خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
العفو: الذي يأتي من غيرِ كُلفة. ينزغ: يوسوس بالشر. والنزغ: وساوس الشيطان وما يحمل به الإنسانَ على المعاصي. طائفٌ من الشيطان: ما يدور في خيال المرء من وساوس. اجتبيتها: افتعلتها.
جاءت هذه التوجيهات الربانية الى الرسول الكريم وأصحابه، وهم لا يزالون في مكّة المكرمة، وفي مواجهة المشركين فيها ومواجهة الأعراب من حولهم في الجزيرة وأهل الأرض كافة.
يا محمد، خذ العفو الميسَّر الممكِنَ من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب منهم ما يشقّ عليهم، واعفُ عن أخطائم وضعفهم. ذلك ان التعامل مع النفوس البشرية بغية هدايتها يقتضي سعةَ صدرٍ، وسماحة طبعٍ، ويسراً في غير إفراطٍ ولا تفريط في دين الله، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال الكمال والخلق العظيم.
وامرْ يا محمد بالعُرف، وهو الخير المعروف، والعُرف اسمٌ جامعٌ لك ما عرف من طاعة الله والتقرب اليه والإحسان الى الناس.
وأعرض أيها الرسول الهادي عن الجاهلين، وهم الذين لا تُرجى هدايتهم، إذ قد يكون إهمالهم والإعراض عنهم أجدي في هدايتهم.
روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنهـ انه قال: «ليس في القرآن آيةٌ أجمعَ لمكارم الأخلاق من هذه» وقال بعض العلماء: تضمنت هذه الآية قواعد الشريعة، فلم يبق حسنة الا وعتْها، ولا فضيلة الا شَرَحتها.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ان عُيَبْنَةَ بن حِصْن، وكان فيه غلظة وجفاء، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: هِيْ يا ابن الخطاب، أفو اللهِ ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر، حتى همّ ان يوقع به. فقال له الحُرّ بن قيس: يا امر المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: «خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرف وأعرِض عن الجاهلين» وهذا من الجاهلين.
قال ابن عباس: والله ما جوزَها عمرُ حين تلاها عليه، كان وقّافاً عند كتاب الله.
وان تعرَّض لك يا محمد من الشيطان وسوسةٌ لصرفِك عما أُمرت، كأن تغضب من لجاجتهم بالشر فاستجرْ بالله يصرفه عنك، إنه سميع لكل ما يقال عليم به.
ثم بيّن الله طريق سلامةِ مَن يستعيذ من الشيطان من الوقوع في المعصيةِ فققال:
{إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} .
ان اخبار المؤمنين المتقين، إذا ألمَّ بهم من الشيطان وسوسةٌ تذكّروا أن ذاك من إغواء الشيطان عدوِّهم، وعند ذاك يبصرون لاحق فيرجعون عن الأخذ بتلك الوسوسة.
هذا حال المتقين أما اخوان الشياطين من الكفار، فان الشياطين تزيدهم ضلالا بالوسوسة، بذلك فهي تمدهم في غيّهم وافسادهم. ومن ثم تراهم يستمرون في شرورهم وآثامِهم.
واذا لم تأت يا محمد الكفار الذين يعاندونك بآية مما يطلبون، قالوا هلا اختلقتها؟ قل لهم: إنني لا أتّبع الا القرآن الذي يوحي اليّ من ربي، وفيه بصائر وحجج تهديكم الى وجوه الحق والخير، فهو نبع هدى يرشد، ورحمةٍ تغمر المؤمنين وتفيض عليهم البركات.(2/95)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
استمعوا له: اصغوا. انصتوا: اسكتوا. خيفة: حالة الخوف والخشية في الغدو والآصال: اوقات الصباح والمساء. يسبّحونه: ينزهونه عما لا يليق به.
لما ذكّر اللهُ مزايا القرآن الكريم، وانه بصائر تكشف وتنير وهدى يرشد ويهدي، ورحمة تغمر وتفيض- امر في هذه الآية بالاستماع والانصات له، لتدبُّرِ ما فيه من ذلك. فنذوه إلى أنه:
اذا تُلي القرآن عليكم ايها المؤمنون فأصغوا اليه بأسماعكم، واستجمِعوا حواسكم لتتدبروا مواعظه، وتفوزوا برحمة ربكم.
وبعد أن جاء الأمر بهذا العلاج فيه يختص بالمعاملة، وفيما يختص بقراءة القرآن، يأتي الأمر والتوجيه الى مَلاك الأمر كله وهو ذِكر الله في القلب بعظَمته وجلاله رجاءَ الثواب، على ان يكون ذلك بهدوء واطمئنان لا ازعاج فيه، كيما تهدأ الاعصاب ويسبح الفكر في معاني الجلال والجمال، كما يرشد الى ان يكون ذلك شأن المؤمن في كل وقت.
{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} .
استحضِرْ عظَمة ربك من مشاهداتك في كونه الذي خلق، وفي آثاره العظيمة فيه، وانعاماته المادية والروحية عليك، فتعرَّف من كل هذا على ربوبيته بالتقرب اليه والخضوع له والخوف منه. واذكر ربّك هادئ النفس مطمئن البال في لاصباح وفي المساء تَنغمر نفسك بقيض من الرضا الرّباني، يبعث منك واليك الخير كله، وتكون في مراقبة دائمة وشهود مستمر، بذلك لا تكون في عامة اوقاتك من الغافلين عن ذكر الله.
ثم تختم السورة بالارشاد الى ان الملائكة مع عظيم شرفهم وسمو مرتبتهم معترفون بعوديتهم، خاضعون عزّ الربوبية، لا يخالجهم في عبادتهم كِبر، وهم دائما يسبّحون الله وله يسجدون. فما احوج الانسان وقد ركّبت فيه مبادئ الشهوة والغضب ان يتخذ الى ربه سبيلا، فيعبد بحق.
وهذه الآية إحدلا الآيات التي طُلب الى المؤمنين ان يسجُدوا عند تلاوتها او سماعها، وهي اربع عشرة آية في القرآن الكريم.
وهذه هي السجدة المعرفوة بسجدة التلاوة: وهي سجدة بين تكبيرتين: تكبيرة لوضع الجبهة على الأرض، وأخرى للرفع من السجود، دون تشهد ولا تسليم. ويشترط لها ما يشترط لصلاة م الطهارة والنية واستقبال القبلة.
والحكمة في هذه السجدة انها نوع من التربية العملية الروحية في اعلان التمسك بالحق والاعراض عن الباطل، ومراغمة المبطلين، والسير في طريق المثل العليا للذين حمَّلهم الله امانة الحق والدعوة اليه. وبذلك كانت سجدة الثلاوةو شعارا عاما للمؤمنين في اعلان تقديسهم عبادتهم، وشدتهم في مخلافة البالطل كلَّما قرأوا القرآن أو سموه جعلّنا الله من المسبحين بحمده، الساجدين له، المقتدين بانبيائه، المتشبيهن بالملأ الأعلى، انه سميع مجيب.(2/96)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
الانفال: جمع نَفَل بالتحريك وهي الغنيمة. ذات بينكم: فيما بينكم. وجلت قلوبم: فزت وخافت.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً الى المدينة بسبب مكر المشركين وتدبيرِهم أمر قتله، وليكون للمسلمين دولة. وقد استقر بالمدينة ومن حوله المؤمنون من المهاجرين والانصار، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء، ليكلا يُفتَن أهلُ الايمان. فكانت غزوة بدر، وكان فيها النصر المبين والغنائم. وكان وراء الغنائم فيها نفوس بعض المسلمين لتطهيرها من الاختلاف الذي نشأ عن حب المال والتطلع الى المادة، وهو من اكبر اسباب الفشل.
فكان من مقتضيات الحكمة الإلهية ان يتلقى المؤمنون في مبدأ حياتهم هذا الدرس القوي الذي يقتلع بذور الشح والطمع وحب المادة من قلوبهم.
يسألونك أيها الرسول عن الغنائم. لمن هي؟ وكيف تقسم، أللشُبّان أم للشيوخ؟ أو للمهاجرين هي، أم للانصار؟ ام لهم جميعا؟ .
قل لهم أيها الرسول:
إنها لله والرسول، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها، فاتركوا الاختلاف بشأنها، واتقوا الله واجعلوا خوف الله وطاعته شِعاركم، وأصلحوا ما بينكمن فاجعلواالصلاة بينكم محبة وعدلا. هذه صفةُ أهل الايمان.
ثم وصف الله تعالى المؤمنين المخلصين في ايمانهم بأنهم هم الذين اجتمعت فيهم خصالٌ خمس: (1) {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الذين اذا ذكَروا الله بقلوبهم فزِعوا لعظمته وسلطانه، وامتلأت قلوبهم هيبة.
(2) {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وكلّما تليت عليهم آيات من القرآن ازداد إيمانهم رسوخا، وازداودا إعاناً وعلما.
(3) {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ولا يعتمدون الا على الله الذي خلَقَهم، ولا يفوّضون أمرهم الى سواه. ومعنى التوكل: ان نسعى للعمل كما أمرنا الله راجين منه التوفيق في سعينا مؤمنين بان العمل شرط أساسيُّ للتوكل.
(4) {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} واولئك المؤمنون الصادقون في ايمانهم، يؤدون الصلاة مستوفية الاركان، كاملة الخشوع والخضوع، وبهذا تحصل ثمرة الصلاةالتي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
(5) {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وينفقون بعض ما رزقناهم من المال في الجهاد والبِرِّ ومعاونة الضعفاء، وفي مصالح الأمة ومرافعها العامة.
{أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً. . .} هؤلاء، هم الذين يوصفون بالامان حقا وصدقا. ولهم جزاؤهم درجات عالية عند الله، وهو الذي يمنحهم رضاه، ويغفر لهم سيئاتِهم، ويرزقهم رزقاً طيباً كريما في الحياة الدنيا، ونعيماً دائماً في الآخرة.(2/97)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
الشوكة: القوة والبأس، والسلاح، ومعنى ذات الشوكة: الطائفة المسلّحة القوية. احدى الطائفتين: الأولى هي الطائفة التي جاءت من الشام بقيادة أبي سفيان ومعها العِير وفيها اموال قريش. والثانية: قريش وقد خرجت بصناديِدها ورجالها المسلّحين ليحموا العير. دابر الكافرين: آخرهم ليحق الحق: ليعزّ الإسلام ويبطل الباطل: يزيل الشرك والكفر.
الكلام هنا عن غزوة بدر التي كانت أول فوزٍ للمؤمنين وخذلانٍ للمشركين. وملخص القصة: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيانَ رجع من الشام يقود قافلةً ضخمة فيها معظم اموال قريش وتجارتها. فأخبر أصحابه ونَدَبَهم الى الخروج ليصادروا هذه القافلة لكن البعض تثاقل وكره الخروج وخرج الرسول في ثلاثمائة رجل ونيف، ولم يعلموا انهم مقبلون على واحدة من أعظم المعارك الفاصلة في التاريخ.
وعِلم أبو سفيان بخروج الرسول وأصحابه فبعث الى قريش يطلب النجدة. ولم يبق أحد قادر على حمل السلاح في مكة إلا خرج. اما ابو سفيان فحوّل طريقه الى ساحل البحر ونجا، وبعث الى قريش يخبرهم بذلك ليرجعوا. فأبى أبو جهل وسار بالقوم الى بدر. فشاور النبي صلى الله عليه وسلم اصحابه وقال لهم: ان الله وعَدَني إحدى الطائفتين، فوافقوه على القتال، وكره ذلك بعضهم وقالوا: لم نستعدَّ له، لكنهم ساروا وأجمعوا على لقاء قريش وكانت المعركة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة وقد انتصر المسلمون انتصراً عظيما، فقتلوا من قريش سبعين رجلا، وأسروا سبعين، وفر الباقون، واستُشهد من المسلمين اربعة عشر رجلا فقط. وكانت هذه المعركة أول نصر للمسلمين، فبدأ ينحاز كثير من العرب الى جانبهم بعد ذلك.
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} .
إن حال المؤمنين في خلافهم حول الغنائم مثل حالهم عند ما أمرك اللهُ بالخروج من المدنية لقتال المشركين ببَدْر.
يومئذٍ كانوا يجادلونك ايها لارسلو في لقاء قريش وقتالهم مع ان هذا اللقاء والقتال مع ان هذا اللقاء والقتال حق وخير. ولقد آثروا لقاء العِير لأن فيها الأموال، ولأن حراسها قليلون. لكن الحق تبيَّنَ بحيث لم يبقَ للجدل فيه وجه كما يقول تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} وكانوا في ذهابهم الى القتال كالذي يُساق الى الموت وهو ينظر أسبابه ويعاينُها. وهذه صورة يرسمها القرآن لشدَّة خوفهم من قريش، لأنها أكثرُ عددا، وأقوى عدة.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين. . . الآية} اذكروا أيها المؤمنون اذ يَعِدكم الله ان ينصركم على احدى الطائفتين، قريش وفرسانها، أو العِير وما فيها من أموال. انتم تودّون أن تَلقوا الطائفة التي فيها المال، لكنّ الله تعالى يريدكم ان تلقوا قريشاً وينصركم عليهم، ليثبت الحقُّ بإرادته ويُعز الإسلام ويُظهره على الدِّين كلّه، وليقطع دابر الكافرين بعد ان يزيل الباطل، وهو الشِرك، لقد أردتم أنتم حطام الدنيا الزائل، واراد الله لكم النصر على قريش أعداءِ الله واعدائكم، كيما يحقِّق لكم وعدَه بالنصر. هذا أفضلُ لكن وللاسلامن وفيه العزة والكرامة، وهو خير من المال وكل ما في الدنيا من حطام الدنيا الزائل، واراد الله لكم النصر على قريش أعداءِ الله واعدائكم، كيما يحقِّق لكم وعدّه بالنصر هذا أفضلُ لكم وللاسلام، وفيه العزة والكرامة، وهو خير من المال وكل ما في الدنيا من حطام.(2/98)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
مردفين: متتابعين، وأردفه اركبه خلفه. وأردف: تتابع يغشيكم النعاس: يغلبكم رجز الشيطان: وسوسته، وله معان اخرى كالذنب، وعبادة الاوثان. ليربط على قلوبكم: ليثبتها ويصبرها. فوق الاعناق: الرؤوس، والبنان: اطراف الاصابع. مفرده: بنانة. شاقّوا الله: عادوه.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. . . .} روى ابن جرير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهـ قال: حدثني عمر بن الخطّاب رضي اله عنه قال: لما كان يومُ بدرٍ نظر النبي صلى الله عليه وسلم الى اصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر الى المشركين فإذا هم ألفٌ او يزيدون، فاستقلَ القبلة ثم مدّ يديه وجعل يهتف بربه: اللهمّ أنجِزْ لي ما وعدتني، اللهم إن تهلَك هذه العصابةُ لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط راداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه لعى منكبيه ثم التزمخ من وارئه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربَّك فإن سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. . . الآية} .
اذكروا وقتَ استغاثتكمن ربَّكم، فأجاب الله دعاءكم، وأمدكم بألف من الملائكة متتابعين. وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد بالملائكة إلا بِشارةً لكم بالنصر، لتطمئنّوا وتُقْدِموا، وما النصر الا من عند الله دون غيره من الملائكة او سواهم، وقد تقدمت هذه الآية في سورة آل عمران 126.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «فاستجبا لكم إنّي ممدكم» بكسر همزة إنَّ والباقون «أَنّي» بفتح الهمزة وقرأ نافع ويعقوب: «مُرْدَفين» بفتح الدال. والباقون «مردفين» «بكسر الدال» .
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً. . . .} اذكروا ايها المؤمنون، وقتَ أن خفتم من قلة الماء، ومن الأعداء، فوهبكم الله الأمن وداهمكم النعاسُ فنمتم آمنين. وعند ذاك انزل الماءَ من السماء لتطَّهَّروا به ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم، وتثبت قلبوكم واثقة بعون اللهن ولتتماسك به الأرض فتثُبت منكم الاقدام.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: «يغاشكم النعاسُ» بضم السين.
فقد أنزل الله في تلك الليلة مطرا طهَّركم به وأذهب عنكم رجس الشيطان، ووطَّأ به الارضَ وصلُب الرمل، وثبتت الأقدام. وقد سبق رسول الله واصحابه الى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحِياض ثم عوَّروا ما عداها، وبذلك تمكّنوا من الشرب والأعاداء عِكاش. وتفصل ذلك في كمتب السيرة والحديث.
كذلك اذكروا أيها المؤمنون أن الله أوصى الملائكة أن تودِع في نفوسكم أن الله معكم بالتأييد والنصر، قائلا لهم: ثبِّتوا الذين آموا، قوُّوا قلوبهم. . وسأجعل الرعب يستولي على قلوب المشركين، فاضربوا رؤوسهم التي فوق اعناقهم، وقطِّعوا ايديهم التي يحملون بها السيوف.
{ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} ان هذا هو العقاب الذي عجَّلتُ لكم به ايها الكافرون من هزيمة وخِزي وذلّ امام فئة قليلة العَدد والعُدد من المسلمين، فذوقوه في الدنيا عاجلا، واعلموا ان لكم في الآخرة عذاب النار.(2/99)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
زحفا: مشياً بثقل في الحركة. زحف الجيش الى العدو مشى اليهم في نقل كأنه جسم واحد الأدبار: واحدها دُبر مؤخرة الانسان، يراد بها الهزيمة. متحرفا لقتال: منحرفا الى جانب آخر. متحيزا الى فئة: منضمّا اليهم. مأواه جهنم: مصيره اليها. موهن كيد الكافرين: مضعف كيدهم وتدبيرهم.
يا ايها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا في الميدان وهم زاحفون عليكم بكثرتهم فلا تقرّوا منهم، إلا أن يكون ذلك مكيدَة حرب، وحيث تختارون موقعاً أحسن، او تدبّرون خطة، او يكون ذلك التحيز انضماماً إلى فئمة أخرى من المسلمين، لتعاودوا القتال. ان من تولّي منكم وانهزم من وجه العدو يغضب الله عليه، ومصيره الى النار.
والتولِّي يوم الزحف كبيرةٌ من السبع الموبقات، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنِبوا السبعَ الموبقات، قيل يا رسول الله وما هنّ؟ قالك الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرّم الله الا بالحق، وأكلُ الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يومَ الزحف، وقذف المحصنَات الغافلات المؤمنات» .
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} . إذا كنتم ايها المؤمنون قد انتصرتم عليهم وقتلتموهم، فانكم لم تفعلوا ذلك بقوتكم، بل إن الله هو الذي نصركم عليهم بتأييده لكم والقاء الرعب في قلوبهم، وما رميتَ أيها الرسول اذ كمت ترمي التراب والحصا في وجوههم، ولكن الله تعالى هو الذي رمى فافزعهم.
{وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلااء حَسَناً} والله قد فعل ما ذكر ليبلي المؤمنين بالشدة، ليظهر اخلاصهم، ويُنعم عليهم بالنصر والغنيمة، وليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم.
{ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} ذلك هو النصر العظيم، وان الله مضعف بأسَ الكفارين وتدبيرهم بنصركم وخذلانهم. وهذه بشارة أخرى مع ما حل من النصر، فانه أعلمَهم بانه مضعفٌ كيدَ الكافرين فيما يُستَقْبل من الأيام.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر «مُوهِنٌ كيدَ الكافرين» بالتنوين ونصب كيد، وقرأ ابو عمرو وابن كثير ونافع: «مُوَهّنٌ كيد» بتشديد الهاء. وقرأ حفص: «مُوهِن كيد» بالاضافة وهي قراءة المصحف. وقرأ نافع وابن عامر وحفص «وأنَّ» بفتح الهمزة والباقون بكسرها.
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} يتجه الخطاب هنا الى الكافرين فقد قال أبو جهل: «اللهُمَّ أيُّنا كانَ اقطع للرحم، وآتى بما لا يعرف فأَحْنِهِ الغداة» ويعني بذلك الرسول الكريم، وقوله: «كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد» ومعنى أحْنِهِ أَمِتْهُ. يعني اجعله ينحني ويسقط على الأرض.
إن تستفتحوا فتطلبوا من الله ان يفتح بينكم، وبين المسلمين، وأن يُهلك أضلَّ الفريقين وأقطعَهُا للرحم فقد استجاب الله، فجعل النصر للمسلمين، والهزيمة عليكم.
{وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وعلى ضوء هذه الحقيقة، يرغِّبهم الله في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر ومحاربة الله ورسوله وان تعودوا للاعتداء نعدْ عليكم بالهزيمة.
{وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} لن تغنَي عنكم جماعتكم المجتمعة على الإثم شيئا، ولو كان عددها كثيرا، وماذا تفعل الكثرة اذا كان الله في جانب المؤمنين!
{أَنَّ الله مَعَ المؤمنين} اذا صدقوا وأخلصوا لله وللرسول، وقاموا بواجبهم، ونصروا الله ورسوله.(2/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
تقدم أن سورة الانفال نزلت تحلّ مشكلات المؤمنين في غزوة بدر من العنائم والاسرى وغير ذلك، وتذكرهم بنعم الله عليهم، وتعرِض لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من شجاعة وثبات حتى يظفروا بالنصر والفلاح، ويحصلوا على العزة التي جعلها الله لعباده المؤمنين.
في سبيل هذا ناداهم الله ست مرات بوصف الايمان {ياأيها الذين آمَنُواْ} وقد تقدم النداء الاول في الآية من 15-19 حذرهم فيه من الفرار امام الاعداء.
والنداء الثاني في هذه الآية: {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ. . .} اطيعوا الله ورسوله في الاجابة الى الجهاد، وقد علمتم ان النصر كان بتأييد الله وطاعة رسوله، فاستمروا على طاعتكم لله وللرسول، ولا تعرضوا عن دعوة الرسول الى الحق وانتم تسمعون كملامه الداعي الى وجوب طاعته وموالاته ونصره.
ولا تكونوا كالمنافقين الذين قالوا: سمعنا الحق ووعيناه، لكنهم لا يذعنون له.
ان اولئك المشركين ومعهم المنافقون، هم كشرّ الدواب التي أصيبت بالصَّمم فلا تسمع، وبالبُكم ف تتكلم، فقد صمّوا عن الحق فلميسمعوه، ولم ينطقوا به ولم يفعلوه. ولو علم الله بعلمه الأزَلي أن فيهم خيراً لأنفُسهم وللناس وللحق، لأسمعهم مسامع هداية يوصل الحق الى عقولهم.
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} ولو سمعوه وفهموه لانصرفوا عن الهداية، وهم منصرفون عن تدبير ما سمعوا والانتفاع به، فقدوا نوره الفطرة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.(2/101)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
هذا هو النداء الثالث: بعد ان ركّز الأمر على أساس من الطاعة والتحذير من المخالفة، ناداهم بإنهاض الهمة وتقوية العزيمة، والمبادرة الى الطاعة والامتثال دون إبطاء وتسويف، وأرشدهم الى أن ما يدْعَون اليه فيه حياتُهم، بالعلم والمعرفة، بالشرف والهمزة بالسلطان وعلوا الكلمة، بالسعادة الحقة والنعيم المقيم.
يا أيها الذين آمنوا أجيبوا الله ولبّوه فيما يأمركم به، واجيبوا الرسول في تبليغه ما يأمره الله به، اذا دعاكم الرسول الى أوامر الله بالأحكام التي فيها حياة اجسامكم وارواحكم وعقولهكم وقلوبكم. فنحن مأمورون ان نطيع الله بالأحكام التي فيها حياة اجسامكم وارواحكم وعقولكم وقلوبكم. فنحن مأمورون ان نطيع الرسول الكريم ونتّبع ما يقول وما يفعل، وما يأمرنا به وما ينهانا عنه. ان سنّة الرسول الكريم أصل من أصول الاسلام، والعمل بها عملٌ على حقظ كيان الاسلام وتقدمه، وفي تركها انحلال الاسلام. كيف نفهم القرآن الكريم لولا سنّة رسوله؟ لقد وردت الصلاة والزكاة والحج وكثير من اركان الاسلام بألفاظ عامة في القرآن الكريم، والرسول هو الذي علّمنا إياها وشرحها لنا بأحاديثه وافعاله.
وهنالك في هذه الأيام فئات من الناس يدعون الى ترك الحديث وسنة الرسول وعدم الأخذ بها، وما هذه الدعوة الا لهدم الاسلام وتقويض اركانه. وهذا خروج عن الاسلام والحاد كبير نعوذ بالله منه.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} واعلموا علم اليقين ان الله قائم على قلوبكم، يوجّهها كما يشاء.
روى البخاري واصحاب السنن قال: كانت يمين النبي «لا ومقلّب القلوب» . وفي صحيح مسلم: «اللهم مصرّف القلوب، صرِّفْ قلوبنا الى طاعتك» .
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وانكم جمعا ستجعون يوم القيامة يوم البعث والجزاء.(2/102)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
هنا امرنا الله ان نتقي الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم الى غيرهم، وتصل الى الصالح، فقال: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} قال ابن عباس: امر الله المؤمنين ان لايُقرّوا المنكّر بين أظهُرهم فيعمّهم العذاب «وفي صحيح مسلم عن زينب بن جحش انا سألت رسول الله، فقالت له: يا رسول الله أنِلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، اذا كثر الخبث» .
فاتقوا ايها المؤمنون الفتن، واضربوا على أيدي المجرمين، فان الذنب العظيم مفسدٌ جماعتكم ولا يصيب الذين ظلموا وحدهم، بل يصيب الجميع. والأفرادُ في نظر القرآن مسئولين عن خاصة انفسهم، ومسئولون عن أمتهم ايضاً فإذا قصروا في أحد الجانبين او فيهما- عرّضوا انفسهم وأمتهم للدمار والهلاك.
{واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} للأمم والافراد اذا سكتوا عن الفحشاء والمكَر فيهم، ولم يتلافوا المفاسد التي تحصل بينهم.
ثم يشفع الله هذا التحذير بتذكيرهم بنعمة الله عليهم حينما استجابوا وتضامنوا في المسؤولية والحرص على اعلاء كلمته، وكيف نظر الله اليهم على قلتهم فكثّرهم، والى ضعفِهم فقوّاهم وخوفهم فآمنهم، فقال:
{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض. . .} تذكّروا أيها المؤمنون، وقت أن كنتم عدداً قليلا، وضعفاء يستغلّ أعداؤكم ضعفكم، وقد استولى عليكم الخوف من ان يتخطفكم اعداؤكم فيفتكوا بكم. يومئذٍ آواكم أيها المهاجرون إلى يثرب حيث تلقّاكم الأنصار، وأيدكم وإياهم بنصره في غزواتكم، ورزَقكُم الغنائم الطيبة رجاء ان تشكروا هذه النعم تفسيرا في طريق الجهاد لإعلاء كلمة الله.
