها فقال:
{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}
من أكبرِ النعم على الناس ان الله جعل لهم الليلَ ليستريحوا فيه من العمل، والنهارَ مضيئا ليعملوا فيه ويكسبوا رزقهم، والله هو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} هذه النعم، ولا يعترفون بها. {نَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الآية [إبراهيم: 34] .
ثم بين الله كمالَ قدرته وانه الاله الواحد فقال:
{ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ}
ذلكم الذي انعم عليكم بهذه النعم الجليلة هو الله خالق هذا الكون وما فيه، الاله الواحد المنفرد في الألوهية.
{فأنى تُؤْفَكُونَ}
فإلى اي جهة تُصرفون عن عبادته الى عبادة غيره! .
ثم ذكر ان هؤلاء الجاحدين ليسوا ببدعٍ في الأمم قبلهم، فقد سبقهم الى هذا جحود خلق كثير فقال:
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}
فكما ضلّ هؤلاء بعبادة غير الله ضل الذين قبلهم بلا دليل ولا برهان.
قراءات:
قرأ أهل الكوفة: تتذكرون بتاءَين، والباقون: يتذكرون بالياء. وقرأ ابن كثير ورويس سيدخَلون: بضم الياء وفتح الخاء. والباقون: سيدخُلون بفتح الياء وضم الخاء.(3/190)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
قرارا: مستقرا تستقرون عليها. بناء: مبنية بنظام لا يختل. فتبارك: فتقدّس وتنزه. طِفلاً: يعني اطفالا، لأنه يطلق على المفرد والجمع.
في هذه الآيات يؤكد الله تعالى حقيقة الوحدانية، كما يؤكد على حقيقة ألوهيته وربوبيته. فالله وحده هو الذي جعل لنا هذه الأرض لنستقر عليها، وجعل السماء بناءً محفوظا زيّنه بهذه النجوم والكواكب التي نراها. ولقد خلقَ الانسانَ فأبدع تصويره، وجعله في احسن تقويم {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} المباحةِ ما يلذّ لكم، {فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} ، الذي يخلق ويقدّر ويدبّر. وهو الذي لا تنبغي الألوهية إلاّ له، ولا تصلح الربوبية لغيره، بما انه المنفرد بالحياة: {هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فادعوه باخلاص الدين له، واحمدوه في الدعاء والثناء لأنه مالكُ هذا الكون بما فيه.
وبعد ان اثبت سبحانه لنفسه صفاتِ الجلال والكمال، أمر رسولَه الكريم أنه منهيٌّ عن عبادة غيره مما يَدْعون. . قل لهم ايها الرسول: إني نُهيت عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله {لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي} وأُمرت ان أنقاد في كل اموري لله رب هذا الكون كله.
ثم يستعرض آية من ىيات الله في انفسهم بعدما استعرض آياته في هذا الكون العجيب، وهذه الآية هي الحياة الانسانية واطوارها العجيبة فيقول:
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ. . .}
رتّب الله سبحانه تطور حياة الانسان في ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشُدّ في الشباب والكهولة، والشيخوخة. ومن الناس من يُتوفى قبل سن الشباب، او الشيخوخة. والله يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقِلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
ثم بعد هذه الأدلة على وجود الاله القادر، يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة، وحقيقة الخلق والانشاء جميعا:
{هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ}
وتكثر الاشارة في القرآن الكريم الى آيتي الحياة والموت، لأنهما تلمسان قلب الانسان بشدّة وعمق، فالحياة ألوان، والموت ألوان، منها رؤية الأرض الميتة ثم رؤيتها مخضرة بألوان النبات والزهور، وكذلك رؤية الاشجار وهي جافة ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، وغيرها وغيرها. وعكس هذه الرحلة من الحياة الى الموت، كالرحلة من الموت الى الحياة، الى حقيقة الانشاء وأداة الابداع، وهو في ذلك كله كما يقول:
{فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} بلا معاناة، ولا توقف {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] .(3/191)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
بالكتاب: بالقرآن. يُسحبون: يجرون. في الحميم: في الماء الحار. يُسْجَرون: يحرقون. ضلوا عنا: غابوا عنا. تفرحون: تبطرون وتسرّون. تمرحون: تختالون من شدة الفرح. المثوى: مكان الاقامة.
الم تنظر أيها الرسول الى هؤلاء الجاحدين كيف يجادلون في آيات الله الواضحة، ويحاولون أن يبطلوها، وكيف يُصرفون عن النظر فيها، ويصرّون على ضلالهم. لقد كذّبوا بالقرآن، وبما ارسلنا به رسُلَنا دميعا، فسوف يرون جزاء تكذيبهم حين تكون الأغلال في رقابهم يُجرون بها في الماء الحار، ثم يُحرقون في نار جهنم، ثم يقال لهم: اين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون: لقد غابوا عنا {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} بل تبيَّن لنا أننا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يُعتد به. وكما أضل الله تعالى هؤلاء، كذلك يضلُّ الكافرين.
وهذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب انما هو جزاء بسبب ما كنتم تفرحون وتبطرون وتتكبرون في الارض بغير الحق، وما كنتم تتمتعون به وتمرحون. ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فبئس منزل المتكبرين.
ثم امر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، وأكَّدَ ان وعد الله له بهلاك الكافرين حق، وسيأتيهم هذا العذاب إما في حياتك يا محمد او حين يرجعون الينا، او نتوفينك قبل ان تراه، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} جميعا فنجازيهم بما كانوا يعملون.
ثم يسلي الرسولَ الكريم ومن معه بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}
وتقدّم مثل هذا النص في سورة النساء: 164.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}
يبين الله تعالى ان الرسلَ بشرٌ مكلفون بالتبشير والانذار وتعليم الناس، أما لمعجزات فهي بأمر الله وحسب مقتضى حكمته. ولا يمكن لرسول ان يأتي بمعجزة الا بأمر الله ومشيئته. فاذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا او الآخرة قضى بين الناس بالعدل.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون}
ولم يعد هنا كمجال للتوبة ولا للرجعة إلى الدنيا.(3/192)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
الأنعام: الابل والبقر والغنم. الفُلك: السفن. بالبينات: الآيات الواضحة. وحاق بهم: احاط بهم. بأسنا: شدة عذابنا. سنّة الله: طريقته.
يبين الله تعالى في هذه الآيات بعضَ هذه المعجزات التي يطلبها الجاحدون، ولكنهم لا يحسّون بها لأنهم ألِفوها، ثم يذكّرهم بما في هذه الآيات من نعم كبار.
ان الله تعالى خلق هذه الأنعام من الإبل والغنم والبقر، وذلّلها للانسان، منها ما يركبه ويستعمله في قضاء حاجاته، ومنها ما يأكله. فقد كانت وسائط السفر من هذه الانعام ولا يزال هناك حاجة لها في التنقّل بين الاماكن الوعرة في الجبال رغم وجود الوسائط الحديثة. ومنها ما يأكلونه ويشربون لبنه، كما يستعملون جلودها.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ}
وقد تقدم في سورة النحل في الآيات 5 و 6 و 7 و 8 بأوسع من ذلك.
ثم بين انه يريكم آياته الباهرة التي لا مجال لانكارها بقوله:
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ!} .
والله تعالى يريكم دلائلَ قدرته، لا تقدِرون على إنكار شيء منها لأنها واضحة لا يُنكرها من له ادنى عقل.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ. . . .}
تقدم هذا المعنى في اكثر من آية في سورة يوسف والحج والروم. فلو انهم اعتبروا بما رأوا من آثار الأمم السابقة واتّعظوا بها لأغناهم ذلك عن جحودهم وكفرهم.
وتلك المم السابقة حين جاءتهم رسُلهم بالشرائع والمعجزات الواضحة، فرحوا بما عندهم من علوم الدنيا، واستهزأوا بالمرسَلين، فنزل بهم العذابُ وأحاط بهم. فلما رأوا العذاب آمنوا بالله وحده وكفروا بآلهتهم التي عبدوها، ولكن ذلك لم يُفِدْهم شيئاً. لقد فات الأوان، فلا يفيد الندم. {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} وتلك سنَّةُ الله قد سبقت في عباده ان لا يقبل الايمان حين نزول العذاب، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} وسنة الله ثابتة لا تختلف ولا تحيد عن الطريق.
اللهم اقبل توبتنا، وأحسن ختامنا، واسترنا واغفر لنا يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.(3/193)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
فصلت: بينت. لا يسمعون: لا يطيعون. أكنّة: أغطية، جمع كنان. وقْر: صمم. غير ممنون: غير مقطوع، فهو دائم بلا مَنّ.
حاميم: حرفان من حروف المعجم افتتحت بهما السورة، لإثارة الانتباه والتدليل على إعجاز القرآن.
ان هذا القرآن منزل من عند الله الرحمن الرحيم. وتتكرر هاتان الصفتان من الرحمة دائما لأن الله تعالى رحيم بعباده سبقت رحمته غضبَه، وحتى يعلم الناس ان الله تعالى رحمن رحيم بخلقه، بابه مفتوح لهم دائما حتى لا يقنطوا من رحمته، فالقرآن رحمة من الله تعالى، والرسول الكريم رحمة من الله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
وهذا القرآن كتاب بُيّنت آياته وفصّل فيه الحرام والحلال والنصائح والمواعظ والاخلاق، بلغةٍ عربية فصيحة، ميسّراً فهمه لقوم يعلمون معانيه ومقاصده، ومراميه الانسانية الخالدة.
ولقد أُنزل هذا الكتاب العظيم بشيراً لمن أطاع ونذيرا لمن عصى.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} فلم يطيعوه ولم يقبلوه كأنهم لا يسمعون.
ثم صرحوا بإعراضهم عنه فقالوا: إن قلوبنا مغلقة دونه عليها الأغطية، فلا تقبله، وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تدعونا اليه، وبيننا وبينك يا محمد حجاب ساتر يمنعنا من قبول ما جئت به.
{فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ}
فاعمل ما شئت، فاننا لا نَحيد عن موقفنا منك ومن دعوتك.
قل لهم ايها الرسول: ما أنا إلا بشر مثلكم يوحَى إليّ من الله بأن الهكم الذي يجب ان تبعدوه هو الله الواحد الأحد.
{فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه. . .}
فاستقيموا في افعالكم متوجهين اليه، واطلبوا اليه المغفرة فانه رحيم يحب التوابين، والويلُ والهلاك لمن أشرك به، وبخل بمالِه فلم يعط الفقراء والمحتاجين قليلا منه.
{وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ}
وينكرون البعثَ والجزاء. ونرى ان منع الزكاة مقرونٌ بالكفر لأن أحبَّ شيء الى الانسان هو المال، وهو شقيق الروح، ولذلك شدّد الله تعالى في هذا الموضوع وأمَرَ بالبذل والعطاء.
والزكاة كانت معروفة قبل الهجرة، وهذه الآية مكية، ولم تكن محدَّدة، وانما فُرضت وحُددت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة.
ثم بين الله ما للمؤمنين عنده تعالى حتى يظهر الفرقُ بين المحسن والمسيء فقال:
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
جزاؤهم دائم غير مقطوعٍ بلا منٍّ ولا أذى عند رب غفور رحيم.(3/194)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
أندادا: امثالا. الرواسي: الجبال الثابتة الرواسخ. أقواتها: أقواتَ اهلها. سواء: كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة. استوى الى السماء: قصد نحوها. دخان: مادة غازية أشبه بالدخان. فقضاهن: خالقهن. امرها: شأنها. بمصابيح: بكواكب ونجوم كما نراها. وحفظا: حفظناها حفظا من الآفات.
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وانتم مع هذا تجعلون له شركاء أمثالاً له! {ذَلِكَ رَبُّ العالمين} . وجعل في الأرض جبالاً ثابتة من فوقها لئلا تَميدَ بكم، وجعلَها مباركة كثيرة الخيرات، وقدر فيها أرزاقَ أهلِها حسبما تقتضيه حكمته، كل ذلك في اربعة ايام متكاملة.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر اليوم والايام، ففي سورة الحج {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] . وفي سورة السجدة الآية 5 {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وفي سورة المعارج الآية 4 {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.} ان هذا اليوم الذي نعيش فيه ونعرفه مرتبطٌ بالأرض ودورانها حول نفسها، فاذا خرجنا من منطقة الأرض الى الفضاء الواسع الفسيح اختلفت المقاييس، ولم يعدْ للزمن حدود، وان سَنَتَنا 365 يوما، بينما سنة عطارد وهو اقرب الكواكب الى الشمس 88 يوما فقط حسب دورته حول الشمس، وان ابعد الكواكب وهو بلوتو تقدّر سنته بنحو 250 سنة، لأنه يتم دورة واحدة بهذا الزمن، وهكذا فان الزمن نسبي. ان ايام الله هو يعلم مداها، ولا شك بانها أطول بكثير من ايام الأرض المعروفة.
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}
ثم توجهتْ إرادته تعالى الى السماء وهي غاز هو معروف بالسديم الآن، وخلقَ السموات والأرض على وفق ارادته، فقال للسماء والأرض، ائتيا طائعين او مكرهتين بما وضعتُ فيكما من التأثير، وأبرِزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات، وائتيا في الوجود على ما أردتُه لكما، قالتا: أتينا طائعين لك أيها الخالق العظيم.
والمراد هنا من هذا التعبير تصويرُ قدرته تعالى فيهما وامتثالهما بالطاعة لأمره. فخلقَهن سبع سموات في يومين من أيامه، واوحى في كل سماءٍ أمرها وما أُعدّت له واقتضته حكمته، وزين السماء الدنيا التي نراها بالنجوم المنيرة كالمصابيح في أقرب المجرّات الينا التي نعيش على اطرافها، وهي المعروفة بدرْب التبّانة، والتي يقدَّر قطرها بنحو مئة الف مليون سنة ضوئية. وجعل لهذه الارض غلافاً جوياً يحفظها من كل سوء.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} الذي يمسك هذا الكون، ويدبر الوجود كله بقدرته وحكمته.
قراءات:
قرأ يعقوب: سواءٍ بالجر. والباقون سواءً بالنصب.(3/195)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
صاعقة: عذاب شديد ينزل بهم. من بين أيديهم ومن خلفهم: من كل مكان. ريحاً صرصرا: باردة تهلك بشدة بردها. نحسات: نكدات مشئومات. أخزى: اذل. الهُون: الهوان، الذل.
فإن أعرضَ المشركون عن الإيمان، فقل لهم ايها الرسول: انني أنذركم بعذابٍ شديد مثل ما حلّ بعادٍ وثمود، اذ جاءتهم الرسُل من جميع النواحي ونصحوهم أن لا يعبدوا الا الله، فردّوا عليهم بقولهم: لو أراد الله إرسالَ رسولٍ لأنزل الينا ملائكة. {فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} فاستكبروا في الارض بغير حق وقالوا مغترّين بأنفسهم: من أشدُّ منا قوة؟ قالوا ذلك ولم يروا ان الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة، {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} .
وبعد ذلك يبين الله مصيرهم المشئوم فيقول: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً. . . .}
ريحاً باردة تهلك بشدّة بردها، ولها صوتٌ مخيف، ارسلناها في ايام مشئومة لنذيقَهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ خِزيا، يوم لا يستطيع احد ان ينصرهم منه.
واما ثمود فإننا بينّا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاختاروا الضلالة على الهدى، فأصابتْهم صاعقة أحرقتْهم وتركتهم في ذلٍ وهوان {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الذنوب والجحود.
وأما الذين آمنوا وكانوا يعملون الصالحات ويتقون ربّهم فقد نجّيناهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع: نحْسات باسكان الحاء. والباقون: نحِسات بكسر الحاء.(3/196)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
يوزَعون: يساقون ويُدفعون الى جهنم. أرداكم: اهلككم. مثوى: مقام. وإن يَستعتبوا: يطلبوا العتبى والرضا. فما هم من المعتَبين: من المجابين الى ما يطلبون.
اذكر لهم أيها الرسول يومَ يُحشَر أعداءُ الله الى النار، وهم يساقون توجُرهم الملائكة، حتى اذا وصلوا وسئلوا عن أعمالهم السيئة في الدنيا، فانكروا - شهدَ عليهم سمعُهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا.
فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ فتقول الجلود: أنطقَنا الله الذي أنطقَ كلَّ شيء وهو الذي خلقم من العدم، وإليه ترجعون.
وما كان باستطاعتكم ان تُخفوا أعمالكم عن جوارحكم مخافةَ ان تشهد عليكم، ولكن كنتم تظنون ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وهذا الظنّ الفاءد الذي كان منكم في الدنيا أوقعَكم الآن فأهلككم {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} .
فان يصبروا على ما هم عليه فالنارُ مأواهم، وان يطلبوا رضا الله عليهم فما هم بِمُجابين الى طلبهم، وهذا مثلُ قوله تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21] .
قراءات: قرأ نافع ويعقوب: ويوم نحشر بالنون، والباقون: يحشر بالياء.(3/197)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
قيضنا: هيّأنا. قرناء: جمع قرين وهم الأصحاب والإخوان من غواة الجن والإنس. والْغَوا فيه: عارِضوه باللغو الباطل حين يُقرأ لتشوشوا عليه. دار الخلد: دار الاقامة الخالدة.
لا يزال الحديث عن المشركين الجاحدين، ويبين هنا ان السبب في غوايتهم هم قرناءُ السوء الذين زيّنوا لهم الكفر والضلال، وأغروهم بأنه لا بعثٌ ولا حساب، وحقَّ عليهم العذاب ممع أممٍ قد خلتْ من قبلهم من الجن والإنس ممن كانوا على شاكلتهم، وان هؤلاء جميعاً، {كَانُواْ خَاسِرِينَ} .
ثم بين الله كيف كان مشركو قريش يكذّبون بالقرآن وكيف يستقبلونه باللغو والتشويش.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
كانوا يوصون بعضهم بأن لا يصغوا الى القرآن، وان يشوّشوا بأصواتهم رجاءَ ان يكونوا هم الغالبين.
ثم اوعد الله الكفارَ بالعذاب الشديد وأقسمَأن يذيقَ الذين كفروا عذاباً شديداً جزاء فعلِهم السيّء وإعراضِهم وشغبهم.
ثم بيّن الله تعالى انهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلُبون الانتقامَ ممن أضلّوهم من شياطين الإنس والجن، ليطأوهم بأقدامهم وينتقموا منهم شرّ انتقام، ولكنّ كلّ ذلك لا يُجديهم ولا يخفّف عنهم العذاب. وهكذا يصدُقُ عليهم قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] .(3/198)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
استقاموا: ثبتوا على الايمان والعمل الصالح. أولياؤكم: نصراؤكم. ما تدعون: ما تطلبون. نزلاً: ضيافة حسنة. ادفع بالتي هي أحسن: رُدَّ الاساءة باللين والحسنى. وليّ حميم: صديق عزيز. وما يلقّاها: وما يعمل هذا العمل ويتحمله. الا ذو حظ عظيم: الا ذو نصيب وافر من الخير. ينزغنَّك: يوسوسنَّ لك ويغرينك بالشر. فاستعذ بالله: التجئ اليه.
هذه الآيات الكريمة دستورٌ عظيم في الأخلاق، وحسن المعاشرة، وكيفية الدعوة الى الله والتحلّي بالصبر والأناة، ولو أننا اتبعناها حقا، ولو أن وعّاظنا وأئمة مساجدنا تحلَّوا بها وساروا على هديها - لنفع الله بهم الناس، وهدى الكثيرَ الكثير منهم على أيديهم، ولاستقامت الأمور، وارتقت أحوالنا، هدانا الله الى التحلّي بكل مكرمة.
ان الذين قالوا ربنا الله اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته، ثم استقاموا في أعمالهم - أولئك تحفّهم الملائكة، وتبشّرهم بالفلاح والفوز بالجنة التي وعدَهم بها الله، وهو يقول لهم: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالتأييد، وفي الآخرة بالشفاعة والتكريم، ولكم في الجنة ما تشتهي أنفسكم وكلّ {مَا تَدَّعُونَ} أي ما تطلبون من الطيِّبات ضيافةً لكم من الله الغفور الرحيم.
ثم بين الله تعالى صفة الداعي الى الله بالأقوال الحسنة والعمل الصالح ليكون قدوةً ويقرّ بأنه من المسلمين المخلصين. وبعد ذلك أعقب بالدعوة الى حسن المعاملة بين الناس فقال:
{وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة}
ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة، ادفعْ ايها المؤمن الاساءة ان حاءتك بالقول الحسن والِّين، فاذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما، وناصرا مخلصا.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}
وما يتحلى بهذه الأخلاق العالية الا الصابرون {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وما يُرزقها إلا ذو نصيب عظيم من خِصال الخير والكمال.
وان يصبْك من الشيطان وسوسةٌ فاستعذْ بالله، إن علمه محيطٌ بكل شيء.(3/199)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
لا يسأمون: لا يملّون. خاشعة: هامدة لا حياة فيها. اهتزت: تحركت. وربتْ: زادت. الذين يلحِدون في آياتنا: ينحرفون عن القرآن الكريم. من بين يديه ومن خلفه: من جميع جهاته. حميد: محمود. في آذانهم وقرٌ: فيها صمم.
يبين الله في هذه الآيات الكريمة الدلائلَ على وجوده تعالى وقدرته وحكمته، ومنها الليلُ والنهار والشمس والقمر، ثم ينبّه الناس أن لا يسجدوا للشمس ولا القمر، بل ان يعبدوا الله وحده الذي خلق هذا الكون العجيب. (وهنا مكان سجود، اذا قرأ القارئ القرآن وبلغ هاتين الآيتين عليه ان يسجد) . فان استكبر هؤلاء المشركون الذي يعبدون غير الله عن السجود، فان الله لا يعبأ بهم، فعنده الملائكة يسبّحون له بالليل والنهار، لا يملّون من ذلك ولا يسأمون.
ثم بين بعد ذلك بآية أرضية تراها العين في كل حين، وهي حال الأرض: هامدة يابسة لا نبات فيها، تنتعش وتهتزُّ بعد ان ينزل المطر. . والذي أحياها هذه الحياة قادر على أن يحيي الموتى، {إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ان الذين يميلون عن الحق ويُلحِدون في آياتنا نحن نعلمهم ولا يخفون عنا، ولهم جزاء كبير عند الله عبّرت عنه آيةُ:
{أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة؟} انهم لا يستوون. وبعد ذلك هدّدهم الله وبين عاقبتهم بقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
لقد كفر هؤلاء الملحدون بالقرآن لمّا جاءهم، وإنه لكتابٌ عزيز يغلب كل من حاول ان يعارضه، لا يأتيه الباطل أبداً من اي ناحية من نواحيه، فهو {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، حكيمٍ بتدبير شئون عباده، محمود على ما أسدى اليهم من النعم التي لا تحصى.
ثم بعد ذلك سلّى الله رسولَه الكريم عمَا يصيبه من أذى المشركين وطَعْنهم فيه وفي الكتاب العزيزن وحثَّه على الصبر، وان لا يضيق صدره بما يقولون، فقد قيل مثلُه للرسُل الذين جاؤا قبله، ومع كل ذلك {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} .
ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي: هلا نزل القرآن بلغة العَجَم؟ هذا ممع أنه لو نزل بلغة اعجمية لأنكروا ذلك ايضا، وقالوا ما لنا ولهذا؟
ثم قال لرسوله الكريم قل لهم: ان هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين، اما الذين كفروا ولم يؤمنوا به، فكأنهم صمّ، وهو عليهم عَمًى فلا يبصرون حُججه ومحاسنه.
ثم مثّل حالهم، باعتبار عدم فهمهم له، بحال من ينادَى من مكان بعيد فهو لا يسمع من يناديه: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} .
قال اهل اللغة: تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادَى من مكان بعيد، وللفهيم ثاقب الرأي: انك لتأخذ الأمور من مكان قريب.(3/200)
ولقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه، ولولا قضاءٌ سبقَ من ربك ايها النبي ان يؤخر عذابَ المكذبين بك الى أجلٍ محدّد عنده - لقضى بينهم باستئصالهم، وان كفّار قومك لفي شكٍّ من القرآن.
ثم ختم هذا الجزء من القرآن بان الجزاء من جنس العمل، وان الله لا يظلم احدا فقال:
{مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} .
قراءات:
قرأ قالون وابو عمرو: آاعجمي بمد الهمزة الاولى وتسهيل الثانية. وقرأ حفص وابن كثير وابن ذكوان: أأعجمي بهمزتين بغير مد. وقرأ هشام: أعجمي على الإخبار.
وهذا بيان واضح للناس، والله قد أعذر {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] .
اللهم وفقنا للعمل الصالح واختم لنا بخير، واسترنا يا رب العالمين.(3/201)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
الساعة: يوم القيامة. اكمامها: جمع كِمّ بكسر الكاف، برعوم الثمرة ووعاؤها، وكذلك الكُم بضم الكاف: وعاء الثمر والزهر. آذنّاك: أعلمناك. ما منا من شهيد: ليس منا من يشهد لك شركاء. وظنوا ما لهم من محيص: وايقنوا ما لهم من مهرب. لا يسأم: لا يملّ. من دعاء الخير: من طلب المال، ويطلق الخير على المال والصحة والجاه والسلطة وغيرها. الشر: الفقر والمرض وكل سوء. والقنوط: بضم القاف، ظهور اثر اليأس على الانسان من المذلة والانكسار. الرحمة: الصحة وسعة العيش وكل ما يسرّ الانسان. والضرّاء: ضد الرحمة مثل المرض وضيق العيش ونحوهما. هذا لي: هذا ما أَستحقه لما لي من الفضل والعمل. الحسنى: الكرامة. عذاب غليظ: كثير وكبير.
بعد تلك الجولة مع المشركين، وما ينتظرهم يوم القيامة حسب أعمالهم وسوء عقائدهم - يبيّن الله تعالى هنا أن لا سبيل الى معرفة يوم القيامة وتحديد موعده، فذاك لا يعلمه الا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها عند الله، فلا يعلم احد متى تخرجُ الثمر من اكمامها، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر سبحانه انه يوم القيامة ينادي المشركين تقريعاً لهم فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِي} الذين كنتم تعبدونهم من دوني؟ فيكون جوابهم: {آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} إننا نُعلمك يا الله انه ليس منا الآن من يشهد ان لك شركاء. وغاب الشركاء السابقون عنهم فلا يرجون منهم نفعا، وايقنوا انه لا مهرب لهم من العذاب.
ثم بين الله تعالى ان الانسان متبدّل الأحوال، لا يملّ من طل بالمال والمنفعة، فان أحسّ بخيرٍ وقدرة واقبلت عليه الدنيا - تكبّر وصعَّر خدّه، وان اصابته محنة وبلاء تطامنَ ويئس من الفرج. واذا انعم الله عليه بالخير والرحمة بعد الضّراء واليأس يقول: {هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} .
كل هذا من الغرور والضلال. ولكن الله تعالى يبين لهم ان تمرُّدهم هذا وبطرهم لا ينفعهم اذ يقول: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو عذاب جهنم خالدين فيها ابدا.
قراءات:
قرأ نافع وحفص وابن عامر من ثمرات بالجمع. والباقون: من ثمرة بالإفراد.(3/202)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
نأى بجانبه: تكبّر واختال. عريض: كثير. أرايتم: أخبروني. في شقاق بعيد: في خلاف كبير. الآفاق: جمع أفق بضم الفاء واسكانها. والأفق: الناحية ومنتهَى ما تراه العين من الأرض.
واذا أنعمنا على الإنسان ورزقناه سعة العيش والصحة - أعرضَ عما دعوناه إليه وتكبّر واخال، واذا مسّه الشّر وأصابته شدة من فقر او مرض اطال الدعاء والتضرع الى الله لعلّه يكشف عنه تلك الغُمة. وتقدم مثله في سورة يونس 12، وسورة هود 9 و 10 وسورة الاسراء 83.
قل لهم يا محمد: أخبِروني ان كان هذا القرآن الذي تكذّبون به من عند الله ثم كفرتم به، افلا تكونون بعيدين عن الحق والصواب؟ .
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق}
ينري هؤلاء المشركين دلائلنا على صِدقك، وأنّه وعدُ الله لعباده جميعا، وذلك بأن نطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء. فقد كشف العلم عن امور كثيرة عن الأرض وما عليها، وعن النظام الشمسي وما فيه، وان هذه الارض وما حولها ما هي الا ذرة صغيرة تابعة للشمس، التي هي وما حولها ذرة صغيرة تسبح في هذا الكون الفسيح، وعرف الناس عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير، وان كل هذه المعلومات والاكتشافات ما هي الا ذرة من علم الله. {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الاسراء: 85] .
وكذلك سنري هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد والفتوحات التي تمت على يدي الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وعلى يدي خلفائه وأصحابه الكرام {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} وان كل ما جاء به الرسول الكريم هو الحق.
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
كفى بالله شهيدا على افعال عباده واقوالهم، وعلى صدق محمد فيما أخبر به عنه. . ألم تكفِهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحَها سبحانه في هذه السورة وفي كل القرآن، وفيها البيان الكافي لاثبات وحدانيته، وتنزيهه عن كل نقص!!
ثم بين الله سببَ عنادهم واستكبارهم بعد كل ما تقدم من حججٍ وبيّنات فقال في الختام:
{أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} .
انهم في شك عظيم من البعث والجزاء ولقاء ربهم، ولذلك كفروا، والله تعالى محيطٌ بكل صغير وكبير، لا يفوته شيء في هذا الكون الكبير، واليه مردّ الجميع.(3/203)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
يتفطّرن: يتشقّقْن من خشية الله وعظمته. من فوقهن: من جهتهن الفوقانية. حفيظ عليهم: رقيب عليهم. لتنذر: لتخوّف. وما أنت عليهم بوكيل: لست موكلاً بهم. أُم القرى: مكة. يوم الجمع: يوم القيامة، سمي بذلك لاجتماع الخلائق. الفريقك الجماعة. السعير: النار الموقدة المتأججة.
حم عسق: تقرأ هكذا: حاميم عَين سِين قاف، وقد تقدم الكلام على مثلها اكثر من مرة.
يبين الله تعالى أن ما جاء في هذه السورة موافقٌ لما في الكتُبِ المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة الى توحيدِ الله، والإيمان باليوم الآخر، وأمرِ النبوة، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة، والتزهيدِ في جمع حُطام الدنيا، والعملِ على سعادة الإنسان والمجتمع. وهذا كله إنما يُوحى اليك ايها الرسول الكريم من الله العزيز الحكيم.
ثم بين الله تعالى ان ما في السموات والأرض تحتَ قبضته وفي ملكه، له التصرف فيه وحده ايجاداً وعدماً، وان السمواتِ والأرض على عِظَمِها تكاد تتشقّق فَرَقاً من هيبته وجلاله، وان الملائكة يسبّحون بحمد ربهم وينزهونه عما لا يليق به، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين. وبين بوضوح {إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} ثم أتبع ذلك بتسلية الرسول الكريم بأنه ليس رقيباً ولا وكيلاً على المشركين حتى يستطيع ردَّهم الى سواء السبيل، وما هو الا نذيرٌ يبلّغهم، وحسابُهم على الله.
ثم بيّن بوضوح انه تعالى أنزل على رسوله قرآناً عربياً بلغة قومه ليفهموه، لينذر أهلَ مكة ومن حولهم من العرب ابتداءً ثم ينشرونه في العالم. وهذه سُنة الله كما قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] .
وكذلك لتنذرَهم يا محمد أن يوم القيامة آتٍ لا شك فيه، وان الناس في ذلك اليوم فريقان: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} الأول يدخل الجنة بايمانه وما قدّم من صالح الاعمال، والثاني يدخل النار بكفره وما قدّم من سيء الاعمال.
ثم ذكر الله تعالى ان حكمته اقتضت ان يكون الإيمان اختياراً، ولم يشأ أن يكون قسراً وجبرا {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فمن آمن وأناب الى الله وعمل صالحاً افلح وفاز بالسعادة الأبدية {والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
قراءات:
قرأ ابن كثير وحده: كذلك يوحى اليك بفتح الحاء. والباقون: يوحي بكسر الحاء.(3/204)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
أولياء: ناصرين. أنيب: ارجع اليه. فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما. من أنفسكم ازواجا: من جنسكم، وعبّر بانفسكم لأن اقرب شيء الى الانسان زوجته. ومن الانعام ازواجا: ذكراً وانثى. يذرؤكم فيه: يكثركم بهذا التدبير المحكم، ذرأ الله الخلق: بثّهم وكثّرهم. مقاليد، واحدها مقلاد ومقليد: مفاتيح. يبسط الرزق: يوسعه. ويقدر: يضيّقه. أقيموا الدين: حافظوا عليه وثبتوا دعائمه. ولا تتفرقوا فيه: لا تختلفوا فيه. كبُرَ على المشركين: عظُم وشقّ عليهم. يجتبي: يصطفي. بغياً بينهم: ظلماً وتجاوزا لحدود الله.
ان هؤلاء المشركين اتخذوا أولياء من دونا الله، وذلك لجهلهم وعنادهم، وقد ضلّوا ضلالاً بعيدا، فاللهُ وحده هو الوليّ بحق، وهو يحيي الموتى للحساب والجزاء، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثم بيّن الله تعالى ان مردّ الحكم والفصل اليه، وكل شيء اختلفتم فيه فحُكْمه إلى الله، وقد بينه لكم. ولذلك أمَرَ الرسولَ الكريم ان يقول لهم:
{ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
وهذا خطابٌ لجميع الناس ليعلموا أن كل شيء يختلف الناس في انه حقٌّ أو باطل فالمرجع فيه الى القرآن، فقولُه الفصلُ وحكمه العدل. كما قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [النساء: 59] .
{فَاطِرُ السماوات والأرض}
الله ربي وربكم خالقُ السموات والارض على احسن مثال.
{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}
خلق لكم من جنسكم زوجاتٍ لتسكنوا اليها. . . . وعبّر بقوله «من انفسكم» لأن أقربَ انسان للمرء هي زوجته، فكأنها منه ومن نفسه. وخلق لكم من الانعام أزواجا ذكورا وإناثا.
{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}
لتتناسلوا وتكثروا بهذا التدبير المحكم.
ثم بين بعد ذلك انه مخالفٌ لكل الحوادث لا يشبهه شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَهُوَ السميع البصير} ، السميع لما يجري وينطِق به الخلقُ، والبصيرُ بأعمالهم، وبيده مفاتيحُ خزائن السموات والأرض.
{يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ}
يوسع الرزقَ لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء.
{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
لا يخفى عليه شيء، فيفعل كلَّ ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط.
ثم بين الله تعالى بعد ذلك انه شَرَعَ لكم ما شرع للأنبياء قبلكم، ديناً واحداً في الأصول هو التوحيد، والتقرب بصالح الاعمال، والكف عن المحارم وإيذاء الخلق. . لكنّ المشركين كَبُرَ عليهم دعوتُهم الى التوحيد وتركِ الأنداد والأوثان، ولذلك أوصى الله المؤمنين أن يقيموا الدين بإعطائه حقه، وان لا يختلفوا ولا يتفرقوا فيه، وقد هداهم الى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه، فالله سبحانه يصطفي من يشاء، ويوفّق للايمان وإقامة الدين من يرجع اليه.
والمشركون ما خالفوا الحقّ الا من بعد ما بلَغَهم، وقامت الحجةُ عليهم، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ}
لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين الى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا.
وان اهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم، وانما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} فهم في حَيرة من امرهم، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق.(3/205)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
استقمْ: اثبتْ وثابر على دعوتك. لا حجة بيننا: لا خصومة ولا جدال. يحاجّون في الله: يخاصمون في دينه. من بعد ما استُجيب له: من بعد ما آمن الناسُ واستجابوا له. داحضة: باطلة، زائفة. الميزان: العدل. الساعة: القيامة. مشفقون: خائفون. يعلمون أنها الحق: يعلمون ان قيامة الساعة حق. يمارون: يجادلون.
بع ان امر الله تعالى بالوحدة في الدين وعدم التفرق، أمر رسوله الكريم هنا بالدعوة الى الاتّفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها. . فلأجل وحدة الدين وعدم التفرق فيه ادعُهم يا محمد الى الاتفاق والائتلاف، وثابرْ على تلك الدعوة كما أمرك الله، ولا تتّبع أهواء المشركين. وقل: آمنتُ بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وقد أمرني الله بإقامة العدل بين الناس، فهو ربّ هذا الكون، وكلّ امرئ مسئولٌ عن عمله، لا جدال بيننا وبينكم، فقد وضَحَ الحقّ، والله يجمع بيننا للفصل والعدل، واليه المرجع والمآل.
ثم بين ان الذين يخاصِمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، حُجّتُهم باطلة، لا ينبغي النظر اليها، وعليهم غضبٌ من ربهم بسبب كفرهم، ولهم عذابٌ شديد يوم القيامة. إن الله هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد، كما انزل ما قبله من الكتب مشتملةً على الحق والعدل. . وما يدريك أيها النبي لعل وقت قيام الساعة قريب.
الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها، وما استعجالهم هذا الا من قبيل الاستهزاء، اما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون، ويعلمون ان ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه.
وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق.(3/206)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
حرثَ الآخرة: العمل الصالح الباقي. حرث الدنيا: متاعها من مال وبنين وغيرهما. يقال حرثَ المال: جمعه، وكسبه، واحترثه مثلُه. أم لهم شركاء: شركاء في الكفر. شرعوا لهم: زينوا لهم. ما لم يأذن به الله: كالشرك وانكار البعث والعمل للدنيا فقط. كلمة الفصل: هي الحكم والقضاء منه تعالى بتأخيرهم الى يوم القيامة. روضات الجنات: اطيبُ بقاعها وأجملها.
يبين الله تعالى أنه لطيف بعباده، ومن لُطفه انه يرزق من يشاء كما يشاء، وانه القويّ الذي لا يُقهر ولا يغلب، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم بين ان من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة - يضاعَف له اجره اضعافا كثيرة، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد، وليس لخ في الآخرة نصيب من نعيمها. ومثلُ ذلك في سورة آل عمران {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 145] .
ثم أعقب ذلك بذِكر ما وسوستْ به الشياطين لشركائهم، وزينت لهم من الشِرك بالله وانكار البعث والجزاء، وأنهم كانوا يستحقُّون العذابَ العاجل على ذلك، لكن الله تعالى أجّله لما سبق في علمه من تأخيرهم الى يوم معلوم.
{وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وترى يوم القيامة الظالمين خائفين أشدّ الخوف مما كسَبوا من السيئات، فالعذاب واقعٌ بهم. وفي المقابل ترى الذين آمنوا وعملوا الصالحات متمتعين في أطيبِ بقاع الجنّات، لهم ما يتمنّون من النعيم عند ربهم.
{ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}
ذلك هو الجزاء العظيم الذي اعطاهم إياه ربهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا.(3/207)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
في القربى: في القرابة التي بيني وبينكم، او في قرابتي من اهل بيتي. يقترف: يفعل، يكتسب. يختم على قلبك: يغلقه عن الفهم. يمحو: يزيل. يُحقّ الحق: يثبت الحق. بِكَلِمَاتِهِ: بوحيه وأدلته وحججه. بذات الصدور: ما يختلج في الضمائر.
بعد ان ذكر الله في الآيات السالفة ما أعدَّ للمؤمنين في أطيبِ أماكنِ الجنّات - بين هنا ان ذلك الفضلَ الكبير هو الذي يبشّر به عبادَه المؤمنين. فقل لهم أيها الرسول: انا لا أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة، وكل ما اطلبه منكم ان توادّوني مراعاةً للقرابة التي بيني وبينكم. ويدخل في ذلك مودّة النبي صلى الله عليه وسلم ومودّة قرابته من أهل بيته. ومن يعمل عملا صالحا يضاعف الله له جزاءه، ان الله واسع المغفرة للمذنبين.
ثم أنكر الله تعالى على من يقول بأن النبي الكريم اختلقَ القرآن: لقد قالوا ان ما يتلوه محمد علينا من القرآن ما هو الا اختلاق من عند نفسه لا بوحيٍ من عند ربه، فإن يشأ الله يربط على قلبِك لو حاولتَ الافتراء عليه، والله تعالى يمحو باطلَهم بما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بوحيه وارادته، فأنت على حقٍّ وهم على باطل.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}
فيعلم ما يختلج في ضمائرهم وتنطوي عليه السرائر.
ثم يمتنّ الله على عباده فيكرّر أنه يقبل التوبة عن عباده ويتجاوز عما فَرَطَ منهم تفضُّلاً منه ورحمة بعباده.
{وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من خير أو شر، ورحمتُه تسبق غضبه، وباب التوبة مفتوح والحمد لله.
ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، ويزيدهم خيراً على مطلوبهم من فضله
{والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر: ويعلم ما يفعلون بالياء، والباقون: تفعلون بالتاء.(3/208)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
بسط الله الرزق: وسّعه. لبغوا: لظلموا وتجاوزوا حدود الله. بقدر: بتقدير. الغيث: المطر. قنطوا: يئسوا. وينشر رحمته: تعم منافع الغيث وآثاره جميع المخلوقات. الحميد: المستحق للحمد. بث: نشر. الدابة: كل ما فيه حياة على هذه الارض. على جمعهم: يوم القيامة. بمعجِزين: لا تستطيعون ان تجعلوا الله عاجزا بالهروب منه. الجواري: السفن. كالأعلام: كالجبال. رواحد: ثابتة لا تتحرك. صبّار: كثير الصبر وضبطِ الأعصاب. شكور: كثير الشكر على النعم. يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ. ما لهم من محيص: لا مهرب لهم.
إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ، ويمنع عمن يشاء. ولو أغناهم جميعا لبغَوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا. ومن أسباب الرزق المطرُ وغيره، فالله وحده هو الذي يغيث الخلقَ بالمطر، وينشر بركاتِ الغيث ومنافعه في النبات والثمار والحيوان ويغذّي ينابيع المياه، وهو الذي يتولّى عباده بإحسانه {وَهُوَ الولي الحميد} .
ثم اقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء.
ثم بين الله تعالى للناس ان هذه الحياة فيها دستورٌ ثابت لا يتغير وهو انه: كل ما يحلّ بكم ايها الناس من المصايب في الدنيا يكون بسبب معاصيكم، وما اجترمتم من آثام.
ولو نظرنا الآن الى احوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك - لرأينا ان هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا. فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال، ولا أرض، وانما ينقصُنا صدق الايمان، واجتماع الكلمة، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء.
ولو ان زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية. ان العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش، اما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فانه لا يدوم، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا. . . . وهذا معنى {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء، ورحمته واسعة والحمد لله.
انكم ايها الناس لا تُعجِزون الله حيثما كنتم، وما لكم من دونه وليّ يدافع عنكم، ولا نصير ينصرُكم اذا هو عاقبكم.
ومن دلائل قدرة الله هذه السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها، فالله قادر ان يوقفَ الرياح فلا تجري.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}
أو يهلك اصحابَ السفن بذنوبهم، لكنه يعفو عن كثير فلا يعاجلُهم بالكثير من ذنوبهم.
ان الله تعالى فعلَ ذلك ليعتبر المؤمنون، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بالباطل أنهم في قبضته، ما لهم من مهرب من عذابه.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر: بما كسبت ايديكم. والباقون: فبما كسبت أيديكم. وقرأ نافع وابن عامر: ويعلمُ الذين يجادلون، برفع يعلم. والباقون: ويعلمَ بالنصب.(3/209)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
فما أُوتيتم: فما اعطيتم. كبائر الإثم: كل ما يوجب حدّا. الفواحش: كل ما عظُم قبحه من السيئات. استجابوا: اجابوا داعي الله. الشورى: المشاورة في الأمور. البغي: الظلم. ينتصرون: ينتقمون لانفسهم. ما عليهم من سبيل: ما عليهم عقاب. لمن عَزْمِ الأمور: لمن الأمور الحسنة المشكورة.
يذكّر الله تعالى الناس بأن لا يغترّوا بهذه الحياة الدنيا، فكل ما فيها من متاع ولذة ومال وبنين لهو قليلٌ جدا بالنسبة لما أعدّه الله للمؤمنين عنده من نعيم الجنة الدائم للذين يتوكلون على ربهم، ويبتعدون عن ارتكاب الكبائر.
{وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}
والذين يتحكمون في أعصابهم عند الغضب، ويملِكون أنفسهم، ويغفرون لمن أساء اليهم.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين ايضا انهم يُجيبون ربّهم الى ما دعاهم اليه، ويقيمون الصلاة في اوقاتها على اكمل وجوهها.
{وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ}
وهذا دستور عظيم في الاسلام، فهو يوجب ان يكون الحكْم مبنياً على التشاور. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم. ومثلُ ذلك قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] . قال الحسن البصري: «ما تشاور قوم الا هُدوا لأرشدِ أمرهم» . وقال ابن العربي: «الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ الى الصواب، وما تشاور قوم قط الا هدوا» . ومن صفات هؤلاء المؤمنين البذلُ والعطاء بسخاء {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . ومن صفات المؤمنين الصادقين أيضاً:
{والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}
الذين اذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم.
ثم بين الله تعالى ان ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل:
{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}
فالزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض.
ثم بين الله ان من الافضل العفو والتسامح فقال:
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} . ومثل هذا قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] ، ومثله ايضاً {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] ، الى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو. وهذا سبيل الاسلام.
ثم بين الله تعالى أن الانسان اذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه، لكن اللوم والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناسَ ويتكبرون في الأرض ويفسِدون فيها بغير الحق {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال:
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} .
هنا أكد الترغيبَ في الصبر وضبط النفس. وأفضلُ انواع الصبر تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلائه، وافضلُ انواع العفو ما كان سبباً للقضاء على الفتن والفساد.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: والذين يجتنبون كبير الإثم. والباقون: كبائر الاثم.(3/210)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
استجيبوا لربكم: أجيبوه. لا مردّ له: لا يردّه احد بعد ما قضى الله به. ملجأ: مكان تلجأون اليه. وما لكم من نكير: ما لكم من إنكار لما فعلتموه، لا تستطيعون ان تنكروه. حفيظا: رقيبا، محاسباً لاعمالكم. رحمة: نعمة من صحة وغنى. سيئة: بلاء. عقيما: لا يولد له.
ومن ضلّ طريق الهدى، وخَذَلَه اللهُ لسوءِ استعداده فليس له ناصرٌ من الله، وترى الظالمين يوم القيامة حين يشاهدون العذاب، يسألون ربهم ان يُرجعهم الى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون، ولكن هيهات، لا سبيل الى العودة.
ثم بين الله حالهم السيئة حين يُعرضون على النار أذلاءَ يسارِقون النظر الى النار جوفاً منها.
عندئذ يقول المؤمنون: حقًا إن الخاسرين هم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر، وخسروا أزواجهم وأولادهم وأقاربهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم وحُرموا النعيم الى الأبد، وصدق الله العظيم حين يقول: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} .
وما كان لهم من ينصرهم من الذين عبدوهم من دون الله، {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ، أي ليس له أيّ طريقٍ ينجيه من سوء المصير المحتوم، جزاء ضلاله.
ثم يحذّر الله الناس طالباً إليهم ان يسارعوا الى إجابة ما دعاهم اليه الرسول الكريم، من قبل ان تنتهي الحياة وتنتهي فرصة العمل، ويأتي يوم الحساب الذي {لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} ويومئذ لا ملجأ ولا ملاذ لهم من العذاب، ولا يستطيعون انكار ما اجترموه من السيئات. فإن أعرضَ المشركون عن إجابتك أيها الرسول فلا تحزنْ، فلست عليهم رقيبا فيما يفعلون.
{إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ}
إن وظيفتك ان تبلّغ، فاذا انت بلّغت فقد أديتَ الأمانة. {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [البقرة: 272] .
ثم بين الله تعالى طبيعةَ الانسان وغريزته في هذه الحياة وضعفه فقال:
{وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ}
هذه هي طبيعة الانسان: إذا أغنيناه وأعطيناه سعةً من الرزق فرح وبطر، وان أصابته فاقةٌ او مرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من معاصٍ ومخالفات - يئس وقنط، إن الانسانَ يكفر النعمة ويجحدها.
ثم يبين الله انه خالقُ هذا الكون، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويهب لمن يشاء الإناث من الذرية، ويمنح من يشاء الذكور دون الاناث. ويتفضل سبحانه على من يشاء بالجمع بين الذكور والاناث، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} لا ولد له، {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} عليم بكل شيء، قدير على فعل كل ما يريد.(3/211)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
وحيا: كلاماً خفيا. من وراء حجاب: يُسمع ولا يُرى. روحاً من أمرنا: ان هذا القرآن روحٌ تحيا به القلوب، وتتغذى به الأنفس. نوراً نهدي به: الناسَ الى الصراط المستقيم.
بعد ان بين تعالى النعم الحسيّة التي يعيش بها الناس، بيّن هنا النعمَ الروحية التي تحيا بها القلوب، وتعمرُ الأنفس، وبيّن أن الناس محجوبون عن ربّهم، لأنهم في عالم المادة وهو منزَّهٌ عنها، ولكن من رقَّ حجابُه، وخَلَصَت نفسُه من شوائب المادة، فانه يستطيع ان يتصل بالملأ الأعلى، وان يسمع كلام ربّه بأحد الأوجه الآتية:
1- ان يحسّ بمعان تُلقى في قلبه، او يرى رؤيا صادقة كرؤيا الخليل إبراهيم بانه يذبح ولده. . . ورؤيا الأنبياء وحي.
2- ان يسمع كلاماً من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير ان يبصر من يكلّمه، فقد سمع كلاما ولم ير المتكلم.
3- ان يرسل الله مَلَكا فيوحي الى النبيّ ما كلّف به.
ثم ذكر الله تعالى انه كما أوحى الى الانبياء قبل محمد فقد اوحى اليه القرآن الكريم، وما كان محمد قبل ذلك يعلم ما هو القرآن وما الشرائع التي بها هدايةُ البشر وصلاحُهم في الدارَين. ثم خاطبه بهذه العبارة اللطيفة، {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
ثم فسّر ذلك الصراطَ بقوله تعالى: {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} خلقاً وتدبيراً وتصرفا. وفي الختام كل شيء ينتهي اليه، ويلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} .
وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالحديث الذي بدأت به عن الوحي، والذي كان محورها الرئيسي، وقد عالجت قصةَ الوحي منذ النبوّات الأولى، لتقرر وحدة الدين ووحدة الطريق، ولتعلن القيادةَ الجديدة للبشريّة ممثلة برسالة سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن يتبعه من المؤمنين الصادقين، ليقودوا الناس الى صراط الله المستقيم.(3/212)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
الكتاب: القرآن الكريم. المبين: لِطريق الهدى. لعلّكم تعقلون: لعلكم تفهمونه لأنه بلسانكم. أُم الكتاب: اللوح المحفوظ. افنضرب عنكم الذِكر: انُعرض عنكم ونترككم. صفحا: إعراضا. مسرفين: متجاوزين الحد في الكفر. أشدّ منهم بطشا: اقوى منهم وأجلد. مثَل الاولين: وصفهم وحالهم. مهداً: فراشا. سبلاً: طرقا. بقدر: بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة. فأنشَرنا: فأحيينا. ميتاً: يابسة خالية من النبات. الأزواج: أصناف المخلوقات. لتستووا على ظهوره: لتستقروا عليها. سخّر: ذلل. مقرنين: مطيقين. يقول الشاعر: ولستم للصعاب بمقرنينا. لمنقلبون: لراجعون.
حم: تقرأ هكذا حاميم. افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما.
وقد أقسم الله تعالى بكتابه المبين لطريقِ الهدى، وأنه جعله بلغةِ العرب، لغة قومك أيّها الرسولُ لِيفهَموا معناه، وأنه محفوظٌ في علمه تعالى، فليس هو من عند محمدٍ كما تدّعون يا مشركي قريش. اننا لن نترك تذكيركم به بسببٍ من إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، وإنما نفعل ذلك رحمةً منّا ولطفاً بكم.
ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيراً من الأمم قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة، وكذّبوا رسُلَهم فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك.
{ومضى مَثَلُ الأولين}
وقد رأيتم ما حلّ بهم، فاحذَروا ان يحل بكم مثلُه.
وبعد أن ذكر ان المشركين سادِرون في كُفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن بيّن هنا أن أفعالهم تخالف اقوالهم:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}
ومع اعترافهم هذا بالله يعبُدون الاوثان من دونه!! .
ثم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لكم الأرضَ فِراشاً ممهَّدا، وجعل فيها طُرقاً لتهتدوا بها في سيَركم، ونزّل من السماء ماءً بقدْر الحاجة يكفي الزرع ويسقي الحيوان، وأحيا به الأرضَ الميتة. ومثلُ إحياء الأرضِ بعد موتها، يخرجُكم يومَ القيامة للحساب والجزاء. ولقد خلق اصناف المخلوقات جميعاً من حيوان ونبات، وسخّر لكُم السفنَ والدوابّ لتركبوها، وتذكروا نعمة ربكم وتقولوا:
{سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}
لولا لطفُ الله بنا ما كنا لذلك مطيقين. إننا يوم القيامة إلى ربنا لراجعون، فيجازي كلَّ نفس بما كسبت، فاستعدّوا لذلك اليوم، ولا تغفلوا عن ذِكره.
قراءات:
قرأ نافع وحمزة والكسائي: إن كنتم قوما مسرفين بكسر همزة ان. والباقون: أن كنتم بفتح الهمزة.(3/213)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
جزءا: ولداً، إذ قالوا الملائكة بنات الله. مبين: ظاهر واضح. بما ضرب للرحمن مثَلاً: يعني بالبنات. أصفاكم: خصّكم. كظيم: ممتلئ غيظا. يُنشَّأ: يربَّى.
بعد ان بيّن الله أنهم يعترفون بالألوهية وأن الله هو خالق هذا الكون - ذكر هنا أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلْق السموات والأرض قد جعلوا بعضَ خلقه ولدا ظنوه جزءا منه. وهذا كفرٌ عظيم.
ومن عجيب أمرِهم أنهم خصّوه بالبنات، وجعلوا لهم البنين، مع انهم إذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الغيظ، وامتلأ كآبة وحزناً لسوء ما بُشّر به.
{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ}
وقد جعلوا لله الأنثى التي تتربّى في الزينة، واذا خوصِمتْ لا تقْدِر على الجَدل والمخاصمة، واختاروا لأنفسِهم الذكور!!
ثم نعى عليهم في جَعْلهم الملائكة إناثا، وزاد في الانكار عليهم بأن مثلَ هذا الحكم لا يكون الا عن مشاهدة، فهل شَهدوا ولادتهم؟
{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} يوم القيامة حيث يُسألون عنها ويجازون بها.
ثم حكى عنهم شُبهةً أخرى، وهي انهم قالوا: لو شاء الله ما عبدْنا الملائكة، وردّ عليهم بقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} ويعني: هل اعطيناهم كتاباً قبل القرآن يؤيّد افتراءهم هذا فهم متعلقون به!
وعندما فقدوا كل حجة ودليل قالوا:
{إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}
لقد وجدْنا آباءنا على دينٍ فقلّدناهم، وبذلك ينقطع الجدل بعد عنادهم وعجزهم.
ان حال هؤلاء مثلُ الأمم السابقة، فقد قالت {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}
وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم ودلالة على ان التقليد في نحو ذلك ضلالٌ قديم.
ثم حكى الكتابُ الكريم ما قاله كل رسول لأمته:
{قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ}
اتتبعون آباءكم وتلقّدونهم ولو جئتكم بدينٍ هو خيرٌ من دين آبائكم بما فيه من الهداية والرشاد! .
فقالوا مجيبين ومصرّين على كفرهم: {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . ولم يبق لهم عذرٌ بعد هذا كله ولذلك قال تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}
وفي هذا تسليةٌ كبرى للرسول الكريم، وإرشادٌ له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيدٌ وتهديد لهم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: أوَمَن يُنَشّأ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين المفتوحة والباقون: أوَمَن يَنْشأ بفتح الياء وسكون النون وفتح الشين من غير تشديد.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن. والباقون: الذي هم عباد الرحمن. وقرأ نافع: أأُشْهدوا خلقهم بفتح الهمزة وبضم الألف واسكان الشين. وقرأ الباقون: أشهِدوا بهمزة واحدة وكسر الشين. وقرأ ابن عامر وحفس: قال أولو جئتكم. وقرأ الباقون: قل أولو جئتكم، بفعل الأمر.(3/214)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
براء: بريء، ولفظ (براء) يطلق على المفرد والمثنى والجمع تقول: أنا براء مما تعملون، وانتم براء وانتما براء. فطرني: خلقني. وجعلها كلمة باقية: وجعل كلمة التوحيد باقية. في عقبه: في ذرّيته. من القريتين: من إحدى القريتين وهما مكة والطائف. رحمة ربك: النبوة. سخريا: بمعنى التسخير. معارج: مفرده مَعْرَج ومعراج وهو المَصْعَد والسلّم. وعليها يظهَرون: يصعدون. السرر والأسرة: جمع سرير. الزخرف: الزينة والنقوش. انْ كل ذلك لمّا متاع الحياة: إنْ كل ذلك الا متاع الحياة.
يبين الله تعالى للمعاندين لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن أشرفَ آبائهم وهو ابراهيم عليه السلام تركَ دينَ آبائه، وقال لأبيه وقومه: إنني بريء من عبادة آلهتكم الباطلة. وانه لا يعبد الا الله الذي خلَقَه على فِطرة التوحيد، فهو سَيَهديه إلى طريق الحق، ويجعلُ كلمة التوحيد باقيةً في ذرّيته {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فيؤمنون بها.
لقد متّع الله قريشاً بالنعمة والأمن في بلدهم، فاغترّوا بذلك ولم يتّبعوا ملّةَ أبيهم ابراهيم. . .
{حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ}
جاءهم الرسولُ الأمين بالقرآن الكريم يهديهم الى الصراط المستقيم. فلما جاءهم الرسول بالحقّ كذّبوه وقالوا ساحر.
{وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}
وقالوا مستخفّين بهذا النبيّ الكريم لأنه فقير: هلاّ نزل القرآن على أحد رجلين من عظماء مكة او الطائف وهما: الوليدُ بن المغيرة من سادات مكة، او عروة بن مسعود الثقفي من سادات الطائف.
وهنا يردّ الله تعالى عليهم ويبين لهم جهلهم بأن العظمةَ ليست بكثرة المال ولا بالجاه، وأن النبوة منصبٌ إلهي وشرفٌ من الله يعطيها من يستحقها، وليست بأيديهم ولا تحت رغبتهم ولذلك قال:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}
كيف جهِلوا قَدْرَ أنفسِهم حتى يتحكموا في النبوة ويعطوها من يشاؤون! الله تعالى قَسَم المعيشة بين الناس وفضّل بعضهم على بعض في الرزق والجاه، ليتخذَ بعضُهم من بعض أعواناً يسخّرونهم في قضاء حوائجهم، وليتعاونوا على هذه الحياة.
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}
والنبوّة وما يتبعها من سعادة الدارَين خيرٌ من كل ما لديهم في هذه الحياة الدنيا. فهذا التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتم به نظام المجتمع، فلولاه لما صرَّف بعضُهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل العيش.
ثم بين الله تعالى انه: لولا ان يرغبَ الناسُ في الكفر إذا رأوا الكفار في سَعةٍ من الرزق لمتَّعهم الله بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسقُفا وسررا ومصاعد من فضة، وزينةً في كل شيء. . وما هذا كلّه إلا متاع قليلٌ زائل مقصور على الحياة الدنيا الفانية.
{والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}
أعدّها الله للذين أحسنوا واتقَوا وأخلصوا في إيمانهم.
روى الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو ك انت الدنيا تَعْجِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء» .
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: سَقفاً بالافراد، والباقون: سُقُفا بالجمع. وقرأ عاصم وحمزة وهشام: لمّا متاع الحياة بتشديد ميم لما. والباقون: لما بالتخفيف.(3/215)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
ومن يعشُ عن ذكر الرحمن: ومن يعرض عنه، يقال عشا يعشو عشوا: ساء بصره، وعشا الى النار: رآها ليلا فقصدها. وعشى وعشاوة: اصيب بصره بضعف. نقيّض له: نهيئ له. القرين: الرفيق الذي لا يفارق. ذكر الرحمن: القرآن. بُعد المشرقين: يعني المشرق والمغرب، بين المشرق والمغرب. والعرب تسمّي احيانا الشيئين المتقابلين باسم احدهما. كما نقول العُمَران: ابو بكر وعمر، القمران: الشمس والقمر. فإما نذهبنَّ بك: فإن قبضناك وأمتناك. وإنه لذِكر لك ولقومك: ان القرآن شرف لك ولقومك تُذْكَرون به الى الأبد.
بعد ان ببين الله ان المال متاعُ الدنيا عَرَضٌ زائل، وان نعيم الآخرة هو النعيم الدائم - ذكر هنا أن الذي يهتم بالدنيا ومتاعها ويُعرِض عن القرآن وما جاء به يهيئ له شيطاناً لا يفارقه، وأن شياطين هؤلاء الفئة من البشر يصدّونهم عن السبيل القويم، ويظنون انهم مهتدون. حتى اذا جاء ذلك الرجل يومَ القيامة الى الله ورأى عاقبة إعراضه وكفرِه قال لقرينه نادماً: يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرق والمغرب، فبئس الصاحبُ كنتَ لي، حتى أوقعتني في الهاوية.
ثم يقال لهم جميعا: لن يخفَّف العذابُ عنكم اليوم، وكلّكم في العذابِ مشتركون، لا يستطيع أحد منكم ان يساعد الآخر.
ثم بين الله تعالى لرسوله الكريم أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، فأنت يا محمد لا تُسمع الصمَّ عن الحق ولا تهدي العميَ عن الاعتبار.
ثم سلّى رسوله الكريم وبين له انه لا بدّ أن ينتقم منهم، إما في حياة الرسول او بعد مماته، فان قبضناك يا محمد قبل ان نُريَك عذابَهم، ونشفي بذلك صدرَك وصدورَ قوم مؤمنين فإنا سننتقم منهم في الدنيا والآخرة. {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} مسيطرون.
فاعتصِم يا محمد بالقرآن لأنه الحقُّ والنور المبين، وايبُتْ على العمل به، واللهُ معك لأنك على صراطه المستقيم.
ان القرآن الذي أوحيناه إليك شرف لك وللعرب، فلقد رفع من شأنهم ونشَر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها، وكما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] . وأيّ ذكرٍ اعظم ابها الرسول في شرائع مَنْ أرسلْنا قبلك من رسُلنا، هل جاءت دعوة الناس الى عبادة غيرِ الله؟ ان جميع الرسل جاؤا بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو عمرو وحفص: حتى اذا جاءنا بالافراد. والباقون: جاءانا على التثنية.(3/216)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
بآياتنا: بمعجزاتنا التي أظهرها على يد موسى. ملئه: اشراف قومه. مبا عَهِدَ عندك: بما اخبرتنا من عهده إليك أنا اذا آمنّا كشف عنا العذاب. ينكثون: ينقضون العهد. وهذه الأنهار تجري من تحتي: من تحت قصري وبين يديّ في جناتي. مهين: حقير، ضعيف. ولا يكاد يُبين: لا يكاد يُفصِح عما في نفسه، لأنه كان ألثغَ يجعل الراء غينا. أسورة: جمع سوار وكانوا يُلبسون الرئيس او العظيم اسورة من ذهب. مقترنين: ملازمين، ليعينوه ويساعدوه. فاستخف قومه: استخف عقولهم. آسفونا: أَغضبونا، والأسف هو الحزن او الغضب. سلفاً: قدوة لمن بعدهم من الكفار. ومثلا: عبرة وموعظة.
بعد ان ذكَر الله ان كفار قريش طعنوا في نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لكونه فقيراً - بيّن هنا ان سيّدنا موسى جاء الى فرعون واشرافِ قومه وقال لهم {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين} وأظهر لهم المعجزات، لكنهم سخروا منه وضحكوا من المعجزات. وكانت كل معجزة من المعجزات التي توالت عليهم أكبرَ من أختها. وحيث أصروا على الكفر والطغيان أصبناهم بأنواع البلايا، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن غيهم. ولكن بالرغم من معاينتهم تلك المعجزات فقد اعتبروها من قبيل السحر فقالوا: يا ايها الساحر، ادعُ لنا ربك متوسّلاً بما عَهد عندك ان يكشف عنا العذاب، فإذا كشفه عنّا اهتدينا وآمنا بما تريد.
فلما كشف الله عنهم العذاب بدعاء موسى نقضوا العهدَ ولم يؤمنوا. وقد جاءت هذه القصة مفصّلة في سورة الأعراف.
ثم اخبر الله عن تمرد فرعون وطغيانه وعناده فقال: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ. . .}
أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار التي تشاهدونها تجري من تحت قصري، {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} أيها القوم!؟
{أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}
فأنا خير من هذا الفقير الحقير الذي لا يكاد يُفصح عما يريد.
ثم ذكر شبهةً مانعة لموسى من الرياسة، وهي انه لا يلبس لباس الملوك، فهلاّ القى ربّه عليه أساورَ من ذهبٍ ان كان صادقا!! او جاء معه الملائكةُ ملازمين له ليساعدوه!
{فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} .
وبعد ذلك بين الله ان هذه الخِدع قد انطلتْ عليهم، وسحَرت ألبابهم، فأطاعوه واعترفوا بربوبيته وكذّبوا موسى.
ثم بين الله مآلهم: فلما أغضبونا بعنادهم انتقمنا منهم بعاجلِ عذابنا، فأغرقناهم أجمعين، وجعلناهم قُدوةً لمن يعمل عملَهم من اهلِ الضلال، وعبرةً وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين.
وفي قصة موسى هنا تسليةٌ للرسول الكريم بها لأن قومه عيّروه بالفقر، وقد سبق لموسى ان عيره فرعونُ بالفقر والضعف.
قراءات:
قرأ حفص: اسورة. وقرأ الباقون: أساور، اسورة جمع اسوار، وجمع الجمع اساور وأساورة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: فجعلناهم سُلُفا بضم السين واللام. والباقون: سلفا، بالإفراد.(3/217)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
يصدّون: يصيحون ويضجّون. جدلا: خصومة بالباطل. خَصِمون: شديدون في الخصومة، ومجبولون على اللجاج وسوء الخلق. وجعلناهم مثلاً لبني اسرائيل: آية وأمراً عجيبا. لعلمٌ للساعة: علامة من اشراطها. فلا تمترنّ: فلا تشكّن. البينات: المعجزات. الحكمة: الشرائع المحكمة.
لقد جادل مشركو قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم جدلا كثيرا، من ذلك ان الرسول الكريم لما تلا عليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال له عبدُ الله بن الزِبِعْرَي - وهو من شعراء قريش وقد أَسلمَ وحسُنَ إسلامه فيما بعد-: أليس النصارى يعبدون المسيح وأنتَ تقول كان عيسى نبياً صالحاً، فان كان في النار فقد رضينا. فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] .
وجادلوه بعد ذلك كثيرا، ولذلك يقول الله تعالى:
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}
لما بين الله وَصْفَ عيسى الحقَّ من أنه عبدٌ مهلوق، وعبادتُه كفرٌ، إذا قومك أيها النبي يُعرِضون عن كل هذا.
فقال الكافرون: أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإذا كان عيسى في النار فلنكنْ نحنُ وآلهتنا معه. . وما ضرب الكفار لك هذا المثَلَ الا للجدل والغلبة في القول لا لإظهار الحق.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
إنهم قوم شديدون في الخصومة، مجبولون على العَنَتِ والعناد.
ثم بين الله تعالى ان عيسى عبدٌ من عبيده الذين أنعم عليهم فقال:
{إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ}
وما عيسى ابن مريم غلا عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوّة، وقد جعلناه آيةً بأن خلقناه من غير أبٍ كَمَثَلِ آدم خَلَقَه الله من تراب. ولو نشاء لجعلْنا في الأرض عجائب كأمرِ عيسى كأن نجعل لبعضكم أولاداً ملائكة يخلفونهم، كما خلقنا عيسى من غير اب.
والحق أن عيسى بحدوثه من غير أب لدليلٌ على قيام الساعة، {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} واتبعوا هداي وهُدى رسولي، فما أدعوكم اليه هو الصراط المستقيم. ويقول بعض المفسّرين، وان القرآن الكريم ليعلِمُكم بقيام الساعة فاتَّبعوا تعاليمه، ولا تتبعوا زيغ الشيطان انه لكم عدوٌّ ظاهر.
ولما جاء عيسى رسولاً الى بني اسرائيل ومعه الآيات الدالة على رسالته، قال لقومه: قد جئتكم بشريعةٍ حكيمة تدعوكم الى التوحيد، وجئتكم لأبيّن لكم بعضَ الذي تختلفون فيه من أمر الدين، فاتقوا الله في مخالفتي، وأطيعوني فيما أدعوكم اليه. ان الله هو خالقي وخالقكم فاعبدوه وحده، وحافِظوا على شريعته، فهي الطريق الموصل الى النجاة. ولكنهم خالفوا ما دعاهم اليه، واخلتفوا، وصاروا شِيعا وفرقاً لا حصر لها. {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يوم القيامة، حين يحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة.
هل ينتظر هؤلاء الاحزاب المختلفون في شأن عيسى الا ان تقوم الساعةُ بغتةً وهم غافلون عنها!؟
قراءات:
قرأ الكسائي ونافع وابن عامر: يصُدون بضم الصاد. والباقون: بكسرها.(3/218)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
الأخلاء: جمع خليل الاصدقاء. مسْلمين: مخلصين منقادين لربهم. تحبرون: تسرون. بصحاف: جمع صحفة وهي آنية الطعام، يؤكل بها. أكواب: جمع كوب، وهو خازِن النار. أم أبرموا أمرا: احكموا تدبيره. نجواهم: ما يتناجون به بينهم.
في هذه الآيات مشهدٌ من مشاهد يوم القيامة يبيّن حال فريقين متقابلَين، وهو يبدأُ في رسم صورةٍ عن الأصدقاء في ذلك اليوم فيقول:
ان الأصدقاء بعضُهم لبعض عدوٌّ الا الذين كانت صداقتهم خالصةً لوجه الله واجتمعوا على التقوى، فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ويومئذ يقال للذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله الكريم: ادخلوا الجنةَ أنتم وازواجُكم تُسرّون فيها سروراً عظيما. وهناك يلقَون من النعيم ما لا مثيل له في الدنيا، ويطاف عليهم بأوانٍ من ذهب ويشربون بأكواب من ذهب، ويجدون كل ما تشتهيه انفسهم وما تلذ به أعينهم، ويقال لهم إكمالاً للسرور: {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وفي هذه الجنة أيضاً فاكهة كثيرة الانواع {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} .
ثم بيّن حال الفريق المقابل من أهل النار، وما يكون فيه الكفار من العذاب الدائم الذي لا يخفّف عنهم ابدا، وهم في حُزنٍ لا ينقطع. والله تعالى لم يظلمهم بهذا العذاب {ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} باختيارِهم الضلالة على الهدى.
ثم بين كيف يقول أهل النار لخَزَنتها ويطلبون منهم ان يموتوا حتى يستريحوا من العذاب، ويردّ عليهم مالكٌ، خازن النار قائلاً:
{إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}
لقد جاءكم رسولنا بالدّين الحق فآمن به قليل، وأعرض عنه أكثركم وهم كارهون، وستبقون في جهنم هذه جزاء كفركم.
ثم بين الله ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق، وإعلاء شأن الباطل، وقال لهم:
{فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}
إنا محكِمون أمراً في مجازاتكم واظهار الرسول عليكم.
لقد وهِموا فيما ظنّوا أننا لا نسمع سرّهم وما يتناجون به بينهم، {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} كلَّ ما صدر عنهم من قول او فعل.
قراءات: قرأ حفص ونافع وابن عامر: ما تشتهيه الانفس. والباقون: ما تشتهي الأنفس.(3/219)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
سبحان ربّ السموات: تنزيهاً له عن كل نقص. يصِفون: يقولون كذباً بأن له ولدا. فذرْهم: فاتركهم. يخوضوا: يتكلموا بالباطل. حتى يلاقوا يومهم: يوم القيامة. يدعون: يعبدون. يؤفكون: يصرفون. وقيله: وقَوله، يقال قلت قولاً، وقالاً، وقيلاً، فاصفح عنهم: فاعف عنهم.
قل ايها الرسول للمشركين: إن صحّ الدليل القاطع ان للرحمن ولداً فأنا أولُ من يعبدُ هذا الولد، لكنه لم يصحّ ذلك ولن يصحّ.
ثم نزّه الله نفسه بقوله:
{سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ}
تنزه خالقُ هذا الكون العجيب وربُّ العرش المحيط بذلك كله، عما يصفه المشركون.
ثم امر الرسولَ الكريم أن يتركهم في خوضهم بباطلهم وشركهم حتى يلاقوا يومهم، يوم القيامة، وهناك يدركون خطأهم ويندمون.
ثم أكد هذا التنزيه ببيان أن الله هو الذي يُعبد في السماء بحقّ، ويُعبد في الأرض بحق.
{وَهُوَ الحكيم العليم} الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم.
ان عنده وحده عِلم يوم القيامة، واليه وحده ترجعون في الآخرة للحساب، أما هذه الأوثان التي تعبدونها فلن تستطيع الشفاعة لكم. أما من نطق بالحق وكان على بصيرة من عند ربه فان شفاعته تنفع عند الله بإذنه، ولمن يستحقها.
ثم بين ان هؤلاء المشركين يتناقضون في اقوالهم وافعالهم فقال:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ}
ولئن سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين من الذي خلقهم ليقولُنّ: خَلَقنا الله، فكيف إذن يُصرفون عن عبادته تعالى الى عبادة غيره!؟ .
{وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ}
والله عنده علمُ الساعة وعلمُ قول الرسول يا رب ان هؤلاء الذين أمرتّني بإنذارهم قومٌ لا يؤمنون. وقيلهِ بالجر نعطوف على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيلِه.
ولذلك قال له تعالى:
{فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
فأعرِض عنهم أيها الرسول، وقل لهم سلام، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وأنك ستنتصر عليهم.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة: وقيلِهِ بالجر، والباقون: وقيلَهُ بالنصب.(3/220)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
ليلة مباركة: هي ليلة القدر. منذِرين: مُعْلِمين ومخوفين. يفرق: يفصل ويبين. حكيم: محكَم لا يمكن الطعن فيه. ان كنتم موقنين: ان كنتم مؤمنين ومصدقين حقا.
حم: تقرأ هكذا حاميم: من الحروف الصوتية، وقد تكلّمنا عن هذا الاسلوب والغرض منه.
أقْسَمَ الله تعالى بالقرآن الكاشف عن الدِّين الحقِ، المبينِ لما فيه صلاحُ البشرية في دنياهم وأُخراهم، وأنه انزلَ القرآنَ في ليلة مبارَكة هي ليلة القدر، لإنذار العباد وتخويفهم بإرسال الرسُل وانزال الكتب. وفي هذه الليلة المباركة يفصِل الله كل أمر محكَم، والقرآنُ رأس الحكمة والفيصلُ بين الحقّ والباطل، يبيّن لهم ايضرّهم وما ينفعهم. {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} إن الله لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو الذي بيدِه إحياؤهم وإماتتهم، وهو ربُّهم وربّ آبائهم الأولين، المالكُ لهم والمتصرّف فيهم حسب ما يريد.
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}
انهم ليسوا بموقِنِين بعد أن بينّا لهم الرشدَ من الغيّ وأصرّوا على كفرهم وشكّهم وعنادهم لاهين لاعبين.
قراءات:
قرأ الكوفيون: ربِّ السموات. بالجر. والباقون: ربُّ السموات بالرفع.(3/221)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فارتقب: فانتظر. الدخان: الدخان المعروف الناشئ عن النار. يغشى الناسَ: يحيط بهم. اكشفْ عنا: ارفع عنا. أنّى لهم الذكرى: كيف يتذكرون ويتعظون. وقالوا معلَّم: يعلمه بعض الناس. البطش: الأخذ الشديد. فتنّا: بلونا، وامتحنا. أدوا اليَّ عباد الله: اعطوني عباد الله وأطلقوهم. لا تعلوا على الله: لا تستكبروا. بسلطان مبين: بحجة واضحة. عُذت بربي وربكم: التجأت اليه وتوكّلتُ عليه.