ثم يأتي النداء الرابع، وفيه ينبّههم الى ان مخالفة الله في اوامره- ومن أشدِّها إفشاء سر الأمة للاعداء - خيانةٌ لله ولرسوله وخيانة للأمة، وحسب الخائنين سقوطا عند الله قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 59] .
يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول بموالاة الاعداء، ولا تخونوا الامانات التي تكون بينكم، فالخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين.
واكبر خيانة في الوقت الحاضر هي قعود المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، وتركُ المسجد الأقصى في يد أعداء اله اليهود. فالخيانة بكل معانيها صفة مذمومة. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: اذا حدّث كذب، واذا وعد أخلَف، واذا ائتُمِن خان، وان صام وصلى وزعم انه مسلم» {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وانتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
{واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يحذّر الله هنا من شهوة النفس في الحرص على المال والولد، ذلك ان فتنة الاموال والاولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الالباب، فلا تغلِّبوا ايها المؤمنون محبة المال والولد على محبة الله تعالى.(2/103)
إن ذلك يفسِد أموركم. فيجب على المؤمن الصادق الإيمان ان يتقي الفتنة في المال بأن يكسبه من الحلال وينفقه في سبيل البر والاحسان، ويتقي الفتنة في الأولاد بحسن تربيتهم وتعويدهم الفضائل وحسن الاخلاق.
{وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يجزيكم به عن المال والولد، فعليكم ان تؤثروا ما عند ربكم.
لمّا حذّر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد، قفّى على ذلك بطلب التقوى التي هي اساس الخير كله، وان التقوى شجرة مثمرة، اعظم ثمارها الفرقان والنور الذي يبصرّنا بالحق والعدل والصلاح، والذي به نهتدي ونسعد، كما تُمحة سيئاتنا، ويغفر الله لنا ذنوبنا، وبه تفتح لنا ابواب السماء.
وهذا هو النداء الخامس:
{يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} انت تخضعوا لاوامر الله في السر والعلن، يجعل الله تعالى في انفسكم قدرةً تفرّقون بها بين الحق والباطل، وينصركم على أعدائكم، ويغفر لكم جميع ذنوبكم، فهو ذو الفضل العظيم عليكم وعلى جميع خلقه.(2/104)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
ليُثْبتوك: ليمنعوك من الحركة بالحبس وشد الوثاق. يمكرون: يدبرون لك أخبث الحيل. ويمكر الله: يُبطل مكرهم الأساطير: واحدها أُسطورة، وهي الخرافات والاحاديث القديمة. مُكاءً: تصفيراً بالفم. وتصدية: تصفيقا باليد.
في هذه الآيات الكريمة تصوير لموفق المشركين وهم يبيتون لرسول الله قبل الهجرة ويتآمرون عليه.
اذكر أيها الرسول نعمة الله عليك إذ يمكر بك المشركون للإيقاع بك، إما بالحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم الى الإسلام، وإما بالقتل، وإما بأن يُخرجوك من مكة، يدبّرون لكم التدبير السيء، والله تعالى يُبطل مكرهم بأن يدبرّ لك الخروج من شرهم. وتدبيرُ الله هو الخير وهو الأقوى والغالب.
ولما قص الله علينا مكرهم في ذاتِ النبيّ عليه السلام قصّ علينا هنا مكرهم في دِين محمد فقال:
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا. . . .}
اذكر ايها النبي معاندة المشركين عندما كنتَ تقرأ عليهم آياتِ القرآن الكريم، وهي آياتنا، فيقولون جهلاً منهم وعناداً للحق: لو أردنا ان نقول مثل هذا القرآن لفعلْنا، ان هذا يشبه أساطير الأمم القديمة وخرافاتها.
وكان زعماء قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضْر بن الحارث وغيرهم يتواصَون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه. وكان النضر بن الحارث يحفظ كثيرا من أخبار الأمم القديمة كالفرس والهند واليهود، فكان يتتبع الرسول الكريم وكلّما سمعه يتلو القرآن، يجلس على إثره ويحدّث الناس بأخبار الملوك وقصص الفرس والهند ثم يقول: بالله أيّنا أحسن قصصنا؟ انا او محمد؟ .
ولقد أسره المقداد بن الأسودَ يوم بدر، وامر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بقتله.
{وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} اذكر أيّها النبيّ كيف ذهبوا في الكفر والعناد الى ان قالوا، موجِّهين النداء الى ربهم: اللهمّ إن كان هذا القرآن وما يدعو اليه محمد هو الحقّ فاجعلْ السماء تمطر علينا حجارة، او أنزلْ علينا عذاباً شديدا.
وما كان من حكمة الله ورحمته ان يعذّبهم في الدنيا بعذاب شديد وانت فيهم تدعو الى الحقّ راجياً اجابتهم له، وما كان من شأنه ان يعذّب العصاة وهم يتسغفرونه، وسلمون ويرجعون عما هم فيه.
{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} .
وما لهم لايعذّبهم الله وحالُهم القائمة الآن تسوّغ تعذيبَهم، لأنهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام، وما كانوا مستحقّين للولاية عليه لشرِكهم، وعملِ المفاسد فيه.
{إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون} أن أولياءه الحقيقيين هم المؤمنون الطائعون لله، ولكنّ أكثرَ المشرِكين لا يعلمون حقيقة الدين، ولا ماقم ذلك البيت الكريم.
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} وما كانت صلاة المشركين وطوافهم في البيت الحرام إلا من قبيل اللهو واللعب، فكانوا يطوفون رجالاً ونساءً عراةً يصفرون بأفواههم ويصفّقون.
{فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ذوقوا عذابَ القتلِ لبعض كُبرائكم والأسرِ للآخرين منهم، وانهزمَ الباقين مدحورين يوم بدرٍ بسببِ كفركم.
قال بعض العلماء ان الآيات من رقم 30 الى 36 مكيّة، وذلك لأنها تتحدث عن سورة الهجرة وما كان يجري بمكة من أفعالِ مشركي قريش، وهذا وهمٌ غير صحيح، اذ ان سورة الأنفال كلّها مدنية، اما ما جاء ي هذه الآيات فهو لتسلية الرسول الكريم، وللعِبرة والذكرى.(2/105)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يركمُه: يجعل بعضه فوق بضه.
لما اصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بقافلته- مشى رجال أصيب آباؤهم وأبناؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلَّموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك القافلة تجارة، قاولا: يا معشر قريش، إنَّ محمداً قد رزأكم، وقتل خِياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنّا ندرك منه ثأراً بمن أُصيب منا. ففعلوا، وجمعوا ما استطاعوا من المال، وموّلوا به غزوة أحد فنزلت فيهم.
إن هؤلاء الكفار الذي جحدوا آيات الله وأشركوا به، ينفقون أموالهم لمينعوا الناس عن الإيمان بالله واتّباع رسوله. . انهم سينفقون هذه الأموال لتكون حسرة عليهم، ولن تفيدهم شيئا، وسيُغلَبون في ساحة القتال في الدنيا ثم يساقون يوم القيامة الى جهنّم وستكون تلك هي الحسرة الكبرى لهم.
وليس ما حدَثَ قبل بدرٍ وبعدها إلا أنموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين وقد استمرَ العداء منذ فجر الدعوة ولا يزال، ومن الشرق والغرب، فلم يتركوا وسيلة الا تخذوها ليهاجموا الإسلام والمسلمين، واللهُ سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين، وسيُبقيهِ عاليا الى أن يرِث الأرضَ ومن عليها.
{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} لقد كتب تعالى النصر لعبادة المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم من الكفار، ليميز الكفرَ من الايمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وليجعل الخبيث بعضهَ فوق بعض، ثم يجعل اصحابه في جهنم، وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «لِيُمَيِّز» بالتشديد والباقون لِيَميزَ كما هو في المصحف.
{قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} ان باب الرجاء مفتوح في الاسم دائما، والفرصة أمامهم سانحة لينهوا عَمَّا هم فيه من الصدّ عن سبيل الله، وليتوبوا ويرجعوا الى الله، والله واسع المغفرة يغفر ما سبق من اعمالهم، والاسلام يجُبُّ ما قبله. أما اذا عادوا بد هذا البيان الى كفرهم، فإن سنّة الله في الأولين قد مضت، وهي ان يعذب المكذّبين، ويهب اولياءه النصر والعزّ التزموا بأوامر الشرع.
ويتجه الحديث الى المؤمنين:
{وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
استمِروا أيها المؤمنون في قتال المشركين حتى تزول الفتنةُ في الدين، ويمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى، فإن رجعوا عن الكفر وخلَصَ الدين لله، فإن الله تعالى عليمٌ بأعمالهم ومُجازيهم على ما فعلوا.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} .
وإن استمرّوا على إعراضهم وإيذائهم للمؤمنينَ بعدَ بيان الرسول فاثبتُوا لهم أيّها المسلمون، واعلموا أنكم في وَلاية الله، وهو ناصرُكم عليهم، وحافظُكم منهم، وهو خير الحافظين.
وما غُلب المسلمون في هذه الأيام وذهَبَت أرضُهم إلا لنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعدا المادّي والحربيّ الذي طلبه بقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وتفرَّقوا دولاً كثيرة فذهبتْ ريحُهم وقلّتْ هيبتُهم وغُلبوا على أمرهم.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعا الى ما يحبّه ويرضاه، ويجمع شتاتنا على الخير والهدى فنعود صفّاً واحدا، ونعيد مقدّساتنا إلى حظيرة الإسلام، إنه نعم المولى ونعم النصير.(2/106)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
الغُنم والمغنم والغنيمة: ما يناله الانسان في الحرب من أموال الأعداء. يوم الفرقان: يوم بدر.
اعملوا ايها المؤمنون ان حُكم كل ما غنمتموه من الاعداء المحاربين ان يُقسم خمسة اخماس: خمس منها لله وللرسول ولقرابته، واليتامى، وهم أطفال المسملين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين، وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل، وهم المنقطع في سفره ويُنفق من هذا المخصص لله وللرسول في المصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته، ويقرّرها الإمامُ بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين آنفا. واما الاخماس الاربعة الباقية من الغنيمة، فهي للمقاتلين.
وقرابة النبي عليه الصلاة والسلام هم بنو هاشم وبنو المطّلب، دون بني عبد شمس ونوفل.
روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بني نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بين عبد شمس) الى الرسول فقلنا: يا رسول الله، أعطيتَ بني المطّلب وتركتَنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال الرسول الكريم: (إنما بنو المطّلب وبنو هاشم واحِد) .
والسر في هذا ان قريشاً لما حصَرت بني هاشم في الشِعب وقاطعتهم دخَلَ معهم فيه بنو المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل.
والحكمة في تقسيم الخُمس على هذا النحو، أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بدَّ لها من المال لتستعين به على القيام بالمصالح العامة، كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جُعل لِلّه في هذه الآية، ثم ان هناك نفقة رئيس حكومتها وهو سهمُ الرسول فيها، ثم لِذوي القربى وذوي الحاجات من ضعفاء الأمة.
ولا يزال هذا الاعتبار معمولاً به في كثير من الدول مع اختلاف شئون المجتمع والمصالح العامة، فالمالُ الذي رُصد للمصالح العامة يدخل في موازنة الوزارات المختلفة ما بين مصروفات علنية وسرّية، ولا سيما الامور الحربية. وكذلك راتبُ رأس الدولة من ملكٍ او رئيس جمهورية، منه ما هو خاصٌ بشخصه، ومنه ما هو لأُسرته وعياله. ومن موازنة الدولة ما يُبذل لإعانة، الجمعيات الخيرية والعِلمية غيرها.
وعند الشيعة تفسيرٌ للغنيمة أعمُّ مما عند السنّة، كما أنهم اختلفوا عنهم في تقسيم الخمس، فقالوا: يُقسم الخُمس الى قسمين: الاول منها ثلاثة اسهم: سهمٌ لله، وسهم لرسوله، وسهم لذوي قرباه. وما كان لله فهو للرسول، وما كان للرسول فهو لقرابته، ووليُّ القرابة بعد النبي هو الإمام المعصوم القائم مقام النبي، فان وُجد أعطي له، وإلا وجَب إنفاقه في المصالح الدينية، وأهمُّها الدعوةُ الى الإسلام، والعملُ على نشره وإعزازه.
أما القسم الثاني فهو ثلاثة أسهم: سهم لأيتام آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء السبيل خاصة، لا يشاركهم فيه أحد لأن الله حرّم عليهم الصَدقات فعوّضهم عنها بالخمس.
فاعلموا ذلك أيها المسلمون، واعملوا به كنتم آمنتم بالله حقا، وآمنتم بما أَنزلْنا على عبدنا محمد يوم الفرقان من آيات التثبيت والمدد، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن عظيم قدرته ان نصَركم على قلتكم وضعفكم، وخذل الكافرين مع كثرتهم.(2/107)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
العدوة: جانب الوادي ويجوز في العين الفتح والضم والكسر. القُصْوى: مؤنث الأقصى ومعناها البعيدة. البينة: الحجة الظاهرة. ذات الصدور: ما يدور في النفس من افكار.
اذكروا حين كنتم في موقعة بدر بالجانب الأقرب الى المدينة، وكفار قريش في أبعدِ الجانبين، والقافلةُ التي خرجتم تطلبونها أقربُ إليكم مما يلي البحر، ولو تواعدتُم على التلاقي للقتال لما اتّفقتم عليه، ولكن الله دبَّر تلاقيكم على غير موعد، لينفِّذ أمراً كان ثابتاً في علمه انه واقع لا محالة، وهو القتال المؤدي الى نصركم وهزيمتهم.
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} ليهلك الهالكون من كفار قريش عن حجَّة ظاهرة، وهي هزيمة الكثرة الكافرة ويحيا المؤمنون من حجّة بينة، وهي نصر الله للقلة المؤمنة، إن الله لَسميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال الفريقين ولا نيّاتهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «بالعِدوَة» بكسر العين والباقون بالضم.
اذكر أيها الرسول حين تفضّل الله عليك، فأراك في منامك جيشَ الأعداء في قلة. كان ذلك ليُظمئنكم أنكم ستغلبونهم، فتثبتوا أمام جمعهم حين يلتقون، ولو ترككم تروْنهم كثيراً، دون ان يثبتكم بهذه الرؤيا - لخِفتم منهم ولتردَّدتم في قتالهم. ولكن الله سلَّم أصحابك يا محمد من ذلك ونجّاهم من عواقبه، إنه عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فيُحجم اصحابها عن القتال.
اذكر ايها الرسول ايضا كيف كان الله يريكم أعداءكم قلّة عند التلاقي ليشد من عزمكم، وتقاتلوهم بجرأة وثبات، كما يُظهركم في اعينهم قلّة، زيادةً في الغرور بكثرتهم حتى قال ابو جهل: غنما أصحاب محمد أكلة جزور، يعني يكفيهم جزور واحد لقلّتهم. وذلك ليتم أمرٌ علمه الله، وكان لا بد ان يتم. والى الله ترجع الامور كلها فلا ينفُذُ الا ما قضاه وهيّأ أسباب بعدْله وحكمته.(2/108)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
تفشلوا: تجبنوا وتضعفوا. تذهب ريحكم: تذهب قوتكم وهيبتكم. البطر: إظهار الفخر، والطغيان في النعمة. رياء: نكَص: جرع، تولى الى الوراء. الذين في قلوبهم مرض: ضعاف الإيمان.
هذا هو النداء السادس: يؤكد ما تضمّنته النداءات السابقة من مبادئ وأُسسٍ ضرورية للحصول على النصر، وفيه يأمر الله المؤمنين بالتزام الفضائل والاخلاق التي لا بد من التحلي بها ساعةَ اللقاء في الحرب.
وأوّلها الثباتُ أمام الأعداء، ثم ذِكر الله بالقلب واللسان، واستحضارُ ثم طاعةُ الله والرسول، فكلّ مخالفةٍ تؤخر النصر، وفتتح ثغرة للعدوّ. ثم يؤكد ذلك كله بتحذير يسد به نافذةً خطِرة يهبُّ منها والفساد، هي نافذة التنازع والاختلاف فيما بينهم، مما يؤدي الى الفشل وذهاب القوة هذه قاعدة مطّردة من قواعد الاجتماع، وسنّة ثابتة من سنن الله. وهذا ما هو حاصل في مجتمعنا العربي، وهو داؤنا الّذي يفتّت قوانا ويجعل العدو يعيش ويتوسّع.
يا أيها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئةً من أعدائكم فاثبُتوا، وأكثِروا من ذِكر الله مستحضِرين عظمته وحسن وعده بنصركم. إن الثباتَ وذِكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز والنصر.
وأطيعوا الله ورسوله فيما أُمرتم به او نُهيتم عنه، وتجنّبوا النتنازعَ والاختلاف فيما بينكم، فإن ذلك من اكبر اسباب الفشل والخيبة. واصبِروا على الشدائد وما تلقَون من مكارِه الحرب من بأس العدوّ واستعداده وكثرة عدده، فإن الله مع الصابرين يمدُّهم بالعَون والتأييد. . . ومَن كان الله معه غالب له.
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} ولا تكونوا كأعدائكم المشرِكين الذين خرجوا من ديارهم في مكة مغرورين بَطِرين، متظاهرين أمام الناس رياءً يريدون الثناء عليهم بالشجاعة.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والله عليم بما جاءوا من أجله، عالِم بأعمالهم، وسوف يجازيهم عليها في الدنيا والآخرة.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} اذكر أيّها الرسول للمؤمنين كيف زيّن الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوستِه، قائلا لهم إنه لا أحدّ من الناس يغلبهُم، لأنه هو مجيرٌ لهم، فلما تقابلَ الفريقان في الحرب نكص على عقِبيه وهرب وتبرّأ منهم. لقد خاف أن يُهلكه الله، واللهُ شديد العقاب على الذنوب.
{إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} اذكر يا محمد ماذا كان يقول المنافقون من الكفّار، وضعفاء الإيمان عند رؤيتكم في إقدامكم وثباتكم: لقد غرَّ هؤلاء المسلمين دينهم.
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومن يكِل أمهر إلى الله ويؤمن إيماناً خالصاً فان الله يكفيه ما أهمَّه، ويصره على أعدائه، فهو العزيز الغالب، والحكيم الذي يضع كل امر في موضعه.(2/109)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
أدبارهم: ظهورهم. عذاب الحريق: عذاب النار في الآخرة كدأب: كعادة.
بعد ان بيّن الله تعالى حال هؤلاء الكفار في خروجهم إلى قتال المؤمنين بَطَراً ورياءً، وتزيينَ الشيطان لهم أعمالَهم - قفّى على ذلك بذِكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي ينالونه عندئذٍ ثم ذكر ان الملائكة تأخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب حين يقبضون ارواحهم بصورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهينا، جزاء على البطر والاستكبار. ويذكر في اثناء هذا العرض ان أخْذ الكفار بتكذيبهم سنّةٌ ماضية. وانه كذلك أخَذ فرعون.
ولو ترى ايها الرسول ذلك الهول الخطير ينزل بهؤلاء الكفار حين تتوفاهم الملائكة لرأيتهم يضربون وجوههم وظهورهم، ويقولون لم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون.
قراءاتك
قرأ ابن عامر: «اذ تتوفَّى» بتائين. والباقون: «يَتَوفى» بالياء.
ان الله لا يظلم أحداً من عبيده، فلا يعذّب الا بما عمل من سوء.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} .
ان الله تعالى لا يترك الناس سُدى، وانما هي سنّته يمضي بها قدَرُه، وليس فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قُلتوا ببدر وما أصابهم الا ما يصيب المشركين في كل زمان. لقد اصاب مثلُه آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم الخالية، وقد آتاهم الله من نعمته، وزرقهم من ففضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها، فطغَوا وبغَوا وتجبروا، وجاءتهم آيات الله فكفروا بها، فحقَّت عليهم كلمة ربك، وأخذَهم بالعذاب.
{إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} لا يغلبه غالب، شديد المجازاة لمن يستحقه عقابه.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ رضي الله عنهـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ان الله تعالى يقول: إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تَظالموا، يا عبادي انما هي اعمالكم أُحصيها لكم، فمن وجَد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ الا نفسه» والحديث طويل نفيس.
{ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
ذلك، أي الذي ذُكر من أخْذه لقريش بكفرهم بنعم الله لقد كذّبوا رسوله واخرجوه من دياره وحاربوه، ففعل الله بهم كما فعل بالأمم من قبلهم ولقد جرت سنّة الله ان لا يغيرّ نعمة أنعمها على قوم، كنعمة الامن والرخاء والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسِهم. وهذا عدل في الجزاء.
{وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لما يقولون عليم بما يفعلون.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} .
هنا كرر قضية آل فرعون فقد كانت المرة الأولى لبيان كفرهم فأخذَهم بالعذاب، اما الثانية فهي أن حال هؤلاء كحال آل فرعون والذين من قبلهم في تغيير النعم.
وكما أن دأْب هؤلاء الكفار في الإنكار لآيات الله ونعمه كدأب آل فرعون والذين من قبلهم- فان دأبهم ايضا الاستمرار على لاتكذيب برسله، مثل آل فرعون والذين من قبلهم - من ثم كان الشبه بينهم في الكفر بالآيات وجحود رسالة الرسل، وفي الاستمرار على ذلك. لهذا أخذ الله الجميع بذنوبهم: أولئك بالصواعق والرياح ونحوها، وآل فرعون بالغرق، وكلهم كانوا ظالمين، فاستحقوا ما نزل بهم من العقاب.(2/110)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
الدواب: كل ما دبّ على وجه الأرض، وغلب على ذوات الأربع من الحيوان، وشبه الله تعالى الكواب. فاما تثقفنَّهم: تدركهم وتظفر بهم فشرِّد بهم. ابعدهم ونكل بهم. من خلفهم: كفار مكة واعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم. النبذ: الطرح. رباط الخيل: حبسها على الجهاد واقتناؤها. جنحوا: مالوا. السلم: بفتح السين وكسرها، ضد الحرب.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة صار الكفار معه أقساماً ثلاثة: قسماً صالحهم ووادعهم على ان لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا عليه عدوَّه، وهم على كفرهم آمنوا على دمائهم واموالهم وقسماً حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسماً تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول اليه أمره وأمر اعدائه.
ثم من هؤلاء من كان يحبّ انتصار الرسول في الباطن، ومنهم من كان يحب انصار المشركين، ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين. هؤلاء هم المنافقون وقد عامل الرسول كا ظائفة من هذه الطوائف بما أمره به الله.
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة.
وقد ورت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص، قيل: انهم بنو قريظة، وقيل: انهم بنو النضير، وقيل: انهم بنو قينقاع، وقيل: انهم الاعتراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين. وقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله اكثر من مرة، كما تكرر نقض المشركين من العرب لعهودهم. والمهم ان نعلم ان هذه النصوص تتحدث عن حالةٍ واقعةٍ قبل بدرٍ وبعدها.
{إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ان شر ما يدبّ على وجه الارض عند الله في حُكمه وعدله هم الكفار المصرّون على كفرهم، الذي عقدتَ معهم العهود والمواثيق، ولا يزالون ينقضونها مرة بعد مرة. وقد تكرر ذلك من اليهود، فقد روي عن ابن عباس ان المقصودين بنو قريظة. . . نقضوا عهد رسول الله، وأعانوا عليه بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا نسينا وأخطأنا. فعاهدهم مرة ثانية فنقضوا العهد ومالأوا الكفار على رسول الله يوم الخندق. وقد ركب زعيمهم كعب بن الاشرف الى مكة فحالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم {. . . وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} اي لا يتقون الله في نقض العهد، ولا يردعهم عن ذلك خوف من نقمته وعذابه.
وبعد ان بين تعالى انهم قد تكرر منهم نقض العهد، ذكر ما يجب ان يعاملوا به قال:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فإن تدركْ أيها الرسول، هؤلاء الناقضين لعهدهم في الحرب ظافر بهم، فنكِّلْ بهم تنكيلا يسوؤهم ويخيف مَنْ وراءهم من الاعداء، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لعل مَن خَلْفهم من الأعداء يذكرون ذلك النكال فيمنعهم من نقض العهد والقتال.(2/111)
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} ان الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، فأبعدوا عنها ايها المؤمنون.
روى البيهقي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثةٌ المسلمُ والكافر فيهن سواء، من عاهدتَه فَوَفِّ بعهده، مسلماً كان او كافرا، فإنما العهد لله. ومن كانت بينك وبينه رحِم فصِلْها، مسلما كان او كافرا. ومن ائتمنك على أمانة فأدّها اليه، مسلما كان او كافرا» .
وبعد هذا أنذر الله أولئك الخائنين مما سيحلّ بهم من عقاب فقال:
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} ولا يظن الذين كفروا انهم قد نجوا من جزاء خيانتهم وغدرهم، فهم لا يعجزون الله ولن يعجزوه، ولا يفوقونه في مكرهم أبدا، بل هو القادر وحده، وسيجزيهم بقوته وعدله.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص: «ولا يحسبَنَّ» بالياء والباقون: «ولا تحسبن» بالتاء، وقرأ ابن عامر «أنهم لا يعجزون» بفتح الهمزة، والباقون بكسرها.
بعد ذلك بيّن الله تعالى ان الاستعداء بما فيه القدرة والطاقة فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والاستعداد انفى للاعتداء.
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} أعدّوا يا معشر المسلمين لمواجهة أعدائكم ما ستطعتم من قوة حربيّة شاملة لجميع عتاد القتال، ومن المرابطين في الثغور وأطراف البلاد بِخَليهم، لتخيفوا بكل ذلك عدوَّ الله وعدوكمن من الكفار المتربصين.
{وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} وليخيفوا أيضا آخرين غير هؤلاء الأعداء، أنتم لا تعلمونهم الآن لكن الله يعلمهم، لأنه لا يخفى عليه شيء.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} ان الله يجزيكم جزاء وافيا، عن كل ما انفقتم من شيء في سبيل إعداد القوة قاصدين به وجه الله، دون ان ينقصكم مثقال ذرة مما تستحقون.
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا. . .} وإن مالَ الأعدادُ المحاربون الى السلم، فاجنح لها أيها الرسول، فليست الحرب غرضاً مقصوداً لذاته عندك، إنما تقع دفعاً لعدوانهم وتحدّيهم لدعوتك، فاقبل السلم وتوكل على الله، ولا تخفّ كيدهم ومكرهم انه سبحانه هو السميع لما يتشاورون به، العليم بما يدبرون ويأتمرون.
قراءات:
قرأ ابو بكر: «للسّلِم» بكسر السين، والباقون بفتحها والمعنى واحد.
{وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} .