انتظِر ايها الرسولُ يومَ القيامة حين تأتي السماءُ بدخانٍ واضحٍ يعمُّ الناسَ ويغطّيهم، فيقولون: ربنا اكشِف عنا العذابَ قد آمنا بدِينك. إن إيمانَهم لن ينفعَهم في ذلك اليوم، وقد جاءهم رسولُ الله بالرسالة الواضحة الصادقة، فكفروا به، وقالوا إنه مجنونٌ يعلّمه بعضُ الناس القرآنَ الذي يتلوه علينا.
وهنا يردّ الله تعالى عليهم: إنا سنرفعُ عنكم العذاب، وإنكم تعيشون الآن فرصةً قبل يوم القيامة فآمِنوا، إنكم ستعودون الى كُفركم وما كنتم عليه بعد سماعكم الآيات.
فاذكر ايها الرسولُ يومَ تأخذهم الأخْذَةُ الكُبرى بعنف وقوة، {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} منهم في ذلك اليوم الرهيب.
ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان واسباب الرخاء {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} مأمونٌ على ما أبلّغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما ادعوكم اليه.
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ}
اني ألتجئ الى الله ربي وربكم ان لا تصِلوا اليَّ بسوءٍ من قول أو عمل.
وان لم تصدّقوني فيما جئتكم به من عند الله {فاعتزلون} وخلُّوا سبيلي ولا ترجموني، ودعوا الأمرَ بيني وبينكم مسالمةً الى ان يقضيَ الله بيننا.(3/222)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
اسرِ بعبادي: سر بهم ليلاً. متبعون: يتبعكم فرعون وجنوجه. رهْواً: ساكنا هادئا. مقام كريم: منازل حسنة. نعمة: (بفتح النون) الرفاهة وطيب العيش، والنعمة: (بكسر النون) ما أنعم الله به من رزق ومال وغيره. فاكهين: ناعمين في عيش رغيد. فما بكتْ عليهم السماء: لم تكترث لهلاكهم. مُنظِرين: مهملين ومؤخرين. العذاب المهين: الشديد الاهانة والإذلال. عاليا: جبّارا متكبرا. من المسرفين: في الشر والفساد. على عِلم: عالمين باستحقاقهم ذلك. على العالمين: في زمانهم. الآيات: المعجزات. بلاءٌ مبين: اختبار ظاهر.
فلما طال مقامُ موسى بين أظهُرِ قومِ فرعون ولم يؤمنوا به، ولم يزدهم ذلك الا كفراً وعناداً دعا ربه شاكياً قومه حين يئسَ من غيمانهم، بأن هؤلاء القوم مجرمون، لا أمل فيهم.
وحينئذ أمره اللهُ ان يُخرج بني اسرائيل ليلاً وان يحذَروا، لأن فرعونَ وقومه سيتبعونهم. وطلب إليه: إنك اذا قطعت البحر يا موسى فاتركه ساكناً على حاله حتى يدخلَه فرعونُ وقومه فيغرقوا فيه. {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} .
ثم بين الله تعالى بعد غرقِ آل فرعون كم تركوا بعد إغراقهم ومَهلَكِهم من بساتينَ وقصور، وحدائقَ غناء وزروع ناضرة، وعيشة ناعمة {كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} ناعمين مترفين.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذّبوا رُسلَنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا. ثم إننا أورثنا تلك البلادَ وما فيها من خير عميم قوماً آخرين، لا يمتّون إليهم بقرابة ولا دين. فما حزنتْ عليهم السماءُ ولا الأرض عندما أخذهم العذابُ ولا أُمهلوا لتوبةٍ او تداركِ تقصير.
ثم بين الله كيف نَجَّا موسى ومن معه وذَكَر إحسانَه إليهم بأنه خلّصهم من العذاب المهين، بإهلاك عدوّهم فرعون، الذي كان متكبراً مسرفاً في الشر والفساد، وبيّن انَّه اصطفاهم على عالَمِ زمانهم، وأعطاهم من المعجزات ما فيه اختبارٌ ظاهر لهم وبلاء. كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] .(3/223)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
بمنشَرين: بمبعوثين، نشر اللهُ الموتى وأنشرهم: أحياهم. تُبّع: لقبٌ لملوك اليمن القدماء مثل فرعون لدى قدماء المصريين. لاعبين: عابثين. يوم الفصل: هو يوم القيامة، سُمي بذلك لأنه يفصَل فيه بين الناس. ميقاتهم: موعدهم. لا يغني مولى: لا ينفع احد احدا. المولى كلمة لها عدة معانٍ: الرب، والمالك، والمحب، والصاحب، والحليف، والنزيل، والجار، والشريك، والصهر، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق، والمعتَق بفتح التاء، العبد، والتابع.
يعود الحديث عن المنكِرين للبعث، وقولهم لا حياةَ بعد هذه الحياة. فإن هؤلاء المكذِّبين بالبعث ليقولون: إننا لا نموت الا مرةً واحدة، ولسنا بمبعوثين. فان كنتم صادقين فاسألوا ربَّكم أن يعجِّل لنا إحياءَ من ماتَ من آبائنا حتى يكونَ ذلك دليلاً على صِدق دعواكم.
ثم بين الله لهم على طريق السؤال: هل كفّار مكةَ خيرٌ في القوة والمنعة والسلطان ام قوم تُبَّع ومن سبقَهم من الجبابرة! إن قومك يا محمد ليسوا بقوّتهم وَمنْعَتِهم وسلطانهم، وقد أهلكناهم في الدنيا بكُفرهم وإجرامهم، فليَعْتبر قومك من مصير غيرهم. لِيوقنوا أنه تعالى لم يخلق هذه السمواتِ والأرضَ عبثا دون حكمة، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
نحن ما خلقنا هذا الكونَ العجيب وما فيه الا بحكمة بالغة، على نظامٍ ثابت يدلّ على وجود اللهووحدانيته وقدرته {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} هذه الدلالةَ لغفلتهم.
ان يوم القيامة موعدُهم جميعاً وفيه يُفصَل بين الحقّ والباطل. يومئذٍ لا يستطيع أحدٌ ان يساعد احداً ولا ينفع مالٌ ولا بنون ولا أنساب ولا صديق حميم. {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الا بصالح الاعمال. {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم}(3/224)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
الزقّوم: طعام أهل النار. وشجرة الزقوم {تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 64-65] ، وهي الشجرة الملعونة. الأثيم: المجرم المذنب. المُهل: خثارة الزيت. الحميم: الماء الحار. فاعتلوه: فجرّوه بعنف. عَتَلَه يعتله بكسر التاء وضمها عَتْلاً: جره جراً عنيفا. سواء الجحيم: وسطها. في مقام امين: في منزل آمن. سندس: نوع من الحرير الرقيق. استبقر: حرير فيه لمعان وبريق وهو اغلظ من السندس. بحورٍ عين: نساء جميلات واسعات العيون. يدّعون: يطلبون. وقاهم: جنّبهم وأبعدهم عن العذاب. فارتقب: فانتظر.
الحديث الآن عن أهلِ النار وطعامهم وما يلاقُونه من عذابٍ أليم. . ان شجرة الزقُوم المعروفة بقُبح منظرِها وخُبثِ طَعْمِها وريحها هي طعامُ الفاجر الكافر الأثيم. ومذاقُها كسائل المعدِن المصهور، يغلي في البطون كالماءِ الشديد الحرارة.
ثم يقال لزبانية جهنم: خذوا هذا الفاجرَ الأثيم فجرّوه بعنفٍ الى وسط الجحيم، ثم صبُّوا فوق رأسه الماءَ الحار. ثم يقال له استهزاءً وتهكماً: ذُق العذابَ، ايها العزيز الكريم المعتزّ بنَسَبك وقومك.
ان هذا العذاب الذي تلاقونه الآن هو ما كنتم تكذّبون به في الدنيا.
وبعد ان بين الله أحوال المجرمين وما يلاقونه من اهوال وعذاب وتقريع، بيّن هنا أحوال المتقين وما يلاقونه في جنّات النعيم من ضُروب التكريم في منازل حسنة آمنة، في جنات النعيم، ملابسهم فيها من أنواع الحرير الفاخر، متقابلين على السُرر، يستأنس بعضهم ببعض، تحفُّ بهم زوجاتهم من الحُور العين، ويطلبون ما يشتهون من انواع الفاكهة. ثم بين ان حياتهم في هذا النعيم دائمة، وقد نجّاهم الله من العذاب الاليم.
{فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وأيّ فضل وفوز أعظمُ من النجاة من عذاب أليم!
ثم بين الله تعالى أنه انزل هذا القرآن الكريم باللغة العربية ويسّره بها لعلّ العربَ ينتفعون به وبتعاليمه، وينشرونه في العالم. وبهذا يجيء ختام السورة كما بدئتْ، بذِكر القرآن. ثم يقول الله تعالى مسلّياً رسولَه الكريم وواعداً إياه بالنصر، ومتوعداً المكذّبين بالهلاك:
{فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ}
انتظِر أيها الرسول انهم منتظِرون، وسيعلمون لمن يكنُ النصر. وقد نصر الله تعالى رسوله واصحابه ونشروا دينه العظيم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحفص ورويس وابن عامر: يغلي بالياء. والباقون: تغلي بالتاء. وقرأ حفص وحمزة والكسائي وابو عمرو: فاعتِلوه بكسر التاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب: فاعتُلوه بضم التاء، وهما لغتان. وقرأ ابن عامر ونافع: في مُقام بضم الميم. والباقون: في مَقام بفتح الميم.(3/225)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
لآياتٍ: لعبراً ودلائل. يبثّ: ينشر. اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما. تصريف الرياح: تغييرها من جهةٍ الى اخرى.
حم: حرفان من الحروف الصوتية ابتدأت بهما هذه السورة وقد سبق الكلام عن مثله.
إن هذا الكتابَ الكريم أنزله الله، الحكيمُ في تدبيره لهذا الكون العجيب ولكل ما خلق، وان في خلْق السمواتِ والأرض من بديع صُنْع الله لآياتٍ دالة على ألوهيته ووحدانيته يؤمن بها المصدّقون بالله العظيم. وكذلك في خلْق الناس على أحسنِ تقويم، وما ينشرُ في الأرض من الدواب - دلالات قوية واضحة {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
ومثل هذا في اختلافِ الليل والنهار وتعاقُبهما على نظام ثابت، وفيما أنزل اللهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها ويبْسِها، وتصريف الرياح إلى جهاتٍ متعددة علاماتٌ واضحة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
تلك آياتُ الله الكونية التي أقامها للناس، نتلوها عليك أيها الرسولُ مشتملةً على الحق، فاذا لم يؤمنوا بها {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: لآياتٍ بكسر التاء في المواضع الثلاثة، والباقون: لآياتٍ بكسر التاء الأولى، وفي الموضعين بعد ذلك ىياتٌ لقوم، بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي: وتصؤبف الريح بالافراد. والباقون: وتصريف الرياح بالجمع. وقرأ الحجازيان وحفص وابو عمرو وروح: يؤمنون ب الياء. والباقون: تؤمنون بالتاء.(3/226)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
أفاك: كذاب. أثيم: مذنب، مجرم كثير المعاصي. فبشّره بعذاب: جاء التعبير بالتبشير للاستهزاء به، لأن العذاب لا يبشَّر به. من ورائهم جهنم: تنتظرهم. يغني: يدفع عنهم. الرجز: عذاب من نوع شديد. سخر: هيأ. لتبتغوا من فضله: لتطلبوا من فضل الله. لا يرجون: لا يتوقعون حصولها. أيام الله: تطلق على ايام الخير، وأيام الشر.
الهلاكُ والعذاب لكل كذّاب في قوله وأثيم في فعله. . يسمع هذا المفتري آياتِ الله تُقرأ عليه ثم يبقى مصرّاً على كفره مستكبراص كأنْ لم يسمعها، فبشّره أيها الرسولُ بأشدّ العذاب.
وفي قوله تعالى {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تهكم واحتقار لهؤلاء المكذبين.
واذا وصل مثلُ هذا الى علمه شيء من آياتنا واستهزأ بها وسخِر منها.
{أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
من ورائهم جهنمُ تنتظرهم، ولا يدفعُ عنهم العذابَ ما كسبوا في الدنيا من الأموال والأولاد. ولا تُغني عنهم أصنامُهم التي عبدوها من دون الله شيئا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
إن هذا القرآن هدى من عند الله، والذين كفروا بآياتِ ربّهم لهم العذابُ المؤلم يوم القايمة! أما يعلمون انه وحده الذي ذلل البحرَ تجري السفنُ فيه بأمره، تحمِلُ الناسَ وجميع ما يحتاجون!! بفضله يَسَعُكم أن تطلبوا من خيراتِ البحر بالتجارة والصيد واستخراج ما فيه من لآلئ وتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم.
كذلك سخّر لكم جميع ما في السموات وما في الأرض ليوفّر لكم منافعَ الحياة، وكل هذه النعم آياتٌ تدلّ على قدرته تعالى لقومٍ يتفكّرون في صنائع الله القدير.
ناظرَ طبيبٌ نصراني من أطباء الرشيد عليّ بن الحسين الواقدي المَرْوَزِيَّ، في مجلس الرشيد فقال له: ان في كتابكم ما يدلّ على ان عيسى بن مريم جزءٌ من الله تعالى، وتلا قوله: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171] .
فقرأ الواقدي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} ثم قال: اذنْ يلزم ان تكونَ جميع تلك الأشياء جزءاً من الله! فانقطع الطبيب واسلم. وفرح الرشيد بذلك فرحاً شديدا، ووصَل الواقديَّ بصلةٍ فاخرة.
ثم بعد ذلك أمر الله المؤمنين ان يتحلّوا بأحسنِ الأخلاق، فطلب اليهم ان يصفَحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم بقوله تعالى:
{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
يا أيها الذين آمنوا: تسلَّحوا بالصبر، واغفِروا واصفَحوا تربحوا، فَ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} ثم إنكم جميعاً إلى خالقكم تُرجَعون للجزاء.
قراءات:
قرأ حفص وابن كثير: من رجز أليمٌ برفع ميم اليم. والباقون: من رجز أليمٍ بجر أليمٍ على انه صفة لرجز. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي بالنون. والباقون: ليجزي بالياء.(3/227)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
الكتاب: التوراة. الحكم: الفصل بين الناس وفهم ما في الكتاب. الطيبات: كل رزق حسن. بيّنات من الأمر: دلائل واضحات من امر الدين. بَغياً: حسدا وعنادا. على شريعة من الأمر: على طريقة ومنهاج في امر الدين، وأصل الشريعة: الماء في الانهار ونحوها مما يَرِدُ الناس عليها، وشريعة الدين يتبصر فيها الناس في امور دينهم. بصائر للناس: معالم للدين يتبصر بها الناس. لقوم يوقنون: يطلبون علم اليقين.
يأتي الحديث هنا عن القيادة المؤمنة للبشرية، وأن هذه القيادة تركّزت أخيراً في الاسم. والله سبحانه يُقسِم بأنه اعطى بني إسرائيلَ التوراةَ والحكم بما فيها النبوة، ورَزَقَهم من الخيرات المتنوعة وفضّلهم بكثيرٍ من النعم على الخلْق في عصرهم. وأعطاهم دلائلَ واضحةً في أمرِ دينهم، فما حدثَ فيهم هذا الخلافُ إلا من بعدِ ما جاءهم العلمُ بحقيقة الدين وأحكامه، بغياً بينهم بطلب الرياسة والتكالب على الدنيا، والجشعَ في جمع الأموال.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
وفي هذا تحذيرٌ لنا يا أمةَ محمد، وقد سلك الكثيرُ منا مسلكهم، واستهوتْهم الدنيا، وغرِقوا في متاعها ولذّاتها، فلْنحذَر الانحدارَ الى الهاوية.
ولما بيّن ما آل اليه بنو إسرائيل بإعراضهم عن الحق بغياً وحسَدا، أمر رسولَه الكريم ان يبعد عن هذه الطريقة، وان يستمسك بالحقّ الذي أرسله به.
ثم جعلْناك يا محمدُ (بعد بني إسرائيل الذين تقدمتْ صفاتُهم) على نهج خاصٍّ من أمرِ الدين الذي شرعناه لك، فاتبعْ ما أُوحيَ إليك.
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} من المشرِكين الجاهلين، ذلك ان هؤلاء الكافرين لا يدفعون عنك شيئاً من عذابِ الله إنِ اتّبعتهم، وان الكافرين بعضهم أولياء بعض.
{والله وَلِيُّ المتقين}
هو ناصرُهم، فلا ينالهم ظلم الظالمين.
وهذه كانت بشرى من الله للرسول وللمؤمنين وهم لا يزالون في مكة.
وبعد هذا كله يبين الله فضل القرآن، وما فيه من الهداية والرحمة للناس اجمعين فيقول: {هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
إن هذا القرآن وما فيه من احكام واخلاق وتهذيب دلائلُ للناس تبصّرهم في أمور دينهم ودنياهم، وهدى يرشدُهم إلى مسالك الخير، ورحمةٌ من الله لقوم يوقنون به ويؤمنون بالله ورسوله.(3/228)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
اجترحوا السيئات: اكتسبوا الخطايا والكفر. مَحياهم: حياتهم. مَماتهم: موتهم. اتخذ إلهه هواه: من اتخذ هواه معبودا له يجري وراء متعته ولذاته ولا يتقيد بشرع ولا دين. وما يُهلكنا الا الدهر: هؤلاء الملاحدة الذين لا يؤمنون باله يقولون: لا وجود للاله وانما نولد ونموت طبيعيا.
لا يمكن ان يكون المحسنُ والمسيء في منزلة واحدة، ولا يجوز ان نسوّيَ بين الفريقين في الحياة الدنيا، وفي دار الآخرة. كلا لا يستوون في شيء منهما. كما قال تعالى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} [الحشر: 20] .
فالله سبحانه وتعالى قد أقام هذا الكون بما فيه على نظام ثابت، وعلى اساس الحق والعدل، فاذا استوى المؤمن والكافر ينتفي العدل. وهذا محلٌ على الله تعالى. وكذلك قال في آية اخرى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] . يتكرّرُ ذكر اقامة هذا الكون على اساس العدل والحق كثيرا في القرآن الكريم، لأنه أصلٌ من أصول هذه العقيدة. من ثم علينا ألا نأسف عندما نرى أناساً يتقلبون في النعيم، وهم من الفَجَرة الفسقة، فان وراءهم حساباً عسيرا، فلا نعيمُ الحياة الدنيا دليل على رضا الله، ولا بؤسُها دليل على غضبه.
ولذلك يقول تعالى:
{وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
وفي هذه الآية تعليل قويّ لنفي المساواة بين المحسن والمسيء، وهو أن تُجزى كل نفس بما كسبت من خير او شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
ثم يُتبع الله ذلك بصورة عجيبة لأولئك الناس الذين لايتقيّدون بدين، ولا يتمسكون بخلُق: أرأيتَ أيها الرسُول مَن ركب رأسه، وترك الهدى، وأطاع هواه فدعله معبوداً له، وضل عن سبيل الحق وهو يعلم بهذا السبيل {على عِلْمٍ} منه ثم مضى سادِراً في ملذّاته غير آبهٍ بدين ولا خلق!؟ لقد أغلقَ سمعه فلا يقبل وعظاً، وقلبه فلا يعتقد حقا {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ، يا مشركي قريشٍ هذا؟
انها صورة عجيبة من الواقع الذي نراه دائماً، وما اكثر هذا الصنف من الناس. واتباعُ الهوى هذا قد ذمّه اللهُ في عدة آيات من القرآن الكريم. {واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} [الأعراف: 176] {واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28] . {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26] . نسأل الله السلامة.
ثم بعد ذلك يذكر اللهُ مقالةَ المنكرين للبعث، والذين يقال لهم الدَّهرِيّون. هؤلاء الناس أنكروا البعث وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا هذه، نموتُ ونحيا وما يُهلكنا الا الدهر.
{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}
إنهم لا يقولون ذلك عن علمٍ ويقين، ولاكن عن ظنّ وتخمين، واوهامٍ لا مستَنَدَ لها من نقل او عقل. ولمّا لم يجدوا حجةً يقولونها تعلّلوا بقولهم: ان كان ما تقوله يا محمد حقاً فلْتُرجِع آباءنا الموتى الى الحياة {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .(3/229)
وهنا أمر الله تعالى رسولَه الكريم ان يقول لهم: الله يحييكم في الدنيا من العدَم ثم يميتكم فيها عند انقضاء آجالكم، ثم يجمعُكم يومَ القيامة الذي لا شك فيه، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} قدرةَ الله على البعث، لإعراضهم عن التأمل في آيات الله وملكوته.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي وحفص: سواءً محياهم، بنصب سواء. والباقون: سواءٌ بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي: غشوة، والباقون: غشاوة. قال في لسان العرب الغشاء: الغطاء، وعلى بصره وقلبه غشوة وغشوة مثلثة العين، وعشاوة وغشاوة بفتح الغين وكسرها، وكلها معناها الغطاء.(3/230)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
جاثية: باركة على الركَب. الى كتابها: الى صحيفة اعمالها المسجلة عليها. ينطق عليكم بالحق: يشهد عليكم بالحق. نستنسخ: نجعل الملائكة تكتب وتنسخ.
في هذه الآيات الكريمة يبين الله تعالى أنه مالكُ الكون كلّه، وهو وحده القادرُ على التصرف فيه ملكاً وتدبيرا، ويومَ القيامة يحشرُ الناسَ فيظهر خسرانُ أولئك المبْطِلين.
ثم بين حال الأمم في ذلك اليوم الرهيب، وان كل أمةٍ تجثو على رُكَبها وتجلس جلسة المخاصِم بين يدي الحاكم، وكل أمةٍ تُدعى الى سجلّ أعمالها، ويقال لهم: اليومَ تَسْتَوفون جزاءَ ما كنتم تعملون في الدنيا، هذا كتابُنا الذي سجّلنا فيه أعمالكم، وهو صادق عليكم، إذ كتبتهُ الملائكةُ في دنياكم.
وبعد ان ينتهيَ الحسابُ يُدخل اللهُ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنته {ذلك هو الفوزُ العظيم} .
وأما الذين كفروا بالله ورسله فيقال لهم: ألم تأتِكم رسُلي، يتلون عليكم آياتِ كتبي، فكنتم تتعالون وتستكبرون عن قَبول الحق والايمان بها، وبذلك كنتم قوماً كافرين، فالنارُ مثواكم وبئس المصير.(3/231)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
بمستيقنين: بمحقِّقين. وبدا لهم سيئات ما عملوا: ظهر لهم عيوب اعمالهم السيئة. وحاق بهم: احاط وحلّ بهم. ننساكم «نترككم ونهملكم، كما نسيتم: كما تركتم واعرضتم عن آيات الله وانكرتم لقاء ربكم في هذا اليوم. لا يُستعتبون: لا تُطلب منهم العتبى والاعتذار. الكبرياء: العظمة والسلطان.
واذا قال لكم رسول الله: ان وعدَ الله ثابت، وان يوم القيامة لا شكّ فيه، قلتم: ما نعلم ما هي الساعة وما حقيقة القيامة، وما عِلمُنا بذلك الا ظنّ، وما نحنُ بموقنين أنها آتية.
وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ونزل بهم جزاءُ استهزائهم بآياتِ الله، ويقال لهؤلاء المشركين: اليومَ نترككم في العذاب وننساكم فيه، كما تركتم العملَ للقاءِ يومكم هذا، {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ينصرونكم اليوم.
فالله تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب: قطْع الرحمة عنهم، وجعلِ مأواهم النار، وعدم وجود من ينصرهم، وذلك لأنهم أصرّوا على إنكار الدين الحق، واستهزؤا بالله ودينه ورسله، واستغرقوا في حب الدنيا. وهذا معنى قوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ}
لا يخرجون من النار بل يخلَّدون فيها، ولا هم يُردُّون الى الدنيا، ولا يُطلب منهم ان يسترضوا الله ويتوبوا.
وبعد هذا الاستعراض فيما حوته السورة من آلائه واحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل على قدرته بدءَ الخلق واعادته - أثنى الله على نفسه بما هو أهلٌ له فقال:
{فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} .
فلله وحده الحمد والثناء، خالق هذا الكون بما فيه، وله وحده العظَمة والسلطان في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يُغلب، ذو الحكمة رب العرش العظيم.(3/232)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
أجل مسمى: يوم القيامة. أُنذِروا: اعلِموا وخوفوا. تدْعون: تعبدون. أم لهم شِرك: ام لهم نصيب. او أثارة من علم: بقية من علم. واذا حشِر الناس: اذا جمعوا يوم القيامة.
افتتحت سورة الاحقاف بحرفين من حروف الهجاء مثل كثير من السور غيرها وقد تقدم الكلام على ذلك، وكذلك نص الآية {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} مثل افتتاح سورة الجاثية.
ما خلقْنا هذا الكونَ العديب الا على نواميس ثابتة، وحكمة بالغة، والى أمد معين هو يوم القيامة. . أما الذين كفروا بالله ورسله فهم معرِضون عما أُنذِروا به من انهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء.
ثم يردّ اللهُ تعالى على من يعبد غيره من المشركين فيأمر الرسولَ الكريم أن يقول لهم: أخبِروني عن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله؟ هل خلقوا شيئاَ في هذه الدنيا، ام أنهم شاركوا في خلْق السموات؟ انْ كان ما تدّعون حقا فأْتوني بكتابٍ من قبل هذا القرآن، او أي أثرٍ من عِلم الأولين تستندون اليه في دعواكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
وأيّ ضلالٍ أكبر ممن يعبد معبوداتٍ لا تسمع ولا تنطق ولا تستجيب أبدا! والمشركون مع ذلك غافلون عن هذه الحقيقة.
حين يُجمع الناس للحساب يوم القيامة تتبرأ هؤلاء المعبودات من المشركين وتغدو أعداء لمن عبدوهم {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ومثله قوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81-82] .(3/233)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
للحق: للقرآن. افتراه: كذب به. فلا تملكون لي من الله شيئا: لا تغنون عني شيئا ان اراد الله عقابي. تفيضون فيه: تخوضون في من تكذيب لقرآن. ما كنتُ بدعا من الرسُل: هناك قبلي رسل كثير، فما أنا أول رسول لا مثيل لي.
بعد أن قرر الله تعالى وحدانيته وثبّتها، ونفى الأضدادَ وكل ما يُعبد غيره - يقرر هنا أن رسالة سيدنا محمد حق، وان الرسول كلّما تلا على مشركي قومه شيئا من القرآن قالوا إنه سِحر، بل زادوا في تكذيبه فقالوا انه افتراه. ويردّ الله عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنع الله من عقابه!! والله هو العليم بما يخوضون فيه من أحاديث وتكذيب!
{كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم} .
كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب. ثم يجيء التعقيب اللطيف: {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم} .
كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب. ثم يجيء التعقيب اللطيف: {وَهُوَ الغفور الرحيم} فان الله مع كل هذا الكفر والعناد من المشركين يُبقي بابَ التوبة والمغفرة والرحمة مفتوحاً دائما، فلا يقنط من رحمته أحد.
ثم يأمر رسولَه الكريم أن يقول لهم: إني لستُ أول رسول من عند الله فتنكروا رسالتي، ولست أعلمُ ما يفعل الله بي ولا بكم، وما أتّبع فيما أقول أو أفعل إلاّ ما يوحيه إليّ الله {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
يقول معظم المفسّرين: إن هذه الآية بالذات مدنية، قد نزلت في عبدِ الله بن سَلام، وكان من أكبرِ علماءِ بني إسرائيل، أسلم بالمدينة، وأحدثَ إسلامُه ضَجّةً عند اليهود، وقصتُه طويلة يُرجَع إليها في كتب الحديث والسيرة.
ويكون المعنى: قل لهم أيها الرسول: أخبِروني إن ثبتَ أنّ القرآنَ حقٌّ من عند الله، وآمن به عالِمٌ من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام الذي يُدرك أسرارَ الوحي ويشهد ان القرآن من عند الله كالتوراة التي أَنزلها على موسى. . . ماذا يكون حالُكم إذا بقيتم على ضلالِكم وكفركم؟ افلا تكونون من الظالمين؟ .
وقال جماعة من المفسرين: ان الشاهدَ موسى بن عمران، وان التوراة مثلُ القرآن كلاهما من عند الله، وان موسى شهِدَ على التوراة، ومحمدٌ شهِدَ على القرآن صلى الله عليهما وسلم. وهذا ما يُرجِّحه الطبري، لأن السورة مكية، فيما اسلم عبد الله بن سلام بالمدينة بعد الهجرة.
ثم حكى عن المشركين شُبهةً أخرى بشأن إيمان من آمَنَ من المسلمين من الفقراء كَعَمّار وصُهَيب وابنِ مسعود وغيرِهم فقالوا: لو كانَ هذا الدينُ خيراً ما سبَقَنا إليه هؤلاء الضعفاءُ من الناس، وانما قرآن محمد افكٌ قديم من أساطير الاولين.(3/234)
وقد ردّ الله عليهم طَعْنَهم هذا في القرآن وأثبت صحته فقال:
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} .
القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى، كلٌّ منهما إمامٌ ورحمةٌ لمن آمن به وعمِلَ بموجبه، وقد بشَّرت التوراةُ بسيّدنا محمد: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} [الأعراف: 157] . وهذا القرآنُ مصدِّق بالتوراة وما قبلَه من الكتب، وينطِق بلسانكم أيها العربُ، وينذِرُ من أساءَ بالعذاب، ويبشّر من أحسنَ بالثواب، فكيف يكون إفكاً قديماً، وسحرا وأساطير؟
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وابن كثير: لتنذر بالتاء. والباقون: بالياء.(3/235)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
وصّينا الانسان: أمرناه أن يفعل كذا. . ومثله أوصاه. كُرها: بضم الكاف وفتحها: مشقة. حَمْله وفصاله: مدة حَمْلِه وفطامه. أشده: صار بالغا مستحكما القوة والعقل. أوزِعني: ألهِمني، رغّبني، وفقني. أصلحْ لي في ذريتي: اجعل لي خلَفاً صالحا. في أصحاب الجنة: يدخلون الجنة مع الذين انعم الله عليهمز
ان الذين قالوا ربُّنا الله الذي لا إله غيره، ثم أحسَنوا العملَ واستقاموا عليه بإيمان كامل، لا خوفٌ عليهم من فزعِ يوم القيامة وأهواله، وهُم لا يحزنون على ما خلّفا وراءهم بعد مماتهم، أولئك هُم أهلُ الجنة خالدين فيها، ثواباً لهم من الله على أعمالهم الصالحة التي ك انوا يعملونها في الدنيا. وهذه أحسنُ بُشرى يزفُّها القرآن الكريم للمحسنين، فهنيئا لهم.
ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الانسان.
ووصّينا الانسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا، وفي وضعه آلاماً كثيرة، ثم في إرضاعه وتربيته. فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها. . لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم. وقد وردت احاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات.
روى الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمَّكَ ثم أمك ثم أمك، ثم أباك» ورواه أحمد وابو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة.
وهناك حديث مشهور: «الجنّةُ تحت أقدام الأمهات» رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عنهـ، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عنهـ.
وعن ابي أمامة رضي الله عنهـ أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين: «هما جنَّتاك وناراك» وفي البخاري ومُسْلم والترمذي: «أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم» والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع اليها في كتب الحديث.
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}
يعني إن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل.
ويؤخذ من هذه الآية {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} ومن الآية: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فاذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به.
حتى اذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية، يقول عندها: ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ، ووفقني الى العمل الصالحِ الذي ترضاه، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والايمان، إني تُبت اليك من كلّ ذنب {وَإِنِّي مِنَ المسلمين} المستسلمين لأمرِك ونَهيك.
هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الحميدة نتقبّل منهم أعمالَهم الحسنة، ونجازيهم عليها أحسنَ الجزاء. وهم منتظِمون في سلك أصحاب الجنة {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} والله تعالى لا يُخْلف وعده.
قراءات:
قرأ أهل الكوفة: احسانا وقرأ الباقون: حينا. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وابو عمرو: كَرها بفتح الكاف. والباقون: كُرها بضمها وهما لغتان. وقرأ يعقوب: وفصله، والباقون: وفصاله. وهما لغتان.(3/236)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أف: كلمة معناها التضجّر، وهي مستعملة كثيرا. أن أُخرج: ان ابعث من القبر. خلت القرونُ من قبلي: مضت الأممُ من قبلي ولم يبعث أحدٌ من قبره. ويلك: دعاء عليه بالهلاك. الهلاك لك. اساطير الاولين: أباطيلهم وخرافاتهم. حقَّ عليهم القول: حق عليهم العذاب: الخاسرين: الّذين ضيّعوا انفسهم باتّباع شهوانهم وعدم الايمان بالله ورسوله. الدرجات: المنازل. أذهبْتم طيباتكم: أذهبتم حياتكم وشبابكم وقوّتكم باتّباع شهواتكم في الدنيا. الهُون: الهوان والذل.
بعد ان مضى الحديث عن حال البررة من الأولاد، بيّن هنا حالَ الاشقياء العاقّين للوالدَين، الجاحدين المنكرين للبعث والحساب.
والفريق الثاني من الناس هو الذي ينهر والديه ويقول لهما أفّ لكما ولما تؤمنان به، اتقولان لي إني سأُبعث من قبري حيّا بعد موتي، وقد مات قبلي كثيرٌ من الناس لم يعُدْ منهم أحد، أنا لا اصدّق هذا ولا أومن به!
ووالداهُ يستصرخان اللهَ مستغيثين أن يوفق ولدهما إلى الايمان، ويقولان له: ويلكَ، آمِنْ قبل ان تهلك وتموتَ ثم تحشَر الى النار، {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} فيردّ عليهم بأنّ كل ما يقولانه خرافاتٌ من أساطير الاقدمين.
هذا الصنف من البشَر هم الذين حقَّ عليهم وقوعُ العذاب مع أممٍ قد مضت من قبلِهم من الجنّ والانس، {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} .
روى البخاري والترمذي وابو داود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أكبرِ الكبائر ان يلعنَ الرجلُ والديه او يعقَّهما» .
ولكل من المؤمنين والكافرين منازلُ تلائمهم بحسب أعمالهم، ليظهرَ عدلُ الله فيهم، وليوفيهم جزاءَ أعمالهم {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
واذكر أيّها الرسول يومَ يُعرض الكافرون على النار يقال لهم: لقد استوفيتم ملذّاتِكم وشهواتِكم في الدنيا، واستمتعتُم بها، فاليومَ لكم أشدُّ العذاب بالذلّ والهوان بما كنتم في الدنيا تفسُقون وتستكبرون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: نتقبل، ونتجاوز بالنون. والباقون: يتقبل ويتجاوز بالياء. وقرأ هشام: اعتدانّي بنن واحدة مشددة. والباقون: اتعدانني بنونين بدون تشديد. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان: لنوفيهم بالنون. والباقون: ليوفيهم بالياء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: أأذهبتم طيباتكم بالاستفهام، والباقون: بهمزة واحدة، وابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة.(3/237)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
أخا عاد: هو هود عليه السلام. الأحقاف: جمع حِقف بكسر الحاء، رمال معوجة مستطيلة، وهي بلاد بين عُمان وحضرموت كما تقدم في الكلام على مقدمة السورة. النذُر: جمع نذير، وهو المنذر. من بين يديه: من قبله. ومن خلفه: من بعده. لتأفكنا: لتصرفنا. بما تعدنا: من تعجيل العذاب. العارض: السحاب الذي يعرض في افق السماء. مستقبل أوديتهم: متجها اليها. وحاق بهم: نزل بهم. صرّفنا الآيات: بيناها. قرباناً: متقربا بها الى الله. ضلّوا عنهم: غابوا عنهم. وذلك إفكُهم: وذلك الذي حل بهم عاقبة كذبهم وافترائهم.
اذكر ايها الرسول لقومك المكذِّبين هوداً، أخا قوم عادٍ، الذي حذّر قومه الذين كانوا يسكنون الأحقاف. وقد مضت الرسُل قبله وبعدَه بمثل ما أنذَر به قومه، اذ قال لهم: لا تعبدوا الا الله وحده، {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . فما كان جوابُ قومه الا أن قالوا: أجئتنَا لتَصرِفَنا عن عبادة آلهتنا، فأتِنا بما تعِدُنا من العذابِ ان كنتَ من الصادقين.
فقال هود: إنما العِلم بوقتِ عذابكم عندَ الله وحده، وأنا ابلِّغكم رسالة ربي اليكم، {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} ما تُبعث به الرسُل وما في مصلحتكم.
فأتاهم العذابُ في صورة سحاب. فلَمّا رأَوه ممتدّا في الأفُق مقبلاً على أوديتهم ظنّوه غيثاً فقالوا فرِحين: هذا سحابٌ جاءنا بالمطر والخير. فقيل لهم: بل هو العذابُ الذي طلبتموه واستعجلتم به. إنها ريحٌ فيها عذابٌ شديدُ الألم، تُهلك كلَّ شيء بأمر ربِّها. ولقد دمرتْهم واستأصلت جميع الأحياء في تلك البلاد.
{فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}
أصبحوا أثراً بعد عَيْن. بمثل هذا نجزي كلَّ من أجرمَ واستكبر ولم يؤمن بالله ورسله.
ولقد مكنّا عاداً وقومه بالقوة والسَّعة ما لم نمكّن لكم يا أهل مكة، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة لم ينتفِعوا بها لأنهم كانوا مصرّين على إنكار بآيات الله وجحدها.
{وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزئون به.
ولقد أهلكنا القرى التي كانت حولكم يا أهلَ مكة، وبينّا لهم الآياتِ المتنوعةَ والحجج لعلّهم يرجعون عن الكفر. فلم يَرعَووا ولم يرجِعوا. فخُذوا عبرةً من كل ما تلوناه عليكم وارجِعوا عن كفركم وعبادةِ الأوثان لعلّكم تُفلحون.
والمقصود بالقرى التي حولَهم هي أقوام هود وصالح ولوط وشعيب لأنهم كانوا حول ديارهم.
{فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} .
هنا يقول الله تعالى: لم تَنصرهم آلهتُهم وأوثانهم الذين عبدوهم من دون الله، واتّخذوا عبادتَهم قرباناً يتقرّبون به إلى ربهم فيما زعموا، بل غابوا عنهم وتركوهم في أحرجِ الأوقات.
{وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
وذلك الذي حلّ بهم من خِذلان آلهتهم لهم وضلالِهم عنهم هو عاقبةُ كذِبهم.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة وخلف: لا يُرى الا مساكنهم بضم الياء من يرى، ورفع النون. والباقون: لا تَرى الا مساكنهم بفتح التاء ونصب النون.(3/238)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
صرَفَنا اليك: وجّهنا اليك. النفر: ما بين الثلاثة والعشرة. قُضِيَ: فرغ من تلاوته. ولّوا: رجعوا. من يجِرْكم: من ينقذكم. داعي الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعد ان ذكر اللهُ ان في الانسِ من آمنَ ومنهم من كفر، بيّن هنا ان الجنّ كذلك، وأنهم عالَمٌ مستقلّ بذاته. ويجب ان نعلم ان عالَم الملائكة وعالَم الجن يختلفان عنا تمامَ الاختلاف ولا نعلم عنهما شيئا الا من الاخبار التي جاءت بها الرسُل الكرام. ونحن نؤمن بوجودهما، وان النبيّ عليه الصلاة والسلام بلّغ الجنَّ رسالته كما ورد هنا وفي عدد من السور.
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن علقمة قال: قلت لعبدِ الله بن مسعود، هل صحبَ رسولَ الله منكم احد ليلة الجنّ؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكنّا افتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشرِّ ليلة باتَ بها قوم. فلمّا كان وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قِبَل حِراء، فقال: اتاني داعي الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم القرآن. فانطلق فأرانا آثارهم. . . الحديث.
وخلاصة معنى هذه الآيات:
لقد وجّهنا إليك أيها الرسول مجموعةُ من الجن ليستمعوا القرآن، فلما سمعوه قالوا: أنصِتوا. فلما فرغ من قراءته رجعوا الى قومهم فأنذروهم، وقالوا لهم: يا قومنا، لقد سمعنا آياتٍ من كتاب انزله الله من بعد موسى مصدِّقاً لما تقدَّمه من الكتب الالهية، يهي الى الحق، والى شريعة قويمة، وحياة كريمة، فآمِنوا به يغفرْ لكم من ذنوبكم. يا قومنا أَجيبوا داعي الله الذي يهدي الى الحق، ومن لم يجب الداعي فإن الله سيهلكه، ولن يستطيع أحد أن يحميَه، ان الذين لا يطيعون الله ورسوله في ضلال مبين.(3/239)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
لم يعيَ: لم يعجز. اولو العزم: اصحاب الجد والصبر والثبات. بلاغ: كفاية في الموعظة.
يبين الله تعالى هنا ان الذي خلق هذا الكونَ العجيب بمفرده ولم يُعدِزه خلْقُه وما فيه، يقدر على إعادة الموتى وإحيائهم من جديد، {بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ويوم يوقَف الذين كفروا ويُعرضون على النار، يقول الله لهم: أليست النارُ حقيقةً واقعة؟ .
فيقولون: بلى واللهِ انها الحق. فيقال لهم: ذوقوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذِّبون.
فاصبر ايها الرسول على ما أصابك من اذى وتكذيب، كما صبر أولو العزم من الرسُل قبلك، ولا تستعجل لهم العذابَ فهو واقعٌ بهم لا محالة، كأنّهم يومَ يشاهدون هولَه يظنّون أنّهم ما أقاموا في هذه الدنيا الا ساعةً من نهار. إن هذا القرآن بلاغٌ لهم، فيه الكفاية لمن طلب الرشد والهداية.
ثم بعد ذلك أوعد وأنذر فقال: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} .
قراءات:
قرأ يعقوب: يقدر. والباقون: بقادر.
وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالوعيد للفاسقين، وما الله يريد ظلماً للعباد.(3/240)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
صدوا عن سبيل الله: صرفوا الناس عن الاسلام. أضلّ اعمالهم: أبطلها. اصلح بالَهم: أصلح حالهم، والبال معناه القلب والخاطر. والبال: الامل، ويقال: فلان رضيّ البال وتاعم البال: موفور العيش هادئ النفس. فضرب الرقاب: فاضربوا رقابهم ضرباً واقتلوهم. أثخنتموهم: اكثرتم فيهم القتل. فشدّوا الوثاق: فأسِروهم واربطوهم. الوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به. فإما منّاً بعدُ واما فداء: فاما ان تطلقوا سراحهم بدون فداء، واما ان يفدوا أنفسهم بشيء من المال. حتى تضع الحرب أوزارها: حتى تنتهي الحرب، الأوزار: اثقال الحرب من سلاح وغيره.
قسم الله الناس فريقين: أهلَ الكفر الذين صدّوا الناسَ عن دين الله، وبيّن ان هؤلاء قد أبطلَ اعمالهم، وأهل الايمان الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات، وقد محا عنهم سيئاتهم، وأصلح حالهم في الدين والدنيا.
ثم علل ذلك بان اعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة، بأن الحق منصور، والباطل مخذول، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} ، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الامثال للناس ليعتبروا.
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى هنا وجوبَ القتال وأذِن به بعد ان استقر المؤمنون في المدينة، وبدأوا في تأسيس الدولة الاسلامية. وتبين هذه الآياتُ مشروعيةَ القتال للدفاع عن العقيدة والوطن. فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضرِبوا رقابَهم، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فأحكِموا قيد الأسرى، وبعد ذلك لكم الخيار: إما ان تُطلقوا الأسرى او بعضَهم بغير فداء وتمنُّوا عليهم بذلك، وإما ان تأخذوا منهم الفدية، او تبادلوا بهم بالمسلمين ممن يقع في الأسر. وليكن هذا شأنكم مع الكافرين حتى تنتهي الحرب وتضع أوزارها.
ثم بين الله تعالى ان هذه هي السنّة التي أرادها من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، ولكنه ليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد.
واما الشهداء الذين يُقتلون في سبيل الله فلن يُبطل أعمالهم، بل {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} وفيها كل ما لذ وطاب، وهم يعرفون منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم في الدنيا.
قراءات:
قرأ أهل البصرة وحفص: والذين قُتلوا. بضم القاف وكسر التاء. والباقون والذين قاتلوا.(3/241)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
ان تنصروا الله تنصروا دينه. يثبِّت أقدامكم: ينصركم ويوفقكم. تعساً لهم: هلاكاً لهم. أحبطَ اعمالهم: أبطلها. دمر عليهم: أهلكهم، يقال دمر القوم ودمر عليهم: أهلكهم. وللكافرين امثالُها: للكافرين امثالُ عاقبة الذين دمرهم الله. نولى الذين آمنوا: ناصرهم. وأن الكافرين لا مولى لهم: لا ناصر لهم. والنار مثوى لهم: مقرٌّ لهم. من قريتك: من مكة.
يا ايها الذين آمنوا إن تنصروا الله (وذلك بنصرِ شريعته، والقيام بحقوق الاسلام، والسيرِ على منهاجه القويم) ينصركم الله على عدوّكم. وهذا وعدٌ صادق من الله تعالى، وقد انجزه للمؤمنين الصادقين من اسلافنا. فنحن مطالَبون الآن بنصر دين الله والسير على منهاجه حتى ينصرنا الله ويثبّت أقدامنا، واللهُ لا يخلف الميعاد.
اما الذين كفروا بالله فتعساً لهم وهلاكا، واللهُ تعالى قد أبطلَ اعمالهم، وجعلها على غير هدى لأنها عُملت للشيطان. فلقد كرهوا ما انزل الله من القرآن وكذّبوا به وقالوا عنه انه سحر مبين، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وهكذا بات عملهم كلّه هباءً وذهبوا الى النار.
بعد ذلك يوجه الله الناسَ الى النظر في احوال الأمم السابقة ورؤية آثارهم، لأن المشاهَدة للأمور المحسوسة تؤثر في النفوس، فيقول لهم: افلم تسيروا في الأرض فتنظروا ديار الأمم السابقة التي كذّبت الرسل! اتّعظوا بذلك، واحذروا ان نفعل بكم كما فعلنا بمن قبلكم، ممن اوقعنا بهم الهلاك ودمرنا ديارهم. {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ان كل من يكفر بالله ينتظره مثل ذلك العذاب. والله وليُّ من آمن به واطاع رسوله، وليس للكافرين من ناصر على الاطلاق.
وبعد ان بيّن حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن هنا نصيب المؤمنين، ونصيب الكافرين في الآخرة، وشتان بين الحالين وبين النصيبين. فالمؤمنون يدخلون جناتٍ عظيمة تجري من تحتها الأنهار إكراماً لهم على إيمانهم بالله ونصرهم لدينه وشريعته. والكافرون يتمتعون في الدنيا قليلا، ويأكلون كما تأكل الحيوانات، غافلين عما ينتظرهم من عذاب أليم، {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} فهي مأواهم الذي يستقرون فيه.
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ. . .}
وهنا يسلّي الله تعالى رسوله الكريم فيخبره ان كثيراً من أهل القرى السابقين كانوا اشدَّ بأساً وقوة من مكة التي أخرجك اهلُها، ومع ذلك فقد أهلكهم الله بأنواع العذاب فلم ينصُرهم احد، ولم يمنعهم احد.
ثم يبين الله الفرق بين المؤمنين المصدّقين، والكافرين الجاحدين، والسببَ في كون المؤمنين في اعلى الجنان، والكافرين في اسفل الجحيم:
{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ}
هل يستوي الفريقان في الجزاء؟ لا يمكن، فالذين آمنوا {على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} رأوا الحق وعرفوه واتبعوه. والذين كفروا زين لهم الشيطان سوء اعمالهم فرأوه حسنا فضلّوا {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} فهل يستوي الفريقان؟ لا يستويان ابدا.(3/242)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
مثل الجنة: صفتها. آسِن: متغير الطعم والريح، والفعل: أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم. لذة للشاربين: لذيذ للشاربين. مصفى: قد اخذ منه الشّمع. حميماً: شديد الحرارة. آنفا: قريبا. وآتاهم تقواهم: الهمهم تقواهم، وفقهم اليها. أشراطها: علاماتها. فأنّى لهم: فكيف لهم. ذكراهم: تذكرهم. متقلَّبكم: تصرفكم في اعمالكم. مثواكم. مأواكم ومصيركم في الآخرة.
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين انها: فيها انهار من ماء عذب لم يتغير طعمه، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه، وانهار من خمر لذيذة للشاربين، وانهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر. وفيها من جميع انواع الثمرات. وفوق كل هذه النعم يأتي رضى الله عنهم {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} .
فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار، {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} ؟؟ .
وبعد بيان حال المشركين وسوء مصيرهم، وصفَ حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم ساعة يخرجون من عنده يقولون للواعين من الصحابة: ماذا قال محمد ونحن في مجلسه؟ فإننا لم نفهم منه شيئا. وهذا كله سخرية واستهزاء.
{أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ}
فهم مشغولون بالخبث وحطام الدنيا. اما الذين اهتدوا الى طريق الحق فقد زادهم الله هدى، وألهمهم تقواهم وصلاحَهم. ثم عنّف الله اولئك المكذّبين، وأكد انهم لم يتّعظوا بأحوال السابقين، وعليهم ان يتوبوا قبل ان تأتيهم الساعة بغتة وقد بدت علاماتها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم. ففي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بُعثت انا والساعة كهاتين» ، واشار بإصبعيه السبّابة والتي تليها. ولا ينفعهم شيء اذا جاءتهم الساعة كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} [الفجر: 23] .
وبعد أن بيّن أن الذِكرى لا تنفع يوم القيامة أمرَ رسولَه الكريم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله واصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
{والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}
هو العليم بتصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة.
قراءات:
قرأ ابن كثير: أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين. والباقون: آسن: بمد الهمزة. وقرأ ابن كثير: أنفا بهمزة بغير مد على وزن حذر. والباقون: آنفا بمد الهمزة على وزن فاعل.(3/243)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
لولا نُزّلت سورة: هلاّ أنزلت سورة. محكمة: بينة، واضحة. في قلوبهم مرض: شك ونفاق. نظ رالمغشيّ عليه من الموت: كالجبان الذي يخاف من كل شيء. أولَى لهم: ويل لهم. عزم الأمرُ: جد ولزم. إن توليتم: صرتم حكاما وتوليتم امور الناء.
ان المؤمنين المخلصين يقولون: هلاّ أنزِلتْ سورةٌ تدعونا الى القتال، فإذا انزلت سورةٌ مُحكَمة تأمر به، رايتَ يا محمد الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليكَ بهلَع وخوفٍ كأن الموت يغشاهم، خوفا من القتال وكرها له.
{فأولى لَهُمْ}
فالموتُ أَولى لمثل هؤلاء المنافقين، أهلكهم الله.
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ان طاعةً لله وكلمة طيبة لهي أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجبن من لقاء العدو، فاذا جدَّ الأمرُ ولزمهم القتال - كرهوه وتخلفوا عنه خوفا وجبنا، ولو صدَقوا في ايمانهم لكان خيرا ًلهم من نفاقهم هذا.
ثم زاد في تأنيبهم وتوبيخهم بقوله:
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ}
أولئك المنافقون الذين طردهم الله من رحمته، فأصمَّهم عن سماع الحق، وأعمَى أبصارَهم عن رؤية طريق الهدى.(3/244)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
يتدبرون القرآن: يتفهمون معانيه ويتفكرون فيه. ارتدّوا على أدبارهم: رجعوا الى الكفر. سوّل لهم: زين لهم. وأملَى لهم: مدّ لهم الأماني والآمال. أضغانهم: جمع ضِغن وهو الحقد الشديد. بسِيماهم: بعلامتهم. ولتعرفنّهم في لحن القول: في اسلوبه الذي يتكلمون به ومغزاه. ولنبلونَّكم: لنختبرنكم.
افلا يتفهّمون معاني القرآن ويتفكرون فيه، ام ان قلوبهم مغلقةٌ كأن عليها الاقفال! ان الذين رجعوا الى الكفر بعد أن ظهر لهم طريق الحق والهداية، انما زين لهم الشيطانُ الكفر واغراهم بالنفاق، ومد لهم في الآمال الباطلة. ولقد جاءهم ذلك الضلال من جيرانهم اليهود من بني قريظة والنضير الذين كرهوا الاسلام والقرآن ورسالة الرسول الكريم. فهؤلاء المنافقون مالأوا اليهود فأطمعهم أولئك ببعض الامر، والله يعلم اسرار المنافقين.
هذه الحيل وذلك النفاق وان نفعت في حياتهم فلن تنفع آخر الأمر. {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} انها خاتمة سيئة، ومشهد مخيف مفزع.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
ان هذا الهول الذي سوف يرونه عند الوفاة انما سببُه أنهم اتّبعوا الباطل الذي لا يرضى الله عنه، وكرهوا الحق الذي يرضاه، فأبطل أعمالَهم جميعها.
ثم بين الله انه يعلم خباياهم ومكرهم وخبثهم فقال:
{أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ}
فهل يظن هؤلاء المنافقون ان الله لن يُظه~رَ أحقادهم ويفضحهم للرسول والمؤمنين! ولو نشاء لعرّفناك يا محمد أشخاصَهم، فعرفَته بعلاماتٍ خاصة بهم.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول}
وأُقسِم أيّها الرسول لتعرفنّهم في اسلوبِ كلامهم المعوج، {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} .
وقد ثبت في الحديث الصحيح ان الرسول الكريم كان يعرفهم جميعا، وقد عرّفهم الى حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنهـ.
ولنختبرنّكم أيها المؤمنون بالجهاد وتكاليف الشريعة، حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين في البأساء والضراء، ونعرفَ الصادقَ منكم في إيمانه من الكاذب.
قال ابراهيم بن الاشعث: كان الفضيل بن عياض، شيخ الحرم واستاذ زمانه، اذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهمّ لا تبتلينا، فإنك اذا بَلَوْتنا فضحْتَنا وهتكتَ أستارنا.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: وأُمليَ لهم، بالبناء للمجهول. وقرأ يعقوب: واملي لهم، بضم الهمزة وكسر اللام على الإخبار. والباقون: وأَملَى لهم بفتح الهمزة واللام على انه فعل ماضٍ.
قرأ حمزة والكسائي وحفص: إسرارهم بكسر الهمزة. وقرأ الباقون: أسرارهم بفتح الهمزة جمع سر. وقرأ ابو بكر: وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين. . . . ويبلوا اخباركم. هذه الافعال الثلاثة بالياء. والباقون: بالنون كما هو في المصحف.(3/245)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
شاقّوا الرسول: عادوه وخالفوه. فلا تهِنوا: فلا تضعُفوا عن القتال. وتدعوا الى السلم: تدعوا الكفار الى الصلح خوفا منهم. الأعلَون: الغالبون. لن يتركم اعمالكم: لن يُنقص اعمالكم يعني ان الله لا يظلمكم. فيُحْفِكم: فيلحّ عليكم ويجهدكم بطلبها، يقال احفاه بالمسألة: اذا لم يترك شيئا من الالحاح. أضغانكم: أحقادكم.
بعد ان بيّن الله تعالى حال المنافقين ذكَر هنا حال أساتذتهم اليهود الذين كفروا بالله وصدّوا الناس عن الاسلام بهبثهم ومكرهم، وعادَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. وقد تبين لهم صدقُه وأنه رسولُ من عند الله، وعندهم وصفُه في التوراة. . فهؤلاء لن يضروا الله شيئا، وإنما يضرّون أنفسَهم، وسيحبط الله مكايدَهم التي نصبوها للاسلام والمسلمين.
ثم أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعةِ رسوله الكريم في كل ما يأمران به، وان لا يبطلوا أعمالَهم برفض طاعتهما فيرتدّوا، ولا يقبل الله مع الشرك اي عمل.
وعن قتادة قال في الآية: من استطاع منكم ان لا يُبطل عملاً صالحاً بعمل سوءٍ فليفعل. ثم بين الله مصير الذين كفروا وصدّوا الناسَ عن الدخول في الاسلام، ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم. وحرّض المسلمين بأن يقاتلوا الكفار بقوله:
{فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون}
إياكم ان تضعفوا وتدعوا اعدائكم الى السلم فأنتم المنتصرون. والله معكم بنصره، ولن ينقصكم ثواب اعمالكم.
ثم أكد على المؤمنين بأنه لا ينبغي الحِرصُ على الدنيا فإنها ظلٌّ زائل، وما هذه الحياة الا لعب ولهو.
{وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} الا القليل النزر الذي فيه اصلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة. وهو عليم بأنكم أشحّة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرتْ أحقادكم على طالبيها. واللهُ قد طلب إليكم الانفاق في سبيله، فان بخلتم فضرر ذلك عائد اليكم. وهذا حاصل اليوم، فان معظم أموال البترول مكدّصة في بلاد الغرب، والمسيطرون على هذه الاموال ينفقون على ملذّاتهم الملايين، ويبخلون بالإنفاق في سبيل الله وتسليح المخلصين من العرب ليصدّوا عدونا اليهود وغيرهم من الاعداء.
{هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء}
كأن الآيةَ نزلت في وقتنا الحاضر، وهي صريحةٌُ في شرح احوالنا.
وهنا يأتي التهديد المخيف اذ يقول تعالى:
{وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم}
فان تعرِضوا وبتخَلوا باموالكم ولا تنفقوا في سبيل الله، فان الله غنيٌّ عنكم يستبدلُ مكانكم قوماً غيركم، فيكونوا خيراً منكم، يقيمون دينه، ويبذلون أموالَهم في سبيلِ الله بسَخاء، وينصرون هذا الدينَ العظيم. اللهم ألهمنا الصوابَ في القول والعمل.(3/246)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
فتحنا لك فتحا مبينا: نصرناك نصرا بينا ظاهرا. وكان صلح الحديبية نصراً كبيرا للنبي الكريم، إذ كان سببا في فتح مكة. قال الامام الزهري: لم يكن فتحٌ اعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الاسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلقٌ كثير كَثُر بهم سواد الاسلام، فما مضت تلك السنن الا والمسلمون قد جاؤا الى مكة في عشرة آلاف ففتحوها. السَّكينة: الطمأنينة والثبات.
إنا فتحنا لك يا محمد فتحاً ظاهرا عظيما بذلك الصلح الذي تم على يديك في الحديبية، وكان نتيجته الكبرى استيلاءك على مكة وازالة الكفر منها.
ليغفر اله لك، بسبب جهادك وصبرك، ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويُتم نعمته عليك بإعلاء شأن دينك، وانتشاره في البلاد، ورفع ذكرك في الدنيا والآخرة، ويهديك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة واقامة الدين، وينصرك على أعدائك نصراً فيه عز ومنعة.
ان الله هو الذي انزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين في المواقف الحرجة ووسْط المخاوفِ والشدائد ليزدادوا بها يقيناً، ولله جنودُ السموات والأرض يدبّر أمرها كما يشاء، ويسلّطها على من يشاء لتأديبه، وكان علم الله محيطاً بكل شيء.
ليدخلَ الله المؤمنين والمؤمنات بالله ورسوله جناتٍ تجري من تحتها الانهار، ما كثين فيها أبدا، ويمحوَ عنهم سيئاتهم، وكان ذلك الجزاء عند الله فوزا عظيما.(3/247)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
عليهم دائرة السوء: تدور عليهم وتحيط بهم. السوء: الشر. تعزّروه: تنصروه. توقروه: تعظّموه. بكرة: صباحا اول النهار. اصيلا: مساء آخر النهار.
وليعذّب المنافقين والمنافقاتِ والمشركين بالله والمشركاتِ الذين يظنون بالله اسوأ الظنون، كأنْ لا ينصر رسولَه. وقد نصره. فعليهم تدور دوائر الشر لا يفلتون منها، ونالهم عضبٌ من الله، الّذي طردهم من رحمته، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} [الفتح: 6] وما أسوأها من مصير!
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} من الملائكة والإنس والجن، والصيحة والرجعة والزلازل والخسف وغير ذلك. . يُهلِك بها اعداءه {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} ولا يزال.
انا ارسلناك يا محمد شاهداً على أمتك وعلى من قبلَها من الأمم، ومبشراً الذين آمنوا بحسْن الثواب، ونذيراً للذين عصَوا بسوء العذاب. وذلك لتؤمنوا ايها الناس، وتنصروا الله بنصر دينه، وتعظموه مع الاجلال والاكبار، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} صباحا ومساء.
وقرأ ابن كثير وابو عمرو: دائرة السوء بضم السين. وقرأ الباقون: بفتح السين. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: ليؤمنوا بالله ورسوله، ويعزروه ويوقروه ويسبحوه بالياء، والباقون بالتاء.(3/248)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
يبايعونك: يوم الحديبية، اذ بايع الصحابة الرسولَ على الموت في نصرته. انما يبايعون الله: لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة الله. يدُ الله فوق ايديهم: نصره لهم اقوى من كل شيء. نكث: نقض. المخلَّفون: واحدهم مخلّف، وهو المتروك في المكان خلف الذين خرجوا منه. الأعراب: أهلُ البادية. بورا: هالكين.
ان الذين يبايعونك يا محمد على الثبات معك في نصر الاسلام وجهاد أعدائه، انما يبايعون الله، ويدُ الله فوق أيديهم، فمن نقض عهده منهم بعد ميثاقه، عاد ضرر نقضِه على نفسه، ومن وفى بالعهد فسيؤتيه الله أجراً عظيما في الدنيا والآخرة.
وسبب هذه البيعة ان الرسول الكريم لمّا أشيع قتل عُثمان في مكة قال: لا نبرح حتى نناجزَ القوم. ودعا الناس الى البيعة. فبايعوه تحت الشجرة، وكانت بيعة الرضوان. ولما رأت قريش عزم الرسول الكريم واصحابه على الحرب بدأت تتراجع وأرسلوا بعض الاشخاص يفاوضون النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعود من هذا العام، ويأتي في العام المقبل لأداء العمرة. ووقع صلح الحديبية كما تذكر كتب التاريخ والسيرة.
ولما وقّع النبي الصلح مع قريش تحلل من احرامه ونحر. ثم مكث مع اصحابه أياما في الحديبية عادوا بعدها الى المدينة. وفي السنة التالية قصدوا مكة معتمرين، ودخلوها وهم يهلّلون ويكبرون قائلين: لا اله الا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. واقاموا بمكة ثلاثة ايام يطوفون ويسعون وينحرون الهَدْي. وقد سميت هذه العمرة عمرة القضاء لأنها تمت قضاءً عن العمرة السابقة التي منعهم فيها المشركون، ونزل فيها قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} [الفتح: 27] .
{سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
عندما اراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج الى مكة معتمراً دعا جميع المسلمين للخروج معه فتخلّف البدو من جهينة ومزينة وغفار وأشجعَ وأسلم وغيرهم وتعللوا بأن اموالهم وأهليهم قد شغلتهم. والحقيقةُ انهم كانوا ضِعاف الايمان، يخشون ان تقع الحرب. وقالوا: لن يرجع محمد ولا اصحابه من هذا السفر. ففضحهم الله في هذه الآية لأنهم كاذبون يقولون خلاف ما يبطنون، وامر رسوله الكريم أن يرد عليهم بقوله: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً؟} والله عليم بكل ما تعملون.
لم يكن تخلّفكم لما أبديتم من الاسباب، بل لأنكم قدّرتم ان الرسول والمؤمنين لن يعودوا أبدا.(3/249)
{وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء}
زيّن الشيطان لكم ان الله لن ينصر النبيّ واصحابه، وقد خيب الله ظنكم، وصرتم قوما هالكين. ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فإنا أعتدنا له سعيراً من النار خالداً فيها.
ثم بين الله تعالى قدرته على ذلك وانه يفعل ما يشاء، لا رادّ لحكمه، فله السلطان المطلق والتصرف الكامل. ومع ذلك كله فهو الغفور الرحيم {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}
قراءات:
قرأ حفص: بما عاهد عليهُ الله بضم الهاء في عليه. والباقون بكسرها. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح: فسنوتيه بالنون، والباقون: فسيؤتيه بالياء.
قرأ حمزة والكسائي: ان اراد بكم ضُرا بضم الضاد. وقرأ الباقون: ضَرا بفتح الضاد.(3/250)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
مغانم: جمع مغنم، وهو ما كسبه الإنسان في الحرب. أولي بأس: اصحاب قوة وشدة في القتال. الحرج: الضيق والاثم. يعني هؤلاء ليس عليهم اثم اذا لم يقاتلوا.
{سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا. . . .}
سيقول هؤلاء الاعراب الذين تخلفوا عنكم ايها الرسول يوم خروجكم الى مكة، وتعللوا بشغلهم بأموالهم بأموالهم واهليهم: دعونا نتبعكم ومخرج معكم الى غزو خَيبر، وذلك لأنهم توقعوا ما سيكون من مغانم.
{يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله}
يريدون بذلك تغيير وعدِ الله بتلك المغانم لمن خرج مع الرسول الى الحديبية.
قل لهم يا محمد: لن تتّبعونا، فلقد حَكَم اللهُ من قبلُ بأن الغنائم لمن خرج مع رسول الله وأطاعه. ولكنهم يتجرأون على الله ويقولون: ان الله لم يأمركم بذلك، بل انكم تخشون ان نشارككم الغنيمة.
{بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}
ليس الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون بل انهم لا يفقهون من امر الدين وتشريع الله الا قليلا.
ثم بين الله تعالى لهم ان باب القتال والجهاد لا يزال مفتوحا امامهم، ولذلك قال للرسول الكريم: قل لهؤلاء المتخلفين عن الخروج من اهل البادية: ستُدعون الى قتال قوم ذوي شدة وبأس في الحرب، فعليكم ان تخيّروهم بين امرين، إما القتل أو الاسلام، فان تستجيبوا لهذه الدعوة يُعظِم الله لكم الغنيمة في الدنيا والثواب في الآخرة، وان تعرضوا عنها كما اعرضتم من قبل {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
ثم بين الله تعالى الأعذارَ المبيحة للتخلّف عن الجهاد في سبيل الله: فالأعمى والأعرج والمريض معذورون ليس عليهم حرجٌ في عدم الخروج.
ثم رغّب في الاجهاد واطاعة الله ورسوله، وأوعد المتخلفين عنه بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
{وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً}
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: يريدون ان يبدلوا كَلِمَ الله بالجمع. والباقون: كلام الله.(3/251)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
تحت الشجرة: وهي شجرة طلح كانت هناك، وهى المعروفة بالسَمُرة، بايع المؤمنون تحت ظلها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. السّكينة: الطمأنينة، والأمن وسكون النفس. فتحاً قريبا: فتح خيبر، وقد حصل بعد انصرافهم من الحديبية. مغانم كثيرة: مغانم خيبر. لتكون آية للمؤمنين: وذلك علامة صدق الرسول الكريم، وحياطة من الله لرسوله وللمؤمنين، وليوقنَ المؤمنون الذين سيأتون ان رعايته تعالى ستعمُّهم أيضاً ما داموا على التقوى والصلاح. وأخرى لم تقدروا عليها: هي ما فتح الله على المسلمين فيما بعد من دولتي فارس والروم. احاط الله بها: حفظها الله لكم.
بعد ان بين الله حال المتخلفين فيما تقدم، عاد الى بيان حال المبايعين الذي ذكرهم بقوله تعالى في اول السورة: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] فبيّن هنا رضاه عنهم من اجل تلك البيعة التي سميت «بيعة الرضوان» لما علم من صدق ايمانهم واخلاصهم في بيعتهم، وأنزل الله عليهم السَّكينة والأمن ورباطة الجأش، وجازاهم بالغنائم الكثيرة التي أخذوها من خيبر، وكانت ارضا ذات حقول وبساتين وعقار واموال قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلة فاعطى الفارس سهمين والراجل سهما. روى ابن جرير عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون، اذ نادى منادي رسول الله، ايها الناس: البيعة البيعة، نزل روح القدس. فثرنا الى رسول الله وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه. فذلك قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين. . .} فبايع النبي لعثمان باحدى يديه على الأخرى، وكانت قد انتشرت شائعة أن عثمان قد قُتل، فبايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله.
ثم بين الله ان ما آتاهم من الفتح والمغانم ليس هو الثواب وحده، بل سيأتيهم جزاء اكبر. . وانما عجّل لكم هذه لتكون آية على صدق رسوله الكريم وحياطته له، وحراسته للمؤمنين وليثبتكم على الاسلام، وليزيدكم بصيرة، وسيؤتيكم مغانم كثيرة فيما بعد من فارس والروم وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لولا الاسلام، وهذا معنى قوله تعالى: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
ثم بين الله تعالى انه لو قاتلكم اهل مكة ولم يصالحوكم في الحديبية لانهزموا ولم يجدوا من ينصرهم او يدافع عنهم.
{سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} تلك هي سنة الله من غلبة المؤمنين، وخذلان الكافرين. ثم ذكر منة الله على عباده المؤمنين بقوله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} فصان كلا الفريقين عن الآخر، وأوجد صلحا فيه خيرة للمؤمنين، وعافية لهم في الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: يعملون بصيرا، بالياء، والباقون: بما تعملون بالتاء.(3/252)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
الهدي: ما يقدَّم قربانا لله في مناسك الحج والعمرة من الانعام. معكوفا: محبوسا لهذا الغرض. محله: المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو مِنى. أن تطؤوهم: ان تقتلوهم. المعرّة: المكروه والمشقة. لو تزيّلوا: لو تفرقوا وتميزوا. الحمية: الأنَفَة، والعصبيّة. وحمية الجاهلية: حمية في غير موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان. كلمة التقوى: هي لا اله الا الله، والسير على هدى الاسلام.
بعد ان بين الله أنه كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين، وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين، ذكر هنا ان المكان هو البيتُ الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه، فيقول: ان اهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجِد الحرام ومنعوا الهَدْيَ الذي سُقتموه معكم تقرباً الى الله من بلوغِ مكانه الذي يُنحر فيه.
ثم وضّح اكثر أن في مكة مؤمنين ومؤمناتٍ لا تعلمونهم، ولولا كراهةُ أن تصيبوهم فتقتلوهم بغير علم بهم، فتكونوا قتلتم إخوانكم فيلحقكم من اجل قتلهم {مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أيْ عار وخزي - لسلطانكم عليهم.
ثم اكد ميزة هذا الصلح العظيم بقوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أي ليفتح الباب أمام الذين يرغبون في دخول دين الله. وبين بوضوح بأنه لو امكن تميُّز المسلمين من الكفار في مكة لسلّط المؤمنين على الكافرين ولعاقبهم عقاباً أليما. فهؤلاء قد جعلوا في قلوبهم أنَفَة الجاهلية، لذا أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى (يعني العملَ بالتقوى) وضبْط النفس، فقبلوا الصلح في الحديبية على الرغم من كبرياء المشركين وحَمِيّتهم وعتوّهم.(3/253)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
الرؤيا: ما يراه النائم. صدَق الله رسوله الرؤيا: صدقه فيما رآه في نومه ولم يكذبه. محلّقين رؤوسكم ومقصرين: بعضكم يحلق شعره كله، وبعضكم يقصر منه. ليُظهره على الدين كله: ليعليه على سائر الأديان. فضلا: ثوابا. سِيماهم: علامتهم. مثَلهم: وصفهم. شَطْأه: شطأ الزرع ما يتفرع عليه من أغصان وورق وثمر. آزره: أعانه وقوّاه. وهو من الزؤازرة وهي المعاونة. استوى: استقام. على سوقه: على قصبه وأصوله، والسوق جمع ساق.
رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه وهو في المدينة قبل ان يخرج الى الحديبية رؤيا أنه يدخلُ المسجدَ الحرام هو واصحابه آمنين، منهم من يحلق شعره كله، ومنهم من يقصّر منه. فأخبر بذلك أصحابه آمنين، منهم من يحلق شعره كله، ومنهم من يقصّر منه. فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا انهم داخلون مكة في ذلك العام الذي خرجوا فيه الى الحديبية. فلما انصرفوا الم يدخلوا مكة شقَّ ذلك عليهم، وقال المنافقون: أين رؤيا النبي التي رآها؟ فانزل الله تعالى هذه الآية. ودخلوا في العام المقبل. وهذا معنى {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام. . .} الآية {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} هو صلح الحديبية وفتح خيبر.
ثم أكد صدقَ الرسول الكريم في الرؤيا بقوله:
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً}
وهذا وعدٌ من الله حقّقه للرسول الكريم في حياته ثم انتشر الاسلام في جميع أرجاء الأرض في اقصر مدة.
وبعد ان بين الله تعالى انه ارسل رسوله بالهدى ودين الحق الذي هو الاسلام، ليظهره على جميع الاديان - أردف ذلك ببيان أوصاف الرسول الكريم واصحابه. فوصفهم بأوصافٍ كلها مدائح لهم، وذكرى لمن بعدهم. بتلك الاوصاف سادوا الأمم، وامتلكوا الدول، ونشروا الاسلام، وقبضوا على ناصية العالم. وهذه الصفات هي:
1- انهم أشدّاء على من خالف دينهم وبادأهم العداء، وهم متراحمون متعاطفون فيما بينهم.
2- انهم جعلوا الصلاة والاخلاصَ لله طريقتهم في أكثر أوقاتهم، لذلك تُبِصرهم راكعين خاشعين كثيرا.
3- وانهم بذلك يطلبون ثوابا عظيما من الله تعالى ورضوانا منه.
4- ذلك وصفهم البارز في التوراة.
5- وفي الانجيل ضرب بصفتهم المثل فقال: سيخرج قوم ينبُتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ذلك انهم في بدء الاسلام كانوا قليلي العدد ثم كثروا وارتقى أمرهم يوما بعد يوم حتى أعجب الناسُ بهم، كصفة زرع اخرج اول ما ينشقّ عنه، فآزره فتحوّل من الدِقة الى الغِلظ، فاستقام على أصوله، يُعجِب الزراعَ بقوّته واكتماله. وكذلك كان حال المؤمنين لِيَغيظَ الله بهم وبقوّتهم الكفار.
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
وقد وفى سبحانه وتعالى بوعده ونصر رسوله وجُندَه، وهزم الأحزابَ وحده.(3/254)
بهذه الأوصاف الجليلة يختم هذه السورة العظيمة، وهذه اوصاف الأمة الاسلامية أيام عزها، يوم كان المسلمون مستمسكين بالعروة الوثقى، سائرين على هُدى دينهم بحق واخلاص. فانظر الآن وتأمل في حال المسلمين: يحيط بهم الذل والخوف من شرذمة من اليهود تجمعت في فلسطين، اغتصبت ديار الاسلام، وهي تضرب العرب في لبنان صباح مساء وتبيد الناس ابادة، وتهدم ما يصنع العرب من ادوات للتقدم حتى وصلت الى ضرب المفاعل الذري في بغداد، ويصرخ زعماؤها بتبجح اليهود المعروف انها لن تسمح للعرب أن يقيموا اية آلة تجعلهم يتقدمون صناعياً وعلميا. كل هذا وحكام العرب خائفون ساكتون كأن شيئا لم يحدث، وزعماؤهم يتباكون ويطلبون من أمريكا عدوّ العرب الأول أن تحلّ لهم قضيتهم! يا للذل والعار! كيف نستطيع ان نواجه ربنا غداً يوم نلقاه! ما هي العلة التي نتعلل بها لرسولنا الكريم! لعل الله ان يبدل الحالَ غير الحال، ويخضّر الزرعُ بعد ذبوله، وتعود الأمة الى سيرتها الأولى، متمسكة بدينها الحنيف، مجتمعة الكلمة، موحدة الهدف. واللهَ اسأل ان يلهمنا الصواب والرشد والرجوع الى ديننا الحنيف. وعند ذلك ينطبق علينا قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} والحمد لله رب العالمين.(3/255)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
لا تقَدموا بين يدي الله ورسوله: لا تعجلوا بالأمر قبل ان يأمر به الله ورسوله. لا ترفعوا اصواتكم: غضّوها وتكلموا بهدوء ولين. امتحنَ الله قلوبهم: طهّرها ونقاها واخلصها للتقوى. الحجرات: مكان سكن النبي الكريم، كان لكل زوجة حجرة، بيت. من وراء الحجرات: من خارجها.