وإن أراد من تظاهُرهم بالجنوح الى السلم الخداعَ بك، فان الله يكفيك امرهم من كل وجه. وقد سبق له أن أيّدك بنصره، حين هيأ لك من الاسباب الظاهرة والخفية ما ثّبت به قلوب المؤمنين من المهاجرين والانصار، وجعلهم اُمةً واحدة متآلفة متعاونة على نصر الله ورسوله.(2/112)
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ان الله تعالى جمعَ بينهم على المحّبة والإيمان بك، بعد التفرق والتعادي (دامت الحرب بين الأوْس والخَزْرج سنين عديدة، وكذلك بين مختلف قبائل العرب) فأصبحوا ملتفّين حولك، باذلين اموالهم وارواحهم في سبيل دعوتك. ولو انفقتَ جميع ما في الارض من الاموال والمنافع، في سبيل هذا التأليف بين قلوبهم، لما أمكنك ان تصل اليه، لكنّ الله ألَّف بينهم، بقدرته، انه تعالى قوي غالب يدبر امر العباد على مقتضى ما ينفعهم.(2/113)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
حسبك: كافيك، ما يهمك التحريض: الحث على الشيء. التخفيف: رفع المشقة الضعف: بالفتح والضم، ضد القوة.
يا أيها النبيّ إن الله كافٍ كلَّ ما يهمّك من أمر الاعداء، متكفل بك ومن اتبعك من المؤمنين.
فشجّشع المؤمنين على القتال لاعلاءِ كلمة الله، ورغِّبهم فيما وراء ذلك من خير الدنيا والآخرة. واعلم يا محمد أنه إن يوجد منكم عشرون معتصمون بالإيمان والصبر يغلبوا مئتين من الذين كفروان ذلك بأن الكافرين لا يدرِكون حقائق الأمور، فليس لهم ايمان ولا صبر ولا مطمع في ثواب.
{الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} .
ان واجبكم أيها لمؤمنون ان تصبروا على ملاقاة أعدائكم ولو كانوا عشرة أمثالكم، لكن الله قد خفف عنكم الآن فجعل عليكم ان تصبروا امان مِثَلْيكم فقط، لعلمه ان فيكم ضعفاً يقتضيالتيسير عليكم والترخيص لكم، فان يكن منكم مئةُ مجاهدٍ صابر يغلبوا مئتين من الكفار، وان يكن منكم الف يغلبوا الفين بارادة الله ومعونته، والله مع الصابرين.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: «ان تكن» بالتاء في الآيتين. وقرأ عاصم وحمزة: «ضعْفاً» بفتح الضاد والباقون: «ضُعفاً» بضمها.(2/114)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
أسرى: جمع أسر وهو كل من يؤخذ من المحاربين. الإثخان: الشدة حتى يثخن في الأرض: يُكثر القتال ويبالغ فيه. عرض الدنيا: حطام الدنيا وما فيها من زخارف مسّكم: اصابكم.
لا يسوغ لأحد من الانبياء ان يكون له أسرى يحتجزهم، أو يأخذ منهم الفِداء، او يمنّ عليهم بالعفو، حتى يتغلّب على أعدائه، ويُكثر القتل والجراح فيهم، فلا يستطعيوا قتالا بعد ذلك، ولكنّكم أيها المؤمنون سارعتم في غزوة بدر الا اتخاذ الأسرى قبل التكّن في الارض تريدون منافع الدنيا وحُطامَها، والله يريد لكم الآخرة.
{والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} عزيز يَهَبُ العزة للمؤمنين وإن لم يكن لهم اسرى، وهو حيكم في تدبيره وأمره ونهيه.
قراءات:
قرأ اهل البصرة «ان تكون» بالتاء.
روى الإمام أحمد عن أنس قال: «استشار النبي صلى الله عليه وسلم في الاسارى يوم بدر فقال: ان الله مكّنكم منهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله اضربْ أعناقهم. فأعرض عنه النبي، ثم عاد رسول الله لمقالته، إنما هم إخوانكم بالأمس وعاد عمر لمقالته، فأعرض عنه فقام أبو بكر الصدّيق فقال: يا رسول الله نرى ان تعفو عنهم، وان نقبل منهم الفداء؟ قال: فذهب عن وجه رسول الله ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء» .
وفي رواية ابن عباس عن عمر زيادة هي: فلما كان الغد جئتُ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان فقلت: يا رسولَ الله، أخبِرني من أي شيء تبكي انت وصاحبك. . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي على أصحابك من أخذِهم الفداءَ، لقد عرض عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة» . فأنزل الله عز وجل «وما كان لنبي. . . .» الآية.
{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لولا حكمٌ سابق من الله بالعفو عن المجتهد المخطىء لأصابكم فيما أخذتم من الفِداء عذابٌ كبير بسبب ما تعجّلتم به.
بعد ان عاتبَهم الله على اخذ الفداء أباح لهم أكْل ما أخذوه، وعدَّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم في اول السورة فقال:
{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} كلوا مما غنمتم من الفداء حلالا لكم طيبا في نفسه لا خبث فيه، واتقوا الله ما كل أموركم، انه غفور لذنبكم السابق حين أخذتم الفداء.
ثم يخاطب الاسرى بكلام رقيق يُحْيي فيهم الرجاء، ويُشيع فيهم النور، ويؤملهم بحياة أكرم مما كانوا فيه، وكسبٍ أطيب مما فقوا من مال وديار، وبعد ذلك كلّه بالمغفرة والرحمة.
{ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يا ايها النبي قل للأسرى الّذين اخذتم منهم الفداء: ان يكن في قلوبكم خير يعلمه الله فسيُخلِفُ لكم خيراً مما أخذه المؤمنون منكم ويغفر لكم ما كان من الشرك والسيئات.(2/115)
ان الله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين يشملهم بعنايته وتوفيقه.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «من الأسارى» والباقون: «من الأَسرى» .
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى باب الرجاء، يحذرهم خيانة الرسول- صلى الله عليه وسلم - كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير.
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وان يردوا خيانتك بما يظهر بعضهم من الميل الى الاسلام مع انطواء صدروهم على قصد مخادعتك بهذا الميل فلا تبتئس، فقد خانوا الله من قبل باتخاذ الأنداد والشركاء لله والكفر بنعمته، فامكن منهم اذ نصرك في بدر مع قلة عَددكم وعُددكم، وكثرتهم، والله قوي غالب متصرف بحكمته، يعلم ما ينونه وما يستحقونه من عقاب.(2/116)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
الهجرة: مفارقة بلدٍ الى غيره، فان كانت قُرْبةً إلى الله فهي الهجرة الشرعية.
آواه: اسكنه.
قسم الله المؤمنين أربعة أقسام وبيّن حُكم كل منها ومنزلته من بينها:
1- المهاجرون الاولون اصحاب الهجرة الاولى قبل غزوة بدر الى صلح الحديبية.
2- الانصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي عليه الصلاة والسلام والمهاجرين من اصحابه عند الهجرة.
3- المؤمنون الذين لم يهجروا.
4- المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحيبية.
1- {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} هؤلاء هم الكَمَلَة المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فِراراً بدِينهم من فتنة المشركين، وإرضاء لربهم ونصراً لرسوله، ثم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
2- {والذين آوَواْ ونصروا} والآنصار من اهل المدينة الذي آووا الرسول الكريم ومن هاجر من اصحابه ونصروهم، وأمّنوهم من المخاوف، وشاركوهم في أمالهم حتى لآآثروهم على انفسهم - فحُكمهم حكم المهاجرين الاولين {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} بعضهم نصراء بعض في تأييد الحق وإعلاء كلمة الله على الحق.
3- {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} والذين لم يهاجروا من المؤمنين، لا يثبت لهم شيءٌ من ولاية المؤمنين ونصرتهم، اذ لا سبيل إلى وَلايتهم حتى يهاجروا.
{وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} وان طلبوا منكم النصر على من اضطهدوهم في الدّين، فانصرُوهم، فإن طلبوا النصر على قوم معاهِدين لكم، لم ينقضو الميثاق معكم فلا تجيبوهم.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء.
قراءات:
قرأ حمزة: «ولايتهم» بكسر الواو، والباقون بفتحها.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سِراً وجهراً امتازت الشريعة الاسلامية على غيرها، فشعارُ أهل الإسلام الوفاءُ بالعهود، والبعد عن الخيانة والغدر.
{ (*) والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} إن الكفار على اختلاف شِيعِهم بعضُهم يوالي بعضاً وينصره ضد الاسلام. قد كان اليهود والمنافقون ومشركو العرب كتلةً واحدة متفين على محاربة الاسلام والمسلمين. وهذا ما يحصل اليوم. . . جاء اليهود الى بلادنا واحتلّوا قسماً منها بمساعدة النصارى في جميع أقطار الارض، وقد اتفق على ذلك جميع الأوربيين والأمريكان، كلُّهم مجتمِعون متفقون على حمايةِ اليهود ومساعدتهم ضد الإسلام والمسلمين.
{إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} إن لم تفعلوا ما شُرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصرُكم وتعاونكم تجاه وَلاية الكفّار بعضُهم لبعض، يقع من المفتنة والفساد ما فيه أعظمُ الضرر عليكم، بتخاذلكم الذي يُفضي الى ظفر الاعداء بكم وسلبكم بلادكم. وهذا ما هو حاصل اليوم من تكتّل الأعداء ضدّنا، ونحن متمزقون في عدة دول وامارات، يحارب بعضنا بعضاً والعدو يسرح ويرتع في بلادنا.(2/117)
{والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
يبين الله تعالى في هذه الآية ميزةَ المهاجرين والانصار وفضهلم على غيرهم، ويذكر ان هؤلاء المهاجرين وانصار هم المؤمنون حق الايمان وأكمله، فلهم مغفرة تامة من ربهم ورزق كريم في الدنيا والآخرة.
4- {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} .
والذين تأخر إيمانهم وهجرتُهم عن الهجرة الاولى، لكنهم هارجوا وجاهدوا معكم اعداءكم لاحقاً، فاولئك منكم أيها المهاجرون والانصار، لهم من الولاية والحقوق ما لبعضكم على بعض، وفي هذا دليل على فضل السابقين على اللاحقين كما جاء في قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} سورة الحديد.
{وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} وذوو القرابة من المؤمنون أولى من غيرِهم بالبر من المؤمنون أولى من غيرِهم بالبر والنصر والإحسان كما جاء في كتاب الله الكريم، فاتبعوه وتقيدوا به. فهو سبحانه إنما شرع لنا هذه الاحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصِلة الأرحام وغير ذلك من التشريع، وهو على علم واسع محيط بكل شيء.
وقد استدل الشيعة بهذه الآية عل ان من كان أقربَ إلى الميّت نَسباً فهو أولى بميراثه من الأبعد، فبِنتُ الميت تحجب أخاه عن الإرث لأنها اقرب منه الى الميت، واختُه تحجب عَمَّهُ لنفس السبب. وهكذا يحجب عندَهم الأقربُ الأبعدَ من جميع المراتب.(2/118)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
براءة: إعذار وإنذار بانقطاع العصمة. فسِيحوا في الارض: تجوّلوا فيها وتنقلوا. مخزي الكافرين: مذلهم وأذان من الله: إعلام منه تعالى ومن رسوله ببراءتها من المشركين. لم ينقصوكم شيئا: لم يخلّوا في شروط المعاهدة. ولم يظاهروا عليكم: لم يعاونوا احداً عليكم.
لقد دلت تجربة الرسول الكريم واصحابه مع المشركين في جميع انحاء الجزيرة العربية انه هؤلاء لا أمان لهم ولا عهود، ولا يُؤمَن غدرُهم في حالّي القوة والضعف، بل لا يستطيع المسلمون ان يعيشوا على اسس المعاهدات ما داموا على شِركهم. فجاءت هذه السورة تأمر المسلمين بنبذِ عهود المشركين المطلقة، واتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام. وهكذا حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى محا الشرك من جزية العرب ودانت كلها للاسلام.
وقد زاد اقبال العرب على الإسم بعد الحجّة التي حجّها أبو بكر سنة تسع للهجرة، وفي هذه الحجة أرسل النبيّ عليّ بن ابي طالب ليلحق بأي بكر، ويتلو على الناس قرآنا. فكان فصلا بين عهدين: عهدٍ كان الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا، لكن مع بقاء الشرك في بعض القبائل، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للاسلام. والقرآن - الذي تلاه عليّ على الناس، وفَرّق الله به بين هذين العهدين - هو هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة.
{بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} .
هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم أيُها المسلمون من المشركين، فيها إنذار بقطع تلك المعاهدات.
{فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} .
قولوا أيها المسلمون: سِيروا في الأرض وانتم آمنون لا يتعرّضون لكم أحدٌ من المسلمين بقتال مدة أربعة اشهر، تبتدئ من عاشرِ ذي الحجّة من سنة تسع للهجرة (وهو يوم النحر الّذي بُلِّغوا فيه هذه الدعوة) ، وتنتهي في العاشر من شهر ربيعٍ الآخِر من سنة عشر. انتقِلوا طوال هذه المدة حيث شئتم، وانتم تفكرون في عاقبة أمركم، ثم تخيَّروا بين الاسلام والاستعداد للقتال، واعلموا انكم لن تُعجزوا الله اذا أصررتم على شِرككم، بل سيسلّط عليكم المؤمنين ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به. والعاقبة للمتقين.
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} هذا بلاغ من الله ورسوله إلى الناس كافة، في اجتماعهم يوم النّحر من الحجّ الأكبر، يصرح بالبراءة من عهود المشركين.
{فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} .
فيا أيها المشركون الناقضونَ للعهدِ: إن تُبتم ورجعتم عن شِرككم بالله، وعن خيانتكم وغدْرِكم، كان ذلك خيراً لكم في الدنيا والآخرة، أما ان بقيتم على ما أنتم عليه، فاعلموا انكم لن تُفلِتوا من سلطان الله ولا من وعده لرسوله وللمؤمنين بالنصر عليكم.(2/119)
{وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
وبشّر أيها الرسول الكريم جميع الكافرين بعذاب أليم في الآخرة.
{إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} .
أما من عاهدتم من المشركين، فحافَظوا على عهودكم ولم يُخِلّوا بشيء منها، ولم يُعِينوا عليكم أحداً - فأوفوا لهم عهدهم إلى نهايته واحترِموه {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} الذين يحافظون على عهودهم.
وفي هذه الآية دليلٌ على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهدُ معقودا وتصريحٌ بأن العهدّ المؤقت لا يجوز نقضُه الا بانتهاء وقته، هذا اذا حافظ العدو المعاهد على ذلك العهد، فان نقض شيئا منه اعتُبر ناقضاً كما قال تعالى {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} .
ورى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحَجَّة في مؤذِّنين بعثَهم يوم النحر يؤذنون بِمِنَى: ان لا يحُجّ بعد العام مُشرِكن ولا يطوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهـ وأمره ان يؤذن ببراءة، عين يتلوها على الناس.(2/120)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
فاذا انسلخ: اذا انقضت وانتهت. الاشهر الحرم: هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. . حرم الله فهي القتال احصروهم: حبسوهم امنعوهم من الخروج. المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو. استجار: طلب الامان والحماية. أَجره أمنه. مأمنه: مسكنه الذي يأمن فيه إلاَّك جوارا او قرابة.
بعد تقريرا لحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين، مع استثناء الذين لم ينقُصوا المسلمين شيئاً ولم يُظهروا عليهم أحداً - قفى على ذلك بذكر ما يجب ان يفعله المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب والامان الذي أُعطي لهم.
فاذا انقضت الأشهر الاربعة التي حرَّم الله فيها قتال المشركين، فافعلوا كل ما ترونه موافقاً للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها. . اقتلوا الناقضين للعهد في كل مكان، وخُذوهم بالشدّة، واضربوا عليهم الحِصار بسدّ الطرق، واقعدوا لم في كل سبيل فإن تابوا عن الكفر، واسملوا والتزموا باحكام الاسلام - فلا سبيل لكم عليم، لدخولهم في دين الله. ان الله تعالى يغفر لهم ما سبق من الشرك والضلال، فهو واسع الرحة بعباده.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله، وان محمداً رسولُ الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَمثوا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحق الاسلام، وحِسابُهم على الله» .
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} .
وان طلب منك الأمانَ أيها الرسول، أحدٌ من المشركين الذين أُمرتُم بقتالهم ليسمعَ دعوتك ويعلم ما أنزلَ الهُ، فأمِّنْه حتى يسمعَ كلام الله، فان دخل في الاسلام فهو منكم، وإن لم يدخل فأبلِغْه مسكنه الذي يأمن فيه. وهذا الأمر بتأمين المستجدِّ من هؤلاء الناس حتى يسمع كلام الله إنما تبريره أنه جاهل للاسلام، وأمثاله قوم لا يدرون ما الكتاب ولا الايمان.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} .
انتهى في الآيات السابقة من تقرير الاحكام النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة، فأخذ في الآيات اللاحقة يقرر انه لا ينبغي ان يكون للمشركين عهد عند الله وسوله: كيف يكون لهؤلاء الناقضين للعهود مرارا، عهدٌ محترم؟ لا تأخذوا ايها المسلمون بعهودهم الا لاذين عاهدتموهم منهم عند المسجد الحرام (مثل بني كِنانة وبني ضمَرة) لأنهم لم ينقضوا عهدهم الذي عاهدوا الرسول عليه يوم الحديبية، وهي قريبة من مكة، ولذلك قال تعالى: عند المسجد الحرام. فاستقيموا ايها المسلمون على عهد هؤلاء ما دااموا مستقيمين {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} الذين يخشون نقض العهد، فلا يفعلونه.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} .
كيف تحافظون على عهدوهم، وهم قوم إن تمكنوا لم يدّخروا جُهدا فيا لقضاء عليكم، غير مراعين جواراً ولا قرابة ولا عهدا.
ثم بين الله ما تنطوي عليه نواياهم من الضغينة فقال:
{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .
انهم يخدعونكم بكلامهم المعسول، وقلوبهم منطوية كراهيتكم، وأكثرُهم خارجون عن الحق ناقضون للعهد، فليس عندهم وفاء لكم ولا ود.(2/121)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
يعود الله تعالى في هذه الآيات لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية بعد ان استنكر باسبابه العقيدية والايمانية، ويجمع بين هذه وتلك في هذه الآيات. فيقول عنهم انهم استبدلو بآيات اللهِ عَرَضاً قليلا من حُطام الدنيا، وصدّوا بسبب هذا الشِراء الخسيس أنُفسَهم عن الإسلام ومنعوا الناس عن الدخول فيه {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ألا لقد قَبُح، علمهم هذا، من اشتراء الكفر بالايمان، والضلالة بالهدى، ونكران ما جاء رسول الله به من البينات.
ثم إنهم لا يُضرمون هذا الحقدّ لأشخاصكم فقط، بل يضمرونه لكل مؤمن، ويتّبعون هذا المنكر مع كل مسلم، ولا يراعون فيكم عهداً.
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وأولئك هُمُ المعتدون} .
من اجل هذا الكفر لايحترمون لمؤمن قرابةً ولا عهدا. ذلك ان سمة العدوان أصلية فيهم، فمن شانهم عدم التقيد بالعهود، بحكم عنادهم وكفرهم وكراهيتهم للايمان. ولا علاج لهؤلاء أبداً الا إجبار على الرجوع عن الكفر، والاعتصام بالإيمان.
ثم بين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين:
{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
اذا رجع هؤلاء المشركون الذين أُمرتم بقتالهم عن شِركهم، والتزموا أحكام الاسلام باقامة الصلاة وايتاء الزكاء - فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، والله يفصّل هذه الأحكام ويبيّنها لمَن يدركُها ويدركُ حِكمتها من الذين يعلمون، وهم المؤمنون.
{وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} .
وان نكثَ هؤلاء ما أبرمتْه أيمانُهم بالوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم وصدّوا الناس عنه، فقاتِلوهم، انهم أئمة الكفر، لأنهم لا عهدّ لم ولا ذمة، قاتِلوهم رجاءَ ان ينتهوا عن الكفر ونقضِ الأيمان والعهود.
ومع ان هذه النصوص كانت في المشركين، زمن الرسول الكريم، فيه مستمرة مع أئمة الكفر في كل زمان ومكان. خذ اليهود اليوم، إنهم هم المعتدون، تساندهم قوى الغرب المستبدّة الآثمة، وكلهم اعداء الانسانية والاسلام، فعلينا ان نصحو من سابتنا، ونستعدّ، واكبر سلاح لنا هو الايمان بالله وبقضيتنا العادلة واتحادنا.
ثم اعاد الله الكرَّة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين:
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟} .
فاتِلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة.
اولا: أنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيدِ عهدهم الذي عقدوه يوم صُلْح الحديبية.
ثانيا: أنهم همُّوا بإخراج الرسول الكريم من مكة، وأرادوا قتْلَه بأيدي عُصْبة من بطون قريش ليتفرق دمه في القبائل فتتعذر المطالبة به.
ثالثا: أنهم بدأوا بقتال المؤمنين في بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة قافلتهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وكذلك قاتَلوكم في أحُد والخندق وغيرهما.(2/122)
{أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} .
بعد هذا كله، أتتركون قتالهم خوفاً وجبناً منكم! ان الله أحقّ ان تخشوا مخالفة امره وأن تخافوه ان كنتم صادقين في إيمانكم.
ثم يحرض الله المؤمنين على القتال بقوله:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} .
قاتِلوهم ايها المؤمنون ولا تخافوا، ان الله سوف يعذّبهم على أيديكم، ويذلّهم بالأسر لكم، وسوف ينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذه، ويَشْفي صدرو أناس منكم نالوا من أذاهم قدرا كبيرا لم تكونا تستطيعون دفعه. . . انه سوف يشفي تلك النفوس من غيظها المكظوم، بانتصار الحق كاملا، وهزيمة الباطل.
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} .
بانتصاركم عليهم سيملأ الله قلوب المؤمنين فرحا، ويذهب عنهم الغيظ الذي كان قد وَقَر فيها من غدر المشركين وظلُمهم.
{وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
ويقبل الله توبة من يشاء منهم، وهو العليم بشؤون عباده، الحكيم فيما يشرّع لهم من الاحكام.(2/123)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
الوليجة: بطانة الرجل، وخاصته. المسجد: مكان السجود، ثم اصر اسماً للبيت الذي يخصص لعبادة الله. ان يعمروا: يتعبدون فيه، وتطلق على العمارة والبناء والخدمة.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} .
أظننتم ان تُتركوا وشأنكم بغير فتنةٍ ولا امتحان، ولم يتبيّن الخلَّصُ المجاهدون منكم الذين لم يتخذوا لأنفُسِهم بطانةً من المشركين، من المنافقين الذين يُتقنون استخدام الأعذار، ويدورون من خلف الجماعة ليُطْلعوا الأعداءَ على الاسرار! لا تظنّوا أيها المؤمنون ان يترككم الله تعالى دون اختبار لكم بالجِهاد ونحوه، ليَظهَرَ المحسنُ منكم من المسيء، وتُعرَفَ المداخل، ويعرف الناسُ كلا الفريقين على حقيقته.
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} لا يخفى عليه شيء من أمركم، فهو محيط بكل شيء علما.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} .
بعد ان فتح المسلمون مكة، وظهر الرسول المسجدَ الحرام مما كان فيه من الأصنام، بقي ان يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يقيمونها فيه. فأرسل عليّ بن أبي طالب وأمره ان يتلو على مسامع الحجيج أوائل سورة التوبة يومَ الحجّ الأكبر الى مكة. وكان مما تضمنه هذا البلاغ العام ان يعلم اهل مكة المشركون ان عبادتهم الباطلة ستمنع من المسجد الحرام، بعد ذلك العام. وقد نادى عليُّ ومن معه في يوم النحر بِمِنى: لا يحجّ بعد هذا العام مشرِك ولا يطوف بالبيت عُريان.
لا يحق للمشركين ان يعمروا مساجدّ الله بالعبادة او الخدمة والوَلاية، ولا ان يزوروها حجّاجا أو متعمرين، ما داموا مستمرّين على كفرهم. ولبس بعد الآن تردد في حرمانهم من زيارة البيت الحرام او عمارته، انما تكون عمارته بالعبادة الصحيحة حقاً خالصاً للمؤمنين بالله، القائمين بفرائضه.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} .
اولئك المشركون لا اعتداد بأعمالهم، ولا ثوابَ لهم عليها، وهم مقيمون في دار العذاب إقامة خلودٍ وبقاء، لكفرهم، وصدهم عن سبيل الله.
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} .
ان المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله وحده والايمان باليوم الآخر، الّذين أدّوا الصلاة على وجهها، وأخرجوا الزكاة، ولم يخشوا الا الله وحده.
{فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} .
اولئك الذين آمنوا ايمانا خالصا، وجمعوا بين الاركان الهامة من راكان الاسلام هم الذين يرجون ان يكونوا من المهتدين الى ما حيب الله ويرضيه. فالعبادة تعبير عن العقيدة، فاذا لم تصحّ العقيدة لم تصح العبادة. اما اداء الشعائر وعمارة المساجد فليست بشيء ما لم تَعمُر القلوب بالاعتقاد الصحيح، والعمل الواقع الصريح.(2/124)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
سقاية الحاج: ما كانت قريش تسقيه للحجّاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يقوم بها العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهـ في الجاهلية وبقيت معه في الاسلام.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام. . .} .
هذا توبيخ من الله تعالى لقومٍ افتخروا بالسقاية والسِّدانة، وهي حجابة البيت، فأعملهم الله أن الفخر الحقيقي إنما يكون في الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله. وذلك بمعنى انه لا ينبغي ان تجعلوه اهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، ان الفئتين ليْسَتَا بمنزلة واحدة عند الله.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
المشركين الذين لا يخلِّصون عقيدتهم من الشرك، ولو كانوا يعمرون البيتَ ويسقون الحجيج.
ثم بيّن سبحانه مراتب فضْلِهم إثر بيان عدم استوائهم هم المشركين الظالمين فقال:
{الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ} .
ان الذين صدّقوا بوحدانية الله، وهاجروا من دار الكفر الى دار الإسلام، وتحمّلوا مشاقّ الجهاد في سبيل الله بأموالهم وانفسهم، هم اعظمُ منزلةً وأعلى مقاما في مراتب الفضل والكمال عند الله من أهل سِقاية الحاجّ وعَمارة المسجد بدون ايمان بالله.
{وأولئك هُمُ الفائزون} وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وكرامته.
ثم فصّل الله تعالى ذلك الفوز العظيم وبينه فقال:
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} . هؤلاء الذين جمعوا الصفاتِ الحميدةَ يبشّرهم الله تعالى برحمته الواسعة التي تشملهم، ورضوان كامل من لدنْه، وهو أكبر جزاءٍ. وسيُدخلهم يوم القيامة جناتٍ لهم فيها نعيمٌ ثابت دائم.
{إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
لهؤلاء المؤمنين الذين تحملوا مشاق الهجرة والجهاد ثوابٌ لا يقدِّر قدْره الا الله الذي تفضل به.(2/125)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
استحب: احب الظلم: وضع الشيء في غر موضعه. موضعه. العشيرة: ذو القرابة الادنون، وقبيلة الرجل. قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] . اقترفتموها: اكتسبتموها. فتربصوا: انتظروا. امره: عقوبته.
لمَّا اعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم، عز ذلك على بعض المسلمين وتبرّمبه ضعفاء الايمان، وكان اكثرهم من الطلقاء الذين أعتقهم النبيُّ يوم فتحِ مكة. وكان موطن الضعف نصرةَ القرابة وعصبية النسب. فجاء «الكتاب» هنا يجرد المشاعرَ والصلاتِ في قلوب المؤمنين، ويمحّصها فيدعو الى تخليصها من وشائج القربى والمصلحة. ثم إنه يجمع لذائذ البشر، ووشائج الحياة فيضمها في كفّةٍ، ويضع حبّ الله ورسوله وحب الجهاد في الكفّة الاخرى ويدعو المسلمين للخيار.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} .
يا أيها المؤمنون لا تتخذوا من آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم وأزواجِكم نصراءَ لكم ما داموا يحبّون الكفرَ ويفضّلونه على الايمان.
{وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} .
ومن يتولّهم ويستنصر بالكافرين فإنه من الظالمين الّذين تجاوزوا الطريق المستقيم.
وبعد ان بيّن ما وصل اليه حالُهم من الإخلال بالإيمان انتقل الى بيان سبب ذلك فقال:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ. . . الآية} .
قل أيا الرسول للمؤمنين: إن كنتم تفضّلون حظوظَ وشهواتِها من الآباء والأنباء والإخوان والأزواج والعشيرةِ والأموال، والتجارة التي تخافون كسادها، والمساكم التي ترضُونها، على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الذي وُعِدتُم عليه أنواعَ السعادة الابدية في الآخرة - فانتظِروا حتى يأتي الله بحكمه فيكم وعقوبته لكم.
والخلاصة: ان كانت رعايةُ هذه المصالح الدنيوية أَوْلى عندكم من طاعة الله والرسول والجهادِ في سبيل الله، فتربّصوا بما تحبون حتى يأتي الله بعقوبته من عنده.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} الخارجين على حدود الدين.
قراءات:
قرأ أبو بكر: «وعشيراتكم» .(2/126)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
مواطن: جمعَ موطن وهو مقر الانسان ومحل اقامته. والمراد هنا الاماكن التي نصروا فيها. حُنين: واد بين مكة والطائف على ثلاثة اميال من الطائف. لم تغن عنكم شيئا: لم تنفع ولم تدفع عنكم شيئا. رحبت: اتسعت مدبرين: هاربين. السكينة: الطمأنينة.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} .
لقد نصركم اللهُ أيها المؤمنون على أعدائكم في كثيرٍ من المواقع بقوة إيمانكم، وخالصِ نيّاتكم، لا بكثرةِ عَددكم ولا بقُوتّكم.
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} .
وحين غرّتكُم كثرتكم في معركة حُنين، ترككم اللهُ لأنفسِكم أولَ الأمر، فلم تنفعْكمن كثرتكم، شيئا، ولشدّة الخوف والفزَع ضاقت عليكم الأرضُ على اتّساعها، فلم تجدوا وسليةً للنجاة إلا الهربَ والفرار من العدوّ، فولَّيتم منهزمين، وتركتم رسول الله في قلة من المؤمنين.
وقد كانت وقعة حُنين بعد فتح مكة في شوّال سنة ثمانٍ من الهجرة فبعد ان فرغ النبيّ من فتحِ مكة، بلغة ان هوازن جمعوا له ليقاتلوه، كما انضمّ إليهم بنو ثَقيف وبنو جُشم، وبنو سعد بن بكر، وبعضُ بني هلال، واناس من بني عمرو بن عامر، وكان اميرهم مالك بن عوف النضري. وكان عدد جيشِ المسلمين عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، مع ألفين من الذين أسلموا من أهل مكة. وكان عدد هوازن ومن معها أربعةَ آلاف مقاتل، ومعهم نساؤهم وولدانهم وجميع ما يملكون من شاءٍ ونعم.
خرج الرسول الكريم بهذا الجيشِ في غَلَس الصبح، وانحدروا بوادي حُنين. وكان جيش العود قد سبقهم الى احتلال مَضايِقه، وكَمَن لهم فيها وما إن وصل المسلمون قلب الوادي، حتى أمطرهم العدو بوابلٍ من سهامه، واصلتوا السيوف، وحملوا حَمْلَة رجلٍ واحد. فكانت مفاجأة أذهلت المسلين حتى فرّ معظمهم. وثبت رسول الله وهو راكب بغلته الشهباء وعمُّه العباس آخذٌ بركابها الأيمن، وابو سفيان بن الحارث ابنُ عمّه آخذٌ بركابها الأيسر، ويحيط به أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والفضل بن العباس، وايمن بن ام يامن، ونوفل بن الحارث، والمغيرة بن الحارث، وربيعة بن الحارث. . وكلّهم أبناء عم الرسول، واسامةُ بن زيد وغيرهم نحو مائة رجل، والنبيّ عليه الصلاة والسلام يدعو المسلمين الى الرجوع ويقول: «اليّ يا عبادّ الله، إليّ أنا رسولُ الله» ويقول: «أنا النبيّ لا كذِبْ، انا ابنُ عبد المطّلب» ثم امر العباسَ بن عبد المطلب، وكان جهير الصوت، أن يناديَ بأعلى صوته: يا أصحابَ الشجَرة، يعني شجرةَ بَيْعة الرّضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والانصار تحتها. فجعل العباسُ يناديهم، وتارة يقول يا أصحاب سورة البقرة. فصار الناس يقولون لبّيك لبيك، وانعطفوا وتراجعوا الى رسول الله.(2/127)
ولما تكامل جمْعُهم شدّوا على الكفرا بقوة وصدق وحملوا علهيم فانهزم المشركون. واتّبعم المسلمون يقتُلون فيهم ويأسرون، وغنموا جميع ما معهم من نَعَمٍ ونساءٍ وأطفال.
وهكذا التقى الفريقان: المؤمنون بكثرتِهم وقد أعجبتْهم، والمشركون بقلّتهم العنيفة، وكان الجولةُ في بدءا المعركة للمشرِكين، لغُرور المسلمين وعدم احتياطهم. ولكن المعركة انتهت بنصر المؤمنين. والعبرة في هذه الغزوة أن الكثيرة العددية ليست عاملَ النصر، وإنما هو القوةُ المعنوية، والايمان بالله والصدق والاخلاصُ في العمل.
{ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين} .
ثم أدركتْكُم عنايةُ الله، فأنزلَ الطمأنينةَ على رسوله وعلى المؤمنون فملأ بها قلوبهم. كما أنزلَ مع السَّكينة جنوداً لم تروْها بأبصاركم، فثّبت أقدامَكم فانتصرتم، وعذّب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر. وقد أذاقهم اللهُ مرارةَ الهزيمة، وذلك جزاء الكافرين في الدنيا، وجزاؤهم في الآخرة اعظم.
{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
ثم يقبلُ الله توبةَ من يشاء من عباده فيغفرُ ذنبه، إذا رجع عنه مخلصاً، واللهُ عظيم المغفرة واسعُ الرحمة، وبابُ الرحمة مفتوح دائما لمن يخطئ ثم يتوب.
روى البخاري عن المسور بن مخرمة: «أن ناساً من هَوازن جاءوا رسول الله وبايعوه على الاسلام وقالوا: يا رسولَ الله، أنتَ خير الناس وأبرُّ الناس، وقد سُبي أهلونا واولادنا وأُخذت أموالُنا، فقال عليه الصلاة والسلام: اختروا إما ذراريكم ونساءَكم، واما أموالكم، قالوا ما نعدل الأحساب شيئا، فرد ذراريهم ونساءهم» .(2/128)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
النجس: القذر. ويكون حسّياً، ومعنويا العيْلة: الفقر والنجاسة هنا معنوية، فان جسم الانسان لا ينجس مهما كانت عقيدته.
في هذه الآية القولُ الفصلُ بشأن المشركين، وأنهم منوعون من دخول الحرَم. يا أيها المؤمنون، إنما المشركون بسبب شِركهم بالله وعبادةٍ الاوثان، قد نَجِست نفوسُهم، وهم ضالون في العقيدة، فلا تمكّنوهم من دخول المسجد الحرام بعد هذا العام.
وبلاد الاسلام في حق الكفار اقسام ثلاثة:
1- الحَرَم: ولا يجوز لكافر ان يدخله، بذلك قال معظم الائمة، وقال ابو ابو حنيفة: يجوز للمعاهِد ان يدخل الحرم بإذن الخليفة او نائبه.
2- الحجاز: يجوز للكافر دخولُها بإذن، ولكنه لا يقيم فيها اكثر من ثلاثة ايام. ففي حديث مسلم عن ابن عمر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاُخرجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب، فلا أتركُ فيها الا مسلما» . وقد اخرج مالك في الموطَّأ «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . وقد أجلاهم عُمَرُ في خلافته.
3- سائر بلاد الاسلام: ويجوز للكافر ان يقيم فيها بعهد وامان.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} .
وان خفتم فَقْراً بسب انقطاع تجارتهم عنكم، فإن الله سوف يُعوّضكم عن هذا، ويغنيكم من فضله إن شاء، فهو المتكفّل بأمر الرزق. وقد فتح الله عليهم الرزق من أبواب واسعة، فأسلم اهلُ اليمن وصاروا يجلبون الطعام. وأسلم أولئك المشركون، ولم يبقَ احدٌ منهم يُمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح الله عليم من البلاد، فكثرت الغنائم وتوجه اليهم الناس من كل فجّ.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بشئونكم، حيكم يدبر الأمر كله عن تقدير وحساب.(2/129)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يدينون دين الحق: يعتنقون الاسلام. الجزية: الضرية على الاشخاص لا على الأرض او التجارة او الماشية. وهم صاغرون: أذلاء، خاضعون عزير: هو الذي يسميه اهل الكتاب عزرا. يضاهئون: يشابهون ويحاكون. يؤفكون: يصرفون عن الحق الى الباطل. الاحبار: واحدهم حبر بفتح الحاء وكسرها، العلماء. البرهان: واحدهم راهب وهو المنقطع للعبادة نور الله: دين الاسلام.
بعد ان ذكر الله تعالى أحكام المشركين في إظهار البراءة من عهودهم، وفي وجوب مقاتَلَتِهم وإبعادِهم عن المسجد - جاء هنا بحُكم أهل الكتاب وبيان الغاية منه. وفي لك توطئةٌ للكلام عن غزوة تبوك والخروج إليها في زمن العُسرةِ وقتَ الحر الشديد في الصيف، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين. ثم بعد ذلك بيّن انحراف اليهود والنصارى عن دِينهم الاصلي، وأنهم اتّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون الله، وأنهم يسعون في إبطال الاسلام، وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسول الله وصحة دنيه.
{قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
يا إيها الذين آمنوا: قاتِلوا الكافرين من أهل الكتابا لذين لا يؤمنون إيماناً صحيحاً بالله، ولا يقرّون بالبعث والجزاء إقرارً صحيحاً، بل يقولون إن حياة الآخرة حياةٌ روحانية يكون فيها الناس كالملائكة. وهم لا يحرّمون ما نهى الله ورسوله عنه، ولا يعتنقون الدين الحق وهو الاسلام. . . قاتِلوهم حتى يؤمنوا، أو يؤدُّوهم الجِزيةَ خاضعين طائعين.
والجزيةُ ضرية مالية من أموال غير المسلمين المستظِلّين براية الاسلام، وهي مقدار يتراوح بين اثني عشر درهما، وثمانيةٍ واربعين. وذلك ليُسهوا في مزانية الدولة التي تحميهم في أنفسِهم وأموالهم وأعراضهم. فهي في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فالمسلم يُؤخَذ منه خُمس الغنائم، والزكاة، وصدّقة الفطر، وغير ذلك مثل الكفّارات للذنوب المختلفة. وتنفق الجزية في المصالح العامة، وعلى فقراء اهل الذمة ايضا.
وتفرض الجزية على أهل الكتاب، ولا تُفرض على المشركين. هكذا عند جمهور العلماء. ويقرر ابو حنيفة أنها تفرض على غير المسلمين جميعا، اما المشركون الذين لا تقبل منهم فهم مشركو العرب فقط.
وفيما يلي عهد كتبه احد امراء عمر بن الخطاب الى مَرزُبان واهل دهستان.
«هذا كتاب سويد بن مقرن لمزربان بن صول بن رزبان واهل دهستان وسائر اهل جرجان ان لكم الذمة وعليكم المنعة، على ان عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكن الامان على انفسكم واموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغير شيء من ذلك» .(2/130)
شهد بذلك سواد بن قطبة، وهند بن عمر، وسماك بن مخزمة وعتيبة بن النهاس.
{وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} .
ترك اليهودُ الوحدانية في عقيدتهم وقالوا: عُزيزٌ ابنُ الله، وترك النصارى الوحدانية كذلك فقالوا: المسيحُ ابن الله. وقولهم هذا مبتدَع من عندهم، يردّدونه بأفواههم، لم يأتِهم به كتاب ولا رسول، وليس عليه حُجّة ولا برهان. وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم.
عجباً لهم كيف يَضِلّون عن الحق الظاهر ويَعْدِلون الى الباطل! وقد تُستعمل جملة «قاتله الله» هذه بالمدح.
روى ابن اسحاق، وابن جرير وابن مَرْدَوَيْه عن ابن عباس رضي الله عنهـ قال: «اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بن مشكم ونعمان بن اوفى وابو انس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، وهم من رؤساء اليهود واحبارهم، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تكتَ قِبلتنا، وانت لا تزعم ان عُزَيْراً ابن الله» .
وعُزير هذا كاهن يهودي وكانت شهير سَكَنَ بابل حالي سنة 457 ق. م. أسَّس المجمع الكبير، وجمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرفَ الكِلدانية عوضاً عن العِبرية القديمة، وألّف أسفار الأَيام، وعِزرا، ونحِمْيا، وأحيا الشريعةَ اليهودية بعد ان نُسيت من أجْل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب (ابن الله) .
وأما النصارى فقد كان القدماء منهم يَعْنُون بقولهم عن المسيح انه «ابن الله» انه المحبوبُ او المكّرم، كما نقول نحن «الخلق عيال الله» وكان منهم موحِّدون. لكنهم في مَجْمَع نيقية سنة 325م وتحت إشراف الملك قسطنطين، قرروا عقيدةَ التثليث، واعتمدوا الأناجيلَ الاربعة، واحرقوا ما عداها وكانت تزيد على سبعين انجيلا. وقد خالف في ذلك خلقٌ كثير منهم يُسَمَّون الموحِّدين او العقليين لكمن الكنائس الكاثوليكية والارثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدُّ بنصرانيهتم ولا بدِينهم، مع ان رسالة المسيح ثابتة في اناجيلهم. ففي انجيل يوحنا: «وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك، أنتَ الالهُ الحقيقي وحدّك، ويسوع المسيحُ الذي ارسلتَه» .
قراءات:
قرأ: «عزير» بالتنوين عاصم والكسائي. والباقون: «عزير» بترك التنوين. وقرأ عاصم: «يضاهئون» بالهمزة والباقون: «يضاهون» بغير همزة.
{اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ} .
لقد اتخذوا رجالَ دِينهم ارباباً، يشرّعون لهم، ويكوِّن كلامهم دينا، ولو كان يخالق قولَ رسولهم، فاتّبعوهم في باطِلهم، وأضافوا الى الشرائع ما سمِعوه من رؤسائهم واقوال أحبارهم من قبلِ ان يدونّوه في المِشنَة والتلمود، ثم دونوه، فكان هو الشرعَ العام وعليه العملُ، وهو مقدَّم عندهم على التوراة.
وانظروا النصارى باتّخاذهم المسيحَ ربّاً وإلهاً، لقد غيرّ رؤساؤهم جميع الاحكام التي جاء بها المسيح، وزادواحقَّ مغفرةِ الذنوب لمن شاؤا، والله تعالى يقول:(2/131)
{وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] وزادوا القولَ بِعصمة البابا في تفسيرِ الكتب الالهية، ووجوبِ طاعته في كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات.
روى الامام أحمد والترمذي وابن جرير عن عَدِيّ بن حاتم انه فرّ الى الشام (وكان قد تنصَّر في الجاهلية) فذهبت أخته بعد ان اسلمتْ ورغَبته في الاسلام والقدوم على رسول الله، فقدم المدينة، وكان رئيسا في قومه، فدخل على رسول الله وهو يقرأ «اتّخَذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون الله» ، قال عدي فقلت: إنهم لم يعبُدوهم فقال: «بلَى إنهم حَرّموا عليهم الحلالَ وأحَلّوا الحرام فاتّبعوهم، فذلك عبادتُهم إياهم» .
وقال رسول الله: يا عديّ ما تقول؟ ايضرُّك ان يُقال اللهُ اكبر؟ فهل تعلم شيئا اكبرُ من الله؟ وما يضرك ان يقال لا إله الا الله، فهل تعلم إلهاً غيرا لله؟ ثم دعاه الى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق، قال فلقد رأيتُ وجهه استبشر «.
{أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وقد أمَرَهم الله في كُتبه على لسان رُسله ان لا يعبدوا الا إلهاً واحدا، لأنه لم يستق العبادة في حكم الشرع والعقل الا الإله الواحد. تنزه الله عن الإشراك في العبادة والخَلْق والصفات.
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} .
يريد الكفار بمزاعمهم الباطلة ان يطفئوا نورَ الله وهو الاسلام، ولا يريدُ الله إلا ان يتم نورَه على الناس بإظهار دينه على يد خاتم النبيّن محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ارسله الى الخلق اجمعين. هذا هو الوعدُ الحق من الله تعالى، والدال على سنّته التي لاتتبدّل.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} .
هو الله الذ كَفَل إتمامَ نوره بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالحجج البينّات، ودينِ الاسلام ليُعليَ هذا الدينَ ويرفع شأنه على جميع الأديان ولو كره ذلك المشركون. ولقد تحقَّقَ هذا الوعدُ على يد رسول الله وخلفائه ومن جاء بعدهم، ونشروا نور الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. لقد دام هذا النور فترةً طويلة من الزمن، ثم تخلّى اصحابُ هذا الدين عنه خطو خطوة. غير أن حالنا المؤلم ليس نهاية المطاف. . . ان وعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل راية الاسلام التي لا تُهزم، ولن يُخلِف الله وعدَه.
روى الامام احمد عن عدي بن حاتمك دخلتُ على رسول الله، فقال:» يا عدي أسلمْ: قلت: إني من أهل دين. قال: انا أعلمُ بِدِينكم منك. .(2/132)
ألستَ من الركوسية: (دين بين الصائبة والنصرانية) وانت تأكل المرباع (والمرباع ما كان يأخذه رئيسُ القوم من الغنائم، وهو من عادات الجاهلية) ؟ قلت: بلى قال: فإن هذا لا يحلُّ لك في دينك. قال عدي: فتواضعتُ لَمّا قالها. . . . . فقال: أتعرف الحِيرةَ يا عدي؟ قلت: لم أرها، ولكن سمعتُ بها. قال: فوالذي نفسي بيده ليُتِمنَّ الله هذا الدين حتى تخرجَ الظعينةُ من الحِيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوارِ احد، لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز. قلت: كنوز كسرى بن عرمز، وليبذلن المال حتى لا يعيله احد «.
قال عدي بعد ذلك: فهذه الظعينةُ تخرج من الحيرة فتطوف بالتبيت من غير جوار احد، ولقد كنتُ في مَنْ فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة. يعني كثرة المال.
فوعدُ الله حق، والله يقول: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 8] .(2/133)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
يأكلون اموال الناس: يأخذونها بغير حق وبطرقٍ غير مشروعة. يصدون عن سبيل الله: يمنعون الناس عن معرفة الحقيقة. يكنزون الذهب والفضة: يخزنونها.
بعد ان بين الله تعالى في الآيات السالفة كيف بدّل اليهود والنصارى ديانتهم واتّخذوا أحبارَهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، بيّن هنا سيرةَ كثيرٍ من هؤلاء الرؤساء الدينّيين في معاملاتهم مع الناس، ثم أوعدَ الباخِلين الذين يكنزون الذهب والفضة في خزائنهم ولا ينفقون منها في سبيل البر والخير- واعَدَهم بالعذاب الأليم في نار جهنم.
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} .
يا ايها المؤمنون: اعملوا أن كثيراً من علماء اليهودِ ورهبان النصارى يستحلُّون أكْلَ أموال الناس بغير حق، ويستغلّون ثقة الناس فيهم واتّباعَهم فلم في كلّ ما يقولون، ويصدّون الناسَ عن الدخول في الاسلام، ويَحْمِلونهم على الطعن فيه بما يبثّونه من تعاليم تخالف الواقع.
وقوله تعالى: «ان كثيراً من الأحبار والرهبان» فيه دِقة واحتراز، فإن بينهم من لا يأكلُ أموال الناس ولا بدّ من أفرادٍ في أية جماعة من الناس فيهم بقيةُ خير.
وأخذُ اوال الناس بغير حقٍّ شرعيّ له طرق عديدة، منها الرشوة لأجل الحكم والمساعدة على إبطال حق او إحقاق باطل. وهي حرام على كلّ من أخذَها سواء اكان من الرؤساء الدينيّين أو من الموظفين والحكّام. . .
وكذلك الرّبا، فإنه من اكبر الفواحش. ومنها أخذُ المال جُعلا على مغفرةِ الذنوب، ومنها أخذُ الأموال على الفتاوى لتحليلِ الحرام وتحريم الحلال. وهذا من أشدّ الذنوب واكبر الكبائر، كما قال تعالى مخاطبا اليهود: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] .
{والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
والذين يجمعون الأموالَ من جميع أصنافها ويكنزونها في خزائنهم، ولا ينفقون منها في سبيل الله بأن يُخرجوا زكاتها، ويتصدّقوا منها لبناء المدارس والمتشفيات، ودور الأيتام والدفاع عن الوطن والعقيدة - فهؤلاء أنذِرْهم ايها الرسول الكريم بعذابٍ موجع.
وقد ورت عدة روايات عن الصحابة والعلماء المجتهدين أن المال الذي تؤذّى زكاتُه ليس بكنز، وهذا صحيح. ولكن هناك واجباتٍ أُخرى تستلزمها الضروةُ فيجب على اصحاب الاموال ان يشاركوا فيها مثل الجهاد بناء المدار والمساجد والمصحّات وغير ذلك، والذي يدخلُ تحت قوله تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] .
{يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} .
يؤتى بهؤلاء الناس يوم القيامة ويوقَدُ على هذه الأموال في نار جهنم ثم تُحرق بتلك الاموال المحْمَاة جباهُ أصحابها، وجنوبُهم وظهروهم، ويقال توبيخاً لهم: هذا ما ادّخرتموه لأنفسكم ولم تؤدوا منه حقَّ الله.(2/134)
ان ما كنتم تظنّونه من منفعةٍ في كنزه لأنفسِكم قد كان لكم ضُرّاً، فقد صار في الدنيا لِغَيركم، وعذابُه في الآخرة لكم، فذوقوا اليوم العذاب الشديد.
ومن أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي ناره في مجتمعاتنا العربية والإسلامية البخلُ والشحّ المستولي على ارباب الاموال فهم لا يبخلون على شهواتهم بانفاق الملايين، أما حين تُطلب منهم الحقوق الواجبة من اجل الدفاع عن الاوطان وصد المعتدين - فإنهم لا يؤدون ما يجب عليهم.
وقد وردت عدة روايات في نزول الآية، منها حديثُ أبي ذرّ الذي أخرجه البخاري وغيره، قال زيد بن وهب، ابو سلميان الجهني، وهو تابعي ثقة: ممرت بأبي ذرٍ بالرَّبَذَة (موضع بين مكة والمدينة) فقلت: يا ابا ذر، ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: كنت بالشام فقرأت (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب، فقلت: إنها فينا وفيهم. فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبيه، فكتب اليَّ عثمانُ أن أَقبلْ إليّ. فلما قدمت المدينة انحرف عني الناسُ كأنهم لم يروني من قبل. فشكوت الى عثمان، فقال: تنحَّ قريبا. فقلت: اني واللهِ لم أدَع ما كنت اقول «وكان يندّد باصحاب الاموال، ويخوّف الناسَ من جمع الأموال وخزنها، وكان يحدِّث الناس ويقول لهم: لا يبتن عند أحدِكم دينارٌ ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله او يعدّه لغيرم الخ. . .
وأخرج أبو داود والحاكم وابن ابي شَيبة وغيرهم عن ابن عباس: قال:» لما نزلت هذه الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة) كَبُرَ ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع احدٌ منا أن لا يُبقي لِولِده مالاً بعده، فقال عمر: انا أفرَج عنكم، فانطلق وتبعه ثَوْبان، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: با نبيّ الله، إنه قد كبر على اصحابك هذه الآية. فقال: ان الله لم يفرض الزكاةَ الا ليطيِّبَ بها ما بقي من اموالكم، وانما فُرضت المواريثُ عن أموالٍ تبقى بعكم، فكبَّر عمر رضي الله عنهـ «يعني من فرط سروره. وذلك يعني ان المال الذي أخرجت زكاته ليس بكنز.(2/135)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
الشهور: واحدها شهر هو جزء من السنة القمرية يقدر بدورة القمر حول الأرض، ويسمى الشهرَ القمري، ويكون 29 يوما، وثلاثين يوما. منها اربعة حرم: جمع حرام، وهي من الحرمة بمعنى التعظيم. القيم: الصحيح المستقيم النسيء: التأخير، تأخير حمة شهر الى شهر آخر كان العرب في الجاهلية يؤخرون شهراً الى شهر آخر فكانوا مثلا يؤخرون المحرَّم الى صفر، وهكذا وقد أبطله الاسلام.
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله. . .} .
ان عدد الشهور في السنة القمرية اثنا عشر شهرا في حكم الله وتقديره، وفيما بيّنه في كُتبه منذ بدء العالم، ومن هذه الاثني عشر شهراً اربعةُ أشهرٍ محرّمة معظّمة يحرم فيها القتال، وهي: رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم.
{ذلك الدين القيم} .
والتحريم للأشهر الاربعة المذكورة هو دينُ الله المستقيم، الذي لاتبديل فيه ولا تغيير، فلا تظلِموا أنفسَكم في هذه الأشهر باستحلال القتال فيها، او امتناعكم عنه اذا هاجمكم الأعداء. قاتِلوا أيها المؤمنون كلَّ من يقالتكم من المشركين جميعا، ولو كان ذلك في الأشهر الحرم. وذلك لأنهم انما يقاتلونكم لاطفاء نور الاسلام، فأنتم أَولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هي العليا.