يا أيها الذين آمنوا لا تعجَلوا بأي أمر قبل ان يقضيَ الله ورسوله لكم فيه، فلا تقترحوا على الله ورسوله أي شيء قبل ان يقول الله ورسوله فيه، واتقوا الله وراقِبوه خَشيةَ ان تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به. ان الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون.
في هذه الآية الكريمة وما يليها تأديبٌ للصحابة وتعليم وتهذيب، فقد طلَب الله اليهم ان ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجَلوا بقولٍ أو فعل قبل الرسول الكريم.
ثم أدّبهم في الآية الثانية في الحديث والخطاب مع رسول الله، وأ، يوقّروه، فلا يرفعوا أصواتَهم فوق صوت النبي إذا تكلم، بل يخفَضوها ولا يتكلّموا معه كما يتكلم بعضهم مع بعض. وأن يتأدبوا في مجاطبته فلا تقولوا: يا محمد، بل قولوا: يا نبيّ الله، او يا رسول الله، وبكل إجلال وتعظيم، حتى لا تبطُل أعمالكم وانتم لا تشعرون.
ثم نوه الله تعالى بتقواهم، وغضّهم أصواتَهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير لطيف فقال:
{إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
هنا يرغّبهم الله ويتلطف بهم بعد ذلك التحذير المخيف، ويقول: ان الذين يخفضون اصواتهم ف يمجلس رسول الله، إجلالاً له، اولئك قد طهّر الله قلوبهم ونقّاها وأخلصَها للتقوى، فلهم مغفرةٌ لذنوبهم، واجر عظيم لتأدّبهم وغضّ اصواتهم وتقواهم.
{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
كان الأعراب (وهم قريبو عهد بالجاهلية) اكثرهم جُفَاة يأتون الى المدينة فيجتمعون عند حجُرات ازواج رسول الله، وينادونه بأصواتهم المزعجة: يا محمد، اخرج الينا. وكان هذا في العام التاسع من الهجرة وهو عام «الوفود» لدخول الناس في دين الله افواجا. فكان ذلك يؤذي النبيَّ الكريم عليه الصلاة والسلام.
فأدّبهم الله بهذا القرآن الكريم، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقِلون، ثم بين لهم ان النداء بهذا الجفاء منافٍ للأدب والتوقيرِ اللائق بشخص النبي الكريم، وعلّمهم أن الأفضلَ لهم ان يصبروا وينتظروا حتى يخرجَ إليهم، ثم أتبع ذلك قوله تعالى: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
هذه السورة كما مرّ في المقدمة من أواخر السور نزولا، وفيها على قِصَرها قواعدُ وتعاليم للمؤمنين، وترسيخٌ لايمانهم، وتأديبٌ لهم ليتهيأوا لقيادة العالم.(3/256)
والحُجرات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة هي تسعُ حجرات كانت لكل زوجة حجرة من جريد النخل، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود. وكانت غير مرتفعة يُتناول سقفها باليد، وفي غاية البساطة. قال سعيد بن المسيب وهو اكبر التابعين في المدينة: وددتُ أنهم تركوها على حالها حتى يراها الناس بما فيها من البساطة، فيروا ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهِّد الناسَ في التفاخُر والتكاثر.
وقد أُدخلت هذه الحجرات في عهدِ الوليدِ بن عبد الملك بأمرِه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى الناس لذلك.
قراءات:
قرأ يعقوب: لا تقدموا بفتح التاء والدال، والباقون: لا تُقْجموا بضم التاء وكسر الدال المشدَّدة.(3/257)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
الفاسق: الخارج عن حدود الدين. بنبأ: بخبر. قال الراغب في مفرداته: لا يقال للخبر نبأ الا اذا كان ذا فائدة عظيمة. فتبينوا: فتثبتوا، وفي قراءة فتثبتوا. بجهالة: بغير علم.
تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين: كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها، وأن عليهم ان يتثبَّتوا من مصدرها. وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب، اما اذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره، ولا يجوز ان يُشك فيه، والا تعطّلت المصالح، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة. والاسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها. وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم، ومنهم الرازي. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: فتثبتوا، من التثبت والتريث في الأمور، وقرأ الباقون: فتبينوا، من التبين والتريث، والفعلان قريبان من بعض.(3/258)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
لَعَنِتُّم: وقعتم في تعب ومشقة. الفسوق: الخروج عن الحد كالكذب والغيبة وغيرها. العصيان: عدم الانقياد الى الحق. الرشاد: اصابة الحق واتباع الطريق السوي.
بعد ان حذّرهم الله تعالى من التعجّل في الأمور، ووضّح كيف يتلقون الأخبار ويتصرفون بها، يّن لهم هنا أمراً عظيماً جدا، ونعمة كبيرةً ورحمة لهم، تعيش بينهم ليدركوا قيمتها وينعموا بوجودها فقال: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فاقدُروه حقَّ قدره، واصدُقوه، فإنه لو يطيعكم في كثير من الامور، لوقعتم في المشقة والهلاك.
{ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} .
وفي هذا توجيه من الله تعالى إلى نعمة الايمان الذي هداهم اليه، وكشف لهم عن جماله، وجعلهم يكرهون الكفرَ والفسوق والعصيان. . وكلّ هذا من رحمته الواسعة. ثم بين ان من يتصف بهذه الصفات الحسنة ويتجنب الصفاتِ السيئة لهو من اهل الرشاد السالكين الطريقَ السوي.
{فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
وكل هذا العطاء الذي منحه لكم ربّكم انما لكم تفضُّل منه عليكم وإنعام كبير من لدنه.(3/259)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
الطائفة: الجماعة اقل من الفِرقة. فأصلحوا بينهما: بأية طريقة: بالنصيحة، بالتفاوض، بالتهديد، بكل وسيلة. فإن بغتْ: فان تعدت وجارت. تفيء: ترجع. أمر الله: الصلح فأصلحوا بينهما بالعدل: بازالة آثار القتال والخلاف، وبضمان ما تلف بحيث يكون الحكم عادلا. وأقسطوا: واعدلوا. الاخوة: في النسب، وقد جعلت الاخوة في الدين كالاخوة في النسب. والاخوان: في الصداقة.
في هاتين الآيتين تشريعٌ عملي عظيم لصيانة المجتمع الاسلامي، وحمايته من الخصام والتفكك والتمزق. فبعدّ ان حذّر الله تعالى من النبأ الصادر عن الفاسق، وحثّ على التوثق من مصادر الأخبار، وعدم العَجلةِ والاندفاع وراء الحَمِيّة والحماسة الطائشة قال: إن حصل أن اقتتلتْ طائفتان من المؤمنين فإن على المؤمنين ان يقوموا بالاصلاح بينهما. فان تعدت احدى الطائفتين على الاخرى ولم تقبل الصلح، فعليهم ان يقاتلوا تلك التي تتعدى حتى ترجع الى حكم الله. فان قبلت الصلح ورجعت الى حكم الله، فأصلِحوا ايها المؤمنون بينهما بالعدل والانصاف حتى لا يتجدد القتال مرة اخرى.
ثم امرنا الله تعالى بالعدل في كل الأمور فقال:
{وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين}
واعدِلوا ايها المؤمنون بين الناس جميعا في كل الأمور، ان الله يحب العادلين في جميع اعمالهم.
انما المؤمنون بالله ورسوله إخوةٌ جَمَعَ الايمانُ بين قلوبهم ووحّدهم. وفي الحديث الصحيح: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلمه، ولا يَعيبُه، ولا يخذُله» فأصلحوا بين اخويكم رعايةً لأخوة الايمان، {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه حتى يرحمكم، لتكونوا إخوة على الحب والسلام والتعاون والوحدة في مجتمعكم، وبذلك تكونون أقوياء أعزاء تحت راية الاسلام.
قراءات:
قرأ يعقوب: فاصلحوا بين اخوتكم، بالجمع. والباقون: بين أخَويكم بالتثنية.
فان قاتلَ جماعة المؤمنين الفئةَ التي لم تقبل الصلح، فإنه لا يجوز ان يُجهز على جريح، ولا يقتل اسير، ولا يجوز ان يُتعقّب من هرب وترك المعركة، ولا تؤخذ اموال البغاة غنيمة، لأن الغرضَ من قتالهم ردُّهم الى صفّ المؤمنين، وضمُّهم إلى لواء الأخوّة الاسلامية.(3/260)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
لا يسخر قوم من قوم: لا يحتقر احد منكم أخاه بذكر عيوبه واظهار نقائصه. يقال سخر به ومنه، هوئ به ومنه. القوم: شاع اطلاقه على الرجال دون النساء. ولا تلمزوا انفسكم: لا يعيب احد منكم اخاه، وعبّر بأنفسكم كأنهم جميعا نفسٌ واحدة فاذا عابَ المؤمن أخاه المؤمنَ كأنه عاب نفسَه.
يريد الله تعالى ان يكون المجتمع الاسلامي مجتمعاً فاضلا، فأدّبنا بهذا الأدب الرفيع، فلكل انسان كرامتُه، وهي من كرامة الجميع، فإذا حصل ضرر لأي فرد فانه ضرر للناس كلهم. لذلك ينهى الله تعالى ان يسخَرَ رجالٌ من رجال آخرين لعلّهم خير منهم عند الله، او نساء من نساءٍ لعلّهن خير منهن عند الله.
{وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ}
لا يعب بعضُكم بعضا بقول او إشارة على وجه الخفية، فانكم أيها المؤمنون كالجسدِ الواحد ان اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهذا حديث صحيح رواه مسلم.
{وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب}
ولا يدعو بعضكم بعضاً بالألقاب المستكرَهة، ولا تدعوا احدا بما لا يحبّ من الألقاب القبيحة.
اما الألقاب اللطيفة التي تدل على معانٍ حسنة فلا مانع من استعمالها كما قيل لأبي بكر عتيق، ولعمر بن الخطاب: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين الخ. .
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان}
بئس الاسم ان تُسمَّوا فاسقين بعد ان تكونوا مؤمنين. ومن لم يتبْ ويرجع عما نهى الله عنه فأولئك هم الظالمون الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بعصيانهم أوامر الله.(3/261)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
اجتنبوا: ابتعِدوا. الاثم: الذنب. ولا تجسّسوا: اصلها تتجسسوا بتائين: لا تبحثوا عن عورات الناس ومعايبهم. الغيبة: ذِكر الانسان بما يكره في غيابه.
في هذه الآية الكريمة أدبٌ رفيع للمؤمنين حتى يعيشوا في مجتمع فاضل، تكون فيه حرياتُهم مكفولة، وحقوقهم محفوظة، فلا يؤخذون بالظن، ولا يحاكَمون بريبة، فالانسان بريء حتى يثبت عليه الجرم.
روى الطبراني عن حارثة بن النعمان ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اذا ظننتَ فلا تحقّق» وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ انه قال: «لا تظننّ بكلمة خرجتْ من أخيك إلا خيرا، وانتَ تجدُ لها في الخير محملا» .
يا ايها الذين آمنوا: ابتعِدوا عن كثير من ظنّ السوء بالناس، إن بعض الظن إثمٌ يستوجب العقوبة. وهذا تهذيبٌ رفيع لنا يرفع من مستوى مجتمعنا، ويديم الوئامَ والمودة بيننا، ويزيد توثيقَ رباط المجتمع الاسلامي الفاضل قُوةً ومنعة.
{وَلاَ تَجَسَّسُواْ}
وهذا أمر ثانٍ من أوامر الله العليا يُبعدنا فيه عن الاعمال الدنيئة، لتطهير قلوبنا ونظافة اخلاقنا، حتى يكفُلَ حرياتِ الناس وحرماتِهم وكرامتهم، التي لا يجوز ان تُنتهَك ولا تمسّ بحال من الاحوال. فما دام الانسان في بيته قد ستر نفسه عن الناس فلا يجوز لنا ان نتتبّع عوراتِه، ولا البحث عن سرائره، لأن الاسلام يريد ان يعيش الناس آمنين على أنفسهم مطمئنين في بيوتهم، ولنا الظواهُر، ولا يجوز لنا أن ن تعقب بواطن الناس وما أخفوه.
قال عبد الرحمن بن عوف: حرستُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة، إذ تبين لنا سراجٌ في بيتٍ بابه مغلقٌ على قوم لهم اصوات مرتفعة ولَغَط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن يشربون، فما ترى؟ قلت: أرى أنّا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} وقد تجسّسنا. فانصرفَ عمر وتركهم.
وفي الحجيث الصحيح: «من ستر عورةً فكأنما استحيا موْؤدة من قبرِها» رواه ابو داود والنسائي.
وفي الحديث ايضا عن سفيان الثوري عن معاوية بن ابي سفيان: قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «انك إن اتبعت عوراتِ الناس أفسدتَهم أو كِدتَ تفسدهم» رواه ابو داود.
{وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}
ولا يذكرْ بعضكم بعضا بما يكره في غيبته ولو بإشارة او نحو ذلك، لما في ذلك من اذى للناس. والمراد بما يكره: ما يكرهه في دينه او دنياه او خلُقه او خلْقه او ماله او ولده او زوجته وفي كل ما يؤذيه.
قال الحسن البصري: الغيبة ثلاثة اوجهٍ كلّها في كتاب الله: الغيبة، والافك والبهتان.(3/262)
فأما الغيبة: فهي ان تقول في أخيك ما هو فيه. واما الافك: فان تقول فيه ما بلغك عنه وقد يكون ذلك غير صحيح. واما البهتان: فان تقول فيه ما ليس فيه. والغيبة من الجرائم الكبيرة، والذي يريد التوبة منها عليه ان يستغفر لمن اغتابه، او يذهب اليه ويطلب العفو منه.
ولبشاعة الغيبة، وكراهتها يعبّر عنها الله تعالى بهذا التعبير العجيب للتنفير منها والبعد عن إيذاء الناس فيقول:
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}
تصوروا هذا التمثيلَ الفظيع الذي تتأذى منه النفوس. وقد وردتْ أحاديثُ كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنفر المسلمين من الغيبة، ليرفع الله من نفوسهم ويطهرها، ويبني مجتمعا طاهرا مثاليا.
واستثنى العلماء من تحريم الغيبة، الملحدَ في الدين، والحاكمَ الجائر، والفاسقَ المجاهِر بالفسق، وتجريحَ الشاهد عند القاضي، والمتظلّمَ في أمر هام، وراوي حديث الرسول الكريم، {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] .
ثم بعد ذلك يأتي تعبير لطيف {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} بابُه دائماً مفتوح للتوبة، وهو مع كل ما يأتيه الناس من مخالفات ومعاصي رحيم يقبل التوبة فلا تقنطوا من رحمة الله.
قراءات:
قرأ يعقوب: ميتا بتشديد الياء. والباقون: ميتا باسكان الياء.(3/263)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
الشعوب: جمع شعب وهو الحيّ العظيم المنتسب الى أصل واحد كربيعة ومُضَر، والقبيلة دونه، وسُمي الشَعب شَعباً لتشعب القبائل منه كتشعب الاغصان من الشجرة. الأعراب: سكان البادية. آمنا: صدّقنا بما جئت به من الشرائع، فالايمان هو التصديق بالقلب. اسلمنا: انقدْنا لك ونطقنا بالشهادتين وعملنا بما تأمرنا به. لا يَلِتْكم: لا ينقصكم. يمنّون عليك أن أسلموا: يذكرون ذلك ذِكر من اصطنع لك صنيعة، واسدى اليك معروفا.
بعد ان أدّب الله تعالى المؤمنين بالآداب الرفيعة بيّن هنا ان الناسَ جميعاً من أبٍ واحد وأمٍ واحدة، فكيف يسخَر الأخ من اخيه او يغتابه او يظلمه!؟ وبين للناس ان القرآن يدعو الى أمةٍ انسانية واحدة، وعالمٍ واحدٍ يسوده العدل والمحبة، واعلن هنا حقوقَ الانسان بصرف النظرِ عن لونه وجنسه، فالناس إخوة في النسَب، كرامتُهم محفوظة، والانسان مخلوق الله المختار، وهو خليفته في الارض.
يا أيها الناس: إنّا خلقناكم متساوين من اصلٍ واحد هو آدم وحواء، وجعلناكم جموعا عظيمة، شعوباً وقبائل متعددة، لتتعارفوا وتتعاونوا على ما فيه خيرُكم وصلاحكم، إن أكرَمَكُم عند الله وأرفعَكم منزلة في الدنيا والآخرة هو اتقاكم له وأنفعكم لخلْقِه، {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} بكم وباعمالكم وبباطن احوالكم، فاجعلوا التقوى زادَكم لمعادِكم.
ثم بعد ان بيّن الله لنا أن الناس جميعاً إخوة لأمٍ وأبٍ وحثّنا على التقوى والعمل الصالح، بين هنا ان الإيمان وحده لا يكفي، والايمانُ هو التصديق بالقلب، وان الاسلام هو التصديقُ والطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب النواهي. وكان في زمن الرسول الكريم أناسٌ من الاعراب في إيمانهم ضَعف، وقلوبهم مشغولة تريد المغانم وعرض الدنيا. فقال الله تعالى:
{قَالَتِ الأعراب آمَنَّا. . . . .}
قالت الأعراب بألسنتهم: آمنا، فقل لهم يا محمد: إنكم لم تؤمنوا، لأن قلوبكم لم تصدّق ما نطقتم به، ولكن قولوا أسلمنا وانقدنا ظاهراً لرسالتك، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم بعد. وإن تطيعوا اللهَ ورسوله صادقين لا يَنقصُكم الله من ثواب اعمالكم شيئا.
ثم يؤكد الله رحمته ولطفه بعباده فيقول: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سَتّارٌ للهفوات غفارٌ للزلات، فسارِعوا الى التوبة.
ثم بين الله تعالى حقيقة الايمان بقوله:
{إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون} .
المؤمنون حقاً هم الذين صدّقوا ولا تشوبهم الريبة في عقائدهم، ويبذلون النفسَ والنفيس لإحقاقِ الحق وإزهاق الباطل، أولئك هم الصادقون.
قل لهم يا محمد: اتخبرون الله بأن يصدقكم، واللهُ وحده يعلم ما في قلوبكم، ويعلم كلَّ ما في السموات والأرض، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ}
يعدون إسلامَهم ومتابعتهم لك منةً يطلبون منك أجرَها.(3/264)
فقد قال بعضهم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} بل الله تعالى هو الذي يمنّ عليكم إذ هداكم الى الايمان، ان كنتم صادقين في دعواكم.
ثم اكد الله تعالى الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصَرِه بأعمال المخلوقات، وختم بذلك هذه السورة الكريمة فقال:
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
فهو يعلم الايمان الصادق، والكاذب، ويميز بين الاعمال التي يطلبون بها الدنيا، والأعمال التي يقصدون بها وجه الله.
قراءات:
قرأ اهل البصرة: لا يألتكم بالهمزة، والباقون: لا يَلتكم بلا همزة، وهما لغتان: ألت يألت، ولات يليت. واللغتان في القرآن الكريم. ففي سورة الطور {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21] .(3/265)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
مجيد: وافر المجد، واسمٌ من اسماء الله الحسنى، يقال: مجُد بضم الجيم مَجادة فهو مجيد. ويقال: مجَد بفتح الجيم يمجُد بضمها فهو ماجد. والمجد: المروءة والسخاء والكرم والشرف. رجعٍ بعيد: البعث بعد الموت بعيدٌ كما يقولون. ما تنقص الأرض: ما تبليه الأرض من الاجسام بعد الموت. حفيظ: حافظ لتفاصيل الأشياء كلها. كذّبوا بالحق: كذبوا بالنبوة الثابتة. مريج: مختلط، مضطرب. ما لها من فروج: ليس فيها شقوق. مددناها: بسطناها. رواسي: جبالا ثوابت تمنع الأرض من ان تميد. من كل زوج: من كل صنف. بهيج: ذو بهجة وحسن. منيب: راجع. حَب الحصيد: حب الزرع المحصود. باسقات: طويلات، يقال بسقت النخلة بسوقا طالت. الطلع: أول ما يخرج من ثمرها. نضيد: منضود بعضه فوق بعض. كذلك الخروج: مثلَ ما ننبت النباتَ، كذلك نخرجكم من قبوركم.
{ق} : حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان.
أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف: إنا أرسلناك يا محمد لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة، بل عجِبوا أن جاءهم رسولٌ منهم ينذِرهم بالبعثِ بعد الموت، وزادوا في هذا الانكار فقالوا: هذا شيء عجيب.
ثم زادوا في الانكار والتعجب بقولهم:
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ}
أبعدَ ان نموتَ ونصير تراباً نرجع أحياء مرة اخرى! ذلك البعثُ بعد الموت رجوعٌ بعد الوقوع.
ثم اشار الله تعالى الى دليل جوازِ البعث وقدرته تعالى عليه فقال:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} .
قد علمنا ما تأكلُ الأرض من أجشامهم بعد الموت وتُبليهم، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، والى أين صارت، فلا يصعُب علينا بعثُهم من جديد، وعندنا كتابٌ حافظٌ لتفاصيل الأشياء كلها.
ثم بين الله تكذيبهم بالنبوة الثابتة فقال:
{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ}
إنهم لم يتدبروا ما جاءهم به الرسولُ، وهو الحقُّ الثابت، بل كذّبوا به دون تدبُّرٍ وتفكر، فهم في قلقٍ من أمرهم واضطرابٍ لا يستقرون منه على حال.
ثم وجّه انظارهم الى دليلٍ يدحض كلامهم لو فكروا فيه: ألم ينظُروا إلى السماء والأرض وإلى الحبال الرواسي عليها، وكيف زيَّنَ السماءَ بالكواكب وليس فيها شقوق، وإلى الماء النازل من السماء الذي أنبت به الجنّاتِ من مختلف الأصناف والألوان، والنخلَ الباسقاتِ وطلعها المنضدَ الجميل. . كل هذه الاشياء من أجلِ العباد ليعيشوا آمنين في هذه الحياة الدنيا متمتعين. وكما أنزلنا الماء من السماء وأحيينا به الأرض - كذلك نُخرجكم أيها الناس من قبوركم ونبعثكم حياة اخرى. {كَذَلِكَ الخروج} .(3/266)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
الرسّ: البئر التي لم تبنَ بالحجارة. واصحاب الرسّ: قوم شعيب. الأيكة: الشجر الكثير الملتف، وهم من قوم شعيب ايضا. تُبَّع: احد ملوك حمير في اليمن. أفعَيِينا: أفَعجِزنا. في لبس: في شك. الوسوسة: حديث النفس، وما يخطر بالبال. حبل الوريد: عِرق كبير في العنق. قعيد: مقاعد له كالجليس بمعنى المجالس. رقيب: مراقب. عتيد: مهيأ، حاضر. سكرة الموت: شدّته. تَحيد: تميل. يوم الوعيد: يوم وقوع العذاب الذي وُعدوا به. سائق وشهيد: سائق يسوقها الى المحشر، وشاهد يشهد عليها. الغطاء: الحجاب. وهو الغفلة والانهماك في اللذات، وقصر النظر. حديد: قوي نافذ.
بعد ان ذكر اللهُ تعالى تكذيبَ المشركين للنبيّ - ذكر المكذِّبين للرسُل من الأقوام السابقة مثل قوم نوحٍ وأصحابِ الرسّ وثمود، وعادٍ وفرعون وقوم لوط وقوم تُبَّع وغيرهم، وما آل اليه أمرُهم من الدمار والعذاب. وكل ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتهديد لكفار قريش بأنهم سيصيبهم ما أصابَ الذين قبلهم إن أصرّوا على الكفر والعناد. ثم بعد هذا العرض يقول الله تعالى:
{أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}
هل عجَزنا عن ابتداء الخلْق الأول، حتى نعجِزَ عن إعادتهم مرة اخرى! بل هم في ريبٍ من ان نخلقهم من جديد. {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] .
ثم ذكر الله تعالى دليلاً اخر على إمكانه وقدرته، وهو علمُه بما في صدور الناس جميعا:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}
فلا يخفى علينا شيءٌ من أمرِ البشر.
ثم بين أكثر من ذلك بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد}
ونحن لعلمِنا بأحواله كلها اقربُ اليه من عِرق الوريد، الذي هو في جسده ذاته.
أخرج ابنُ مردويه عن أبي سعيد الخدريّ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل اللهُ في ابن آدم أربع منازل: هو أقربُ اليه من حبل الوريد، وهو يحُول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصيةِ كل دابة، وهو معهم أينما كانوا» .
ثم ذكر اللهُ تعالى ان الانسانَ موكَّلٌ به مَلَكان يكتبان ويحفظان عليه عملَه وأقواله، فهو تحت رقابة دائمةٍ شديدة دقيقة، وكل شيء مسجَّلٌ عليه تسجيلاً دقيقا.
ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن الانسانَ عند الموت ينكشفُ له كل شيء فقال:
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
ومعنى ذلك أن النفسَ وهي في سكرات الموت ترى الحقَّ كاملاً واضحاً، تراه بلا حجاب في تلك الساعة، وتدرك ما كانت تجهل، وهو الحق الذي كنتَ تفرّ منه ايها الكافر، ها قد جاءك فلا حيدَ عنه ولا مناص.
ثم بعد ذلك ينعطف الحديث الى يوم القيامة:
{وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد. . .}
ونفخ في الصور نفخةَ البعث، وذلك اليوم {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 6] ، هو يومُ الوعيد الذي اوعد اللهُ الكفّارَ أن يعذّبهم فيه بعد الحساب. يومذاك تأتي كل نفسٍ إلى ربّها ومعها سائقٌ يسوقها اليه، وشاهدٌ يشهد عليها بما عملتْ في الدنيا من خير او شر.
ثم يقال للمكذَِّب: لقد كنتَ في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا الذي تراه من الأهوال والشدائد، فأزلنا عنكَ الحجابَ الذي كان يغطّي عنك أمور الآخرة، {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قويّ نافذٌ لا يحجبه شيء، فلا مهرب عن عذاب الحريق.(3/267)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
القرين: المصاحب، الملَكُ الموكل بالمرء. معتدٍ: متجاوز للحق ظالم. مريب: شاكّ في الله وفي دينه، يقال: أرابَ الرجلُ صار ذا ريبة، وأرابَ الرجلَ اقلقه وازعجه. قال قرينه: الشيطان الذي أطغاه. كان في ضلال بعيد: بعيد عن الحق. وأزلفت الجنة: قُربت وأُدْنِيَتْ. غير بعيد: في مكان قريب. لكل أواب: لكل تائب راجع عن المعصية الى الطاعة. حفيظ: حافظ لحدود الله وشرائعه. منيب: مخلص. ولدينا مزيد: مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
لا يزال الحديث عن يوم القيام وما يجري فيه.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
وقال الملَكُ الموكَّل به الذي كان يسوقه الى الموقف: هذا الذي وكَّلتني به يا ربُّ من بني آدم قد أحضرتُه وما هو مسجَّل عليه من قولٍ وعمل.
فيقال للملَكَين (السائق والشهيد) : ألقِيا في جهنمَ كلَّ كفّار عنيد، منّاعٍ للخير، ظالمٍ متجاوزٍ للحق، قد عَبَدَ غير الله. ألقياه في العذاب الشديد.
فيقول ذلك الكافر عندما يرى العذاب: ربِّ إن قريني من الشياطين أطغاني. فيردّ عليه قرينه بقوله: {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} كان طبعهُ الكفرَ والضلال والبعد عن الحق.
قال تعالى للكافرين وقرنائهم: لا تختصِموا لديَّ في هذا الموقف، وقد قدّمتُ اليكم في الدنيا وعيداً على الكفر مع رسُلي إليكم فلم تؤمنوا.
{مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}
لا يغيَّر قضائي الذي قضيته، ولا أَظلم أحداً، فلا أعذبه بغير جرم اجترمه، ولا أعذبُ احداً مكان احد.
وبعد ذلك يذكر مكان حلول الوعيد بقوله:
{مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ؟}
وهذا يقال تقريعاً للكافرين إذ تطلب جهنمُ المزيدَ منهم.
وبعد هذا الحوار يأتي ذِكرُ حال المتقين. وهو مشهد يختلف كل الاختلاف، وديعٌ أليف تقرَّب فيه الجنة من المتقين حتى تتراءى لهم ويشهد المؤمنون فيه الترحيب والتكريم من رب العالمين.
{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}
وقُرّبت الجنة للذين آمنوا واتقوا ربهم بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكراماً لهم، فيرون ما أعدّ اللهُ لهم من نعيم وحبور، ولذةٍ وسرور، ويقال لهم: {هذا مَا تُوعَدُونَ} من كل خير. ثم يصفهم الله تعالى بأوصاف كريمة بقوله تعالى: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ}
ثم يؤذَن لهم بالدخول بسلام خالدين فيها أبدا، {ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} .
وبعد ذلك يعلن المولى تعالى ببشارة عظيمة:
{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
إنهم يجدون فيها كل ما يشتهون. ثم يمنُّ الله تعالى بكرمه أن يزيدَهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينُهم ولم يدرْ بخَلَدِهم، وتلك الضيافة الكبرى من الرحمن الرحيم.
قراءات:
قرأ نافع وابو بكر: يوم يقول لجهنم. . . . بالياء. والباقون: نقول بالنون.(3/268)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
القرن: الجيل من الناس. أشدّ منهم بطشا: اشد منهم قوة. فنقّبوا في البلاد: طافوا في البلاد طلباً للرزق. مَحيص: مَهْرب. لَذِكرى: لعبرة. او ألقى السمعَ وهو شهيد: أصغى الى ما يتلى عليه وهو حاضر، ويفطن لما يقال. لغوب: تعب. أدبار السجود اعقاب الصلوات، والأدبار جمع دُبُر ومعناه الأصلي الظهر ومؤخرة كل شيء. الصيحة: النفخة الثانية يوم القيامة. بالحق: بالبعث. يوم الخروج: من القبور. بجبّار: بمسيطر ومسلَّط، انما انت داعٍ ومنذر.
يبين الله تعالى لرسوله الكريم أنه مهما بلغت قوة قومه وغناهم فإنهم لم يبلغوا قوة الذين كانوا قبلهم من الأمم، فقد كان السابقون أشدَّ قوة وبطشا، وطوّفوا في البلاد وامعنوا في البحث والطلب ولم يغنِ عنهم كل ذلك من الله شيئا.
وفي هذا الذي نتلوه عليك من أخبار الماضين ذكرى وعبرةٌ لمن كان له قلبٌ يدرك الحقائق ويفهم ما يقال له، ويصغي وهو حاضرٌ شاهد.
ثم أعاد الدليلَ مرة أخرى على إمكان البعث، فبيّن ان الله خلق السمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب. . وما دام الله قادراً على خلْق هذا الكون العجيب فإنه قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى.
{فاصبر على مَا يَقُولُونَ}
اصبر على ما يقوله المشركون في شأنِ البعث من الأباطيل التي لا مستَنَدَ لها ولا دليل. وسبِّحْ بحمدِ ربك وقت الفجر ووقتَ العصر وبعضَ الليل وفي أعقاب جميع الصلوات.
وقد وردت احاديث صحيحة في تحديد التسبيح بأن يقول: سبحانَ الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثين مرة، واللهُ اكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، ويختمها بقول لا إله الا الله وحده لا شريك له، له الملْكُ وله الحمدُ يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، بعد كل صلاة.
{واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد}
أصغِ ايها الرسول لما أُخبرك به من اهوال يوم القيامة، يوم ينادي الملَكُ من مكان قريب من الناس، يوم يسمعون النفخةَ الثانية بالحق الذي هو البعث.
{ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} من القبور.
ثم لخص ما تقدم بقوله تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير}
إلينا رجوع الناس جميعهم يوم البعث والجزاء. وفي ذلك اليوم يخرجون من الأرض بعد ان تتشقق عنهم مسرعين الى المحشَر.
{ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} . هو عظيم بما فيه من الاهوال ولكنه علينا سهلٌ يسير.
ثم يخاطب الرسولَ الكريم مسلياً له بقوله: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فاتركهم إلينا، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ولا مسيطِر حتى تجبرهم على الإيمان. ما عليك الا البلاغ، ولذلك {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} .(3/269)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
الذاريات: الرياح تذرو الترابَ وغيره، وهي تحمل معها الحياة لأنها تسوق السحاب، كما تحمل الدمار احيانا. فالحاملات وقرا: الوقر هو السحاب، تحمله الرياح موقَرة بالغيث يسوقها الله الى حيث يشاء. فالجاريات يُسرا: السفن تجري في يسر على سطح الماء. فالمقسّمات أمرا: الملائكة التي تحمل أوامرَ الله لتبليغها الى رسُله. انما توعَدون: هو البعث وهو صدق، والدين: هنا الحساب والجزاء. والسماءِ ذات الحبك: السماء ذات الطرق المحكمة النظام. إنكم لفي قول مختلف: مضطرِب متناقض. يؤفكُ عنه مَن أُفك: يُصرف عنه من صرف عن الايمان. الخرّاصون: الكذابون. في غمرة: في جهل يغمرهم. ساهون: غافلون عما أُمروا به. أيان يوم الدين: متى يوم الجزاء. يفتنون: يحرقون. فتنتكم: عذابكم العدّ لكم. أقسَم الله تعالى بهذه الأشياء: بالرياح المثيراتِ للتراب وغيره، وبحملها للسُحب فالحاملات منها ثقلاً عظيما من الماء، وبالسفن الجارية تمخرُ البحار، وبالملائكة تقسِم أوامرَ الله وتبلّغُها إلى رسله الكرام - أنّ البعث لحقٌّ صادق، وان الدّين (وهو الجزاء على اعمالكم) لحاصِل. واقسم الله تعالى بالسماء ذاتِ الجمال والبهاء، المحكَمةِ البنيانِ والنظام، أنكم أيّها المشرِكون المكذِّبون للرسولِ لَفي قولٍ متناقضٍ مضطرب {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يُصرف عن الدين والحق، من صرَفَه عنه جهلُه وهواه.
{قُتِلَ الخراصون الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}
هلك الكذّابون القائلون في شأن القيامة بالظنّ، الذين هم مغمورون في الجَهل، غافِلون عما أُمروا به.
وهم يسألون استهزاءً فيقولون: متى يومُ الجزاء؟ قل لهم يا محمد إن يومَ الدّين {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} أيْ في جهنمَ يُحرقون، ويُقال لهم: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تظنون انه غير كائن وتستعجلون وقوعه مستهزئين.(3/270)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
ما يهجعون: ما ينامون. الأسحار: أواخر الليل. وفي أموالهم حق: نصيب. للسائل: للطالب. المحروم: المتعفف الذي لا يسأل. يُطلق على الواحد والجمع. قوم منكَرون: مجهولون غير معروفين. فراغَ الى أهله: فذهب الى اهله خفية وسرا. فقرّبه اليهم: وضعه بين أيديهم. فأوجس منهم خيفة: أضمر في نفسه الخوف منهم. امرأته: سارة. في صرة: في ضجة. فصكت وجهها: ضربت بيدها على جبهتها. وقالت: عجوز عقيم: أنا كبيرة السن لا ألد.
بعد ان ذكر الكفارَ المنكرينللبعث والزاءِ وما ينتظرهم يومَ القيامة - ذكَرَ هنا حالَ المؤمنين المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جَنّة الخُلد، لأنهم آمنوا وكانوا محسِنين في الدنيا، وكانوا يقيمون صلاةَ الليل ويتهجّدون في معظمِه، ويستغفِرون اللهَ تعالى في وقت الأسحار كما جعلوا في أموالِهم جزءاً للفقراءِ والمساكين، والذين لا يَجِدون ولا يَسالون.
ثم ذَكرَ بعد ذلك بعضَ الآيات الكونية في الأرض والنفس. وفي الأرضِ دلائلُ على وجود الخالق العظيم، وفي أنفسِكم ايها الناسُ كذلك آياتٌ واضحةٌ أفلا تُبصِرون دلالتها؟ . وفي السماء أسبابُ رِزقكم، وكذلك ما توعَدون من كل شيء، فاعملوا وتوكّلوا على اللهِ الرزاقِ الكريم ولا تخافوا.
ثم أقصِمَ اللهُ تعالى بعزّته وجلاله ان البعثَ حقٌّ {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} فلا تشكّوا فيه، يعني أن بَعْثَ الناسِ يومَ القيامة حقٌّ كأنكم تسمعون وترون.
ثم تطرّقَ إلى قصة إبراهيم مع ضيوفه، تسليةً لرسوله الكريم. وقد تكرر ذكر ابراهيم كثيراً لأن النبيَّ على دينه، ولأنّ قريش كانت تقول إنّهم على دِين إبراهيم.
هل علمَت يا محمد قصةَ الملائكة، ضيوفِ إبراهيم، الذي وفدوا عليه فأكرمهم وهو لا يعرفُهم، ولذلك قال لهم: {سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} مجهولون لنا لا نعرفهم.
ثم أسرع إبراهيم الى أهله خِفية وقدّم لضيوفه عجْلا سمينا مشويّا، فقرّبه إليهم، فلم يأكلوا منه، فقال منكِرا لحالهم: ألا تأكلون؟ {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} خافَ منهم في نفسِه، ظناً منه ان امتناعَهم عن الأكل إنما كان لشرّ يريدونه.
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} وطمأنوه بقولهم: لا تخفْ منا، إنا رسُل ربك إلى قوم لوطٍ، كما جاء في قوله تعالى: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] .
ثم زادوا طمأنتهم له: فقالوا: أبْشِر يا إبراهيم بغلامٍ عليم. هذا هو ابنه اسحاق من زوجته سارة. فلمّا أقبلت سارة وفوجئت بالبِشارة صاحت وضربت بيدها على جبينها، وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألِد؟ كما جاء واضحاً في سورة هود 72 {قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} {قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم}
كذلك قضى ربك بحكمتِه، إنه هو الحكيم في كل ما يقضي، العليم الذي لا يخفى عليه شيء.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر: انه لحقٌّ مثلُ ما انكم تنطقون برفع مثل، والباقون: مثلَ بالنصب.(3/271)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
ما خطبكم: ما شأنكم الذي أُرسلتم من أجله، والخطب: الشأن الخطير. الى قوم مجرمين: هم قوم لوط. مسوَّمة: معلّمة، عليها علامة خاصة. للمسرفين: الذين جاوزوا الحد في الفجور. آية: علامة. بسلطان مبين: بحجّة واضحة. فتولى بركنه: فتولى بقوته معتزاً بها وبجنوده. نبذناهم: طرحناهم، ألقيناهم في البحر. مُليم: فعلَ ما يلام عليه من الكفر والعناد. الريح العقيم: التي لا خير فيها، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا. كالرميم: كالبالي من كل شيء. فعتَوا: فاستكبروا عن امتثال الأوامر. الصاعقة: نار تنزل من السحاب بالاحتكاكات الكهربائية.
قال إبراهيمُ يخاطب الضيوفَ بعد ان سلَّم عليهم وهو لا يعرفهم: ما شأنُكم، وفيم أُرسِلتم؟ فقالوا له: إنّا أُرسِلنا الى قومِ لوطٍ المجرِمين، ومعنا أوامرُ من الله تعالى بإهلاكهم. ولم يجِدوا فيها غيرَ أهلِ بيتٍ من المسلمين.
{وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم}
وجعلنا بَلَدهم عِبرةً بما أنزلنا بِها من العذابِ والدّمارِ، وذِكرى للّذين يخافون الله.
وكذلك أرسل اللهُ موسى إلى فرعونَ وقومه بحجّةٍ واضحة ومعجزاتٍ باهرة، فأعرض فرعونُ عن الإيمان برسالة موسى معتدّاً بقوّته وما عندَه من جنودٍ ومُلكٍ، وقال عن موسى: إنه ساحر او مجنون. فأغرقه الله هو وجنودَه في البحر {وَهُوَ مُلِيمٌ} أيْ مقترفٌ من الأعمال ما يُلام عليه.
وكذلك في قصة عادٍ عبرةٌ وعظةٌ، حيث أهلكهم اللهُ بالرِيح العقيمِ العاتية. ومثلُهم قومُ ثمودٍ، أهلكهم اللهُ بالصاعقة، وقبلَهم قومُ نوحٍ أغرقَهم الله بذُنوبهم،. وقد تقدمت قصة الجميع اكثر من مرة في سورة الأعراف وهود بأوسعَ من ذلك.
قراءات:
قرأ الكسائي: فاخذتهم الصعقة: والباقون: الصاعقة.(3/272)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
والسماءَ بنيناها بأيدٍ: بنيناها بقوة. وإنا لموسِعون: يعني ان هذا الكون فيه أمور تذهل لما يتسع فيه من المجرّات والاجرام السماوية التي تتمدد وتتسع دائما. والأرضَ قرشناها: مهّدناها كالفراش ليعيش الناس عليها. فنِعم الماهدون: فنعم المهيّئون لها نحن. ومن كل شيء خلقنا زوجين: ذكراً وانثى. ففِروا الى الله: التَجِئوا اليه، واعتصموا به. أتواصَوا به: هل أوصى بعضهم بعضا بهذا القول؟ فما أنتَ بملوم: ما أنت بمسئول عن عدم استجابتهم. فان للذين ظلموا ذنوبا: نصيبا. مثلَ ذَنوبِ اصحابهم: مثل نصيب أصحابهم من الكفار من الأمم الماضية.
بعد إشارات سريعة الى قصصِ بعضِ الأنبياء الكرام، وذِكر شيءٍ من أفعال أقوامهم - يأتي ذِكرُ قدرة الله تعالى على خلْق هذا الكون ببناءِ السماء بهذا الإحكام المنفرد، وبأن التوسِعةَ مستمرةٌ على الزمن، وأن في الكون أجراماً من السُدُم والمجرّات تتمدَّد وتتوسّع دائما الى ما شاء الله. . وهذه ابحاثٌ في عِلم الفلك مذهلةٌ لمن شاءَ ان يطّلع عليها، فانه سيجدُ العَجَبَ العُجاب. . وان الله تعالى فرشَ لنا هذه الأرضَ ومدّها لنا لنعيشَ عليها بأمانٍ وسلام، وخلَق من كل شيء ذكراً وأنثى لاستمرار الحياة وبقائها الى أن يشاءَ خالقُها. ولذلك ينصحنا الله تعالى أن نلجأ اليه، ونسارعَ إلى طاعته، كما نصَح من أرسَل رسله اليهم من المشركين.
كذلك شأن الأمم مع رسلهم، ما جاء رسولٌ إلى قومه إلا قالوا عنه ساحر أو مجنون.
{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}
أأوصى بعضُهم بعضاً بهذا القول؟ بل هم قوم طاغون تجاوزوا كلَّ حدٍّ في طعنِهم على الرسُل والأنبياء.
ثم خاطب الرسولَ الكريم مسلّياً له بقوله:
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} أَعرِض عن هؤلاء المعانِدين المنكِرين يا محمد، فما أنتَ بملومٍ على عدَم استجابتهم ولا بمسئول، وداوِم على التذكير فإن الذِكرى تنفع مَن في قلوبهم استعدادٌ للهداية من المؤمنين.
ثم بين بعد ذلك كلّه ما هو المرادُ من خلْق الجِنّ والإنس فقال:
{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} لا أريدُ منهم رِزقاً لأني غنيٌّ عن العالمين، ولا أريدُ ان يطعموني لاني أطعِم ولا أطعَم. ان الله وحدَه هو المتكفّل برزقِ هذا الخلق {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} .
ثم بيّن ان للذين ظلموا أنفسَهم بالكفر نصيباً من العذاب مثلَ نصيبِ أصحابهم من الأمم الماضية، فلا يستعجلني قومُك أيها الرسول بإنزالِ العذاب قبل أوانه. {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ}
ختم السورة الكريمة بهذا الانذار الشديد الذي سينالهم يوم القيامة.(3/273)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
الطور: هو طور سيناء، والطور في اللغة: الجبلُ، وفناء الدار، وجبلٌ قرب العقبة يضاف الى سيناء وسينين، وجبلٌ بالقدس عن يمين المسجد، وجبلٌ مطلّ على طبرية. «القاموس» . ويقال لجميع بلاد الشام الطور. «معجم البلدان» . كتاب مسطور: كل كتاب نزل من عند الله، مسطور: مكتوب بسطور منتظمة. ورَقٍّ منشور: الرق بفتح الراء: جلدٌ رقيق يكتب فيه. منشور: مفتوح للناس. البيت المعمور: الكعبة المعمورة بالحجّاج والطائفين. والسقف المرفوع: السماء وما فيها من عجائب. والبحر المسْجور: المملوء، يقال: سجر النهر ملأه، والمسجور: البحر الذي ماؤه اكثر منه «القاموس» . تمور: تضطرب وترتج. في خوضٍ يلعبون: الذي يلْهون بالباطل، وأصل الخوض: السيرُ في الماء، ثم غلبَ على الخوض في الباطل. يدعّون: يدفعون دفعا عنيفا. اصلَوها: ذوقوا حرها.
اقسم الله تعالى بخمسة مقدَّسات في الأرض والسماء، بعضُها مكشوفٌ معلوم وبعضُها مغيَّب مجهول، بطورِ سيناء الذي كلّم الله عليه موسى، وبالكتُب المنزلة من عنده (وعبر عنها بكتابِ، بالإفراد، لأنها وحدةٌ واحدة تدعو الى نهجٍ واحد) في صحفٍ ميسّرة للقراءة، وبالبيت المعمور بالعبادةِ ليلَ نهار، وبالسماء وما فيها من عجائب الكون، وبالبحر المملوء بالمخلوقات.
اقسم الله تعالى بهذه المقدسات أن عذابه لا بدّ أن يقع بالكافرين لا يستطيع أحدٌ دفعه عنهم، وذلك يوم القيامة، يوم تضطربُ السماء اضطراباً شديداً بما فيها، وتسير الجبال سيراً شديداً وتمرُّ مر السحاب. {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} اعداءِ الله الذين يخوضون في الباطل ويتخذون الدينَ لَهواً ولعبا. ففي ذلك اليوم يُدفعون الى النار دفعاً شديدا ويقال لهم: {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} فادخلوها وقاسوا حَرَّها وعذابها. وسواء عليكم أصبرتم ام لم تصبروا، فليس لكم منها مَهرب، وأنتم تلاقون اليوم ذلك الجزاء الذي كنتم توعَدون به على أعمالكم السيئة في الدنيا.(3/274)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
فاكهين: نفوسُهم طيبة متمتعين بما أعطاهم الله من نعيم الجنة. وقاهم: حفظهم. وزوّجناهم بحورٍ عين: الحور: نساء الجنة. وما ألَتناهم من عملهم: ما أنقصناهم. رهين: مرعون بعمله عند الله. يتنازعون: يتعطَون ويتجاذبون. لا لغو فيها ولا تأثيم: ان خمر الجنة لا تذهبُ بعقل الشارب، فيلغو ويأثمُ في كلامه. غلمان: مماليك مختصون بهم. مكنون: مصون. مشفِقين: خائفين. السّموم: النار. البر: الواسع الاحسان.
بعد ان بيّن ما يصيب الكافرين الكذّابين من العذاب، ذكَر هنا بالمقابل ما أعدّ الله للمؤمنين وما يتمتعون به في جنّات النعيم من مختلِفِ أنواع الملذّات في المسكَن والمأكل والأزواج هم وذريّاتهم الطيبة، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم، وكل انسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح. ويُنعم الله عليهم بأنواع الفاكهة واللّحم ومما يشتهون، ويجلسون على الأسرّة يتجاذبون أطراف الاحاديث، ويشربون من شراب الجنة {كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} فيها شرابٌ لا يَعْبَث بالعقل، ولا يدع شاربها يتكلم باللغو او الباطل. ويقوم على خدمتهم غلمانٌ غاية في الحسن والجمال {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} من حيث الصفاء والبياض وحُسن الرونق.
ثم يُقبل بعضهم على بعض يتساءلون ويتحدّثون في أخبار الدنيا وما مرّ عليهم، ويقولون: كنا في دار الدنيا خائفين من عذاب الآخرة، {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} ، اذ تفضّل برحمته لنا، ووقانا عذاب النار.
{إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم}
انا كنّا نعبده في الدنيا، ونسأله ان يمنَّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجابَ لنا وأعطانا مآلنا، انه هو المُحسِن الواسعُ الرحمة والفضلز
قراءات:
قرأ ابو عمرو: واتبعناهم ذرياتهم بدمع ذريات. وقرأ ابن عامر ويعقوب: واتبعتهم ذرياتهم بالجمع. والباقون: واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع.(3/275)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
الكاهن: الذي يوهم الناسَ أنه يعلم الغيب عن طريق اتصاله بالجنّ. نتربص: ننتظر. المنون: المنية، والدهر. ريب المنون: حوادثُ الدهر وصروفه. أحلامهم: عقولهم. قومٌ طاغون: ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد. تقوّله: اختلقه من عند نفسه. من غير شيء: من غير خالق. خزائن ربك: خزائن رزقه. المصيطرون: بالصاد وبالسين: القاهرون، المسلَّطون، سيطر عليه: تسلط عليه. بسلطان مبين: بحجة واضحة. من مَغرم مثقلون: من غرامة ثقيلة عليهم. كيداً: شراً. مَكيدون: يحيق بهم الشر ويعود عليهم وباله. كسفا: جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. مركوم: متراكم بعضه فوق بعض.
يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يداوم على التذكير والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد المشركون، فما أنت ايها الرسول، بفضل ما أنعم الله به عليك من النبو ورجاحة العقل بكاهن، ولا بمجنون كما يزعمون، ولا انت شاعرٌ كما يقولون حتى يتربّصوا بك حوادثَ الدهر ونكباته.
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون}
قل لهم ايها الرسول: انتظِروا، فإني معكم من المنتظرين.
ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ؟}
هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء، والمجنونُ لا عقل له، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً!؟ ، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها.
ثم زادوا في الإنكار ونسَبوا الى النبيِّ الكريم أنه اختلق القرآن من عنده، بل هم بمكابرتهم لا يؤمنون. فإن صحَّ ما يقولون فليأْتوا بحديثٍ مثل القرآن، ان كانوا صادقين في قولهم ان محمداً اختلقه.
ثم انتقل الكتابُ الى الردّ عليهم في إنكارهم وجودَ الخالق كما هو شأن الدهريين فقال: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون؟}
هل خُلقوا من غير إله، ام هم الّذين خلَقوا أنفسَهم، فلا يعترفون بخالقٍ يعبدونه.
وهل هم الذين خلَقوا السمواتِ والأرضَ على هذا الصنع البديع؟ بل حقيقةُ أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون.
وهل عندهم خزائنُ ربّك يتصرفون بها، {أَمْ هُمُ المسيطرون} القادرون المدبِّرون للأمور كما يشاؤون. الحقيقة ان الأمرَ ليس كذلك، بل اللهُ هو المالكُ المتصرف الفعال لما يريد.
قراءات: قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي المسيطرون بالسين. والباقون بالصاد. يقال: سيطر وصيطر.
روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرِب بالطّور، فلما بلغ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون؟ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسيطرون} قال: كادَ قلبي يطير، وأثّرت فيه هذه الآياتُ وكان ذلك من أسباب دخوله الاسلام.(3/276)
وكان جبير من الذين وفَدوا على النبي الكريم بعد وقعةِ بدرٍ في فداء أسرى قريش.
فاذا كانت أقوالُهم هذه غيرَ صحيحة فهل يدَّعون انهم ارتقوا بمصعَدٍ إلى السماء وسمعوا شيئاً من الله؟
{فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}
فليأتِ الذي استمع شيئاً بحجّة واضحةٍ تصدِّق دعواه.
ثم رد على الذين قالوا ان الملائكة بناتُ الله، وسفّه احلامهم، اذ اختاروا له البناتِ ولأنفسِهم البنينَ فقال: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} كما تشاؤون وتحبّون؟ ولماذا يكذِّبون رسول الله؟ هل طلبَ منهم أجرة باهظة تُثقل كواهلهم {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} ؟ أم عندَهم عِلم الغيب، فهم يكتبون منه ما يشاؤن؟ بل يريد هؤلاء المشركون بقولهم هذا وافترائهم كيداً في رسول الله وفي الناس. فإن كان هذا ما يريدون فكيدُهم راجعٌ إليهم ووبالُه على أنفسهم. ام لهم الهٌ يعبدونه غير الله يمنعهم من عذاب الله؟ {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} .
ان هؤلاء القوم معانِدون مكابرون، فحتى لو رأَوا بعضَ ما سألوه من الآيات، فعاينوا بعضَ السماءِ ساقطاً لكذّبوا وقالوا: هذا سحابٌ بعضُه فوق بعض. وذلك لن الله ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارَهم.(3/277)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
يُصعقون: يهلكون. دون ذلك: غيره. بأعيُننا: في حِفظنا ورعايتنا. إدبار النجوم، بكسر الهمزة: وقتُ مغيبها.
يتّجه الخطاب هنا الى الرسول الكريم تسليةً له بأن يدعَ هؤلاء الكفار وشأنهم حتى يلاقوا يومَهم الذي يهلكون فيه. . لا تكترثُ تكذيبم وعنادهم، فإن لهم يوما لا يجدون فيه من يدافع عنهم أو ينصرهم. بل ان لِلذين ظلموا انفسهم بالكفر، مثل هؤلاء، عذاباً آخر قبل يوم القيامة، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . فاصبر يا محمد لحكم ربك بإمهالهم، وعلى ما يلحقُك من أذاهم، فإنك في حِفظِنا ورعايتنا فلا يضرّك كيدهم، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} في الليل، وسبِّحه حين تغيبُ النجوم، واذكر الله في جميع الحالات والأوقات، آناءَ الليل وأطرافَ النهار.(3/278)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
النجم: جنس النجوم. هوى: سقطَ وغرب. ما ضلّ: ما حادَ عن الطريق المستقيم. صاحبكم: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وما غوى: ما اعتقد باطلا، ولا حاد عن الهدى. وما ينطِق عن الهوى: وما يقول عن هوى نفسه. شديد القوى: الملَكُ جبريل. ذو مِرة: ذو حصافة عقل وقوة عارضة. فاستوى: فاستقام، واستوى لها عدة معان اخرى. وهو بالأفق الأعلى: وهو بالجهة العليا من السماء. ثم دنا: ثم قرب. فتدلّى: فنزل. فكان قاب قوسين أو أدنى: فكان قربُه قَدْرَ قوسين أو أقرب، والقابُ: المقدار. أفتمارونه: افتجادلونه على ما يراه. نزلةٌ اخرى: مرة أخرى. سِدرة المنتهى: شجرة عظيمة مباركة. جنة المأوى: جنة الخلد التي تؤوي المؤمنين. يغشى: يستر ويغطي. ما زاغ البصرُ: ما مال بصر محمد عما رآه. وما طغى: وما تجاوز ما أُمر به. آيات ربه الكبرى: عجائب ملكوته.
لقد أقسَم الله تعالى بخلْق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتَها الا هو، وهي نجومُ السماء، بأن محمّداً، صاحبَكم يا معشرَ قريش وتعرفونه حقَّ المعرفة، وهو محمد الأمين كما سمَّيتموه - ما عَدَلَ عن طريق الحق، وما اعتقدَ باطلا، ولا يتكلّم إلا بوحيٍ من الله تعالى. وقد نقل إليه هذا الوحيّ من ربه الأعلى وعلّمه إياه جبريلُ الأمين، شديدُ القوى، ذو حصافة عقل ورأي سديد، فاستقام على صورته الحقيقية. ولقد رآه النبيُّ عليه الصلاة والسلام مرَّتَين: مرةً على الأرض في غارِ حِراء، ومرةً أخرى ليلةَ المعراج. ورأى من عجائبِ صنع الله ما رأى، مما استطاعَ أن يخبركم به. وقد اوحى الله الى عبدهِ ما أوحى، {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} ، بل لقد رأى جبريلَ ببصرِه حقيقةً، فلا العينُ اخطأت فيما رأت، ولا القلبُ شكّ فيما رأت العين بل أيقنَ وجزم بصدقها. {أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى} وبعد هذا كلّه تجادِلونه على ما يراه وتكذّبونه!! كذلك رآه مرةً أخرى عند سِدرة المنتهى بقرب الجنة، {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} من فضلِ الله ما لا يحيط به وصف. . لقد رأى من عجائب آياتِ ربه الكبرى ما يَبْهَرُ الفؤاد ويجِلُّ عن الوصف.
قراءات:
قرأ هشام: ما كذّب بتشديد الدال. والباقون: ما كذَب بدون تشديد. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب: افَتمرونه بفتح التاء، اي تغلبونه. والباقون: افتمارونه.(3/279)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
اللات والعزَّى ومناة: اصنام كانت تعبدها العرب في الجاهلية وأبطلَها الاسلام. اللات: كانت صخرة مربعة بالطائف، وبها سمى العربُ في الجاهلية زيدَ اللات، وتَيْم اللات. وكانت في موضع منارةِ مسجد الطائف اليسرى اليوم. وبعد فتحِ الطائف بعث الرسولُ الكريم المغيرةَ بنَ شُعبة فهدمها وحرقها بالنار. العُزّى: شجرة من السَمُرِ كانت بوادِ حَراضِ عن يمين الذاهب الى العراق، وأولُ من اتخذها ظالم بن اسعد، وكانت أعظمَ الاصنام عند قريش. وبها سمت العرب: عبدَ العزى. فلما كان عامُ الفتح دعا النبي خالدَ ابن الوليد فقال له: انطلق الى شجرةٍ ببطن نَخْلَةَ فاعصرها، فقتلَ سادِنَها وقطع الشجرة. مَناة: وهي أقدم هذه الاصنام، وكان صنمه منصوباً على ساحل البحر بناحية المشلل بِقَديدٍ، بين المدينة ومكة. وكانت العرب جميعا تعظّمه وتذبح حوله. وكانت الأوسُ والخزرج تعظّمه أكثرَ من جميع العرب، وكانوا يحلقون رؤوسهم عند مناة. وبعد فتح مكة أرسل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ ابي طالب كرم الله وجهه فهدَمها وأخذ ما كان لها. وكان من جملة ما وجدَ عندها سيفان، فوهبَهما الرسولُ الى علي رضي الله عنهـ. والعرب تسمى: عبدَ مناة وزيدَ مناة، وكانت أقدم الاصنام الثلاثة. ضِيزى: جائرة، يقال: ضاز يضيز ضيزا: اعوجّ وجار، وضازه حقَّه ظَلَمه. من سلطان: من حجة.
يخاطب الله تعالى قريشاً فيقول:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللات. . . .}
أخبِروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله وهي اللات والعزى ومناة. . . . هل لها قدرة توصف بها؟
وبعد ان أنّبهم على سُخف عقولهم بعبادة الاصنام، التي كانوا يزعمون انها هياكل للملائكة وان الملائكة بناتُ الله، قال:
{أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} ان هذه القسمة جائرة، وغير عادلة.
ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذِب والافتراء في عبادةِ الأصنام وتسميتها آلهةً بقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ}
هي أسماء لفّقتموها، وما تتبعون الا الظنَّ الذي تهواه أنفسكم في هذا الشأن. أما الآن وعلى لسان محمدٍ، فقد جاءكم من ربكم الهدى لو تتبعونه.
ومع هذا فإن هذه الأصنام لا تنفعكم، ولا تشفع لكم عند الله، وما هي الا أباطيل من صنع الكهنة والسَدَنة ليأكلوا أموالَ الناس بالباطل. . اما كل ما في هذا الكون دنيا واخرى، فهو مِلك له تعالى، لا شريك له ولم يلد ولم يولد.
وان كثيرا من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئا، {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} ، فاذا كان هذا حالُ الملائكة المقربين عند الله، فكيف حال الأصنامِ الجامدة الميتة!!
قراءات:
قرأ رويس ويعقوب: اللاتّ بتشديد التاء، والباقون: اللات من غير تشديد. وقرأ ابن كثير: مناءة بمدّ الالف والهمزة المفتوحة، والباقون: مناة.(3/280)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
مبلغهم من العلم: منتهى علمهم. كبائر الإثم: الجرائم الكبرى كالقتل والسرقة وما يترتب عليه حد. والفواحش: ايضا من الكبائر وهي ما عظُم قبحها. اللّمم: مقاربة الذنب والدنو منه، او ما صغُر من الذنوب. أنشأكم: خلقكم. أجنّة: جمع جنين، وهو الولد ما دام في بطن أمه.
بعد ان عاب الله عبادةَ الأصنام التي لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا شفاعة، وكرر هنا تسفيه أحلامهم بأنهم سمّوا الملائكة بناتِ الله، فمن أين أتاهم ان الله له اولاد هي الملائكة!؟ إنه تعالى غني عن المساعدة وعن الصاحبة والولد، وكلامهم هذا كله دعوى من غير دليل، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} . فأعرِض أيها الرسول عن هؤلاء الذين لا همَّ لهم الا جمع حطام الدنيا، لأن ذلك الذي يتبعونه هو منتَهى ما وصلوا اليه من العلم، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} فهؤلاء قومٌ لا تجدي فيهم الذكرى ولا تؤثر فيهم الموعظة، فلا تبتئس بإنكارهم وكفرهم، اللهُ أعلمُ بهم.
ثم بين بعد ذلك ان الله تعالى هو مالك هذا الكون المتصرفُ فيه، ولذلك فهو القادرُ على الجزاء. وهو عادلٌ يحب العدل، ولذلك يبيّن جزاء الذين أساؤا والذين أحسنوا. وقد بيّن أوصافَ المحسِنين بقوله تعالى: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم}
يعني ان المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائرِ المعاصي والفواحش، فإذا وقعوا في معصيةٍ وتابوا فَ {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} يغفر كل ذنب كما قال تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الزمر: 53] . وعلى هذا يكون اللَّمَمُ هو الإتيان بالمعصِية (من أيّ نوعٍ) ثم يتوب عنها.
ولذلك ختم الآية بان هذا الجزاء، بالسُّوءى والحسنى، مستند الى علم الله بحقيقة دخائل الناس فقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} فهو أعلمُ بأحوالكم، وعندَه الميزانُ الدقيق، وجزاؤه العدْل، واليه المرجع والمآل.
ويرى كثير من المفسرين ان الآية تعني أن الذي يجتنب الكبائرَ يكفِّر الله عنه الصغائرَ، كما قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، وهذه الآية مدنية. وعلى كل حالٍ فالله تعالى واسعُ المغفرة، رؤوف بعباده حليم كريم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: الذين يجتنبون كبير الإثم بالافراد، والباقون: كبائر الاثم بالجمع.(3/281)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
تولى: أعرضَ عن اتباع الحق. أكدى: قطع العطاء وأمسك وبخِل. ينبَّأ: يخبر. صحف موسى: التوراة. ووفى: أتم ما أُمر به وأكمل. ان لا تزر وازرةٌ وزر اخرى: لا تحمل نفس ذنب نفس اخرى، كل انسان يؤخذ بذنبه. ثم يُجزاه: يجازيه الله على عمله، يقال: جزاه على عمله، وجزاه عملَه. الأوفى: الأكمل.
أَعلمتَ يا محمدُ بأمر ذلك الجاحد الذي أعرضَ عن اتّباع الحق، وقد أعطى قليلا من المال ثم قطع عطاءه، أأ، زل عليه وحيٌ فصار عندَه علمُ الغيب فرأى ان ما صنعه حق؟ .
ان الشرائع التي يعرفها ذلك الرجل على غير هذا. ألَم يُخْبرَ بما في صُحف موسى، وابراهيمَ الذي بلغَ الغايةَ في الوفاء بما عاهد الله عليه!! وكانت قريش تدّعي أَنها على دِين ابراهيم، بينما أن دين ابراهيم يخالفُ ما يقولون وما يعملون.
لقد اتفقت الأديان على أنه لا تحمل نفسٌ ذنوبَ نفسٍ أخرى، وانه ليس للانسان الا جزاء، وأن عمله سوف يُعلَن يومَ القيامة فيراه الناس، ثم يجزيه الله على عمله أوفَى جزاءٍ فيضاعِفُ له الحسنةَ اضعافا كثيرة، ويجازيه بالسيئة مثلَها فقط او يعفو عنها، {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49] .(3/282)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
المنتهى: المعاد يوم القيامة. تُمْنَى: تصبّ في الرحم وتدفع فيه. النشأة الاخرى: البعث يوم القيامة. أغنى: كفى عبده وأغناه عن سؤال الناس. أقنى: أعطاه فوق الغنى من لمال ما يُقتنى ويُدّخر. الشّعرى: نجم مضيء وهي معروفة بالشّعرى اليمانية، أشدّ نجمٍ لمعاناً في السماء، يبلغ قطرها ضِعف قطر الشمس، وأكثر لمعاناً من الشمس بِ 27 مرة. وكان بعض العرب يعبدونها في الجاهلية. عاداً الأولى: قوم هود. المؤتفكة: قرى قوم لوط، ائتفكت الأرض: انقلبت بمن عليها. أهوى: أسقطها في الأرض، خسف بها الارض. غشّاها: غطاها العذاب. آلاء رَبِّكَ: نِعمه. مفردها إلي بفتح الهمزة وكسرها. تتمارى: تشك. أزفت: دنت واقتربت. الآزفة: الساعة يوم القيامة. كاشفة: من الكشف والإظهار. أفمن هذا الحديث: يعني القرآن. سامدون: لاهون.
في ختام هذه السورة الكريمة يعجَب اللهُ تعالى من أمر الانسان، وانه كيف يتشكّك في أمر الله وقدرته، ويجادل ويماري في أمر الرسالات!! فمهما طالَ وجودُ الانسان في هذه الحياة فان مصيره الموتُ والرجوعُ إليه. ان الله تعالى وحده خلَقَ ما يسرُّ وما يُحزِن، فأضحك وأبكى، وذلك بأن أنشأ للانسان دواعي الضحك ودواعي البكاء. وقد يضحك غداً مما أبكاه اليوم، ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس في غير جنون ولا ذهول، إنما هي الحالاتُ النفسية المتقلبة بيدِ مقلِّب القلوب. وأنه هو يهب الحياة ويأخذُها، وانه خلَقَ الزوجين: الذكر والانثى، من نطفةٍ فيها آلاف الحيوانات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجردة. وهو الذي يحيينا مرةً أخرى يومَ البعث، وانه سبحانه {هُوَ أغنى وأقنى} فأعطى ما يكفي، وزادنا رضىً بما يُقْتَنَى ويُدّخر. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} وقد نصّ بشكل خاص بانه ربّ الشعرى اليمانية (ألمع نجمٍ في كوكبة الكلب الأكبر، وأَلْمع ما يُرى من نجوم السماء) - لان بعض العرب كانوا يعبدونها. وكان قدماء المصريين يعبدونها ايضا، لأن ظهورها في جهة الشرق نحو منتصف شهر تموز قبل شروق الشمس - يتفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى، وهو اهم حادث في العام، وابتداء عام جديد.
لقد أهلك الله عاداً الأولى قومَ هود، وأهلم ثمودَ قوم صالح، فما أبقى عليهم. كذلك أهلك قوم نوح من قبلهم، وقد كانوا اكثر ظُلماً وأشدَّ طغياناً من عاد وثمود. أما المؤتفكة قم لوط، فقد قلَب بهم الارض وخسفها لطغيانهم وكفرهم.
{فَغَشَّاهَا مَا غشى} فأحاط بها من العذاب الشديد المرعب ما لا يوصف.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى} فبأيّ نِعمِ ربك عليك أيها الانسانُ تشكّ وترتاب!! وكما قال تعالى: {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم؟ . . . .} [الإنفطار: 6] . إن هذه كلَّها أدلةٌ على وحدانية ربك وربوبيته.
{هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى}
هذا هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جاءكم نذيراً بالقرآن الكريم، وهو من النذُر الأولى التي أُنذرت بها الأمم السابقة.(3/283)
{أَزِفَتِ الآزفة}
قربتْ القيامة، ولا ينشِف عن وقتها الا الله، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] .
فما لكم ساهون لاهون!! وهل بعدَ هذا كلّه ينبغي أن تعجَبوا من هذا القرآن، وهو حديثٌ عظيم فيه كل ما يقودكم الى الهدى والصلاح والسعادة!! وتضحكون استهزاء وسخريةً ولا تبكون، كما يفعل الموقنون! .
{فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا}
بهذا يختم الله تعالى هذه السورةَ الكريمة، فاسجدوا لله الذي انزلَ القرآنَ هدىً للناس، واعبدوه وحدَه لا اله الا هو. وهنا موضعُ سجدةٍ واجبة.
قراءات:
قرأ نافع وابن كثير: عاداً الَّولى بإدغام التنوين باللام. والباقون: عاداً الأولى. وقرأ حفص: وثمودَ بغير تنوين. والباقون: وثموداً بالتنوين. وقرأ الجمهور: تتمارى بتاءين. وقرأ يعقوب: تمارى بتاء واحدة.(3/284)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
وإن يروا آية: وان يروا دليلاً على نبوة محمد. مستمر: دائم. أهواءهم: ما زينه لهم الشيطانُ من الوساوس والأوهام. مستقر: منتهٍ الى غاية ينتهي اليها. مزدجَر: ما فيه الكفاية لزجرهم. حكمة بالغة: واصلةٌ غايةَ الإحكام والابداع. فما تُغني النذر: فما يفيد المنذِرون لمن انصرف عنهم. نُكُر: بضم النون والكاف، كل ما تنكره النفوس وتعافه. خشّعا: جمع خاشع وهو الذليل. الأجداث: القبور. مهطِعين الى الداع: مسرعين منقادين لمن يدعوهم الى الحشر. عُسُر: صعب شديد الهول.
يخبرنا الله تعالى باقترابِ يوم القيامة، ونهايةِ الدنيا وانقضائها، وأنّ الكونَ يختلُّ كثيرٌ من نظامه عند ذاك، كما جاء في قوله تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت} [التكوير: 1-2] ، والتكدُّر هو الانتثار، فعبّر بالماضي، وهنا التعبير جاء بالماضي، وكما قال في آخر سورة النجم {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] .
وقد روى الامام أحمد عن سهلِ بن سعد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بُعثتُ أنا والساعةُ هكذا، وأشار باصبعَيه السبّابةِ والوسطَى» .
وهنا يقول: اقتربت القيامة، وسينشقُّ القمرُ لا محالة. وتشير الابحاثُ الفلكية الى ان القمر يدنو من الأرض ويستمرُّ بالدنوّ منها حتى يبلغَ درجةً يتمزقُ عندها ويصير قِطعاً كلّ واحدةٍ تدور في فلكها الخاص. وهذا طبعاً سيحدُث عند انتهاء هذه الحياةِ الدنيا، ولا يعلم وقتَ ذلك الا الله.
ويقول المفسّرون الأقدمون: ان انشقاق القمر قد حدَث فعلا، ويرون عدة أحاديث أسندوها الى أنس بن مالك وعبد الله بن عباس، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. ويقول ابن كثير: قد كان هذا في زمان رسول الله كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة.
والروايةُ عن خمسة من الصحابة فقط فكيف تكون متواترة؟ واللهُ اعلم.
لقد كذّب هؤلاء الكفار النبيَّ الكريم، وأعرضوا عن الإيمان به، وقالوا: إنه كاهن وساحر يُرهِب الناسَ بسحره. بذلك كذّبوا بالحق إذ جاءهم {واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} فهو منتهٍ الى غاية يستقر عليها. ان هذا الكون يا محمد يسير وفق قوانينَ منتظِمة محدّدة مستقرة. وان امرك ايها الرسول سينتهي الى الاستقرار بالنصر في الدنيا والفوزِ بالجنّة في الآخرة.
ولقد جاء لهؤلاء المكذِّبين من الأخبار عن الماضِين الذين كذّبوا الرسلَ، فهلكوا، ما يردعُهم ويزجُرهم عما هم فيه من الغيِّ والشرك والفساد. وهو {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النذر} . إنه حكمةٌ عظيمة بالغةٌ غايتها في الهداية والارشاد الى طريق الحقّ لو انهم فكّروا واستعملوا عقولهم، ولكن أيّ نفعٍ تفيد النذُر لمن اتَّبع هواه وانصرف عنها!؟ . أعرِضْ أيها الرسول عن هؤلاء الكفار، وانتظِر يومَ يدعو الداعي الى أمرٍ شديدٍ تنكره النفوس، ولم يروا مثلَه لما فيه من هول وعذاب.(3/285)
انه يوم الفزَع الاكبر، يوم تراهم:
{خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} .
يخرجون من قبورهم في حالةِ هلع عظيم، خاشعة أبصارهم من شدة الهول، كأنهم من كثرتهم وسرعة انتشارهم جرادٌ منتشر. كما قال تعالى ايضا: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] ، فهم في أول أمرِهم يكونون كالفَراش حين يموجون فزِعين لا يهتدون أين يتوجهون، ثم يكونون كالجراد المنتشِر عندما يتوجهون للحشْر. في ذلك اليوم يخرجون مسرعين الى الداعي، ينظرون إليه في ذلٍّ وخضوع، لما يرون من الهول حتى {يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} هذا يوم صعب شديد.
قراءات:
قرأ ابن كثير: نُكْر بضم النون واسكان الكاف، والباقون: نُكُر بضم النون والكاف. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم: خُشّعاً بضم الخاء وتشديد الشين جمع خاشع. والباقون: خاشعاً ابصارهم على الافراد.(3/286)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
ازدُجر: زجروه عن التبليغ. فانتصِر: فانتقم لي منهم. منهمر: منسكب بقوة. فالتقى الماء على أمرٍ قد قُدِر: فالتقى ماء السماء بماءِ الأرض، على حال قدّره الله. ذات ألواحٍ ودُسُر: الواحٍ من الخشب ومسامير، ودسر جمعُ دسار. بأعيننا: بحِفظنا وحراستنا. تركناها آية: تركنا السفينة آية وحجّة. مدّكر: معتبر، متذكر، متعظ. ونذُر: جمع نذير بمعنى إنذار.
يبيّن الله تعالى هنا ان شأنَ الرسول الكريم مع قومه كشأنِ نوحٍ مع قومه. فبعد ان أخبرَ أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجرٌ لو تذكّروا - ذَكَر هنا قصة قوم نوح الذين كذّبوا نبيَّهم قديماً قبل قريش، ورمَوه بالجنون ومنعوه من تبليغ رسالته بأنواع الأذى والتخويف.
فدعا نوح ربه: لقد غلبتُ على أمري، فانتقِم منهم بعذابك. فاخبره الله تعالى أنه أجاب دعاءه فقال:
{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} أي بماء متدفق من السماء، وفجَّر من الأرض عيوناً فالتقى ماءُ السماء بماءِ الأرض وأهلك الكذّابين من قوم نوحٍ بالطوفان {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} وفق أمرٍ قدَّره الله تعالى.
{وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}
وحملنا نوحاً ومن معه على سفينة مصنوعة من الخشب والمسامير، تجري على الماء بحِفظ اللهِ ورعايته، وذلك جزاءً منا لنوحٍ الذي كذّبه قومه ولم يؤمنوا به.
ثم بين الله تعالى انه أبقى أخبارَ السفينة وإغراقَهم عبرةً لمن بعدهم فقال:
{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} فهل يوجَدُ مِن بينِهم من يتّعظ ويعتبر!!
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
انظروا كيف كان العذابُ الذي حلّ بهم ما أشدَّه، وما أفظع إنذاري لهم بما أحللته بهم. وقد تقدمت قصة نوح في أكثرَ من سورة وذكر في القرىن في ثلاثةٍ وأربعين موضعا.
ثم بين ان هذا القصص وامثاله إنما يُروى في القرآن للعبرة، وانه يسَّر معناه، وسهله للتذكّر والاتعاظ، فهل من متعظ؟
قراءات:
قرأ ابن عامر ويعقوب: ففتّحنا بتشديد التاء، والباقون: ففتحنا بغير تشديد.(3/287)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
الريح الصرصر: الباردة اشد البرد. نحس: شؤم. مستمر: دائم. تنزع الناس: تنقلهم. أعجاز نخل: أصول النخل. منقعِر: منقلع، يقال قعرت النخلة، قلعتُها من أصلها فانقعرت. بالنذُر: بالرسل. وسُعر: جنون. يقال: سَعِرَ فلان فهو مسعور: جنّ فهو مجنون. كذّاب أشِر: شديد البطر، متعاظم. فارتقبْهم واصطبر: فانتظرهم واصبر على أذاهم. كل شِرب محتضَر: الشِرب بكسر الشين: النصيب، ومحتضر: بفتح الضاد: يحضره صاحبه في نوبته. صاحبهم: هو الذي قتل الناقة. فتعاطى: فاجترأ على هذه الجريمة. فعقر: فضرب قوائم الناقة بالسيف. كهشيم المحتظِر: الهشيم: كل زرع ونبات وشجر يابس، والمحتظر: الذي يعمل حظيرة لغنمه ويتساقط منه بعض اجزائه وتتفتت حال العمل.
في هذه الآيات الكريمة يذكر الكتاب قصةَ عاد، قوم هود، وقصة ثمود قوم صالح، وقد ذُكر هود سبع مرات في القرآن وصالحٌ تسعاً.
ولقد كذّبت عادٌ نبيَّهم هودا ولم يؤمنوا به، فانظُروا يا معشر قريش كيف أنزلتُ بهم عذاباً شديداً، ريحاً باردة مدوَّية في يومِ شؤمٍ دائم، تقتلع الناسَ من أماكنهم وترميهم كأنهم أعجازُ نخلٍ قد انقلَع من الأرض {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . وقد كرر هذه الآية لبيان هولِ ما نزلَ بهم من عذاب.
ثم اردف ذلك بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}
لقد أنزلناه سهلاً ميسَّراً ليبيّن للناس العبر والعظات فهل يتعظون؟ .
ثم اردف بقصة ثمود، وكيف كذّبت نبيّهم صالحاً، وكيف تعجّبوا من ان يأتيه الوحي والنبوة من بينهم، وفيهم من هو أحقُّ منه، ثم شتموه بأنه كذاب أشِر. وقالوا:
{إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ}
لو اتبعنا صالحاً هذا فيما يدعونا إليه لكُنّا ضللنا، وصرنا مجانين.
ثم بين الله تعالى بأنهم:
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر}
سيعلمون قريباً يوم ينزل بهم العذابُ من هو الكذّاب المنكِر للنعمة، هم أم رسولنا إليهم صالح.
ثم بين الله لصالح انه مرسلٌ لهم الناقة آيةً، وامتحاناً، فانظِرْهم يا صالح واصبر على أذاهم وخبِّرهم أن ورود الماءِ مقسومٌ بينَهم وبين الناقة، {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} كل نصيب يحضره صاحبه في يومه.
فلم تعجبْهم القِسمة، فدعوا صاحبَهم (وهو الذي عبَّر الله عنه في سورة الشّمس بقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} [الشمس: 11-12] ليفعل فِعْلته.
{فتعاطى فَعَقَرَ}
فتهيأ لعقر الناقة وضرَب قوائمها بالسيف فعقَرها، {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ؟
ثم أخذتهم صيحةُ العذاب فكانوا مثلَ الهشيم اليابس الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة لماشيته.
ثم يكرر قوله تعالى: {وَلَقَد يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ليوجّههم الى القرآن ليتذكروا ويتدبروا.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة ورويس: ستعلمون بالتاء. والباقون: سيعلمون بالياء.(3/288)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
حاصبا: ريحا تحمل الحصباء. السحَر: آخر الليل. بطشَتَنا: عذابنا الشديد. فتماروا بالنذر: فشكّوا وجادلوا في الانذارات. راودوه عن ضيفه: نازعوه في ضيوفه ليفجُروا بهم، وهم يظنون انهم من البشر. الضيف يطلق على الواحد والجمع. فطمسنا أعينهم: حجبناها عن الإبصار فلم تر شيئا. بكرة: أول النهار. مستقر: دائمٌ وثابتٌ مستمر.
ثم يذكر قصص قوم لوطٍ وفرعونَ باختصار، فقد كذّبت قوم لوط بما جاءهم من انذار، فأرسل الله عليهم ريحاً شديدةً ترميهم بالحصى، ونجّى آل لوط المؤمنين من هذا العذاب في آخر الليل، وذلك كله نعمةٌ من الله {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} {إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين} [النمل: 57] .
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بالنذر}
لقد أنذرهم رسولُهم لوط من عذابِ الله فشكّوا في ذلك وسخِروا منه، بل توعّدوه كما جاء في سورة الشعراء: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} [الشعراء: 167] .
ثم طلبوا منه ضيوفَه ليأخذوهم ويفجُروا بهم لَمّا رأوهم على صورة شبابٍ مُرْدٍ حسان، فَطَمَسَ الله أعينَهم وحجَبها عن الإبصار. وذهبَ الملائكةُ بعدَ أن أفهموا لوطاً بأنْ يخرج ليلاً من تلك القرية الظالمة. وصبَّحَهم عذابٌ مستقر أهلكهم ودمّر بلادَهم وقال الله لهم: {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} ثم كرر الآية الكريمة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ}
يسّرناهُ على الأفهام للاتعاظ والتذكُّر من قبل أصحابها.
ثم ذكر قصة فرعون وآله بآيتين، وأنهم كذّبوا رسولهم موسى، ولم يؤمنوا بآيات الله.
{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ}
لقد أهلكهم الله إهلاك قويّ لا يُغلب، عظيمِ القدرة على ما يشاء. وقد ذُكرت قصة فرعون وموسى بعدد من السور بين مطول ومختصر.(3/289)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
أم لكم براءة: أم عندكم كتابٌ فيه نجاتكم من العذاب. الزُبُر: جمع زبور، وهي الكتب السماوية. ويولّون الدبُر: يعطونكم ظهورهم عندما ينهزمون. أدهى: أعظم. وأمر: اشد مرارة. سعر: نيران مستعرة. سقَر: اسم من اسماء جهنم، ومسّ سقر: حرها، بقدَر: بتقدير حسب حكمة بالغة. وما أمرُنا الا واحدة: كن فيكون. كلمح بالبصر: كلمح البصر لشدة سرعته. أشياعكم: أشباهكم، وأتباعكم وانصاركم. مستطر: مكتوب. ونهَر: أنهار. في مقعد صدقٍ: في مكان مرضي. عند مليكٍ مقتدر: عظيم القدرة.
يوجَّه الخطابُ هنا الى قريشٍ ومن والاهم. أكفاركم يا معشَر قريشٍ أقوى من تلك الأقوامِ التي ذُكرت، فأنتم لستم بأكثرَ منهم قوة، ولا أوفرَ عددا. وهل عندكم صكٌّ مكتوب فيه براءتكم من العذاب! .
ام ان المشركين يقولون: نحن واثِقون بقوّتنا ونحن منتصِرون. وقد ردّ الله عليهم مقالَهم بأنهم سيُهزمون ويولّون الدبُر. وقد صدق الله وعدَه فهزمهم جميعاً ونصرَ رسولَه الكريم صلى الله عليه وسلّم.
ثم بيّن الله أن الهزيمةَ هي عذابُ الدنيا، وان موعدَهم يومُ القيامة، فيه العذاب الشديد الذي ليس له مثيل، وكل عذابٍ دونض جهنمَ بسيط وقليل. ففي ذلك اليوم يكون المجرمون من المشركين في هلاكٍ وجحيم مستعر، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} ويقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} قاسوا عذابَ جهنم.
ثم بين الله تعالى أن كلّ ما يوجد في هذا الكون يحدُث بقضائه وأمرِه وتقديره على ما تقتضيه حكمته، وان أمْرَه ينفَذُ بكلمة {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] بأسرعَ من لمح البصر.
ثم بين لهم انه أهلكَ اقواماً كثيرا أشباههم فهل يعتبرون؟ وان كل شيء فعلوه في الدنيا سيَجِدونه مكتوباً مسجّلاً لا يغيبُ منه شيء.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} كلّ صغيرٍ وكبير من الأعمال مسجَّل مسطور.
وبعد ان بين مقام الكافرين وما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة، ذكر ما ينالُه المتقون من الكرامة عند ربهم في جنّاتٍ وأنهارٍ متعددة.
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} في مجلسٍ كريم في ضيافةِ الرحمن الرحيم، القويّ العزيز، عظيمِ القدرة جلّ جلاله.(3/290)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
الرحمن: اسمٌ من اسماء الله الحسنى لا يجوز أن يسمّى به غيره. البيان: تعبير الانسان عما في نفسه. بحسبان: بحساب دقيق منتظم. النَّجم: النباتُ الذي لا ساق له. الشجر: كل ما له ساق كالنخل وغيره. يسجدان: يخضعان لله تعالى. والسماءَ رفعها: خلقها مرفوعة. ووضع الميزان: شرع العدل. وأقيموا الوزن بالقسط: قوّموا وزنكم بالعدل. ولا تخسِروا الميزان: ولا تنقصوا الميزان. الأنام: الخلق. ذات الأكمام: واحدها كم بكسر الكاف، وهي وعاء طَلْع النخل، وبرعوم الثمرة. العصف: ورقُ النبات الذي على السنبلة. الرَّيحان: كل مشموم طيب الرائحة من النبات. الآلاء: النعم واحدها إِلىً بفتح الهمزة وكسرها، وألْيٌ، وأَلْوٌ.
يبين الله تعالى في هذه الآياتِ أنه علّم القرآن وأحكام الشرائع لهداية الخلق، وإتمام سعادتِهم في معاشِهم ومَعادهم. وخلَقَ الانسانَ على أحسنِ تقويم، وكمّله بالعقل وجمّله بالنطق {عَلَّمَهُ البيان} كي يُبينَ عما في نفسه. وتلك ميزةٌ له عن سائر الحيوان.
وسخّر الشمسَ والقمرَ يجريان بحسابٍ دقيق وتقديرٍ منتظم وقوانين ثابتة. والنباتُ الذي لا ساقَ له، والشجرُ بجميع انواعه - مسخَّرة خاضعة لارادة الله في كل ما يريد. كما خلَق السماءَ مرفوعة، ووضعَ العدلَ حتى لا يظلم بعضكم بعضا. وأقيموا الوزن بالعدل في كل معاملاتكم، ولا تنقصوا الميزان.
ولقد أوجد الله في الأرض لكم أنواعاً كثيرة من الفواكه، فيها النخْل ذاتُ الأكمام، وفيها الحبُّ ذو القشر، جعله رزقاً لكم ولأنعامكم. وفيها كل نبتٍ طيب الرائحة. وقد خص النخلَ بالذِكر لأن ثمره فاكهة وغذاء.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الخطاب للانس والجن وقد جاء بعد ذِكر كثير من النعم، فبعد كل هذه النعم فبأي نعمة من ربكما تجحدان وتكذّبان؟؟ .
قراءات: قرأ ابن عامر: والحبَّ ذا العصف والريحانَ بفتح الحب والريحان. وقرأ حمزة والكسائي والريحانِ بالجر. والباقون: والحبّ ذو العصف والريحان بالرفع.(3/291)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
الصلصال: الطين اليابس الذي له صوت اذا نُقر. والفَخّار: الطين المطبوخ المصنّع. المارج: الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد التى لا دخان فيها. رب المشرقَين ورب المغربين: الشمس تشرق كل يوم من مكان، وتغرب في مكان، ولذلك ورد ايضا {وَرَبُّ المشارق} [الصافات: 5] في سورة الصافات. مرجَ البحرين: أرسلهما واجراهما. يلتقيان: يتجاوران. برزخ: حاجز. لا يبغيان: لا يطغى احدهما على الآخر فيمتزجان. اللؤلؤ: هو الدر المعروف المخلوق في الأصداف. المرجان: نوع احمر من حيوان البحر ايضا يُتخذ حلياً. الجواري: السفن الكبيرة. المنشآت: المصنوعات. كالأعلام: كالجبال، والعلَم هو الجبل العالي.
بعد ان منّ الله على الخلق بما هيأ لهم من نعمٍ لا تحصى في هذا الكون، ينتقل هنا الى الامتنان عليهم بنعمه في ذواتِ أنفسهم، وفي خاصةِ وجودهم وإنشائهم.
خلَقَ جنسَ الانسان من طينٍ يابس غير مطبوخ، وخلق الجانَّ من لهيبٍ مشتعل من نار، وهو ربُّ مشرِقَي الشمسِ في الصيف والشتاء، ورب مغربَيها اللذين يترتب عليهما تقلُّبُ الفصول الأربعة وتقلب الهوا ءوتنوعه، وما يلي ذلك من الأمطار والشجر والنبات والأنهار الجارية.
ثم ذكر نعمه تعالى على عبادِه في البحر وما فيه من فوائدَ وخيرات فقال:
{مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ}
أرسل البحرَ المالحَ والبحرَ العذب متجاورَين متلاقيين لا يبغي أحدُهما على الآخر، فقد حجَز بينهما ربُّهما بحاجزٍ من قدرته. . فبأيّ هذه المنافع تكذّبان ايها الثّقلان!! .
ومن البحر المالح والعذب يخرجُ اللؤلؤ والمرجان، يتّخذ الناس منهما حِليةً يلبسونها. وفيهما تجري السفن الكبار المصنوعات بأيديكم كالجبال الشاهقة، حاملةً ما ينفع الناس ويقضي مصالحهم.
وبعد ذكر هذه النِعم التي أوجدها في البر والبحر - بيّن ان هذا كله فانٍ لا يدوم، وانه لا يبقى الا الله تعالى، وكل من في الوجود مفتقِر إليه، وهو الحي الباقي في شئونه يُحيي ويميت، ويرزقُ ويعزّ ويذلّ، ويعطي ويمنع.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام}
فجميعُ أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهلُ السموات، ولا يبقى سوى الله، فَهو ذو الجلال وحده. ولا يقال ذو الجلال الا في النسبة الى الله. ثم قال والاكرام لأن الله تعالى كريمٌ يكرم الانسان وينظر اليه بعين العطف والعناية، والكريم لا يُخاف بل يُحَبُّ ويطاع.
وكل من في السموات والارض مفتقِر إليه تعالى، محتاجٌ الى رحمته ونواله ولذلك يقول:
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} .
فهو يحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويعطي ويمنع، ويغفر ويعاقب. قال عبد الله بن حنيف: تلا علينا رسول الله صلى الله عليه سولم هذه الآية فقلنا: يا رسول الله، وما ذلك الشأن؟ قال: ان يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين.
قراءات
قرأ الجمهور: يخرُج بفتح الياء وضم الراء. وقرأ نافع وابو عمرو ويعقوب: يُخرَج بضم الياؤ وفتح الراء على البناء للمجهول. وقرأ الجمهور: المنشَئات بفتح الشين. وقرأ حمزة وابو بكر: المنشِئات بكسر الشين.(3/292)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
سنفرُغ لكم: هو مجرد تهديد لأن الله تعالى لا يشغله شيء، والمعنى سنحاسبكم. ايها الثقلان: الانس والجن. أن تنفذوا: تخرجوا. أقطار السموات والأرض: جوانبهما. بسلطان: بقوة وقهر. الشواظ: لهب خالص بلا دخان. النحاس: الدخان لا لهب فيه. وهذا من بعض معانيه. وردة: لونها كحمرة الورد. كالدهان: وهو ما يدهن به. السيما: العلامة. النواصي: واحدها ناصية وهي مقدم الرأس، والأقدام معروفة، يعني يُجرّون من نواصيهم واقدامهم. الحميم: الماء الحار. آن: متناهٍ في الحرارة.
سنحاسِبُكم أيها الانسُ والجنّ يومَ القيامة، وهذا وعيدٌ شديد من الله لعباده، فان الله تعالى لا يَشغَله شيء. ثم بين الله انه لا مهربَ في ذلك اليوم من الحساب والجزاء، كل واحد يحاسَب على عمله فقال:
{يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا}
ان استطعتم ان تخرجوا من جوانب السموات والارض هارِبين فافعلوا. . . والحقيقةُ أنكم لا تستطيعون ذلك، إلا ان تَفِرّوا الى اللهِ بالتوبة الخالصة. {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} وأعظمُ سلطان يتحصّن به الانسانُ هو التوبة، فإنها أكبر حصنٍ يقي التائب المخلص من عذاب الله. فبأيّ نعمة من نعم ربّكما تجحدان!؟ .
ثم بين بعض اهوال الساعة بقوله تعالى:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ}
يُصَبّ عليكما لهبٌ من نارٍ ونحاسٌ مذاب، فلا تقدران على دفع هذا العذاب، بل يُساق المجرمون الى الحشْر سَوقاً نعوذ بالله منه.
ثم بين الله تعالى أنه إذا جاء ذلك اليوم الشديد اختلّ نظام العالم، فتتصدّع السموات ويصير لونها أحمر كالدِهان، وتصير مذابةً غير متماسكة.
ويكون للمجرمين حينئذٍ علاماتٌ يمتازون بها عن سواهم كما قال تعالى:
{يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام}
فيُجَرّون إلى جهنم من مقدَّم رؤوسهم وأَرجلِهم ويقال لهم توبيخاً وتقريعا: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} فهم يترددون بين نارِها وبين ماءٍ متناهٍ في الحرارة. فاذا استغاثوا من النار يُغاثوا بالماءِ الحار الذي يشوي الوجوهَ كما قال تعالى في سورة الكهف: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29] .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: سيفرغ لكم بالياء. والباقون: سنفرُغ لكم بالنون. وقرأ ابن كثير: شواظ بكسر الشين، والباقون: شواظ بضم الشين. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ويعقوب: ونحاس بالجر، والباقون: ونحاس بالرفع.(3/293)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
ذواتا: تثنية ذات. أفنان: جمع فَنَن وهو الغصن. زوجان: صنفان من جميع الانواع. بطائنُها: بطاناتها يعني أنها مبطنة بالحرير وهو الاستبرق. وجنَى الجنتين: ثمرُ الجنتين. دانٍ: قريب في متناول اليد. قاصرات الطرف: نساء عفيفات لا ينظرن الا الى ازواجهن. لم يطمثهن: لم يمسَسْهن أحد. . كأنهن الياقوت في الصفاء والمرجان في الجمال والبهاء. مدهامتان: خضراوان، الدهمة السواد، والعرب تقول لكل أخضرٍ هو اسود. ومنه سواد العراق لكثرة نخيله. نضّاختان: فوارتان بالماء. حُور: واحدتهن حوراء: بيضاء. خيرات: بسكون الياء يعني خيّرات بتشديدها. مقصورات في الخيام: مخدَّرات، ملازمات بيوتهن. رفرف: واحدهُ رفرفة: وهي الوسادة، المخدة. عبقري حسان: معناه النادر الموشى من البسُط والفرش، والعرب تُسنِد كلَّ عملٍ عجيب الى عبقر.
بعد ان بيّن مقام المجرمين، وما يشاهدونه من أهوال، وما ينالهم من عذاب، وذكَر ان مقامهم النار وبئس القرار - ذكر هنا مقام المؤمنين الذين يخافون ربهم، ويطيعونه فيما أمرهم، وفصّل تفصيلا جميلاً في ذلك النعيم الرباني، جزاءً من العليّ الكريم.
ولمن خافَ مقام ربه، وأطاعه وأخلص في إيمانه وعبادته جنتان. ومعنى هذا ان في الجنة مقاماتٍ ومنازلَ للمؤمنين حسب ما قدّموه من اعمال صالحة، لأنه سيأتي ايضا قوله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فهناك ايضاً جنّتان أُخريان.
وهاتان الجنتان ذواتا أفنان، أي ان فيهما أغصاناً نضرة حسنةً من جميع الشجر وألوان الثمار المتنوعة. وفي هاتين الجنتين داخل الجنة عَيْنان تجريان بالماء الصافي العذْب. أما الجنة الكبرى فان فيها انهاراً متعدّدة كما ورد في عدة آيات. فكيف تكذّبون بهذه النعم الجليلة التي لا تُحصَى أيها الجاحدون!؟ .
هذا ويجلس أهل الجنتين متكئين على انواع من فُرش الحرير، وفي متناول أيديهم ثمارُ الجنتين يقطفون منها متى شاؤا ما يلذّ لهم وما يطيب.
وعندهم ما يشاؤون من الحُور العفيفات اللاتي لا ينظُرن الى أحدٍ سوى أزواجهن، كأنهن في الحسن والجمال الياقوتُ والمرجان، عذارى لم يمسَسهنّ أحد قبل ازواجهن.
ذلك كله جزاء من خافَ مقام ربه، وعَبدَه وأخلص في عبادته، وسعى في إعمار الدنيا وأعطى من ماله وجاهه وبذل ما يستطيع.
{هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} .
ثم هناك داخل الجنة جنتان أخريان. وهما كما يقول تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فهناك ايضاً جنّتان أُخريان.
وهاتان الجنتان ذواتا أفنان، أي ان فيهما أغصاناً نضرة حسنةً من جميع الشجر وألوان الثمار المتنوعة. وفي هاتين الجنتين داخل الجنة عَيْنان تجريان بالماء الصافي العذْب. أما الجنة الكبرى فان فيها انهاراً متعدّدة كما ورد في عدة آيات. فكيف تكذّبون بهذه النعم الجليلة التي لا تُحصَى أيها الجاحدون!؟ .
هذا ويجلس أهل الجنتين متكئين على انواع من فُرش الحرير، وفي متناول أيديهم ثمارُ الجنتين يقطفون منها متى شاؤا ما يلذّ لهم وما يطيب.(3/294)
وعندهم ما يشاؤون من الحُور العفيفات اللاتي لا ينظُرن الى أحدٍ سوى أزواجهن، كأنهن في الحسن والجمال الياقوتُ والمرجان، عذارى لم يمسَسهنّ أحد قبل ازواجهن.
ذلك كله جزاء من خافَ مقام ربه، وعَبدَه وأخلص في عبادته، وسعى في إعمار الدنيا وأعطى من ماله وجاهه وبذل ما يستطيع.
{هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} .
ثم هناك داخل الجنة جنتان أخريان. وهما كما يقول تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} لفريق آخر من المؤمنين العاملين المخلصين. وهما {مُدْهَآمَّتَانِ} خضراوان لونهما يميلُ الى السواد من شدّة الخضرة.
وفي هاتين الجنتين عينان من الماء العذب تفوران بالماء لا تنقطعان، كما أن {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وأنواع منوعة من افخر الفاكهة. وقد خص النخلَ والرمان لأن الله تعالى اودع فيهما كثيراً من المزايا الهامة. فثمر النخل غذاء كامل، فيه نسبة عالية من الكالسيوم والحديد والفوسفور التي يحتاج اليها الجسم. وفيه عدد من الفيتامينات المفيدة، وهو يحتوي ايضا على نسبة من البروتينات والدهنيات.
كذلك في الرمان نسبة مرتفعة من حمض الليمونيك الذي يساعد عند احتراقه على تقليل أثر الحموضة في البول والدم، مما يكون سببا في تجنب النِّقرِس وتكوين بعض حصى الكلى، مع احتوائه على نسبة لا بأس بها من السكّريات السهلة الاحتراق، والمولِّدة للطاقة. وهناك فوائد هامة في قشر ثمر الرمان، وقشور سُوقِ اشجاره.
وفي هاتين الجنتين زوجات طيّبات الأخلاق وفيّات جميلات، من الحور العين الملازمات لمجالسهن في الخيام، لم يقربْهن أحدٌ من الانس ولا الجان.
وهؤلاء المؤمنون مع ازواجهم في غاية السعادة والسرور، متكئين على فُرشٍ عليها وسائد وأغطية خُضْر وطنافس حسان عجيبة الصنع من صنع وادي عبقر. والعربُ تنسب كل شيء عجيب الى وادي الجن، ويكنّون عنه بِعَبْقَرَ. فبأي نعمة من نعم ربكما تكذبان ايها الثقلان!؟ .
قراءات:
قرأ الكسائي: لم يظمُثْهن: بضم الميم، والباقون: لم يطْمِثهن بكسر الميم. وقرأ ابن عامر: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} .(3/295)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
إذا وقعت: اذا حدثت. الواقعة: القيامة. لوقْعتها: لوقوعها وحدوثها. كاذبة: كذب. رُجّت: زلزلت وحركت تحريكاً شديدا. بُسَّت: فتتت. هباء: غبارا متفرقا. أزواجا: أصنافا. أصحاب الميمنة: هم الناجون الذين كتابهم بيمينهم. أصحاب المشْأمة: الكافرون الذي يأخذون كتابهم بشمالهم. السابقون: هم الذين سبقوا الى عمل الخير في الدنيا. والمقرَّبون: هم ارباب الحظوة والكرامةم عند ربهم. ثلّة: جماعة قد يكون عددها كثيرا، وقد يكون قليلا من غير تحديد. موضونة: وضنَ الشيءَ جعل بعضه على بعض، ويقال وضَنَ السريرَ بالجوهر نسجه فهو موضون. وِلدان مخلّدون: أولاد صغار للخدمة يبقون على هذه الصفة داءماً. أكواب: واحدها كوب. . معدّة للشراب. أباريق: واحدها إبريق، معروف. وكأس من مَعين: إناء من شراب الجنة. لا يصدّعون عنها: لا يصيبهم صداع بشرابهم يصرفهم عنها. ولا ينزفون: لا تذهب عقولهم. حور عين: نساء بيض. عيونهن جميلة واسعة. المكنون: المصون الذي لم تمسه الأيدي. لغواً: سقط القولِ. تأثيماً: ما يستوجب الإثم.
إذا قامت القيامة فلا يستطيع أحدٌ أن يكذِّب بها، لأن قيامها حقٌّ لا شُبهة فيه. وهي خافضةٌ للاشقياء، رافعة للمؤمنين السّعداء. ويومئذ تُزلزل الأرضُ، ويضطرب الكون، وتحِلّ بالعالم أهوالٌ وكوارث، وتتفت الجبال، وتصير كالهَباء المتطاير في غير أماكنها.
والناس في ذلك اليوم ثلاثة اصناف، اصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبَهم بأيمانهم ويكونون في أسعدِ حال؛ وأصحابُ المشأمة وهم الذين كفروا ويأخذون كتبهم بشِمالهم.
والطبقة الثالثة، وهم السابقون الى الخيرات في الدنيا، يرتقون إلى الدرجات العليا في الآخرة. وأولئك هم المقرّبون عند الله، وهم في جنّات النعيم يتمتعون فيها عند أكرم الأكرمين في أحسن مقام.
وهؤلاء المقرّبون جماعة كثيرة من الأمم السابقة وأنبيائهم، وقليلٌ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة اليهم، يجلسون على سُرر منسوجة بالجواهر النفيسة، متكئين عليها متقابلين، يتحدّثون بذكرياتهم وبكل ما يسرّهم.
ويدور عليهم للخدمة وِلدانٌ مخلَّدون بأكوابٍ وأباريقَ مملوءة مما لذّ وطاب من شراب الجنة، وبكأس مملوءة خمراً من عيونٍ جارية، لا يصيبهم من شُربها صداعٌ يصرفهم عنها، ولا تذهب بعقولهم.
ثم لهم طعامٌ فاخر يشتمل على ما يشتهون من لحم طيرٍ وفاكهة منوعة، يختارون منها ما يحبون، وعندهم نساءٌ حورٌ عين في منتهى الجمال كأمثال اللؤلؤ المصون في صَدفِهِ. . كل هذا يعطَوْنه جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من أعمال الخيرات.
وهم يعيشون في الجنّة في أحسن حالٍ لا يسمعون فيها كلاماً لا ينفع، ولا حديثا يأثم سامعه، إلا سلاماً، لأنهم في دار السلام.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: وحورٍ عين بالجر. والباقون: بالرفع.(3/296)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
السِدر: شجر يحمل ثمراً يقال له النَبْق. مخضود: لا شوك فيه. الطَّلح: الموز. منضود: منسق. ممدود: ممتد بشكل لطيف. مسكوب: مصبوب يسكب لهم كما يشاؤون. مرفوعة: عالية. عُرُبا: جمع عَروب، وهي المرأة الصالحة المتوددة الى زوجها. اترابا: متساويات في السن.
يبيّن الله تعالى هنا حالَ أصحابِ اليمين بعد أن بين مراتبَ المقرَّبين السابقين، ويذكر أنهم في جنات الخلد حيث يوجد شجر السِدر الذي يحمل النبق وهو بلا شوك، وفيها شجر الموز المنسق {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} . وفيها ظلٌّ ممدود لا يَغيب، وماءٌ مسكوبٌ في آنيتهم حيث شاءوه، وفاكهة كثيرةُ الأنواع والأصناف، دائمة لا تنقطع، وغير ممنوعة على من يريدها في اي وقت، وفُرُشٌ منضّدة مرتفعة ناعمة مريحة.
وقد أعد الله لأصحاب اليمين مع كلّ هذه النعم الحورَ العِين، فجعلهن أبكاراً، محبَّبات الى أزواجهن، لطيفاتٍ مطيعات، متقاربات في السن.
واصحاب اليمين جماعاتٌ كثيرة من الأمم السابقة، ومن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قراءات:
قرأ حمزة وابو بكر: عربا بضم العين واسكان الراء. والباقون: عربا: بضم العين والراء وهما لغتان.(3/297)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
السموم: ريح حارة تنفُذ في مسام البدن. الحميم: الماء الحار. وظلٍّ من يحموم: في ظلٍ من دخان حارٍ شديد السواد. مترفين: منعمين. الحنث العظيم: الذنب العظيم وهو الشِرك بالله. ميقات: وقت معلوم، والمراد به يوم القيامة. شجر الزقّوم: شجر ينبت في أصل الجحيم. الهِيم: الإبل يصيبها داءٌ تشرب معه ولا تروى. النزل: مكان مهيّأ للضيف. يوم الدين: يوم الجزاء.
بعد ان بيّن الله مقام الصِنفين: السابِقين واصحاب اليمين، وما يلقاه كل منهم من عز ونعيم مقيم وشرف عظيم - بين هنا الصنف الثالث المقابل وهم الجاحِدون المعاندون، اصحاب الشمال. ولا يدري أحدٌ ما ينال أصحابَ الشمال من العذاب، فهم في ريح حارة تشوي الوجوه، وماءٍ متناهٍ في الحرارة، وفي ظلٍ من دخانٍ حارّ شديد السواد، لا بارد يخفّف حرارةَ الجو، ولا كريمٍ يعود عليهم بالنفع إذا استنشقوه.
والسبب في ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} مسرِفين في الاستمتاع بنعيم الدنيا. وكانوا يصرّون على الشِرك بالله، ويحلفون بأنه لن يُبعث من يموت. كما جاء في سورة النحل الآية 38 {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} وكانوا يزيدون في الانكار فيقولون: أنُبعث إذا متنا، وصارت أجسامُنا تراباً وعظاما بالية؟ هل نعود الى حياة ثانية، ونُبعث نحن وآباؤنا الأقدمون الذين ماتوا من زمن قديم!؟ .
قل لهم أيها الرسول الكريم: سوف يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد في ذلك اليوم العلوم، ثم إنكم أيها الجاحدون المكذّبون بالبعث، ستأكلون في جهنّم من شجرةِ الزقّوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافّات بقوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 64، 65] ، فمالئون من هذا الشجرِ الخبيثِ بطونَكم، فشاربون ماءً شديدَ الحرارة لا يروي ظمأكم، كما تشرب الابلُ المصابةُ بمرض العطَش فلا تروى أبدا.
وكل ما ذكر فهو ضيافتهم يوم الدِّين على سبيل التهكّم بهم، لأن قوله تعالى {هذا نُزُلُهُمْ} ، معناه: هذا ما يهيّأ لضيافتهم. وفي هذا توبيخٌ لهم وتهكم بهم.
قراءات:
قرأ عاصم ونافع وابن عامر وحمزة: شُرب الهيم بضم الشين. والباقون: شَرب الهيم بفتح الشين. وهما لغتان.(3/298)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
تُمنون: تقذِفون المني في الارحام. قدَّرنا: وقَّتنا موت كل احد بوقت. نبدّل أمثالكم: نميتكم، ونأتي بقوم آخرين أشباهكم. النشْأة الأولى: الخلقة الأولى. فلولا تذكّرون: فهلا تتذكرون. حطاما: هشيماً متكسرا. تفكّهون: تتعجبون. مغرمون: معذبون مهلكون. المُزن: السحاب واحدته مزنة. أُجاجاً: مالحاً لا يصلح للشرب. فلولا تشكرون: فهلاّ تشكرون. تورون: توقِدون. تذكرة: تذكيرا موعظة. متاعا: منفعة. للمقْوين: للفقراء الذين ينزلون بالقفر، أقوى الرجلُ: افتقر، ونزل بالقفر، ونفد طعامه. ويقال للمسافرين والمستمتعين: المقوون أيضا.
بعد ان بين الله تعالى لنا الأزواج الثلاثة، ومآل كل منهم ذكَرَ هنا الأدلّةَ على الألوهية من خلْقٍ وزرق للخلق، وأقام الدليلَ على البعث والجزاء، وأثبتَ النبوةَ، فقال:
نحنُ خَلقناكم من عَدَمٍ، فهلاّ تصدّقون وتقرّون بقدرتنا على إعادتكم ثانية يوم القيامة!؟ .
أفرأيتم هذا المَنِيَّ الذي تقذِفونه في الأرحام، أأنتم تخلُقونه وتجعلونه بَشَراً بهذه الصورة {أَم نَحْنُ الخالقون} !؟ .
نحن قضَيْنا بينكم بالموت، وجعلْنا لِموتكم وقتاً معيّناً، وما نحنُ بمسبوقين ولا عاجزين عن ان نُذْهِبكم ونأتيَ بأشباهكم من الخلق، {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} في الأطوار والأحوال.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ}
لقد علمتم أن الله أنشأكم النشأةَ الأولى من العَدَم، فهلاّ تتذكّرون انّ مَن قَدَرَ على خلْقكم من البداية لهو أقدَر على ان يأتيَ النشأةَ الأخرى لكم!
أفرأيتم ما تبذُرونه من الحَبّ في الأرض، أأنتم تُنبتونه أم نحنُ نفعل ذلك! ان في قُدرَتنا لو نشاء لصيَّرنا هذا النباتَ هشيماً يابساً متكسرا.
{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}
لظللتم تتعجّبون من سوءِ ما أصابه وما نزل بكم، وتقولون إنا لمعذَّبون، لا بل نحنُ محرومون من الخيرِ والرِزق لِنحسِ طالعنا وسوءِ حظنا.
أفرأيتم الماءَ العذبَ الذي تشربونه والذي هو أصلُ الحياة، أأنتم أنزلتموه من السحاب ام نحن المنزلون له رحمةً بكم؟
وهذا من اكبر الادلة على قدرة الاله وعظمته، فقد حاول الانسان استمطار السّحُب صناعياً إلا ان هذه المحاولاتِ لا تزال مجردَ تجاربَ، وعلى نطاق ضيق جدا، مع وجوب توافر بعض الظروف الملائكة طبيعيا.
إننا لو نشاءُ لجعلْنا هذا الماءَ العذبَ مالحاً لا يمكن شربه، فهلاّ تشكرون الله على هذه النعمة وعلى ان جعله عذباً سائغا!؟ .
أفرأيتم النارَ التي توقدونها، أأنتم أنبتُّم شجرتها وأودَعتم فيها النار، أم نحن المنشئون لها؟ والنارُ نعمة كالماء، وعندما عرف الانسانُ كيف يستعمل النارَ كان ذلك في حياته خطوةً كبيرة الى التقدم، وبدْء الحضارة الانسانية.
نحن جعلنا هذه النار تذكرةً وتبصِرة لكم تذكّركم بالبعث لتعلموا أن من أخرجَ من الشجر الأخضر ناراً قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى. ولقد جعلنا في النار منفعةً لمن ينزلون في المفاوز والصحارى من المسافرين، ولمن يحتاج إليها في كل مكان. . فاذكروا ذلك واعتبروا منه.
فسبّح باسم ربك العظيم أيها الرسول على هذه النعم الجليلة التي لا تُعد ولا تحصى.
قراءات:
قرأ ابن كثير: نحن قدَرنا بينكم الموت، بفتح الدال من غير تشديد. والباقون: قدرنا بالتشديد. وقرأ ابو بكر: أإنا لمغرمون على الاستفهام. والباقون: إنا لمغرمون على الخبر.(3/299)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
فلا أقسم: هذا قسَم تستعمله العرب في كلامها، ولا للتأكيد. مواقع النجوم: مَداراتها ومراكزها. مكنون: مصون. المطهَّرون: المنزّهون عن الأدناس. مدهنون: متهاونون، مخادعون. الحُلقوم: مجرى الطعام. غير مدينين: غير محاسَبين. فروح: راحة الجسم. ريحان: راحة الروح. تصلية جحيم: ادخال النار. حق اليقين: هو بمعنى اليقين الحق، وهو اليقين المطابق للواقع.
بعد ذِكر الأدلة على الألوهية والخلْق والبعث والجزاء جاء بذِكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم. وقد أقسم الله تعالى على هذا بما يشاهدونه من مواقع النجوم، وإن هذا القسَم لعظيم حقا، لأن هذا الكون وما فيه شيء كبير لا نعلم عنه الا القليل القليل. ويقول الفلكيون: ان من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، ومنها ما لا يرى الا بالمكبّرات، وقد يكون اكبر من شمسنا بآلاف المرات ولكننا لبعده الشاسع لا نراه. وهي تسبح في هذا الفلك الواسع الذي لا نعلم عنه شيئا. والبحث في هذا واسع جدا، ولذلك فان هذا القسَم عظيم حقا.
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
هو قرآن جامع لكل المحامد، وفيه الخير والسعادة لبني الانسان اجمعين.
{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}
وهو مصون في اللوح المحفوظ، لا يمسّ هذا اللوح ولا يطلع عليه غير المقربين من الملائكة.
لقد فسر بعضُهم هذه الآية بأنه لا يَمَسُّ القرآن من كان مُحْدِثا، واختلف العلماء في ذلك، فقال جمهور العلماء لا يجوز ان يمسّ احدٌ القرآن الا اذا كان متطهّرا، وقال عدد من العلماء بالجواز.
{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين}
ان هذا القرآن نزله الله على سيدنا محمد خات مالأنبياء والمرسلين.
وبعد ان ذكر مزاياه، وانه من لدن عليم خبير ذكر انه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، ويجب التمسك به فقال: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} .
اتتهاونون بالقرآن وتُعرضون عنه، وتمالئون من بتكلّم فيه بما لا يليق به، وتكذّبون ما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من امور العقيدة! أتجعلون بدل الشكر على رِزقكم انكم تكذّبونه، فتضعون الكذب مكان الشكر!
{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} .
فماذا انتم فاعلون إذا بلغت روحُ أحدكم الحلقوم في حال النزاع عند الموت، وانتم حوله تنظرون اليه، ونحن بالواقع أقربُ اليه وأعلمُ بحاله منكم، ولكن لا تدركون ذلك ولا تبصرون.
{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
فلو كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعثٌ ولا حسابٌ ولا جزاء، وأنكم غيرُ مدينين لا تحاسَبون ولا تجزون - هلاّ تُرجعون النفسَ التي بلغتِ الحلقومَ الى مكانها، وتردون الموت عمن يُحتضر امامكم! .
ثم بين الله تعالى ان حال بعد الوفاة ثلاثة اصناف فقال:
1- {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ.(3/300)
}
فأما ان كان المتوفَّى من الذين عملوا صالحاً وكان من المقربين السابقين فمآلُه راحةٌ واطمئنان لنفسه، ورحمةٌ من الله ورزقٌ طيب في جنات النعيم.
1- وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فيقال له تحيةً وتكريما: سلامٌ لك من إخوانك اصحابِ اليمين.
3- واما ان كان من المكذِّبين الذين كذّبوا الرسول والقرآن الكريم، الضالِّين سواءَ السبيل- فله مكانٌ في جهنم يُسقَى من ماءٍ شديد الحرارة، ومآله دخول الجحيم.
{إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
ان هذا الذي ذُكر في هذه السورة الكريمة لهو الحقُّ الصادق الثابت الذي لا شكَّ فيه فسبِّح ايها الرسول بذِكر اسم ربّك العظيم تنزيهاً له وشكرا على آلائه.(3/301)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
سبّح لله: نزّهه عن كل ما لا يليق به. العزيز: الذي لا ينازعه في ملكه شيء. الحكيم: الذي يفعل افعاله وَفْقَ الحكمة والصواب. الظاهر والباطن: هو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت، وخفيتْ عنا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وافعاله، باطن بذاته. في ستة أيام: في ستة اطوار. استوى على العرش: استولى عليه. العرش: الملك والسلطان. ذات الصدور: مكنونات النفوس وخفيات السرائر.
بُدئت هذه السورة الكريمة بالتسبيح، وكذلك بدئت بعدها أربع سور مدنية، هي: الحشر والصف والجمعة والتغابن. وأيُّ تسبيح! إن كل ما في الوجود يسبّح لله. وما هو هذا التسبيح؟ . يقول علماء المادة اليوم: «ان التسبيح ها هنا لا يقتصر على كون الذرّات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعَها اللهُ فيها، فهي بهذا تسبّحُ بحمد الله سبحانه، فهناك ما هو أبعدُ من هذا وأقرب الى مفهوم التسبيح الحيّ والتقديس الواعي. ان هذه الموجودات المادية تملك أرواحاً، وهي تمارس تسبيحَها وتقديسها بالروح، وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيّته، كما يقول تعالى في سورة الاسراء 44: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} حقا إن ادراك الطرائق التي تعمل بها الذراتُ والأجسام لَمِمّا يصعُب تحقيقه، ومهما تقدّم العلم وخطا خطواتهِ العملاقة، فسيظلُّ جانبٌ من أكثر جوانب التركيب الماديّ أهميةً بعيداً عن الكشف النهائي، مستعصياً على البَوْح بالسِّر المكنون» .
إن عصر الانكار الكلّي لحقائقَ علميةٍ معينة قد انتهى، وحلَّ محلّه اعتقادٌ سائد أخَذَ يتسع شيئاً فشيئا، في أن ميدانَ العِلم لا يشهَدُ تغيراتٍ فحسب، بل طَفَراتٍ وثورات.
ان نتائج فلسفيةً هامة ستتمخّض حقاً عن هذا التغير، والفرق بين ما هو طبيعي وما هو خارقٌ للطبيعة سوف يتناقص. . الفرقُ بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، والحضور والغيْب، والمادة والروح، والقدَر والحرّية، وستلتقي معطياتُ العلم مع حقائق الدين في عناق حار، لقاءً كثيراً ما حدّثنا عنه القرآنُ الكريم، كتابُ الله المعجزة.
لِله ملكُ السموات والأرض، يحيي ويميت كما يشاء {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . هو الاول بلا ابتداء قبلَ كل شيء، والآخر بلا انتهاء بعد كل شيء: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وهو الظاهر بالآثار والأفعال، والباطنُ فلا تدركه الأبصار {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه شيءٌ في السموات والأرض.
وهو الذي خلق هذا الكونَ في ستة أطوار، فدبَّره جميعه ثم استولى على العرش. وقد تقدَّم مثلُ هذه الآية في عدة سور: الأعراف ويونس وهود والفرقان والسجدة.
ثعلم كل ما يغيب في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعَد اليها، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} عليمٌ بكم، محيطٌ بشئونكم في أيّ مكان كنتم. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لله وحدَه مُلك السمواتِ والأرض، وإليه تُرجَع الأمور.
إنه يقلّب الليلَ والنهار ويقدّرها بحكمته كما يشاء، فتارةً يطولُ الليل ويقصُر النهار، وتارة يقصر الليلُ ويطول النهار، وتارة يجعلهما معتدلَين. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} وخفيِّ مكنوناتها، وما تضمره القلوب.(3/302)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مستخلفين فيه: خلفاء عنه ووكلاء بالتصرف. ميثاقكم: عهدكم. الفتح: فتح مكة. مَن ذا الذي يُقرض اللهَ: من ذا الذي ينفق في سبيل الله.
هذه السورةُ من السوَر المدنية كما قدّمنا، وهي تعالج بناء دولة وأمة. وهنا تعالج حالةً واقعة في ذلك المجتمع الاسلامي الجديد، فيظهر من سياق الحثِّ على البذْل والإيمان أنه كان في المدينة، إلى جانبِ السابقين من المهاجِرين والانصار، فئةٌ من المؤمنين حديثةُ عهدٍ بالاسلام، لم يتمكن الايمان في قلوبهم، ولهم صِلاتُ قرابةٍ ونَسَبٍ مع طائفة المنافقين التي نبتت بعد الهجرة وكانت تكيدُ للاسلام والمسلمين. وكانت هذه المكائد تؤثّر في بعض المسلمين الذين لم يُدركوا حقيقةَ الايمان فأنزل الله تعالى هذه الآياتِ يثبّت بها قلوبَ المؤمنين ويحثّهم على البذل والعطاء. فهي تقول:
آمِنوا باللهِ حقَّ الايمان الصادق، وأنفِقوا في سبيل الله من المال الذي جعلكم خلفاءَ في التصرّف فيه.
ثم تبين السورة ما أعدّ الله للذين آمنوا وأنفقوا من أجرٍ كبير: {فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} .
ومالكم لا تؤمنون بالله والرسولُ يدعوكم الى ذلك ويحثّكم عليه! انه يبين لكم الحججَ والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ الله عليكم الميثاقَ بالايمان من قبلُ {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . ثم بين الله تعالى انه ينزّل على رسوله الكريم آياتٍ من القرآن ليُخرجَكم بها من الضلال الى الهدى، {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} يلطف بكم من حيثُ لا تعلمون، ويمهّد لكم سبيلَ الخير من حيث لا تحتسبون.
ثم زاد في التأكيد على الانفاق أن الجميع صائر اليه، وان الانسانَ لا يأخذُ معه شيئا مما يجمعُه الا العملَ الصالحَ والانفاقَ في سبيل الله فقال:
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} .
مالكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله؟ أنفِقوا أموالكم في سبيل الله قبل ان تموتوا، ليكونَ ذلك ذُخراً لكم عند ربكم. فأنتم بعد الموت لا تقدِرون على ذلك، اذ تصير الأموال ميراثاً لمن له السمواتُ والأرضُ فهو الذي يرث كل ما فيهما.
ثم بيّن تفاوت درجات المنفقين فقال:
{لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} .
لا يستوي في الدرجة والأجرِ ذلك المؤمن الذي أنفق قبلَ فتح مكة وقاتَلَ (لأن المسلمين كانوا في ضيق وجُهد وحاجة الى من يسانِدهم، ويقويهم) فهؤلاء المنفِقون والمقاتلون قبل فتحِ مكةَ أعظمُ درجةً عند الله من الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا. وقد وعدَ الله الجميعَ المثوبةَ الحسنى، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازي كلاًّ بما يستحق.(3/303)
ثم نَدَبَ الى الانفاق بأسلوبٍ رقيق جميلٍ حيثُ جعل المنفِقَ في سبيل الله كالذي يُقْرِض الله، والله غنيٌّ عن العالمين. فقال:
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
هل هناك أجملُ من هذا التعبير! مَن هذا الذي ينفِق امواله في سبيل الله محتسباً أجره عند ربه، فيضاعِف الله له ذلك القَرض، اذ يجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وفوق ذلك له جزاءٌ كريم عند ربّه، وضيافةٌ كريمة في جنة المأوى.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: وقد أُخذ ميثاقكم بضم همزة اخذ ورفع ميثاقكم. والباقون: وقد أخذ ميثاقكم بفتح الهمزة ونصب ميثاقكم. وقرأ ابن عامر: وكلٌّ وعدَ الله الحسنى برفع كل. والباقون: وكُلاً بالنصب. وقرأ ابن كثير: فيضعّفُه بتشديد العين وضم الفاء. وقرأ ابن عامر مثله: فيضعّفَه بالتشديد ولكن ينصب الفاء. والباقون: فيضاعفَه بالألف ونصب الفاء.(3/304)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
يسعى نورهم بين أيديهم: وهو ما قدموه من عمل صالح في الدنيا. بشراكم: أبشروا. انظرونا: انتظرونا. نقتبس من نوركم: نستضيء بنوركم. بسور: بحاجز. باطنه فيه الرحمة: الجنة. وظاهره من قِبله العذاب: من جهته جهنم. فتنتم انفسكم: اهلكتموها. تربصتم: انتظرتم بالمؤمنين الشرّ والمصائب. ارتبتم: شككتم في امر البعث. الأماني: الاباطيل. الغَرور (بفتح الغين) : الشيطان. فدية: مال او غيره لحفظ النفس من الهلاك. مأواكم: منزلكم. مولاكم: اولى بكم، من ينصركم.
الكلام في هذه الآيات الكريمة عن مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، فاللهُ سبحانه وتعالى يبين هنا حالَ المؤمنين المنفقين في سبيل الله يومَ القيامة، فذَكَر أن نورَهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدَهم إلى الجنة، وتقول لهم الملائكة: أبشِروا اليومَ بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهارُ وأنتم فيها خالدون ابدا.
{ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وأيّ فوزٍ أعظم من دخول الجنة!!
ثم بيّن حالَ المنافقين في ذلك اليوم العظيم، وكيف يطلبون من المؤمنين ان يساعِدوهم بشيءٍ من ذلك النورِ الذي منحَهم الله إيّاه ليستضيئوا به ويلحقوا بهم. فيسخَرُ المؤمنون منهم ويتهكّمون عليهم ويقولون: ارجِعوا إلى الدنيا واعملوا حتى تحصُلوا على هذا النور. وهذا مستحيل. فيُضرَب بينهم بحاجزٍ عظيم يكونُ المؤمنون داخلَه في رحابِ الجنة، والمنافقون والكافرون خارجَه يذهبون الى النار.
ثم ينادِي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألَمْ نكُنْ مَعَكم في الدنيا!؟ فيقول لهم المؤمنون:
{بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور} .
لقد كنتم معنا ولكنكم لم تؤمنوا، وأهلكتم أنفسكم بالنفاق، وتربصتم بالمؤمنين الشرَّ والحوادثَ المهلكة، وشككتم في أمور الدينِ. لقد خدعتكم الآمالُ الكاذبة حتى جاءكم الموتُ، وخدعكم الشيطان. فلا أملَ لكم بالنجاة، ولا تُقبَل منكم فِدية، ولا مِن الذين كفروا، إن مَرجِعَكم جميعاً هو النار، هي منزلكم {وَبِئْسَ المصير} .
قراءات:
قرأ حمزة: أنظِرونا نقتبس من نوركم بفتح الهمزة وكسر الظاء من الفعل انظِر. والباقون: انظُرونا بضم الظاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب: فاليوم لا تؤخذ بالتاء. والباقون: لا يؤخذ بالياء.(3/305)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
الم يأنِ: الم يَحِنْ، والفعلُ الماضي أنى يأْني أنياً وأناةً وأنىً: حانَ وقَرُب. وما نزل من الحق: من القرآن. فطالَ عليهم الأمد: طال عليهم الزمان وبعُد العهد بينهم وبين انبيائهم. قَسَت قلوبهم: اشتدّت فكفروا. المصّدِّقين والمصدقات: بالتشديد هم المنفقون في سبيل الله. الصدّيق: المداوم على الصدق. الشهداء: من قُتلوا في سبيل الله.
في هذه الآيات عتابٌ لقومٍ من المؤمنين فترت همَّتُهم قليلاً عن القيام بما نُدِبوا اليه. روي عن ابن مسعود رضي الله عنهـ انه قال: «لما قَدِم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فأصابوا من لِين العَيش ما أصابوا بعْدَ أن كانوا في جَهدٍ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوقبوا بهذا الآية. . . .»
الم يَحِن الوقتُ للذين آمنوا أن ترقَّ قلوبُهم لذِكر الله والقرآن الكريم، ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتابَ من قبلهم، فعملوا به مدةً ثم طال عليهم الزمنُ فجمدت قلوبهم وغيّروا وبدّلوا {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن حدودِ دينهم.
اعلموا أيها المؤمنون ان الله يحيي الأرضَ ويهيئها للإنباتِ بنزول المطر بعد يُبْسِها وجفافها {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وضربْنا لكم الأمثالَ لعلكم تعقلون ما فيها، فتخشعَ قلوبكم لذِكر الله.
والله سبحانه يجازي كلَّ انسانٍ بعمله، فالمتصدّقون والمتصدقات الذي ينفقون في سبيل الله بنفوس سخيّة طيبة، يضاعفُ الله لهم ثوابَ ذلك، وفوق المضاعَفة لهم أجرٌ كريم عنده يوم القيامة.
والعاملون أقسامٌ عند الله، فمنهم النبيّون والصدّيقون والشهداءُ والصالحون. فالذين آمنوا بالله ورسُلِه ولم يفرقوا بين احدٍ منهم - أولئك هم الصدّيقون والشهداءُ، لهم أجرُهم العظيم، ونورٌ يهديهم يومَ القيامة، لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون.
وبالمقابلِ يقفُ الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله، أولئك هم أصحابُ النار خالدين فيها.
قراءات:
قرأ نافع وحفص: وما نَزَل من الحق بفتح النون والزاي من غير تشديد. والباقون: وما نزّل بتشديد الزاي. وقرأ ابن كثير وابو بكر: ان المصَدقين والمصدقات بفتح الصاد من غير تشديد. والباقون: بالتشديد.(3/306)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
الكفار: هنا الزرّاع، يقال: كفر الزارعُ البذرَ بالتراب، غطاه. يهيج: ييبس ويصفرّ، وفعلُ هاجَ له معنى آخر، يقال: هاج القومُ هَيْجا وهيَجانا: ثاروا لمشقة او ضرر. وللفعل هاجَ معانٍ اخرى. حطاما: هشيما متكسرا. متاع الغرور: الخديعة. في كتاب: في اللوح المحفوظ. نبرأها: نخلقها. لا تأسوا: لا تحزنوا. كل مختال: متكبر. فخور: المتباهي بنفسه.
يبين الله تعالى هنا حقارة الدنيا وسرعة زوالها. اعلموا أيها الناس أنما الحياة الدنيا لعبٌ لا ثمرة له، ولهوٌ يشغَل الانسانَ عما ينفعه، وزينةٌ لا بقاء لها، وتفاخرٌ بينكم بأنساب زائلة وعظامٍ باليةٍ، وتكاثرٌ بالعَدد في الأموال والأولاد. مِثْلُها في ذلك مثل مطرٍ نزل في أرضِ قومٍ وأنبت زرعاً طيباً اعجبَ الزّراع، ثم يكمُل ويهيج ويبلغ تمامه، فتراه بعدَ ذلك مصفرّا ثم يصير حطاماً منكسرا لا يبقى منه ما ينفع. فمن آمن وعملَ في الدنيا عملاً صالحاً واتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة نجا، ودخل الجنة. وفي الآخرة عذابٌ شديد لمن آثر الدنيا وأخذها بغير حقها، وفيها مغفرة لمن عمل صالحاً وآثر آخرته على دنياه. {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} متاع زائل وخديعة باطلة لا تدوم.
ثم بعد ان بين الله أن الآخرة قريبة، فيها العذابُ والنعيم - حثَّ إلى المبادرة الى فعل الخيرات فقال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ. . . .}
تسابَقوا أيها المؤمنون في عملِ الخير، حتى تنالوا مغفرة من ربكم، وتدخلوا جنةً سعتُها كسعة السماء والارض، هُيئت للذين آمنوا واتقَوا ربهم، {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} فهو واسعُ العطاء عظيم الفضل، يُعطي من يشاء بغير حساب.
ما أصابكم أيها الناس من مصائبَ في الأرض من قحطٍ او جَدْبٍ وفسادِ زرعٍ او كوارث عامة كالزلازل وغيرها، او في أنفسِكم من مرضٍ او موتٍ او فقر او غير ذلك - إنما هو مكتوبٌ عندنا في اللوحِ المحفوظ، مثْبَتٌ في علم الله من قبل ان يبرأ هذه الخليقة. وما اثبات هذه الأمور والعلم بها الا أمر يسير على الله.
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
وحيث علمتم ان كل ما يجري هو بعلم اله وقضائه وقدَره - عليكم ألا تحزنوا على ما لم تحصَلوا عليه حزناً مفرطاً يجرّكم الى السخط، ولا تفرحوا فرحاً مبطِرا بما أعطاكم، فاللهُ لا يحب كلّ متكبرٍ فخور على الناس بما عنده.
قال عكرمة: ليس أحدٌ الا وهو يحزَن او يفرح، ولكنِ اجعلوا الفرحَ شُكرا والحزنَ صبراً. وما من إنسان الا يحزن ويفرح، ولكنّ الحزنَ المذمومَ هو ما يخرجُ بصاحبه الى ما يُذهِبُ عنه الصبرَ والتسليم لأمرِ الله ورجاءِ الثواب، والفرحَ المنهيَّ عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويُلهيه عن الشكر.(3/307)
ثم بين الله اوصافَ المختالين الذين يَفْخرون على الناس فقال: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} هؤلاء لا يحبّهم الله، ولا ينظر إليهم يومَ القيامة.
{وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد}
ومن يُعرِض عن طاعة الله، فإن الله غنيٌّ عنه، وهو المحمودُ من خلقه لما أنعم عليهم من نعمه، لا تضرّه معصية من عصى، ولا تنفعه طاعة من اطاع.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: بما أتاكم بغير مد. والباقون: بما آتاكم بمد الهمزة. وقرأ الجمهور: بالبُخْل بضم الباء واسكان الخاء. وقرأ مجاهد وابن مُحَيصن وحمزة والكسائي: بالبَخَل بفتحتين وهما لغتان. والبخل بفتحتين لغة الانصار. وقرأ نافع وابن عامر: ان الله الغني الحميد، بحذف هو، والباقون: ان الله هو الغني الحميد.(3/308)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
البينات: المعجزات والحجج. الكتاب: جميع الكتب المنزلة. الميزان: العدل. القِسط: الحق. أنزلنا الحديد: خلقناه. فيه بأسٌ شديد: فيه قوة عظيمة. ثم قفّينا على آثارهم: ثم أرسلنا بعدهم الواحدَ تلو الآخر. الرهبانية: الطريقة التي يتبعها قُسُس النصارى ورهبانهم. ابتدعوها: استحدثوها من عند أنفسِهم. فما رَعَوْها: فما حافظوا عليها. الكِفل: النصيب.
لقد ارسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة، وانزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والاحكام، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل. كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة، في الحرب والسلم، والمواصلات برا وبحرا وجوا، ومنافعه لا تحصى - لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم، وليعلم الله من ينصر دينه، وينصر رسله بالغيب، {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} لا يفتقر الى عون احد.
ولقد ارسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب الهادية. والقرآن يعبر دائما بالكتاب حتى يعلم الناس ان جميع الاديان اصلها واحد.
ثم ان هذه الذرية افترقت فرقتين: منهم من هو مهتدٍ الى الحق مستبصر، وكثير منهم ضالون خارجون عن طاعة الله.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا}
بعثنا بعدَهم رسولاً بعد رسول على توالي العصور والأيام، حتى انتهى الأمر الى عيسى عليه السلام وأعطيناه الانجيلَ الّذي أوحيناه اليه، وأودعنا في قلوب المتّبعين له رأفةً ورحمة. وبعد ذلك كله ابتدعوا رهبانيةً وغُلواً في العبادة ما فرضناها عليهم، ولكن التزموهما ابتغاء رضوان الله تعالى، فما حافظوا عليهما حقَّ المحافظة. فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً أجورَهم التي استحقّوها. اما كثير منهم فقد خرجوا عن امر الله، واجترموا الشرور والآثام، فلهم عذابٌ عظيم.
{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} واثبُتوا على إيمانكم برسوله بعطِكم نصيبَين من رحمته ويجعل لكم نوراً تهتدون به، ويغفر لكم ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} .
لقد فعلنا ذلك ليعلم اهل الكتاب انهم لا ينالون شيئا من فضل الله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والله صاحب الفضل العظيم.
وقوله تعالى: {أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ} معناه أنّهم لا يقدِرون على شيء، فأنْ هنا مخففة من أنّ المشددة.
وهكذا ختمت السورة بختام يتناسق مع سياقها كله، وهي نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية، وبها يتم الجزء السابع والعشرون.(3/309)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
تُجادلك: تراجعك في أمرها، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية الانصارية، وزوجها: أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت الصحابيّ الجليل المدفون بالقدس. واللهُ يسمع تحاوركما: يسمع ما يدور بينكما من الكلام. والظهار هنا: ان يقول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهرِ أمي، يريد انها حرمت عليه كما تحرم امه عليه. منكرا: ينكره الدين ويأياه. وزورا: كذبا لا حقيقة له. يعودون لِما قالوا: ينقضون ما قالوه ويريدون الرجوع الى زوجاتهم. تحرير رقبة: عتق عبد. حدود الله: شريعته واحكامه.
قد سمع اللهُ قولَ التي تراجعك في موضوع طلاقها من زوجها، وتشتكي الى الله ما أصابها، والله يسمع ما يدور بينكما من المحاورة والكلام {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
وقد أبطل الإسلامُ هذه العادةَ، فالذي يقول لزوجته انت عليَّ كظهرِ أمي كلامُهُ باطل، ولا تحرم زوجته عليه ولا تكون كأمه. فان أمه هي التي ولدَتْهُ، وان الذين يستعملون هذه الالفاظ من الظهار {لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} يأباه اللهُ ورسوله.
فالله تعالى أبطلَ هذا الطلاق {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلَفَ من الذنوب، وهذا من فضل الله ولطفه بعباده.
ثم فصّل الله تعالى حكم الظِهار فقال:
{والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} .
1- كل من استعمل هذا اللفظ ثم أراد الرجوع الى زوجته فعليه ان يعتق عبداً من قبلِ ان يمسَّ زوجته.
{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} .
هذا الذي أوجبه اللهُ عليكم من عِتقِ الرقبة عظةٌ لكم وجزاء توعَظون به حتى لا تعودوا لمثله، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
2- {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} .
فالذي لا يستطيع ان يعتق عبداً عليه ان يصوم شهرين متتابعين من قبلِ ان يمسّ زوجته.
3- {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} .
فمن لم يستطع ان يصوم شهرين متتابعين لعذرٍ شرعي، فعليه ان يطعمَ ستين مسكيناً من الطعام المتعارف عليه.
ذلك الذي بينّاه وشرعناه لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعملوا بما شرعنا لكم. وهذا تسهيل من الله على عباده ولطفِهِ بهم، وتلك حدود الله فلا تتجاوزوها {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وفي هذا تهديد كبير.
قراءات:
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين في قوله: قد سمع. والباقون: بالاظهار: قد سمع، بإسكان الدال وفتح السين. وقرأ عاصم: يظاهرون من ظاهَرَ، يظاهِر، بكسر الهاء بغير تشديد. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يظَّهَّرون، بفتح الظاء والهاء المشددتين من ظهَّر يظهر. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يَظّاهرون بفتح الظاء المشددة بعدها الف، من اظّاهرَ يظاهر.(3/310)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
يحادّون: يعصونه ويعادونه. كُبتوا: خذلوا وقهروا وأُذلوا. عذاب مهين: مذل. أحصاه الله: أحاط به وحفظه عنده. شهيد: مشاهد. ألم تَرَ: الم تعلم. النجوى: المناجاة سراً بين اثنين فأكثر. الذين نهوا عن النجوى: اليهود والمنافقون. لولا يعذّبُنا الله: هلا يعذبنا الله بسبب ذلك. حَسْبُهم جهنم: كافيهم جهنم يدخلونها.
بعد ان بيّن الكتابُ شرعَ اللهِ وحدودَه أردف مشيراً إلى من يتجاوزها، ووصفهم بالمخالفة والعداء وانه سَيَلحقُهم الخزيُ والنّكال في الدنيا كما لحق الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية، ولهم في الآخرة العذابُ المهين في نار جهنم. وذلك يوم تُجمع الخلائقُ جميعاً للحساب والجزاء ويخبرهم الله بما عملوه بالتفصيل.
{أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} .
هو مسجل عند الله يجدونه مفصَّلا مع انهم نسوه، {والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} لا تخفى عليه خافية.
ألم تعلم أيها الرسول أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، فلا يتناجى ثلاثةٌ إلا واللهُ معهم، ولا خمسةٌ إلا هو سادسُهم، يعلم ما يقولون وما يدبّرون، ولا أقلّ من ذلك ولا اكثر إلا هو معهم، يعلم ما يتناجَون به اينما كانوا، ثم يخبرهم يوم القيامة بكل ما عملوا {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ألم تر أيها الرسول الى الذين نُهُوا عن النَّجوى فيما بينهم بما يثير الشكّ في نفوس المؤمنين ثم يعودون الى ما نُهوا عنه، وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم، وبما هو مؤذٍ للمؤمنين وما يضمرون من العداوة للرسول.
{وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} .
كان أناسٌ من اليهود اذا دخلوا على الرسول الكريم يقولون: السامُ عليك يا أبا القاسم. فيقول لهم الرسول: وعليكم. ويقولون في أنفسهم: هلا يعذِّبنا الله بما نقول لو كان نبيا حقا! فرد الله عليهم بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} .
وسبب التناجي المذكور أنه كان بين المسلمين واليهود معاهدة، فكانوا إذا مر الرجلُ من المسلمين بجماعة منهم - يتحدثون سراً ويتناجَون بينهم حتى يظنَّ أنهم يتآمرون على قتله، فيعدلَ عن المرور بهم. فنهاهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلم ينتهوا، وعادوا الى ما نهوا عنه. وكانوا إذا جاؤا النبيَّ حَيَّوه بالدعاء عليه في صورة التحية كما تقدم، فنزلت هذه الآية.
ثم أمر الله عباده المؤمنين ان لا يكونوا مثلَ اليهود المنافقين في التناجي بالإثم والعدوان، فقال:
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول} .
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كاليهودِ والمنافقين في تناجِيكم بينكم، فاذا حدث تناجٍ او مسارّة في اجتماعاتكم فلا تفعلوا مثل ما يفعلون.
{وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .(3/311)
تناجَوا أنتم بما هو خير ينفع المؤمنين، واتقوا الله فيما تأتون وتذَرون، فإليه تحشَرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم.
ثم بين الباعثَ على هذه النجوى بالشر والمزَيِّن لها فقال:
{إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان. . . .} .
إنما الحديث بالسّر والتناجي المثير للشكّ - من وسوسةِ الشيطان وتزيينه، ليدخلَ الحزنَ على قلوب المؤمنين، لكنّ المؤمنين في حِصن من إيمانهم فلا يستطيع الشيطان ان يضرَّهم، ولا تنالهم اية مضرّة إلا بمشيئة الله.
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} .
في جميع أمورهم، ولا يخافوا أحداً ما داموا محصّنين بالإيمان والاتكال على الله.
وقد ورد في الاحاديث الصحيحة النهيُ عن التناجي إذا كان في ذلك أذىً لمؤمن.
عن ابن مسعود رضي الله عنهـ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يُحزِنه» رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود.
قراءات:
قرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب: وينتجون بفتح الياء وسكون النون بلا الف، والباقون: ويتناجون بالألف.(3/312)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
تفسّحوا في المجالس: توسّعوا. ولْيفسحْ بعضكم لبعض. فسح له في المجلس: وسّع له ليجلس. يفسح الله لكم: في رحمته ويوسع لكم في ارزاقكم. انشُزوا: انهضوا لتوسعوا للقادمين. يرفع الله الذين آمنوا: يعلي مكانتهم. ويرفع اهل العلم كذلك. ناجيتم الرسول: إذا أردتم الحديث معه. فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً: فتصدقوا قبل المناجاة. أأشفقتم: أخفتم. وتاب الله عليكم: رفع عنكم هذه الصدقة، ورخَّص لكم في المناجاة من غير تقديم صدقة.
بعد ان أدّب الكتابُ المؤمنين بأدب الحديث والبعدِ عما يكون سبباً للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان - علّمهم كيف يعاملون بعضَهم في المجالس، من التوسُّع فيها للقادمين، والنهوض اذا طُلب اليهم ذلك. وأشار إلى أن الله يُعلي مكانة المؤمنين المخلصين، والذين أوتوا العلم بدرجاتٍ من عنده {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
فالآية فيها أدبٌ جَمٌّ وتشمل التوسع في إيصال جميع انواع الخير الى المسلم وادخال السرور عليه، كما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: لا يزالُ اللهُ في عَوْنِ العبد ما دام العبدُ في عون أخيه.
ولما اكثر المسلمون من التنافُس في القُرب من مجلس الرسول الكريم لسماعِ أحاديثه، ولمناجاته في أمورِ الدين، وشَقّوا في ذلك عليه - أراد الله ان يخفّف عنه فأنزل قوله تعال:
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. . . .} .
اذا أردتم مناجاةَ الرسول فتصدّقوا قبل مناجاتكم له، ذلك خيرٌ لم وأظهرُ لقلوبكم. فإن لم تجدوا ما تتصدّقون به فإن الله تعالى قد رخّص لكم في المناجاةِ بلا تقديم صدقة، {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
{أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} .
ولما علم اللهُ أنهم تحرّجوا من تقديم الصدقات وإن كثيرا منهم لا يجدُ ما يأكل، عفا عنهم ورفع الصدقة وقال:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} .
لأن الصلاةَ تطهّر النفوس، والزكاة فيها نفعٌ عام للمؤمنين، واطاعة الله ورسوله خير ما يأتيه المؤمن ويتحلى به، {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فهو محيط بنواياكم وأعمالكم.
قراءات:
قرأ عاصم: بالمجالس بالجمع. وقرأ الباقون: بالمجلس على الافراد. وقرأ عاصم ونافع وابن عامر انشزوا بضم الشين. والباقون: إنشِزوا بكسر الشين، وهما لغتان.(3/313)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
ألم تر: أخبِرني، وهو اسلوب من الكلام يراد به التعجب واظهار الغرابة للمخاطب. الذين تولوا قوما الخ. . .: هم المنافقون واليهود. قوما غضب الله عليهم: هم اليهود. ما هم منكم ولا منهم: لأنهم مذبذبون. ويحلفون على الكذب: يعني يحلفون بأنهم معكم وهم كاذبون. جُنة: بضم الجيم، وقاية وسترا. استحوذ عليهم الشيطان: استولى عليهم.
هذه الآيات الخمسُ في المنافقين وأخبارهم، وكذِبِهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وسيأتي بعدَ أربَعِ سورٍ سورةٌ خاصة بالمنافقين.
ألم تر أيها الرسول إلى هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهودَ المغضوبَ عليهم أولياءَ يناصحونهم وينقولن إليهم أسرار المؤمنين! إنهم ليسوا من المؤمنين إلا في الظاهر، كما أنهم ليسوا من اليهود، {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء} [النساء: 143] .
ثم بين الله تعالى أنهم يَحلِفون الأيمان الكاذبة ليُظهروا أنهم مسلمون، ويَشهدوا ان محمدا رسولُ الله، والله يشهدُ إنهم كاذبون. لقد أعدّ الله لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في الدنيا، وأشدّ منه في الآخرة، وذلك على أعمالهم السيّئة وأقوالهم الزائفة وعدم ثباتهم على شيء.
{اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
لقد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وتستّروا بالأيمان الكاذبة فجعلوها وقايةً لأنفسهم من القتل. وبها انخدع كثيرٌ من المؤمنين ممن لا يعرِف حقيقةَ أمرِهم، وبهذه الوسيلة صلُّوا كثيراً من الناس عن سبيلِ الله، فلهم عذابٌ شديد الإهانة يوم القيامة.
ثم بين الله تعالى أن كلَّ ما عندَهم من أموالٍ واولاد لا يُغنيهم شيئا، ولا يدفع عنهم العذابَ الذي أُعِدَّ لهم.
{أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
اذكر لقومكَ أيها الرسولُ حالَهم يومَ يبعثُهم الله جميعا من قبورهم فيحلِفون له أنهم ما كانوا مشرِكين كما كانوا يحلِفون لكم في الدنيا، ويظنون انهم بِقَسَمِهِم هذا ينجون من عذابِ الله.
{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} فيما يحلفون عليه، كما جاء في قوله تعالى:
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
ثم بين الله السببَ الذي أوقعَهم في الضلال، وهو أن الشيطان استولى عليهم فغلَبَتْ أهواؤهم وتَبِعوا شهواتِهِم.
{فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} الشيطانُ الذي أغواهم. وأولئك هم جنودُ الشيطان وحِزبُه. {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} ؟(3/314)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
يحادّون: يعادون، يخالفونه فيما أمر ونهى. في الأذلّين: في أذلّ من خلَقَ الله. كَتَبَ اللهُ: قضى وحكم. أيّدهم: قواهم ودعمهم. بروح منه: بنور وعزم من عنده. يوادّون: يتقربون إليهم بالمودة والمحبة.
ان الّذين يخالفون أَوامر الله ونواهيَه، ولا يطيعون الرسول فيما شَرَعَ وبيّن - هم في عِداد الّذين بلغوا الغايةَ في الذِلّة والهوان. . بالقتلِ والأسرِ والهزيمة في الدنيا، وبالخِزي والنَّكالِ والعذاب في الآخرة.
وقد قضى الله وحَكَمَ في أُمّ الكِتابِ بأن الغَلَبةَ والنصر له ولرسُله، وقد صَدَق في ذلك.
{إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . متى أراد شيئاً كانَ، ولم يجدْ معارِضاً ولا ممانعاً على شرط ان يكون المؤمنون صادقين في إيمانهم يعملون بِجدّ وإخلاص، ويتّخذون لكلِّ شيء عدَّتَه.
ثم بين تعالى ان الإيمانَ الحقّ لا يجتمع مع موالاة أعداء الله، ممهما قرُبَ بهم النسبُ ولو كانوا آباءً او أبناءً او إخواناً او من العشيرة القريبة. وهذا معنى قوله تعالى:
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله. . . .}
لا تجدُ قوما يجمعون بين الإيمان باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر، ومَودَّةِ أعدائه مهما كانت قرابتُهم.
{أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} .
فهؤلاء الذين يُخلِصون لله ولا يوالون الجاحدين الذين يحادُّون الله ثَبَّتَ اللهُ في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم بقوّة منه، ويُدخِلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها لا ينقطع نعيمها، قد أحبَّهم اللهُ وأحبّوه ورضيَ عنهم ورضُوا عنه.
{أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .
لأنهم اهلُ السعادة والفلاح والنصر في الدنيا والآخِرة ونِعْمَتِ الخاتمة.(3/315)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
الذين كفروا: هم بنو النضير من اليهود، وذلك بنقضهم العهدَ بينهم وبين رسول الله. لأول الحشر: وهو جمعهم واخراجهم من المدينة. حصونهم: واحدها حصن، كان اليهود يسكنون منفردين عن العرب في قلاع مسوَّرة محصنة. فأتاهم الله: جاءهم عذابه. من حيث لم يحتسبوا: من حيث لم يخطر لهم ببال. يخرِّبون بيوتهم بأيديهم: كانوا يهدمون بيوتهم من قبل ان يغادروها. الجلاء: الخروج عن الوطن. اللينة: النخلة. شاقّوا الله ورسوله: خالفوهما وحاربوهما.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض. . . . .} .
هو الذي أجلى الذين كفروا من أهل الكتاب «وهم بنو النضير، اكبر قبائل اليهود» أجلاهم من ديارهم، وكان هذا اول مرة حُشروا فيها واخرجوا من المدينة فذهب بعضهم الى الشام، وبعضهم الى خيبر. وما ظننتم أيها المسلمون ان يخرجوا من ديارهم، لتوّتهم، وظنوا هم ان حصونهم تمنعهم من بأس الله. . فأخذهم الله من حيث لم يظنوا ان يؤخذوا، والقى في قلوبهم الرعب الشديد.
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} .
وكانوا يخرّبون بيوتهم ليتركوها غير صالحة للسكنى بعدهم، وتخرّبها ايدي المؤمنين من خارج الحصون ليقضوا على تحصنهم ويخرجوهم أذلاء.
{فاعتبروا ياأولي الأبصار} .
اتعظوا يا ذوي البصائر السليمة، والعقول الراجحة، بما جرى لهؤلاء القوم المتكبّرين المتجبّرين من حيث لم تنفعهم أموالُهم، ولا اسلحتهم.
وعلينا نحن اليوم ان نعتبر ولا نخاف من شدة تسلّح اليهود وما عندهم من قوة وأموال، فلو اتفقنا واتحدنا، وجمعنا شملَنا على قلبٍ واحد صمَّم على الجهاد، واعددنا لهم ما نستطيع من العدة - لكان النصر لنا بإذن الله، سيكون مآل اليهود كمآل اسلافهم المتبجّحين. ولا يمكن ان يأتينا النصرُ من الشرق ولا من الغرب فما النصر الا من عند الله، ومن عند انفسِنا وايماننا وعزمنا على استرداد اراضينا بأيدينا. عندها يكون الله معنا والنصر لنا بإذنه.