{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} .
ينصركم ويعينهم ويوفقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم. ومن كان الله معه فهو المنصور بلا جدال.
وقت وقَّت الله بالأشهر القمرية لأنها هي الاشهر الجارية على سنن الطبيعة لا زيادة ولا نقصان، ولتدورَ المناسكُ على جميع فصول السنة.
{إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} .
ورثت العربُ من ملّة إبراهيم وإسماعيل تحريمَ القتال في الاشهر الحرم لتأمين الحجّ وطُرُقه. ولما طال عليهم الأمد غيّروا وبدّلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر، اذا كان يشِقُّ عليهم تركُ القتال وشنّ الغارات مدة ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا يحلُّون شهر المحرَّم ويؤخرون تحريمه إلى صَفَرَ لتبقى الأشهر الحُرُم اربعة.
وقال ابن كثير: انما كانت الاشهر المحرمة اربعة: ثلاثة سَرْد متوالية، وواحد فَرْدٌ وهو رَجَب، وذلك لأجل اداء المناسك، فحُرِّم قبلَ أشهرِ لاحج شهرٌ وهو ذو القعدة لأنهم يقعُدون فيه عن القتال، وحُرّم ذي الحجةلأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداءِ المناسك. وحُرّم بعده شهر آخر هو المحرَّم ليرجِعوا فيه الى أقصى بلادِهم آمنين. وحرم رجَبُ في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعمار به، لمن يَقْدَم اليه من أقصى الجزيرة فيزوره ثم يعود الى وطنه فيه آمنا.
قال ابن اسحاق: كان اولَ من نَسأَ الشهور على العربِ، فأحلَّ منها مان حرّم اللهُ، وحرَم منا ما أحلّ الله عز وجل - «القَلَمَّس» وهو حُذَيفة بن فقيم الكِناني، ثم قام بعده أولاده واحفاده بذلك.(2/136)
وكان آخرَهم جُنادةُ بن عوف، أبو ثمامة، وعليه قام الاسلام.
فكانت العرب اذا فرغت من حجّها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيباً فحرَّم رجَباً وذا القعدة وذا الحجة ويُحِلَّ المحرّم عاماً ويجعل مكانه (صَفَرا) ويحرّمه عاما ليواطئ عدةَ ما حرّم الله، فحيلّ ما حرّم الله، ويحرّم ما أحلّ الله.
ومعنى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر. . . الآية} .
إن تأخير هذه الأشهر الحُرُم او بعضِها مما رتّبها الله عليه (كما كان يفعل اهل الجاهلية) هو إمعانٌ في الكفر، به يزداد الذين كفروا ضلالاً فوق ضلالهم، وذلك لجعلهم الشهر الحرام حلالا. لقد زيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم بهذه الشُّبهة الباطلة، واللهُ لا يهدي القوم الضالين المصرّين على كفرهم الى طريق الخير.
قراءات:
قرأ نافع برواية ورش: انما النسيُّ، والباقون: «النسيء» بالهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «يُضَلُّ» بضم الياء وفتح الضاد، وقرأ يعقوب: «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد. والباقون: «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد.(2/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
انفروا في سبيل الله: أقدموا على الجهاد وأسرعوا في الخروج اليه. اثاقلتم: تباطأتم. في الغار: الغار هنا هو غار ثور الذي لجأ اليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ابو بكر رضي الله عنهـ يوم الهجر. سكينته: سكون النفس وطمأنينتها.
الكلام من هنا الى أواخر السورة في غزوة تبوك، وما لابسَها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الايمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق. وهناك بعض الأحكام تخلّلت الآيات جرياً على سُنة القرآن في أسلوبه الحكيم.
ومناسبة الآيات لِما بلها ان الكلام السابق كان في حُكْم مشاكلِ اليهود، وبيانِ حقيقة أحوالِهم المنحرفة، وبيانِ بعض عقائد العرب في الجاهلية وإبطالها.
والكلام هنا في غزوة تبوك، ومواجهة الروم ومن يشايعهم من عرب الشام، وجميعهم نصارى. وكانت المعركة في رجبَ، سنةَ تسعٍ للهجرة، المصادف لشهر تشرين الثاني.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة، ودمشق، تبعد عن المدينة حوالي 600 كيلو متر، وعن دمشق حوالى 700 كيلوا متر.
كان مُلك الروم يشمل بلاد الشام، وسمعوا بقوة الإسلام، فخاف ملكهم هِرقْل على دولته. لذلك بادر الى جمع الجيوش ليهاجم المسلمين في دراهم. وقد نقل هذه الاخبار عددٌ من التجار الآتين من بلاد الشام، فنذب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستنفرهم الى قتال الروم. وتجهّز المسلمون حتى اجتمع جيشٌ كبير بلغ ثلاثين الفا. وقد تبارى المسلمون في البذل والعطاء، فدفع عثمان بن عفان رضي الله عنهـ الف دينار، وجاء أبو بكر بكل ما يملك، وجاء عمر بنِصف ما يملك، وتطوع الناس بقد ما يستطيعون.
كان الوقت في أواخر الصيف والحر الشديد، والسفر طويل وشاق، ولذلك سُميت غزوة العُسْرة. كانت الثمار قد طابت بعد نضجها، والناس يحبّون المقام لجمع ثمارهم، ويكرهون الشخوص آنذاك، ومن هنا تخلّف المنافقون وتعّللوا بشتى المعاذير. وكان بينهم اربعة من كبار الصحابة هم: كعب بن مالك، وهلال بن امية، ومرارة بن الربيع، وابو خيثمة، وجاء أبو خيثمة الى داره فوجد زوجتَيه قد مهّدتا له الفراش، وهيّأتا له كل سبيل للراحة، فلما وجد كل هذه الرفاهية في منزله قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، وفي ماله مقيم! ما هذا بالنَصف. ثم هيّأ نفسه ولحق بالرسول وجيشه.
وسأتي خبر إخوانه الثلاثة الذين خُلّفوا فيما بعد.
ومضى الجيش حتى وصل تبوك ولم يلقَ حربا، وقد عقدت صلحاً مع حاكم تبوك وبعض حاميات الحدود، وعاد الرسول وجيشه الى المدينة. واستغرقت هذه الرحلة نحو عشرين يوما.
{ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} .(2/138)
يا أيها المؤمنون، ما لَكُم حِينما نَدَبكم الرسولُ الى الجهاد في سبيل الله تباطَأَ بعضُكم عن الخروج، وأخلّدوا للراحة واللذة!
وكان من أسباب تثاقُلهم ما روى ابن جرير عن مجاهِد قال: اُمِروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حُنين وبعد الطائف، اُمروا بالنفير في الصيف حين اخْتُرِفَت النخل (قُطفت) وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم الخروج، فقالوا: منا الثقيلُ وذو الحاجة والشغل، والمنتشِر به أمْرُه في ذلك كله.
{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} .
هل آثرتم لذّات الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الكاملة، ونعيمها الدائم!؟ ما ها الذي تتمتعون به في الدنيا وما لذائذها المشوبة بالمنغّصات إلا تافهاً أمام متاع الآخرة العريض! انه لايرضى به عاقل ولن يقبله.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعلُ إصبعَه هذه في اليمّ، فلينظْر بِمَ ترجع- واشار بالسبّابة» .
{إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} .
إن لم تستجيبوا للرسول، فتخرجُوا للجهاد يعذّبكم الله عذاباً أليما في الدنيا يهلككم به، ويستبدل بكم قوماً آخرين، يطيعونه ولا يتخلّفون عن الجهاد. إنكم لا تضرون الله بهذا التخلف شيئا.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قادر لا يُعجزه عقابكم ولا نُصره دِينه بغيركم: كما قال تعالى {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] .
ثم بعد ذلك رغّبهم في الجهاد وبيَّن لهم أنه تعالى هو الذي ينصر نبيّه على أعداء دينه، سواء أعانوه ام لم يفعلوا، وهو سبحانه قد فعل ذلك والرسول في قلّة من العدد، والعُدوُّ في كثرة، فيكف واصحباه الآن كثيرون، والعدوُّ قليل!! .
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} .
ان لم تنصروا رسولَ الله فإن الله كفيلٌ بذلك. فلقد أيَده ونَصره حين أجمعَ كفّرا قريش على قتله، واضطروه الى الخروج من مكة مهاجراً، وليس معه الا أبو بكر ثاني اثنين في الغار. والغارُ هو غار ثَوْر على ساعةٍ من مكة الى جهة اليَمَن. وقد مكثا فيه ثلاث ليالٍ، وبينما هما في الغار اقتفى اثرهما نفر من المشركين، فخاف ابو بكر على حياة الرسول، فقال له رسول الله: لا تحزن إن الله معنا، ولن يصلوا الينا.
روى الامام أحمد البخاري ومسلم عن أنَس قال: «حدثني ابو بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فنظرتُ الى أقومِ المشركين، وهم على رؤسنا فقلت: يا رسولَ الله، لو ان أحدَهم نَظَر الى قدميه لأَبصرَنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثُهما»
{فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} .
عند ذلك انزل الله الطمأنينة على رسوله، وأيّده بجنوه عنده لا يعلمهم إلا هو سبحانه، انتهى الأمرُ بأن جعَلَ كلمةَ الشِرك وشوكتَهم هي السفلى، وكلمةُ الله وهي دينه، هي العليا بظهور نور الاسلام.
{والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
والله متّصفٌ بالعِزة لا يُقهر، حكيم إذ يضع الأمورَ في مواضعِها. توقد اقتضت حكمتُه ان ينصر نبيه بعزّتهن ويُظهر دينه على جميع الأديان.
قراءات:
قرأ يعقوب «وكلمة الله» بالنصب، والباقون بالرفع.(2/139)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
خفافا: جمع خفيف والمراد النشاط والسرعة في الحركة ومن يستطيع التأهب بيسر. ثقالا: جمع ثقيل وهو كل من وجد صعوبة في السفر والتأهب اليه بمشقة. اي انفروا على كل حال. لو كان عرضا قريبا: كل ما يعرض للانسان مما فيه منفعة يحصل عليها بسهولة. وسفراً قاصدا: هينا لا مشقة. الشقة: الطريق التي فيها تعب وعناء.
بد ان توعدّ من لم ينفِروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم، جاء بأمر حازم لا هوادةَ فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذرَ لأحدٍ التي في التخلّف وتركِ الطاعة.
{انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} .
أيها المؤمنون. إذا دعى داعي الجهاد فلبُّوا النداء، وانفِروا على كل حال، من يُسرٍ او عسرِ، او صحة او مرض. فعندما يعتدي عدوّ على بلد من بلاد الاسلام يجب الجهادُ على كل فرد قادر ولو بمشقّة، فاذا أُعِلن النفِيرُ العام وجَبَ الامتثال إلا في حال العجزِ التام، وهو ما بيّنه الله تعالى بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] .
وجاهِدوا أعداءكم الذين يقاتلونكم ويعتدون على بلادِكم. . . بأموالكم وأنفسكم، فمن استطاع الجهادَ بماله وبنفسه وجب ذلك عليه، ومن قَدَر على أحدهما وجبَ عليه ما كان في مقدرته والآن بماله وبنفسه وجب ذلك عليه، ومن قَدَر على أحدهما وجبَ عليه ما كان في مقدرته. والآن، والعدو يحتلّ جزاءا غالياً من بلادنا المقدسة هو فلسطين، فإن الجهاد واجب بالمال والنفس على كل مُسلمٍ وعربيّ في جميع بلاد الإسلام، وكل من يتخلّف فهو آثم ومقصِّر، وخارج عن طاعة اللهِ ورسوله. وقد قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنهـ: «ما تكتْ أمةٌ الجهادَ إلا وقَرَنَها الله بالذلّ» .
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
إنَّ الذي أُمرتم به من النفير العام والجهاد في سبيل الله- هو الوسيلةُ في حِفظِ كيان الأمة وعلو كلمتها. وهو خير لكم في دِينكم ودُنياكم. . . أما في الدين فلا سعادة الا لمن ينصر الحقَّ ويُقيم العدل. وأما في الدنيا فلا عزّ لأمةٍ إى بالقوة، فهي وسيلة لدفع العدوّ وكبحِ جماحه. وقد علم فضلَ ذلك أسلافنا من المؤمنين الصادقين فامتثلوا واهتدوا ففتحوا البلادَ واسدوا العباد.
قال القرطبي عند تفسير هذ الآية: «قال ابن العربي: ولقد نَزلَ بنا العدوُّ - قصمه الله- سنة سبعٍ وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارَنا وأسَرَ خِيرتنا، وتوسّط بلادنا في عدد هالَ الناسَ عددُه، فقلت للوالي عليه: هذا عدوُّ الله قد حَصَل في الشَرَك والشبكة، فلتكنْ عندكم بَرَكة، ولتظهرْ منكم إلى نُصرة الدين المتعيِّنةِ عليكم حَرَكة، فليخرجْ إليه جميع الناسِ حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيُحاط به، فإنه هالك لا محالةَ ان يسَّركم الله له.(2/140)
فغَلبت الذنوبُ ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل واحدٍ من الناس ثعلباً يأوي الى وِجَارِه وان رأى المكيدةَ بِجارِه، فإنا لله وإنّا إليه راجعون «. الوجار: حُجر الثعلب.
اليس هذا ينطبق علينا اليوم في موقفنا من اليهود!! نحن أكثرُ منهم عددا، وأغنى ثروةً، وأقوى، ولدينا كل الإمكانات لنحاربَهم ونسترد بلادنا منهم، ولكن غلبت الذنوبُ ورجفت القلوب بالمعاصي. . .
ولما أمَرَهم بالنَّفْر تخلَّف بعض المافقين لأعذار ضعيفة، وتخلّف بعضُ المؤمنين فأنزل الله تعالى قوله:
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
بعد ان رغَّبهم في الجهاد، وبيّن أن فريقاً منهم تباطأوا وتثاقلوا - بيَّنَ هنا أن فريقاً منهُم تخلّفوا، رغم كل ما تقدم من الوعيد، وجعلوا ينتحِلون الأعذار، ليستأذنوا الرسول في التخلُّف، فندّد بهم في تخلُّفهم من متابعة الرسول في الجهاد، فقال: لو كان في ما دعوتَهم اليه منفعةق من منافع الدنيا قريبةُ المنال ليس في الوصول إليها كبيرُ عَناء، أو لو كان سَفَراً هيّنا لا تعبَ فيه - لاتبعوك ايها الرسول، ولكنك استنفرتهم الى بلدٍ بعيد وشقّ عليهم السفر، في ذلك الوقت من الحر والقيظ. وسيحلِفون لك أنهم لو استطاعوا لخَرجوا معك. إنهم بهذا النفاق يُهلكون أنفسَهم، واللهُ لا يخفى عليه حالُهم، ويعلم أنهم كاذبون.
ثم عاتب الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في إذْنه لمن تخلّف عنه من المنافقين فقال:
{عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} .
لقد عفا الله عنك ايها الرسول في إذْنِك لهؤلاء المنافقين بالتخلّف عن الجهاد قبل أن تتبيذن أمْرضهم، وتعلم الصادقَ من أعذارهم ان كان، كما تعرِف الكاذبين منهم في ادّاعئهم الإيمان.(2/141)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
العدة: الأهبة والاستعداد. انبعاثهم: خروجهم: فثبطهم: أوهن عزمهم وعوّقهم. الخبال: الاضطراب في الرأي لأوضعوا خلالكم: لاسرعوا بينكم. يبغونكم الفتنة: يريدن لكم التشكيك في الدين والتخويف من الاعداء. وقلبوا لك الامور: دبروا لك المكايد من كل وجه.
كانت هذه الآيات أول ما نزلَ من القرآن في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، وقد رويَ عن ابن عباس انه قال: لم يكنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة. والمراد انه لم يكن يعرفهم كلَّهم ويعرف شئونَهم بهذا التفصيل حتى نزلت، ولذلك كان من أسمائها «الفاضحة» ، لأنها فَضَحت احوال المنافقين.
لا يتسأذنك الّذين يؤمنون باللهِ واليوم الآخر أن يجاهِدوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله، فالمؤمنُ الصادقُ الإيمان يجيب داعيَ الله ورسولهِ حالا، ولا يستأذن في الجهاد، لأن صِدق إيمان هؤلاء يحّبب إليهم الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى:
{إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون} [الحجرات: 15] .
{والله عَلِيمٌ بالمتقين} .
والله يعلم صدق نيات المؤمنين المتقين.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .
انا يستأذنك في التخلّف عن الجهاد من غير عذرٍ أولئك الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله ولا بالحسابِ في اليوم الآخر، فهؤلاء قد ارتابت قلبوبُهم فهم يعيشون في حَيرةٍ من أمرهم، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة هرباً من القيام بالواجب.
{وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} .
لو صدقتْ نيّة المنافقين في الخروج مع الرسول للجهاد، لأخذوا أهبةَ الحرب واستعدوا لها، وقد كانوا مستطيعين ذلك، لكنّ الله كَرِةَ خروجَهم، لِعلْمه أنهم لو خَرجوا معكُم لكانوا عليكم لا لكم، فعوَّقهم الله عن الخروج بما امتلأت به قلوبهم من النفاق، وقيلَ لهم اقعُدوا مع القاعدين، من الاطفال والعجزة. هذا مكانكم اللائق بكم، لما لكم من الهمم الساقطة، والقلوب المرتابة.
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفتنة وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} .
بعد ان بين الله ان استئذانهم في التخلف عن القتال انما كان سَتراً لنفاقهم، زاد في البيان هنا بيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم، وهي افساد النظام والاضطراب في الرأي، وتفريق الكلمة بالسعي بين المسلمين بالنميمة، وبخاصة ان هناك اناساً من ضعفاء الايمان يسمعون لهم ام يقولون، ويقبلون قولهم.
ولو خرجوا معكم الى الجهاد ما زادوكم قوة ومنعة بل اضطراباً في الرأي وضعفا في القتال، ولاسرعوا في الدخول فيما بينكن ليُشيعوا الفتنة فيكم، ويفرقوا كلمتكم وتثبيط هممكم، وفيكم ناس بسطاءمن ضعفاء الايمان ممن يجهلون خبث نياتهم، ويمكن ان يُخدّعوا بكلامهم، والله عليم بهؤلاء المنافقين الذين يظلمون انفسهم اضمروه من الفساد.
{لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ} .
ولقد سبق ان سعى هؤلاء المنافقون بالفتنة فيما بينكم، ودبروا لك - ايها الرسول- المكايد من كل الوجوه، فأحبط الله تدبيرهم، وحقق لك النصر المبين، وظهر أمرالله، فاظهر دينه على الرغم منهم.(2/142)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
هذه الآيات سيقت لبيان اقوالٍ قالها المنافقون، بعضُها قِيلتْ جهراً، وبعضها أكنُّوه في انفسهم.
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} .
من المنافقين أُناس يستأذنونك في التخلّف عن القتال حتى لا يفتَتِنوا بنساء الروم. «روي عن مجاهد وابن عباس انها نزلت في الجدّ بن قيس من بين سَلِمة، وكان من أشراف بين سلمة، فقد قال للرسول الكريم: أئذنْ لي يا رسولَ الله في القعود، فإن أخشى على نفسي إنْ أنا رأيتُ نساء بني الأصفر (يعني الروم) ، أن أفتتنِ. فقال الرسول وهو معرِضٌ عنه: قد أدنتُ لك» .
{أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} .
فليْعلموا أنهم بمقالتهم هذه قَد سَقطوا وأوقعوا أنفسَهم في معصية الله.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} .
وان نار جهنم لمحيطةٌ بهم في اليوم الآخر.
روى يعقوب بن سفيان في تاريخه وابو الشيخ في الأمثال: ان رسول الله قال لبني سَلِمة من الانصار: من سيِّدُكم يا بني سلمة؟ قالوا: الجدّ بن قيس، على بخلٍ فيه. فقال رسول الله: وأيُّ داءٍ أدْوَأُ من البُخل؟ ولكن سيّدكم الفتى الجَعْدُ الأبيض، بِشرُ بن البُراء ابن معرور. وفي الفائق في غريب الحديث للزمخشري: بلى سيدكم عمرو بن الجموح والجعد الكريم الجواد. واذا قيل جعد اليدين وجهد البنان فمعناه: البخيل اللئيم.
ثم بين الله تعالى عداوةَ المنافقين، زيادةً في تشهيرِ مساوئهم بقوله:
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} .
ان هؤلاء المنافقين لا يريدون لك أيها الرسول ولأصحابك الا المكارِه، فيتألّمون إذا نالكم خيرٌ من نصرٍ أو غنيمة.
{وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} .
ويفرحون إذا اصابكم مكروه م جِراح او قتل او هزيمة، ويقولون شامتين: قد أخذْنا حِذْرَنا بالقعود، إذ تخلّفنا عن القتال ولم نُلقِ بأيدينا الى الهلاك. ثم ينصرفون مسرورين.
روى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جَعل المنافقون الذين تخلّفوا في المدينة عن غزوة تبوك يُشيعون أخبارَ السُّوء عن النبي وأصحابه، ويقولون إنهم جَهدوا في سفرهم وهلكوا، فتبيَّنَ بعد ذلك كِذْبُهم وسلامةُ النبيّ واصحابه فساءهم ذلك، فأنزل الله تعالى: {إِن تُصِبْك. . . . الآية} .
ثم أرشد الله تعالى الى جوبهم بُبطلان ما بَنَوْا عليه مسرَّتَهم بقوله:
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} .
قل ايها الرسول لأولئك المنافقين الذين فرِحوا بمُصابِك وساءتْهُم نعموُ الله عليك: لن ينالَنا في ديانا من الخير او الشرّ إلى ما قدّره الله علينا، فنحن راضون بقضائه.
{هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} .
هو ناصُرنا ومتولِّي أُمورِنا، ونحن نلجأُ إليه ونتوكل عليه، وعليه وحده يعتمد المؤمنون الصادقون. فالمسلم الصادق يبذل جهده ويظلّ متوكلا على الله.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} .
إن أمْرَ المؤمنِ كلّه خيرٌ، سواء نالَ النصرَ او الشهادة، أما الكافر فأمْرثه كله شَرّ، سواء أصابه عذابُ الله المباشر او على أيدي المؤمنين.
قل لهم أيها الرسول: لن ينالنا الا أحدُ أمرين، وكلاهما خير، إما النصرُ والغنيمة في الدنيا، وإما الشهادة في سبيل الله والجنةُ في الآخرة.
ونحن نتربَّص بكم ان يُوقع الله بكم عذاباً من عندِه يُهلككم به، او يعذبكم بالذلَّة على أيدِينا فانتظِروا أَمْرَ الله، ونحنُ منتظِرون.(2/143)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
طوعا: باردتهم. كرها: من غير ارادتهم. تزهق انفهسم: تخرج بصعوبة. يَفرقون: يخافون بشدة. ملجأ: مكان يتحصنون به. مغارات: جمع مغارة، معروفة. مدخلا: سربا في الارض يدخله الانسان بدة. يجمعون: يسرعون اسرعا لا يردهم شيء. يقال جمع الرجل: ركب هواه فلا يرده شيء.
{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} .
بعد ان بيّن الله تعالى أعذار المنافقين الكاذبة، تعللاتِهم الباطلةَ في التخلُّفِ عن الجهاد، وما يجول في نفوسِهم من كراهتهم للرسول اصحابه، وأنهم يتربَّصون بهم الدوائر- بيَّن هنا أنّ بعضَ هؤلاء المتربِّصين من المنافقين قد عَرَضَ ماله، وهو يعتذر عنه الجهاد، فردَّ الله عليهم مناورتهم، وكلّف رسوله ان يعلن ان إنفاقَهم غيرُ مقبولٍ عند الله قل ايها الرسول للمنافقين: أنفِقوا ما شِئتُم طائعينَ او مُكْرَهين فلن يتقبل الله عملّكم الذي أحبطَهُ نفاقُكم، لأنكم قومٌ فاسقون خارِجون من دائرة الايمان.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِه} . وما ِمنع اللهَ من قبول نفقاتِهم إلا كُفرهم بالله، وكفرهم برسوله وما جاء به من الهدى.
{وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
ولا يصلُّون إلا رياءً وتِقِيَّة، لا إيماناً بوجُوبها. فهم يؤدّونها غير مُقْلِلين عليها، سَتْراً لِنفاقهم، ويؤدونها متثاقلين كسالى لا تنشرح لها نفوسُهم ولا تنشَط لها أبدانهم، ولا يُنفقون أموالهم في مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك.
هذه صورة المنافقين في كل آن، خوفٌ ومدارارة، وقلبٌ منحرف، وضمير مدخول، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} «سورة الفتح» .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي «وما منعهم ان يقبل منهم نفقاتهم» بالياء.
{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} .
فلا تعجبْك ايها الرسول اموالُهم ولا أولادهم وما هم فيه من نِعم وخيرات، فان الله تعالى جعلَ هذه الاموالَ حسراتٍ عليهم، لأنهم لا ينتفِقعوا بها في الحياة الدنيا، ولن يؤْجَروا عليها في الآخرة. اما الأولاد فإنهم اعتنقوا الاسلامَ وأخلَصوا له، فكان ذلك أشدَّ حسرةً على آبائهم، ولا شيء أشدُّ على الوالد من ان يكون ولده على غير دينه. وكان عبد الله بن عبد الله ابن أُبَيّ من اكبر المسلمين المتحمسين للاسلام، وقد عرض على الرسول الكريم ان يَقتُلَ أباه، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى: انما يريدُ الله ليعذِّبَهم بها في الحياةِ الدنيا.
{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
وتخرج أرواحُهم بصعوبة وشدة حين يموتون على الكفر فيعذّبهم اللهُ كفرِهم في الآخرة كما عذّبَهم بأموالِهم وأولادهم في الدنيا.
وبعد ان بين الله حالة المنافقين وفضحَهم بأنهم يُظهرون غير ما يضمرون، ذكر هنا غلوَّهم في النفاق، فقال:
{وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .(2/144)
يُقسم هؤلاء المنافقون كَذِباً بأنهم مؤمنون مثلكم وأنهم منكم، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين بالله، وليسوا منكم، لكنّهم قومٌ يخافونكم، مما يدفعهم الى النفاق.
لقد ملأ الرعب قلوبهم، فلا يدرون ماذا يفعلون، واين يتوجهون او يختبئون؟ وهذا ما تعبر عنهم الآية الكريمة الآتية:
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} .