ثم بين الله تعالى أن الجلاء الذي كُتب عليهم، كان اخفَّ من القتل والأسر فقال: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار} .
ولولا ان الله قدّر جلاءهم عن المدينة، وخروجهم أذلاّء، لعذّبهم في الدنيا بما هو أفظعُ منه من قتلٍ او أسر، ولهم في الآخرة عذاب النار في جهنم وبئس القرار.
كلّ ذلك الذي اصابهم في الدنيا، وما ينتظرهم في الآخرة - إنما كان لأنهم عادوا لله ورسولَه أشدّ العداء، ومن يخالف الله ويعاديهِ فإن الله سيعاقبه اشدّ العقابز
{مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله} .
عندما حاصر الرسول الكريم واصحابه يهودَ بني النضير قطعوا بعض نخيلهم حتى يذلّوهم ويجبروهم على الاستسلام، فقال الله تعالى: أي شيء قطعتموه من النخل او أبقيتموه كما كان، فهو بأمر الله، فلا حرجَ عليكم فيه، ليعزّ المؤمنين، وليخزيَ الفاسقين المنحرفين.(3/316)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
ما أفاء الله على رسوله: ما رده الله من اموال بني النضير، والفيء: معناه في اللغة الرجوع. ومعناه في الشرع: ما أُخذ من أموال الاعداء من غير قتال. فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب: فما اسرعتم في السير اليه بخيل ولا إبل. من أهل القرى: من اهل البلاد التي تفتح بلا قتال. كي لا يكون دُولة بين الاغنياء: كي لا يتداوله الاغنياء بينهم دون الفقراء.
يبين الله تعالى هنا حكْم ما أخذ من اموال بني النضير بعد ما حل بهم من الإجلاء ويقول: إن الموال التي تركها بنو النضير في بيوتهم هي فيءٌ لله وللرسول يضعها حيث يشاء. . لأن ما افاءه الله وردّه على رسوله من أموالهم قد تم مع أنكم ايها المسلمون لم تسرعوا اليهم بالخيل ولا بالإبل ولم تقاتلوهم، بل نزلوا على حكم الرسول الكريم، فالله يسلّط رسله على من يشاء من عباده بلا قتال. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ قال: «كانت اموال بني النضير مما افاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقةَ سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّةً في سبيل الله تعالى» .
ثم بين الكلامَ في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الأعداء عامة فقال:
{مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ. . . .} .
ما ردّه الله على رسوله من أموال أهلِ القرى بغير قتال فهو لله، وللرسول، ولذي القربى من بني هاشم وبني المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس، ولابن السبيل المسافر الذي انقطع في بلد وليس لديه مال، يُعطى ما يوصله الى بلده.
{كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} .
انما حكمْنا بهذه الأحكام وجعلنا المال مقسما بين من ذكَرنا لئلا يأخذه الاغنياء منكم، ويتداولوه فيما بينهم، ويحرم الفقراء منه.
وما جاءكم به الرسول من الأحكام والتشريع فتمسّكوا به، وما نهاكم عنه فاتركوه. ثم حذّر الله الجميع من مخالفة أوامره ونواهيه فقال: {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} .
{لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} .
كذلك يعطَى من الفيء الذي افاءه الله على رسوله للفقراء المهاجرين الذي أُخرجوا من ديارهم وتركوا اموالهم طلباً لمرضاة ربهم، ونيلاً لثوابه، ونصرة الإسلام واعلاء شأنه، {أولئك هُمُ الصادقون} في ايمانهم وهجرتهم، فحق لهم من ربهم النعيم المقيم وجزيل الثواب.(3/317)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
الذين تبوَّؤا الدار: هم الانصار الذين سكنوا المدينة. ولا يجدون في صدورهم حاجة: الحاجة هنا: الحسد والغيظ. مما أوتوا: مما أُعطي المهاجرون من الفيء. ويؤثِرون: ويقدمون غيرهم على انفسهم، ولو كان بهم خَصاصة: ولو كانوا فقراء. ومن يوقَ شح نفسه: ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال. المفلحون: الفائزون. لا تجعل في قلوبنا غِلا: بغضا وحسدا. الذين نافقوا: اظهروا الإسلام واضمروا الكفر. ليولُّنّ الادبار: ليهرُبُنَّ. بأسُهم بينهم شديد: خلافاتهم بينهم كثيرة. وقلوبهم شتى: متفرقة ومملوءة بالبغضاء على بعضهم.
ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت انفسهم عن الفيء، ورضوا أن يكون للمهاجرين من اخوانهم، وقال: إنهم مخلصون في إيمانهم، ذوو صفات كريمة، وشيم جليلة، تدلّ على كرم النفوس، ونبل الطباع.
(1) فهم يحبّون المهاجرين، وقد أسكنوهم معهم في دورهم، وآخَوهم، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنهـ قال: قال المهاجرون: «يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم: حُسْنَ مواساةٍ في قليل، وحسنَ بذل في كثير! لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيّأ، حتى لقد خشينا ان يذهبوا بالأجر كله، قال: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم» .
والمهيأ: كل ما يريح الانسان من مكان او طعام. فعلّمهم الرسول الكريم ان يثنوا على اخوانهم الانصار ويدعوا لهم مقابل ما اكرموهم به.
(2) وهم لا يحسّون في انفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره.
(3) ويؤثرون اخوانهم المهاجرين على انفسهم ويقدّمونهم، ولو كان بهم حاجة، وهذا منتهى الكرم والايثار، وغاية التضحية. ولذلك ورد في بعض الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار.
ثم بين الله تعالى ان الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشحّ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم» رواه الإمام احمد والبخاري في: الأدب المفرد، والبيهقي.
وقال الرسول الكريم: «لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً» رواه الترمذي وابو يعلى عن انس بن مالك رضي الله عنهـ.
وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك، وانما ان يؤديَ الزكاة، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم انه قال: «بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف، وأعطى في النائبة» .(3/318)
ثم جاء المدحُ لمن تبع الانصارَ والمهاجرين، وساروا على طريقتهم في كل زمان ومكان الى يوم القيامة فقال تعالى:
{والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} .
وهذا يشمل المسلمين الذين اتبعوا الهدى وطبقوا الشريعة، في كل مكان وزمان.
كما جاء في سورة براءة الآية 100 {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
هؤلاء هم المؤمنون حقا، فهم يستغفرون لأنفسِهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان. (ويشمل هذا جميعَ الصحابة الكرامِ وتابعيهم وكلَّ من سار على هداهم) ، ثم يزيدون فيدْعون الى الله أن لا يجعلَ في قلوبهم حَسداً وحِقدا للمؤمنين جميعا، فكيف ببعضِ من يسبُّ كرامَ الصحابة، ويُبغضهم! عافانا الله من ذلك وطهّر قلوبنا من الغل والحسد والبغضاء.
فالقرآن تتجلّى عظمته في هذا الربط المتين: ربطَ أول هذه المة بآخرها، وجعلها حلقة واحدةً مترابطةً في تضامن وتكافل وتعاطف وتوادّ، ويمضي الخَلَفُ على آثار السلف، صفاً واحدا على هدف واحد، في مدار الزمان واختلاف الأوطان.
نسأل الله تعالى ان يجمع كلمةَ العرب والمسلمين، ويوحّدَ صفوفهم تحت رايةِ القرآن وسنة رسوله الكريم، انه سميع مجيب.
ثم يأتي الحديث عن المنافقين، وكَذِبهم وخداعهم، وعدم وفائهم بما قالوا لإخوانهم اليهود الذين اتفقوا على بُغض الرسول الكريم والمؤمنين، فيقول تعالى تعجّباً من كفرهم وكذبهم ونفاقهم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} .
الم تَعْجَبْ من حال هؤلاء المنافقين الذين خدعوا إخوانهم في الكفر، اليهودَ من بني النضير، حيث قالوا لهم اصمُدوا في دِياركم ولا تخرُجوا، فإننا سننصركم، وإن أُخرجْتم من المدينة لنخرجنَّ معكم، ولا نطيعُ في شأنِكم أحدا ابدا.
{وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
إن قاتلكم المسلمون قاتلنا نحن معكم. والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به.
ثم بين كذبهم بالتفصيل فقال:
{لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} .
وقد خرج بنو النضير من ديارهم أذلاء فلم يخرج المنافقون معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم، ولو نصروهم وقاتلوا معهم لانهزموا جميعاً.
ثم بين الله السببَ في عدم نُصرتهم لليهود، والدخول مع المؤمنين في قتال فقال:
{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} .
انكم ايها المسلمون اشدّ مهابةً في صدور المنافقين واليهودِ من الله، وذلك لأنهم قوم لا يعلمون حقيقة الإيمان.
ثم أكد جُبن اليهود والمنافقين وشدة خوفهم من المؤمنين فقال:
{لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} .
ان هؤلاء اليهود والمنافقين معهم قد ألقى اللهُ في قلوبهم الرعب، فلا يواجهونكم بقتالٍ مجتمعين، ولا يقاتلونكم إلا في قرى محصّنة او من وراء جدرانٍ يستترون بها.(3/319)
ذلك لأنهم متخاذلون، وهم في الظاهر أقوياء متّحدون، لكنهم في حقيقة الأمر قلوبُهم متفرقة، وبينهم العداوةُ والبغضاءُ والحسد.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} .
ثم بين الله ان هؤلاء قد سبقهم غيرُهم قبلَهم من يهودِ بني قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عنها {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وحالُنا اليومَ مع اليهود مثلُ حالهم في السابق، فهم في الظاهر أقوياء، عندهم أسلحة كثيرة وطائرات حديثة وصواريخ ودبابات، وهذا كله ليس سرَّ قوتهم، وانما سرُّ قوتهم خذلانُنا نحن وتفرُّقُ كلمتنا، ومحاربة بعضنا بعضا. فلو عدنا الى ديننا وجمعْنا شملنا واتحدنا وأعددنا العدة بقدر ما نستطيع - لهزمنا اليهود، فانّ بأسهم بينهم شديد وقلوبهم شتى، ومجتمعهم متفكك مملوء بالجريمة والفِسق والقذارة التي ليس لها مثيل. فمتى يفيق العربُ من سباتهم ويوحدون صفوفهم! لو اجتمعت العراق وسوريا والأردن وفلسطين اجتماعا حقيقيا لكفى هذا، وبإمكانهم وحدهم ان يهزموا اليهود ويستعيدوا أرضهم وكرامتهم.(3/320)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
لغد: يوم القيامة، كأنه من قربه يوم غد، وكل آت قريب. نسوا الله: لم يطيعوه وجروا وراء اهوائهم وملذاتهم. فأنساهم انفسهم: بما ابتلاهم من الغفلة وحب الدنيا، فصاروا لا يعرفون ما ينفعها مما يضرها.
في هذه الآيات الكريمة نصيحةٌ للمؤمنين وتعليم وتهذيب لهم أن يلزموا التقوى، ويعملوا الصالحات ويقدّموا الخيرات والمالَ والجاه للمحتاجين، حتى يجدوه امامهم يوم القيامة. وقد كرر الله تعالى الحديث على التقوى لما لها من فوائد وعليها يبنى المجتمع الصالح.
{واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . لا يخفى عليه صغيرة ولا كبيرة في هذا الكون الواسع.
ثم ضرب الأمثالَ لنا تحذيراً وإنذاراً من ان نقع في حب الدنيا، فننسى واجباتنا، ونغفُل عما ينقصنا فقال:
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله. . . . .} .
لا تكونوا كالذين نسوا حقوق الله وما عليهم من الواجبات، فأنساهم الله انفسَهم حتى اصبحوا كالحيوانات لا همَّ لهم الا شهواتهم وملذاتهم والجري وراء الدنيا.
{أولئك هُمُ الفاسقون} .
الخارجون عن طاعة الله، فاستحقّوا عقابه يوم القيامة. فالانسان له حقوق وعليه واجبات، والدنيا أخذٌ وعطاء، فلا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حِلْمَهُ، ولا خير في قول لا يراد به وجه الله.
ثم بين الله تعالى أن من يعمل الحسناتِ يذهب الى الجنة، وان من يعمل السيئاتِ يذهب الى النار، وانهم لا يستوون. فلا يستوي من يذهب الى النار يعذَّب فيها، ومن يذهب الى الجنة ينعُم فيها، {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} بكل ما يحبّون.(3/321)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
خاشعا: منقادا متذللا. متصدعا: متشققا. عالمَ الغيب: كل ما غاب عن حواسنا من العوالم التي لا نراها. الشهادة: ما حضر من الاجرام المادية التي نشاهدها. القدّوس: المنزه عن النقص. السلام: الذي ينشر السلام في هذا الكون والامان والنظام. المؤمن: واهب الأمن للخلق أجمعين. المهيمن: الرقيب الحافظ. العزيز: الغالبُ على امره. الجبار: الذي جَبَرَ خلقه على ما اراد، والعالي الذي لا يُنال. المتكبر: صاحب الكبرياء والعظمة المنفرد بها. الخالق: الموجِد للأشياء على مقتضى الحكمة. البارئ: المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها، والغرض الذي وجدت له. المصوِّر: موجد الاشياء على صورها ومُختلف اشكالها كما اراد. الأسماء الحسنى: الأسماء الدالّة على المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود، فنظم الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته.
في ختام هذه السورة الكريمة يُشيدُ الله تعالى بالقرآن الكريم، وأنه هو الإمام المرشجُ الهادي للمؤمنين، وان مِن عظمة هذا القرآن ان له قوةً فائقة لو أُنزل مثلها على جبلٍ لخشع ولانَ من خشية الله وكلامه، وان البشر أَولى ان يخشعوا لكلام الله وتَلينَ قلوبهم فيتدبّروا ما فيه ويسيروا على هديه.
{وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . في حكم القرآن، وعظمة مُنزله، ويهتدون بنوره الى سواء السبيل، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .
ثم وصف الله تعالى نفسَه بجليل الأسماء والصفات التي هي سرُّ العظمة والجلال، وذكر ان عظمةَ القرآن جاءت من عظمة الخالق، فأورد سبحانه احدَ عشر اسماً من أسمائه الحسنى فسّرناها باختصار في اول هذه الآيات، فهو الإله الذي لا ربَّ غيره {لَهُ الأسمآء الحسنى} يسبّح له ما في السموات وما في الارض وهو العزيزُ الحكيم.
وثد شرحنا التسبيح فيما مضى، وتجيء هذه التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى بحسن الختام.(3/322)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
تلقون اليهم بالمودَة: تودونهم وتخبرونهم بأخبارنا. يُخرجون الرسولَ وإياكم: من مكة. أن تؤمنوا بالله: من اجل ايمانكم بالله. سواء السبيل: الطريق القويم المستقيم. إن يثقفوكم: ان يظفَروا بكم. أرحامكم: قراباتكم.
تقدم الكلامُ عن سبب نزول هذه الآيات، في الصحابيّ حاطب بن أبي بلتعة، وهو صحابي من المهاجرين الذين جاهدوا في بدرٍ (وهؤلاء لهم ميزة خاصة) وانه كتب الى قريش يحذّرهم من غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة مع امرأة، وان الرسول الكريم كشف امره، وأرسل سيدنا علي بن ابي طالب مع عددٍ من الصحابة الكرام وأخذوا الكتاب من المرأة. وقد اعترف حاطب بذنبه، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: واللهِ ما كفرتُ منذ أسلمت، ولا غششتُ منذ آمنت، لكنّي كتبت الى قريش حمايةً لأهلي من شرهم، لأني لست قرشياً ولا يوجد لي عشيرةٌ تحميهم. فعفا عنه وقبل عذره. والآية عامة في كل من يصانع العدوَّ او يُطْلعه على أسرار المسلمين، او يتعاون معه. ومعناها:
يا أيها الذين آمنوا، لا تصادِقوا الأعداء، فلا تتخذوا اعداء الله واعداءَكم انصارا.
{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} .
تعطونهم المحبة الخالصة، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله، وقد اخرجوا رسول الله واخرجوكم من دياركم {أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ} لأنكم آمنتم بالله ربكم. فإن كنتم خرجتُم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلبِ رضاي فلا تُسِرّوا اليهم بالمحبة، أو تسرِّبوا إليهم الاخبار، وأنا أعلمُ بما أَسررتم وما اعلنتم.
{وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} .
ومن يتخذْ أعداءَ الله أولياءَ وانصاراً فقد انحرف وضل عن الطريق المستقيم. ذلك أن هؤلاء الذين تحبّونهم سراً، إن يظفروا بكم تَظْهَرْ لكم عداوتهم، ويمدوا إليكم أيديَهم وألسنتهم بالأذى والقتل وبكل ما يسوؤكم. وكم متنَّوا ان تكفروا بالله بعد إيمانكم، إنهم يودّون لكم كل ضرر وأذى في دينكم ودنياكم، فكيف بعد هذا تحبّونهم سرا، وتمدونهم بالأخبار!
ثم بين ان ما جعله بعضُ الصحابة من مودّتهم (للمحافظة على الأهل والولد) لا ينبغي ان يقدَّم على المصلحة العامة، وامورِ الدين فقال:
{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة} .
لا ينفعكم شيء يوم القيامة، لا قراباتكم ولا أولادكم، لا ينفع المرءَ في ذلك اليومِ الا العملُ الصالح والاخلاص في دينه وايمانه، واللهُ تعالى يفصِل بينكم يوم القيامة، فيذهب اهلُ النار الى النار، واهل الجنة الى الجنة، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
قراءات:
قرأ عاصم: يفصل بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد. وقرأ حمزة والكسائي: يفصِّل بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد المشددة. وقرأ نافع وابن كثير وابو عمرو: يفصل بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاج مبنيا للمجهول. وقرأ ابن عامر: يفصل بضم الياء وفتح الفاء والصاد المشددة. فهذه اربع قراءات والمعنى واحد لان الفعل فَصَل يَفصِل، وفَصَّل يُفصِّل بمعنى واحد.(3/323)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
الأسوة: بضم الهمزة وكسرها: القدوة. برَآءُ: جمع بريء يعني متبرئين منهم. لا تجعلنا فتنة للذين كفروا: لا تسلّطهم علينا فتنزل البلاء علينا بأيديهم. ومن يتولّ: ومن يعرِض.
بعد ان بيّن للمؤمنين خطر موالاة الكفار ولو كانوا من أقربائهم وأولادهم - جاء هنا يذكّرهم بما فعل جدُّهم إبراهيم (فإن قريشَ والعرب عامة يعتقدون ان نسبهم متصلٌ بابراهيم) وكيف تبرأ هو والذين هاجروا معه من أهلِهم وقومهم، وعادوهم، وتركوا لهم الديار، فهلاَّ تأسّيتم ايها المؤمنون بهذا النبي العظيم!
قد كانت لكم قدوة حسنةٌ تقتدون بها في أبيكم إبراهيمَ والذين معه، حين قالوا لقومهم: تبرأْنا منكم، ومن الآلهة التي تعبدونها من دوِ الله، لا يجمعُنا بكم شيء، كَفَرْنا بكم، وظهر بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء التي لا تزول أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده. . . فلا تجاملوهم أيها المسلمون ولا تُبدوا لهم الرأفةَ وتستغفروا لهم.
وأما قولُ إبراهيم لابيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} فإنما كان عن مَوْعِدَةٍ وعدها إياه، فلما تبيّن له انه عدوٌ للهِ تبرّأ منه، كما جاء في سورة التوبة الآية 114: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}
ثم بين الله كيف ترك إبراهيمُ والذين معه قومهم وأوطانهم والتجأوا الى الله:
{رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير} .
ربّنا قد اعتمدْنا عليك في جميع أمورنا، ورجعنا اليك بالتوبة، ومصيرُنا اليك. فاقتدوا بهم أيها المؤمنون.
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ واغفر لَنَا} .
ربّنا لا تجعلّنا بحالٍ نكون فيها فتنة للكافرين، بأن تُظهرَهم عينا فيفتنونا بذلك، واغفر لنا ذنوبنا، {رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
ثم كرر ما تقدّم للاقتداء بإبراهيم عليه السلام ومن معه فقال:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} .
لقد كان لكم أيها المؤمنون في إبراهيمَ والذين معه قدوةٌ حسنة في معاداتكم لأعداء الله، وهذه القدوةُ لمن كان يرجو لقاء الله في اليوم الآخر.
{وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} .
ومن يعرض عن هذا الاقتداء فقد ظلم نفسه، والله غنيّ عن إيمانه، بل عن جميع خلقه، محمود بأياديه وآلائه.
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم. . . . من الكافرين مودّةً بتوفيقهم للايمان، {والله قَدِيرٌ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقد صدقت نبوءةُ القرآن ففُتحت مكة، وأسلم كثيرٌ من المشركين الذين نهاهم الله عن مودّتهم، ودخل الناسُ في دين الله أفواجا.
قراءات:
قرأ الجمهور: إسوة بكسر الهمزة. وقرأ عاصم: أسوة بضم الهمزة وهما لغتان.(3/324)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
أن تبروهم: ان تحسنوا اليهم بكل خير. البر: كلمة تجمع معاني الخير والاحسان. تقسطوا اليهم: تعدلوا فيهم. المقسِطين: العادلين. ظاهَروا: ساعدوا. ان تولوهم: ان تكونوا لهم اصدقاء واحياء وانصارا.
في هاتين الآيتين الكريمتين يضعُ الله لنا قاعدةً عظيمة، ويبيّن أن دِينَ الاسلام دينُ سلام ومحبة وإخاء، فيقول: من عاداكم فعادُوه وقاتِلوه، أما الذين سالموكم ولم يقاتلوكم، ولم يخرجوكم من دياركم - فعليكم ان تسالِموهم وتكرموهم، وتحسِنوا اليهم، وتعدِلوا كل العدل في معاملتكم معهم، {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين.
أما الذين حاربوكم في دينكم ليصدّوكم عنه، وأجبروكم على الخروج من ديارِكم، وعاونوا على اخراجكم - فهؤلاء ينهاكم الله عن أن تتخذوهم أنصارا، بل قاتِلوهم وشدِّدوا عليهم {فأولئك هُمُ الظالمون} .
ولننظر الآن من هو عدوُّنا الذي اغتصب أرضنا، وشرّد منها أهلنا وأقرباءنا، ومن من الدول التي ظاهرتْهُ وعاونته على إخراج أهلِنا من ارضهم، وأمدّته بالسلاح والمال، فان هذه الدولة الكبرى هي عدوّنا الأول. . فاستيقظوا أيها العرب وتنبّهوا واعرفوا عدوكم. والأمر واضحٌ لا يحتاج الى دليل.(3/325)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
امتحنوهن: اختبروهن. علِمتموهن مؤمنات: تيقنتم من ايمانهنّ. فلا تَجعُوهن الى الكفار: لا ترجعوهن الى أزواجهن الكفار. وآتوهم ما انفقوا: اعطوا الازواج الكفار ما دفعوا من مهور لزوجاتهم. ولا جناح عليكم: لا اثم عليكم. ولا تمسكوا بعصَم الكوافر: لا تبقوا النساء الكافرات على عصمتكم وأبطلوا عقد الزواج بهن. واسألوا ما انفقتم: اطلبوا كل ما دفعتم لهن من مهر وغيره. ولْيسألوا ما انفقوا: وليطلبوا هم (يعني الكفار) ما انفقوا على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن اليكم. وان فاتكم شيء من ازواجكم الى الكفار: ان ذهبت احدى زوجاتكم الى الكفار. فعاقبتم: فظفرتم وكانت العقبى لكم يعني النصر.
في اتفاق صلح الحديبية جاء نص يقول: ان من جاء محمدا من قريش بغير إذنِ وليّه ردّه اليه، ومن جاء قريشا من المسلمين لم تردّه اليهم. . ومضى العهد بين الطرفين على أتمّه.
ثم جاءت نساء مؤمنات مهاجرات، وكانت أُولاهن أُم كلثوم بنتَ عقبة بن ابي معيط الأموية. فقدِم أخواها عمار والوليد، فكَلّما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرِها ليردها الى قريش، فنزلت هذه الآية. فلم يردّها الرسول الكريم وزوّجها زيدَ بن حارثة، ثم تزوجها الزبير بن العوام بعد استشهاد زيد، فولدت له زينب، ثم فارقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا، ثم توفي عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرا وتوفيت رحم الله الجميع.
فتبين من عمل النبي عليه الصلاة والسلام ان العهدَ كان يشمل الرجال دون النساء. والله تعالى يقول:
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} .
فاذا تبين لكم أنهنّ صادقات في ايمانهم فلا يجوز ان تردوهن الى الكفار، لأنهن: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
{وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} .
أعطوا الأزواج الكافرين ما انفقوا من مهرٍ وغيره على زوجاتهم المهاجرات اليكم. ولا حرج عليكم ان تتزوجوا هؤلاء المهاجرات اذا دفعتم اليهن مهورهن.
{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .
اذا بقيت زوجةٌ من الزوجات في دار الكفر ولم تسلم فلا تتمسكوا بعقد زواجها وأبطِلوه. كذلك اذا لحقت زوجة بدار الكفر فأبطِلوا عقدها، فانها تعتبر طالقة.
{وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} .
اذا كان لكم مهر عند زوجة في دار الكفر فلكم ان تطلبوه، واذا جاءت زوجة أحد الكفار وأسلمت وهاجرت فعلى من تزوَّجها ان يدفع ما عليها لزوجها السابق.
{ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هذا التشريع هو حكم الله، يحكم به بينكم، فاتبعوه ولا تخالفوه، والله عليم بمصالح عباده، حكيم في كل ما يفعل.
{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} .
إن ذهبت زوجةٌ من زوجاتكم الى الكفار مرتدةً عن دينها، ولم يردّوا الى زوجِها المهرَ الذي دفعه، ثم حارتموهم، فأَعطوا الذين ذهبت زوجاتُهم مثلَ ما انفقوا، وذلك من الغنائم التي تكسبونها من الكفار.
{واتقوا الله الذي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} امتثلوا اوامره، وتقيدوا بأحكامه ان كنتم صادقين في ايمانكم.
قراءات:
قرأ ابو عمرو واهل البصرة: ولا تمسكوا بفتح التاء وبتشديد السين المفتوحة. والباقون: ولا تمسكوا بضم التاء واسكان الميم وكسر السين. وأمسك ومسَّك لغتان.(3/326)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
يبايعنك: يعاهدنك على الطاعة والالتزام بالاوامر واجتناب النواهي. ببهتان: بباطل وكذب. غضبَ الله عليهم: طردهم من رحمته. يئسوا من الآخرة: يئسوا من ثوابها لأنهم لم يؤمنوا بها. كما يئس الكفار من اصحاب القبور: لانهم يعتقدون انهم لا يرجعون.
يا ايها النبي إذا جاءك المؤمناتُ يعاهدنك ويقدّمن لك الطاعة، ويعبدن الله ولا يشركن به شيئا، ولا يسرقن من مال احد، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادَهن كما كان يفعل اهل الجاهلية، ولا يُلحقن بأزواجهنّ من ليس من اولادهم بهتانا وكذبا يختلقنه بين ايديهن وارجلهن، ولا يخالفنك في معروف تدعوهنّ اليه - فعاهِدْهن على ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر الذنوب جميعا، ويشمل عباده برحمته.
ثم كرر الله النهيَ هنا عن موالاة المشركين. فقد بدأ اولُ السورة بنداء المؤمنين ونهيهم عن موالاة المشركين، ثم خُتمت بتكرار النهي عن موالاتهم، وأن الله غضبَ عليهم وطردَهم من رحمته. . والغرض هو تحذير المؤمنين من اعداء الله، وان لا يأمنوهم على شيء، ولا يركنوا الى اكاذيبهم ودسائسهم.
ثم بين أوصافهم ومعتقداتهم بقوله: {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} .
انهم لا يرجون لقاء الله ولم يؤمنوا بالبعث، كما يئس الكفار من بعث موتاهم مرة اخرى.
نسأل الله حسن الختام، والحمد لله رب العالمين.(3/327)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
كبر مقتاً: ما أعظمه من بغض. المقت أشد البغض، ويقال رجل مقيت وممقوت اذا كان مبغضا للناس. بنيان مرصوص: بنيان محكم كأنه قطعة واحدة. زاغوا: انحرفوا عن الحق. أزاغ الله قلوبهم: صرفها عن قبول الحق.
{سَبَّحَ لِلَّهِ. .}
قدّس اللهَ ونزّهه كلُّ شيء في هذا الكون: بعضُها بلسان الحال، وبعضها بلسان المقال. وقد تقدم ان كل شيء في هذا الوجود يسبّح الله، ويشهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال، وهو الغالبُ على كل شيء، الحكيم في تدبير خلقه.
وبعد ان وصف نفسَه بصفات الكمال، وجّه المؤمنين الى الاخلاق الفاضلة، والصدق في القول والعمل، فخاطبهم بقوله:
{ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} ّ.
قال ابن عباس: كان اناس من المؤمنين يقولون: لَوَدِدْنا ان الله دلّنا على أحبِّ الاعمال اليه فنعمل به، فأخبر الله نبيّه ان احب الاعمال اليه ايمانٌ بالله لا شكّ فيه، وجهادٌ في سبيله. فلما فُرضَ الجهادُ كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقّ عليهم أمرُه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم بيّن الله شدة قبحِ مخالفة القول للعمل وأنه بلغ الغاية في بُغض الله له فقال:
{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
إن أبغضَ شيء عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون. فتحَلُّوا بالصدق، والوفاء بالوعد، وجميل الخصال تنتصروا.
ثم مدح الذين صدقوا وقاتلوا في سبيله بعزم واخلاص فقال:
{إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .
ان الله تعالى يحب النظامَ في كل شيء، وهو يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله منتظمين في أماكنهم كأنهم بنيانٌ متلاحمُ الأجزاء، كأنه قطعة واحدة، فالنظام أساسُ بنيان الأمة، وان وعدَ الله حقّ، وقد وعد المجاهدين بالنصر إذا أخلصوا وصدَقوا وحافظوا على النظام. وقد سبقتنا الأممُ المتحضّرة بالنظام ودقة المحافظة عليه، في جميع أعمالها.
والجهادُ يبدأ في البيت بالتربية الاسلامية الصحيحة البعيدة عن التزمُّت والتعصب،
وفي المدرسة وفي المزارع والحقول، والتجارة، وفي المصانع، وباكتساب العلوم وإجادتها واتقان استعمالها كما اتقنها أسلافُنا الأولون. فالصناعة والعلم والزراعة من الامور الضرورية في حياتنا، فاذا أتقنّاها باتَ يمكننا ان نجاهدَ جهادا حقيقيا، فلا جهادَ إلا بعلمٍ وعمل وتصنيع.
وبعد ان هذّب المؤمنين وعلّمهم ان يكونوا صادقين في أقوالهم وافعالهم، وحضّهم على اتّباع النظام في الجهاد - ذَكَرَ أن حالهم يشبه حالَ موسى مع قومه حين ندبَهم للقتال فلم يطيعوه، بل آذوه أشدَّ الايذاء، فوبّخهم الله على ذلك بقوله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي. . . .} .
اذكر يا محمد لقومك حين قال موسى لقومه: يا قومي، لمَ تُؤذونني وتخالِفون أَمري، وانتم تعلمون أنّي رسولُ الله اليكم؟
فأصرّوا على المخالفة والعصيان.(3/328)
فلما أصروا على الانحراف، صرف الله قلوبهم عن الهدى {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} الذين خرجوا عن طاعته.
وأتى بمثلٍ آخر يشبه حالَهم، وهو بنو اسرائيل حين قال لهم عيسى: إني رسولُ الله وإني مصدّقٌ بالتوراة، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، واني مبشِّر برسولٍ سيأتي من بعدي اسمه أحمد، وقد جاء هذا التبشير صريحا في التوراة والانجيل.
{فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} .
فلمّا جاء الرسولُ الكريم احمدُ، عليه صلوات الله وسلامه، بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة، كذّبوه وقالوا: هذا الذي جئتنا به سحرٌ مبين.
ومثلُ هذه الآية قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] .
وفي هذا تسلية لرسوله الكريم على ما أصابه من قومه ومن غيرهم من الجاحدين، وأن الانبياء مِن قبله نالهم الأذى وكذّبهم أقوامهم. وفيه ايضا تهذيبٌ وتربية للمؤمنين بان لا يؤذوا النبي بل يُخلِصوا في ايمانهم.(3/329)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
الاسلام: معناه هنا الاستسلام والانقياد لأمر الله. نور الله: دينه الذي يدعو اليه الرسول الكريم. بأفواههم: يعني بأكاذيبهم واباطيلهم. والله متم نوره: والله مظهرٌ دينَه، وقد صدق. بالهدى: بالقرآن. ودين الحق: الدين الصحيح. نصر من الله وفتح قريب: فتح مكة. الحواريون: الأصفياء والخلاّن. انصار الله: الناصرون لدينه. ظاهرين: غالبين.
من أشدُّ ظلماً وعدواناً ممن اختلقَ على الله الكذب، وهو يدعو الى الاسلام! لقد دعاهم الرسولُ الكريم الى نبذ الشِرك، ودعاهم الى الايمان بالله وحده فلم يؤمنوا، وأثاروا حوله الشكوك والافتراءات، {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} الّذين يفترون على الله الكذب.
ثم بين الله تعالى أنهم حاولوا إبطالَ الدِين وردَّ المؤمنين عنه، لكنّهم لم يستطيعوا وخابوا في سعيهم فقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} .
ان هؤلاء الجاحدين من قريشٍ، وبني اسرائيل في المدينة، والمنافقين معهم - حاولوا القضاءَ على الإسلام بالدسائس والأكاذيب فخذلَهم الله تعالى، وأظهر دِينه فهو الدينُ القيم الذي انار الكون، وخاب سعيهم.
{والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} .
ثم بين الله تعالى أنه ارسل رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن الذي هدى الناس وأنار الون، وبدينِ الاسلام الحق {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} . وقد وردت هاتان الآيتان في سورة التوبة، مع تغيي ربسيط في الالفاظ في الآية الأولى.
وبعد ان حث على الجهاد في سبيله، ونهى المسلمين ان يكونوا مثلَ قوم موسى او قوم عيسى - بيّن هنا ان الايمان بالله والجهادَ في سبيله بالمال والنفس تجارةً رابحة، لأن المجاهدين ينالون الفوز بالدنيا، فيظفر واحدهم بالنصر والغنائم وكرائمِ الاموال والثوابَ العظيم في الآخرة اذ يحظى بالغفران، ورضوان الله، والخلود في جنات عدن.
فهذه هي التجارة الرابحة، الثبات على الايمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بأموالكم وانفسكم، وذلك هو الخير العظيم، ثم يتبعه الغفران، والخلود في {جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم} وأيّ فوز اعظم من هذا!!
ثم أتبع ذلك كله ببشرى عظيمة يحبها المؤمنون وينتظرونها وهي:
{وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}
نعمة كبرى تحبونها: النصر من الله، وفتح مكة. وهو آت قريب. وقد أنجز الله وعده.
{وَبَشِّرِ المؤمنين} يا محمد بهذه النعم، وان الله تعالى نصَرَهم لأنهم آمنوا حقيقة، وجاهدوا جهاداً كبيرا ولم ينتظروا من أحدٍ ان يساعدَهم وهم قاعدون. . كما يفعل العرب والمسلمون اليوم.
ثم امر الله تعالى المؤمنين ان يعملوا ويجدّوا ويكونوا انصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتناحروا ويتحاربوا، وان لا يتوكلوا فيقعدوا ويطلبوا النصر، بل عليهم ان يعملوا ويجاهدوا حتى يكتب الله لهم النصر. فقالك
{ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله} فاستعدّوا وأعدّوا من قوتكم ما استطعتم، ولا تنتظروا من أعدائكم ان يحلّوا لكم قضيتكم وينصروكم.(3/330)
وكيف ينصرونكم والبلاء منهم، وهم الذين يدعمون عدوكم ويمدّونه بالمال والسلاح!!
وخلاصة القول: كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم واستعدّوا دائما، كما استجاب الحواريّون لعيسى.
{فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} .
وانتم أيها المسلمون في هذا العصر اذا كنتم تريدون ان تبقوا في بلادكم وان تستردوا الاراضي المقدسة وما اغتُصب من وطنكم، على يد اليهود والدولة الكبرى حليفتهم والمؤيدة لهم - فجاهدوا جهادا حقيقيا في سبيل الله ينصركم الله، وتصبحوا ظاهرين غالبين.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف: متم نوره بضم الميم والاضافة بجر نوره. والباقون: متم نوره بتنوين متم، ونصب نوره. وقرأ ابن عامر: ننجيكم من عذاب أليم بفتح النون الثانية وبتشديد الجيم. والباقون: ننجيكم بضم النون الأولى واسكان الثانية وكسر الجيم دون تشديد. وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو: كونوا انصاراص لله بالتنوين. وقرأ الباقون: كونوا انصار الله بالاضافة. وقرأ نافع وحده: من انصاريَ الى الله بفتح الياء. والباقون: انصاري الى الله.(3/331)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
القدّوس: صفة من صفات الله ومعناها: المنزه عن النقائص. الأُميون: هم العرب، لأنهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة إلا نسبة قليلة منهم. يزكيهم: يطهّرهم من الشرك وآخرين لمّا يلحقوا بهم: وغيرهم من الناس سيأتون بعدهم.
يسبّح لله وينزّهه عما لا يليق به كلُّ ما في هذا الوجود من بشرٍ وحيوان وشجر وجماد، هو الملكُ القُدّوس المنزه عن النقائص، المتصفُ بالكمال، {العزيز الحكيم} .
والله تعال ىهو الذي ارسلَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون، كي يتلو عليهم القرآن، ويزكّيهم بالاخلاق الفاضلة ويطهرهم من الشرك وعبادة الاوثان، ويعلّمهم الشرائع والعلم النافع ليقودوا العالم وينشروا القِيَم الفاضلة في الشرق والغرب. . وقد كان ذلك من أولئك الأميين بفضل الاسلام وتحت راية القرآن.
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}
وأي ضلالٍ اكبر من عبادة الاصنام وإتيان الفواحش، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهـ يخاطب النجاشيّ ملكَ الحبشة لما هاجروا اليه:
«أيها الملك كنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجِوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه. فدعانا الى الله لنوحّده ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الامانة وصلة الرحم، وحُسن الوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكْل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمَرَنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.»
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم}
وبعثه الله تعالى الى جماعات آخرين من العرب وغيرِهم من جميع العالم لم يجيئوا بعد، سيأتون ويحملون مِشعلَ الهداية وينشرون نور الاسلام في مشارق الارض ومغاربها. وهذا يعني أن هذه الأمة المباركة موصولةُ الحلقات ممتدة في جميع اطراف الأرض على مدى الزمان، تحمل هذه الأمانةَ وتُخرج الناس من الظلمات الى النور. والتاريخُ شاهد على ذلك، وهذه الآية من دلائل النبوة، ومن الأدلّة على ان القرآن من عند الله.
{وَهُوَ العزيز الحكيم} والله ذو العزة والسلطان.
{ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم}
إن ذلك الاختيارَ من الله، اختيارَ رسوله الكريم في هذه الأمة التي هي خير أمةٍ أُخرجت للناس - فضلٌ كبير من الله لا يَعدِله فضل، وتكريم كبير لأمة الاسلام السابقين واللاحقين منهم.
نسأل الله تعالى ان يرد زعماء هذه الأمة الى دينهم، ويبصّرهم شئون أمتهم ويهديهم سواء السبيل.(3/332)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
حُملوا التوراة: عُلِّموها وأمروا ان يعملوا بها. ثم لم يحملوها: لم يعملوا بها. الأسفار: جمع سِفر وهي الكتب، السفر الكتاب. هادوا: تهوّدوا يعني: اليهود. أولياء الله: أحبّاء الله. بما قدّمت أيديهم: بسبب أعمالهم وكفرهم. الغيب: ما غاب علمُه عن الخلق. والشهادة: ما شاهدوه وعلموه.
الكلام في هذه الآيات الكريمة عن اليهود وكَذِبهم، وتعنُّتِهِم، وتبجُّحهم، فبعد ان منّ الله على هذه الأمة بإرسال رسول من أنفسِهم. قال اليهود: إن هذا الرسولَ لم يُبعث اليهم، ولذلك يردّ الله عليهم مقالهم بأنهم لو عملوا بالتوراة وفهموها حقَّ الفهم، لرأوا فيها وصفَ النبي الكريم والبشارة به، وانه يجب عليهم اتّباعه، لأنه رسول ورحمة للعالمين.
وما مثلُهم في حَملِهم للتوراة وتركهم العملَ بها الا كمثل الحمار الذي يحمل الكتبَ ولا يفهم منها شيئا، ولا يجديه حملُها نعفا.
ثم زاد في توبيخهم بقوله:
{بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
وكيف يهتدون وهم متكبرون وقد رانَ الضلالُ على قلوبهم؟ .
ثم زاد الله تعالى في توبيخهم على تماديهم في الغيّ والضلال بأن تحداهم أن يتمنّوا الموت اذا كانوا صادقين في زعمهم انهم وحدَهم أحباءُ الله وأولياؤه. فقال:
{قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
قل لهم ايها الرسول: أيها اليهود، إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأنكم أحباء الله وحدكم، فتمنوا من الله الموتَ حتى تذهبوا اليه ان كنتم صادقين، وتلاقوا ربكم.
ثم أخبر الله تعالى بأنهم لن يتمنوا الموت ابدا، لما يعلمون من سوء أفعالهم وكذبهم على الله وعلى الناس، {والله عَلِيمٌ بالظالمين} لا يخفى عليه شيء.
ثم أخبر أن الموتَ عاقبة كل حيّ، لا مهربَ منه فقال:
{قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قل لهم أيها الرسول: إنكم ميتون، ولا مهرب لكم من الموت، ثم تُرجَعون الى خالقكم الذي يعلمُ السر والعلانية، فيخبركم بما كنتم تعملون، وتحاسَبون على كل ما قلتموه وعملتموه. وأيّ تهديد ووعيد أشد من هذا القول لو كانوا يعقلون!!(3/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
اذا نودي للصلاة: اذا أُذّن لها. فاسعَوا الى ذكر الله: فامشوا الى الصلاة. وذروا البيع: اتركوه. فاذا قضِيت الصلاة: أُدّيت وانتهت. فانتشِروا: تفرقوا في طلب الرزق والعمل. اللهو: كل ما يلهى عن ذكر الله. انفضّوا: انصرفوا.
الحديثُ في هذه الآيات الكريمة عن صلاةِ الجمعة، وهي ركعتان بعد خطبتين يلقيهما الإمام، وهي فرضُ عَين، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنّة والاجماع.
وتجب صلاةُ الجمعة على المسلم الحرّ العاقلِ البالغ المقيمِ القادرِ على السعي إليها، ولا تجب على المرأة والصبيّ، والمريضِ والمسافر، وكلِّ معذور مرخَّص له في ترك الجماعة، كعذر المطر والوحل والبرد ونحو ذلك، ولا تصحّ إلا جماعة.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل يوم الجمعة، وفضل الصلاة فيها، والحثّ عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب النظيفة والطِّيب.
ويجوز للنساء والصبية ان يحضروا الجمعة، فقد كانت النساء تحضر المسجدَ على عهد رسول الله وتصلّي معه. ومن صلى الجمعةَ سقطت عنه فريضة الظهر، ومن أراد زيادة فليرجع الى كتب الفقه.
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع}
يا أيها الذين آمنوا: إذا أُذَّن للصلاة يوم الجمعة فاذهبوا الى المسجد لحضور الصلاة وذِكر الله، واتركوا البيعَ وكلَّ عمل من الاعمال، وامشوا الى الصلاة بسَكينة ووقار، ولا تسرعوا في مشيكم. والأفضلُ ان يبكّر الانسان بالذهاب الى المسجد، فاذا لم يستطع فليمشِ الهوينا. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ سمع جلبةَ رجالٍ، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا الى الصلاة. قال: فلا تفعلوا، إذا اتيتم فامشُوا وعليكم السَكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا «.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
ذلك الذي أُمِرْتم به أنفعُ لكم ان كنتم من ذوي العلم الصحيح، فصلاةُ الجمعة عبادة من العبادات الممتازة لأنها تنظم المسلمين وتعوّدهم على النظام، وفيها الخطبة فيها موعظةٌ حسنة وتعليم للمسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
روى الامام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» من اغتسلَ يوم الجمعة، ومسَّ من طِيب أهله إن كان عنده، وليس أحسنَ ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدا، ثم أنصتَ اذا خرج إمامُه حتى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى «.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فاذا أديتم الصلاة فتفرقوا في الأرض لمتابعة أعمالكم ومصالحكم الدنيوية التي فيها معاشُكم، واطلبوا من فضلِ الله ما تشاؤون من خَيري الدنيا والآخرة، واذكُروا الله بقلوبكم وألسنتِكم كثيراً، لعلّكم تفوزون بالفلاح في الدنيا والآخرة.(3/334)
هذا هو روح الاسلام: الجمعُ بين المحافظة على الجسم والروح معا، وهذا هو التوازن الذي يتّسم به الدين الاسلامي، كما جاء في قوله تعالى: {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [القصص: 77] . هل هناك أجملُ وأحلى من هذا الكلام؟ .
{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} .
روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة اذ قدمت عِير (ابل محمَّلة طعاما وغي رذلك من الشام) فابتدرها الناس حتى لم يبق في المسجد الا اثنا عشر رجلاً انا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} . . .
والذي قدِم بهذه التجارة دِحْيةُ الكلبي من الشام، وكانت العادةُ إذا قدمت هذه العير يُضرب بالطبل ليؤذَنَ الناسُ بقدومها، فيخرجوا ليبتاعوا منها، فيخرج الناس. فصادف مجيءُ هذه العِير وقتَ صلاة الجمعة، فترك عدد من المصلّين الصلاة وذهبوا اليها. فعاتبهم الله على ذلك وافهمهم ان اصلاة لها وقتٌ محترم ولا يجوز تركها. ثم رغّبهم في سماع العظات من الأئمة وان الله عنده ما هو خير من اللهو ومن التجارة، فقال:
{قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين}
فاطلبوا رزقه وتوكلوا عليه، ولا يأخذ كل انسان الا ما كُتب له. والله كفيل بالأرزاق للجميع.
وكان عراك بن مالك، رضي الله عنهـ، اذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إنّي أجبتُ دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتَني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. عراك هذا من التابعين من الفقهاء العلماء.(3/335)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
المنافق: هو من يُظهر الايمان ويبطن الكفر. جنة: بضم الجيم، وقاية. طبع: ختم عليها. لا يفقهون: لا يعلمون. تعجبك اجسامهم: لصباحتها وتناسُب اعضائها. تسمع لقولهم: لفصاحتهم وحسن حديثهم. خشُب مسندة: جمع خشبة، يعني انهم أجسام فارغة لا حياة ليها. يحسبون كل صيحة عليهم: فهم لشعورهم بالذنب وبحقيقة حالهم، يظنون أن كل صوت او حركة عليهم. قاتلَهم الله: لعنهم الله وطردهم من رحمته.
يؤفكون: يصرفون عن الحق. لوَّوا رؤوسهم: أمالوها استهزاء. يصدّون: يعرِضون.
لقد وصف الله تعالى المنافقين هنا بأوصاف قبيحة في منتهى الشناعة، فهم كذّابون يقولون غير ما يعتقدون، قد تستّروا بأيمانهم، يحلِفون كذبا بالله سَتراً لنفاقهم وحقناً لدمائهم، وهم يصدّون الناس عن الاسلام، ويأمرونهم أن لا ينفقوا على المسلمين. وانهم جُبناء، فرغم ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم يظلون في خوف دائم، يظنّون كل صيحة عليهم.
ولذلك كشف أمرهم هنا بوضوح فقال تعالى:
{إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} .
فالله تعالى يخبر الرسول الكريم أن المنافقين عندما يأتون اليه ويحلفون عنده بانهم مؤمنون به - يكونون غير صادقين، والله يعلم ان سيدنا محمداً رسول الله، ولذلك أكد بيان كذبهم بقوله:
{والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ}
كذبوا فيما أخبَروا به، لأنهم لا يعتقدون ما يقولون، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] .
ثم بين انهم يحلفون كذباً بأنهم مؤمنون حتى يصدّقهم الرسول الكريم، ومن يغتَرُّ بهم من المؤمنين.
{اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
جعلوا أيمانهم الكاذبة وقايةً وستراً لهم من افتضاح امرهم، فصدوا الناس عن سبيل الله. فما أقبح ما هم عليه من الكفر والكذب!!
ثم بين الله تعالى انهم آمنوا بالاسلام قولاً ظاهرا، ولكنهم كفروا به عملاً، فطبع الله على قلوبهم {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} .
ثم وصف هيئاتهم الظاهرة والباطنة، فأجسامُهم في الظاهر حسنة تُعجِب الناس، ومنطقهم حسن، ولكلامهم حلاوة، أما في الباطن فهم خُشُبٌ لا فائدة فيها، اشباح بلا ارواح، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم.
ثم وصفهم بالجبن والذلة اذا سمعوا اي صوت او حركة ظنّوا انهم المقصودون، وان أمرهم قد افتُضِح: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وأنهم هالكون لا محالة. {هُمُ العدو فاحذرهم} ايها الرسول ولا تأمنهم ابدا.
ثم زاد في ذمهم وتوبيخهم فقال:
{قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ} لعنهم الله وطردَهم من رحمته كيف يُصرَفون عن الحق الى ما هم عليه من النفاق.
ولما افتضح امرهم ونزل القرآن بصفتهم - جاءهم اقرباؤهم، وقالوا لهم: افتضحتم بالنفاق، فتوبوا الى الله واذهبوا الى الرسول واطلبوا ان يستغفر لكم، فأمالوا رؤوسهم استهزاءً واستكبارا، ولم يقبلوا ذلك.
ثم بين الله ان هؤلاء المنافقين لا فائدة منهم، ولن ينفع معهم أيُّ شيء بقوله تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} .
فالاستغفار وعدمه سِيّان، لا يُجديهم نفعا، لأن الله كَتَبَ عليهم الشقاء، بما كسبتْ أيديهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: خشب باسكان الشين. والباقون: خشب بضم الخاء والشين. وقرأ نافع: لووا رؤوسهم بفتح الواو الأولى بلا تشديد، والباقون: لووا رؤوسهم بتشديد الواو الاولى المفتوحة.(3/336)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
حتى ينفضّوا: حتى يتفرقوا. ليُخرجنّ الاعزُّ منها الأذلَّ: يعني ان المنافقين هم اصحاب العزة، والمسلمين هم الاذلاء كما يزعمون. لولا أخّرتيني: هلاّ أخّرتني.
عندما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني المصطَلَق (وهم قوم من خزاعة من القحطانيين) وهاجمهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد قرب الساحل - هزمهم وساق إبلهم واموالهم ونساءهم سبايا. وكان في تلك الغزوة رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ. وقد وقع شجارٌ بين غلام لعمر بن الخطاب وغلام لعبد الله بن ابي، وكاد يقع شر كبير بين المهاجرين والانصار لولا ان تدخّل الرسول الكريم وحسم الخلاف وسار بالناس باتجاه المدينة.
في هذه الاثناء قال عبد الله بن ابي: لقد كاثَرنا المهاجرون في ديارنا، واللهِ ما نحن وهم الا كما قال المثل: «سَمِّنْ كَلبك يأكلك» أما واللهِ لئن رجعنا الى المجينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل، ثم قال لأتباعه: لو أمسكتم عن هذا وذويه فضلَ الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفِقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمد.
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقَ هذا المنافق، فقال له: فكيف اذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل اصحابه؟
ثم قال رسول الله لعبد الله بن أُبي: أنت صاحبُ هذا الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي انزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئا من ذلك، وان الذي بلَّغك لكاذب. فنزلت هذه الآيات.
{هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} .
هؤلاء المنافقون - عبد الله بن ابي وأتباعه - يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله من المؤمنين حتى يتفرقوا عنه، {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} ولكنهم نسوا ان الله هو الرازق، وله جميع هذا الكون وما فيه من ارزاق يعطيها من يشاء، {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} لجهلهم بسنن الله في خلقه، وانه كفل الارزاق لعباده في اي مكان كانوا متى عملوا وجدّوا في الحصول عليها.
وهم الذين {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} يعني بذلك عبد الله بن أُبي ومن معه من المنافقين، {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فالله له العزة والغلبة، ولمن اعزه الله من الرسول الكريم والمؤمنين، {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} .
روي ان عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وكان من خيار الصحابة المؤمنين عندما اشرف على المدينة وقف وسلّ سيفه وقال لابيه: لله عليَّ ان لا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل. فلم يبرح حتى قال عبد الله بن ابيّ ذلك.
وبعد ان بين حالَ المنافقين وفضحهم وكشف دسائسهم ومؤامراتهم اتجه الى المؤمنين يؤدبهم بأدب القرآن، ويذكّرهم بان الاموال والاولاد والدنيا بأسرها لا قيمة لها من غير إيمان خالص، وانفاق في سبيل الله، وان كل انسان له اجل لا بد منتهٍ اليه، والله خبير بما يعملون.(3/337)
فعلى المؤمنين ان لا يكونوا مثل المنافقين، فلا تلهيهم اموالهم ولا اولادهم عن ذكر الله آناء الليل واطراف النهار، وعليهم ان يؤدوا ما فُرض عليهم من العبادات. ثم أمرهم ان ينفقوا اموالهم في سبيل الله، ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، فيقول احدهم: {رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} . ولكل نفس اجل لا تعدوه، وعمر لا يزيد ولا ينقص {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ} فعليكم ان تستعدوا للرحيل قبل حلول الأجل، وهيئوا الزاد ليوم المعاد. {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [البقرة: 197] .
ثم حذّرنا جميعا وانذرنا بانه رقيب على الجميع في كل ما يأتون ويذرون فقال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وهكذا يربينا الله تعالى بهذا القرآن الكريم.
قراءات:
قرأ الجمهور: فاصدق وأكن بجزم أكن على محل أصدق. كان الكلام هكذا: ان اخرتني أصدَّق واكن. وقرأ ابو عمرو وابن محيصن ومجاهد: واكون بانلصب عطفا على اصدق، والله أعلم، والحمد لله وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(3/338)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
ذات الصدور: الضمائر والسرائر. النبأ: الخبر الهام. وبالَ أمرِهم: عاقبة اعمالهم السيئة، وأصلُ الوبال: الثقل والشدة، والوابل: المطر الشديد، والطعام الوبيل: الطعام الثقيل على المعدة. البينات: المعجزات.
تقدم الكلام على معنى التسبيح، وإن كل شيء في الوجود يسبح لله، وله الحمد على جميع ما يخلق ويقدّر لأنه مصدرُ الخيرات، ومفيض البركات.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
له قدرة مطلقة لا تتقيّد بقيد.
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ. . . .}
هو الذي خلقكم أيها الناس، فمنكم من كفر وجحد الألوهية، ومنكم المؤمن المصدّق، وفي الحديث الصحيح: «كلّ مولودٍ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانِه او ينصّرانه او يمجّسانه» .
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
فهو رقيب على المخلوقات فيما تعمل، فيجازيهم على اعمالهم.
ثم ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتمّ ما يكون من الحكمة والعدل فقال:
{خَلَقَ السماوات والأرض بالحق وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير} .
خلق هذا الكونَ بالحكمة البالغة، وصوّر بني الانسان في أحسنِ تقويم، واليه المرجعُ يومَ القيامة فينبئكم بأعمالكم، ويذهبُ كل إنسانٍ الى مصيره المحتوم.
ان عِلمه محيطٌ بهذا الكون العجيب لا تخفى عليه خافية، وإن علمه لَيخترقُ الأنفس فيعلم ما في نفوسكم مما تُسرون وتعلنون، {والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور} فلا تخفى عليه خافية.
الم تبلُغكم أيها الجاحدون اخبارُ الأمم السابقة من قبلِكم كقومِ نوحٍ وهود وصالح ولوط وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حلَّ بهم أشدُّ العقاب والدمار، ولهم في الآخرة عذابٌ أشدُّ واعظم!؟
لقد اصابهم ما أصابهم من العذاب لأنهم كانت تأتيهم الرسلُ بالمعجزات الظاهرة فأنكروا ذلك أشدَّ الانكار وقالوا {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا؟} يرشدوننا وهم مثلُنا!! فانكروا بعثهم {وَتَوَلَّواْ واستغنى الله} عنهم، {والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فهو غنيٌّ عن الخلق أجمعين، وهو الحقيق بالحمد على ما انعم به على عباده من النعم التي لا تُعدّ ولا تحصى.(3/339)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
زعم فلان كذا: ادّعى علمه بحصوله، واكثر ما يُستعمل الزعم للادّعاء الباطل. النور: هو القرآن الكريم. يوم الجمع: يوم القيام. يوم التغابن: هو يوم القيامة، وسُمي بذلك لأن اهلَ الجنة تغبن فيه اهل النار بما يصير اليه اهل الجنة من النعيم وما يلقى اهل النار من العذاب في الجحيم. وأصل الغَبن: النقص، غبن فلان فلاناً في البيع: نقصه حقه. والخلاصة أنه في ذلك اليوم يظهر الريح والخسران، فيربح المؤمنون، ويخسر الجاحدون الكافرون.
{زَعَمَ الذين كفروا. . .}
في الآيات السابقة ذكر اللهُ إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة، وبيّن ما لقيَه المنكرون وما سيلقون. وهنا يبين إنكارهم للبعث والجزاء، فقل لهم يا محمد: ليس الأمر كما زعمتم، إني أُقسم بربي لتُبعَثُنَّ بعد الموت، ولَتُجزَوْنَ بما عملتم في الدنيا وتحاسَبون عليه، {وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} ، فهو كما خَلَقَكم سيُعيدكم.
ثم بعد ان بيّن لهم الحقائق طالبَهم بالإيمان، وذلك لمصلحتهم ولخيرهم فقال:
{فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} ما دام البعثُ حقا، فصدَّقوا ايها الناس بهذا الإله العظيم وبرسوله الكريم، وبهذا القرآن الذي هو نور أضاءَ الكونَ بهدْيه، واخرجَ العالَمَ من الظلمات الى النور، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا تخفى عليه اعمالكم.
ثم أنذر بأنه تعالى يجمعهم يومَ القيامة، يوم يظهر ربح الرابحين وخسران المبطلين فقال:
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن}
في ذلك اليوم يُغبن الكافرون ويربح المؤمنون، وما أعظمه من ربح!! انه لا غبنَ أعظم من ان قوما ينعمون، وقوما يعذَّبون، ذلك هو الخسران المبين. ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يُذهب عنه سيئاته {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم} ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز} [آل عمران: 185] .
ثم بين الله تعالى الجانبَ المقابل وهم أهلُ النار فقال:
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير} .
فهؤلاء جزاؤهم النارُ لكفرهم وتكذيبهم الرسلَ وإنكارهم المعجزات، وبئس النارُ مصيراً لهم.
وبعد ان بين مصير الناس وأنهم قسمان: كافر بالله مكذِّب لرسله ومصيرُهُمْ النار، ومؤمن بالله ومصدّق لرسله ويعمل الصالحات فهو من اهل الجنة - بيّن هنا أمراً عظيما بقوله:
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله. .} .
ان ما يصيب الانسان من خير او شر إنما يكون بقضاء الله وقدَره بحسب النُظم التي وضعها للكون. فعلى الانسان ان يجدَّ ويعمل، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء. على المرء ان يبذل جهده ويسعى في جلب الخير ودفع الضُرّ ما استطاع الى ذلك سبيلا، وان يتوكل على الله ويؤمن به خالص الايمان.(3/340)
{وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فالايمان يضيء القلبَ ويشرح الصدر لخير العمل، وأيّ نعمةٍ أعظمُ من هذه النعمة!! .
ثم يا ايها المؤمنون أطيعوا الله فيما كلّفكم به، وأطيعوا الرسول فيما بلّغ عن ربه، فإن أعرضتم فلن يضرّه إعراضكم {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} . وقد تقدم مثل هذه الآية اكثر من مرة.
ثم يبين الله تعالى تفرُّدَه بالمُلك والخلق والقدرة، وأن علينا ان نتوكل عليه
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} .
توكلنا على الله وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
قراءات:
قرأ يعقوب: يوم نجمعكم بالنون، والباقون: يجمعكم بالياء.(3/341)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
فتنة: بلاء ومحنة توقع في المهالك. ومن يوقَ شحّ نفسه: ومن يحفظ نفسه من البخل. الشح: البخل مع الحرص. ان تُقرضوا الله: ان تتصدقوا على المحتاجين من الناس. شكور: يثيب الشاكرين.
بعد ان أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول الكريم، وان يتوكلوا عليه، ولا يعتمدوا غير ذلك - جاء هنا في هذه الآيات الكريمة يهذّبهم ويعلّمهم بألطف توجيه، أنَّ الأولادَ والزوجات فتنة للانسان اذا ما شُغل بهم وانصرف يجمع المالَ لهم ويكدّسه، لا همّ له الا النفقة عليهم - باتَ مثل الحيوان في الغاب، فان الأسد يفترسُ حتى يطعم عياله، وكذلك بقية الحيوانات.
فالله تعالى يهذّبنا ويعلّمنا بأنّ علينا ان نُعِين المحتاجين، ونعمل الخيرَ ونساعدَ في أعمال البرّ وبناء مجتمعنا، فلا نعيش لأنفسنا فقط.
{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم}
فارعوهم حق الرعاية، وأدِّبوهم أحسنَ تأديب، واحذروا ان يخرج بعضهم عن الطاعة، وتلطّفوا معهم. ولذلك قال:
{وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
ما أرحمه وما اعظمه! كيف يعلّمنا ويهذبنا، بان نكون هيّنين ليّنين مع أولادنا وأزواجنا وبذلك تتم السعادة.
وان كثيراً من الناس يكونون في البيت مصدَر شرٍّ وإزعاج لزوجاتهم وأولادهم، وفي خارج البيت من ألطفِ الناس وأرحَبِهم صدراً، هؤلاء شرٌّ من الحيوانات.
ثم كرر الله تعالى التحذير فقال:
{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}
فاحذروهم ولا تُلهينَّكم اموالُكم وأولادكم عن عمل الخير، والسعي في سبيل الله. إن كثيراً من أصحاب الأموال ساهون لاهون عن عمل الخيرِ، كلُّ هَمِّهم أنفسُهم وأولادُهم وزوجاتهم.
وفي الحديث الصحيح: «ان لكل أمةٍ فتنةً، وفتنةُ أمتي المال» رواه احمد والترمذي وغيرهما عن كعب بن عياض. وهذا ما يجري اليوم، وقد فتح الله على الأمة العربية ابواب الخيرات وجاءهم المالُ بدون حساب، ونراهم يبذّرونه على أنفسِهم ومُتَعِهم ولا ينفقون منه في سبيل الله والدفاع عن أوطانهم والاستعداد لعدوهم الذي يهدّد كيانهم، بل يكدّسون المال عند الاعداء، ولا ينتفع منه الا العدو، هدام الله.
{والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
لمن آثَرَ محبَّته على محبةِ المال والأولاد، ونفعَ به المحتاجين، وأنفق منه في سبيل الله والوطن.
ثم يعلّمنا وينبّهنا الى ان نستيقظ ونعمل بقدر ما نستطيع فيقول:
{فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ}
فالتقوى تكون بالعمل الصالح المفيد، والانقياد لأمر الله والرسول. اهتدوا بهدي الاسلام ايها المؤمنون، وجُودوا بالمال قبل ان تذهبوا ولا تأخذوا منه شيئا، ويبقى للورثة يختصمون فيه.
{وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ}
هنا يكرر الأمر بالانفاق من الاموال، لأنكم ايها المؤمنون ستندمون اذا ذهبتُم وتركتم وراءكم الأموال مكدَّسة، لم تنفعوا بها الفقراء والمحتاجين، ولم تبذلوا منها للمصلحة العامة والجهاد في سبيل الله.(3/342)
ثم زاد الحثّ على الانفاق باسلوب لطيف فقالك
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} .
والسعيدُ منكم أيها الناس هو الذي يتغلب على نفسه ويتقي بُخْلَها الشديد، فينفق في سبيل الله، وفي سبيل وطنه وأمته، فيكون من المفلحين في الدنيا والآخرة.
ايها الناس، ان الاغنياء في الغرب يُنفقون معظم ثرواتهم على عمل الخير، على البحث العلمي الذي هو مفقود عندنا، وعلى المستشفيات والجامعات والمصالح الخيرية. والاغنياء عندننا ينفقون على أنفسِهم ويبذّرون اموالهم في الأعراس والحفلات التي تُغضب الله، وعلى ملذاتهم وشهواتهم ومقامراتهم ومغامراتهم مما لا يجدي نفعا. {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 27] .
ثم تلطف جلّ جلاله وبالغ في الحث على الانفاق بقوله تعالى:
{إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} .
هل يوجد أجملُ من هذا الاسلوب! والله تعالى هو الغني، له كل ما في السموات والارض، ولكنه يطلب ان نجود بالمال على الفقراء والمحتاجين، في بناء مجتمعنا وفي سبيل الله حتى سمى ذلك قَرضا. . وهو الغنيّ عن العالمين. والله يضاعف للمنفق الحسنةَ بعشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف، ويغفر لكم ما فَرَطَ من ذنوبكم، والله عظيم الشكر والمكافأة للمحسنين، حليمٌ فلا يعجّل بالعقوبة على المذنبين.
{عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم}
ختم هذه السورة الكريمة بأحسنِ ختام وألطفِ تعبير، وهو ذو العزة والقدرة يضع كل شيء في موضعه، ويصرّف كل شيء بأمره وحكمته وتدبيره.(3/343)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
اذا طلقتم النساء: اذا اردتم ان تطلقوا النساء، وهذا التعبير جاء في القرآن مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] يعني اذا اردت ان تقرأ القرآن. فطلقوهن لعدتهن: يعني طلقوهن بعد طُهرٍ من الحيض دون ان تمسّوهن حتى لا تطول عليهن العدة، والعدة هي الزمان الذي يجب على المرأة ان تبقى فيه دون ان تتزوج. وأحصوا العدة: اضبطوها، حتى يتبين ان المرأة ليست حاملا. فاحشة مبينة: معصية ظاهرة، مثل الزنا او السرقة او ان تطيل لسانها على أقارب زوجها وغير ذلك. حدود الله: شرائعه. فاذا بلغن أجلهن: اذا اتممن العدة.
{ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء. . . .}
وجّه الله تعالى الخطاب الى النبيّ الكريم ليُفهِم المؤمنين جميعا، أن يتقيدوا بأحكام الشريعة، فاذا اراد احد ان يطلّق زوجته فإن عليه ان يراعي وقتَ طُهرها من الحيض فيطلّقها وهي طاهرة حتى لا تطول عليها مدة العدة. ثم اكد ذلك بقوله تعالى: {وَأَحْصُواْ العدة} اعرفوا ابتداءها وانتهاءها. {واتقوا الله رَبَّكُمْ} بمحافظتكم على أوامره، لأنها لمصلحتكم.
ثم بين لنا أشياء يجب ان نتّبعها محافظةً على تماسك الأسرة ودوام حياتها فقال: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} يعني ان المطلقة تبقى في بيتها حتى تنقضيَ العدة. وهناك حكمة بالغة في إبقاء المطلقة في بيتها، وهي: عسى ان يراجعَ الزوج رأيَه، ويعاودَ أمره، فيراجعَ زوجته وتعود الحياة الى مجراها الطبيعي. وفي ذلك مصلحة كبرى للطرفين.
{وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}
ولا يجوز ان يتخرج المطلقة من بيتها إلا اذا انتهت العِدة، فلا تأذنوا لهنّ بالخروج اذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسِهن إن أردْن، ولكنه استثنى من لزوم البقاء في بيوت الزوجية اذا دعت الضرورة لذلك كأن فعلتْ ما يوجِب حدّاً كالزنا او السرقة او أطالت اللسان على الأحماء ومن في البيت من سوءِ خلقها، فيحل عند ذلك إخراجها من البيت.
ثم بين الله تعالى عاقبة تجاوز حدود الله فقال:
{وَتِلْكَ حُدُودُ الله}
هذه التي بينها لكم من الطلاق للعدة واحصائها وما يترتب على ذلك.
{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بعدم تمسّكه بأوامر الله وشرعه.
ثم لمّح الى حكمة بقائها في البيت فقال:
{لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} .
أنتَ لا تعلم ايها المرء ماذا يحصل، ولا تعلم ان الله يقلّب القلوب، فيجعل في قلبك محبةً لها، فتندم على طلاقها وفراقها، ولعلك تراجعها وتعود المياه الى مجاريها.
روى البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عَنْهُمْ «انه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله، فتغيّظ منه ثم قال: لِيراجعْها ثم يمسكْها حتى تطهُر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له ان يطلّقها فليطلقها قبل ان يمسّها، فتلك العِدةُ التي أمَرَ اللهُ ان تطلَّق لها النساء.(3/344)
والشريعة الإسلامية، وان اباحت الطلاق - قد بغّضت فيه وقبّحته وبينت انه ضرورة لا يُلجا إليها الا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاءِ رباط الزوجية الذي هو أوثق رباط، والذي حبّبتْ فيه وجعلته من أجلّ النعم، وسماه الله تعالى: {مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] والأحاديثُ كثيرة على التحذير من الطلاق والبعد عنه ما امكن للضرورة.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .
بعد أن أمرَ اللهُ تعالى بأن يكون الطلاق حسب ما أمَرَ به وان يكون طلقة واحدة رجعيّة، وَمَنَعَ خروج المطلقة من المنزل او اخراجها الا اذا أتت بفاحشة، ونهى عن تعدِّي تلك الحدود حتى لا يحصَلَ الضرر والندم - خيَّرَ هنا الرجلَ بين أمرين إذا شارفتْ عدةُ امرأته على الانتهاء: إما ان يراجعَها ويعاشرَها بالمعروف والإحسان، وإما أن يفارقَها مع أداءِ حقوقها التي لها ويُكرمها بقدر ما يستطيع.
ثم أمر بالإشهادِ على ذلك فقال:
{وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} .
يعني اذا راجع المرء زوجته عليه ان يُشهِد اثنين من العدول، واذا فارقَها كذلك. وخاطب الشهودَ بأن يشهدوا على الحق ويؤدوا أمانتهم، وهي الشهادة، على وجهها خالصة لله.
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} .
هذا الذي امرتكم به من امر الطلاق يتعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيعمل به ولا يخرج عن طاعة الله.
{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}
ومن ثم يأتي الله تعالى بهذا الكلام اللطيف المطمئن، يخبر فيه جلّ جلاله ان من يخشى الله ويتقيه ويتقيد بأوامر الشريعة يجعلْ له مخلصا من كل ضيق في الدنيا والآخرة، ويهيّيء له من اسباب الرزق من حيث لا يخطر له على بال.
فالتقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادةُ في الدارين.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهـ انه قال: أجمع آيةٍ في القرآن: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} وان اكبر آية في القرآن فَرَجاً: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} .
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} .
ومن أخَذ بالاسباب واخلص في عمله وتوكل على الله فان الله تعالى يكفله ويكفيه ما أُهمه في دنياه واخراه. . وهكذا يجب ان تفهم هذه الآية الكريمة، فليس معنى التوكل ان يقعد المرء ولا يعمل ويقول توكلت على الله. ولذلك قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: «اعقِلها وتوكل» إن الله تعالى بالغٌ مرادَه، منفذٌ لمشيئته.(3/345)
وقد جعل لكل شيء وقتا مقدَّرا بزمانه وبمكانه، وبملابساته وبنتائجه واسبابه، وليس في هذا الكون شيء تمّ مصادفة، ولا جزافا، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] .
{واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} .
والنساء اللاتي بلغن سن اليأس وانقطع عنهن الحيضُ فعدّتهن ثلاثة اشهر. وكذلك الصغار اللاتي لم يحضْنَ فإن عدتهن ثلاثة اشهر.
وأما الحامل فإن عدّتها تنتهي عند وضع الحمل، سواء أكانت مطلقة او متوفًّى عنها.
{وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
هذا هو حكم الله تعالى في العِدة وانواعها.
ثم أكد الله تعالى على التقوى وأنها رأسُ كل شيء، من تحلّى بها فقد فاز فوزا عظيما ويسّر الله له أمره فقال:
{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} .
فالتقوى هي المخرج من كل ضيق، واي فضلٍ أعظمُ من هذا؟
ثم كرر الله تعالى الأمرَ بالتقوى لأنها ملاكُ الأمر وعماده في الدنيا والآخرة فقال:
{ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
هذا الذي شرع لكم من الأحكام هو أمرُ الله الذي انزله اليكم لتسيروا على منهجه، وتعملوا به، ومن يتق الله بالمحافظة على أحكامه يكفّر عنه جميع خطاياه، ويجزل له الثواب العظيم {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] .
قراءات:
قرأ حفص: بالغ أمره بضم الغين وكسر الراء من امره على الاضافة. والباقون: بالغٌ امرَه بضم الغين والتنوين، ونصب أمره.(3/346)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
من وُجدكم: من قدرتكم، مما هو موجود عندكم، على قدر طاقتكم. ولا تضارّوهن: لا تلحقوا بهن ضررا. لتضيِّقوا عليهن: بالنفقة والسكن حتى تلجئوهنّ الى الخروج من المسكن. وأتمِروا بينكم بمعروف: وتشاوروا وتعاملوا ببينكم بما تعارف الناس عليه من سماحة وعدم تعنت. وان تعاسَرتم: وان لم تتفقوا وضيق بعضكم على بعض كطلق زيادة الأجر وغير ذلك. فسترضعُ له أخرى: فيمكن ان ترضع المولود امرأة اخرى بأجر مقبول. ومن قُدر عليه رزقُه: ومن كان رزقه قليلا، يعني فقير الحال. فلْيُنفِقْ مما آتاه الله: ينفق بقدر ما عنده. فالنفقة والسكن واجبة للمعتدّة مدة العدة.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ}
أسكنوا المطلقاتِ مدة العدة في بيوتكم التي تسكنونها وأنفقوا عليهن مما هو موجود عندكم، كلّ حسب قدرته.
{وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ}
لا تُلحقوا بهن ضرراً بأن تُسكنوا معهن أحداً لتضيّقوا عليهنّ، تعجيلاً بخروجهنّ من المسكن.
{وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
واذا كانت المطلقة حاملاً فيجب على الذي طلقها ان ينفق عليها ويُسكنها في داره نفقةً حسب قدرته حتى تضع حملها.
ثم بين الله تعالى حكم ارضاع الطفل بعد ولادته فقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
عندما تضع المطلقة مولودها تكون قد انتهت عِدتها، وهي غير ملزمة بأن تُرضع ولدها، فان أرضعته فعلى والده ان يدفع لها أجرها، لأن حق النفقة والرضاع للأولاد على آبائهم.
ثم حث الله تعالى على المعاملة بالمعروف بين الطرفين فقال:
{وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}
تعاملوا أيها الآباء والمهات فيما بينكم بالسماحة والأخلاق العالية، لأن في ذلك مصلحةً كبرى للطفل ورحمة به. فلا تجعلوا المال عقبةً في سبيل إصلاحهم. . على الآباء ان يجودوا بالأجر والنفقة، وعلى الأمهاتِ ان يتساهلن ولا يخرجن الآباء. . وذلك كله في مصلحة ابنائهم.
ثم ارشد الى ما يجب عمله اذا لم يحصل والوفاق بين الأبوين على الأجر والانفاق فقال:
{وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} .
وان لم تتفقوا ووقع بينكم خلاف كأن لم يقبل الأب أن يدفع الجرَ المطلوب، او اشتطت الأم في طلب زيادة الأجر، فعلى الأب ان يبحثَ عن امرأة اخرى ترضع له مولوده. فاذا لم يقبل المولود غير ثدي أمه وجَبَ على الأم ان ترضعَه بأي أجرٍ كان.
ثم بين الله تعالى مقدار الانفاق وكيفيته بحسب طاقة كل أب فقال:
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} .
هذا هو مبدأ الاسلام العظيم: اليسر والتعاون والعدل. . على كل انسان ان ينفق بقدر طاقته وحسب مقدرته، فمن وسّع الله عليه الرزق فلينفقْ عن سعة في السكن والنفقة واجر الرضاع، ومن كان رزقه ضيقا فلا حرج عليه، فلينفق بقدر ما يستطيع.(3/347)
هذه هي القاعدة الذهبية في المجتمع الاسلامي العظيم. وكما جاء في قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] آخر سورة البقرة.
ثم جاء في تعبير لطيف بين فيه ان الارزاق تتحول من عسر الى يسر، وأن اليسر دائماً مأمول فلا تخافوا ولا تضيِّقوا على انفسكم فقال:
{سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} .
ان الله تعالى سيجعل من بعد الشدة رخاء، ومن بعد الضيق فرجا، فكونوا دائما مؤملين للخير، فالدنيا لا تدوم على حال. {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5-6] ولن يغلب عسر يسرَين. وإنها لبشارة للناس، ولمسة فرج، وافساح رجاء للمطلِّق والمطلقة وللناس جميعا.(3/348)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
وكأين من قرية: كثير من القرى كفرَ اهلها. عتت: تجبرت، واستكبرت. نُكرا: منكرا. وبالَ أمرِها: عاقبة امرها. خُسرا: خسارة. ذِكرا: قرآنا. رسولا: هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
لقد تقدّم كثيرٌ من الآيات الكريمة التي تشبه هذه الآياتِ التي خُتمت بها هذه السورة العظيمة بعد ان بيّن فيها شَرْعَ الله في الطلاق والعِدَّة والنفقةِ والسكنِ ونفقةِ المولود وإرضاعه.
ان كثيراً من أهلِ القرى خالفوا أمر ربهم، فكذّبوا الرسلَ وأعرضوا عن أمرِ ربهم، فحاسبناهم حسابا شديدا، وعذبناهم أشد العذاب، فذاقوا عاقبة أمرِهم، وتجرعوا سوءَ مآلهم، وخسِروا خسراناً كبيرا. وفي الآخرة أعدّ الله لهم عذابا بالغ الشدة.
ولذلك يحذّر الله المؤمنين بقوله تعالى: {فاتقوا الله ياأولي الألباب}
ايها المؤمنون العاقلون، اعتبروا بهم واتقوا الله الذي انزل اليكم قرآنا عظيما، وارسل اليكم رسولا كريما هو محمد بن عبد الله عليه صلوات الله، {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ} فيها هدى لكم، وبذلك أخرجكم من الظلمات وعبادة الاوثان الى التور، دين الله القويم الذي بيّن لكم الحقَّ من الباطل.
{وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} .
فالإيمان مشروط بالعمل، وأي جزاء احسنُ من الجنة وأي رزق أحسن من رزقها!
ثم ذكر بعد ذلك عظيمَ قدرته وسلطانه، وبديعَ خَلْقه لهذا الكونِ العجيب الفسيح يجري أمرُه فيه، {لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} . صدق الله العظيم.(3/349)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
تحرّم: تمتنع عن. تبتغي: تطلب. فرض: شرع، وبين لكم. تحلَّة أيمانكم: تحليلها بالكفارة. بعض ازواجه: حفصة. نبأت به: اخبرت عائشة به. عرف بعضه: اعلمها ببعض الحديث الذي أفشته. وأعرض عن بعض: لم يخبرها به. ان تتوبا: يعني حفصة وعائشة. صغت قلوبكما: مالت الى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم واجلال. وان تظاهرا عليه: تتظاهرا وتتعاونا على ايذاء الرسول. ظهير: معين. مسلمات: خاضعات لله بالطاعة. مؤمنات: مصدقات بتوحيد الله. قانتات: مواظبات على الطاعة. تائبات: مقلعات عن الذنوب. سائحات: صائمات وذاهبات في طاعة الله كل مذهب.
الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك.
وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك. واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له: إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير. (والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة) .
وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك، فقال لها: بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، ولن أعودَ له. وأُقسِم على ذلك، فلا تُخبري بذلك أحدا.
فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا، كما تقدّم، متصافيتَين متفقتين. . . . فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته.
وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه: يا أيّها النبيّ. . . . قال تعالى {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . ثم بيّن له أنّه يمكن ان يكفّر عن يمينه بقوله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بالكفّارة عنها. وقد رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام كفّر عن يمينه فأعتق رقبة. {والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم}
واللهُ متولِّي أمورِكم وناصرُكم، وهو العليم ما يُصلحكم فيشرّعه لكم، والحكيمُ في تدبيرِ أموركم.
{وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} .
وقد تمّ شرحُ هذا فيما سبق. اما «عرّف بعضَه وأعرضَ عن بعض» فهو أن الله أطلَع رسولَه على ما دار بين حفصة وعائشة، وأخبر الرسول حفصةَ ببعض الحديث الذي أفشَتْه، وأعرضَ عن بعذ الحديث وهو قولُه: وقد حلفتُ.
{فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} .
فلما أخبر حفصةَ أنه يعرف ما دار بينَهما استغربتْ وسألتْه: من الذي أخبرك بهذا؟ قال: أخبرني به اللهُ العليم بكل شيء، الخبيرُ الذي لا تخفَى عليه خافية.
ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال:
{إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
إن ترجعا الى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما الى الحقّ والخير.(3/350)
ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال:
{وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} .
ان تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر - فلن يضرّه ذلك شيئا، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون.
ثم حذّرها ألاّ تعودا لمثلِ ذلك بقوله:
{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} .
احذرْنَ أيتها الزوجات من إيذاء رسول الله والتألُّب عليه، والعملِ على ما يسوؤه فإنه اذا أُحرِج يمكن ان يطلقكن ويبدله الله خيراً منكن في الدينِ والصلاح والتقوى. ولا شيءَ أشدُّ على المرأة من الطلاق. وفي هذا تنويهٌ كبير بشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قراءات:
قأ اهل الكوفة: تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد. وقرأ الباقون: تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة. وقرأ الكسائي وحده: عرف بعضه بفتح العين والراء بلا تشديد، والباقون عرَّف بتشديد الراء المفتوحة. وقرأ حفص ونافع وابو عمرو وابن عامر: جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة. وقرأ ابو بكر: جبرئيل بفتح الجيم والراء وقمزة قبل الياء.(3/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قُوا أنفسكم: احفظوها، واجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي. الوقود: حطب النار وكل ما توقد به. الحجارة: الاصنام التي تعبد من دون الله. غلاظ: شديدون لا يرحمون. توبة نصوحا: توبة خالصة. واغلُظ عليهم: شدد عليهم. مأواهم جهنم: مكانهم يوم القيامة جهنم.
بعد ان عالجت الآياتُ السابقة ما يجري في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعاتَبَ الله تعالى الرسولَ الكريم على تحريمه بعضَ ما أحلّ الله له، كما شدّد على نسائه أن يلتزمن الطاعةَ والتوبة والإخلاصَ للرسول الكريم - بيّن هنا للمؤمنين عامةً أن يحفظوا أنفسَهم وأهلِيهم من النار بالتزامِ طاعةِ الله ورسوله، تلك النار التي سيكون وقودُها يومَ القيامة العصاةَ من الناس والحجارةَ التي كانت تُعبَد من دونِ الله كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ، ويقومُ على أمر هذه النار ملائكةٌ شديدون، يفعلون ما يُؤمرون.
وفي ذلك اليومِ العصيب يُقال لِلّذين كفروا بربّهم وبرسالة رسوله الكريم: لا يعتذِروا اليوم فقد فاتَ الأوان، وانما تَلقَون جزاءَ ما عملتم في الدنيا.
ثم أمر المؤمنين أن يتوبوا الى الله ويرجعوا إليه بإخلاص، عسى الله أن يمحُوَ عنهم سيئاتِهم ويدخلَهم جناتٍ تجري من تحتِ قصورها وأشجارِها الأنهار. وفي ذلك اليوم يرفعُ الله شأنَ النبيّ والذين آمنوا معه، نورُهم يسعى بين أيدِيهم حينَ يمشون، وبأيمانِهم حين الحساب. . . حيث يتناولون كُتبَهم بأيمانهم وفيه نورٌ وخير لهم.
ويسألون ربّهم بقولهم:
{يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . اللهم أجبْ دعاءنا ولا تخيّب رجاءنا.
ثم بعد الأمرِ النَّصوحِ والرجوع إليه - أمر رسولَه بالجهاد في سبيل الدعوة فقال:
{ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} .
يا أيّها النبيّ: جاهِدِ الكفارَ الذين أعلنوا كفرهم والمنافقين الّذين أبطنوه، بكلّ وسيلةٍ من قوةٍ وحجّة، واشتدَّ على الفريقين في جهادك، ان منازلَهم يوم القيامة في جهنّم وبئس المسكنُ والمأوى.(3/352)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ضربُ المثل: ذِكر حالٍ غريبة للعِظة والاعتبار. تحت عبدَين: يعني زوجتين لنبيَّين. كريمين: هما نوح ولوط. فخانتاهما: بالكفر والنفاق. أحصنتْ فرجَها: عفّت عن الفجور فكانت عفيفة. فنفخنا فيه: فخلقنا فيه الحياة. بكلمات ربّها: بشرائعه وكتبه.
يبينُ الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أمثلةً واضحة من أحوال النساء تظهر فيها حقائقُ مهمّة، فمن النساء صنفٌ لا يردعُهنّ عن كفرِهنّ حتى وج ودُهن في بيوت الأنبياء، كامرأة نوحٍ التي كانت تقول عن زوجها إنه مجنون، وخانتْه بالتآمر عليه وعدم تصديقه برسالته. وكذلك امرأة لوط، كانت كافرةً وخانت زوجها بالتآمر عليه مع قومه حين دلّت قومه على ضيوفه لمآرب خبيثة. فوجودهما في بيت النبوّة مع كفرهما - لم يغيّر منهما شيئاً وذهبنا الى النار. وهناك حالة اخرى عكسَ ما تقدم، وهي امرأةُ فرعون آسيةُ بنت مزاحم، كانت زوجةً لرجل من شرار الناس، وهي مؤمنة مخلصة في ايمانها: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} . وهذا كله يتفق مع قاعدة الاسلام {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [النجم: 38] وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] .
وكذلك ضربَ الله مثلا حالَ مريم ابنةِ عمرانَ التي عفّتْ وآمنت بكلماتِ ربّها، فرزقَها الله عيسى بن مريم صلواتُ الله عليه وسلامه.
وفي هذه الأمثال عظةٌ للمؤمنين، ولزوجاتِ الرسول الكريم، وتخويفٌ لكل من تحدّثه نفسُه بأنه سينجو لأنه ابنُ فلان، او انه قريبٌ لفلان من الصالحين. ولا ينجّي الانسانَ الا عملُه وتقاه وايمانه الخالص، واللهُ وليّ الصالحين.(3/353)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
تبارك: تعالى ربنا عما لا يليق به. بيده الملك: له التصرف المطلق في هذا الكون. ليبلوكم: ليختبركم. طباقا: يشبه بعضها بعضا في الاتقان. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت: لا ترى فيما خلق الله من اختلاف وعدم تناسب واتقان صنعة. فارجع البصرَ: أعد النظر. هل ترى من فُطور: هل ترى من نقصٍ او شقوق. ثم ارجع البصرَ كرّتين: ثم أعد النظر مرة بعد مرة، وليس المراد مرتين فقط. ينقلب اليك: يرجع اليك. خاسئا: صاغراً ذليلا. وهو حسير: وهو كليل، ضعيف. بمصابيح: بنجوم كأنها مصابيح تضيء. رجوما: مفردها رَجْم وهو كل ما يرمى به. اذا أُلقوا فيها: اذا طُرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار. شهيقا: تنفسا قويا. تفور: تغلي بشدة. تكاد تميَّزُ من الغيظ: تكاد تتقطع من شدة الغضب. فوج: جماعة. خَزَنَتُها: واحدها خازن، وهم الملائكة. نذير: رسول ينذركم ويحذركم. فسُحقا: فبعداً وهلاكا لأصحاب السعير.
افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه، وأخبر انّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثم أخبر بأنه خلَقَ الموتَ والحياة لغايةٍ أرادها، هي أن يختبركم أيُّكم أصحُّ عملاً، وأخلصُ نيةً، وهو ذو العزةِ الغالبُ الذي لا يُعجزه شيء، الغفورُ لمن أذنبَ ثم تاب، فبابُ التوبة عنده مفتوح دائماً.
ثم بيّن الله تعالى انه أبدعَ سبع سمواتٍ طباقاً، يطابق بعضُها بعضا في دِقّة الصَّنعةِ والإتقان. والعددُ سبعة لا يفيد الحَصر، بل يجوز ان يكون هنا أكثر بكثير، ولكنّ القرآن يجري على مفهوم لغةِ العرب. . فإن هذا الكونَ العجيبَ فيه مَجَرّات لا حصر لها وكل مجرّةٍ فيها ملايين النجوم.
والسماءُ كل ما علانا فأظلَّنا والصورةُ التي يراها سكانُ الأرض في الليالي الصاية هي القبّة الزرقاءُ تزيّنها النجومُ والكواكب كأنها مصابيحُ، كما تُرى الشهبُ تهوي محترقةً في أعالي جوّ الأرض.
ما تَرى أيها الإنسان في صُنع اللهِ أيَّ تفاوت.
{فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} .
أعِد النظرَ في هذا الكون العجيب الصنع، وفي هذه السماء. . هل تجد اي خلل؟
{ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}
ثم أعِد البصرَ مرّاتٍ ومرات، وفكر في هذا الصنع البديع، يرجعْ إليك البصرُ وهو صاغرٌ وكليل. . . . ولا يمكن أن ترى فيها أيَّ خللٍ او عيب.
ثم بعدَ ان بيّن ان هذه السمواتِ وهذا الكونَ كلّه وُجد على نظامٍ دقيق متقَن، وهو مع ذلك الغايةُ في الحسن والجمال والبهاء قال:
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} .
إن هذه السماء القريبة منّا والتي نراها - مزينةٌ بهذه النجوم المضيئة، والكواكبُ بهجةً للناظرين، وهدىً للسارِين والمسافرين في البر والبحر، والشهُبُ التي نراها متناثرةً في الليل رُجومٌ للشياطين، وقد أعدَدْنا لهم في الآخرةِ عذابَ النار.(3/354)
وكذلك أعدَدْنا لِلّذين كفروا بربّهم عذابَ جهنّم وبئس مآلُهم ومنقَلَبُهم. ثم وصفَ هذه النار، بأنّه يُسمع لها شهيق حين يُلقَى فيها الكافرون، وأنّها تفورُ بهم كما يفور ما في المِرجَلِ حين يغلي، وأنها تكون شديدةَ الغيظ على من فيها، وان خَزَنَتَها من الملائكة يَسالون من يدخل فيها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟} من ربّكم؟ فيعترفون بأن الله ما عذَّبهم ظلماً، بل جاءهم الرسُل فكذّبوهم. ثم يعترفون أيضا بقولهم {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} فاعترفوا بتكذيبهم وكفرهم. ولن ينفعهم اعترافُهم، فبُعداً لأصحاب السعير عن رحمة الله.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت بتشديد الواو بلا الف. والباقون: من تفاوت. وقرأ الكسائي: فسحقاً بضم السين والحاء. والباقون: فسحقا بضم السين واسكان الحاء، وهما لغتان.(3/355)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
الغيب: كل ما غاب عنا. بذات الصدور: بما في النفوس والضمائر. اللطيف الرفيق بعباده. الخبير: العالم بظواهر الاشياء وبواطنها. ذلولا: سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وبما فيها. مناكبها: طرقها ونواحيها. النشور: البعث بعد الموت. الأمن: الاطمئنان وعدم الخوف، وهو اعظم شيء في الوجود. مَن في السماء: يعني ربنا الاعلى. تمور: تهتز وتضطرب. حاصبا: ريحا شديدة فيها حصباء تهلكهم. نذير: هكذا من غير ياء والاصل نذيري، والمعنى إنذاري وتخويفي. نكير: كذلك هي نكيري بياء، عذابي. صافّات: باسطاتٍ أجنحتهنّ في الجوّ أثناء الطيران. ويقبضن: يضممنها تارة اخرى.
بعد ان أوعدَ الكفارَ بالعذاب في نارِ جهنم، ووصفَها ذلك الوصفَ المذهل - وعدَ هنا المؤمن الذين يخشَون ربّهم بالمغفرة والأجرِ الكريم. وهذه طريقةُ القرآن الكريم: الترغيبُ والترهيب، حتى لا يقنَطَ الانسانُ من رحمة ربه.
ثم عادَ الى تهديدِ الكافرين، وانه تعالى يعلم السرَّ والجَهْرَ لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ويعلَم ما توسوسُ نفسُ الانسان. ثم بعدَ ذلك كله قال {وَهُوَ اللطيف الخبير} كي يذكّرنا دائماً بأنه رؤوفٌ بعباده رحيم.
ثم عدّد بعضَ ما أنعم علينا، فذكر أنه عبَّدَ لنا هذه الأرضَ وذلّلها، وهيّأها لنا، فيها منافعُ عديدةٌ من زروع وثمارٍ ومعادن، وما اعظمَها من نِعم. ثم قال: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور}
تمتعوا بهذهِ النعمِ، ثم إلى ربّكم مرجُكم يومَ القيامة.
ففي الآية الكريمة حثٌّ على العمل والكسب في التجارة والزراعة والصناعة، وجميع انواع العمل، وفي الحديث: ان عمر بن الخطاب مرّ على قوم فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: المتوكّلون، قال: بل أنتم المتواكلون، انما المتوكلُ رجلٌ ألقى حَبَّه في بطن الأرضِ وتوكّل على الله عز وجل.
وجاء في الأثر: «إن الله يحبُّ العبدَ المؤمنَ المحترف» .
ثم بيّن الله أن الإنسانَ يجب ان يكون دائماً في خوفٍ ورجاءٍ، فذكر انه: هل يأمنون ان يحلَّ بهم في الدنيا مثلُ ما حلّ بالمكذّبين من قبلهم؟ من خسْفٍ عاجلٍ تمورُ به الأرض، او ريحٍ حاصبٍ تُهلك الحرثَ والنسل!؟
ثم ضرب لهم المثلَ بما حلّ بالأمم قبلَهم من ضروب المِحَن والبلاء.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ}
فأهلكهم وخسَفَ بهم الأرض، وبعضُهم أغرقَهم، وبعضُهم أرسلَ عليهم الريحَ الصرصر. . . .
ثم بعد ذلك وجّه انظارهم الى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلبَ اليهم ان ينظروا إلى بعض مخلوقاته كالطّير كيف تطير باسطةً أجنحتها في الجو تارةً وتضمّها اخرى، وذلك كلّه بقدرة الله وتعليمه لها ما هي بحاجة اليه.
فبعد هذا كله اعتبِروا يا أيها الجاحدون مما قصَصْنا عليكم، فهل أنتم آمنون ان ندبر بحكمتنا عذاباً نصبّه ونقضي عليكم فلا يبقى منكم احد!؟(3/356)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
جند: عون، معين. في غرور: في خداع يخدعون انفسهم. ان أمسك رزْقه: حبس عنكم المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق. لجّوا: تعدَّوا الحد. في عُتوّ: في تمرد وعناد. نفور: اعراض وتباعد. مكباً على وجهه: اصل المعنى ان يمشي المرء مطرقا بوجهه الى الارض. والمقصود: الذي يسير على غير هدى. سويًّا: معتدلا، مستقيما. الافئدة: العقول. انشأكم: خلقكم. ذرأكم: خلقكم. زلفة: قريبا. سيئت وجوه الذين كفروا: قبحت وعَلتها الكآبة. تدعون: تطلبون، وتستعجلون. أرأيتم: اخبروني. غورا: غائرا في الأرض. معين: جارٍ غزير.
بعد ان بين الله للناس عجائب قدرته فيما يشاهدونه من احوال الطير وخلقه، وخوّفهم من خسف الأرض بهم، وارسال الحاصب عليهم بالعذاب - سأل الجاحدين المعاندين بقصد التوبيخ والتقريع: من الذي يعينكم وينصركم ويدفع عنكم العذاب اذا نزل بكم؟ هل هناك غير الرحمن؟ والتعبيرُ بالرحمن يدل على ان الله رؤوف بعباده رحيم.
{إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} وظنٍّ كاذبٍ يخدعون به انفسهم.
ثم سؤال ثان منه تعالى: إذا منعَ اللهُ عنكم أسبابَ الرزق، من يرزقكم غيرُ الله: بل تمادى الكافرون في استكبارِهم وبُعدِهم عن الحق.
ثم ضرب الله مثلاً يبين به الفرق بين المشركين والموحدين فقال:
{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
هل الذي يعيش في الضلال ويتخبط في الجهالة والكفر اهدى سبيلاً، أم الذي آمنَ ويمشي على الطريق المستقيم سالماً من التخبط والجهل؟ {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ؟} [هود: 24] .
فهذا المكبّ على وجهه هو المشرك، والذي يمشي سويا هو الموحّد، فهل يستويان؟ قل لهم ايها الرسول ان ربكم هو الذي خلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لتسمعوا وتبصروا وتهتدوا، ولكن {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} ولكنكم مع كل هذه النعم فالشاكرون منكم قليل. قل لهم منبهاً الى خطأهم وجحودهم: ان ربكم هو الذي خلقكم وبثكم في الارض، ومن ثم اليه ترجعون يوم القيامة. ومع هذا كله، يسألون الرسول استهزاء وتهكماً فيقولون: متى يأتينا العذابُ الذي تعدنا به؟
{قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}
قل يا محمد: هذا علمٌ اختص الله به، وانما انا رسول منه جئت لأنذركم وأبين لكم شرائع الله.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} .
الحديث في هذه الآية يكون يوم القيامة، يعني: فلما قامت القيامة وحشر الناس ورأى الكفار العذابَ قريبا منهم ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والحزن. ويقال لهم {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] وهذا التعبير جاء ليدلنا على ان يوم القيامة قريب جدا.
وكما جاء في قوله تعالى:(3/357)
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 47، 48] .
قل لهم: أخبِروني ماذا تستفيدون إن أماتنيَ اللهُ ومن معي من المؤمنين، او رحمَنا فأخّر آجالنا وعافانا من عذابه؟ فهل هذا كله يمنع الكافرين من عذابٍ أليمٍ استحقّوه بكفرهم وغرورهم! .
{قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .
قل لهم ايها الرسول: آمنا بالرحمن رب العالمين، وتوكلنا عليه في جميع أمورنا، وستعملون اذا نزل العذاب من هو الضال من المهتدي. وقد تكرر لفظ الرحمن اربع مرات في هذه السورة ليدل على انه رحيم بعباده، بابه مفتوح لهم دائماً.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بتهديد كبير، ويلمّح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة وذلك بحرمانهم من الماء الذي هو سبب الحياة الأول فيقول:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ}
قل لهم: أخبروني ان ذهب ماؤكم غائرا في الارض ولم تستطيعوا الوصول اليه، فمن يأتيكم بماء عذب جار تشربونه؟ ولا جواب لكم الا ان تقولوا: الله.
قراءات:
قرأ يعقوب: تدعون بفتح الدال من غير تشديد. والباقون: تدعون بتشديد الدال. وقرأ الكسائي: فسيعلمون بالياء. والباقون: فستعلمون بالتاء.
فلله الحمد والمنة، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/358)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
وما يسطرون: وما يكتبون. غير ممنون: غير مقطوع. فستبصر: فستعلم. ويبصرون: ويعلمون. بأيكم المفتون: بأيكم المجنون الذي ابتلي بآراء فاسدة. ودُّوا لو تدهن: احبوا ان تداري وتلين لهم بالمصانعة والمقاربة بالكلام. فيدهنون: فيقاربون ويدارون. والمداهنة: ان يُظهر الرجل في امره خلاف ما يضمر. ولا تطع كل حلاف مهين: حلاف كثير الحلف، مهين: محتقر، حقير. همّاز: عياب طعان. مشّاء بنميم: كثير الوشاية والنميمة بين الناس. مناع للخير: بخيل، ويمنع الناس من عمل الخير. معتد: ظالم. أثيم: كثير الذنوب. عُتلّ: فظ، غليظ القلب. زنيم: دعيّ، يُعرف بالشر واللؤم. سنسِمه على الخرطوم: نجعل له علامة على أنفه.
ن: حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور، وقد تقدّم الكلام عليها.
أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ. . . .} [العلق: 1] .
يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها، لينفيَ عن رسول الله ما كان يقوله المشركون عنه بأنه مجنون، فيردّ الله عليهم بقوله:
{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
لستَ يا محمد مجنوناً كما يزعمون، فقد أنعم اللهُ عليك بالنبوّة والرسالة، والعقل الراجح.
{وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}
إن لك على ما تَلْقاه في تبليغ الرسالة الأجرَ العظيم الدائم الّذي لا ينقطع أبدا.
{وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
وهذه اكبرُ شهادة من عند ربّ العالمين. وهل هناك أعظمُ من هذه الشهادة للرسول الأمين الذي طُبع على الحياء والكرم والشجاعة والصفْح والحِلم وكل خلُق كريم! .
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنهـ قال: «خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَهُ؟ ولا لشيء لم أفعلُه ألا فعلتَه؟» .
وروى الإمام أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسولُ الله بيدِه خادماً قطّ ولا ضرب امرأةً، ولا ضرب بيدِه شيئا قط الا ان يُجاهِد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قطّ الا كان أحبُّهما اليه أيسَرَهما. وكان أبعدَ الناس عن الإثم، ولا انتقمَ لنفسه من شيء يؤتى إليه الا أن تنتَهك حرماتُ الله» .
ثم بعد ان نفَى عنه ما يقوله المشركون، ومدَحه بشهادةٍ عظمى، جاء يطمئنُهُ بأنه هو الفائز وأنهم هم الخاسرون فيقول:
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون}
ستعلمُ أيها الرسولُ، وسَيعلمُ الكافرون الجاحدون من هو الضالّ المفتون.
ثم أكد ذلك بقوله تعالى:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}
وهذا وعدٌ من الله يشير الى أن المستقبلَ سيكشف عن الحقيقة ويُثبِت أن هذا الرسول جاءَ برسالةٍ من عند الله، وهو على هدىً وحق، والمشركون على ضلالٍ مبين.(3/359)
وقد صدق وعدُ الله وظهرت الحقيقة، ونصره اللهُ وأظهر هذا الدينَ القيّم.
{فَلاَ تُطِعِ المكذبين وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .
إيّاك أن تلينَ لهؤلاء الجاحدين المكذّبين، فدُمْ على ما أنت عليه، فقد تمنَّوا لو تتركُ بعضَ ما أنتَ عليه وتلينُ لهم وتصانِعُهم فَيَلينون لك طمعاً في تَجاوُبك معهم.
وقد حاول زعماءُ قريشٍ ان يساوموه، وأن يجمعوا له الأموال، وان يُمَلِّكوه عليهم، وهم لا يَعلمون أن هذا الرسول الكريم فوقَ هذا كلّه، لا يريدُ منهم جزاءً ولا شُكورا، ولا يريد إلا هدايتَهم إلى هذا الدينِ القويم.
ثم بيّن بعضَ صفات أولئك المكذّبين الذي هانت عليهم نفوسُهم فقال: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} .
وفي هذه الآيات عدّد تسع صفات من صفات السوء أثبتنا تفسيرَها في أول الكلام على السورة. ويقول المفسّرون ان هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان من زعماء قريش الأثرياء. وهناك أقوال كثيرةٌ لا حاجة الى إيرادها، فالآياتُ عامة في كلّ من يكذِب ويحلِف كذبا، وينمُّ ويمشي بالسوءِ بين الناس، ويثير الفتنَ والشرَّ بينهم. وهذه الأصنافُ من البشَر موجودةٌ في كل زمانٍ فَلْنحذَرْها ونتقي شرّها.
وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه ان ينقلَ إليه أحدٌ منهم ما يُغيِّر قلبه على صاحبٍ من أصحابه. وكان يقول: «لا يبلّغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئا، فإني أُحبّ أن أخرجَ إليكم وأنا سليمُ الصدر» ، رواه ابو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهـ.
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخلُ الجنةَ فتّان» والفتان هو النمّام.
وهناك أحاديثُ كثيرة تحذّر من هذه الأخلاق الفاسدة، فالإسلامُ جاء لينقِّيَ الأخلاقَ، ويعلّم الناسَ الخير، ورفيعَ الاخلاق، والمعاملةَ الطيبة، وحُسنَ المعاشرة، وهو يشدِّد في النهي عن الخلُق الذميم الوضيع.
وكان صاحبُ هذا الخلق الذميم في ايامه ذا مالٍ كثيرٍ وعدد من البنين، وهذا سبٌ كبير في كذبه وسوء خلقه، فلا تطعْه أيها الرسول، فإنه جاحد.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين}
إنه يكذّب بالقرآن الكريم ويقول عن آياته إنها خرافات من قصص الأولين لا آياتٍ من عند الله.
وبعد ان ذكَر قبائح أفعاله توعّده بشرٍ عظيم فقال:
{سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}
سنجعلُ له وسْماً وعلامةً على أنفه يوم القيامة، أي أنّنا سنفضح أمره حتى لا يخفى على أحدٍ في الدنيا، ثم يأتي يوَ القيامة وعلى انفه وسمٌ ظاهر.
قراءات:
قرأ حمزة ويعقوب وابو بكر: أأن كان ذا مال، على الاستفهام. وقرأ ابن عامر آن كان بمد الهمزة. والباقون: أ، كان ذا مال كما هو في المصحف.(3/360)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
بلوناهم: اختبرناهم، امتحناهم. الجنة: البستان. ليصرمنّها: ليقطفنّ ثمارها. مصبحين: وقت الصباح. ولا يستثنون: ولا يقولون: ان شاء الله. طائفٌ من ربك: عذاب من الله، فقد أرسل عليها صاعقة من السماء فأحرقها. كالصّريم: كالليل المظلم. فتنادَوا: فنادى بعضهم بعضا. ان اغدوا: اخرجوا غدوة مبكّرين. حَرْثكم: زرعكم. صارمين: قاطعين الثمار. يتخافتون: يتحدثون بصوت ضعيف، همساً حتى يسمعهم أحد. على حَرْد: على المنع، اي يمنعون كل احد. محرومون: حرمنا خير جنتنا بجنايتنا على انفسنا. قال اوسطهم: أفضلهم رأيا. لولا تسبّحون: ليتكُم تذكرون الله وتشكرونه على ما انعم عليكم. يتلاومون: يلوم بعضهم بعضا على اصرارهم على منع المساكين. يا ويلنا: دعاء على انفسهم بالهلاك. طاغين: متجاوزين حدود الله.
إنا امتحنّا كفارَ قريشٍ بأن أغدقنا عليهم النِعَم والأمن لنعلمَ: أيشكرون هذه النعم ام يكفرونها، كما اختبرنا اصحابَ الجنّة التي يعرفون قصتها.
فقد كان لرجلٍ بستانٌ كبير فيه من شتى أنواع الفاكهة، وكان هذا الرجل يتصدَّق منه ويعطي الفقراءَ والمساكين والمحتاجين. فلما تُوفي قال أولادُه: لو أعطينا الفقراءَ والمساكين من بستاننا هذا لما بقيَ لنا شيء. فاتفقوا ان يذهبوا الى جنّتهم صباحاً مبكّرين، وأقسموا بان لا يدخلنّها عليهم مسكين.
فأرسل الله عليها آفة أحرقتْها وهم نائمون لا يدرون ماذا جرى لها. فأصبحت جنتهم سوداء خاوية. فلما أصبحوا نادى بعضُهم بعضا ليذهبوا إليها ويقطفوا ثمارها. وانطلقوا خِلسة وهم يتهامسون حتى لا يسمع بهم أحدٌ من المحتاجين فيلحقَهم. وغدَوا إليها في حماسة وهم يظنّون أنهم قادرون على تنفيذ ما خطّطوا له {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} .
ولكنّهم فوجئوا عندما رأوها سوداء محترقة خاوية من الثمار فقالوا: {إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . . . لقد سَلَبَنا اللهُ ما رزقَنا. فقال لهم {أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلُهم وأرجحهم عقلا: أَلم أقل لكم هلاَّ تسبِّحون اللهَ وتشكرونه على ما أَولاكم من النعم، فتؤدوا حقَّ المساكين والمحتاجين!
وبعد ان سمعوا ما قال أخوهم وثابوا الى رُشدِهم اعترفوا بذنوبهم و {قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، وندموا على ما عمِلوا. ثم بعد ذلك ألقى كل واحدٍ منهم تَبِعَة ما وقع على الآخر كما قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ} ثم نادَوا على أنفسِهم بالويل والثبور، واعترفوا بذنبهم، ورجعوا الى الله، وتابوا، وسألوه ان يعوّضهم خيراً من جنتهم {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} لعلّه يعطينا خيراً من جنّتنا بتوبتنا، ويكفّر عنا سيئاتنا.
{كَذَلِكَ العذاب وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}
هكذا كان عذابُ من خالف أمرَ الله وبَخِل بما آتاه وأنعم عليه، وذلك في الدنيا، أما عذابُ الآخرة فهو أشدّ وأعظم، لو كان قومكَ أيها الرسول يعلمون ذلك.(3/361)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
تدرسون: تقرؤون. تخيّرون: أصلها تتخيرون بتاءين ومعناها تختارون. بالغة: مؤكدة مغلّظة. إن لكم لَما تحكمون: انه سيحصل لكم كل ما تريدون يوم القيامة. أيهم بذلك زعيم: من منهم الذي يكفل لهم هذا. يومَ يُكشف عن ساق: يوم الشدة. والعرب تكنّي بكشف الساق عن الشدة:
قد شمّرتْ عن ساقِها فشدّوا ... وجدّت الحربُ بكم فجِدّوا
ترهقهم ذلة: تلحقهم ذلة.
بعد ان ذَكر سبحانه حالَ الذين دُمرت جنتهم في الدنيا، وما أصابهم من النقمة حين عَصَوه - بين هنا حال المتقين وما ينتظرهم من جنّات النعيم الخالدة في الآخرة.
{إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم} الخالصِ الدائم.
وعندما سمع كفارُ قريش هذه الآية قالوا: إن الله فضّلنا عليكم في الدنيا، فلا بدّ ان يفضّلنا عليكم في الآخرة، فردّ الله تعالى عليهم ما قالوا وأكد فوزَ المتقين فقال:
{أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ!}
لا يجوز ان نظلمَ في حُكمنا فنجعلَ المسلمين كالكافرين ونسوّيَ بينهم. ماذا أصابكم؟ كيف تحكمون مثلَ هذا الحكم الجائر؟
وهل عندكم كتابٌ نزل من السماءِ تقرؤون فيه أنّ لكم فيه ما تختارون؟ أم أقسَمْنا لكم أيماناً مؤكدة باقيةً الى يوم القيامة؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} وسيحصل لكم كل ما تشتهون.
{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ}
اسأل المشركين أيها الرسول: من الذي يكونُ كفيلاً بتنفيذ هذا؟
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ؟} في دعواهم الكاذبة.
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ. . . .} .
يوم يشتد الأمر ويصعُب، ويُدعى الكفارُ إلى السجود فلا يستطيعون، كما أنه لن يُجديَهم التلاومُ ولا السجودُ في ذلك اليوم نفعا، فتزداد حسرتُهم وندامتهم على ما فرّطوا فيه.
ويأتون في ذلك اليوم خاشعةً ابصارُهم منكسرةً تغشاهم ذلةٌ مرهِقة، وقد كانوا يُدعون الى السجود في الدنيا وهم قادرون. . . . فلا يسجدون! .(3/362)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
ذرني ومن يكذّب. . . .: كِلْه اليّ واتركه لي، فإني أكفيك أمره. بهذا الحديث: بهذا القرآن. سنستدرجهم: سننتقل بهم من حال الى حال. وأملي لهم: أُمهلهم، وأطيل لهم المدة. كيدي متين: تدبيري قوي. مغرم: غرامة. مثقلون: ثقيلة عليهم. صاحب الحوت: النبي يونس. مكظوم: مملوء غيظا. العراء: الفضاء، الارض الخالية. فاجتباه: فاصطفاه. يُزلقونك: ينظرون اليك بغيظ وحنق حتى تزلّ وتنزلق. لمّا سمعوا الذِكر: القرآن الكريم. ذِكر للعالمين: تذكير للعالمين.
اترك يا محمد من يكذّب بالقرآن لي، فإني عالم بما ينبغي ان أفعلَ بهم. . . . سنُدْنِيهم من العذابِ درجةً بعد درجة فتزدادُ معاصيهم من حيث لا يشعرون، وأُمهلهم بتأخير العذاب، إن تدبيري حين آخذُهم قويٌّ لا يفلت منه أحد.
وفي الحديث الصحيح: إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلتْه.
وإن أمْرَهم لَعجيب، فأنت تدعوهم الى الله بلا أجرٍ تأخذُه منهم، {فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} فهل كُلّفوا ان يدفعوا أجراً لك فهم من هذه الغرامة مثقلون؟ وهل عندَهم علمٌ بالغيب فهم يكتبون ما يريدون وما يحكمون؟ .
ثم بعد ذلك أمر رسولَه الكريم ان يصبر على أذاهم فقال:
{وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت. . . .}
اصبر أيها الرسولُ على قضاء ربك. . لا تكن كيونسَ صاحبِ الحوت حينَ ذهبَ مغاضِبا لقومه فكان من أمرِه ما كان، فنادى ربَّه في الظلمات وهو مملوء غيظا {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 87، 88] .
ولولا أن تداركته نعمةُ ربه بقَبول توبته لَطُرِحَ في الأرض الفضاء وهو مذموم.
{فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} وردّه الى قومه نبيّاً فانتفعوا به.
ثم بين الله تعالى كيف ظهرتْ عداوتُهم للنبي الكريم، وكيفَ كانوا ينظُرون إليه بحقدٍ وضِيق فقال:
{وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}
إنهم لِشدةِ عداوتهم لك ينظُرون إليك بهذه الكراهية حتى لَيكادون يُزِلّون قدمك حسداً وبغضا حين سمعوا القرآن، ثم يزيدون في كُرههم ويقولون إنك لَمجنون.
وما هذا القرآن الا عِظةٌ وحِكمة وتذكيرٌ للعالمين، والذِكر لا يقوله مجنون، فصدَقُ الله وكذَب المفترون.
قراءات:
قرأ نافع وحده: ليزلقونك بفتح الياء والباقون: بضمها، وهما لغتان زَلِق وأزلق.(3/363)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
الحاقة: القيامة، قال في لسان العرب: سُميت حاقة لأنها تحُق (بضم الحاء) كل انسان من خير او شر: ومثلها القارعة: فهي من أسماء يوم القيامة، سميت قارعة لشدة هولها. وما أدرك: اي شيء أعلمك ما هي؟ . الطاغية: هي صيحة العذاب والصاعقة التي تأخذ الظالمين. بريحٍ صرصر: ريح باردة مهلكة لها صوت شديد. عاتية: بالغة العنف. سخّرها عليهم: سلطها عليهم. حسوما: تتابعت تلك الايام والليالي واستمرت حتى استأصلتهم. الحسم: القطع. أعجاز نخل خاوية: اصول النخل المقطوعة منذ زمن، فهي جوفاء فارغة. فهل ترى لهم من باقية: فهل ترى لهم أثرا باقيا؟ والمؤتفكات: المنقلبات، وهي قرى قوم لوط. بالخاطئة: بالأعمال الخاطئة الفاحشة. فأخذَهم أخذةً رابية: فأخذهم الله بذنوبهم أخذةً زائدة في الشدة. طغى الماء: زادَ وتجاوز حده وارتفع. حملناكم: حملنا آباءَكم. في الجارية: في السفينة التي تجري على الماء. تذكرة: موعظة. تعيَها: تفهمها وتحفظها. واعية: فاهمة حافظة. حُملت الأرض والجبال: رفعت من اماكنها وازيلت. فدُكتا دَكة واحدة: دُقَّت كلّ منهما وهُدمت. وقعت الواقعة: قامت القيامة. واهية: متداعية. والمَلَك على أرجائها: والملائكة واقفة على نواحيها.
{الحاقة مَا الحآقة؟} .
أي شيء أعلَمَكَ بها أيّها الانسان!؟ إنها فوق ما تسمعه وتراه، وتتصوّره العقول، فهي خارجة عن دائرةِ علومِ المخلوقات، لعِظَم شأنها، ومدى هولها وشدتها.
ثم ذكر اللهُ تعالى بعضَ الأمم التي كذّبت، فنزل بها ما نزل من العذاب، مثل ثمود وعادٍ الّذين كذبوا بالقيامة، فأهلكَ اللهُ ثمودَ بالصاعقة كما جَاءَ في سورة فصّلت {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] ، وهذا معنى الطاغية، والرجفة كما جاء في سورة الأعراف. . . .
واما عادٌ فأهلكهم الله بريحٍ باردة عنيفة، سلّطها عليهم سبعَ ليالي وثمانيَة أيام متتابعةٌ بلا انقطاع حتى أفناهم، {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} كأنّهم أصولُ نخلٍ متآكلة الأجواف فارغة، وأُبيدوا ولم يبقَ منهم أحد.
كذلك فرعون وقومه أخذّهم الله بكفرهم. والمؤتفكاتُ أيضاً، قرى قوم لوط، لأن الله قَلَبَ تلك القرى فجعل عاليَها سافلَها بسبب خطيئتهم ومعصيتهم. وقد ذكر فرعونَ وقومَ لوطٍ وعاداً وثمود اكثر من مرة.
ثم ذكر حادثة الطوفان زمن نوح باختصار.
لما حصل الطوفان وارتفع الماء وجاوز حدَّه حتى علا فوق الجبال - حَمَلْنا آباءكم من مؤمني قومِ نوحٍ في السفينة، وأنجيناهم من الغرق. وذلك لنجعلَ نجاةَ المؤمنين وإغراقَ الكافرين عبرةً لكم وعظة، وتفهَمَها كل أُذُنٍ حافظةٍ سامعةٍ عن الله فتنتفع بما سمعت.
وبعد ان قصّ الله علينا أخبارَ السابقين - شَرَعَ يفصّل لنا أحوال يوم الحاقّة والقيامة والقارعة والواقعة وما يكون فيه من أهوال:
فاذا نَفخ الملَكُ النفخة الأولى يكون عندها خرابُ العالم، فتُزال الأرضُ والجبال عن اماكنها.(3/364)
{فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} .
في ذلك اليوم تقوم القيامة، وتتصدّع السماءُ وتتشقّق، لأنها تكون ضعيفة واهية. وترى الملائكة واقفةً على جوانبها.
{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . من الملائكة الشِداد الاقوياء.
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} .
في ذلك اليوم تُعرضون امام الله وتحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة لا يخفى على الله من اموركم شيء. . وهذا كله يجري بأمر الله، لا ندري كيف ومت ىيكون، وكل امور الآخرة مخالفة لأوضاعنا وعقولنا لا ندركها، فندعُ تفصيلَ ذلك.
قراءات:
قرأ الجمهور قَبله بفتح القاف وسكون الباء: اي من تقدمه من القرون الماضية. وقرأ ابو عمرو والكسائي: ومن قِبله بكسر القاف وفتح الباء اي ومن عنده من أتباعه. وقرأ الجمهور: لا تخفى منكم خافية بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي: لا يخفى بالياء.(3/365)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
هاؤم: خذوا. ظننتُ: علمت، أيقنت. راضية: يرضى بها صاحبها. عالية: في القدر والمكان. قطوفها: جمع قِطف بكسر القاف، ما يقطف من الثمر. دانية: قريبة سهلة التناول. هنيئا: يعني كلوا واشربوا سائغا بلا تنغيص ولا كدر. أسلفتم: قدمتم. الأيام الخالية: الايام الماضية في الدنياز يا ليتها كانت القاضية: على حياته فيرتاح ولم يُبعث. ما أغنَى عني ماليه: لم يغن عني مالي الذي جمعته في الدنيا شيئا. هلكَ عني سُلْطَانِيَهْ: ذهب عني كل ما املك من قوة ومال وصحة. غُلّوه: شدوه بالقيود، والغلّ هو القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق. صَلّوه: ألقوه في النار حتى يصلاها. ذرعُها: طولها. فاسلكوه: فاجعلوه في هذه السلسلة الطويلة. حميم: قريب او صديق. غِسلين: صديد اهل النار.
بعد ان قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء، وتقفُ الملائكة على جوانبها، ويوضع العرشُ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء - بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر، وهم: السعداءُ أصحاب اليمين، والأشقياءُ أصحاب الشمال. فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم، ويغدُون مسرورين فرحين، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها. وكل واحدٍ منهم يقول: إني علمت أن ربّي سيحاسبني حسابا يسيرا، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} مرضيّة خاليةٍ مما يكدِّر، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} وهي جنة الخلد ذاتُ المكان الرفيع والثمارِ المختلفة التي يسهُل تناولها. وكلهم في نعيمٍ وحبور ويقول لهم ربهم: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} . . كُلوا من ثمار جنةِ الخلد هنيئاً، واشربوا من شرابها مريئا، وذلك كلّه جزاءَ ما قدّمتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية.
واما الأشقياء، وهم الذين كذّبوا الرسلَ، ولم يؤمنوا بالله ولا البعث والحساب - فإن الواحدَ منهم حين ينظر في صحيفة أعماله بعد أن تلقّاها بشماله - ينفر منها ويقول:
{ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية} .
يا ليتني لم أتلقّ كتابي، ولم أعلم أي شيء عن حسابي، ويا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها كانت نهايةَ الحياة، لم أُبعث بعدَها ولم ألقَ ما أنا فيه من عذابٍ وسوء منقلَب.
{مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} .
لم ينفعني مالي وما جمعتُ في الدنيا، وذهَب عنّي كلُّ عزٍّ وجاهٍ وصحة وقوة. . ذهبَ ذلك كلُّه وبقيَ العذابُ والوبال.
وعندها يقال لزبانية جهنم:
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} .
خذوه وأدخِلوه في النار مقيَّدا، في سلسلة طولها سبعون ذراعا لُفُّوها على جسمه حتى لا يستطيعَ حَراكا. وليس المرادُ أن طولَها كذلك، ولكن القصدَ إهانته وبيانُ هول العذاب. فقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان بخيلاً ممسِكاً لا يُطعِم الفقراء والمساكين ولا يحثّ الناسَ على إطعامهم. لذلك:
{فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ}
ليس له صديقٌ ولا قريب يدفع عنه في هذا اليوم. وطعامُه من صديدِ اهل النار، الذي لا يأكله الا الخاطئون المذنبون أمثاله ممن أصرّوا على الكفر والجحود وماتوا عليه.(3/366)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
فلا أقسِم: معناها، فأُقسِم. بما تبصرون: بما تشاهدون من المخلوقات وما في هذا الكون العجيب. وما لا تبصرون: كل ما غاب عنكم وما اكثره. ولا بقول كاهن: الكاهنُ مَنْ يتنبأ بالغيب كذباً وزورا، وكان هذا النوع من الناس شائعا عند العرب في الجاهلية. ولو تقوّل: لو افترى علينا. الأقاويل: الأكاذيب، الاقوال المفتراة. لأخذْنا منه: لأمسكناه. باليمين: بيمينه. الوتين: الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسمَ بالدم النقي الخارج من القلب، فاذا قطع هذا العِرقُ مات الانسان حالا. حاجزين: مانعين. وإنَّه لحقُّ اليقين: وان القرآن الكريم لحقٌّ ثابت من عند الله.
بعد هذه الجولةِ مع الجاحدين وما ينتظرُهم من عذاب في ذلك اليوم الشديد الهول - يعود الكتابُ ليؤكّد أن ما يتلوه الرسولُ الكريم هو القرآنُ الكريم من عندِ ربّ العالمين، وأن الأمرض لا يحتاج إلى قَسَم أنه حقٌ، صادرٌ عن الحق، وانه ليس شعرَ شاعرٍ، ولا كهانةَ كاهنٍ، ولا افتراءَ مفترٍ، فما هو بحاجة الى توكيدِ يمين.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} .
تكرر هذا التعبيرُ {لاَ أُقْسِمُ} في القرآن الكريم، وهو يمين عظيم. وهو كما يقول المتأكد من أمرٍ من المور: لا حاجة الى اليمين عليه. . . . .
لقد حارتْ قريش في أمرِ الرسولِ الكريم، وتبلبلت آراء زعمائها في ما يتلوه عليهم، فقال بعضُهم إنه كاهن، وقال بعضُهم إنه مجنون، وقال بعضهم إنه شاعر، وقال بعضهم إنه ساحر. . ولم يستقرّ رشأيهم على شيء، حتى إن أكبرَ أعدائه - وهو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، صاحبُ لواء قريش يوم بدر - قال مسفّهاً هذه الآراء كلها بقوله: «يا معشرَ قريش، انه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صِدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحرٌّ لا واللهِ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرةَ ونَفَثْهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا واللهِ ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنةَ وتخالُجَهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر! لا واللهِ ما هو بشاعر. قد رأينا الشِعر، وسمعنا أصنافه كلَّها: هَزَجَه وَرجَزه. وقلتم مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو كذلك. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم امر عظيم. . . . .» .
أُقسِم بما تشاهدون من هذا الكون العجيب وما فيه حولَكم من مخلوقات، وبما غابَ عنكم مما لا تشاهدونه، وما أكثره. . . أنّ هذا القرآن هو قولُ رسولٍ كريم أنزلَه اللهُ عليه، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} حيث كان بعض زعماء قريش يقول عنه إنه شاعر {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} وليس هو بقولِ كاهن من كهنةِ العرب كما تزعمون، بل هو: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أنزله على عبده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(3/367)
وبعد ان أثبت اللهُ تعالى أن القرآن الكريم تنزيلٌ من رب العالمين، ليس بشعرٍ ولا كهانة - أكّد هنا أن الرسولَ الأمين لا يمكن ان يتقوَّلَه، اذ لو فعلَ ذلك لأخذْنا منه بيمينه، وقطَعْنا منه نِياطَ قلبه فيموتُ حالا، فلا يستطيعً أحدٌ منكم مهما بلغتْ قوَّتُه ان يحجِزَ عقابنا عنه. وهذا معنى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
ثم بين الله تعالى أنّ هذا القرآن تذكِرةٌ وعِظةٌ لمن يتقي الله ويخشاه، وأنه حسرةً على الكافرين حينما يَرَوْنَ ثوابَ المؤمنين، {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} فهو حقٌّ ثابت لا ريبَ فيه. ولو ان منكم مكذِّبين.
ثم امر رسوله الكريم أن يسبِّح ربه العظيم وينزّهَه، ويشكره على ما آتاه من النِعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.(3/368)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
سأل: طلب. ليس له دافع: لا يستطيع أحد رده. المعارج: الدرجات، والمصاعد. واحدها معرج بكسر الميم ومعرج بفتحها، ومعراج. الروح: جبريل. المُهل: المعدن المذاب كالفضة والحديد وغير ذلك، وعكر الزيت. العهن: الصوف. حميم: قريب، صديق. الفصيلة: العشيرة. لظى: جهنم. الشَّوى: واحدها شواة، جلدة الرأس. جمعَ فأوعى: جمع المال وخبأه في وعاء، وبَخِل به ولم يصرف منه في وجوه الخير.
كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ومتى يكون؟ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون، منكرين ومستهزئين: متى هذا الوعد؟ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار. فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة.
إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة، لن يستطيع أحدٌ ردَّه، وسيأتيهم من الله تعالى خالقِ السموات وما فيها من مسالك، والذي يعصَدُ جبريل والملائكة اليه في يومٍ طويلٍ شاقّ على الكافرين مقدارُه خمسون الف سنة من ايامنا هذه. ويجوز ان يكون أطول، فليس المرادُ من ذِكر الخمسين تحديدَ العدد، بل بيان شدةِ ذلك اليوم وعظم هوله. فاصبرْ يا محمدُ على استهزائهم واستعجالهم العذابَ {صَبْراً جَمِيلاً} .
ثم بين الله تعالى ان هذا اليومَ آتٍ لا شكّ فيه فقال:
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} .
إن الكفار الجاحدين يرون يوم القيامة مستحيلاً لا يَقَع، ونراه واقعاً قريباً غير متعذَّر على قدرتنا، فَلْيحذروه.
ثم ذكر وقتَ حدوث ذلك اليوم وشيئاً من أهواله فقال:
{يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل}
إنه يوم شديدُ الهول تذوب فيه السماءُ كالمعادن المنصهرة ويصيرُ لونُها مثل عَكْرِ الزيت أما الجبال فتغدو مثل الصوف المنفوش تتطاير في أرجاء الكون. وفي ذلك الهول الشديد يصير كل انسان مشغولاً بنفسه، لا يسألُ عن أقاربه ولا أصدقائه. . . . وإنهم لَيرون بعضهم البعض لكنه لا يسال أحدٌ عن احد، ويتمنى الكافر لو يفدي نفسَه من عذاب يوم القيامة ببنيه، وزوجته، وأخيه وعشيرته التي ينتمي اليها، بل وبجميع من في الأرض، علّه ينجو من العذاب. . {كَلاَّ} لا يمكن ان ينجيه شيء، ولا يُقبل منه فداءٌ ولو جاء بأهل الأرض جميعا. بل إن مصيرَهُم الى لظى جهنّم الشديدةِ الحرارة حتى تنزعَ جلدةَ الرأس عنه.
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى وَجَمَعَ فأوعى}
انها تنادي أولئك المجرمين الذين تولَّوا عن الدعوة في الدنيا، وأعرضوا عن الحق، وجمعوا المالَ وكدّسوه في خزائنهم، ولم يؤدوا حقّ الله فيه.
فهل هناك اكبر من هذا التهديد والوعيد لمن بَخِلَ بماله، وأعرضَ عن الله ورسوله. . . . فاعتبِروا يا أولي الألباب.
قراءات:
قرأ الجمهور: سأل سائل بالهمزة. وقرأ نافع وابن عامر: سال بغير همزة. وقرأ الجمهور: تعرج بالتاء. وقرأ الكسائي: يعرج بالياء. وقرأ الجمهور: ولا يسأل بفتح الياء. وقرأ ابن كثير: ولا يسأل بضم الياء مبنيّاً للمجهول. وقرأ حفص وحده: نزاعة بالنصب. والباقون: نزاعة بالرفع.(3/369)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
خلق هلوعا: ضجورا سريع الحزن اذا اصابه مكروه، واذا أصابه الخير فهو منّاع له. حق معلوم: نصيب معيَّن للسائل من الفقراء، وللمحروم الذي لا يسال الناس. مشفقون: خائفون. حافظون: يحفظون انفسهم عن الحرام. راعون: لا يخلّون بشيء من حقوقها.
في هذه الآيات الكريمة يبيّن اللهُ تعالى حقيقة النفس البشرية عندما يمسُّها شرّ أو خير، ويبين حقيقةَ الجاحدين المانعين للخير، الذين يَضْجَرون بسرعة اذا مسّهم الشر، ويمنعون أداءَ حقِّ المال اذا أصابهم خير. ثم قال:
{إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ. . . .}
ان هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات الطيبة، وهي إقامةُ الصلاة والمداومة عليها، والّذين يجعلون في أموالهم نصيباً معيّنا للفقراء والمساكين، ويصدِّقون بيوم القيامة، ويخافون عذابَ ربّهم، ويتحلَّون بالعفة فلا يَقْربون إلا نساءَهم او جواريَهم - فإنهم غيرُ مَلُومين.
{فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون}
فالذين لا يتعفّفون، ويَجْرون وراءَ شهواتِهم في الحرام أولئك هم المعتدون الذين تجاوزوا أوامرَ الله ورسوله.
{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}
والّذين يؤدّون الأماناتِ ويحافِظون على العهود ويؤدّون شهاداتِهم بصِدق، ويحافظون على صلاتهم {أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} ، هؤلاء الذين يتحلَّون بهذه الصفات الرفيعة - لهم الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بشر.
قراءات:
قرأ حفص: شهاداتهم بالجمع. وقرأ الباقون: شهادتهم بالإفراد. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم بالافراد. والباقون: لأماناتهم بالجمع.(3/370)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قبلك: بكسر القاف وفتح الباء، نحوك جهتك، في الجهة التي تليك. مهطعين: مسرعين، والفعل أهطع: يأتي بمعنى نظر في ذلٍّ وخشوع، وبمعنى أسرع. عِزين: جماعات مفردها عِزَة بكسر العين وفتح الزاي. بمسبوقين: بمغلوبين. الأجداث: القبور، واحدها جَدَث بفتح الجيم والدال. النصُب: كل ما نصب للعبادة من دون الله، كالأصنام وما شابهها. يوفضون: يسرعون. خاشعة أبصارهم: أبصارهم ذليلة. ترهَقُهم: تغشاهم.
ما بالُ هؤلاء الّذين كذّبوا برسالتك مسرِعينَ إليك، يجلِسُون حوالَيْك جماعاتٍ جماعات، ليسمعوا ما تتلوه عليهم من آياتِ الله، ثم يردّدونها فيما بينَهم ساخرين!! ولا يعون ما تُلقيه عليهم من رحمة الله وهدْيه! ومثله قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] .
ثم بين مآلهم وأنهم لا يدخلون الجنةَ أبداً فقال:
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} .
أيطمعَ هؤلاء في ان يدخلوا الجنةَ، وقد كذّبوك ايُّها الرسول ولم يؤمنوا برسالتك، وهم معرِضون عن سماع الحق!! كلا: لا مطمعَ لهم في ذلك ولا نصيب. وكيف يطمعون في دخولِ الجنة، وهم يكذّبون بالبعث والجزاء؟ وقد خلقناهم من ماء مهين.
ثم أوعدهم بأنهم إن لم يؤمنوا ويرجعوا عن كفرهم - أهلكَهم واستبدلَ بهم قوماً غيرهم خيراً منهم فقال:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} .
لقد أقسَم الله تعالى بربِّ المشارقِ والمغارب (وهي مشارقُ الشمس ومغاربها) وببقية النجوم والكواكب، فهي تُشرق كل يومٍ من مكان، وتغرب كذلك (فمشارقُ الشمس متعدّدة وكذلك مغاربها) إنه لَقادر على ان يُهلكَهم ويأتي بخلْقٍ خيرٍ منهم، وما هو بعاجز عن هذا التبديل.
ثم سلّى جلّ جلالُه رسولَه الكريم عما يقولون ويسخرون بأنهم سيلاقون يومهم الذي وعدَهم الله، وهناك سيلقون جزاءهم. في ذلك اليوم يَخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي كأنهم يهرولون الى النُصُب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنّ حالَهم مختلفٌ، فإنهم يأتون وأبصارُهم خاشعة أذلاَّء تعلو وجوهَهكم الكآبة والحزن.
{ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ}
ذلك اليوم هو يوم القيامة وما فيه من أهوال عظام هو موعدُهم، وفيه ينالون جزاءَهم، وبئس المصير.
قراءات:
قرأ حفص وابن عامر: نُصُب بضم النون والصاد. وقرأ الباقون: نَصَب بفتح النون والصاد، وهما لغتان. او ان النصب بضم النون والصاد جمع نصب بفتح النون وسكون الصاد. والله اعلم.(3/371)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
ليلا ونهارا: دائما. جعلوا أصابعهم في آذانهم: سدّوا آذانهم حتى لا يسمعوا. استغشَوا ثيابهم: تغطوا بها لئلا يروا. يُرسِل السماءَ عليكم: يرسل المطر. مدرارا: غزيرا.
لقد اخبر الله تعالى في أول هذه السورة الكريمة أنه أرسل نوحاً الى قومه لينذرَهم بأسه قبل أن يأتيَهم عذابٌ شديد. فقال نوح: يا قوم إنّي نذيرٌ لكم، فعليكم أن تعبدوا اللهَ وحده وتطيعوه، فإن أطعتُم وآمنتم يغفرْ لكم ذنوبَكم ويمدّ في أعماركم {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ووقتٍ محدّد، إن أمر الله اذا جاء لا يُردّ ولا يؤجَّل {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
فعصاه قومُه ولم يستجيبوا له فقال: يا رب، لقد دعوتُ قومي لعبادتك ليلاً ونهاراً فلم تزدهم دعوتي لهم إلا فِرارا من دِينك، وإني كلّما دعوتُهم لتغفرَ لهم، سدُّوا مسامعَهم بأصابعهم وغطوا رؤوسهم بثيابهم حتى لا يسمعوا الحقَّ وأصروا على كفرهم {واستكبروا استكبارا} . ثم إنتي دعوتُهم بأعلى صوتي جهارا، كما دعوتُهم سِرا، وقلت لهم: {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} يُغِيثْكم ويُرْسِلِ الأمطار عليكم غزيرةً تُخصِب أرضَكم وتُحيي زروعكم، ويمدُّكم بالأموالِ والبنين، {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} تجري من تحتِها، لتعيشوا بأحسنِ حال.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة وابو عمرو: انِ اعبدوا الله بكسر النون لالتقاء الساكنين. والباقون: أنُ اعبدوا الله بضم النون. وقرأ الجمهور: دعائي بفتح الياء. وقرأ الكوفيون ويعقوب: دعائي باسكان الياء كما هو في المصحف.(3/372)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
ترجون: معناه هنا تخافون، وقد يستعمل للأمل. وقارا: عظمة واجلالا. اطوارا: في حالات متعددة. طباقا: بعضها فوق بعض، او يشبه بعضها بعضا في الإتقان. بساطا: مبسوطة واسعة. فجاجا: واسعة.
قعد أن دعاهم نوح الى الله في السرّ والعلَن، وطلبَ إليهم ان يَستغفِروه حتى يرزقَهم الغيثَ كي يحسِّن وضعَهم، ويمدّهم بالأموالش والبنين. . وحاولَ ان يهذِّب نفوسهم بأن يتّبعوا مكارمَ الأخلاق - استنكر نوحٌ على قومه وتعجّب من إعراضِهم كيف لا يهابون الله ولا يخافون من قُدرته وعظَمته. {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} مختلفةً فكنتم نطفةً في الأرحام، ثم علقةً، ثم مُضغةً، ثم عِظاما، ثم كسا العظام لحماً، ثم انشأكم خَلْقاً آخر {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] .
ثم ينبّهُهُمْ إلى هذا الكونِ العجيب وهذه السماواتِ وإتقان صُنْعِها، إذ جعلَ القمرَ فيها يشعُّ بالنور، وجعلَ الشمسَ كالسراجِ تُوَلّد الضوءَ. ولقد خلقكم اللهُ من هذه الأرضِ مثلَ ما أنبتَ النباتَ منها، {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} بعد الموتِ، فيخرجُكم يومَ القيامة. واللهُ جعلَ لكم الأرضَ مبسوطةً لتسلكوا فيها الطرقَ المريحةَ الواسعةَ أين ش~ئتُم من نواحيها وأرجائها وتسعوا في مناكبها.(3/373)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
كُبارا: بضم الكاف وفتح الباء المشددة: كبيرا عظيما. لا تذَرُنّ: لا تتركن. وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونَسْراً: اسماء اصنام كانوا يعيدونها. مما خطيئاتِهم أغرقوا: من اجل ذنوبهم اغرقوا بالطوفان. ديّارا: احدا يعمر الديار. تبارا: هلاكا.
بعدَ ان يئس نوحٌ من قومه في هذه المدَّة الطويلة التي قضاها بينَهم توجّه الى ربه وقال: ربّ إنهم عَصَوني واتَّبعوا طواغيتَهم من الأغنياءِ الأقوياء الذين لن تزيدَهم أموالُهم وأولادُهم الا خُسرانا. وقد مكروا بي وبدِينك مكراً كبيرا جدًا، وقالوال لأتباعهم: لا تتركوا آلهتكم التي تعبُدونها ولا تتركوا وَدّاً ولا سُواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونَسْرا. وقد أطاعهم الناسُ فأضلّوهم {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} .
{مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} .
وبسببِ ذُنوبهم أغرقَهم الله بالطوفان، وأُدخِلوا بعدَ ذلك ناراً عظيمة. وذلك يومَ القيامة، ولم يجِدوا لهم أنصاراً يَحْمُونَهم من عذابِ الله.
ثم قال نوح بعدَ يأسِه الشديد: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً. . .}
يا ربّ، لا تترك على الأرضِ أحَداً من الكافرين، إنّك يا ربّ إن تَتركْهم دونَ هلاكٍ {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} .
ثم طلب نوح الغفرانَ ولأبوَيه وللمؤمنين والمؤمنات، وأعادَ الدعاءَ على الكافرين مرّةً اخرى فقال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} .
أي خُسراناً وبُعداً من رحمتك. أما سيدُنا محمد الرسولُ العربي الكريم فإنه لم يَدْعُ على قومه بل دَعا لهم أكثرَ من مرَةٍ وكان يقول: «اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يَعلمون» وقد استجابَ له. ونسأل اللهَ تعالى ان يهديَ العربَ الى سَواء الطريق ويجمع كلمتَهم، ويوحّد صفوفَهم ليواجهوا عدوَّهم المشترك، وان يقوّوا صِلَتَهم بجميع المسلمين {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] .
قراءات:
قرأ نافع: ودا بضم الواو. والباقون: ودا بفتح الواو. وقرأ ابو عمرو: مما خطاياهم، والباقون: مما خطيئاتهم.(3/374)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
النفر: ما بين الثلاثة والعشرة. عجبا: عجيبا بعديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس. الجد: بفتح الجيم العظمة والوقار والقدر. يقال جد يجد جدا: عظم، وفي الحديث «تبارك اسمك وتعالى جَدّك» السفيه: الجاهل، الطائش. سفه يسفه سفها وسَفاها وسفاهة: خفّ وجهل وطاش. شططا: غلوا، وافراطا. يعوذون: يستجيرون ويلتجئون. كان الرجل في الجاهلية اذا امسى في مكان خالٍ يقول: أعوذُ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ولا يعوذ بالله. رهقا: إثما، وحَمْلَ المرء على ما لا يطيق.
قل يا محمد لأمتك: أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم: إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، فدُهِشوا من عَظَمت~هـ وبلاغته فقالوا لقومهم: إنّا سَمِعْنا قرآناً بدينعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، يدعو الى الهُدى {فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} . وقل لهم: إنه جلَّ وعلا ما اتخذَ زوجةً ولا ولدا. وعلى لسان الجنّ أخبرهم يا محمد انه كان يقول سفهاؤنا على الله قولاً بعيداً عن الحقّ والصواب، وأنّا كنا نظنّ أن لن يَكذِب احد على الله تعالى فينسبَ اليه الزوجة والولد، ويصفه بما لا يليق به. وكذلك أخبر قومك يا محمد أن بعض الجن يقولون إن رجالاً من الانس كانوا يستعيذون برجال من الجن ولا يستعيذون بالله فزادهم الجن ضلالا وطغيانا. وأن الجنّ ظنّوا كما ظننتم معشَرَ الانس، ان الله لن يبعثَ أحداً بعد الموت ولن يبعثَ رسولاً من البشَر إليهم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وحفص: وأنه تعالى بفتح الهمزة وكل ما هو معطوف عليها، وذلك في احد عشر موضعا الى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله. . .} . وقرأ الباقون بكسر الهمزة في هذه المواضع كلها الا في قوله تعالى {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} [الجن: 18] فانهم اتفقوا على الفتح.
اما من قرأ بالفتح في هذه المواضع فعلى العطف على قوله «فآمنا به» كأنه قيل فصدقناه وصدّقنا انه تعالى جدّ ربنا الخ. . . واما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على: {إِنَّا سَمِعْنَا. . .} .(3/375)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
لقد أراد الجن ان يستمعوا خبر السماء فوجدوها {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} تنقضّ عليهم، وقالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} يهلكه ويحرقه.
وان الجن قالوا: نحن لا نعلم، أعذابٌ أُريد بمن في الأرضِ من هذه الحِراسَة الشديدة على السّماء لمنعِ الاستماع، أم أرادَ بهم ربُّهم خيراً وهدى.
وان الجن منهم الأبرارُ الصالحون، ومنهم دون ذلك {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} وفرقاً شتّى وأهواءَ مختلفة.
وأنا أيقنّا أنا لن نُعجز اللهَ أينما كنّا في الأرض، ولن نُعجِزَه هَرَباً من قضائه، فإنّ الله قادرٌ علينا حيث كنّا.
وأما لما سَمِعْنا القرآن آمنّا به، فمن يؤمن بربِّه فلا يخافُ نَقْصاً من حَسَناته، ولا ظُلماً يلحقه أبدا.
وأنا فريقان: مسلمون مُقرون بالحق، وقاسِطون جائرون عادِلون عن الحق، فمن أسلمَ {فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} وقصَدوا سبيلَ الحق، {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} يوم القيامة.
الى هنا انتهى كلام الجن. ثم عاد الحديث الى ذِكر ما أُوحيَ الى الرسول الكريم فقال تعالى: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} .
أوحى الله إلى الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لو استقام الانسُ والجنُّ على الحقّ والعملِ بشريعة العدل، ولم يَحِيدوا عنها - لأسقيناهم ماءً غزيرا، ولرزقناهم سَعة في الرزق ورخاءً في العيش. يقال سقاه وأسقاه. والفعلان وردا في القرآن الكريم.
ولنختبرهم، كيف يشكرون لله نِعمه عليهم.
{وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} . أي عذاباً شديداً.
ومن يغيّر او يبدّل، ولا يتّبع أوامرَ الله ونواهيَه يُدْخِله اللهُ عذاباً شاقاً لا يطيقُ له حملا.
قراءات:
قرأ هل الكوفة ويعقوب: يسلكه بالياء. والباقون نسلكه بالنون.(3/376)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
المساجد: جمع مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، وتشمل جميع المعابد. فلا تدعوا: فلا تعبدوا. عبد الله: محمد صلى الله عليه وسلم. لبدا: بكسر اللام وفتح الياء، جماعات والمراد: متراكمين متزاحمين. وسيأتي انه قرئ: لُبدا بضم اللام وفتح الباء، وهما لغتان. ولا رشدا: ولا نفعا. ملتحَدا: ملجأ وملاذا. امدا: غاية. رصدا: راصدا يرصده.
قل أوحي إليّ أن المساجدَ لله فلا تعبُدوا فيها مع الله أحدا. وانه لمّا قامَ محمد صلى الله عليه وسلم يعبدُ اللهَ ويقرأُ القرآن كاد الجِنُّ يكونون مزدَحِمين عليه جماعاتٍ، نعجُّباص مما رأوه وسمِعوه.
وقال بعض المفسّرين: لمّا قامَ عبدُالله بالرسالة يدعو الله وحدَه مخالفاً المشركين في عبادَتِهم الأوثان، كادَ الكفّارُ لِتظاهُرِهم عليه وتعاوُنِهم على عَداوته يزدَحِمون متراكمين جماعاتٍ جماعات.
قل يا محمد لأولئك الّذين خالَفوك: إنما أعبدُ الله ربِّي ولا أُشركُ به في العبادة أحدا.
ثم بين انه لا يملك من الأمر شيئا وأن كل شيءٍ بيدِ الله:
{قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} .
لستُ أملك لكم دفعَ ضرر ولا تحصيلَ هدايةٍ ونفع، وانما الّذي يملِكُ ذلك كلَّه هو الله تعالى.
ثم بين الكتاب عجز الرسول عن شئون نفسِه بعد عجزِه عن شئون غيره فقال:
{قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} .
إنه لا يجيرني من الله ولا يدفع عني عذابَ الله إن عصيتُه أحد، ولن أجِد من دونه ملجأً ولا ملاذا، ولن ينصرني منه ناصر.
{إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ} إنني لا أملِك إلا تبليغاً عن اللهِ ورسالاته التي بعثني بها.
ثم بيّن جزاء الذين يعصُون الله ورسوله فقال:
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} .
ومن يعصِ الله فيما أمَرَ به، ويكذّب برسوله - فإن جزاءه نارُ جهنم يَصلاها خالداً فيها ابدا.
{حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} .
وعندما يرون جهنم والعذابَ الذي أُعدَّ لهم سيعلمون من هم المستضعَفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى أم المشركون الذين لا ناصرَ لهم ولا معين!
ثم أمر الله رسولَه الكريم ان يقول للناس: إنه لا عِلمَ له بوقتِ الساعة، ولا يدري أقريب وقتُها أم بعيد، فهو لا يعلم شيئاً من الغَيب إلا اذا أعلمه اللهُ به. وهذا معنى قوله:
{إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} .
الا رسولاً ارتضاه لِعِلْمِ بعضِ الغيب، فإنه يُدخِل من بين يدي الرسولِ ومن خَلْفِه حفظةً من الملائكة تحولُ بينه وبين الوساوس، فالله يصونُ رُسلَه ويحفظهم من كل شيء.
{لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} وقد عَلِمَ تفصيلاً بما عندهم، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} فعلم عدد الموجودات كلّها، لا يغيبُ عنه شيءٌ منها.
قراءات:
قرأ ابن عامر: لُبدا بضم اللام. والباقون لبدا بكسر اللام وفتح الباء. وقرأ عاصم وحمزة: قل انما ادعو ربي بفعل الأمر، والباقون: ق لانما ادعو ربي بالفعل الماضي.
وهكذا انتهت هذه السورة الكريمة بردّ كل شيء اليه تعالى، وانه يراقب كل شيء حتى رسُله الكرام.(3/377)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
المزمل: المتلفف بثيابه ومثله المتزمل، يقال ازَّمَّل وتزمل بثوبه التفّ به وتغطى، وزمَّل غيره اذا غطاه. . رتّلِ القرآن ترتيلا: اقرأه على مهل وبين حروفه بوضوح. قولاً ثقيلا: الوحي وما فيه من كلام عظيم وتكاليف شاقة. ناشئةَ الليل: الاستيقاظ من النوم والقيام للصلاة. أشدّ وطأ: اكثر مشقة. وأقومُ قيلا: أثبتُ قراءة وأصوب، لحضور القلب وهدوس الاصوات. سَبْحا: تقلبا وتصرفا في مهام امورك، واشتغالا في امور الرسالة. وتبتَّلْ اليه تبتيلا: انقطع الى الله وأخلص اليه. واتخذْه وكيلا: فوض كل امورك اليه.
هذه الآياتُ من أولِ ما نزلَ من الوحي على الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد روي في الاحاديث الصحيحة أنه لما جاءه جبريلُ وهو في غار حِراء في أول الوحي خافه الرسول، وظنّ ان به هو مسّاً من الجنّ، فرجع من غار حِراء مرتعِدا يرجُف فؤادُه، فقال لأهله: زمِّلوني وملوني، لقد خشيتُ على نفسي. واخبر خديجةَ الخبر. فنزلت هذه الآياتُ:
{ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} .
يا أيها المتلفّف بثيابه، قُم في الليلِ وانشَط للصلاة، لتستعدَّ للأمرِ الجليل، وهو تبليغُ دعوة ربّك للناس. ثم بيّن له المقدارَ الذي يصلّيه: نصفَ الليل، أو أقلَّ من النصف، او زِدْ عليه بقدْرِ ما تستطيع، واقرأ القرآن ببيانٍ ووضوحٍ وترتيب. . . . وهذا قبل ان تُفرضَ الصلواتُ الخمس.
ثم أخبره تعالى بأنه سيُلقي عليه قرآناً عظيماً فيه تكاليفُ شاقة على المكلَّفين، فاستعدَّ لهذا الأمر يا محمد. ثم بيّن له بوضوحٍ أن الصلاةَ بالليل والنهوضَ للعبادة شديدُ الوطأة، ولكنّه أقْوَمُ وأثبتُ لقراءة القرآن، لِحضورِ القلب، ولأن الليلَ تهدأ فيه الأصواتُ وتنقطعُ الحركة، فيكون الذهنُ أجْمَعَ، والنفسُ أصفَى للتدبُّر والتأمل في أسرار القرآن الكريم.
{إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً}
ان لك في النهارِ وقتاً طويلاً تَصْرِفه في العملِ والاشتغال بأمور الرسالة، ففرّغ نفسَك في اللّيل لعبادةِ ربّك.
ثم انتقلَ بعد ذلك إلى أمرِ الرسول الكريم بتبليغ الدعوةِ والانقطعاِ لذلك وتفويضِ أموره كلّها إليه:
{واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً}
استعنْ على تبليغ دعوتك بذِكر الله، وانقطعْ إليه في عبادَتِك وأمورك جميعها.