وانهم لشدة كرههم للقتال معكم، ولبغضهم معاشرتكم، ولشدة جبنهم وخوفهم من ظهور نفاقهم لكم- يتمنون الفرار منكم والعيش في اي مكان يعتصمون به، فهم تطلقعون أبداً الى مخبأ يجمعهم، ويأمنون فيه، وليكن حصناً او مفاغرة او رسدابا ضيقا. انهم مذعورون يطاردهم الفزغ الداخلي والجبن الروحي، ولذلك يحلفون بالله إنهم منكم، ليتقوا انكشاف طويتهم، ولكن الله لا يخفى عليه شيء.(2/145)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
يلمزك: يعيبك ويطعن بك في وجهك. حسبنا الله: يكفينا الله. الى الله راغبون: محبّون ضارعون.
{وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
لا يزال الحديث في مساوئ المنافقين. فبعض هؤلاء المنافقين يعيبك أيها الرسول، ويطعن عليك في قِسمة الصدَقات والغنائم. اذ يزعمون أنك تُحابي فيها. . تؤتي من تشاء من الأقارب، واهلِ المودّة، ولا تراعي العدْل، فإن أعطيتَهُم ما يرغبون رضوا عن عملِك وإلا فإنهم يَسْخَطون ويغضبون.
روى البخاري ومسلم عن ابي سعيد الخدري قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسِم مالاً إذ جاءه حرقوص بن زهير ذو الخُويصِرةَ التميميّ، فقال: اعدِلْ يا رسول الله فقال: ويلَك، ومن يعدِل اذا لم أعدِلْ!؟ فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: دعني يا رسول الله أضرِب عنقه، فقال رسول الله: دعه» الحديث.
وهناك عدة روايات تدل على ان اشخاصاً من المنافقين قالوا ذلك لأنّهم لم يأخذوا من الصدقات، فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم يبين الله تعالى ما هو الألْيَقُ بالانسان، وهو الرضا بِقِسمة الله ورسوله، والقناعةُ والاكتفاء بالله، والرجاء في فضله، فقال:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} .
ولو ان هؤلاء المنافقين الذين عابوك في قِسمة الصدَقات، رضوا بما قَسَمَ اللهُ لهم، وهو ما اعطاهم رسول الله، وطابت نفوسهم به- وان قَلَّ - وقالوا: كفنا حُكم الله، وسيرزقُنا من فضله، لأن فضلَه لا ينقطع، ورسولُه لا يبخَس أحداً وإنّا إلى طاعة الله وإحسانه راغبون، لو فعلوا ذلك- لكان خيراًلهم من الطمع.
والخلاصة: انهم لو رضوا من الله بنِعمته، ومن الرسول بقِسمته، لكان في ذلك الخير كل الخير لهم.
قراءات:
قرا يعقوب: «يلمزك» بضم الياء وقرأ ابن كثير: «يلامزك» .(2/146)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
الصدقات: الزكاة المفروضة. الفقراء: هم الذين لا يجدون كفايتهم. المساكين: الذين لا يجدون كفايتهم ولا يستطيعون العمل العاملين عليها: كل من يعمل على تحصيل المال. المؤلفة قلوبهم: هو الذين يراد استمالتهم الى الاسلام. وفي الرقاب: عتق العبيد والغارمين: الذين عليم دين لا يستطيعون تأديته. وفي سبيل الله: الجهاد، وكل عمل في الصالح العام، وابن السبيل: هو المنقطع عن بلده في سفر ولم يبق معه مال يوصله الى بلده.
بعد ان بيّن اللهُ الأدبَ اللائق في حقّ اللهِ والرسول، وأن الصدقاتِ فرضها الله ثم أمر الرسولَ الكريم بقسمتها، عدّد الذين يستحقّون الزكاة المفروضة. وهؤلاء هم المحتاجون لها حقيقة.
{إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ} .
لا تصرف الزكاة المفروضة إلا للفقراء الذين لا يجِدون ما يكفيهم «والمساكين» وهم اسوأ حالاً من الفقراء، لقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] {والعاملين عَلَيْهَا} الذين يجمَعونها من جُباة او موظفين وغيرهم.
روى أحدم والشيخان عن ابن السعدي المالكي قال: استعمَلَني عُمَرُ على الصدقة، فلما غرغتُ منها وأدّيتُها اليه امر لي بِعُمالةٍ، فقلت: إنما عَمِلتُ لله، فقال: خذْ ما أُعطِيتَ فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني عمالة، فقلتُ مثلَ قولك، فقال رسول الله: «إذا أُعطيتَ شيئاً من غيرِ أن تسألَ فكُلْ وتصدَّق» .
{والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} وهم قومٌ يراد استمالتُهم إلى الاسلام وترغيبهم فيه.
{وَفِي الرقاب} تُدفع الزكاة من أجل عِتْقِ العبيد، وهذا غير موجود اليوم.
{والغارمين} وهم الّذين عَلْيهِم دُيون وعجَزوا عن وفائها، تُدفع لهم الزكاة ليوفوا ديونهم.
{وَفِي سَبِيلِ الله} في تزويد المجاهدين في سبيل الله، وفي كل عمل ينفع المسلمين في مصالحهم العامة.
{وابن السبيل} وهو المسافر الذي انقطعَ عن بلدِه، فيعطَى ما يستعين به على العَودة الى بلده، ولو كان غنيا.
{فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
شرع الله ذلك فريةً منه لمصلحة عباده، وهو عليم بمصالح خلْقه، ومقدار حاجاتهم، حكيم فيما يشرعّه لهم.
والزكاة مفصّلأة في كتب الفقه: تدفع بنسبة العُشْر من الزرع الذي يُسقى بماء السماء، ونصف العشر من الزرع الذي يسقيه صاحبُه ويكلّفه ذلك نفقةَ، وعن الاموال ربع العشر مقيّما اثنين ونصفاً بالمئة. وكل من عنده نحو عشرين دينار فائضه عن نفقته ودَينه يدفع الزكاة.(2/147)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
اذن: يسمع كل ما يقال ويصدقه. اذن خير: يسمع الصدق ولا يخدع بالباطل. يؤمن للمؤمنين: يصدقهم لما يعلم فيهم من الاخلاص والايمان الصادق.
لا يزال الحديث في المنافقين ومداوراتهم، وما كانوا يفعلون من توجيه الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد رودت عدة روايات في هذا الموضع عن ابن اسحاق وابن المنذر وغيرهم. من ذلك ان رجلا من المنافقين اسمُه: نبتل بن الحارث، كان يأتي الرسول الكريم فيجلس اليه فسمع منه ثم ينقل حديثه الى المنافقين. وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذُنٌ، مَنْ حدّثَه شيئا صَدّقه.
وكذلك روي ان جماعة من المنافقين منهم جلاس بن سويد بن الصامت، ومخشي بن حِمْير، وديعة بن ثابت- اجتمعوا فأرادوا ان يقعوا في النبي الكريم. فنهى بعضهم بعضا، وقالوا: نخاف ان يبلغ محمدا فيقع بكم. فقال بعضه انما محمد أُذُونٌ نَحْلِفُ له فيصدّقنا. . . فنزل قوله تعالى:
{وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ومن المنافقين جماعة يتعمّدون إيذاء النبيّ، فيتّهمونه بأنه يسمعُ من كّلِ أحدٍ ما يقوله ويصدِّقه، وانه يُخْدع بما يَسْمَع، فقل لهم ايها الرسول: إن من تتناولونه بهذه التُّهمة ليس كما زعمتم، بل هو أُذُن خير لكم لا يَسْمع الا الصِدق، ولا يُخدع بالباطل، ويصدِّق بالله وبما يوحي اليه، ويصدِّق المؤمنين، لانه يعمل ان إيمانهم يمنعُهم من الكذب. وهو رحمةٌ للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا، اما الذين يؤذون الرسول بالقولِ او بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد.
وقد صار هذا القول عن بعض المنافقين لأن النبي الكريم كان لا يواجهُهم بسوء، ويعاملهم بكل سماحة، ويهَشّ لم ويستقبلهم، فظنّوا أنه ينخدِع بهم، وتنطلي عليه حيلُهم ونفاقهم.
قراءات:
قرأ نافع: «أذن» باسكان الذال، والباقون «اذن» بضم الذال، وقرأ حمزة: «ورحمة» بالجر عطفا على «خير» والباقون: «رحمة» بالضم.
{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} .
الخِطابُ للنبي والمؤمنين: يحلِفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل عنهم لترضوا عنهم وتقبلوا معاذيرهم، واللهُ والرسول أحقُّ بالحِرص على رضائهما، ان كانوا مؤمنين كما يدّعون.
روى ابن المنذر عن قتادة قال: ذُكر لنا ان رجلاَ من المنافقين قال شأن المتخلفين عن غزوة تبوك: والله إن هؤلاء لَخيارُنا وأشرافُنا، وإن كان ما يقول محمدٌ حقاً لهُم شَرُّ من الحُمُر. فسمعها رجل من المسلمين فقال: واللهِ ان ما يقول محمدٌ لحقّ، ولأنت شرُّ من الحمار. وجاء وأخبر النبيَّ بذلك، فأرسل الى الرجل فدعاه فقال له: ما حَمَلَكَ على الذين قلت؟ فجعل يلعن نفسضه ويحلِف بالله ما قال ذلك. وجعل الرجلُ المسلمُ يقول: اللهمَّ صدِّق الصادقَ، وكذِّب الكاذبَ. فأنزل الله {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} .
{أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم} .
ألم يعملم هؤلاء المنافقون ان من يكفر باللهِ وعيادي اللهَ ورسولَه جزاؤه العذابُ الأليم في جهنم يوم القيامة، وأن ذلك هو الذلّ والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خِزي في الحياة الدنيا.(2/148)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
مخرج ما تحذرون: مظهرٌ ما تخافون. كنا نخوض ونلعب: الخوض في الشيء الدخول فيه، وكَثُرَ استعماله في الباطل.
{يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} .
يخشى المنافقون ان تنزل سورةٌ فيهم على النبيّ تُخبر يُخفون في قلوبهم، ويُسِرُّونه بينهم. إنهم يحذّرون ان تنزلَ سورةٌ في شأنهم وبيان حالهم فتكون في ذلك فَضيحتُهم وكشفُ عوارتِهم وإنذارُ ما يترتب عليه من عقابهم. قل لهم أيّها الرسول: استهزِئوا ما شئتم، فان الله سيُظهرُ ما تخشَون ظهوهرَه بما يفضحكم به.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} .
إنك ايها الرسول ان سألتَ هؤلاء المنافقين عن أقوالهم هذه، وسببِ طَعْنِهم في الدين واستهزائِهم بالله وآياته، اعتذَروا بقولهم كنّا نخوض في الحديث ونلهو.؟
أخرج ابنُ المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ عن قتادة قال: «بينما رسول الله في غزوة تبوك، إذ نظر الى أناس يقولون:» أيرجو هذا الرجلُ ان يتُفْتَحَ له قصورُ الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلَع اللهُ نبيّه على ذلك، فقال: احبِسوا على هؤلاء الرَّكب «بمعنى أوقفهم فاهم، فقال: قلتم كذا وقلتم كذا قالوا: يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب» . فأنزل الله تعالى فيهم.
{قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} .
ألم تجدوا ما تستهزئون به في خَوْضِكم ولعبكم إلا الله وآياتِه ورسولَه!! ، هل ضاقت سبُل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا.
{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} .
لا تعتذروا بهذه الأعذار الباطلة، قد ظَهَرَ كُفرهم بعد ادّعائكم الإيمان، فان نعفُ عن طائفةٍ منكن لأنهم تابوا وآمنوا وصدَقَت توبتُهم، فسنعدّب طائفةً اخرى منكنم بسبب إصرارِهم على الكفر والنفاق، وإجرامهم في حقّ الرسول والمؤمنين.(2/149)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
المنكر: كل ما تستنكره الفطرة السليمة وستقبحه الشرع، وضده المعروف. نسوا الله فنسيهم: تركوا طاعة الله فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب. بخلاقهم: بنصيبهم خضتم: دخلتم في الباطل. حبطت اعمالهم: فسدت وذهبت. اصحاب مدْين: قوم شُعيب المؤتمفكات: قوم لوط.
{المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} .
ان اهل النفاق، رجالاً ونساءً، يتشابهون في صفِاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، فهم يفعلون القبيح ويأمرون به، كالكذِب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد. وفيه الحديث الصحيح عن ابي هريرة: «آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كَذَب، واذا وعد أخلَف، واذا ائتِمُنَ خان» رواه البخاري ومسلم.
وينهَون عن المعروف كالجِهاد في سبيل الله وبذْلِ المال، وهو الذي عبَّر عنه بقوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي يبخلون في بذْل المال في سبيل الله.
{نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
تركوا طاعةَ الله وخالفوا أوامره فجازاهم الله تعالى بحِرمانهم من رحمته ونسِيَهم، فلا وزنَ لهم ولا اعتبار. إنّهم خارجون عن الايمان، منحروف عن الصراط المستقيم، ولذلك وعدهم الله مصيراً كمصير الكفار، وبيَّن ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاءً لهم فقال:
{وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .
وعد الله هؤلاء جميعاً نارَ جهنّم يدخلونها ويَصْلَونها خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا، وهي حسبُهم عِقابا، وعليهِم مع هذا العقاب غضبُ الله وعذابه الدائم.
ثم بعد ذلك يذكِّر الله تعالى هؤلاء القومَ بما كان من أسلافهم، ويبصِّرُهم بأنهم يسلكون طريقَهم، ويحذّرهم أن يُلاقوا مصيرَهم، لعلّهم يهتدون فيقوله:
{كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} .
إنكم أيها المنافقون كأولئك المناقين الذين خَلَوْا من قبلِكم، فإنهم كانوا أقوى منكم واكثّر اموالاً واولاداً، وقد اسمتَعوا بما قُدِّرَ لهم من حظوظ الدنيا، وأعرضوا عن ذِكر الله وتقواه، وقابلوا أنبياءَهم بالاستخفافِ وسخِروا منهم فيما بينم وبين أنفسِهم. وقد استمتعتُم أنتم بما قُدر لكم من ملاذّ الدنيا، وحَذَوْتم حذوهم ودخلتم في البالطل كما دخلوا، وخضتم فيما خاضوا فيه، وسلكتم سبيلَهم في طريق الضلال.
{أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} .
إن أولئك المستمتعين بملذّاتهم في الدنيا، والخائضين في الباطل، بَطَلَت أعمالهم بطلانا أساسا، فل تنفعْهم في الدنيا ولا في الآخرة، وخسروا كل شيء وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل.
ثم شاء ان ينبّههم ويحذرهم من سوء عاقبة اعمالهم، فاتجه من خطابهم الى خطاب عام، كأنما يَعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين، لعلّهم يعتبرون بالذين خلّوا من قبلهم، ويتّعِظون بهم، فيقول:
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ والمؤتفكات أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .(2/150)
أفلا يعتبر المنافقون والكافرون بحال الذين سبقوهم ممن ساروا في نفس الطريق الخاطئة، عَصَوا رسُلَهم وخالفوا أمر ربهم فأّخذهم العذاب!! ومن هؤلاء «قوم نوح» وقد غمرهم الطوفان وأغرقهم، وقوم «عاد» وقد أُهلِكوا بريحٍ صَرْصر عاتيه، و «ثمود» وقد أخذتْهم الصحيةُ، و «قوم ابراهيم» وقد أهلَك الله طاغيتَه المتجبّر الذي حاول إحراق ابرهيم، «واصحاب مدين» وقد اصابتهم الرجفةُ وخنقتْهم الظُلّة، «والمؤتفكات» قرى قوم لوط، وقد جعل الله عاليَها سافلَها وقطَع دابرَهم. ألم يأتِهم نبأ هؤلاء الذين «أتتهم رسُلُهم بالبينات» فكذّبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم!! ، لقد ظلموا انفسَهم بكفرهم وتمرّدهم على الله، وإن كثيراً ممن سبتليهم الله بالقوة والنِعمة لتغشَى ابصارَهم وبصائرهم غشاوة، فلا يُبصرون مصارع الاقوياء قبلهم.(2/151)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
جنات عدن: جنات الخلود. رضوان من الله: رضى من الله.
بعد ان ذكرا لله تعالى افعال المافقين وصفاتِهم المنكرة، وذكر ما أعدَّه لهم من العذاب في الدنيا والآخرة - بيّنَ لنا صفة المؤمنين والمؤمنات، الصادقين في في ايمانهم، الذين هُدُوا الى الطّيب من القول، وساروا على الصراط المستقيم.
{والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} .
إنهم نصراء بعضٍ يتّجهون بهذه الوَلاية الى الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، لتحقيق الخير ودفع الشر، مع التضامن والتعاون إلاعلاء كملة الله. وهم «يقيمون الصلاة» في اوقاتها، وهي الصلة التي تربطهم بالله، «ويؤتون الزكاة» تلك الفريضة العظيمة التي تربط بين جماعة المسلمين، وتحقّفِ الصورة الماديّة والروحية للولاية والتضامن، «ويطيعون اللهَ ورسولَه» بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
ماذا اعد الله لِلذين يتّصفون بهذه الصفات السامية؟
{أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} .
ان الله يتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة.
فهذه الصفات الأربع في المؤمنين: الأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر، واقامة الصلاة، وايتاء الزكاة - تقابلُ من صفاتِ المنافقين: الأمرَ بالمنكر، والنهيَ عن المعروف، ونسيانَ الله، وقبضَ الأيديد، وصفات المؤمنين هي التي وعدهم اللهُ عليها بالنصر والتمكين في الأرض، {الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وبعد ان بيّن رحمتَه للمؤمنين ونصره لهم إجمالاً بيّن ثانيةً ما وعدّهم به من الجزاء المفسِّر لرحته تفصيلاً فقال:
{وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} .
لقد وعدهم اللهُ الجنةَ خالدين في نعيمها، وأعدَّ لهم مساكنَ تَطيبُ بها نفوسُهم في دار الاقامة والخلود. ولهم فوقها ما هو اكبر واعظم.
{وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} .
وإن الجنةَ لك ما فيها من نعيم لَتتضاءل أمام ذلك الرضوان الكريم.
{ذلك هُوَ الفوز العظيم} .
وذلك الوعدُ بالنعميم الجسمانّي والروحاني هو الفوزُ العظيم الذي يُجزى به المؤمنون المخلصون.(2/152)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
الغلظة: الخشونة والشدة في المعاملة. وهموا بما لم ينالوا: ارادوا ان يعملوا شيئا لم يستطيعوا. وما نقموا: ما انكروا وعابوا.
بعد ان بيّن صفاتِ المؤمنين الصادقين، وصفةَ المنافقين الذين يدّعون الإيمان، اعاد الكرّة الى تهديد المنافقين وإنذارِهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفره، فان هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد اسلامهم، وهموا بأم خيَّبهم الله فيه.
{ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} .
يا ايها النبيّ ثابرْ على جهادِك في رَدْع الكفار عن كفرهم، والمنافقين عن نفاقهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُلاينُ المنافقين، ويصفح عنهم كثيرا. لكن هذا كله لم يجد معهم، فأمره الله تعالى ان يعاملَهم بالشدّة والغِلظة لعلا تربيّيهم وتردعهم، أما مآلُهم الذي أعدّه الله لهم في الآخرة فهو جنهم وبئس المصير.
ثم ذكر الله سبحانه الجرائم الموجبةَ لجهادهم كالكفّار، وهي أنهم أظهروا الكفرَ بالقول وهموا بشرِّ ما يُغري به من الفعل، وهو الفتكُ برسول الله وهو عائد من تبوك. فقد تآمر بعض منهم على ان يفتكوا به عند عَقَبةٍ في الطريق، لكنه تنبّه وأخذَ الحَيْطة ونجّاه الله منهم.
{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} .
يحلف المنافقون أمامك يا محمد بالله أنهم ما قالوا منكَراً مما بلغَك عنهم، لكنهم كاذبون في الإنكار، فقد قالوا كلمةَ الكفر التي رويتْ عنهم، وظهر كفرهم بعد ان كانوا يتظاهرون بالاسلام. بل إنهم همّوا بما لم ينالوا.
وهذا ما رواه كثير من أئمة الحديث، أنهم أرادوا ان يغتالوا رسول الله ف منصرَفَه من تبوك عند العقبة على الطريق، وقد احتاط الرسولُ لذلك وأمر عمّار بن ياسر وحُذَيفة بن اليمان ان يكونا معه حتى اجتاز المكان. ولما غِشِيَه المتآمرون كانا منتبهَين فنجا رسول الله. وقد عرفهم حذيفة، وكانوا اثني عشر رجلاً كما في صحيح مسلم. وحاول بعض الصحابة ان يقتلهم فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لا اريد ان يتحدّث الناس بأن محمداً قتل أصحابه» .
{وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} .
ما كان سبب نقمتهم على الرسول الا بَطَراً بالنعمة، بعد ان أغناهم الله ورسوله بما حَصلوا عليه من الغنائم التي شاركوا فيها المسلمين.
{فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة} .
فان يرجعوا الى الله بِتَرْكِ النفاق والندمٍ على ما كان منهم يَقْبَلِ اللهُ توبتهم، ويكون ذلك خيراً لهم، وان يُعرضوا عن الإيمان يعذّبهم الله في الدنيا بمختلف ألوان البلاء، وفي الآخرة بنار جهنم.
{وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
وليس في الأرض من يدافع عنهم او يشفع لهم وينصرهم.(2/153)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
أعقبهم: أورثهم ونجواهم: كلامهم الخفي.
تُعتبر هذه الآياتُ بياناً لحال طائفة اخرى من المنافقين: أغناهم اللهُ بعد فقرٍ، فلما كثر مالُهم وأصبحوا من الأغنياء كفرو النعممة وهضَموا الحقوق.
{وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} .
ومن المنافقين نَفَرٌ أعطى اللهَ عهدَه وميثاقه لئن آتاه مالاً وثروة لشكرنّ الله على نعمته بالصَدَقة، وليعلمنَّ عمل أهل الصلاح من صِلة الرَّحْم والإنفاق في سبيل الله.
{فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} .
فلما استجاب الله لهم، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، بخلوا بما أُوتوا وأمسكوه، فلم يتصدّقوا منه بشيء وانصرفوا عن الخير، وهم معرضون عنه وعن الله.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} .
كانت عاقبةُ بُخلِهم أن تمكَّنَ النفاقُ في قلوبهم الى ان يموتوا ويلقوا الله يوم الحساب.
ثم ذكر سببين هما من أخصّ أوصاف المنافقين: إخلافُ الوعد والكذِب فقال:
{بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} .
ذلك بسبب نقضِهم لعهدهم وكِذْبِهم في يمينهم.
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} .
الم يعملوا - وهم يدَّعون الإيمان - أن الله مطَّلِعٌ على السرائر، لا يخفى عليه ما يُضمِرونه في السر من نقض العهد، وما يتناجَوْن به في الخفاء من الطعن في الدين وتدبير المكايد للمسلمين! وان الله يعلم الغيوب كلَّها لا يخفى عليه شيء في هذا الكون.
وقد وردت عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات. «روى ان جرير ان ثَعلبةَ بن حاطِبٍ الأنصاري قال لرسول الله: ادعُ الله أن يرزقَني مالا، فقال له رسول الله:» ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شُكرَه خيرٌ من كثيرٍ لا تُطيقه «.
فراجعه مرة اخرى وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فدعا له فاخذ غنماً، فمنت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة. فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة. فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثُرَ ماله حتى لا يَسَعُه واد، فقال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسلو الله مصدقين لاخذ الصدقات فاستقبلها الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي، فلما جرعا اخبرا رسول الله بما قال ثعلبة، فقال: ويح ثعلبة، فانزل الله تعالى:» ومنهم من عاهد الله لئن آتاهم من فضله لنصدقن. . . «فسمع بذلك ثعلبة فجاء بالصدقة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ان الله منعني ان اقبل منك صدقتك. فجعل يحثوا على رأسه التراب. وقبض رسول الهل فجاء أبا بكر الصديق فلم يقبلها، ثم جاء عمر فلم يقبلها، وجاء عثمان فمل يقبلها رضي الله عنهم، وهلك في خلافه عثمان» .
وهذه الصورة من البشر موجودة في كل زمان ومكان، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الصوليون.(2/154)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
يلزمون: يعيبون. المطوعين: المتطوعين وهم الذين يؤدون ما يزيد على الفريضة. جهدهم: طاقتهم.
بعد ان ذَكر الله بُخلَ المافقين وشُحَّهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا على ان يتصدّقوا اذا رَزقَهم من فضله، عَرَضَ هنا لوناً آخر من رأي المنافقين في الزكاة، وكشَفَ عن الغمز واللّمزِ النابعَين عن طبعهم المنحرف.
{الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} .
من نقائص هؤلاء المنافقين علاوة على بُخلم أنهم يَعيبون على الموسِرين من المؤنين تصدُّقَهم على المحتاجين.
روى ابن جرير عن عكرمة قال: «حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء عبدُ الرحمن ابن عوف بأربعة آلافٍ، وقال: يا رسول الله: مالي ثمانيةُ آلاف، جئتكم بنصفِها وامسكت نصفها. فقال:» باركَ الله لك فيما امسكتَ وفيما أعطيت «. وتصدق عاصِمُ بن عديّ بمائة وسَقْ وثلاثمائةٍ وعشرين رِطلاً من تمر، وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر، قال فلمزه المنافقون وقالوا: ما الذي أعطى ابنُ عوف إلا رياء. وقالوا: ألم يكنْ الله ورسوله غنيَّين عن صاع هذا!!؟»
{وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ولذلك يلمزون الذين لا يجِدون إلا طاقتَهم من فقراء المسملين، ويسخَرون منهم لأنهم تصدّقوا بالقليل الذي وجدوه وقَدَروا عليه، جازاهم الله على سخريتهم بما كشف من فضائحهم، وجعلَهم سخريةً للناس أجمعين، ولهم في الآخرة عذابٌ شديد.
ثم بيّن الله تعالى عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال:
{استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} .
لقد تقرر مصير هؤلاء المنافقين حتى إن الاستغفارَ لهم وطلبَ العفو عنهم لن يجدي، فسواءٌ ان تستغفر لهم أيها النبي ام لا، ومهما أكثرتَ من طلب المغفرة لهم، فلن يعفو الله عنهم، وهذا معنى «إن تستغفرْ لهم سبعين مرة فلن يغفرَ الله لهم» فالمراد كثرة الاستغفار لا العدَد المحدد.
{ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} .
ولقد كفر هؤلاء بالله ورسوله، فلا أملَ في العفو والمغفرة مع الكفر والاصرار عليه، واللهُ لا يهدي الخارجين عليه وعلى رسوله، أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعدْ تُرجى لهم توبة، وفسَدت قلوبُهم فلم يعدْ يُرجى لها صلاح.(2/155)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
خلاف رسول الله: بعده المخلَّفون: الذين تخلّفوا عن الغزو. مع الخالفين: المتخلفين.
بعد ان ذكر اللهُ بعض سيئات المنافقين من لمزِهم المسلمينَ في الصدقات وغيرِ ذلك- عادَ الى الحديث عن الذين تخلَّفوا عن القتال في غزوة تبوك، وإلى بيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع اليها.
{فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} .
لقد فرح المخلّفون من هؤلاء المنافقين بقعودهم في المدينة بعد خروج النبي، وبمخالفتِهم أمرَه بالجهاد، وكرِهوا ان يجاهدوا بأموالهم وأرواحهم في سبيل الله اعلاء كلمة الله ونصر دينه.
{وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} .
وكذلك أخذوا يثّبطون غيرَهم ويُغرونهم بالقعود معهم، وقالوا لإخوانهم في النفاق: لا تنفِروا في الحر. قل لهم أيها الرسول: لو كنتم تعقِلون لعلمتم أن نار جهنم أكثرُ حرارةً وأشدُّ قسوةً من هذا الحر الذي تخافون.
ثم اخبر تعالى عن عاجل أمرِهم وآجله من الضحك القليل والبكار الطويل التي تؤدي اليه أعمالُهم السيئة بقوله:
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
فليضحكوا فَرَحاً بالقعود، وسخريةً من المؤمنين. إن ضَحِكَهم زمنُه قليل، لانتهائه بانتهاء حياتِهم في الدنيا، وسيعقُبُه بكاءٌ كثير لا نهاية له في الآخرة، جزاءً لهم بما ارتكبوا من الاعمال السيئة.
ثم بين ما يجب ان يُعامَلوا به في الدنيا، وأنهم لا يصلُحون لكفاح، ولا يُرجَون لجهاد، ولا يجوز ان يُتسامع معهم.
{فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} .
إن ردك الله يا محمد من سفرِك هذا وجاءت إليك طائفة من المنافقين المتخلّفين عن الغزو، فاستأذنوك ليخرجوا معك للجهاد في غزوةٍ أخرى، فلا تأذنْ لهم، وقل لهم: لن تخرجوا معي أيّةٍ غزوةٍ للجهاد في سبيل الله، ولن تقاتِلوا معي عدوا.
ثم بيّن سبب النهي عن صحبتهم للرسول الكريم فقال:
{إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين} .
إنكم تخلّفتم عن الخروج للجاد في أولِ مرةٍ بدون سبب، ورضيتم لأنفسِكم، بخزي القعود، فاقعدوا كما ارتضَيتم، وابقوا مع المتخلفين من العجزة والنساء والاطفال.(2/156)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
الطول: الغنى والقوة. ذرنا اتركنا: الخوالف: كل من تخلف عن الجهاد. طبع على قلوبهم: ختم عليها.
بعد ان امر الله رسوله بفضح المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الجهاد، أمره ان لا يصلّي على من مات منهم، ولا يوليهم أيَّ تكريم، فهم لايستحقونه أبدا.
{وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
لا تُصَلِّ أيها الرسولُ عبد الآن في جنازة أحدٍ من هؤلاء المنافقين، ولا تتولّ دفنه، ولا تقُمْ عليه كما تفعل على قبور المؤمنين. وكان الرسول اذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وقال: «استغفِروا لأخيكم وسلو له التثبُّت فإنّه الآن يُسأل» . رواه ابو داود والحكم عن عثمان رضي الله عنهـ.
{إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
لأنهم كفروا وماتضوا وهم خارجون من حظيرة الاسلام.
«روى احمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد الله بن أُبّي، دُعي رسول الله للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قلت: أَتصلي على عدوّ الله، عبدِ الله بن أبّي القائل كذا وكذا؟ ورسولُ الله يبتسم. حتى اذا أكثرتُ قال: يا عمر، أخِّر عني. انّي قد خُيرت: قد قيل لي: استغفر لهم. . . الآية، فلو أعمل اني زدتُ على السبعين غُفر له لزدتُ عليها ثم صلى عليه ومشى معه حتنى قام على قبره الى ان فرغ منه. فعجبتُ لي ولجرأتي على رسول الله، فوا اللهِ ما كان الا يسيراً حتى نزلتْ هاتان الآياتان:» ولا تصلِّ على أحدٍ منهم ماتَ أبدا. . «فما صلى رسول الله على منافق بعده» .
وقد أنكر بعضُ العلماء هذا الحديث، وقالوا إنه مخالف للآية، وقد روي عن طريق ابن عمر وجابر بن عبد الله، ولا أرى في هذا الحديث ما يخالف الآية اذا كان الحديث من اسباب النزول. والحديث صحيح لا مجال للطعن فيه، والنبي انما صلى عليه من أجل ولدِه المؤمن الصحابيّ الجحليل، وكان هذا طلبَ من الرسول الكريم ان يصلّي على والده وقال له: يا رسول الله، إنك ان لم تأتِه نُعَيَّر به.
{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
تقدمت هذه الآية في نفس السورة رقم 55 وفيها زيادة (لا) وهي: «فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم الخ. . .» وقد أعاد الله تعالى هذه الآية تأكيداً للتحذير.
{وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} .
إذا أُنزلتْ سورة تدعو المنافقين الى الإخلاص في الإيمان بالله، وتأمرُ بالجهادِ في سبيل الله - جاء الأغنياءُ منهم والذين عندهم المقدرةُ يطلبون من الرسول الكريم ان يأذَنَ لهم في التخلّف، وقالوا: اتركْنا مع القاعدين في بيوتِهم.(2/157)
وذلك لجُبنِهم وبُخلهم في ان يجودوا بأموالهم وأنفسُهم في سبيل الله.
{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} .
انهم قد ارتضوا لأنفسِهم ان يكونوا في عِداد المتخلّفين من النساء والعجزة والاطفال ممّن لم يُكتب عليهم القتال، وخَتَم الله على قلوبهم بالخوف والنفاق، فهم لا يفقهون ما في الجهاد من عّزٍ في الدنيا ورضوانٍ من الله في الآخرة.
{لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وأولئك لَهُمُ الخيرات وأولئك هُمُ المفلحون} .
ان الرسول والذين آمنوا معه قد جاهدوا وبذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، اعلاء لكلمته، فلهؤلاء كل خيرٍ في الدنيا من العزّ والنصر والعمل الصالح، وهم الفائزون بسعاد الدنيا والآخرة.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذلك الفوز العظيم} .
قد هيأ الله لهم في الآخرة النعيمَ الدائم، في جناتٍ تتخلّلها الأنهار، وذلك هو النجاح الكبير. وهذا من أسلوب القرآن الحيكم يقابل الصور دائما ويبين السّيء من الحسن ليتعظ الناس بذلك.(2/158)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
المعذرون: المعتِذرين سواء كان العذر صحيحا ام غير صحيح الاعراب: سكان البادية نصحوا: اخلصوا.
{وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} .
كما تخلّف بعض المنافقين في المدينة عن الخروج للجهاد، جاء فريق من أهل البادية، ينتحلون الأعذارَ ليُؤذن لهم في التخلف، وقال بعضهم: يا نبي الله، إن غَزَوْنا معك أغارت طّيء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله: قد أنبأَني اللهُ من أخباركم وسسُغني الله عنكم.
{وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} .
وهؤلاء هم المنافقون. قعدوا عن كل من القتال والمجيء للاعتذار وتخلّفوا بلا عذرٍكاذبين على الله ورسوله.
{سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
سيكون جزاء الذين كفروا بكِذْبهم على اللهِ ورسولِه من المنافقين والكاذبين من المتعذرين، عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ يعقوب: «المعذرون» بسكون العين والذال المسكورة بدو تشديد.
وبعد ان بيّن الله تعالى أحوالَ المنافقين والكاذبين، وما ينتظرهم من عذاب، ذكر هنا ثلاثة أصناف أعذارُهم مقبولة، فالإسلام دين يُسْرٍ، ولا يكلّف الله نفساً الا وُسْعَها.
{لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} .
ان التكليف بالغزو ساقِط عن أصناف ثلاثة:
1- الضعفاء: وهم من لا قوّة لهم تمكّنهم من الجهاد كالشيوخ المتقدمين في السنّ، والعجَزة، والصبيان وذوي العاهات التي لاتزول.
2- المرضى: وهم من أُصيبوا بأمراض أقعدتهم فلا يتمكّنون معها من الجهاد، ونتهي عذرهم اذا شفاهم الله.
3- الفقراء الذين لا يجِدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا خرجوا للجهاد ولا ما يكفي عيالهم.
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلّةٍ في تكوينهم، أو شيخوخة تقعهدهم، ولا المرضى الذين لا يستطيعون الحركةَ والجُهد، ولا المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون منه - أيُّ حَرجٍ اذا تخلفوا عن المعركة، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله.
{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
ليس على المحسن في عمله وإيمانه أية مؤاخَذة ولا مسئولية، فالله كثيرُ المغفرة، واسع الرحمة يستر على المقصر في أداء واجبه ما جام مخلصة لله والرسول.
نزلت هذه الآية في ابن أُم مَكتوم، واختُلف في اسمه أهو: عبد الله أم عمرو بن قيس بن زائدة وكان هذا ضريراً جاء الى الى رسول الله فقال: يا نبيّ الله، إني شيخ ضرير ضعيف الحال وليس لي قائد، فهل لي رُخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبي الكريم فأنزل الله «ليس على الضعفاء ولا على المرضى. . . الآية» .
{وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} .(2/159)
كذلك لا حرج ولا مسؤولية على القادرين على الحرب، لكنّهم لا يجدون الرواحِلَ التي تحمِلُهم الى أرض المعركة، واذا جاؤك يطلبون منك العون لتؤمَِّ لهم ما يركبون لم تجد أنت أيضاً ما تحمِلُهم عليه، فانصرفوا من عندك وهم يبكون، لأنهم حُرموا من الجهاد ولم يجدوا ما يُعينهم عليه.
هؤلاء هم البكّاؤن نزلت فيهم الآية وهم سبعة أشخاص: عبد الرحمن بن كعب، وعليه بن زيد، وعمرو بن ثعلبة، وسالم بن عُبيد، ومَعْقل بن يَسار، وعبد الله بن عمرو بن عوف، وعبد الله بن مغفل. . . جاؤوا الى الرسول الكريم فقالوا: يا رسول الله، احمِلنا فانه ليس لنا ما نَخرج عليه، فقال: لا أجدُ ما أحملكم عليه.
وهناك روايات اخرى.
{إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
انما اللوم والمسؤولية على هؤلاء الذين يطلبون الإذنَ في القعود عن الجهاد، وهم أغنياء قادرون على الخروج معك، لكنهم مع قدرتهم رضوا بأن يقعدوا مع المخلفين من العجزة والمرضى. هؤلاء ختم اللهُ عل قلوبهم فأغِلقت عن الحق، فهم لا يعلمون حقيقة أمرِهم، ولا سوءَ عاقبتهم في الدنيا والآخرة.(2/160)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
عالم الغيب: كل ما غاب عنا علمه. والشهادة: ما نشهده ونعرفه. اذا انقلبتم اليهم: اذا رجعتم اليهم رجس: قذر يجب تجنبه.
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} .
سعيتذرُ إليكم أيها المؤمنون المجاهدون هؤلاء المتخلِّفون المقصّرون، عند رجوعكم من ميدان الجهاد.
{قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} .
قل لهم أيها الرسول: لا تعتذِروا، فإنّا لن نصدّقكم. ثم بيّن الله السببَ في عدمٍ تصديقهم فقال:
{قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} .
فالله قد كشف حقيقةَ نفوسِكم وأوحى الى نبيّه بعض أخباركم التي تُسِرّونها في ضمائركم.
{وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وسيرى اللهُ عملَكم ورسوله فيما بعد، ثم يكون مصيرُكم بعد الحياةِ الدنيا الى الله الذي يَعلم ما تكتُمون وما تُظهرون، فيُخبرك بما كنتم تعلمون، ويجازيكم عليه.
ثم أكد ما سبق من نفاهم بقوله:
{سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} .
سيؤكد لكم اعتذارَهم بما يحلِفون بالله لكم من الأيمان الكاذبة بأنهم صادقون في معاذيرِهم، إذا رجعتم من سفرِكم في غزوة تبوك، لكي يُرضوكم فَتغْفلوا عن علمهم. . . لا تحقِّقوا لهم هذا الغرض.
{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} .
فاجتنِبو وامقُتوهم.
روى مقاتل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال حين قدِم المدينة «اتُجالسوهم ولا تكلّموهم، إنهم رجس» فهم في أشد درجات الخبث النفسي والكفر.
{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
ومصيرهم إلى جهنم، عقاباً على ما اقترفوه من نفقا وكذب.
ثم ذاد في تأكيد نفاقهم فقال: «يحلِفون لكم لتَرضوا عنهم» أي إنهم سوف يحلفون لكم طمعاً في رضاكم عنهم، لتُعاملوهم معاملة المسلمين.
{فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} .
فان خُدعتم بأيمانهم ورضيتُم عنهم، فإن هذا لا ينفعُهم، لأن الله ساخطٌ علهيم لِفسْقِهم ونفاقهم، وخروجهم على الدين.
روي عن ابن عباس ان هذه الآيات نزلت في الجدّ بن قيس بن قشير واصحابه.
من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلاً امر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لَمّا رجعوا الى المدينة أن لا يجالسوهم لا يكلّموهم.
وهكذا قرر الله العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين، كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين، وبي اهل الكتاب والمسلمين، وكانت هذه السورة العظيمة هي الحكم النهائي الأخير.(2/161)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
الأعراب: سكان البادية من العرب. مَغرما: غرامة الدوائر: مفردها دائرة المصيبة. قربات: واحدها قربة، طلب الثواب، والكرامة من الله. صلوات من الرسول: دعوات منه.
كان يجاور المؤمنين السابقين المخلصين من المهاجرين والانصار، جماعاتٌ اخرى: الأعراب: وفيهم المخلِصون والمنافقون؛ والمنافقون من أهل المدينة، وقد كشفهم الله تعالى بهذه السورة المباركة؛ وآخرون خلطوا عملا صالحا ولآخر سيئا ولم ينصهِروا في بوتقة لاسلام تماما؛ وطائفة مجهولة الحال لا تُعرف حقيقة مصيرها، أمرُها متروك لله؛ ومتآمرون يتستّرون باسم الاسلام، ويدبّرون المكايدّ ويتَّصِلون بأعداء الاسلام في الخارج. والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الجماعات كلِّها باختاصر مفيد، ويقرر كيف يجب ان تُعامل هذه الجماعات.
وهو يقسِم الناسَ على أساس التقوى والإيما الخالص بالله والعملِ الصالح، فقد تحدّث عن أحال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، وبيّن في هذه الآيات الثلاثِ أحوالَ الأعراب مؤمنيهم ومنافقهم فقال:
{الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
الأعراب من أهل البادية اشدُّ ونفاقا من أمثالهم أهلِ الحضر، لأنهم يقضون جُلَّ أعمارهم في البادية يخدمون مواشيَهم وأنعامهم، بعيدين عن أهل العلم والحكمة. وهم حقيقون أن يجهَلوا حدودَ الله، وما أنزلَ على رسوله من شرائع واحكام، واللهُ عليم حكيم، واسعُ العلم بشئون عباده وأحوالهم، حيكم فيما يقدِّره من جزاء ومن نعيم.
وقد وردت أحاديث كثيرة تشير الى جَفاء الاعراب، وغِلْظَتِهم، وبُعدهم عن الآداب والمعرفة. قال ابن كثير في تفسيره: «جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، أحدِ التابعين العلماء الشجعان، وقد شهِد الفتوحَ وقُطعت يده في نَهاوَنْد، فقال له الاعرابي: واللهِ إن حديثك لَيُعجبني، وإن يَدك لتُريبني. فقال زيد: وما يريبك من يدي، إنها الشَّمال! فقال الاعرابي: واللهِ ما أدري اليمينَ يقطعون أو الشمال فقال زيد بن صوحان: صدق الله ورسوله: {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} .
وعن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من سكنَ الابديةَ جفا «وهناك روايات كثيرة تكشف عن طابَع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب حتى بعد الاسلام.
وبعد هذا الوصف العام للأعراب يقسِمهم القرآن قسمين فيقول تعالى:
{وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
هنا بدأ بذِكر المنافقين من الأعراب، لأن الحديث أصلاً كان من المنافقين عامة. ومعناه: ان بعض المنافقين من اهلا البادية يعتبرون الإنفاق في سبيل الله غرامةً وخسرانا، فالرجل منهم مضطر لأن ينفقِ من ماله في الزكاة وغيرها تظاهراً بالإسلام وهو كاره لذلك.
وهو لا يفعل حُبّاً في انصار الاسلام والمسلمين، وإنما ليستمتعَ بمزايا الحياة في المجتمع المسلم.(2/162)
ومثلُ هذا المنافق البدوي ينتظِر متى تدور الدوائر على المسلمين، فعليه وعلى أمثاله وحدهم ستحلّ دائرة السَّوء والمصيبة. ان الشر ينتظرونه لكم، أيها المسملون سيكون محيطاً بهم، فاللهُ سميع لما يقولون عنكم، عليمٌ بأفعالهم ونيّاتهم تجاهكم.
وبعد اؤلئك الأعراب المنافقين، يذكر الكتابُ حال المؤمنين الصادقين ممن خالطت قلوبهم بشاشةُ الإيمان:
{وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
أما المؤمنون بالله واليوم الآخر، والّذين يتخذون الانفاق في سبيل الله وسيلةً يتقربون بها إلى الله، وسبباً لدعاء الرسول لهم «اذ كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، وستغفر لهم» فإن ما ينفقونه في، الخير وصلوات الرسول عليهم- قُربةٌ عظيمة قد تقبّلها الله وأثاب عليها، وسيُدخلُهم في رحمته الواسعة، فهو وساع المغفرة لمن يخلصون في أعمالهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: «السوء» بضم السين. والباقون: «السوء» بفتح السين. وقرأ ورش واسماعيل عن نافع: «انها قربة» بضم القاف والراء والباقون: «قربة» باسكان الراء.(2/163)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
رضي الله عنهم: قبلِ طاعتهم. ورضوا عنه: بما افاض عليهم من نعمة. مَردوا على النفاق: بتوا عليه، واتقنوا اساليبه.
بعد تصنيف الأعراب الى مؤمنين ومنافقين، صنف الله تعالى المجتمع كله حاضِرَه وبادِيَة الى اربع طبقات:
الأولى: السابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان.
الثانية: المنافقون الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة والأعراب.
الثالثة: الذين خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا.
والرابعة: الذين ارجئ الحكم في أمرهم يقضي الله فيهم بقضائه.
{والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} .
هؤلاء هم الطبقة الأولى: السابقون من المهاجرين الذين لاقوا من الشدائد والعذاب والاضطهاد ما اضطرهم إلى الهجرة، والسابقون من الأنصار، الذي آووا الرسول ونصروه، والذين ابتعوهم بإحسان. هذه الطبقة بمجموعاتها الثلاث هم القاعدة الاساسية للمجتمع المسلم. هؤلاء جميعا رضي الله عنهم في ايمانهم وإسلامهم، فقبِلَ طاعتهم وسجيزيهم أحسنَ الجزاء، ورضوا عنه بالاطمئنان اليه، والثقة بقدَره.
ولذلك {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم} .
وها الوعدُ الكريم من رب العالمين هو الذي يستبشر به أولئك المسلمون. . إنه جنات تجري الأنهار تحت اشجارها، فينعمون فيها نعيماً أبديا، وأيّ فوز بعد هذا!!
ثم إنه يذكر حال الطبقة الثانية، وهم منافقو اهلِ المدينة ومن حولَها:
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} .
لقد سبق الحديثُ عن المنافقين عامة، لكن الحديث هنا عن صنف خاص منهم، حَذَقَ النفاقَ ومَرَنَ عليه، حتى لَيخفى امره على رسول الله مع كل فراسته وتجربته. والله تعالى يقرر ان هذ الفئة من الناس موجودةٌ في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة، ويُطمئن الرسولَ الكريم والمؤمنين معه، من كيدِ هذه الفئة الماكرة، وانه سيتولى أمرهم ولن يدعَهُم، بل سيعذّبهم عذاباً مضاعفا: مرتين في الدنيا، مرةً بنصر بالمسلمين على اعدائهم مما يغيظ أولئك المنافقين، ومرة بفضيحتهم وكشف نفاقهم. أما في الآخرة فسيَصْلَون عذاب جهنم وهولها الشديد.
وجملة القول ان المنافقين فريقان: فريق عُرفوا بأقوال قالوها، وأعمال عملوها. . . وهؤلاء مكشوفون معرفون، وفريق حذَقوا النفاق حذَقوا النفاق حتى لا يشعر احد بشيء يستنكره منهم.
وهذان الفريقان يوجَدان في كل عصر، والأمة مبتلاةٌ بهم في كل قطر، وهم يزعمون انهم يخدمون الأمة باسم الوطنية او اسم الدين، ويستغلّون مناصِبهم، ويجمعون الاموال لأنفسِهم. نسأل الله السلامة منهم.
{وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
هذه هي الطبقة الثالثة: هؤلاء من المؤمنين ليسوا منافقين، ولا من السابقين الأولين ولكنهم من الذين خَلطوا الصالحَ من العمل السيء منه، كالّذين تخلّفوا عن الخروج الى غزوة تبوك من غير عذر صحيح، ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين، ولم يعتذِروا بالكذب كالمنافقين.(2/164)
ومنهم ثلاثةٌ معرُوفون، هم أبو لُبابة بن عبد المنذر، وثعلبة بن وديعة، وأَوس ابن حذام، من الأنصار، تخلّفوا عن رسول الله في غزوة تبوك. فلما رجع من غزوته، ندموا على ما فعلوا وأوثقوا أنفسَهم في سواري المسجد. فلما مر بهم سأل عنهم فقالوا له تخلّفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسم ما ترى، وعاهدوا الله ان لا يُطلقوا انفسهم حتى تطلقهم انت فقال: وأنا لا أُطلقهم حتىأوَمَرَ بإطلاقهم. فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ. . . الآية} .
وهذا الصنف الناس كثير، فالانسانُ ضعيف والمغريات كثيرة، والنفس أمّارة بالسوء. ونحمد الله تعالى على أن باب التوبة مفتوح دائماً، ولذلك قال تعالى:
{عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
فالاعتراف بالذنب والشعورُ بوطأته دليلٌ على حياة القلب، ومن ثَمّ فإن التوبة مرجُوَّة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم.
وقد قبل الله توبتهم ورحِمَهم. . وهذا ينطبق على كل مسلم يخطئ ثم يرجع الى الله. بل ان هذه الفئة من الناس هي الغالبية العظمة من البشر. . يخطئون ويتوبون، لكن الله رؤوف رحيم تواب يقبل التوبة.(2/165)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
الصدقة: ما ينفقه المؤمن قربة لله. تطهرهم: تمحو ذنوبهم. وتزكّيهم: تصلحهم وترفعهم الى منازل الابرار. ان صلاتك سكن لهم: ان دعائك لهم يدخل الاطمئنان والراحة الى نفوسهم وآخرون مرجون: مؤخرون لأمر الله.
والطبقة الرابعة ستأتي في الآية (106)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
خذْ أيها الرسول من أموال هؤلاء التائبين صدقات تطرهّهم بها من الذنوب والشحُّ، وترفع درجاتهم عند الله، وادعُ لهم بالخير والهداية. . . فإن دعاءك تطمئنّ به قلوبُهم، والله سميح للداء عليمٌ بالمخلصين في توبتهم.
«روى ابنُ جرير عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة وصاحبَيْه انطلق ابو لبابة وصاحباه بأمواله الى الرسول الكريم، وقالوا: خذ من أموالنا فتصدَّقْ بها عنا وصلِّ علينا (يعني استغفر لنا وطهرنا) فقال رسول الله: لا آخذُ منها شيئاً حتى يأتيَنا أمرُ الله» أنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً. . . الآية} فأخذ.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «ان صلاتك» وقرأ الباقون: «ان صلواتك» بالجمع.
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} .
أَلا فلْيعلم هؤلاء التائبون أن الله هو الذي يقبل التوبةَ الخالصة من عباده، وهو الذي يأخذُ الصدقة، وأنه سبحانه هو الواسعُ الفضلِ في قبول التوبة، ذو الرحمة الشاملة لعباده.
وبابُ التوبة مفتوح دائما، روى الترمذي: ما أصَرَّ من استغفرَ، وإن عادّ في اليوم سبعين مرة.
وفي موضع الصدقات، روى الشيخان عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تصدّق أحدُكم بصدقةٍ من كسبٍ حلال طيب، ولا يقبل الله الا الطّيب، إلا أخَذَها الرحمن بيَمينه وإن كانت تَمْرة، فَتَربُو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربي أحدُكم فِلْوَه أو فَصِيله» فالصدقة مقبولة مهما كان حجمها. وفي الحديث ايضا «تصدَّقوا ولو بِشِقّ تمرة» والغِلْو، المُهر يُفصَل عن الفَرَس.
ثم يتوجّه الكلام بالخطاب إلى جميع المكلَّفين أن يعملوا، لأن الإسلامَ منحَهُم حياةً واقعية، لا تكفي فيها المشاعر والنوايا، ما لم تتحوّل الى حركةٍ وعمل دائم.
{وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قل لهم ايها الرسول: اعملوا لِدُنياكم وآخرِتكم ولا تقصّروا في عمل الخير وأداء الواجب. إن ربّكم يعلم كل أعمالكم، وسيراها هو والرسول والمؤمنون، فيزِنونها بميزان الإيمان ويشهدون بقتضاها. ثم ترجعون بعد الموتٍ الى الله الذي يعمل سِركم وجهركم، فيجازيكم بأعمالكم. والمنهج الإسلامي في حقيقته منهج عقيدةٍ وعمل.(2/166)
ثم جاء ذكر الطبقة الرابعة التي لم يبتَّ في أمرهان بل وكَلَ امرها الى الله.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك، غير النافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين. وقد تأخر البتُّ في أمرهم، وكان أمرُهم موكولاً الى الله، لم يعلموه، ولم يعلمْه الناس. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: هم الثلاثة الذين خُلّفوا وهم: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك وهلال بن أميّة، قعدوا عن غزوة تبوك كسلاً وميلاً الى الدّعة والتمتع بطيب الثمار، لا شكاَّ ولا نفاقا. وسيأتي ذكرهم في الآية (118) .
فهؤلاء مرجَأون لأمرِ الله: إما أن يعذّبَهم، واما ان يتوبَ علهيم ويغفرَ لهم.