ثم بين له أنه ليس هناك إلا اللهُ وحدَه، فاتجهْ إليه بالعبادة، هو مالكُ هذا الكون العجيب الكبير، {فاتخذه وَكِيلاً} وفوِّض أمورك إليه، واستمدَّ القوةَ والعون منه لتحملَ العِبء الثقيلَ الذي القي عليك.
قراءات:
قرأ ابن عامر وابو عمرو: وطاء بكسر الواو وفتح الطاء وبعدها الف. والفعل واطأ يواطئ مواطأة ووطاء. وقرأ الباقون: وطئا بفتح الواو وسكون الطاء. والفعل وطئ وطئا. وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب: رب المشرق، بكسر الباء. والباقون: رب المشرق برفع الباء.(3/378)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
هجراً جميلا: تبعّد عن خصمك بلا عتاب ولا اذى. أولي النَعمة: بفتح النون، اصحاب النعيم المتنعمين بأموالهم واولادهم. النعمة بفتح النون: الرفاهية وطيب العيش. والنِعمة بكسر النون: ما أنعم الله به على الانسان من رزق ومال وغيره. مهِّلهم وأمهلهم: اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم. أنكالا: جمع نكل (بكسر النون) وهو القيد الشديد. ويقال: فلان نكل شر. وطعاماً ذا غصة: هو الطعام الذي لا يستساغ، يقف في الحلق فلا يدخل ولا يخرج. الكثيب: الرمل المجتمع كالتل، جمعه كثبان وكثب وأكثبة. مَهيلا: ينهال ويتحرك من الرياح ولا يثبت. أخذاً وبيلا: اخذا ثقيلا. منفطر: متصدع، متشقق.
بعد ان بيّن اللهُ لعبادِه كيف تكون العبادةُ وكان ذلك في أوائل الدعوة - أدَّب الرسولَ الكريم بآدابٍ رفيعة يعامِل بها المكذّبين.
اصبر أيها الرسولُ على أذى سفهاء قومك، ولا تكترثْ بما يتقوّلون عليك مثل قولهم: «ساحر أو شاعرٌ أو مجنون» او غيرِ ذلك من الأباطيل. ابتعدْ عنهم، ولا تتعرّضْ لهم بأذى وخالفْهم في الأفعال، مع المداراة والحِلْم والصبر.
ثم أمر رسولَه ان يترك أمرَ المشركين إليه، أولئك الذين أبطرتْهم النعمةُ، فالله هو الكفيلُ بمجازاتهم وسوف لا يكون ذلك طويلا. ثم ذكر أنه سيعذّبهم بالأَنكالِ والقيودِ الشديدة والنارِ المستعرة، وبالطعام الذي لا يُستساغ بل ينشبُ في الحَلْق، وبالعذابِ الأليم.
متى يكون هذا؟ سيكون:
{يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} .
ذلك يومً القيامة، يومَ تُزلزَلُ الأرضُ وتصير الجبال مفتتة كالرمال التي تنهالُ ولا تثبُتُ على حال ثم تُنْسَفُ نسفاً، فلا يبقى منها شيء.
وبعد ان خوّف المكذّبين بأهوالِ القيامة بيّن لهم ما لقيَ مَن قبلَهم من المم السالفة وما حلّ بهم من العذابِ والدمار فقال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} .
إنا أرسلْنا اليكم يا أهلَ مكة والعربَ والعالمَ اجمعَ محمداً يشهدُ عليكم يومَ القيامة، كما أرسلنا الى فرعونَ موسَى يدعوه إلى الحق، فعصَى فرعونُ الرسولَ الذي أرسلناه اليه، فأخذناه أخذاً شديداً، حيث أهلكناه ومن معه بالغَرق. فاحذَروا ان تكذّبوا رسولكم، فيصيبكم مثلُ ما أصابه. ثم أعاد تهديدَهم وتخويفَهم بعذابِ الآخرة فقال: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}
إن كفرتم وأصرَرْتُم على جُحودكم فكيف تَتّقون عذابَ ذلك اليوم الذي يَشِيبُ لِهولِهِ الأطفال، وتنشقُّ السماء! ووعدُ الله واقعٌ لا محالة، واللهُ لا يُخلِفُ وعْدَه.
ثم بعد ما بيّن ما يقع في ذلك اليوم من أهوالٍ مخيفةٍ أخذَ يذكّرهم بأنّ هذه الأشياءَ التي قدّمها ما هي الا موعظة، فمن شاءَ الانتفاعَ بها {اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} فاختارَ طريقَ السلامة بالإيمان والتقوى. . . . وهذا من الترغيب في الأعمال الصالحة بعدَ ذلك الترهيبِ والتخويف.(3/379)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
أدنى: اقل. يقدّر الليل والنهار: يقدر طول الليل والنهار وقصَرهما ويعلم مقاديرهما واجزاءهما وساعاتهما. فتاب عليكم: فخفّفَ عنكم بأن تصلّوا ما تستطيعون وما تطيقون. فاقرأوا ما تيسّر من القرآن: فصلّوا ما يمكنكم وما يتيسر لكم من صلاة الليل.
ثم تُختم السورةُ بهذه الآية الطويلة وفيها تخفيفٌ ورحمةٌ للمؤمنين. ويقول معظم المفسّرين إن هذه الآية نزلت بعدَ عامٍ من نزول سورة المزمل.
إن ربك يا محمد يعلمُ انك تقوم أقل من ثلث الليل احيانا، وتقوم نصفه وثلثه في بعض الاحيان، وان طائفة من اصحابك كذلك تقوم من الليل كما تقوم انت، والله يقدّر طول الليل والنهار، وهو يعلم انكم لا تستطيعون احصاء اجزاء الليل والنهار (لانه لم يكن عندهم ساعات يضبطون فيها الاوقات) . فخفف الله عليكم للاعذار التي تحيط بكم من مرض او سفر او جهاد للعدو، ولذلك صلّوا ما تستطيعون من صلاة الليل، وواظبوا على الصلاة وأداء الزكاة. وتصدقوا في سبيل الخير، على الفقراء والمساكين والاعمال العامة.
{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} .
أي شيء تفعلوه من وجوهِ البرّ والخير والإحسان تلقَوا ثوابَهُ عندَ الله بأضعاف ما قدّمتموه. . . . فاستغفِروا الله من فعلِ السيّئات والتقصيرِ في الحسناتِ، إن الله غفور رحيم دائماً وأبدا.
وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} دليلٌ من دلائل النبوة، لأن الآية مكية، والجهادُ لم يُفرض إلا بعدَ الهجرة.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وابو عمرو: ونصفه وثلثه بالجر، والباقون: ونصفه وثلثه بالنصب. والحمد لله اولا وآخرا.(3/380)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
المدّثر: اصلُه المتدثر وهو الذي يتغطَّى بثيابه ويلتفّ بها. أنذِر: حذّر قومك من عذاب الله ان لم يؤمنوا. كبِّر: عظم. وثيابك فطهّر: اعتن بالنظافة في ثيابك وفي نفسك. تقول العرب عن الرجل اذا نكث العهد ولم يف به: انه لَدَنِس الثياب. واذا وفى ولم يغدر: انه طاهرُ الثوب. فالمطلوب: تطهير النفس والثياب والجسم. الرجز: الذنب، وكل محرّم، وعبادة الاوثان. ولا تمنن تستكثر: لا تمنَّ بعملك على غيرك، ومعنى تستكثر: لا تستكثر ما أعطيتَ وبذلت. الناقور: الصور الذي ينفخ فيه يوم القيامة.
يا أيها الذي تدثَّر بثيابه رعباً وخوفاً من رؤية الملَكِ، قُمْ وشمِّرْ عن ساعِدِ الجد، وأنذِر الناسَ عذابَ يوم عظيم، وادعُهم الى الدِين القويم، ولْيتركوا عبادةَ الأوثان وما عندهم من الخرافات. . ادعُهم إلى معرفة الحق لينجُوا من هول شذلك اليوم العظيم.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
عظّم ربك، وخُصَّه وحدَه بالتعظيم. وطهِّر ثيابك وجسمك ونفسَك، والطهارةُ اساسٌ عظيم في دين الاسلام.
يقول الاستاذ بثنام في كتابه أصول الشرائع: ان كثرةَ الطهارة في دين الإسلام تدعو معتنقية إلى رقيّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتّباع أوامره خير قيام.
{والرجز فاهجر. . . .}
اهجر المعاصي والآثام وابتعدْ عن الغرور والمنِّ فيما تعلِّمُ وتعطي، ولا تمنُنْ على أصحابك فيما تعلّمهم وتبلّغهم عن الوحي مستكثراً ذلك عليهم، ولا تستكثر أي شيء بَذَلْتَه للناس، لأن الكريم يستقلُّ ما يُعطي وان كان كثيراً، وأعطِ عطاءَ من لا يخاف الفقر. وفي هذا تعليمٌ لنا أ، نعطيَ ما استطعنا من غيرِ منٍّ ولا أذى.
{وَلِرَبِّكَ فاصبر}
اصبر في أداء رسالتك على أذى قومك، ابتغاءَ وجه ربك، ولا تجزَعْ من أذى من خالفَك.
وبعد ان وجّه اللهُ الرسولَ الكريم الى التحلّي بمكارم الاخلاق، والبعدِ عن الجفاء والسَّفَه وكلِّ ما لا يليق بأصحابِ المقامات العالية - أتى بوعيدِ الاشقياء وما سيلقونه من عذابٍ فقال:
{فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} .
فاذا جاء وعدُ ربك ونُفخ في الصُّور فذلك اليومُ يومٌ شديد الهول على الكافرين، غيرُ هيّنٍ ولا يسير، وليس له مثيل {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] . هل يوجد اعظم من هذه الصورة لذلك اليوم؟ حسبنا الله ونعم الوكيل!!(3/381)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
ذرْني ومن خلقتُ وحيدا: اتركني واياه ولا تشغل قلبك به. وهذا الفعل لا يستعمل منه الا فعل الأمر والمضارع، فلم تستعمل العرب منه الفعل الماضي. ذرني وفلانا: كِلْه إليّ. . . . وحيدا: خلقته في بطن امه وحيدا لا مال له ولا ولد. وكان يقال للوليد بن المغيرة: الوحيد، لانه وحيد في قومه، فمالُه كثير، من إبلٍ وخيل وغنم وتجارة وزرع وعبيد وله عشرة ابناء الخ. . . . ممدودا: كثيرا. شهودا: حضورا معه يتمتع بمشاهدتهم. ومهّدت له تمهيدا: بسطت له الرياسة والجاه العريض. سأرهقه صعودا: ساكلفه عقبة شاقة لا تطاق، وهذا كناية عن العذاب الشديد. وقدَّر: هيأ ما يريده. فقُتل كيف قدر: لعنه الله كيف قدّر ما قاله من الطعن في القرآن. عبس: قطب ما بين عينيه. وبَسَر: كلح وجهه وظهرت الكراهية عليه. سِحر يؤثر: ينقَل ويروى. سأصليه سَقر: سأُدخله في جهنم. لا تبقي ولا تذر: لا تبقي لحما، ولا تترك عَظماً الا أحرقته. لواحة للبشر: تسوِّدُ بشرتهم. عدّتهم: عددهم. فتنة: اختبار وامتحان. ذكرى: تذكرة وموعظة للناس.
في هذه الآيات عرضٌ لذِكر أحدِ زعماء قريش الكبار، هو الوليدُ بن المغيرة. وكان من اكبر أثرياء قريش ورؤيائها، يُقال له «العَدْل» لأنه كان عَدْلَ قريشٍ كلّها، إذ كانت قريش تكسو البيتَ، والوليد يكسوه وحدَه. وكان ممن حرَّم الخمرَ في الجاهلية، ولكنه أدركَ الإسلامَ وهو شيخٌ كبير وعادى النبيّ عليه الصلاة والسلام وقاوم دعوته بشدّة. وقد سمع القرآنَ وتأثر به وقال عنه: لقد سمعُ من محمدٍ كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن. . والله إن لَه لحلاوةً، وان عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لمثْمِر، وان أسفلَه لَمُغْدِق، وانه يعلو ولا يُعلى عليه.
ومع ذلك فقد بقي على عنادِه وكفره وجمع قريشاً وقال لهم: «إن الناسَ يأتونكم أيامَ الحج فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهنٌ، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، وليس يُشبه واحداً مما يقولون. ولكن أصلَحُ ما قيل فيه أنه ساحر، لأنه يفرق بين المرء وأخيه والزوج وزوجته» . وقد مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر، وأسلمَ من اولاده خالدُ بن الوليد وهشام وعمارة، والوليدُ بن الوليد.
دَعني ومن خلقتُه وحيداً فإني سأكفيكَ أمره، هذا الذي أنعمتُ عليه بمالٍ كثير، وعَشَرة بنين يحضرون معه المحافلَ ويتمتع بمنظرهم و {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} وبسطتُ له الرياسةَ والجاه العريضَ والسيادة في قومه، فكان سيّداً مطاعاً عزيزا، ثم يطمع ان أَزيدَ في ماله وبنيه وجاهه بدون شكر، {كَلاَّ} لا أفعلُ ولا أزيدُ. وقال المفسّرون: وقد تبدّلت حال الوليد بعد نزول هذه الآية وماتَ على أسوأ حال.(3/382)
{إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً}
انه كان للقرآن معانِدا مكذِّبا.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً}
سأكلفه عذاباً شاقاً لا راحة فيه.
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}
انه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعنِ في القرآن بعدما سمعضه وأعجبه، قاتلَه الله ولعَنه، كيف قدّر وقال لقريش إن محمّداً ساحر، وان هذا القرآن سِحر يؤْثَر ويروى.
{ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر}
ثم نظر في وجوه الناس، ثم قطَب وجهه وزادَ في كُلوحه، ثم أعرضَ عن الحق الذي عرفه، وتعاظَمَ ان يعترفَ به {فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ينقله الرواة عن الأولين، ونقله محمد عن غيره ممن كانَ قبلَه من السحرة.
{إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر}
ما هذا الا قولُ الخلق تعلَّمه محمدُ وادّعى أنه من عند الله.
ثم بين الله تعالى ما هو جزاؤه يوم القيامة فقال:
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}
سأدخِله جهنم ليحترقَ بها ويذوقَ أشدّ العذاب، وما أدراك ما جهنم؟ إنها لا تبقي لحماً ولا تترك عظماً الا أحرقَتْه، تأكل الأخضَر واليابسَ كما يقولون، وانها تُلَوِّحُ الوجوهَ والبشرةَ وتسوِّدُها، عليها تسعةَ عشرَ من الملائكة موكَّلون بها، كما جاءَ في قوله تعالى ايضا: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
{وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً. . . .} .
وما جعلْنا خزنةَ النار الا ملائكةً تقدَّم وصفُهم بالشِدة والغِلظة، وما جعلنا عِدَّتَهم تسعةَ عشر الا فتنةً واختبارا للذين كفروا، وذلك.
{لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} .
ليحصل اليقينُ لليهود والنصارى بنبوة محمدٍ لموافقةِ ما جاءَ في القرآن لكتُبهم، فقد شهِدَ عددٌ من علماءِ اليهود والنصارى آنذاك ان عدَّةَ الخزنة تسعةَ عشر.
{وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً} .
ولكيَ تطمئن قلوبُهم بذلك، ولا يشكّ أهلُ التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله في حقيقةِ ذلك العدد.
{وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} .
وليقول المنافقون والمشركون الكافرون: ما الذي أراده اللهُ بهذا العدَدِ المستغرَبِ استغرابَ المثل؟
{كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} .
والله تعالى كما أضلَّ المنافقين والمشركين يُضِلُّ مِنْ خلْقه من يشاءُ فيخذُله عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء منهم فيوفّقه إلى الخيرِ والهدى. وما يعلم جنودَ ربّك ومقدارهم إلا هو سبحانَه وتعالى. {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} وما سَقَرُ إلا تذكرة للبشَر وتخويفٌ لهم.(3/383)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
كلاّ: تأتي لمعانٍ أربعة:
الأول: ان تكون للردع والزجر، وهو الغالبُ في استعمالها، مثل قوله تعالى {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62] والمعنى انتهوا عن القول.
الثاني: ان تكون للرد والنفي فتردّ شيئا وتثبت آخر مثل ان يقول المريضُ الذي لم يعمل ينصح طبيبه: شربتُ ماء، فيقول الطبيب: كلا، بل شربتَ لبنا. معناه ما شربت ماء، ولكنْ شربتَ لبنا.
الثالث: تكون بمعنى ألا، يُستفتح بها الكلامُ للتنبيه، مثل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6، 7] .
الرابع: ان تجيء جواباً بمعنى حقاً وتكون مع القسَم، مثل قوله تعالى هنا: {كَلاَّ والقمر} ومعناه حقاً، وأُقسم بالقمر الخ. . . .
أدبر: ولى. أسفر: اضاء. انها لإحدى الكبر: غن جهنم لاحدى الدواهي الكبيرة. رهينة: مرتهنة بعملها. ما سَلككم: ما ادخلكم. نخوض مع الخائضين: نخالط اهل الباطل في باطلهم وكثر من الكلام الذي لا خير فيه. حتى أتانا اليقين: حتى اتانا الموت. مستنفرة: نافرة، هاربة. القسورة: الأسد. منشَّرة: منشورة.
كلا: لا سبيلَ لكم إلى إنكار سقَرَ وصفتها المخيفة. وأُقسِم بالقمر، وبالليلِ إذا ولّى وذهب، وبالصُّبح إذا تبلّج وأضاء - إن جهنّم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العِظام لإنذار البشَر لمن شاءَ ان يقبلَ الإنذارَ او يتولّى عنه.
وهذا تهديد وإعلام بأن من تقدم الى الطاعة والايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جازاه الله بثواب لا ينقطع ابدا، ومن تأخر عن الطاعة ولم يؤمن بمحمد عوقب عقابا لا ينقطع ابدا.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
فهي محبوسة بعملها، مرهونة عند الله بكسْبها. {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} لأنهم فكّوا رقابَهم بحُسْنِ أعمالهم، وبطاعتهم وإيمانهم. . ولذلك فانهم {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين} ؟ .
فقد جزاهم الله أحسنَ الجزاءِ فهم في غرفاتِ الجناتِ يسألُ بعضهم بعضاً عن المجرمين. ويقولون لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟} ما الذي أدخلكم جهنم؟ فاجابوهم أن هذا العذابَ الذي هم فيه سببه اربعة أمور:
الاول: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} لم نصلِّ مطلقا لاننا لم نكن نعتقد بوجوب الصلاة علينا.
الثاني: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} ولم نكن من المحسنين، ولم نتصدق بفضل اموالنا على الفقراء والمساكين.
الثالث: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} وكنا لا نبالي بالخوض في الباطل مع من يخوض فيه، ونكثر من الكلام الذي لا خير فيه: في حق محمد واصحابه، وفي امر القرآن فنقول انه سحر وشعر وكهانة.
الرابع: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} وكنا نكذب بيوم القيامة، ولم يؤمن بالبعث والنشور والجزاء والحساب، {حتى أَتَانَا اليقين} حتى جاءنا الموت فعرفنا اننا كنا في ضلال تائهين.
ولذلك قال الله تعالى معقبا على اعترافهم بجرمهم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات واعترافهم بجريمتهم لا يمكن ان يشفع لهم احد، لأن لهم النار خالدين فيها ابدا.(3/384)
ثم اكد توبيخهم والتقريع عليهم بقوله:
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ؟}
فما لهم عن التذكير بالقرآنِ والعظة به منصرفين، كأنهم حميرٌ فرَّت من اسدٍ يطاردُها ليفترسَها.
ثم بين انهم بلغوا في العناد حداً لا يتقبله عقل، فقال:
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}
فكل واحدٍ منهم يريد ان ينزِلَ عليه كتابٌ مفتوح من السماء. وكانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً فليصبحْ عندَ رأسِ كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءة من النار (كلا) : زجرٌ وتوبيخٌ على اقتراحهم لتلك الصحف، {بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة} لانهم لم يؤمنوا بها. {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} حقا ان القرآن تذكرة بليغة ك افية، فمن شاء ان يذكره ولا ينساه فعل.
وما يذكرون الا بمشيئة الله، هو أهل لأن يتقى، وأهل لان يغفر لمن اتقاه. . بابه مفتوح دائما. والحمد لله رب العالمين.
قراءات:
قرأ الجمهور: اذا دبر اذا بالف بعد الذال، ودبر بوزن ضرب. وقرأ نافع وحمزة وحفص: اذ ادبر، اذ بسكون الذال، وأدبر بوزن أكرم. ودبر وأدبر لغتان.(3/385)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
لا أُقسِم بيوم القيامة: ان الامر لا يحتاج الى قسم لأنه في غاية الوضوح. ولا أُقسِم بالنفس اللوامة: لأن البعث حق لا شكل فيه. اللوامة: هي النفس التوافة الى المعالي التي تندم على الشر لِمَ فعلته، وعلى الخير لمَ لم تستكثر منه. البنان: مفردها بنانة ونهي اطراف الاصابع. لِيَفجُر أمامه: ليدوم على فعل المعاصي ولا يتوب الى الله. أيان يوم القيامة: متى يوم القيامة. برق البصر: تحير من الخوف والفزع. خسف القمر: ذهب ضوؤه. لا وزر: لا ملجأ. ينبأ: بخبر. معاذيره: اعذاره. لتعجَل به: لتأخذه على عجل مخافة ان ينفلت منك. قرآنه: قراءته.
اقسم الله تعالى تعظمة يوم القيامة، وبالنفس الكثيرة اللوم لصاحبها على الذنب والتقصير في الخير - لَتُبعثُنَّ أيها الناسُ ولتحاسَبنّ على ما فعلتم. أيحسب الانسان بعد ان خلقناه من عدم ان لن نجمع ما بلي من عظامه بعد ان تفرقت في الأرض! بلى نحن قادرون على ذلك وعلى أعظمَ منه، فنحن قادرون على ان نسوي بنانه على صغرها ولطافتها، وضم بعضها الى بعض، فكيف بكبار العظام! ان من يقدر على جمع العظام الصغار فهو على غيرها من الكبار أقدَر.
واعلم ان عظام اليدين ثلاثون، وعظام اصابع الرجلين ثمانية وعشرون، فيكون مجموعهما ثمانية وخمسين، وهذه عظام دقيقة وضعت لمنافع لولاها ما تمت تلك المنافع كالقبض والبسط واستعمال اليدين في الجذب والدفع وغير ذلك مما لا يحصى. فلولا دقة هذه العظام وحسن تركيبها ما انتظمت الاعمال المترتبة على اليدين. وكذلك الفقرات، تعدّدت ولم تجعل عظمة واحدة، لانها لو جُعلت واحدة لعاقت حركة الانسان. وقد جُعلت فقراتٍ متتالية ليمكنه الحركة والسكون، ويكون ذلك سهلا عليه اينما كان، فلولا الفقرات وتفصيلها لم يقدر الانسان على الانحناء للاعمال والحركات المختلفة، بل يكون منتصبا كالخشبة. ومجموع العظام في جسم الانسان مئتان وثمانية واربعون قطعة، {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] .
{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} .
بل يريد الانسان ان يتمادى في عصيانه وفجوره الى آخر لحظة من عمره ولا يتوب الى الله. ويسأل مستهزئا: متى يومُ القيامة؟ ونحو الآية قولُه تعالى وقد تكرر كثيرا: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48، الأنبياء: 38، النمل: 71، سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25] .
وقد أجاب الله تعالى على هذا السؤال بان لها علامات بيّن ثلاثاً منها بقوله الكريم:
{فَإِذَا بَرِقَ البصر وَخَسَفَ القمر وَجُمِعَ الشمس والقمر يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر؟} .
فاذا تحير البصر وزاغ من شدة الهول ومن عظيم ما يشاهد، وذهب نور القمر، وجُمع الشمس والقمر إيذانا بخراب هذا الكون - عند ذلك تقوم القيامة، ويتحقق الانسان من صحة قيامها ويقول من دهشته وتحيره: اين المفر من هذه الكارثة التي حلت فيه؟ فيأتي الجواب:
{كَلاَّ لاَ وَزَرَ} .(3/386)
كلا ايها الانسان، لا شيء يعصِمك من أمر الله، ولا ملجأ ولا جبل ولا شيء يقيك من العذاب. كما قال تعالى ايضا: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} [الشورى: 47] .
ثم بين حقيقة الحال فيقول:
{إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} .
المرجع الى الله في ذلك اليوم الرهيب.
{يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .
وفي ذلك اليوم تنشَر الصحف ويخبر الانسان بجميع اعماله: أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] .
ثم بين الله تعالى ان اعظم شاهد على المرء هو نفسه فقال:
{بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} .
الانسان يعلم ما فعل وما ترك وهو حجة بيِّنة على نفسه، فلا يحتاج الى ان ينبئه غيره، فسمعه وبصره وجوارحه تشهد عليه، وسيحاسَب على فعله مهما أتى بالاعذار {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] .
{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
في هذه الآيات الأربع توجيه وطمأنينة للرسول الكريم بان امر الوحي، وحفظ القرآن وجمعه وبيان مقاصده - كل أولئك موكول الى الله، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم: اذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تعجل وتتابعه في القراءة مخافة ان يفوتك شيء منه، فنحن نجعله بكامله في قلبك، ان علينا جمعه في قلبك. . واثبات قراءته في لسانك، فاذا قرأه رسولنا عليك فاتبع يا محمد قراءته منصتاً لها، ثم علينا بعد ذلك بيانه، وعصمتك من الخطأ والنسيان وبيان احكامه. وفي سورة طه 114: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} . وفي هذا تعليم لنا حتى نتأدب بأدب القرآن ونتدبر آياته.
قراءات:
قرأ الجمهور: برق البصر بكسر الراء، وقرأ نافع: برق بفتح الباء والراء.(3/387)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
ناضرة: حسنة مشرقة، متهللة بما ترى من النعيم. ناظرة: تنظر الى ربها. باسرة: عابسة كالحة. فاقرة: داهية عظيمة تكسر عظام الظهر. التراقي: جمع ترقوة، عظم في اعلى الصدر. من راق: من يرقيه وينجيه مما هو فيه. الفراق: فراق الدنيا والاحباب والاصحاب. التفّت الساق بالساق: التوت احدى الساقين على الأخرى عند نزع الروح. المساق: المرجع والمآب الى الله. يتمطى: يتبختر في مشيته تكبرا وخيلاء. أَولى لك فأَولى: هذه العبارة دعاء على العاصي المتكبر بمعنى ويل لك ثم ويل لك وهلاك لك ايها المكذب. سدى: مهملا لا يسأل. نطفة: ماء قليلا، والجمع نطاف ونطف. يمنى: يراق ويصب في الارحام. علقة: قطعة دم جامد.
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة. وَتَذَرُونَ الآخرة} .
الخطاب هنا يعود لكل من انكر البعث والجزاء وآثر الدنيا ومتاعها، ولم يعمل للآخرة ليس الأمرُ كما تقولون من أنكم لا تُبعثون بعد مماتكم، بل أنتم تحبون الدنيا وملذّاتها، وتتركون الآخرةَ ونعيمها.
ثم وصف ما يكون يوم القيامة بأن الناس ينقسِمون الى فريقين: أبرار وجوهُهم مشرقة حسنة مضيئة تشاهد عليها نَضْرة النعيم، تنظُر الى ربها عِياناً بلا حجاب. ووجوه يومئذ كالحة شديدة العبوس، تتوقع ان تنزل بها داهية تقصم الظهر.
وبعد ذِكر اهوال القيامة، ووصفِ سعادة السعداء وشقاوة الاشقياء - بين ان للدنيا نهاية، وأن الموتَ مصيرُ كل الناس. وان الكافر أضاع الفرصةَ في الدنيا، فلا هو صدَّق بأوامر الدين ولا أدى فرائضه، وبين انه لا بدّ من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وهذا خلافُ العدل، ولا يَليقُ بخالِق الكون العادل الحكيم. وانه كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الانسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الانسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً آخر.
{كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق}
ازدجِروا وتنبهوا الى مصيركم وارتدعوا عن حب الدنيا التي تفارقونها، اذا بلغت الروح عظام النحر، وقال أهل الميت والحاضرون: هل هناك أحد يرقيه ويشفيه مما به؟ وأيقن المحتضر أنه مفارق الدنيا والأهل والمال والأصحاب وبلغت به الشدة اقصاها {والتفت الساق بالساق} فالتوت احداهما على الأخرى وخرجت الروح. {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} الى خالقك المرجع والمآب، فإما الى جنة واما الى النار {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} .
فما صدق هذا الجاحد بوحدانية الله، ولا أدى ما عليه من الصلوات، ولكن كذّب القرآن، فاعرض عن الايمان، وتولةى عن طاعة الله، ثم راح يمشي مشية تكبر وخيلاء افتخارا بما صنع.
{أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى}
ويل لك مرة بعد أخرى، وهذا تهديد ووعيد معناه أولاك الله ما تكرهه، والنار أولى بك وأجدر.(3/388)
ثم اقام الله الديل على البعث بقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} وهذا ليس عدلا، اذ لا بد من حياة اخرى يجازى فيها كل انسان بما فعل، ولا بد من الجزاء على صالح الاعمال وسيئها، والا تساوى المطيع والعاصي، وذلك ليس عدلا، وهذا لا يليق بالحكيم العادل، الذي خلق هذا الكون المنتظم.
ثم بين انه خلق الانسان من شيء صغير لا يُرى، وجعله بهذه المنزلة وهذا التركيب وإعادته اهون عليه فقال:
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} .
الم يكن الانسان نطفة في صلب ابيه، وأودعها الرحم، وخُلق من شيء لا يرى بالعين المجردة، فصار علقة، ثم سواه الله بشرا باحسن تقويم، وجعل منه ذكرا او انثى عمروا هذا الكون فاذا كان الله قادرا على خلقه من لا شيء، ألا يمكنه ان يعيده مرة اخرى؟ بلى انه على كل شيء قدير. وليس خلق الانسان بشيء إذا قيس بخلق هذا الكون العجيب الفسيح الكبير كما قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] .
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: كلا بل يحبون العاجلة ويذَرون الآخرة، بالياء، والباقون: بالتاء. وقرأ حفص وابن عامر ورويس: من مني يمنى بالياء كما هو في المصحف. والباقون: من مني تمنى بالتاء. والحمد لله رب العالمين.(3/389)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
هل أتى: قد أتى، استفهام معناه التقرير والتأكيد. حين: وقت من الزمن غير محدود. أمشاج: أخلاط واحدها مشج ومشيج. نبتليه: نختبره. هديناه السبيل: بينّا له طريق الخير والشر. أعتدنا: هيأنا، أعددنا. الأغلال: القيود، واحدها غل بضم الغين. سعيرا: نارا. الأبرار: الصادقون، أهل الطاعة والاخلاص. مزاجُها: ما يمزج به. الكافور: شجر من الفصيلة الغاريّة، يتخذ منه مادة شفافة بلورية الشكل رائحتها عطرية.
يخبر الله تعالى عباده في هذه الآيات انه قد مضى على الانسان وقتٌ من الزمن غير معلوم لديه لم يكن شيئا يُذكر، ولا يعرف.
ثم أتبعه بذِكر العناصر الداخلة في تكوين الانسان فقال:
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .
خلقنا هذا الانسانَ من نطفة فيها أعدادٌ لا تحصى من الحُويّنات التي لا تُرى بالعين المجردة، وهذه النطفة تختلط ببيضةِ المرأة، وباتحادِهما يتكون الجنين، وهاتان النطفتان مخلوقتان من عناصر مختلفة، وتلك العناصرُ آتيةٌ من النبات والحيوان الداخلَين في طعام الآباء والأمهات، ومن الماء الذي يشربونه. . فهي أخلاط، كُونت ومزجت وصارت دماً، فنطفةً، فعلقة الخ. . . . .
وقد خلقنا هذا الانسان لِنبتليَه بالتكاليف فيما بعدُ، ثم أعطيناه السمع والبصر ليتمكن من استماع الآياتِ ومشاهدة الدلائل، ويعقِل ويفكر.
ثم ذكر أنه بعد ان ركّبه من هذه الأخلاط وأعطاه الحواسّ الظاهرة والباطنةَ - بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال:
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}
وبعد أن أعيناه السمعَ والبصر والعقل، نصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق، ليتميز شكرُه من كفره، وطاعته من معصيته.
ثم بين الله تعالى ان الناسَ انقسموا في ذلك فريقين: فريقاً جحدوا ولم يؤمنوا فأعدّ الله لهم عذاباً أليما منه قيود في أعناقهم وأيديهم، وناراً تشوي الوجوه والاجسام. وفريقَ الأبراب الصادقين في إيمانهم يشربون شراباً لذيذا ممزوجاَ بماءِ الكافور ومن ماءٍ عذْب زلالٍ من عينٍ صافية يجرونها حيث شاؤا ويتمتعون بهذا النعيم المقيم.
قراءات
قرأ نافع والكسائي وابو بكر: سلاسلاً بالتنوين. والباقون: سلاسل بفتح اللام بغير تنوين.(3/390)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
مستطيرا: منتشرا، فاشيا. عبوسا: تعبس فيه الوجوه. قمطريرا: شديد الشر مظلما. والفعل اقمطرّ الشر: اشتد وتجمع. لقّاهم: اعطاهم. نضرة: حسنا وبهاء. الأرائك: واحدتها أريكة: السرير، والمقعد الوثير المنجد. الزمهرير: أشدُّ البرد. دانية: قريبة منهم مظللة لهم. وذُللت قطوفها تذليلا: سخرت لهم ثمارها بحيث تكون في تناول أيديهم. القطوف: واحدها قِطف بكسر القاف وهو ما قطف من الثمر، والعنقود. بآنية من فضة: واحدها إناء بكسر الهمزة وهو كل ما يوضع فيه الشراب. والأكواب: واحدها كوب وهو الكوز الذي لا عروة له. والقوارير: واحدها قارورة: اناء رقيق من الزجاج. قدّروها تقديرا: قدرها الساقون بأحجام تناسِب الذوق والحاجة مما يحقق المتعة والجمال. مزاجها زنجبيلا: الزنجبيل نوع من النبات طيب الرائحة. السلسبيل: الشراب السائغ اللذيذ، واسم عينٍ في الجنة. وِلدان مخلدون: دائمون في بهائهم وحسنهم. السندس: نوع من الحرير الرقيق. الاستبرق: نوع من الحرير الغليظ.
في هذه الآيات الكريمة عرضٌ وتفصيل لصور النعيم الذي أفاضه الله تعالى على عباده الأبرار في جنة الخلد، وهذا العرض من أطولِ ما وردَ في القرآن الكريم لصُورِ النعيم ومشاهده. وقد بدأ ببيان أعمالهم وما قدّموا من خير للناس فقال:
{يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .
هؤلاء الابرارُ يوفون بما أوجبوه على انفسهم من نَذْرٍ في طاعة الله، ويخافون من هولِ يوم القيامة، ذلك اليوم المخيفِ الذي يعمّ شرُّه ويستطير بين الناس إلا من رحمَ الله. وهم يُطعِمون الطعام رغم حاجتهم إليه الى المسكين واليتيم والفقير. . والمرادُ من اطعام الطعام الاحسانُ الى المحتاجين ومواساتهم بأي وجه.
وبعد ان ذكر ان الأبرار يحسِنون الى المحتاجين بين ان لهم في ذلك غرضَين: طلبَ رضا الله عنهم، وخوفَ يوم القيامة:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}
لا نريد عن عملنا هذا عِوَضاً ولا نريد منكم ثناء.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .
إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربُّنا يوم القيامة، ويتلقّانا بلطفه في ذلك اليوم الشديد الهولِ والشر.
ثم بين الله تعالى انه أمَّنَ لهم مَطلبهم فقال:
{فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}
فحماهم اللهُ من شر ذلك اليوم وشدائده، وأعطاهم نضرةً وحُسناً في وجوههم وسروراً في قلوبهم.
ثم زاد من كرمه وإحسانه فقال:
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً} ،
أعطاهم على صبرهم، واحسانهم للناس، وإيمانهم الصادق - هذا النعيمَ في الجنة والخلودَ فيها، ولباسَ الحرير الذي كان ممنوعا في الدنيا.
ثم وصف شرابَهم وأوانيه والسقاةَ الذين يطوفون عليهم به، وما هم فيه من سعادةٍ أبدية فقال:
{مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} .
يجلسون على أفخرِ الأسرّة والمقاعد متكئين عليها يتحدّثون ويتسامرون، لا يجِدون في الجنة حَرّاً ولا بردا.(3/391)
وهم في جنةٍ وارفة الظلال، ثمارُها قريبة من متناول أيديهم، تغمرهم السعادةُ.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}
ويطوف عليهم الولدانُ من خَدَمهم بأوعية شرابٍ م نفضة، وبأكواب من زجاجٍ شفاف عليها غشاءٌ من فضة، قدّرها لهم السقاةُ الذين يطوفون عليهم على قَدْرِ كفايتهم وحاجاتهم وحسب ما يشتهون.
ثم وصف مشروبهم بأنه شرابٌ لذيذ منعش ممزوج بالزنجبيل، ويُسْقَون من عين في الجنة اسمها السلسبيل، لسلاسَتها وسهولةِ مساغها. . وهذا كله ما هو الا أسماء لما هو شبيهٌ بما في الدنيا. وهناك ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وكل ما في الآخرة مغاير لما في حياتنا الدنيا.
ثم بين أوصافَ السقاةِ الذين يطوفون عليهم بذلك الشراب فقال:
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} .
ويطوف على هؤلاء الأبرار من أهل الجنة ولدان يظلّون على ما هم عليه/ من الشباب والنضارة والحُسن، منظرُهم مبهج مفرح، وإذا رأيتَ جماعةً منهم حسبتَهم لحُسنِ ألوانهم ونضارة وجوههم ورشاقتهم في الخدمة كأنهم لؤلؤ منثور.
وبعد ان ذكَر اللهُ تعالى نعيم أهل الجنة بما تقدَّم - بين أن هناك امورا أعلى وأعظم من كل ما ذُكر فقال:
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}
واذا رأيتَ ما في الجنة من النعيم وما تفضّل الله به على عباده الابرار من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، ومُلكاً كبيرا واسعا لا غاية له، يختلف كل الاختلاف عما نراه في هذه الدنيا الفانية.
وفي الحديث القدسي: «أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}
في هذه الآية الكريمة يصف الله تعالى ملبسَهم أنه من حريرٍ ناعم رقيقِ هو السندس، وحريرٍ غليظ هو الديباج، ويلبسون الحليةَ من فضة وذهب كما جاء في آية اخرى في سورة فاطر: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [الكهف: 31] .
ثم ذكر شرابا آخر يُسقَونه يفوق النوعَين السابقين اللذَين مر أنهما يمزجان بالكافور والزنجبيل. فقال هنا: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} يطهُر شاربه، ويتلذّذ به فيصبح في منتهى السعادة والسرور.
ثم بين الله تعالى ان هذا كله جزاءٌ لهم على ما قدموا من صالح الأعمال، وما زكَّوا به أنفسَهم من صفات الكمال فقال:
{إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} .
ان هذا الذي أعطيناكم من الكرامة جاءَ ثواباً لكم على ما كنتم تعملون، وكان عملكم مشكورا، رضيَه ربُّكم وحَمِدَكم عليه، فأثابكم بما اثابكم به من الكرامة. {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية}(3/392)
[الحاقة: 24] . كل هذا يتلقَّونه من الله العليّ القدير، وهذا يعدِلُ كل ما تقدّم من أصناف النعيم، ويمنحها قيمة اخرى فوق قيمتها، ويزيد في سرورهم وحبورهم.
قراءات
قرأ حفص وابو عمرو وابن ذكوان {قَوَارِيرَاْ، قَوَارِيرَاْ} بالألف من غير تنوين وقرأ ابن كثير: قواريراً بتنوين الاول وقوارير الثانية من غير تنوين. وقرأ نافع والكسائي وابو بكر: {قَوَارِيرَاْ، قَوَارِيرَاْ} بالتنوين لهما. وقرأ حمزة: قوارير قوارير بعدم التنوين فيهما. وقرأ نافع وحمزة وابن محيصن: عليهم بإسكان الياء وكسر الهاء. وقرأ الباقون عاليهم بنصب الياء وضم الهاء. وقرأ ابن كثير وابو بكر وابن محيصن ثياب سندس خضر بجر خضرٍ نعتاً لسندس، ورفع استبرق عطفا على ثياب. وقرأ نافع وحفص برفع خضر واستبرق. وقرأ حمزة والكسائي بجر خضر واستبرق.(3/393)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
آثما: فاجرا مجاهرا بالمعاصي. كفورا: مشركا. بكرة وأصيلا: صباحا ومساء. فاسجد له: صلّ له. وسبّحه: تهجّد له. ويذرون وراءهم: لا يهتمون به. يوماً ثقيلا: يوم القيامة. شددنا أسرهم: أَحكمنا خَلقهم.
إنا نحن انزلنا عليك يا محمد القرآن من عندنا، وهو حقٌّ لا ريب فيه لِتذكِّرَ الناسَ بما فيه من الوعد والوعيد، وتعلّمهم وتهذّبهم، {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} من مقاساة الشدائد في تبليغ الرسالة، فان العاقبة والنصر لك.
{وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}
أي من المشركين، مهما أغْرَوْكَ به من متاع الدنيا، ودُم على ذكر ربك، فصلّ الصلواتِ في الصباح والمساء، وأكثِر السجودَ في الليل وتهجّد به وسبّحه ليلاً طويلا مستغرقا في صلواتك ومناجاة ربك.
ثم أنكر الله تعالى على الكفار حُبَّ الدنيا والإقبال عليها، وإهمالَهم الآخرةَ ونسيانها فقال:
{إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .
إن هؤلاء المشركين يحبون الدنيا وتُعجِبُهم زينَتُها فهم يؤثرونها على الآخرة، وينسَون ان أمامهم يوماً شديدا فيه الحساب والجزاء.
ثم نعى عليهم شِركهم، وغفلتهم عن طاعة الله فقال:
{نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} .
نحن خلقناهم وأحكمنا خَلقهم في أحسنِ تقويم، واذا شئنا اهلكناهم وأتينا بخير منهم بدلاً منهم.
ثم ارشد الله تعالى الى ان هذا الذِكر تذكرةٌ وموعظة للناس، لمن أراد ان يتعظ ويُقبلَ على الله فقال:
{إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
ان هذه الآيات بما فيها من ترتيب بديع، ومعنى لطيف -لهي تذكرة للعقلاء المتبصرين، فمن شاء اتخذ بالإيمان والتقوى الى ربه طريقا يوصله الى مغفرته وجنّته، فبابُه مفتوح دائما، ومغفرته وسعت كل شيء.
{وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} .
وما تشاؤون ان تتخذوا الى الله سبيلا الا ان يشاء الله، فالأمرُ اليه سبحانه، والخير والشر بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطيَ لما منع. . ان الله عليم بأحوالكم، حكيم فيما يشاء ويختار، يُدخل من يشاء في جنته، فدخولُها بفضله ورحمته.
{والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في الآخرة هو عذاب دهنم وبئس المصير.
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: وما تشاؤون بالياء، والباقون وما تشاؤون بالتاء.
انتهى سورة الانسان نسأل الله تعالى ان يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار ويجعل سعينا لديه مشكورا.(3/394)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
المرسَلات: الملائكة. عُرفا: للعرف والخير. العاصفات: الرياح الشديدة، عصفت الريح عصفا وعصوفا اشتد هبوبها. الناشرات: تنشر الرياح السحب في الفضاء. فالفارقات: بين الحق والباطل. فالملقيات ذِكرا: الملقيات العلم والحكمة الى الأنبياء. عُذراً او نُذرا: للإعذار والانذار. طمست: محيت وذهب نورها. فُرجت: شقت. نسفت: اقتلعت من اماكنها. أُقتت: عين لها وقت. أُجلت: اخِّرت. ليوم الفصل: يوم القيامة الذي يفصل فيه بين العباد. ماء مهين: نطفة صغيرة. في قرار مكين: في الرحم. الى قدر معلوم: مدة الحمل. فقدرنا: على كل شيء. كفاتا: جامعة للأحياء والأموات. كَفَتَ الشيءَ: ضمه وجمعه. رواسي: جبالا ثوابت. شامخات: مرتفعات. فراتا: عذبا.
أقسم اللهُ تعالى بطوائف من الملائكة، منهم المرسَلون الى الأنبياء بالإحسان والمعروف والخير ليبلغوها للناس، ومنهم الذين يعصِفون ما سوى الحق ويُبعدونه كما تُبعِد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمة الله في النفوس الحية، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقونَ العلمَ والحكمة لينذروا الناس. اقسم بكل ما تقدم بأنّ يوم القيامة الذي توعدون به لواقعٌ آتٍ لا ريب فيه. وذلك حين تُمحقُ النجوم ويذهب نورها، وتتشقق السماءُ، وتُنسف الجبال، ويُعيَّن للرسُل الوقت الذي يشهدون فيه على أُممهم.
{وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الفصل}
ليوم القيامة، اليوم الذي يكون فيه الفصل بين الخلائق.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} .
ما أعلَمك يا محمد بيوم الفصل وشدّته وهوله، ما الذي تعرفه عن ذلك اليوم العظيم؟
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
الهلاك والويل في ذلك اليوم للذين كفروا وكذّبوا رسُلَهم.
وبعد ان حذّر الكافرين وخوّفهم وأنذَرهم بأن يوم الفصل آتٍ لا ريب فيه، اردف ذلك بإعلامهم بانه أهلكَ الكفارَ من الأمم الأولين المكذبين. {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين}
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} .
ثم نحن نفعل ذلك بأمثالهم من الآخرين. . فاذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستُعذَّبون في الدنيا والآخرة.
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} .
الذين كذّبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وبكل مجرم كذّب وكفر بالله واليوم الآخر.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
هلاك لكل مكذّب وجاحد في ذلك اليوم الشديد.
ثم ذكّرهم بجزيل نعمه عليهم في خَلقهم وايجادهم بهذه الصورة الحسنة في أحسن تقويم.
{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} .
الم نخلقكم أيها الناس من ماءٍ حقير من تلك النطفة، فجعلنا هذا الماءَ المهينَ في مكان حريز في الرحم، الى زمنٍ معلوم محدّد، فقد! رنا على خلْقِه وتصويره في احسن تقويم، فنعم القادرون والخالقون.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بنعمة الله تعالى وبقدرته على كل شيء.
وبعد ان ذكّرهم بالنِعم التي أنعم بها عليهم في الأنفس ذكّرهم بما أنعم عليهم في الآفاق فقال:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} .
ألم نجعل الأرضَ ضامَّةً على ظهرها أحياءً لا يُعدّون، وفي بطنها امواتا لا يحصرون، وجعلنا فيها جبالا ثوابت شامخاتٍ عاليات، وأسقيناكم ماء عذباً سائغا تشربون منه، وتسقون دوابكم وزروعكم!؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
قراءات:
قرأ الجمهور: عُذرا ونُذرا بإسكان الذال فيهما. وقرأ الحرميان وابن عامر وابو بكر: عذرا باسكان الذال، ونُذُرا بضمها.(3/395)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
لا ظليل: لا يقي من الحر. ولا يغني من اللهب: لا يقي الانسان من لهب النار. بشررٍ كالقصر: ان جهنم ترمي بشرر من النار كل واحدة كالقصر الكبير. جمالة: جمال. صفر: لونها أصفر. ظلال: واحدها ظل، وهي ظلال الاشجار، والبيوت وغير ذلك، ويعبر بالظلال عن الرفاهية والنعيم. وعيون: مياه جارية عذبة تسر الناظرين. اركعوا: صلوا.
يبين الله تعالى في الآيات من رقم 29 {انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} الى رقم 40، نوعَ ذلك العذاب الشديد الهائل، فأخبر تعالى بأنهم يقال لهم: انطلقوا الى ما كنتم به تكذّبون في الدنيا، الى ظلٍ من دخانِ جهنم، المتشعبِ لكثرته وتفرقه الى ثلاثِ شعب عظيمة. وهو مع ذلك لا يُظلُّهم، ولا يمنع عنهم حرَّ اللهب الذي تقذف به جهنم، حيث ترمي بشررٍ عظيم كل واحدة كالقصر الكبير، وكأنه جمالٌ صفر تنطلق وتتفرق في أعداد غير محصورة. ثم أتبع ذلك بأن الويلَ للمكذبين بذلك اليوم الذي اقسَم الله تعالى بأنه وقاع لا محالة. وهم في ذلك اليوم لا ينطِقون من شدة الدهشة والخوف والحيرة، ولا يُسمح لهم بالاعتذار فيعتذرون. وكرر أن لهم الويل والهلاك يومئذٍ، حيث يتم الفصل بين المُحقِّ والمبطِل ويجازَى كل واحد بما يستحق.
ثم بين كيف يكون الفصل في ذلك اليوم فقال:
{هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}
لقد جمعنا بينكم وبين من تقدَّمكم من الأمم، فان كان لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا لتخلِّصوا أنفسكم منه، ولكن هيهات {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بوعيد الله.
ثم بين ما يكون للمؤمنين من السعادة والنعيم والكرامة في ذلك اليوم، فانهم يكونون في ترفٍ ونعيم، ويأكلون فواكه مما يشتهون، فيقال لهم: {كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الصالحات {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} وكما جزينا هؤلاء المتقين، نجزي أهل الاحسان لطاعتهم وعبادتهم لنا، فلا نضيع لهم اجرا. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
وفي كل هذا تهديد ووعيد. . كلوا من لذائذ الدنيا، واستمتعوا بشهواتها الفانية فان البقاء فيها قليل، وأنتم مجرمون لا تستحقون التكريم. وهلاكٌ يومئذ للمكذبين، فهم اذا قيل لهم صلّوا لله واخشَعوا، لا يُصلّون ولا يخشعون، بل يصرّون على كفرهم واستكبارهم فالهلاك لهم في ذلك اليوم.
ثم ختم السورة بالتعجب من هؤلاء الجاحدين الذين لم يؤمنوا ولم يستجيبوا لنصح الداعي ولم يتبعوا المرسلين، فقال:
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
اذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل والمعجزات، ولم يستمعوا لهذا القرآن العظيم، فبأي كلامٍ بعده يصدّقون.
قراءات
قرأ الجمهور: فقدرنا بفتح الدال من غير تشديد. وقرأ نافع والكسائي: فقدّرنا بتشديد الدال المفتوحة. وقرأ الجمهور: جمالات بكسر الجيم والجمع، وقرأ حفص وحمزة والكسائي: جمالة. وقرأ الدمهور: فبأيّ حديث بعده يؤمنون بالياء. وقرأ ابن عامر ويعقوب: تؤمنون بالتاء.(3/396)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
عم، أصلها عن ما: عن أي شيء يتساءلون. النبَأ: الخبر، نبأ الشيء نبْئاً ونبوءاً ارتفع، وظهر. وعلى القومِ، طلع عليهم. ونبأ الرجل نبئا: أخبر. والنبوءة: النبوَّة. والنبيءُ، النبيّ المخبر عن الله عز وجل. كلا: للردع ونفي الزعم الباطل. مهادا: فراشا ممهدا للناس، وقد جعل الله الأرض موطئا للناس وجميع المخلوقات يقيمون عليها، فهي فراش لهم. أوتادا: جمع وتد، والجبال كالأوتاد المغروزة في الارض تحفظ توازنها، وتمنعها من الاضطراب والميلان. ازواجا: ذكرا وأنثى ليتم الائتناس والتعاون على هذه الحياة وحفظ النسل وتكميله بالتربية. سباتا: راحة، سَبَتَ سَبْتا: نام واستراح وسكن. لباسا: سترا، لباس الجسم ما يستره. والليل شبيه باللباس لأنه يستر الاشخاص بظلمته. معاشا: وقتا لتحصيل اسباب المعاش. سبعا شدادا: سموات قوية محكَمة. سراجا وهاجا: وهذا السراج العظيم هو الشمس. المعصِرات: السحب التي تجيء بالمطر الذي يحيي الأرض ويغيث الناس. ثجّاجا: منصبّا بكثرة، وهو المطر الغزير. حَبا: وهو ما يقتات به الناس من جميع انواع الحبوب. ونباتا: جميع انواع الخضار. جنات: واحدها جنة، وهي الحدائق والبساتين، الفافا: ملتفة الاغصان، كثيرة الشجر.
كان الناس في مكة وغيرها في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بعضُهم بعضا عن رسالة النبي، ويسألون غيرهم ممن عنده عِلم فيقولون: هل هو رسول من عند الله؟ وما هذا الخبر الذي جاء به ويدعي أنه مرسَل من قِبل الله، ويدعو الى توحيده والى الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر؟ وكان هذا شيئا جديدا عليهم، فردّ الله عليهم بقوله تعالى:
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}
عن أي شيء يتساءلون؟ عن هذا الخبر العظيم الذي اختلفوا فيه، بعضهم ينكره، وبعضهم يتردد في صحته. إنهم لم يسمعوا به من قبل، لذلك استغربوا خبرَ البعث والحياة بعد الموت. وقالوا: هذا مستحيل، {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] ؟
ثم ردّ الله عليهم الإنكارَ والترددَ بقوله:
{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}
ليس الأمرُ كما يزعم هؤلاء المنكِرون للبعث بعد الموت، ستنكشِفُ لهم الحقيقةُ وسيعلمون حقيقةَ الأمرِ حين يُبعثون ويَرَون صحةَ الخبر، يومَ تقومُ الساعة ويفصِل الله بينهم في كل ما اختلفوا فيه.
ثم شرع يبيّن لهم عظيمَ قُدرته، وآياتِ رحمته التي غَفَل عنها أولئك المنكِرون مع أنها أمامهم وبين أعينِهم في كل حِين. فذكر من مظاهرِ قدرته تسعةَ أمور يشاهِدونها فقال:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً}
1- الم نبسُط لهم هذه الأرضَ التي يعيشون عليها، ونمهّدها لهم لِيسيرَ الناسُ عليها والحيوان، ويستقروا بها.
2- {والجبال أَوْتَاداً} فالجبالُ جعلها الله مثلَ الأوتاد، تحفظ توازنَ الأرض، اذ يبلغ سُمكُ الجزء الصلب من القشرة الارضية نحو ستين كيلومتراً، وتكثر فيه التجاعيد فيرتفع حيث تتكون الجبالُ، وينخفض لتكونَ بطونُ البحار وقيعان المحيطات والأودية.(3/397)
وهو في حالة التوازن بسبب الضغوط الناتجة من الجبال. . فقشرةُ الأرض اليابسة تُرسيها الجبال، فهي كالأوتاد التي تحفظ الخيمةَ من السقوط. ولولا الجبالُ لكانت الارض دائمةَ الاضطراب بما في جوفها من المواد الشديدة الغليان، الدائمة الجَيَشان، والتي نشاهد بعضاً منها عندما تنفجر البراكين.
3- {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} جعلناكم ذكراً وأنثى لحِفظ النسل، وليتمَّ التعاون على سعادةِ هذه الحياة، وتربية النسل.
4- {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} وجعلنا النومَ راحةً لكم من عَناءِ الأعمال التي تزاولونها في النهار، وانقطاعاً عن السعي. وفيه نعمةٌ كبيرة على الانسان، ففيه يتوقف نشاط الجزء المدرِك الواعي من المخّ، ويحصل هبوط كبير في نشاط كافة أعضاء الجسم وأنسجته مما يترتب عليه انخفاضٌ في توليد طاقة الجسم وحرارته. وهكذا يأخذ الجسم أثناءَ النوم نصيباً من الهدوء والراحة بعد عناء المجهودات العضلية والعصبية، فتهبط جميع وظائف الجسم الحيويّة، ما عدا عمليات الهضم وإفراز البول من الكليتين، والعَرق من الجلد. . . أما التنفس فيبطئ ويصير أكثر عمقا، كما ينخفض ضغطُ الدم، وتبطئ سرعة النبض، ويقل مقدار الدم الذي يدفعه من القلب. وكل هذا يسبّب الراحةَ للإنسان في مدة نومه، ويحدّد نشاطه حين يفيق.
5- {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} وجعلْنا الليلَ بظلامه ساتراً لكم، كاللّباس الذي يغطي الجسمَ ويستُره، اللّيل شبيه باللّباس لأنه يستر الأشخاصَ بظُلمته. وللناسِ في هذا السَّتر فوائدُ اللباس.
6- {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} وجعلنا النهارَ وقتَ سعيٍ لكم، تسعون فيه لتحصيل ما به تعيشون وتتصرّفون. فكما كان النومُ انقطاعاً عن الحياة، كانت اليقظةُ حياة. والنهارُ زمنُ هذه الحياة، فيه يستيقظ الناس ويتقلبون في حوائجهم ومكاسبهم.
7- {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} وأقمنا فوقكم سبعَ طرائق للكواكبِ السيّارة التي تشاهدونها. . وقد خصّها بالذِكر لظُهورها ومعرفةِ العامة لها، ولم يفصِّل ما في هذا الكونِ العجيب الواسع من عوالمَ ومجررّاتٍ لا حصرَ لها لأنهم لا خبرة لهم فيها، ولا علم. فاكتفى بما يرون ويشاهدون من إحكام الصنعة ودقة نظام دورانها وسَبْحها في هذا الفضاء.
8- {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} وخلقنا لكم في نظامِكم هذا شمساً منيرةً ساطعة الوهج، دائمة الحرارة. والشمسُ كما ثبت علمياً تبلغ درجةُ حرارتها على سطحها الوهج، دائمة الحرارة. والشمسُ كما ثبت علمياً تبلغ درجةُ حرارتها على سطحها المشِعّ ستةَ آلاف درجة مطلقة، اما المركز فتزيدُ فيه درجة الحرارة على ثلاثين مليون درجة، بسبب الضغوطِ العالية في الموادّ التي فيه، فهي سِراج وهّاجٌ حقيقةً لما فيها من الحرارة.
9- {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} وانزلنا من السُحب والغبوم ماءً دافقاً منهمِراً بشدة.
ثم بيّن عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال:
{لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} لنخرِجَ لكم بهذا الماءِ العظيمِ حَبّاً ونباتا، غذاءً لكم وللحيوان، وحدائقَ وبساتينَ ذاتَ أشجارٍ ملتفة، وأغصانٍ متشابكة.
والمطرُ هو المصدر الوحيد للماءِ العذْب على الأرض. والأصل فيه تكاثُف أبخِرةِ الماء المتصاعدة من المحيطات والبحار وتشكُّله في صورة سحب، تتحولُ الى نقط من الماء او قطع من الثلج، وتتساقط على الأرض بقدرة الله تعالى على هيئة مطر او ثلج او بَرَد.
قراءات
قرأ الجمهور: كلا سيعلمون بالياء، وقرأ ابن عامر: ستعلمون بالتاء.(3/398)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
يوم الفصل: يوم القيامة لأن الله تعالى يفصل فيه بين الناس. ميقاتا: وقتاً للحساب والجزاء. أفواجا: جماعات، واحده فوج. وسُيرت الجبال: زالت عن أماكنها. سرابا: السراب ما يرى في نصف النهار كأنه ماء وهو خيال ليس بشيء، وكذلك تسير الجبال. مرصادا: مكان الارتقاب والانتظار. للطاغين: للمعتدين الظالمين. مآبا: مرجعاً. لابثين: مقيمين. أحقابا: واحدها: حُقب وحِقب، وهو المدة الطويلة من الدهر. حميما: ماء حارا. غسّاقا: صديدا وعرقا دائم السيلان من اجسادهم. وِفاقا: وفق أعمالهم السيئة. كِذّابا: تكذيبا. كتابا: كتابة.
بعد ان نبّه الله عبادَه الى هذه الظواهر الباهرة، ووجه انظارهم الى آياته في هذا الكون العجيب - أخذ يبيّن ما اختلفوا فيه ونازعوا في إمكان حصوله وهو يومُ الفصل، ويذكُر لهم بعضَ ما يكون فيه، تخويفاً لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضَحت الأدلةُ واستبانَ الحق.
{إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} إن يوم القيامة هو يومُ الفصلِ بين الخلائق، وهو ميعاد مقدَّر للبعث.
ثم بيّن هذا اليومَ وزاد في تهويله فقال:
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً}
في ذلك اليومِ يُنفخ في البوق فتُبعثون من قبورِكم وتأتون الى المَحْشَرِ جماعاتٍ جماعاتٍ. {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} وانشقّت السماءُ من كل جانب وتصدّعت فصارت أبوابا، وذلك هو خرابُ العالم ونهايتُه. وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور وليس علينا ان نَعلم ما في حقيقة ذلك الصور، لأن الحياةَ الآخرة وجميعَ ما فيها تختلف عن حياتنا الدنيا.
{وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً}
وزالت الجبالُ عن أماكنها وتفتَّتَتْ صخورُها وذهبت هَباءً كالسراب. فالآخرةُ عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها، فنؤمن بما ورد به الخبر عنها ولا نبحث. فالنشأةُ الاخرى قد تكون غير هذه الحياة فتكون السماء بالنسبة إلينا أبوابا ندخُل من أيها شئنا بإذن الله. وقد يكون معنى تفتُّح السماء ما عنى بقوله: إذا السماءُ انشقّت. . اذا السماءُ انفطرت. . يوم تَشَقَّقُ السماءُ بالغمام. . يعني يومَ يقعُ الاضطراب في نظام الكواكب، فيذهب التماسُك بينها ولا يكون فيها ما يسمّى سماء الا مسالكَ وأبواب لا يلتقي فيها شيء بشيء، وذلك هو خرابُ الكون.
وقد ذُكر زوالُ الجبال في القرآن في عدة آيات منها قوله تعالى {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] .
وقوله: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] ، وقوله {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 5، 6] .
وبعد ان عدّد الله تعالى وُجوهَ إحسانه، ودلائلَ قدرته على إرسال رسوله الكريم، وذكَرَ يومَ الفصل وما فيه من أهوال وشدائد - ذكر هُنا وعيدَ المكذّبين وبيانَ ما يلاقونه فقال:
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً. . .}
ان جهنّم تترصَّد وتنتظر الجاحدين، وهي منزلُهم، ومرجعُهم إليها، حيث يستقرّون دهوراً متلاحقة كلّما انقضى زمن تجدَّد لهم زمن آخر.(3/399)
أما أحوالهم فيها وما يذوقونه من عذاب فقد بيّنه بقوله:
{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً. . . . .}
إنهم لا يذوقون في جهنّم نَسيماً يُنَفِّسُ عنهم حَرَّها، ولا شراباً يسكِّن عطشهم فيها، بل يجدون ماء بالغاً الغاية من الحرارة، وصديداً مُنِتنا يزيد في عذابهم، وهو جزاء موافق لأعمالهم السيئة. والسببُ في ذلك كله: إنهم لم يؤمنوا بالله ولا بالبعثِ والحساب والجزاء. كما أنهم:
{وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}
أي بالغوا في التكذيب بآياتنا وما فيها من براهينَ وبيّنات.
ثم بين الله تعالى أن كل شيء من أعمالهم مكتوبٌ يُنْشَر يومَ القيامة.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً}
أي أحصيناه مكتوباً في كتابٍ {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] .
{فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}
فذوقوا ما أنتم فيه من العذابِ الأليم، فلنْ يكون لكم منا إلا عذابٌ أشدّ وأقوى. وكما جاء في قوله تعالى: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 57، 58] .
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لم ينزِل على أهل النار آيةٌ أشدّ من هذه الآية {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} .
قراءات
قرأ أهل الكوفة: وفتحت السماء: بالتخفيف، وقرأ الباقون: وفتّحت بتشديد التاء. وقرأ حمزة وروح: لَبِثينَ بكسر الباء من غير الف بعد اللام، وقرأ الباقون: لابثين بالف بعد اللام. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: غسّاقا بالتشديد، والباقون غَسَاقا بفتح الغين والسين من غير تشديد.(3/400)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
مفازا: فوزا عظيما بالجنة. كواعب: جواري صغيرات السّن، واحدها كاعب. أترابا: متقاربات في السن واحدها تِرب. دهاقا: ممتلئة، مترعة. لغواً: اللغو هو الباطل وكل ما لا فائدة فيه. كِذّابا: تكذيبا. عطاءٌ: تفضلا منه واحسانا. حسابا: كافيا وافيا. خطابا: مخاطبة. الروح: جبريل. مآبا: مرجعا. ما قدّمت يداه: ما عمل من خير أو شر.
بعد أن بيّن حالَ المكذّبين الجاحدين وما يلاقونه من عذاب أليم، ذكر هنا ما يفوز به التقاةُ من الجنات، ووصفها ووصف ما فيها. ثم ذكر أن ذلك عطاء لهم من مالِكِ السموات والأرض، عظيم الرحمة والإنعام، الذي لا يملك أحد من أهل السموات والأرض ان يخاطبَه في شأنِ الثواب والعقاب، بل هو المتصرِّفُ فيه وحدَه يومَ يقوم الروحُ والخَلق المقدَّس من عالَم الغيب والملائكة صفاً، ولا يمكن لأحدٍ ان يتكلّم الا من أذِن له الرحمنُ ونطق بالصواب، فقال:
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً}
ان للمؤمنين الذين اتقَوا وعملوا الصالحاتِ فوزاً كبيرا ونجاةً من العذاب، وظَفَراً بالجنة، التي تشتمل على الحدائق والأعناب وجميع ما لذَّ وطابَ من الثمرات، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} من جواري الجنة، عذارى متقاربات في السن. وهناك يشربون بكؤوس مملوءة من الذّ شرابِ الجنة، ولا يسمعون شيئاً من الباطل واللغو، ولا كذبا من القول.
وكل هذا الفضل والاحسان والنعيم:
{جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}
ينالونه تفضلاً منه وإحساناً جزاءَ اعمالهم الخيرة. فالله الّذي رضي عنهم هو ربُّ السموات والأرض الذي وسِعت رحمتُه كلَّ شيء ولا يملك أحد مخاطبتَه تعالى بالشفاعة إلا بإذنِه، يوم يقوم جبريلُ والملائكة مصطفّين خاشِعين لا يتكلّم أحدٌ منهم الا من أذِن له الرحمنُ بالكلام، ونطق بالصواب.
ثم بيّن الله تعالى أن ذلك اليومَ حقٌّ لا ريبَ فيه، {ذَلِكَ اليوم الحق} ، حيث الناس فريقان: فريق بعيد من الله ومآله الى النار، وفريق مآبُه القُرب من الله.
{فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً} .
بن يعملَ عملاً صالحا يقرّبه منه ويُحِلّه دارَ النعيم.
ثم عاد الى تهديدِ المعانِدين وتحذيرِهم من عاقبة عنادهم. . بأنهم سَيَعلمون غداً ما قدّمت أيديهِم ويندمون حيثُ لا ينفع الندم. فقال في خاتمة هذه السورة الكريمة:
{إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} .
قراءات
قرأ الجمهور: كذابا بتشديد الذال، وقرأ الكسائي: كذابا بتخفيفها. وقرأ ابو عمرو: ربُّ السموات والأرض الرحمن، برفع رب والرحمن، والباقون بالكسر. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب: الرحمن بالجر. وقرأ حمزة والكسائي بجر رب السموات، ورفع الرحمن.
نسأل الله تعالى ان يثبّتنا بالقول الثابت، ويجعلَنا من الذين ينطقون بالصواب، ويهديَنا إلى العملِ بكتابه وسًنة نبيه، وان يجمع كلمتنا ويوحّد صفوفنا لنحميَ أنفسَنا ونصون أوطاننا مما يهدّدنا من الأعداء. . .(3/401)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
النازعات: الملائكة، أو الكواكب. غرقاً: بشدة. الناشطات: التي تنشط في اجابة أمر ربها. السابحات: الطائرات في هذا الكون الفسيح كأنها تسبح سبحا. السابقات: المسرعات في أداء ما وكل اليها. المدبّرات: التي تدبر الأمور بإذن الله. ترجُفُ: تضطرب. الراجفة: الارض. الرادفة: السماء. واجفة: خائفة. خاشعة: ذليلة. الحافرة: الحياة الاولى، يقال رجع الى حافرته: رجع الى طريقته الأولى. النخِرة: البالية. كرّة خاسرة: رجعة يخسَر أصحابها. زجرة واحدة: صيحة واحدة. الساهرة: أرض المحشَر.
لقد جاء في القرآن الكريم ضروبٌ من القسَم بالأزمنة والأمكنة وبعض الاشياء، ولو استعرضْنا جميع ما أقسم الله به لوجدناه إما شيئاً أنكره بعضُ الناس، أو احتقره لغفْلتِه عن فائدته، أو ذُهل من موضع العبرة فيه، ولم ينتبه الى حكمة الله في خَلْقه أو اعتقدَ فيه غيرَ الحق. فاللهُ سبحانه يقسِم به إما لتقرير وجودهِ في عقلِ من يُنكره، أو تعظيمِ شأنِه في نفسِ من يحتقرُه.
فالقسَم بالنجوم، جاء لأن قوماً يحقّرونها لأنها من جُملة عالَم المادّة ويغفلون عن حكمة الله فيها وما ناطَ بها من المصالح، وآخرين يعتقدونها آلهة تتصرّف في هذه الأكوان، فأقسَمَ اللهُ بها على أنها من المهلوقات التي تعرفُها القدرة الإلهية، وليس فيها شيء من صفات الألوهية.
ولقد بدأ اللهُ سبحانه هذه السورة بالحَلْف بأصنافٍ من مخلوقاته، إظهاراً لإتقان صُنعها وغزارة فوائدها بأن البعثَ حق، وأن من قَدر على صُنعِ هذا الكونِ وما فيه لهو قادرٌ على إحياء الموتى.
فأقسَم بالنازعاتِ، وهي الملائكةُ التي تنزع أرواح الكافرين بشدّة؛ والناشطات، وهي الملائكةُ التي تأخذ أرواحَ المؤمنين بسهولة ويسر؛ وبالسابحات التي تسبحُ في أجواء هذا الكون الفسيح، والسابقات وهي التي تسبقُ في أداء ما وُكِلَ إليها وتؤدّيه على أحسن وجه، والمدبّراتِ أي التي تدبّر الأمورَ بإذن الله وتصرفها بما أودع فيها من خصائص. ويقول بعض المفسّرين إن النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبّرات هي الكواكب. ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء من هذه الأقوال لأنها لا تستند الى دليل.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة. . . .} يومَ تقوم القيامةُ تضطربُ الأرض بمن فيها وترجفُ الأرضُ والجبال. . وتتبعها الرادِفةُ، وهي النَّفخة الثانية، فتنشقّ السماء وتَنتثِر الكواكب ويقوم الناسُ لربّ العالمين. كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] . ويكون الناس في ذلكَ اليومِ في ذهولٍ عظيم، وخوفٍ وهلع، كما صوّرهم الله بقوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] .
يومئذٍ يرى المرءُ قلوباً مضطربةً قلِقة خائفة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ذليلةً من الهلعَ والخوف.(3/402)
ثم يتساءل المجرمون وهم يظنّون أنهم رُدّوا الى حياتهم الأولى:
{يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً؟}
أنحنُ مردودون الى الحياةِ، عائدون في طريقنا الأُولى؟! وهذا من شدّة ذهولهم ودَهشتهم كيف يرجعون بعد ان كانوا عظاماً بالية! ثم يعودون إلى رُشدهم فيقولون (بعد أن يعلموا أنها حياة اخرى ويشعروا بالخسارة) {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} لم يحسِبوا حسابها، ولم يقدّموا لها.
ثم يأتي الرد الشديد من الله تعالى:
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة}
لا تستبعِدوا ذلك وتظنّوه عَسيرا علينا، فإنما هي صَيْحة واحدةٌ، وهي النفخة الثانية التي يبعثُ الله بها الموتَى، فإذا الناسُ كلّهم حضورٌ بأرض المحشر.
قراءات:
قرأ الجمهور: عظاما نخرة بفتح النون وكسر الخاء، وقرأ حمزة والكسائي وابو بكر: ناخرة بألف بعد النون.(3/403)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
الواد المقدس: الوادي المبارك، طوى: اسم ذلك الوادي، وهو بين العقبة ومصر. طغى: تجاوز الحد فتكبر وكفر. تزكّى: اصلها تتزكى بتاءين: تتطهر من الشرك. أهديك: أدلّك. الآية الكبرى: العلامة الدالة على صدق موسى، وهي انقلاب العصا حية. أدبر يسعى: ذهب يدبّر المكايد لموسى. فحشر: فجمع السحرة. النكال: العذاب. رفع سَمكها فسوّاها: خلقها بأحسن نظام. أغطشَ ليلها: جعله مظلما. أخرجَ ضحاها: اظهر نورها وضياء شمسها. دحاها: مهّدها وجعلها قابلة للسكنى. مرعاها: نباتها. ارساها: أثبتها. متاعا: متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم.
يذكر الله تعالى قصةَ موسى وفرعون تسليةً للرسول الكريم على ما يلاقيه من قومه، بحكْمِ تكذيبهم له وإنكارهم للبعث، وتماديهم في العُتُوِّ والطغيان. وذلك أن فرعون مع أنه كان أقوى من كفار قريشٍ وأشدَّ منهم شوكةً وأعظمَ سلطانا فإن الله أخَذه حينَ تمرد على ربه ولم يؤمن بموسى، فاحذَروا أن يصيبَكم ما أصابه. وقصة موسى وفرعون من أكثر القصص التي ترِدُ في القرآن في اساليب متنوعة. وهنا جاءت مختصرة سريعة في اسلوب استفهام رشيق مشوّق لتناسب طبيعة السورة.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى. . . . الآيات}
هل أتاك - يا محمد - حديث موسى مع فرعون، حين ناداه ربُّه في وادي طوى المقدّس في سيناء، حيث أمره أن يذهب الى فرعون وقومه ليهديهم الى الطريق المستقيم، بعد أن طغى واستكبر واستعبد الناس!
ثم طلب الله تعالى الى موسى ان يُلينَ له القولَ فذلك أنجحُ للرسالة.
{فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى}
هذا كلام جميل في غاية الرقة واللطف. قل له يا موسى: هل ترغبُ أن تطهِّر نفسَك من الآثام التي انغمستَ فيها، وتعملَ بما أدلُّك عليه من طُرُق الخير، فترجعَ الى ربك وتؤمن به، وتخشى عاقبة مخالفته.
ثم أراه الدليلَ الحسّيَّ على صدق نبوته {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} وتلك هي قلبُ العصا التي معه حيّةً تسعى. فلم يقنع فرعون بما رأى وقال إنّ هذا سِحرٌ {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} في تدبير سحرٍ مثله، {فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} حيث جَمَعَ السحرةَ وخطب فيهم قائلا إنه هو الربّ الأعلى، لا سلطانَ يعلو سلطانه.
{فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} . فعذّبه الله تعالى بالغَرَقِ في الدنيا، وبعذاب جهنم في الاخرة. . وفي هذا عبرة وموعظة لمن يخاف الله وله عقل يَتدبر وينظر في عواقب الأمور.
إن الله سينصرك يا محمد على قومك كما نَصَرَ موسى على فرعون، وكان أشدَّ بأساً وأكثر جنداً من قومك هؤلاء. فاتبع يا محمد نهج موسى، ولِنْ لهم في الحديث، واصبر فإن الفوز لك.
وبعد أن أورد قصص موسى وفرعون هذه عاد الى مخاطبة الجاحدين المنكرين من قريش بأن من خَلَقَ هذا الكونَ العجيب الكبير وما فيه - لا يُعجِزه بعثهم من جديد بعد موتهم.(3/404)
فإن كانوا قد غفلوا عن أنه خالقُهم، فلْينظروا الى السماءِ والى الأرضِ ليعلموا من خَلَقَهما وانسأهما.
{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} .
أيّهما أعظم: اعادةٌ الناس كما بدأهم أولَ مرة أم إنشاء السماء في هذا النظام البديع الذي لا يختلف ولا يختلّ بل يسير فيه كل جرم في مداره! لقد رفع صانعُها أجرامها فوق رؤوسنا ووضعَ كل جرمٍ في وضعه.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .
لقد جعل ليلها مظلماً عندما تغيبُ الشمس، وأضاءها بشروق الشمس وارتفاعها وقت الضحى، وهو أشرفُ اوقاتها وأطيبها.
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} .
ثم بسط الأرضَ ومهّدها للسكنى وسيّر الناسَ والأنعام عليها. فلفظةُ دحاها تعني التكويرَ والبسطَ في ذات الوقت، فتكون أدلَّ الالفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكوّرة في الحقيقة. . وهذا منتهى الإحكام في اختيار اللفظ المناسب.
ثم بيّن ما لا بدّ منه في تأتّي سكناها من أمرِ المآكل والمشارِب وإمكان القرار عليها فقال:
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا}
فجّر منها العيون والينابيع والانهار لأن الماء أساس الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] . وأنبت فيها النبات الذي يأكله الناسُ والحيوان. ثم بعد ذلك ثبَّتَ الجبالَ في أماكنها وجعلَها كالأوتاد، حتى تحفظَ توازن الأرض. وهذا كله جعله الله {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي لخيرِ الإنسان يتمتع به. فهل الذي أوجده وأنشأه أولَ مرة يعجز عن إعادته وإنشائه مرة أخرى؟ {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
قراءات:
قرأ الجمهور: تزكّى بفتح الزاي من غير تشديد، وقرأ نافع وابن كثير: تزكى بتشديد الزاي، وقرأ أهل الحجاز والبصرة: طُوى بغير تنوين. والباقون بالتنوين.(3/405)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
الطامة الكبرى: يوم القيامة لشدة اهوالها ولأنها تطمّ على كل أمر هائل. وبُرّزت الجحيم: ظهرت للعيان. آثر: فضّل. المأوى: المستقر. مقام ربه: جلاله وعظمته. نهى النفسَ عن الهوى: استقام وكفّها عن هواها. الساعة: يوم القيامة. أيّان مرساها: متى تقوم وتحصل. إلى ربك منتهاها: عِلمُ حصولها عند الله. لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها: عندما يرون يوم القيامة يظنون انهم لم يقيموا إلا عشيةً من النهار أو وقت ضحاه.
بعد ان ذكر الله تعالى خَلْقَ السموات والأرض وما في هذا الكونِ من إبداعِ عجائب الخلق والتكوين، وبيّن انه قادرٌ على نشر الأموات كما قَدر على خلْقِ هذا الكون العجيب - بيّن هنا صدق ما أوحى به الى نبيّه الكريم من أن ذلك اليوم آت لا ريب فيه. فاذا جاءت الطامّةُ الكبرى في هولها العظيم، تُعرَضُ الأعمالُ على الناس، فيتذكر كل امرئ ما عمل. ويُظهِر الله الجحيمَ للعِيان فيراها كل إنسان. ومن ثم يوزَّع الجزاء على العاملين {فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا} وفضّل متاعها ولذائذَها على ثواب الآخرة، {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} حيث يجد مستَقرَّه ومأواه، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} ، فآمنَ واستقامَ ونهى نفسَه عن هواها {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} ، حيث يجد النعيم الدائم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} .
يسألك قومك يا محمد متى وقت الساعة، ومتى وقوعها؟ إن هذا ليس من اختصاصِك، لا احدَ يعلم عنها شيئاً الا الله، فلا تشغل نفسَك بهذا الأمر ولا تكلّفْها عناءَ البحث عنه.
{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}
إنما أنت رسولٌ مبعوث للانذار والتعليم فدعْ علم ما لم تكلَّف به، واعمل ما أُمرت به. {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] ، {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] .
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}
ان يوم القيامة آت لا ريب فيه، ويوم يراه هؤلاء المكذبون يحسبون أنهم لم يلبثوا في الدنيا الا مقدارَ عشية يوم أو ضحاه، فما أقصرَ هذه الحياة التي يتقاتل عليها الناس ويلهثون وراءها!(3/406)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
عبس: قطّب وجهه من ضيق الصدر. تولّى: أعرض: أن جاءه الأعمى: لأن الأعمى جاء عنده، يزكّى: يتطهر بما يتعلم من الدين. تصدّى: أصله تتصدّى بتاءين ومعناه تقبل عليه، وتتعرض له. تلهّى: تتغافل عنه. تذكِرة: موعظة. فمن شاء ذكَره: فمن شاء اتعظ به. في صحف مكرّمة: كتب شريفة في موضع التكريم والتعظيم. مرفوعة: عالية القدر والشأن. مطهَّرة: منزهة عن العبث والنقص. سَفَرة: الملائكة لأنهم السفراءُ بين الله تعالى ورسله الكرام. بررة: جمع بارّ وهم الأطهار.
نزلت هذه السورةُ الكريمة في عبدِ الله بن أُم مكتوم ابن خالِ خديجة بنتِ خويلد رضي الله عنها، وكان رجلاً أعمى، ومن أول الناس إسلاما. وكان من المهاجرين الأولين والمؤذِّنَ الثاني لرسول الله، وقد استخلفه الرسولُ الكريم على المدينة، وكان يصلّي بالناس مرارا. وقد جاء هذا الرجل الى النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده جماعة من زعماءِ قريش منهم: عتبة وشَيبة ابنا ربيعة، وأبو جهلٍ عمرو بن هشام، والعباسُ بن عبد المطلب، وأُميةُ بن خلف، والوليدُ بن المغيرة. وكان النبي الكريم محتفياً بهم يدعوهم الى الإسلام ويرغّبهم فيه رجاءَ أن يُسلموا، لأنه يعلم أنهم إذا أسلموا تَبِعَهم خَلْقٌ كثير.
فجاء ابنُ أُم مكتوم وقال: يا رسولَ الله، أرشِدني، وعلِّمني مما علمك الله. . وكرر ذلك وهو لا يعلم من عنده. فكره الرسولُ قَطْعَه لكلامه، وظهر ذلك على وجهه، إذ عَبَسَ وأعرض عنه.
وقد عاتب الله نبيَّه الكريمَ بأنّ ضَعْفَ ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي ان يكون باعثاً على كراهةِ كلامه والإعراضِ عنه، فإنه حيُّ القلب ذكيُّ الفؤاد، اذا سمع الحكمةَ وعاها، فيتطهَّرُ بها من أوضارِ الشِرك.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} .
ما يدريك يا محمد لعلّ هذا الأعمى يتطهّر بما يسمعه منك، وما يتلقاه من العِلم والمعرفة، او يتذكر بها ويتّعظُ فتنفعُه الذِكرى.
وبعد نزول هذه الآيات جَعل الرسولُ يكرِم عبد الله هذا ويُقبِل عليه ويقول له إذا رآه: أهلاً بمن عاتَبَني فيه ربّي، ويساله هل لك حاجةٌ.
ثم ذكَر اللهُ بعد ذلك أَمْرَ النبيّ الكريم مع زعماءِ قريش فقال:
{أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} .
أما من استغنى عن الله بمالِه وقوَّتِه، فأنت تُقبل عليه حِرصاً على إسلامه، وتهتمّ بتبليغه دعوتَك، ولا حَرَجَ عليك أن لا يتطهّر من الشِرك والوثنية، ولستَ بمطالَبٍ بهدايته. هذا بخلاف من جاءك مسرعاً في طلب الهداية والعلم، فأنتَ تتلهّى عنه وتتشاغل بهؤلاء الزعماءِ الّذين لا يؤمنون ولا فائدةَ منهم، لأنّ اكثَرهم جحدةٌ منصرفون الى المادة. لقد ألْهَتْهُم هذه الحياة الدنيا، فلا ينبغي الانصرافُ إليهم، والتصدّي لهم لمجرد الطمع في إسلامهم حتى يتبعَهم غيرُهم.(3/407)
إنّ قوة الانسان في حياةِ قلبه وذكاء لبّه، والإذعانِ للحق إذا ظهر، أما المالُ والعصبة والنَسب والأعوان والمراكز والتيجان - فهي كلها عوارٍ تغدو وترتحل، ولا يدوز ويبقى الا العملُ الصالح.
وفي هذا تأذيبٌ من اللهِ تعالى لأمةِ محمد صلى الله عليه وسلم. ولو تأدّبوا به لكانوا اليوم أرشدَ الأمم.
{كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} .
إن الله لا ينصر دِينه بأمثالِ هؤلاء المتكبرين الجاحدين، فلا تهتمَّ يا محمد بهم. انما يُنصَر الحقُّ بالمؤمنين الصادقين أمثالِ ذلك الأعمى. وما هذه الآيات إلا موعظة، وهذا القرآن كافٍ في الهداية لمن طَلَبها، وما عليك الا البلاغُ والتذكير، فمن شاء اتّعظ بالقرآن الذي هو {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} عاليةِ القدر والمكانة بتعاليمها وحِكَمها البالغة {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} من الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسُله. وهم {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
قراءات:
قرأ الجمهور: فتنفعه بضم العين، وقرأ عاصم: فتنفعه بنصب العين، وقرأ الجمهور: تصدى بفتح الصاد من غير تشديد، وقرأ نافع وابن محيصن: تصدّى بفتح الصاد المشددة.(3/408)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قُتل الانسان: كلمة تقال للدعاء عليه بالعذاب. فقدّره: أنشأه في اطوار مختلفة. ثم السبيلَ يسّره: ثم سهّل له طريقه. فأقبره: فأماته وذهب به الى القبر. وأنشره: بعثه بعد الموت. وقَضْبا: كل ما يؤكل من النبات والخضار والبقول غضاً طريا. غلبا: ضخمة، عظيمة. وأبّا: ما ترعاه الدواب. الصاخّة: القيامة، لأنها تصرع الآذان. شأنٌ يغنيه: شغل يصرفه عن مساعدة غيره. مسفرة: مشرقة، مضيئة. مستبشرة: فرحة بما نالت من البشرى. عليها غَبرة: ما يصيب الانسان من الغبار والارهاق. ترهقها: تغشاها. قَتَرة: سواد كالدخان.
بعد أن ذكر القرآن الكريم على أنه كتابُ موعظةٍ وذكرى وهدى للناس، يبين الله تعالى هنا جحودَ الإنسان وكفرَه الفاحشَ ولا سيّما أولئك الذين أُوتوا سَعةً من الرزق. ثم يذكّره بمصدر حياته ووجودِه، وأصلِ نشْأتِه، وكيف يسَّر له السبيلَ في حياته ثم تولى موتَه وبعثَه. ثم بعد ذلك ينعى على الانسان تقصيره في أمره، وأنه لا يؤدي ما عليه لخالِقِه، فيقول:
{قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ. . . .} .
هذه جملةُ دعاءٍ على كل جاحِد، والمرادُ بيانُ قُبحِ حالِه وتمرُّده وتكبُّره، فما أشدَّ كفره مع إحسان الله اليه! والحقُّ أن الانسانَ قد بلغ في كفره بالنعمة الإلهية مبلغاً يقضي بالعجب، فانه بعد ما رأى في نفسِه من آيات الله، وبعد ان مضى عليه تلك السّنون الطوال في الأرض، والتي شاهد فيها ما في هذا الكون الواسع العجيب من شواهدَ وادلّة ونظام بديع - لا يزال يجحَدُ أنعم الله عليه ولا يشكرها. ان الله تعالى لم يدَعِ الانسان سُدى، فقد أرسل إليه الهداةَ إثر الهداة، غير ان الانسان ظلّ سادراً في ضلاله، مغروراً بهذه الحياة الدنيا وما فيها من نعيم زائل.
لذا شرع اللهُ يفصّل ما أجمَلَه ويبيّن ما افاض عليه من النِعم فقال:
{مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ}
إنه من أصلٍ متواضع جدا.
{مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}
لقد خلقه اللهُ من نطفةٍ من ماء حقير، وقدّره أطوارا وأحوالا، وأتم خَلْقَه، وأودع فيه من القوى ما يمكّنَه من استعمال أعضائه، وصوَّره بأجملِ صورةٍ وأحسنِ تقويم.
{ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ}
ثم مهّد له سبيل الهداية، وسبيلَ الحياة، وأودع فيه أعظمَ خصائص الاستعدادِ ليعيشَ في هذه الحياة.
حتى اذا انتهت الرحلة، صار الى النهاية الّتي يصير إليها كل حيٍّ بلا اختيار.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}
ثم قبض روحَه وأماته وكرّمه بأن يُقبر.
{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ}
حتى اذا حان الموعدُ الذي قدّره الله ليوم البعث اعادَه الى الحياةِ للحساب والجزاء. وهذا موعدٌ لا يعرفه إلا الله. إذن فإن الانسانَ ليس متروكا سُدى، ولا ذاهباً بغير حساب ولا جزاء. فهل قام بواجبه تجاه خالقه؟
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}
كلا، إنه مقصّر لم يؤدِ واجبَه ولم يشكر خالقه، ولم يقضِ هذه الرحلةَ على الأرض في الاستعداد ليومِ الحساب والجزاء.(3/409)
ثم أردف سبحانه بذكر الآياتِ المنبثّةَ في الآفاق، الناطقةَ ببديع صُنعِه والتي يراها الانسان أمامه ماثلةً للعيان فقال:
{فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ}
عليه أن يتدبّر شأن نفسه، وينظر الى طعامه وطعام أنعامه في هذه الحياة: كيف يسذرناه له ودبّرناه! إنا أنزلنا الماءَ من السماء وجعلْنا منه كل شيء حي، وشققنا الأرضَ بالنبات كما تشاهدونه أمامكم، فأنبتْنا فيها حَباً يقتاتُ به الناسُ، وعنباً ونباتاً يؤكل رَطبا، وزيتونا طيِّبا ونخلاً مثمِرا غذاء جيدا، وحدائقَ ملتفة الأغصانِ جميلة. {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} .
وبعد ان عدّد الله تعال ىنعمه على عباده، وذكّرهم بإحسانه اليهم في هذه الحياة، بحيث لا ينبغي للعاقل ان يتمرد - أردفَ هنا بتفصيلِ بعضِ أحوال يوم القيامة وأهوالِها فقال:
{فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة. . . .}
إذا قامت القيامة التي بصيحتها تَصُكُّ الآذان وتصمّها، فإن المرء يهرب من أخيه ومن أُمه وأبيه، وزوجتِه وبنيه. . وهؤلاء هم أعزُّ الناس عنده. إن كل انسان في ذلك اليوم له شأنٌ يَشْغَله عن غيره.
والناس في ذلك اليوم فريقان: فريقٌ ضاحك مستبشر بما سيلقاه من حُسن الاستقبال والنعيم المقيم، وفريق تعلو وجوهَهم قَتَرةٌ من سوادِ الحزن وكآبته. وهؤلاء هم الذين تمرّدوا على الله ورسوله {أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} فمصيرهم الى جهنم.
إن من طلبَ الحق لوجه الحق وعَمِل به بإيمان وإخلاص فهو الذي يضحك ويستبشر يوم القيامة، ومن اتبع هواه وشغل نفسه بتبرير الأهواء، واحتقر عقله، ورضي جهلَه، وشغل نفسه بالجَدَل والمِراء والتماس الحِيَل لتقرير الباطل وترويج الفاسد (كما كان يفعلُ أعداء الأنبياء، ولا يزال يأتيه السفهاء لينصروا به إصرار الاغبياء) ثم يُتْبع ذلك بأعمالٍ تطابق ما يهوى وتخالف ما يقول. . فهو الى جهنّم. وان المرء لَيجد الواحد من هذه الفئة يزعم الغيرة على الدين ولا تجدُ عملاً من أعماله ينطبق على ما قرره الدين.
فالدِّين ينهى عن المعاصي وهو يقترفها، والدين يأمر بصيانة مصالح العامة وهو يفتِكُ بها ويبذّرها لمصلحته الخاصة. والدين يطالب أهله ببذلِ المال في سبيل الخير، وهو يسلب المالَ ليكنزه، فإن أنفق منه شيئا صرفه في سبيل الشر. والدينُ يأمر بالعدل وهو أظلمُ الظالمين، والدين يأمر بالصِدق وهو يكذب ويحبّ الكاذبين.
فمن كان هذا شأنه فماذا يكون حاله يوم يتجلى الجبار، ويرتفع الستار! إنه سوف يجد كل شيء على خلاف ما كان يعرفه، يجد الحقَّ غير ما كان يعتقد، والباطلَ هو ما كان يعمل. عندئذٍ يتحقق أن ما كان يظنه من العمل خيراً لنفسه صار وبالاً عليها.
فهذا النوع من الناس سوف تخيب آمالهم يوم القيامة، ويحاسَبون حسابا عسيرا، ويصدق فيهم قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} ، أعاذنا الله من هول ذلك اليوم، وهدانا برحمته الى العمل الصالح.
قراءات:
قرأ أهل الكوفة أنَّا، والباقون بكسر الهمزة.(3/410)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
كوّرتْ: لفَّت ومحي ضَوْؤهَا. انكدرت: تناثرت وتساقطت وانطمس ضوؤها. واذا الجبال سُيرت: زالت عن اماكنها. العشار: النوق الحوامل واحدها عشراء بضم العين وفتح الشين. عُطّلت: أُهملت بدون راع يرعاها ولا طالب. سُجّرت: تأججت نارا، واختلط بعضها ببعض. زُوجت: قرنت الأرواح بأجسادها. الموءودة: البنت التي دفنت وهي حية. الصحف: هي التي فيها اعمال البشر، تنشر للحساب والجزاء. كشطت: أزيلت. سعِّرت: أوقدت وأضرمت، أُزلفت: ادنيت وقرّبت. ما أحضرت: ما قدمته من خير أو شرّ.
في هذه الآيات الكريمة تصويرٌ رائع لما يحدثُ يومَ القيامة من أهوالٍ تُشيبُ الأطفالَ. فاذا طُويت الشمسُ واختفت، وتناثرت النجومُ - وزالت الجبالُ عن أماكنِها، وأُهملت النوقُ الحوامل (وقد خصّها الله بالذِكر لأنها أكرم الأموالِ عند العرب) ، وجمعت الوحوش من أوكارِها ذاهلةً من شدّة الفزع. وإذا تأجّجت البحار وغدَتْ نيرانا ملتهبة (وتسجيرُ البحار يكون بتشقق الأرض وتفجر النيران من باطنها فيظهر ما فيه من نيران متأجّجة كما نشاهد من ثورات البراكين) - يذهب الماء عند ذلك بخارا، ولا يبقى في البحار الا النار. وهذا معنى قوله تعالى {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} .
واذا قرنت الأنفس بأجسادها وعادت كل نفس الى الجسم الذي فارقتْه عند الموت، فَزُوِّدت النفوس بأبدانها، وهي النشأةُ الآخرة، (وفي الآية ما يشعر بان النفوس باقية لم تمت، وانما تزوَّج بالبَدَن بعد انفصالها عنه) .
واذا أُتي بالموءودةِ وسُئِلت عن السبب الذي لأجْله قُتلت. . (وكانت هذه العادة عند العربِ من أسوأ العادات، وكانت فاشيةً عندهم في الجاهلية، فكان بعضهم يدفنون البناتِ وهن أحياء، وبعضُهم يقتلونهنّ بشتى الوسائل: إما للغِيرة والحميّة، وإما من الخوف من الفقر والإملاق) . فجاء الاسلامُ وأبطلَ هذه العادةَ السيئة، وأكرم الأنثى، وأعطاها حقوقها واحترمَها غاية الاحترام، وحلّت الرحمةُ محلّ الفظاظة، والرأفةُ محل الغِلظة بفضل هذا الدين القويم. فما أعظمَ نعمةَ الإسلام على الانسانية بأسرها!
{وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} .
بعد أن تزول السماء، وتُنشَر الصحف، ويحاسَب كل انسان على عمله، وتُبرز الجحيمُ بنيرانها المتأججة، وتقرَّب الجنةُ للمؤمنين - عند ذلك تعلم كلُّ نفس ما قدّمت من أعمال، فيذهب أهلُ النار الى جهنم والمؤمنون إلى الجنةِ عند ربهم، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] .
والذي يجب علينا أن تعتقدَه أن أعمال العباد تظهر لهم ثابتةً مبيَّنة لا يرتابون فيها يومَ القيامة. وبعد ان اخترع الانسان الكمبيوتر والآلات الحاسبة لم يعدْ هناك شيء مستغرَب في نشر الصحف يوم القيامة، وفيها حسابُ كل انسان على أدقِّ وجه {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] .
قراءات:
قرأ الجمهور: سجّرتْ بتشديد الجيم المكسورة، وقرأ ابن كثير وابو عمرو: سجرت بتخفيف الجيم، وقرأ نافع وحفص عن عاصم وابن عامر وابو عمرو: نشرت بكسر الشين من غير تشديد، والباقون: نشرت بتشديد الشين. وقرأ الجمهور: سعرت بكسر العين المخففة، وقرأ نافع وحفص وابن ذكوان: سعّرت بتشديد العين.(3/411)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
الخنّس: جمع خانس وخانسة، وهي التي تختفي. الجوارِ الكنّس: جمعُ جارية، والكنس جمع كانس وكانسة، وهي التي تستتر، والمراد بالخنّس والكنس النجوم. اذا عسعس: اذا اقبل بظلامه. اذا تنفّس: اذا اسفر وظهر ضياؤه. رسول كريم: جبريل. عند ذي العرش: عند الله. مكين: صاحب مكانة وجاهٍ عند ربه. ثَمّ: بفتح الثاء، هناك. صاحبكم: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. بالأفق المبين: الأفق الأعلى الواضح، الجهة العليا. ضنين: بخيل. رجيم: مرجوم مطرود من رحمة الله.
بعد ان ذكر الله تعالى بعض اهوال يوم القيامة، وكلَّ ما سبق - أقسم هنا بأيمان مؤكدة بالنجوم الخُنّس، والكنَّس، وبالليلِ اذا أقبل ظلامُه، وبالصبحِ اذا أسفَرَ وظهر نورُه. وما أجملَ قوله تعالى {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} ! ولا يعرف هذه الحقيقة الا الذي يقوم مبكّرا، ويرى جمالَ إسفارِ الصباح ويشمُّ النسيم العليلَ الذي يُنعش النفوس.
لقد اقسم الله تعالى بهذه الأشياء العظيمة، أن القرآنَ الكريم ليس من كلام محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما هو كلامُ الله جاء به جبريلُ، وهو رسولٌ كريم وصاحبُ قوةٍ في أداءِ مهمته، {عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} وذو جاهٍ ومنزلة عند ربه العليّ العظيم، كما أنه مطاع بين الملائكة المقربين.
ثم وصف الرسولَ الكريمَ مخاطباً قومه فقال {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} فهو محمد الذي عرفتموه وخبرتموه وكنتم تنعتونه «بالأمين» ! لماذا بعد ان جاءته الرسالة قلتم عنه انه مجنون؟
{وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين}
كيف تقولون هذه الأقوال الكاذبة عنه، وهو الذي رأى جبريلَ بالأفق المبين الواضح، كما جاء في سورة النجم: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} [النجم: 11-14] .
{وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ}
ليس محمّد بالمتهَم على القرآن وما فيه، ولا ببخيلٍ يقصّر في تبليغه وتعليمه، بل هو ثقةٌ أمين.
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}
ما هذا القرآن الذي يتكلم به النبيّ قولَ شيطانٍ مرجوم مطرودٍ من رحمة الله.
ثم بين لهم انهم قومٌ قد ضلّوا طريقَ الهدى، وجهِلوا سبيل الحكمة فقال:
{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ؟ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} .
أي طريقٍ أهدَى من هذا الطريق تسلكون!!
ليس هذا القرآن العظيم الا تذكرةً للناس جميعا، يأمرهم بالخير، ويزجرُهم عن الشر، وهو هدايةٌ وتذكِرة {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} . أما من يصرّ على الضلال فلا ينتفع بذِكر، ولا تؤثّر فيه موعظة {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} وكلٌّ اليه راجعون.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: بظنين بالظاء، وقرأ الباقون بضنين، بالضاد.(3/412)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
انفطرت: انشقت. انتثرت: تبعثرت، وتفرقت. فُجرت: فتحت على بعضها وزالت الحواجز التي بينها. بُعثرت: فُرقت وأزيل التراب عن الموتى، واخرجوا منها. ما قدّمت: من اعمال الخير، وما أخرته ولم تعمله. فسوّاك: جعل اعضاءك سوية متناسبة. فعدَلَك: جعلك معتدلا متناسب الخَلق. في أي صورةٍ ما شاء ركّبك: في صورة حسنة هي من أعجب الصور وأحكمها. الدّين: الجزاء يوم القيامة. حافظين: يحصون أعمالكم. يَصْلونها: يدخلونها.
تبدأ السورة بعرض اربعة مشاهد من أهوال يوم القيامة: إذا السماءُ انشقّت وتساقطت كواكبُها متبعثرة، واذا فُجّرت البحارُ وزال ما بينها من حواجز، واذا القبورُ فُتحتت وبُعثرت وخَرج من فيها من الناس أشتاتاً ليُرَوا أعمالهم - عند ذلك تَعلَم كلُّ نفسٍ ما عملتْ وما لم تعمَل.
ثم ينتقل الخطاب الى الانسان في صورة عتاب: يا أيها الانسان، أيُّ شيءٍ خدعَكَ بربك الكريم حتى تجرّأتَ على عصيانه؟ هو الذي أوجدَك من العدَم، وخلقك في هذه الصورةِ المتناسبة الأعضاء مع اعتدال القامة في أحسن تقويم! وبعد كل هذا نجدكم يا بني آدمَ مكذبين بيوم الدين:
{كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} ! ارتَدِعوا عن الاغترار بكرمي لكم، فإنكم محاسَبون ومسئولون.
ثم بين لهم ان أعمالَهم مكتوبةٌ يُحصيها عليهم ملائكةٌ كِرام كاتبون {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} من خيرٍ أو شرّ. كما جاء في سورة الزخرف 80 {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} اما كيفية حفظِهم وكتابتهم، وهل عندَهم أوراق وأقلام، او هناك ألواح تُرسَم فيها الأعمال - فلا نعلم عن ذلك شيئا، وإنما نقول: إن قدرة الله كفيلة بأن يخلق من الطرق ما لا يَظلم به عبادَه.
ثم ذكر نتيجة الحساب، والثواب والعقاب، وبيّن ان العاملين في ذلك اليوم فريقان: وبيّن مآل كل منهما فقال:
{إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين}
ان المؤمنين الأبرار، الصادقين في إيمانهم - سينالون جناتِ النعيم؛ أما الذين جحدوا وانشقّوا عن أمر الله وهم الفجار - ففي النار، يدخلونها بعد الحساب.
{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ}
ذلك أن وعْدَ الله حقٌّ، فهم في جهنم لا محالة.
ثم بين الله اهوال ذلك اليوم وشدائده فقال:
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} .
إنك أيها الانسان تجهل ذلكَ اليومَ العظيم، فهو فوق ما تتصور بشدائده وأهواله.
{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
لا أحد يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لغيره في ذلك اليوم. . وكلّ إنسانٍ مشغولٌ بنفسه. . والأمر في ذلك اليوم لله وحده، فهو المتفرد بالأمر والنهي، فلا شفيع ولا نصير، واليه المرجع والمآب.
قراءات:
قرأ الجمهور: فعدَّلك بتشديد الدال، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: فعَدَلك بفتح الدال من غير تشديد. وقرأ ابن كثير وابو عمرو يومُ لا تملكُ برفع يوم، والباقون يومَ لا تملِكُ بالنصب.(3/413)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
ويل للمطففين: هلاك عظيم للذين يبخسون المكيال وينقصونه، طفّف المكيالَ: نَقَصَه. اذا اكتالوا على الناس يستوفون. . . .: عندما يكتالون لأنفسِهم من الناس - يأخذون حقهم وافيا، اما اذا كالوهم أو وزنوهم فإنهم يُنقِصون حقوق الغير. سجِّين: اسمُ الكتاب الذي تُكتب فيه اعمالهم. مرقوم: له رقم وعلامة. أساطير الأولين: أخبار الماضين. ران على قلبِه: غطى عليه. لَمحجوبون: لمطرودون عن أبواب الكرامة. لَصالو الجحيم: داخلون فيها.
تبدأ السورة بحربٍ يعلنها الله على أناسٍ يمتهنون سرقة الناس، سماهم الله «المطفِّفين» ، لأن الشيء الذي يأخذونه من حقوق الناس شيءٌ طفيف، ولكنه سرقةٌ وغشّ. أما مَن هم، فهم أولئك الذين يتقاضَون بضاعتهم وافية عند الشراء ويعطونها للناس ناقصةً عند البيع.
ثم جار بصيغة التعجب من عمل هؤلاء المجرمين فقال تعالى:
{أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين؟}
ألا يخطر ببال هؤلاء المطفّفين أنهم سيُبْعثون ليوم عظيم الهول، حيث يقف فيه الناس للعرض والحساب!
ولا يخفَى ما في الوصفّ «لربّ العالمين» من الدلالة على عِظَم الذنب في أكلِ أموال الناس بالباطل. فالميزان هو قانونُ العدل الذي قامت به السموات والأرض.
وبعد ان ذكر اللهُ تعالى أنه لا يزاول التطفيفَ ونقصَ الميزان الا من ينكر يومَ القيامة والبعثَ والجزاء - أمر هنا بالكفّ عما هم فيه، وذكر ان الفجّارَ، كما سمّاهم، قد أُعدّ لهم كتابٌ أُحصيتْ فيه جميع أعمالهم ليحاسَبوا عليهاز
{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}
كفّوا عما أنتم عليه، فهناك سِجِلٌ لاعمال الفجّار فيه جميعُ أعمالهم اسمه سِجّين، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ؟} إنه شيء عظيم ليس مما كنتَ تعلمه يا محمد أنتَ ولا قومك. ان الأمر اكبرُ وأضخم من أن يُحيط به عِلم، فهو {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ، مسطور له علامة واضحة، لا يُزاد فيه ولا يُنقَص منه، {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 21] .
ثم يأتي بالتهديدِ والوعيد لمن يكذّب باليوم الآخِر فيقول:
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين}
الهلاكُ للجاحدين الذين لا يؤمنون بالآخرة {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} يظلُّ يعتدي على الحق ويُصرّ على الكفر، لأنه من المجرمين الآثمين، حتى إنه: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} منكراً أن القرآن قد نزل من عند الله وزاعماً انه مجرد خرافات وأباطيل عند الأمم السابقة، جاء بها محمد، كما جاء في قوله تعالى: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] .
ثم بيّن الله تعالى ان الذي جرّأَهم على الجحود والتمادي في الإصرار على الإنكار والكفر هي افعالهم القبيحة التي مَرَنوا عليها حتى صاروا لا يميزون بين الخُرافة والحجّة الدامغة فقال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .(3/414)
ليس القرآنُ والبعثُ والجزاء من الأساطيرِ والخرافات، بل عَمِيَتْ قلوبُهم وغطّت عليها أفعالُهم وتماديهم في الباطل، فطُمسَ على بصائرهم، والتبست عليهم الأمورُ ولم يدركوا الفرقَ بين الصحيح والباطل.
بعد ذلك ردت عليهم السورة ناقضةً ما كانوا يقولون من أن لهم المنزلة والكرامة يوم القيامة.
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} .
أما ما تدّعون من انكم تكونون مقرّبين الى الله يوم القيامة، فهو وهمٌ باطل، فأنتم مطرودون من رحمة الله، ومحجوبون عنه بسبب معاصيكم وجحودكم. وكما قال تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] .
ثم بين الله مآلهم ومصيرهم فقال:
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
لقد حُجبوا عن القرب من الله، وخابَ ظنُّهم الأثيم، بل إنهم لَذاهبون الى النار حيث يقال لهم تبكيتا: إن هذا العذاب الذي حلّ بكم هو جزاؤكم بما كنتم تكذّبون في الدنيا أخبار الرسولِ الصادق الأمين.
قراءات:
قرأ حفص: بل ران باظهار لام بل، وقرأ الباقون: بل رّان بادغام اللام بالراء، وقرأ اهل الكوفة: رِين بالإمالة.(3/415)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
عِليّين: المكان العالي الرفيع القدر، وهو مقابل: سِجّين. الأرائك: جمع أريكة، وهي المقعد الوثير المنجّد. نضرة النعيم: بهجته ورونقه. رحيق: شراب خاص. مختوم: ختمت أوانيه. ختامه مسك: مختوم بأطيب انواع الطيب. فلْيتنافس المتنافسون: فليتسابق المتسابقون في عمل الخير ليلحقوا بهم. مزاجه: ما يخلط به. من تَسنيم: من عين يقال لها تسنيم.
بعد أن بين اللهُ تعالى حالَ الفجّار وأعمالَهم ومآلهم يوم القيامة - يعرض هنا حالَ الأبرارِ الذين آمنوا بربِّهم وصدّقوا رسولَهم. . وهذه طريقةُ القرآن الكريم في عَرض المتقابلَين، وفي ذلك ترغيبٌ في الطاعة، وتنفيرٌ من المعصية.
{كَلاَّ} ليس الأمر كما توهَّمَه أولئك الفجّارُ من إنكار البعث، ومن أن كتابَ الله أساطيرُ الأولين {إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} فهو مودَع في أشرفِ الأمكنة بحيث يشهدُه المقرَّبون من الملائكة، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} ؟ إنه أمرٌ فوق العِلم والادراك لبني البشر، وكل ما في الآخرة مختلفٌ عن حياتنا ومفهومنا. فهو:
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون} فهو مسطور علامتُه واضحة يشهدُه ويحفظُه المقرّبون من الملائكة تكريماً للأبرار، وتقديراً لجهودِهم وأعمالهم الصالحة.
بعد هذا بين منزلة الأبرار الرفيعة، وأخذت السورةُ تفصل حالضهم وما ينالون من الجزاء والنعيم.
{إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ. . . .}
وهذا في مقابلة الفجّار الذين هم في الجحيم. فالله تعالى يكرم المؤمنين الأبرار ويدخلُهم جناتِ النعيم، حيث يجلسون على الأرائك وينظرون الى ما أَولاهم ربهم من النعمة والكرامة، حتى إذا نظرتَ إليهم تعرفُ في وجوههم بهجةَ النعيم ونضارته.
وهم يُسقَون من شراب أهل الجنة الّذي هو الرحيقُ الخالص، الذي خُتمت أوانيه بختام من مِسْكٍ، تكريما لها وصوناً عن الابتذال، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} ويتسابقوا.
والشرابُ السابق ممزوجٌ من عين في الجنة اسمُها «تَسْنِيم» .
{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} الأبرارُ عند الله تعالى. وكل ذلك تكريم لهم وفضلُ ضيافة. ولقد فصّل الله تعالى ما أعدّ للأبرار ووصفَ النعيمَ الذي سيلاقونه في دارِ كرامتِه حضّاً للذين يعملون الصالحاتِ على الاستزادة منها، وحثّاً للمقصِّرين واستنهاضاً لعزائمهم ان لا يقصّروا في ذلك.
بعد ذلك انتقل الحديثُ في السورة الى ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين في الحياة الدنيا وكيف كانوا يستهزئون منهم ويَسْخَرون، وان هذا ما سيقابلُ به المؤمنون الكفار يوم القيامة ويضحكون منهم.
فقد روي أن صناديد قريشٍ مثلَ أبي جهلٍ، والوليدِ بن المغيرة، والعاصي بن وائل السُّهمي، وشَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأميةَ بن خلف، وغيرهم كانوا يؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرّضون عليهم سفَهاءَهم وغلمانهم. وفي ذلك كله يقول تعالى:
{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ.(3/416)
.} .
ان المجرِمين الجاحدين، كانوا في الحياة الدنيا يضحكون من المؤمنين، {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} عليهم بأعينِهم وأيديهم، ويَذكُرونهم بالسوء، ويشيرون إليهم مستهزئين، {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ} نفوسُهم راضية بعد ما اشبعوا تلك النفوسَ الصغيرة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} .
واذا رأى المجرمون المؤمنين قالوا عنهم: ان هؤلاء لَضالُّون، فقد آمنوا بمحمَّد وتركوا ما كان عليه الآباء والأجداد من عبادة.
ثم يردّ الله عليهم بكل أدب ووقار بقوله: {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}
ان الله لم يرسِل الكفارَ رقباءَ على المؤمنين، ولم يُؤتهم سلطةَ محاسَبتهم على أفعالهم.
ثم طمأنَ المؤمنين بذِكر معاملتهم للمجرمين يوم القيامة، تسليةً لهم عمّا نالَهم من أذى، وشدّاً لعزائمهم على التذرّع بالصبر فقال: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}
الآن يومُ القيامة، يوم الجزاء والحساب، يجلس المؤمنون على الأسرَّة في نَعيم مقيم، ويتناولون الرحيقَ المختوم بالمِسكِ وهم يضحكون من الكفّار وما يُعانونه من العذاب والطَّرد من رحمة رب العالمين.
قراءات:
قرأ الجمهور: ختامه مسك، وقرأ الكسائي وحده: خاتمه مسك، وقرأ الجمهور: تعرف بكسر الراء، وقرأ يعقوب: تعرف بضم التاء وفتح الراء، وقرأ الجمهور: فاكهين، وقرأ حفص: فكِهين.(3/417)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
انشقت السماء: تصدعت. أَذِنت لربها: استمعت اليه، أذِنَ للشيء: استمع اليه، وأذِنَ بالشيء: عَلِمَه. حُقت: أطاعت، وقع عليها الحق واعترفت بأنها محقوقة لربها. واذا الأرض مُدت: تغيرت جميع ملامحها وأصبحت قاعا صفصفا، بإزالة جبالها وتغيير معالمها. وألقت ما فيها وتخلّت: أخرجت جميع ما فيها من الخلائق والكنوز التي طوتها في أجيالها العديدة. كادح: عامل بجد ومشقة، كدح في العمل كَدحا: سعى، وأجهد نفسَه، وعملَ خيراً أو شرّا، وكدحَ لِعياله: كسبَ لهم بمشقة. فملاقيه: فسوف تجدُ عملَك امامك مسجلاً في سِجلٍّ دقيق، لا ينسى شيئا. ينقلب الى أهله: يرجع الى عشيرته فرحا مسرورا. من أُوتي كتابه وراء ظهره: صورةٌ عجيبة من الاحتقار والازدراء. الثبور: الهلاك، يدعو ثُبورا: يدعو على نفسه بالهلاك. يصلَى سعيرا: يدخل جهنم. إنه ظن انه لن يحُور: انه كان لا يؤمن بالبعث، والرجوع الى الله، حار يحون حورا وحئورا: رجَعَ. بلى: سيرجع الى الله ويحاسَب.
بين الله تعالى في مطلع هذه السورة الكريمة أهوالَ يوم القيامة، في آيات موجَزة هي من عجائب إيجازِ القرآن وبلاغته، وذَكَر أن ما يقع بين يدي الساعة من كوارث وأهوالٍ تُشِيبُ الوِلدان، ويفزع لها الانسان. فمنها:
إذا تشقّقت السماءُ وتصدّعت، واختلَّ نظامُ العالم، واستمعت السماءُ لأمرِ ربّها وانقادت لحُكمه، {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي انبسطت بنسفِ ما فيها من جبال، وأصبحت لا بناءَ فيها ولا وِهاد، كما قذفت ما في جوفها من الخلائق والكنوز. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} واستمعت لأمرِ ربّها وأطاعت. . . إذا حصل كل هذا - لَقِيَ الانسانُ من الأهوال ما لا يحيط به الخيالُ في ذلك اليوم العصيب.
بعد هذه المقدمة الهائلة أخبرَ اللهُ تعالى عن كدِّ الإنسانِ، وتعبه في هذه الحياة.
{ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} .
يا أيها الإنسانَ الغافل عن مصيره، لا تظنَّ أنك خالد، كلاّ انك مُجِدٌّ في السيرِ إلى ربك، وراجع إليه يومَ القيامة، وان كلَّ عملٍ عملتَه، خيراً أو شراً، سوف تُلاقيه أمامك في سجلٍّ دقيق، وسَيُجازيك ربُّك على كَدْحِك من ثوابٍ وعقاب.
في ذلك اليوم ينقسم الناسُ فريقين: فريقَ الصالحين البررة، وهؤلاء يحاسَبون حسابا يسيرا، وينقلبون الى أهلهم فرحين مسرورين كما قال تعالى، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} إذ يتجاوز الله عن سيئاته. وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نُوقش الحسابَ عُذِّب. فقالت عائشة: أوليسَ الله يقول {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} فقال: إنما ذلكَ العَرضُ، ولكنّ من نوقش الحسابَ عُذِّب» .
وفي الحديث: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(3/418)
«ان الله يُدني العبدَ يوم القيامة حتى يضعَ كَنَفَهُ عليه، فيقول له: فعلتَ كذا وكذا، ويعدِّدُ عليه ذنوبَه ثم يقول له: سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرُها لك اليوم» ، فهذا هو المرادُ من الحساب اليسير. الكنف: الرحمة والستر.
والفريق الثاني فريق العصاة الجاحدين، وهؤلاء يحاسبون حساباً عسيرا ويَلْقَون من العذاب ما لا يتصوره الانسان. . .
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ويصلى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} .
هذه صورةٌ عجيبة جديدة، تأتي لأول مرة في القرآن الكريم، وهي إعطاء الكتاب للمجرمِ من وراءِ ظهره، وما هي الا نوعٌ من الاحتقار وازدراء به. وهو حين يتناوله على هذه الصورة يدعو على نفسه بالهلاك والموت، ولكن لا يجاب، ويكون مصيره النار وبئس القرار ويقول:
{ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25-29] .
لماذا؟ انه كان في الدنيا ساهياً لاهيا، سادراً وراء شهواته يُنكر البعثَ والحسابَ والجزاء، وقد ظنَّ أن لن يرجعَ إلى الله، ولن يبعثَه بعدَ الموت.
{بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}
بلى إن الله سيعيدُه بعد موته ويحاسِبُه على عمله، وهو لا تخفى عليه خافية.
قراءات
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير والكسائي: يُصلى بضم الياء وفتح الصاد واللام المشددة، والباقون: يصلى بفتح الياء واسكان الصاد وفتح اللام من غير تشديد.(3/419)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
الشفق: الحمرة التي تشاهَد في الأفق الغربي بعد الغروب، ويستمر الى قبيل العشاء، والشفقُ: الشفقة. وسَقَ الليل الأشياء: جلّلها وجمعها، وسقت النخلة: حملت. اتّسَق: اكتمل وتم نوؤه وصار بدرا. لتركبنّ طبقا عن طبق: لَتُلاَقُنَّ حالاً بعد حال، بعضها أشدّ من بعض وهي الحياة، والموت، والبعث، وأهوال القيامة. بما يوعون: بما يُضمِرون في نفوسهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي. غير ممنون: غير مقطوع.
بعد هذه الجولة العميقة الأثر بمشاهدِها، لتأكيد أن الانسانَ راجع الى ربه يوم القيامة، حيث يحاسَب حساباً يَسيرا أو عسيرا حسب أعماله - يُقسِم الله تعالى بآياتٍ له في الكائنات أنّ بعثَ الناس يوم القيامة كائن لا محالة.
{فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق. . . . .}
تتكرر هذه العبارة في القرآنِ، وهو أسلوبٌ يأتي عندما يكون الشيءُ الذي أقسَمَ الله عليه جليلَ القدر، فيقول سبحانه: لا أُقسِم بهذه الأشياءِ على إثباتِ ما أريد لأن أمره ظاهر، واثباته أعظمُ وأجلُّ من أن يقسَم عليه. وأول هذه الأمور الشفَق. . ثم يأتي:
فباللّيلِ وما وسَق، أي ما جمعه من الكائنات التي تسكن فيه عن الحركة، والقمرِ عندما يتم نوره ويصير بدراً كاملا. . بحق هذه الأمور الثلاثة، والتي لا يخفَى على الناس ما فيها من المنافع، وما فيها من الآيات الناطقة بحكمة واضعِ نظامها - {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} وهنا جواب القسم: لتلاقُنَّ ايها الناس حالاً بعد حال، رخاءً بعد شدة، وسُقماً بعد صحة، وغنًى بعد فقر، منذ خَلْقِكم الى طفولتكم، وشبابكم وشيخوختكم، ثم موتكم، ثم بعثكم يوم تُحشَرون إلى ربكم للحساب.
ثم بعد ان ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب والجزاء أتى باسلوب فيه استفهام يقصد به التوبيخ.
{فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ؟} .
ما لهؤلاء الجاحدين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه! {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} . . خضوعاً لربّ هذا الكون البديع!
وهنا موضع سجدة. لقد منعهم العنادُ والاستكبار من الإيمان، فهن يفعلون ذلك تعالياً عن الحق، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته.
{والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}
والله أعلمُ بما يكنّون في نفوسهم، ويُضمرون في جوانحِهم من شر وإصرارٍ على الشرك.
ثم يتجه الخطاب الى الرسول الكريم فيقول تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أيْ أخبِرْهم يا محمد عمّا ينتظرهم من عذاب. والتعبير بقوله: {فَبَشِّرْهُمْ} فيه تهكّم لاذع حيث استعمل البشارةَ مكان الإنذار.
ثم يختم السورة الكريمة بما أعد للمؤمنين من أجرٍ دائم غير منقطع، فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} بل هو دائم غير مقطوع عنهم في دار البقاء، ولَنِعم دار المتقين.
قراءات
قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، لتركبَن بفتح الباء والخطاب الى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون، لتركبُنّ بضم الباء والخطاب للجميع.(3/420)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
البروج: واحدها بُرج بضم الباء، ومن معانيه: القصر العالي، والحصن، وبروجُ السماء الاثنا عشر، وهي تضم منازلَ القمر الثمانية والعشرين، وسيأتي تفصيلها. اليوم الموعود: يوم القيامة. شاهد ومشهود: جميع ما خلق الله في هذا العالم. الأخدود: الشق المستطيل في الرض، جمعُه أخاديد. وأصحاب الأخدود: قومٌ من الكافرين، كان لهم قوة وسلطان. ما نقموا منهم: ما أنكروا عليهم، وعابوهم. فتنوا المؤمنين: ابتلوهم، وحرقوهم بالنار، يقال: فتن المعدنَ: صهره في النار. عذاب الحريق: عذاب النار في جهنم. البطش: الأخذُ بالعنف والشدة. يُبدئ ويعيد: يبدأ الخلق ثم يفنيهم، ثم يعيدهم أحياء. الودود: الذي يحب أولياءه وعباده الصالحين، ودَّهُ يودّه ودّا بكسر الواو وفتحها وضمّها ووِدادا، وودَادة، ومودّةً: أحبّه. الودود: كثير الحب، وهو ايضا اسم من أسماء الله الحسنى. ذو العرش: صاحب الملك والسلطان، والقدرة النافذة. المجيد: السامي القدر، المتناهي في الجود والكرم، يقال: مجثد مجادة، فهو مجيد. محيطٌ: بهم، فهم في قبضته. محفوظ: مصون من التحريف والتغيير والتبديل.
{والسمآء ذَاتِ البروج}
أقسَم الله تعالى بالسماءِ البديعة وما فيها من نجوم لِينبِّهَنا الى ما فيها من دقة الصنع، وبالغ الحكمة، لِنعلمَ ان الذي خلَقها أجلُّ وأعظم.
والبروج اثنا عشر وهي: الحمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسُنبلة، والميزان، والعقرب، والدَّلو، والجَدي، والحوت، والقوس. وتحلُّ الشمس كل شهرٍ في واحد من هذه البروج، وكلٌّ منها يضمُّ منزلَين وثلُثاً من منازل القمر، وعددها ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل يوم في واحد منها ويستتر ليلتين يغيب فيهما.
ومنازل القمر هي: الشرطان، والبطين، والثريا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعة، والذِراع، والنثرة، والطَرْف، والجَبْهة، والزّبرة، والصرفة، والعَوّاء، والسِّماك الأعزل، والغفر، والزُّبانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنعائم، والبلدة، وسعدُ الذابح، وسعد بَلَعَ، وسعدُ سُعود، وسعدُ الأخبية، والفرغُ الأول، والفرغُ الثاني، وبطنُ الحوت.
ونرى في السماء ستة بروج، والستة الاخرى تكون في سماء نصفِ الأرض المغيَّبة عنّا.
ونرى في المنازل اربعة عشر منزلا، والبقية في النصف المغيّب عنّا. والبروج الاثنا عشر، منها ستة في شمال خط الاستواء، وستة اخرى في جنوبه.
فاما التي في شماله فهي: الحمل، والثور، والجوزاء.
وهذه الثلاثة تقطعها الشمس في ثلاثة اشهر هي فصل الربيع، ثم السرطان، والاسد، والسنبلة، وهذه هي فصل الصيف.
والستة التي في جنوب خط الاستواء هس: الميزان، والعقرب، والقوس، وفيها يكون فصل الخريف.
ثم الجدي، والدلو، والحوت، وفيها يكون فصل الشتاء. هكذا قسّم القدماء البروج والمنازل.
ولقد اقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من نجوم لا تُعدُّ ولا تحصى، ومن جملتها هذه البروج، لأننا نراها ونشاهدُها دائما، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة.(3/421)
وقد اهتم العربُ اهتماماً كبيرا بمعرفة هذه النجوم، ومن قبلِهم اهتمت الأمم التي سبقتهم. وكانوا احوجَ الناس الى معرفتها، ومواقع طلوعها وغروبها، لأنهم يحتاجون اليها في السفَر برّاً وبحراً، إذ يهتدون ليلاً بهذه الدراري اللامعة، فلولاها لضلّت قوافلُهم وهلكت تجارتُهم ومواشيهم، وهذا ما أشار الله تعالى اليه بقوله:
{وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 97] .
وقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16] .
وقال: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] .
ولذلك اهتم العرب بهذه السماء العجيبة، وعرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسمّوها بأسماء مخصوصة، وذكروا في أشعارهم بعضها، مثل الفَرْقَدَين والدَّبَران، والعَيُّوق، والثريا، والسِّماكَين، والشِّعْرَيَيْن، وغيرهما مما ذكر في كتب الفلك والأدب والتفسير والتاريخ. . . .
وقد صور العلامة ابو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي جميع أسماء الكواكب المستعملة عند العرب في كتابه البديع: صور الكواكب الثمانية والاربعين، والذي حوى نحو مئتين وخمسين كوكبا. . . .
فالقَسم بهذه السماء البديعة الصنع، العجيبة التركيب، وما فيها من نجوم ومجرات، ومجموعات لا نعلم منها الا القليل القليل - قَسَمٌ عظيم، والذي أقسَمَ أجَلُّ أعظمُ.
{واليوم الموعود}
هو يوم القيامة الذي وعَدَ اللهُ أنه لا بدّ آتٍ للحساب والجزاء.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
وبجميع ما خلق اللهُ في هذا الكون العجيب، مما يشهده الناس ويرونه رأيَ العين. وبهذا يوجه الله تعالى انظارنا الى ما في هذا الكون الواسع الكبير من العظمة والفخامة والحكمة، لنعتبر ونتعظ، ونعلم أن الله الذي خلق هذا الكون هو الذي يستحق أن يعبد.
{قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود}
قاتلَ اللهُ أصحابَ الأخدود ولعنهم، فهم الذين شقّوا في الأرض شقاً مستطيلا كالخندق، وملأوه بالنيران، وحرقوا بها المؤمنين بالله.
ثم بيَّنَ من هُم أسحابُ الأخدود فقال:
{النار ذَاتِ الوقود}
إنهم أصحابُ النار المتأججة التي أوقدوا فيها الحطب الكثير، فارتفع لهبها.
ثم بيّن إجرامَهم وقسوةَ قلوبهم بقوله:
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ}
قُتل هؤلاء المجرمون ولُعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم جلوسٌ حولَها، يشهدون العذابَ، ويتشَفَّون بإحراقهم.
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}
وما كان للمؤمنين من ذنْبٍ عندهم، ولا انتقموا منهم، إلا لأنهم آمنوا بالله العزيزِ، الغالبِ الذي لا يُضام مَنْ لاذَ به، الحميدِ في جميع اقواله وافعاله.
ثم بين الله تعالى انه مطلع على ما فعلوا بالمؤمنين، وأوعدهم بانهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال:
{والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
إنه تعالى مطَّلع على اعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم، فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.
وبعد أن ذكر قصةَ أصحابِ الأُخدود، وما فعلوه من العذاب الكبير بالمؤمنين - شدَّد النكير على أولئك المجرمين الذي عذّبوهم، بأنه أعدَّ لهم عذاباً أليما في نار جهنم، وانه إن أمهَلَهم فإنه لا يُهمِلُهم، فقال:
{إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} .(3/422)
ان الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات في دِينهم بالأذى والتعذيبِ بالنار ولم يتوبوا الى الله من ذلك الجرم الكبير، بل ظلّوا مصرّين على كفرهم وعنادهم - لهم في الآخرة عذابُ جهنم وحريقُها كما أحرقوا المؤمنين.
وقد اختلف المفسرون في حقيقة أصحاب الأخدود، وأين كان موضعهم ومن هم، وأوردوا أقوالا كثيرة لا فائدة منها فأضربنا عنها وتركناها. . . . .
وبعد ان ذَكر اللهُ تعالى ما أعدّ لأولئك المجرمين من العذاب، بين هنا ما يكون لأوليائه المؤمنين من النعيم المقيم، فقال:
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير} .
بهذا القول الكريم يتمثل رضى الله وإنعامُه على الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، حيث تكون خاتمتُهم في جناتِ النعيم التي تجري من تحتِ أشجارها الانهارُ، وهذا هو الفوزُ الكبير، جزاء صبرهم وإيمانهم وعملهم الصالح.
ثم اخبر تالى عن انتقامهِ الشديد من أعدائه وأعداء رسُله والمؤمنين فقال:
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الغفور الودود ذُو العرش المجيد فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} .
ان انتقام الله من الجبابرة والظَلَمة، وأخْذَه إياهم بالعقوبة، بالغُ الغايةِ في الشدة، والنهايةِ في الأذى، فهو الخالقُ القادر الذي يبدأ الخَلْق من العدم، ثم يعيدُهم أحياءً بعد الموت. فإذا كان قادراً على البدءِ والإعادة، فهو قادرٌ على البطش بهم. . . لأنهم في قبضتِه وخاضعون لسلطانه.
ثم ذكر سبحانه أنه يغفر دائماً، وانه رحيمٌ لعباده، كثيرُ المحبّة لمن اطاعه، فبين في ذلك خمسةَ أوصافٍ من صفات الرحمةِ والجَلال فقال:
1- {وَهُوَ الغفور} وهو كثير المغفرة لمن يتوب ويرجع اليه، في أيها الناس لا تقنَطوا من رحمة الله، فإن رحمته وسِعت كلَّ شيء.
2- {الودود} المحبّ لأوليائه المخلِصين، اللطيف المحسِن اليهم. وأي صفة أعظمُ من هذه الصفة؟
3- {ذُو العرش} صاحبُ الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي لا يُرَدّ.
4- {المجيد} العظيم الكرم والفضل، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال.
5- {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحُكمه ولا رادَّ لقضائه.
روي ان ابا بكر الصدّيق رضي الله عنهـ، قيل له وهو في مرض الموت: هل نظرتَ الى طبيب؟ فقال: نعم، قالوا: فماذا قال لك؟ قال: قال لي إني فعّال لما أريد.
{هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} .
بعد ان ذكر قصّة اصحاب الأخدود وبيّن حالَهم، وما فعلوا بالمؤمنين - ذكر هنا ان حال الكفار في كل عصر، ومع كل نبيٍّ وشِيعته، جارٍ على هذا المنهج، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسِل اللهُ نبياً إلا واجَه من قومه مثلَ ما لقي هؤلاء من اقوامهم.(3/423)
والغرضُ من هذا كله تسليةُ النبيّ الكريم وصحبه، وشدُّ عزائمهم على التذرع بالصبر.
هل بلغك يا محمد ما صَدَرَ من تلك الجموع الطاغية من التمادي في الكفر والضلال وما حلّ بهم؟ إنهم فرعونُ وقومه، وثمود. والكفّار في كل عصر متشابهون، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدْع في الأمم، فقد سبقهم أمم قبلهم وحلّ بهم النَّكال، وكذلك سيكون مآل الجاحدين من قومك، {فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . إنّ الكفّار في كل عصرٍ غارقون في شَهوة التكذيب، فلا تجزَعْ. إنك لمن المنتصِرين.
{والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} لا يفلتون من قبضته، ولا يُعجِزونه.
ثم رد على تماديهم في تكذيب القرآن، وادّعائهم أنه أساطيرُ الأولين فقال:
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}
إن ما جئتهم به يا محمد من قرآن عظيم، وكذّبوا به - هو من عند الله واضحُ الدلالة على صِدقك، وهو محفوظٌ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي: ذو العرش المجيدِ بكسر الدال، وقرأ الباقون: المجيدُ بالرفع، وقرأ نافع: في لوح محفوظٌ بالرفع، والباقون: محفوظٍ بالجر.(3/424)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
طَرَق طَرْقا وطروقا: أتاهم ليلا، وطَرَقَ النجم طروقا: طلع ليلا. النجم الثاقب: النجم المضيء، ثقب الكوكب: أضاءَ فهو ثاقب. حافظ: رقيب. ماء دافق: ماء مندفع بسرعة. الصلب: فقار الظهر، منطقة العمود الفقري، يقال: من صُلب فلان يعني من ذريته. الترائب: عظام الصدر. تُبلى: تختبر وتمتحن. السرائر: الضمائر، وما يُسِره الانسان في نفسه. الرجع: إعادة الشيء الى ما كان عليه، والمراد هنا المطر. الصدع: الشق، الارض التي تنشق عن النبات. فصل: فاصلٌ بين الحق والباطل. يكيدون: يمكرون، ويدبّرون المضرة خفية. وأكيدُ كيدا: الكيد من الله التدبيرُ بالحق لمجازاة اعمالهم. رويدا: قريبا.
لقد أقسَم الله تعالى في مطلع هذه السورة بالسماء ونجومها اللامعة المضيئة، انّ النفوسَ لم تُترك سُدى، ولن تبقى مهمَلة، بل تكفَّل بها مَنْ يحفظها ويحصي أعمالَها، وهو اللهُ تعالى.
وفي هذه تسليةٌ للرسول الكريم وأصحابِه، ووعيدٌ للكافرين الجاحدين.
{والسمآء والطارق}
أُقسِم بالسماء وبالنجم الطالع ليلا. ولقد اقسَم الله تعالى بالسماء والشمس وبالقمر والليل، لأن في أحوالِها وأشكالها وسَيْرِها ومطالِعها ومغاربها عجائبَ وأيَّ عجائب.
ثم فسّر الطارقَ بقوله: {النجم الثاقب} هذه النجوم المضيئة التي لا تحصى ولا نعلم من أكثرها شيئا، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق؟} استفهام للتفخيم والتعظيم. ما الذي أعلمكَ يا محمد ما حقيقةُ هذه النجوم.
ثم بين الذي حلف عليه فقال: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي إن كلَّ نفس عليها رقيبٌ يحفظها ويدير شئونها في جميع أطوارها، ويُحصي عليها أعمالها.
لَمَّا، هنا بمعنى إلاّ، يعني أن كل نفس عليها حافظ. وفي قراءة من قرأها بالتخفيف انّ كل نفس لَما عليها حافظ، يعني: ان كل نفس لَعَلَيْها حافظ، وهما قراءتان سَبْعِيَّتان.
وهذا المعنى كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار: 10-12] .
ثم امر الله تعالى الانسانَ ألأن ينظر ويتفكر في بدءِ خَلْقه ومنشئه، وانه خُلق من ماءٍ دافق فيه ملايين الحُوينات التي لا تُرى بالعين المجردة، فالذي خلقه على هذه الأوضاع قادرٌ على أن يُعيدَه إلى الحياة الأخرى.
{فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب}
فلينظر الانسانُ ويفكّر في مبدأ خلْقه. لقد خلقه الله من ماءٍ متدفق، من مَنِيٍّ فيه ملايينُ المخلوقات التي لا تُرى بالعين المجردة، {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} أيْ من الصُّلب وعظم الصدر من الرجل والمرأة، فاذا دخَل المنيُّ رحِمَ المرأة وكانت مهيَّأةً للحمل التقى بالبيضة التي في الرحم، وكوّنت معه جرثومة الجَنين.
وقد بينت الدراسات الحديثة ان نواةَ الجهاز التناسلي والجهاز البولي في الجَنين تظهر بين الخلايا الغضروفية المكوِّنةِ لعظام العَمودِ الفَقري وبين الخلايا المكونةِ لعظام الصدر.(3/425)
وتبقَى الكُلى في مكانها وتنزل الخَصيةُ إلى مكانها الطبيعي في الصَفَنِ عند الولادة. كما ان العصب الذي ينقل الإحساسَ اليها ويساعدها على إنتاج الحيوانات المنوية وما يصاحب ذلك من سوائل - متفرعٌ من العصَب الصدريّ العاشر الذي يغادر النخاعَ الشوكيَّ بين الضِلعَين العاشر والحادي عشر.
وواضح من ذلك ان الاعضاءَ التناسلية وما يغذّيها من أعصابٍ وأوعية تنشأ من موضع في الجسم بين الصُّلب والترائب، «العمود الفقري والقفص الصدري» .
وهذه الأمور الدقيقة لم يكتشِفها العِلم الا حديثاً بعد هذه القرون الطويلة. ومن هذه يتبين بوضوحٍ أن الانسانَ يُخْلَق وينشأ من ماءِ الرجل الدافق، وأهمُّ ما فيه الحيوانُ المنوي؛ وماء المرأة وأهم ما فيه البُوَيضة. ونشوؤهما وغذاؤهما وأعصابُهما كلُّها من بين الصلب والترائب.
{إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}
ان الله تعالى الذي قَدَّر خَلْق الإنسان ابتداءً من هذه الموادّ التي لا تُرى بالعين المجردة، بتلك العملية الدقيقة - قادرٌ بكل سهولة على إعادة حياته مرةً أخرى بعدَ أن يموت. {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
ثم بيَّن وقتَ الرجع، ذلك اليوم العظيم فقال:
{يَوْمَ تبلى السرآئر}
إنه يوم القيامة، يوم يعيدُ الله الخَلْقَ فتنكشف السرائر، وتتّضح الضمائر، وتُمتحَن القلوبُ وتختبر.
{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}
فليس للإنسانِ في ذلك اليوم قُوّةٌ تدفع عنه العذابَ ولا ناصرٌ ينصره ويجيرُه، فلا قوةَ له في نفسه، ولا أحدَ ينصره، الا ما قدّمه أمامه من عمل صالح.
وبعد أن بين الله تعالى امر المبدأ والمعاد، وانه قادر على اعادة الحياة، ووجّه الانظار الى التدبر في برهان هذه القدرة - شرع يثبت صحةَ رسالة النبي الكريم الى الناس كافّة، وصحةَ ما يأتيهم به من عند الله، وهو القرآن الكريم، ذلك الكتابُ الذي لا ريبَ فيه، فأَقسم على صدق هذا الكتاب فقال:
{والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع}
أُقسِم بالسماء ذاتِ المطر (وهو أنفعُ شيء ينتظره الخلْق، الذي يرجع حينا بعد حين، ولولاه لهلَك الناسُ، وهلَك الخلق، هذا الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي. .) كما أُقْسِم بالأرض التي تتصدّع وتنشق، فيخرج منها النباتُ والأشجار والزهر وكل ما يفيد الناس ويقيتهم - إن ما جاء به محمد {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل} أيْ إن هذا القرآن لهو قولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغايةَ في بيانه وتشريعِه وإعجازه، وهو جِدٌّ ليس فيه شيء من الهزل والعبث، لأنه كلامُ أحكَمِ الحاكمين.
ثم بين ما يدبره الكافرون للمؤمنين، وما تحويه صدورهُم من غلٍّ ومكرٍ فقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} ويمكرون بالمؤمنين، ويحاولون صَرْفَ الناس عن الدِّين القويم، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] .
ثم ذَكَرَ ما قابلَهم ربُّهم به، وما جازاهم عليه، وطلبَ من رسوله الكريم ان يتأنّى عليهم ليرى أخْذَه لهم فقال: {وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .
ان هؤلاء المشركين يعملون المكايد لإطفاء نور الله، وصدِّ الناس عن شريعته، وأنا أُجازيهم على كيدهم بالإمهال ثم النَّكال، حيث آخذُهم أخذَ عزيزٍ مقتدر. . لكن بعد أن أمهلهم قليلاً. وقد صدق وعده، ووعدُه الحق.
قراءات
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر: ان كل نفسٍ لمّا عليها حافظ، بتشديد لمّا، وهي بمعنى إلاّ. وقرأ الباقون: لما بغير تشديد وهي بمعنى اللام: لَعليها حافظ.(3/426)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
التسبيح: التنزيه. فسوّى: فعدل هذا الكون وقومه. وقدّر فهدى: قدّر لكل كائن ما يصلحه فهداه اليه. المرعى: كل ما تنبته الارض لصالح الحيوان. غُثاء: يابسا مسودّا. والغثاء: ما يحمله السيل من الحشائش والاوراق التي لا قيمة لها. يقال غثا الوادي يغثو غثُوّاً كثُرَ فيه الغثاء. أحوى: ما يُحيل لونَه الى السواد.
نيسّرك لليسرى: نوفقك الى طريق الخير. الذِكرى: الموعظة. الأشقى: المصرّ على العناد. يصلَى النار: يدخلها. قد أفلح: قد فاز. من تزكّى: من طهر نفسه بالايمان. تؤثرون: تفضّلون. وأبقى: أدوم.
نزّه يا محمد ربّك الأعظم عن كل ما لا يليق بجلاله. وقد وجّه الله الأمر بتسبيحِ اسمه الأعلى دون تسبيح ذاته ليرشدَنا الى أن مبلغ جهدنا هو معرفةُ صفاته. اما ذاتُه العليّة فهي أعلى وابعد من أن ندركها في هذه الحياة الدنيا. ثم ذَكَر أوصافَه الجليلة ومظاهر قدرته البالغة وكمالَه فقالك
{الذي خَلَقَ فسوى}
هذا الكونَ العجيب وأتقنَ خلقه، وأبدع صنعه.
{والذي قَدَّرَ فهدى}
قدّر لكل مخلوق ما يصلحه فهداه اليه، وعرّفه وجه الانتفاع به.
{والذي أَخْرَجَ المرعى}
وأنبتَ النبات مختلف الأشكال لترعاه الدواب.
{فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى}
أي صيَّره يابسا جافا بعد الخضرة والنضارة. وفي هذا عبرة لذوي العقول، فكما ان النبات يبدأ أخضر زاهيا ثم يَميل الى الجفاف والسواد - فكذلك الحياةُ الدنيا زائلة فانية، والآخرة هي الباقية.
وبعد ان ذكر الله دلائلَ قدرته، ذكر فضلَه على رسوله الكريم مع البشرى العظيمة له ولأمته بقوله:
{سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى}
بشرى عظيمة من الله تعالى لك يا محمد أنه سيشرح صدرَك، ويقوّي ذاكرتَك فتتلقى القرآنَ وتحفظه فلا تنساه. {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أن تنساه. فانه تعالى يعلم ما يجهر به عباده وما يخفونه.
ثم يزيد البشارة فيقول: {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} ونوفّقك للطريقة السهلة. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اليُسر في كل الأمور.
روت عائشة رضي الله عنها أنه ما خُير بين أمرين الا اختار أيسرهما. رواه البخاري ومسلم. وكلُّ سيرته مبنيّة على اليسر، وأحاديثه تحضُّ على اليسر والسماحة والرِفق في تناول الأمور.
لقد منّ الله عليه بهذه البشرى: أَقرأه فلا ينسى الا ما شاءَ الله، ويسّره لليسرى حتى ينهضَ بالأمانة الكبرى. فلهذا أُعِد ولهذا يُسّر.
{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى}
ذكِّر الناسَ بما أوحيناه اليك، لعلّهم يرجعون الى الله، وينتفع بتذكيرك من يخاف الله. اما المعاندون الجاحدون فلا تنفع معهم الذكرى ولا تجدي.
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذى يَصْلَى النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} .
فالأشقى المصرّ على العناد لا يسمع لها ولا يستفيد منها.(3/427)
ومصيره الى النار الكبرى لا يموتُ فيها فيستريح بالموت، ولا يحيا حياةً يهنَأُ بها. . بل يبقى في العذاب خالدا.
اما الذي ينتفع بالذِكرى فإنه من أهل الفوز والفلاح.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى}
لقد فاز من تطهر من الشرك والآثام، وذكر اسم خالقه بقلبه ولسانه فصلّى خاشعا يرجو رحمة ربه.
ثم ردّ سبحانه على من قست قلوبهم، وتعلقوا بهذه الحياة الفانية ونسوا الآخرة فقال:
{إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} .
ان جميع ما أُوحي به الى النبي الكريم هو بعينه ما جاء في صحف ابراهيم وموسى، فدينُ الله واحد، وانما تختلف صورهُ وتتعدّد مظاهره. .
قراءات:
قرأ الكسائي: قدر بالتخفيف. والباقون: قدّر بالتشديد. وقرأ ابو عمرو وروح: يؤثرون بالياء. والباقون تؤثرون بالتاء.(3/428)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
الغاشية: القيامة. خاضعة: ذليلة. عاملة، تعمل في الدنيا لنفسها واولادها واطماعها. ناصبة: تعبة. والفعل نصِب ينصَب نصبا: تعب. من عينِ آنية: من نبع ماؤه شديد الحرارة. أنى يأنى سخن وبلغ الشِّدةَ في الحرارة. الضريع: نوع من النبات له شوك تأكله الإبل عندما يكون رطبا، فاذا يبس لا يستساغ. ناعمة: مرفهة نضرة. لسعيها راضية: جزاءً لعملها الذي عملته في الدنيا راضية مطمئنة. عالية: مرتفعة مكاناً وقدرا. لا تسمع فيها لاغية: لا تسمع فيها كلاما فاحشا يؤذي السامع. فيها عين جارية: ماء متدفق يسر الناظرين. سرر مرفوعة: جمع سرير واذا كان مرفوعا فانه يكون نظيفا مريحا. واكواب موضوعة: معدَّة ومهيأة للشراب. ونمارق مصفوفة: وسائد صُف بعضها الى جانب بعض، المفرد نمرقة. وزرابي مبثوثة: وبسُط وفرش مفروشة هنا وهناك للزينة والراحة. الإبل: جمع لا واحد له من لفظه مفردها: بعير. سُطحت: مدت ومهدت للحياة والسير والعمل للناس. لستَ عليهم بمسيطر: انما انت واعظٌ ومنذر لا متسلط تجبرهم على ما تريد. إيابهم: رجوعهم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية}
هل جاءكَ يا محمد خبر نبأ يوم القيامة التي تغشى الناسَ وتغمرهم بأهوالها؟ والخطابُ وان كان لرسول الله فهو عام لكل من يسمع. . . .
بعد هذا الاستفهام فصَّلَ شأنَ اهل الموقف في ذلك اليوم. وبيَّن أنهم فريقان: فريق الكفرة الفجرة، وفريق المؤمنين البررة فقال:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ}
في ذلك اليوم تظهر وجوه ذليلة خاضعة مهينة، عملَ أصحابها في الدنيا كثيرا وتعبوا كثيرا، ولكنْ لغير الله، فما نفعتهم اعمالهم ولا أموالهم.
{تصلى نَاراً حَامِيَةً تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ}
مع هذا الذل والهوان يدخلُ أصحابُ هذه الوجوه النارَ الحامية في جهنم. واذا عطِشوا يَسقونهم ماءً حارا من عين حرارتُها بالغة الشدّة، واذا طلبوا الطعامَ يقدَّم لهم طعام خبيث رديء، اسمه الضَريع، ليس فيه فائدةُ الطعام المعروف، لأنه {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} .
فهذه الصورةُ البشعة من العذاب تصوّر في اذهاننا هولَ ذلك اليوم حتى نرعويَ ونبتعدَ عن كل ما يُغضب الله من أعمال واقوال، ونسلكَ الطريق المستقيم.
وبعد ان بين حالَ المجرمين وما يلاقون من ذلّ وهَوان وعذاب، وصف المؤمنين الصادقين بأحسن الأوصاف فقال:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. . . .}
أما وجوه المؤمنين الصادقين يومئذ فتكون نضرة مبتهجة كما جاء في قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطففين: 24] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} [القيامة: 22] .
وقد فرحتْ هذه الوجوه بما لاقت من جزاء عملها في الدنيا، فهي لسعْيِها راضية، في جنةٍ مرتفعة مكاناً وقدرا. وهي بعيدة عن اللغو، فهي في منازِل أهل الشرف في سعادة وكرامة في ضيافة رب العالمين.(3/429)
في هذه الجنة ماء جارٍ من نبع صافٍ يسر الناظرين، وفيها السرر المهيّأة لهم مرفوعة نظيفة، واكوابٌ مجهزة مهيّأة لهم كلما أرادوا الشربَ وجدوها في متناول ايديهم.
{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}
وأنواعُ البسُط والطنافس والسجاجيد مبسوطة في كل مكان. كل هذا النعيم أُعدّ لمن عمل صالحاً من المؤمنين، فاعتبِروا يا أولي الألباب.
فهل آن لهؤلاء الذين يزعمون انهم يؤمنون بالله أن يعتبروا بهذا الترتيب الإلهي، وان يقدّموا الاحسان في العمل حتى يبلغوا فيه غايةً مرضيّة، وان يبتعدوا عن اللهو والترف ويتحلّوا بالفضائل، ويتدبروا كتابَهم ويرجعوا الى سيرة الرسول الكريم وصحبه الطاهرين فينهضوا الى طلبِ ما أَعدّ الله لهم، ويشاركوا في بناء هذا المجتمع ويستردّوا ما اغتُصِب من أراضيهم!!
وبعد أن بين الله تعالى احوال الآخرة وما فيها من نعيمٍ للمؤمنين وشقاءٍ للجاحدين يذكّر الناسَ هنا لينظروا في هذا الوجود الظاهر، ويعتبروا بقدرة القادر وتدبير المدبّر فقال:
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} .
ان هذه المشاهد معروفة لنظر الانسان حيثما كان: الحيوان والسماء والأرض والجبال. وأيّاً ما كان حظ الانسان من العلم والحضارة فهذه مشاهد داخلة في عالَمه وإدراكه. ويذكّرنا الله تعالى بأن ننظر ونعتبرَ بهذه القدرة الخارقة والتدبير المحكَم.
فالجمل حيوانٌ عجيب ونفعه كبير جدا، عليه يسافر الانسان ويحمل أثقاله. ومن لبنِ الناقة يشرب، ويأكل من لحومها، ومن أوبار الإبل وجلودها يلبس ويتّخذ المأوى. فقد كانت الجِمالُ ولا تزال في كثيرٍ من بقاع الأرض موردَ الحياة الأول للانسان ومن احسن المواصلات، حتى سُميت سفنَ الصحراء. وهي قليلة التكاليف وعلى قوّتها وضخامتها يقودُها الصغير فتنقاد. ولهيئتها مزية وفي تكوينها عَجَب. فعينا الجمل ترتفعان فوق رأسه، وترتدّان الى الخلف. ولهما طبقتان من الأهداب تقيانهما الرمالَ والقذَى. وكذلك المِنخَران والأُذنان يكتنفها الشعر للغرضِ نفسِه. فاذا ما هبّت العواصف الرملية، انقفل المِنخران وانثنت الأُذنان نحو الجسم. والإِبلُ أصبرُ الحيوان على الجوع والعطش والكدح، ومزاياها كثيرة لا يتسع المقام لبسْطِها. وما زال العلماء يجدون في الجمل كلّما بحثوا مصداقاً لِحَضِّ الله تعالى لهم على النظر في خَلْقه المعجز.
{وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ}
وتوجيه القلب الى السماء يتكرر في القرآن لما فيها من بهجةٍ وجَمال بهذه الملايين من النجوم المنثورة فيها، وما في خَلْقها من عظمة تدل على عظمة الخالق وجلاله.
{وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ}
ألا يشاهدون هذه الجبال الشامخة كيف نُصبت على الأرض لحفظِ توازنها فلا تميلُ ولا تميدُ، فهي عَلَمٌ للسائر، وملجأ من الجائر، ونزهة للناظر.
{وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ}
ألا ينظرون الى الأرض التي يتقلبون عليها كيف مهّدها الله لهم، فأينَ ما سافر الانسانُ يجدها مبسوطة سهلة مع أنها كروية الشكل.(3/430)