قراءات:
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص «مُرْجَون» كما في المصحف، وقرأ الباقون «مرجأون» وهذا في اللغة جائز يقال أرجأت الأمر وأرجيته.(2/167)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
ضرارا: لمحاولة الضرر. ارصادا: ارتقابا. على شفا: على حرف. جرف: جانب الوادي هار: متداع آيل للسقوط.
سبب نزول هذه الآيات انه كان في المدينة رجل اسمه ابو عامر الراهب، قد تنصّر في الجاهلية وقرأ التوراة. وكان فيه عبادةٌ في الجاهلية وله شرقٌ كبير بين قومه من الأوس والخزرج، فلما قدِم الرسول الى المدينة دعاه الى الله وقرأ عليه القرآن، فأبى أبو عامرٍ أن يُسلم وتمرَّد، فدعا عليه الرسول أن يموت طريداً. . . فنالته الدعوة ماتَ في بلاد الروم.
وقد تجمَّع حوله جماعةٌ من المنافقين، ورأوا ان افضلَ وسيلةٍ يكيدون فيها للإسلام ونبيّه الكريم أن يبنوا مسجداً تحت شعار الدين، ثم يعملون للكفرِ بالله ورسوله، ولهدْمِ الإسلام، والإضرار بالمسليمن وتفريقِ كلمتهم.
وقد بنوا المسجد وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم الى تبوك، وجاؤوا فسألوه ان يصلّيَ في مسجدهم ليكون ذلك ذريعةً الى غَرِضهم، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلّة في الليلة الشاتية. فقال لهم الرسول الكريم: إنا على سَفرٍ، ولكن اذا رجعنا إن شاء الله.
وقبل ان يصل المدينةَ في رجوعه من تبوك نزلت عليه هذه الايات، فبعثَ بعضَ أصحابه وأمرهم أن يهِدموا ذلك المسجدَ، ففعلوا.
أما أبو عامر الفاسق كما سمّاه الرسول فإنه لما رأى الاسلام في ظهورٍ وارتفاع - هربَ إلى هِرَقْلَ ملكِ الروم يستنصره. فوعده هذا وأقام أبو عامر عنده، وكتب الى جماعة من اهل النفاق في قومه يعدُهم بانه سيقدم بجيشٍ يقاتل به رسول الله، وامرهم ان يتخذوا معقِلا يَقْدَم عليهم فيه، ويكون له مرصدا بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجدٍ مجاورٍ لمسجِد قُباء كما تقدّمت قصته، وهلك ابو عامر ولم يعد.
وابو عامر هذا من الأوس، لكنه ورد في تفسير ابن كثير انه من الخزرج. . وقديماً كانوا يسمُّون الأوسَ والخزرج باسمِ «الخزرج» .
هذا هو مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله مكيدةً للاسلام والمسلمين.
{والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
من المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه الله، وأنما لإلحاق الضرر والتفريق بين جماعة المؤمنين. وسحلفون على انهم ما ارادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن، لكن الله يشهدُ عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم.
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} .
لا تصلِّ أيها الرسول في هذا المسجد ابدا. إن المسجد الذي أقيم على التقوى ابتغاءً لوجه الله، وطلباً لمرضاته، من اول يوم- هو أحقُّ من غيره ان تصلّي فيه وتؤدي شعائر الله وهو مسجد قباء.(2/168)
{فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} .
ان في مسجد قباء رجالاً يعمُرونه بإقامة الصلاة، يحبّون ان يطهِّروا اجسادَهم وقلوبَهم بأداء العبادة الصحيحة فيه، «والله يحب المطهّرين» الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد، لأن فيهما الكمالَ الانساني.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
لا يستوي في عقيدته ولا في عمله مَنْ أقام بنيانه على الإخلاص في تقوى الله وابتغاءِ مَرْضاتِه مع ذاك الذي أقامَ بنيانَه على النفاق والكفر!! فإنّ عمل المؤمن الصالح مستقيمٌ ثابت على أصل متين، فيما علم المنافق كالبناء على حافَةِ هاويةٍ بدون أساس، فهو واهٍ ساقط، يقع بصاحبه في نار جنهم، واللهُ لايهدي الظالمين إلى طريق الرشاد.
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
سيظل الذي بناه المنافون ريبةً مَصْدَرَ اضطرابٍ وخوف في قلوبهم، لا ينتهي حتى تتقطع قلوبُهم بالندم والتوبة أو بالموت، والله عليم بكل شيء، حكيم في افعاله.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر: «الذين اتخذوا مسجدا ضرارا» بدون واو والباقون: «والذين. . . .» وقرأ نافع وابن عامر: «أُسّسِ بنيانه» بضم الألف ورفع بنيانه في الموضعين. وقرأ الباقون: «أَسسَّ بنيانَه» وقرأ ابن عامر وحمزة وابو بكر: «جرف» باسكان الراء. وقرأ الباقون: «جرف» بضم الجيم والراء. وقرا يعقوب: «الى ان تقطع قلوبهم» وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص: «تقطع» بفتح التاء والطاء المشددة. وقرا الباقون: «تقطع» بضم التاء وتشديد الطاء المفتوحة.(2/169)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
يؤكد الله وعْده للمؤمنين الذين يبذلون أنفسَهم وأموالَهم في سبيله بأنه اشترى منهم تلك الأنفسَ والأموال بالجنة ثمناً لما بذلوه. انهم يجاهدون في سبيل الله فَيَقْتُلون اعداء الله أو يُسْتَشْهدون في سبيل الله. وقد أثبتَ الله هذا الوعدَ الحقَّ في التوراة والانجيل كما اثبته في القرآن، وليس أحدٌ أبَرَّ وأوفى بعده من الله، فافرحوا ايها المجاهدون وأبشروا بهذه المبايعة. فيها الظفر الكبير لكم.
وهذا ترغيب في الجهاد عل أبلغ وجه، فالله سبحانه هو المشتري، والمؤمنون هم البائعون، والانفس والاموال هي المبيع، والثمن هو الجنة ذالك عقد ذكرته الكتب السماوية كلها، وفي ذلك منتهى الربح والفوز العظيم.
«روى ابن ابي حاتم عن جابر قال: نزلت هذه الآية على رسول الله في المسجد، فكّبر في المسجد. فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله، أنزلتْ فينا هذه الآية؟ قال: نعم فقال الانصاري: بيعٌ ربيع لا نقيل ولا نستقيل» .
ثم وصف الله هؤلاء الكَمَلَةَ من المؤمنين الذين اشترى منهم انفسهم وأموالهم، بأنهم صفوة مختارة، ذات صفات مميزة، منها ما يختص بذوات انفسم، ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة فقال:
{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ المؤمنين} .
ان اوصاف هؤلاء باعوا انفسَهم لله بالجنة، انهم: يكثِرون التوبة الى الله من هفواتهم، ويحمدونه على كل حال، ويسعون في سبيل الخير لأنفسهم ولغيرهم، ويحافظون على صلواتهم ويؤدونها كاملة في خشوع، ويأمرون بكل خير يوافق ما جاء به الشرع، وينهون عن كل شرٍ يأباهن ويلتزمون بشريعة الله. وبشرِّ أيها الرسول المؤمينن المتصفين بهذه الصفات بخَيْرَي الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ عاصم: (فيَقتُلون ويُقتَلون) وهي قراءة المصحف وقرأ حمزة والكسائي: «فيُقتَلون ويَقتُولون» بتقديم الفعل المبني للمفعول.(2/170)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
لأواه: كثير التأوه، الخاشع الكثير الدعاء. حليم: لا يغضب، هادئ الأعصاب.
كان الكلام من اول السورة الى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الاحوال، وهنا بيّن الله تعالى انه يجب البراءة من الكفار ولو كانوا أُولي قرابة، وأن ابراهيم عندما استغفر لوالده كان قد وَعَدَه بذلك، فلما أصرَّ والده على كفره تبرأ ابراهيم منه.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} .
ليس للنبي وللمؤمنين ان يطلبوا المغفرة للمشركين، ولو كانوا اقرب الناس اليهم، من بعد ما تبين لهم بالدليل انهم من اصحاب النار.
وقد وردت روايات ان هذه الآية نزلت في ابى طالب، وهذا غير صحيح، فان ابا طالب مات قبل الهجرة، وهذه الآية نزلت بعد غزوة تبوك والمدة بينهما نحو12 سنة.
ثم اجاب على سؤال قد يخطر بالبال، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنين من الاستغفار لاقربائهم وقد استغفر ابراهيم لأبيه فقال:
{وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} .
ولم يكن ما فعله ابراهيم عليه السلام منا لاستغفار لأبيه، الا تحقيقا لوعد من ابراهيم له، وذلك بقوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] وبقوله: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 87] وقد وفى ابراهيم بما وعد.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} .
فلما مات ابوه ولم يؤمن تبين له انه مات كافرا وانه عدو الله، فتبرأ منه وترك الاستغفار له.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ان ابراهيم كير الخشية والدعاء لله، صبور على الأذى والصفح عن غيره.(2/171)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
قيل مات قوم من المسلمين على الاسلام قبل ان تنزل الفرائض، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله، إخوانُنا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم عند الله؟ فنزل قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} .
ما كان من سُنن الله ولطفه بعباده ان يصف قوماً بالضلال، ويُجزي عليهم أحكامه بالذّم والعقاب، بعد ان هداهم للإسلام.
{حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} من الأقوال والافعال بياناً واضحاً.
{إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
انه تعالى عليم بجميع الاشياء، محيط علمه بكل شيء.
{إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
ان الله وحده مالكُ السماوات والأرض وما فيها، وهو المتصرِّف فيهما بالإحياء والإماتة، وليس لكن سوى الله من وليّ يتولى امركم، ولا نصير ينصركم.(2/172)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
العسرة: الشدة والضيق وسُميت غزوة تبوك غزوة العسرة لما كا فيها من شدة وضيق وحاجة. يزيغ: يميل بما رحبت: بما وسعت على اتساعها. ظنوا: معناها هنا اعتقدوا.
بعد ان استقصى الله احوال المتخلفين عامة من غزوة تبوك، عاد مرة اخرى الى الكلام في توبتهم.
{لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} .
لقد تفضل الله سبحانه عل نبيّه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والانصار الذين يخرجوا معه الى الجهاد في وقت الشدة. وقد سُميت غزوة تبوك غزوةَ العسرة لعسرة المسلمين مادياً إبان ذلك. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ: عسرة الظَّهر، يعني عدم وجود ما يركبون عليه، وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
{مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} .
لقد تاب عليهم فثَّبتهم وصانضهم عن التخلّف من بعد ما اشتد الضِيق بفريق منهم، حتى كادت قلوبُهم تميل الى التخلف. وكان الله بهم رؤوفا رحيماً.
وتوبة الله على عباده هي توفيقُهم للتوبة وقبولُها منهم. وقد كرر التوبة ههنا لتأكيد على قبولها عند الله.
{وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} .
لقد تفضلّ الله تعالى بالعفو عن الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج للجهاد في غزوة تبوك ولم يكن تخلّفهم عن نفاق. وهو يعلم أنهم مؤمنون صادقون. لذا كانت توبتهم خالصة، وندمهم شديدا حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على سَعَتها، وضاقت عليهم نفوسُهم همّاً وحزنا. لقد عموا انه لا ملجأ من غضب الله الا بالرجوع إليه، وحينئذ هداهم الى التوبة، وعفا عنهم، فهو التواب الرحيم.
والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك وهلال بن امية، ومرارة بن الربيع، وجميعهم من الانصار. وكان كعب بن مالك من أكابر الشعراء ومن الصحابة الصادقين وأحد المنافحين عن النبي الكريم بشِعره. وقد روى البخاري ومسلم قصته بالتفصيل. قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله في غزوةٍ غزاها الا في دبرٍ وتبوك، والرسول لم يعاتب احدا تخلف عن غزوة بدر.
وكنت وقتَ غزوة تبوك في حالة جيدة من المال والصحة، عندي راحلتان. وقد بقيت أغدو وأروح لأتجهّز فلم أوفَّق، وظللت أتعلل باني قادر وسوف ابتعُهم. ولما رجع رسولالله عن الغزوة وجلس للناس جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون اليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم عذرهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم الى الله. فجئته أنا، فلما سلَمت عليه تبسَّم تبسُّم المغضَب، ثم قال لي: ما خلّفك؟ الم تكن قد ابْتَعتَ ظهرك؟ فقلت بلى، اني والله لو جلستُ عند غيرك من اهل الدنيا، لرأيتُ ان سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله قد علمت لئن حدّثتُك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليوشكنّ اللهُ ان يُسخِطَك علي، ولئن حدثتك حديثَ صدق تجد عليَّ فيه، اني لأرجو فيه عفو الله.(2/173)
لا والله ما كان لي من عذر. . فقال رسول الله: أما هذا فقد صَدق، قم حتى يقضي الله فيك، فقمت.
وكذلك فعل صاحباه فصدَقا رسول الله. وكان الثلاثة من الصحابة المرموقين فآثروا الصدق وفاء لدِيهم، وخوفا من ان يفضح الله كذبهم. وسمع النبي منهم واعلن انهم قد صدقوه، ولم يعفُ عنهم مع ذلك، بل ترك امرهم الى الله. وأمرَ المؤمنين ان لا يكلّموهم.
وينظر هؤلاء الثلاثة فإذا هم في عزلة بغيضة الى نفوسهم، السجنُ أهون منها.
يقول كعب: فبينما انا أمشي بسوق المدينة، اذا نبطيُّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى اذا جاءني، رفع اليَّ كتاباً من ملك غسَان، فاذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني ان صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدارٍ هوان ولا مَضْيَعة، فالحقْ بنا نُواسِك، فقلت لما قرأتها: وهذا ايضاً من البلاء، فأحرقت الكتاب.
وبعد ان مضت أربعون ليلة أرسل اليهم النبي ان يعتزلوا نساءهم. وبعد ان مضت عليهم خمسون ليلة في هذه العزلة، كان الندم قد أخذ من قلوبهم أقوى مأخذ، فأنزل الله توبته عليهم في هاتين الآيتين الكريمتين، وقد ابتهج المؤمنون كلهم لذلك، فكانوا يهنئونهم بذلك.
يقول كعب: لما بلَغني النبأ انطلقتُ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإا هو جالس في المسجد حوله المسلمون. فقام اليَّ طلحةُ بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقالك لِتَهْنِكَ توبة الله، فلن انساها لطلحة. وقال رسول الله وهو يستنير اسنارة القمر: أبشِر يا كعب بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتْك أُمك. ثم تلا علينا الآية. . .
وفي هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم، وتفيض عبراتهم.
قراءات:
قرأ حمزة وحفص: «يزيغ» بالياء، والباقون تزيغ بالتاء.
{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} .
يا أيها الذين آمنوا اثبُتوا على التقوى والإيمان، وكونوا في الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة.(2/174)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
الضمأ: شدة العطش. النَّصَب: التعب المخمصة: الجوع الشديد. موطئا: مكانا.
بعد ان بين الله تعالى توبته عن المتخلفين أكّد هنا وجوب اتباع الرسول والغزو معه.
لا نبغي لأهل المدينة ولا من حولَهم من الأعراب ان يتخلّفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا ان يَضِنّوا بأنفسِهم فيرغبوا في الراحة والسلام، ولا يبذلوها فيما بذَلَ نفسه الشريفة. . اذا أنهم لا يصيبهم في سبيل الله ظمأ او تعب او جوع، ولا ينزلون مكاناً يَغيظ الكفارَ، ولا ينالون من عدو غرضا كالهزيمة او الغنيمة الا كتب لهم بذلك عملاً صالحاً يجزون عليه احسن الجزاء.
بل إنهم {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً. . . الآية} .
وكذلك لا يبذلون اي مال في سبيل الله، ولا يسافرون اي سفر الا كتبه الله لهم في صحائف اعمالهم الصالحة.(2/175)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
نفر: خرج للجهاد. الفرقة: الجماعة الكثيرة. الطائفة: الجماعة القليلة. تفقّه: تعلم امور دينه. الذين يلونكم: من كانت بلادهم قريبة لبلدكم. غلظة: شدة.
هنا يبن الله تعالى بقية احكام الجهاد مع بيان حكم التعلم والتفقه في الدين، لأن دين الاسلام قامَ على العلم ولاحجة والبرهان.
قال ابن عباس: لما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين لتخفلهم عن الجهاد، قال المؤمنون: واللهِ لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله، ولا سرية بادا. فلما أمر الرسولُ الكريم بالجهادَ نَفَرَ المسلمون جميعا وتركوا رسول الله وحد بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} .
ليس من شأن المؤمنين ان يخرجوا جميعاً في كل سريةٍ تخرجُ للجهاد، الا اذا اقتضى الأمر وخرجَ الرسولُ بنفسه او اسنتفر الناس جميعاً.
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
ان هناك واجباتٍ اخرى مهمة غير الجهاد يجب على المؤمنين ان يقوموا بها، وذلك ان ينفِرَ من كل بلد او قبيلة جماعة يأتون الى رسول الله ليتفقّهوا في الدين ثم يعودوا الى قومهم فيرشدوهم ويعلّموهم ليثبتَ هؤلاء على الحق، ويعلموا الباطل فيجتنبوه.
{ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} .
لما امر الله تعالى بقتال المشركين كافة - أرشدهم في هذا الآية الى طري السداد، وهو ان يبدأوا بقتال من يَلِيهم من الأعداء ثم ينتقولا الى الأبعد فالأبعد وهكذا فعل الرسول وصحابته. . . فقد حربَ قومه ثم انتقل الى غزو سائر العرب ثم الى غزو الشام. ولما فرغ الصحابة الكرام من الشام انتقلوا الى غيرها، وهكذا.
يا ايها الذين آمنوا قاتِلوا الكفار الذين يجاورونكم، حتى لا يكونوا مصدرَ خطرٍ عليكم، وكونوا أشداء عليهم في القتال، ولْيجدوا فيكم شدة وجرأة، ولا تأخذْكم بهم رأفة. . واعلموا ان الله معكم بعونه ونصره اذا اتقيتموه، وأعددتم العدة الكاملة للحرب، وكنتم صفاً واحدا وعلى هدف واحد.(2/176)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
الرجس: النجس ومعناه هنا الكفر يعني ازدادوا كفراً الى كفرهم.
بعد ذِكر الوان من مخازي المنافقين وكشفِ اخلاقهم بيّن هنا أنواعاً اخرى من تلك المثالب مثل سُخريتهم من القرآن الكريم، وتسلَّلهم حين سماعه.
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .
واذا ما أنزل الله سورةً من القرآن على رسوله، وسمعها المنافقون، سخرواواستهزأوا، وقال بعضهم لبعض: هل منكم من زادته هذه السورة إيمانا؟ وجواب ذلك يا محمد: نعم، المؤمنون الذين ابصروا النور وعرفوا الحق زادتهم إيمانا إلى إيمانهم. يفرحون بذلك ويستبشرون، لأنهم يرجون الخير من هذه الزيادة، وذلك بتزكية أنفسهم في الدنيا والآخرة.
{وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
وأما المنافقن الذين في قلوبهم شك وارتياب، فقد زادتهم كفرا الى كفرهم، وحين ماتوا على الكفر والنفاق كان مأواهم جهنم وبئس المصير.
{أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
أوَلا يعتبر هؤلاء المافقون بما يبتليهم اللهُ به كل عام من ألوان باللاء بكشفِ أستارهم، وإنباء الله بما في قلوبهم وفضيحتهم، ونصر المؤمنين!! ثم هم مع كل هذا لا يتوبونَ من نفاقهم، ولا يتعظون بما يحل بهم من العذاب.
قراءات:
قرا حمزة ويعقوب: «او لا ترون» بالتاء.
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} .
بعد ان بين حال تأثير إنزال آيات القرآن في المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، بين حالهم هنا وهم في مجلسه حين نزولنا واستماع تلاوته لها. واذا ما انزلت سورة وهم في مجلس الرسول الكريم تسارقوا النظر وتفاخروا وقال بعضهم لبعضه: هل يراكم أحد؟ ثم انصرفوا متسللين لئلا يفتضحوا بما يزره عليهم من سخرية وانكار {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} وهذا دعاء علهيم، فقد صرف قلوبهم عن الهدى فاهم يستحقون ان يزلوا في ضلالهم يعمهون، لانهم قوم لا يفقهون، حيث عطلوا قلوبهم عن وظيفتها واستمروا على عنادهم ونفاقهم.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة الكريمة بآيتين تتحدث احداهما عن الصلة بين الرسول وقومه، وعن حرصة عليهم ورحمته بهم، والآية الثانية توجيهٌ للرسول ان يعتمد على به وحده حين يتولى عنه من يتولى، فهو وليه وناصره وكافيه.(2/177)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
من انفسكم: من جنسكم. عزيز عليه ما عنتم: يشق عليه ما يصيبكم من مكروه الحرص على الشيء: شدة الرغبة فيه.
لقد جاءكم ايها العرب رسول من جنسكم، يشق عليه ما يصيبكم من الضرر. وهو حريص على هدايتكم، ولا يلقي بكم في المهالك، وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين فهو حريص عليكم ان يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد بها المتقون.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} .
فان أعرضوا عن الإيمان بك، فَلا تحزن لإعراضهم، وقل يكفيني الله الذي لا آله غيره. فتوكَّلْ عليه، فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به، وحسبُ من والاه، هو مالك الملك ورب الكون وصاحب السلطان العظيم.(2/178)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
الآية: العلامة. الكتاب: القرآن الكريم. المحكم، وذو الحكمة. قدم صدق: سابقةٌ حسنة، والمنزلة الرفيعة. مبين: ظاهر.
الر: هذه الحروف تقرأ ساكنةَ غير معربة هكذا «الف. لام. را» وقد بدأ الله تعالى بها السورة لتنبيه السامع الى ما يتلى عليه، وفي ذلك اشارة الى ان القرآن مكون من مثل هذه الحروف، ومع ذلك عجزتم ايها المشركون عن ان تأتوا بمثله.
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} .
ما كان للناس ان يعجبوا وينكروا إنزال الوحي على رجل من جنسهم. ولِمَ هذا التعجب والانكار، والله قادر على ان يتصل بأي عبد من عباده ويصطفيه برسالته، {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الانعام: 124] وان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من الصفات والمكرمات ما يؤهّله الرسالة الكريمة.
وبعد ان بيّن الله عجبَ الكافرين من الوحي الى النبي الكريم بيّن حقيقةَ ما أوحى به إليه، وهو انذارُ الناس وتحذيرهم من عذابا لله، وتبشيرُ المؤمنين بأ، هلم منزلةً عالية عند ربهم نالوها بصدق القول وحسن النية.
{قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} .
فلما أتاهم بوحي الله وتلاه علهيم قالوا: ان هذا الرجلَ ساحرٌ أمره واضح، فما جاءَ به سحرٌ لأنه خارق للعادة في تأثيره على الناس، وحذْبه النفوس الى الايمان به.
قراءات:
قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي: «لساحر مبين» بالف بعد السين. وقرأ الباقون «لسحر مبين» بغير الف «.(2/179)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
خلق السماوات والارض: صنعها وابدعها. في ستة ايام: في ست مراحل فقد يكون اليوم الاف السنين من ايامنا، العرش: مركز التدبير ولا نعلم كنهه وصنعته. استوى: استولى. القسط: العدل. حميم: حار شديد الحرارة.
بعد ان افتتح السورة بذِكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس تعجُّبَهم من أن يوحى الى رجل منهم يُنذر ويبشّر، جاء بذكر أمرين.
1- إثبات ان لهذا الكون إلهاً قادراً يفعل ما يشاء.
2- اثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب.
{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر} .
إن ربكم أيّها الناس هو الذي خلقَ هذا الكونَ بأسرِه في ستّ مراحل تتضمن المرحلةُ منها أحقاباً وأزمنة ليست كأيّامنا هذه، قد تم في كّلٍ منها طور من اطوار الخلق، ثم استوى على عرشه وهيمَنَ بعظيم سلطانه ودبّر أمورَ مخلوقاته.
{مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} .
فليس لأحدٍ سلطانٌ من الله من شيء، ولا يستطيع أحد من خلقه ان يشفع لأحدٍ الا بإذنه.
{ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} .
ذلكم الموصوفُ بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير هو الله ربكم وولي نعمتكم، فاعبُدوه، وصدِّقوا رسوله، وآمنوا بكتابه.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} .
اتجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون نعمة الله، وتتدبرون آياته الدالة على وحدانيته.
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} .
كما بدأت الله الخلقَ فإليه مرجعُكم، ومرجع المخلوقات كلها. لقد وعد الله بذلك وعداً صادقاً لا يتخلّف. . . إنه بدأ الخلق بقدرته، وسيعيده بقدرته بعد فنائه.
{لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} .
سوف يعيدهم الله من أجل ان يثيب المطيعين بعدْله التام.
{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .
واما الكافرون فلهم شراب في جهنم شديد الحرارة يقطّع أمعاءَهم، وعذابٌ شديد جزاء أعمال الكفر والعناد.(2/180)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
الضوء والضياء: النور. والضوء اقوى من النور، لان الضوء م الشمس ذاتها، والنور في القمر مستمد من الشمس.
قدّره منازل: جعله يتنقل بيها وهي ثمانية وعشرون منزلا. غافلون: ناسون، الغفلة النسيان. آخر دعواهم: آخر دعائهم.
بعد ان ذكر الله الآيات الدالةَ على وجوده، ومنها خلقُ السماواتِ والأرض على ذلك النظام المحْكَم، ذَكَر هنا أنوعاً من آياته الكونية الدالة على ذلك. وهو تفصيلٌ لما تقدّم وبيان له على وجه بديع واسلوب عجيب.
{هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} .
إن ربكم هو الذي خلق السماواتِ والأرضَ وهذا الكونَ العجيب، وفيه جعل الشمس تشع ضياء، والقمر يرسل نورا.
{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين} .
وجعل للقمرر منازلَ عددُها ثماينة وعشرون يتنقل فهيا، فيختلف فيها، فيختلف نورُه تبعاً لهذه المنازل، وذلك لتستعينوا به في تقدير مواقيتكم، وتعلموا عدَد السنين والحساب، فتحسِبوا الأشهرَ والأيام وتضبطوا فيها مواعيدَكم وعباداتكم ومعاملاتكم.
{مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
وما خلق الله ذلك إلا بالحكمة، وهو هنا يبيّن الدلائل ويبسط الآياتِ الدالةَ على ألوهّيته وكمالِ قدرته لِقومٍ يتدبرون بعقولهم.
وقد قررت هذه الآيةُ الحقيقةَ العلمية التي لم يصل إليها العمل الا أخيراً، وهي ان الشمس جرم ملتهب، ومصدرُ الطاقات، ومنها الضوء والحرارة، بينما القمر جِرم مظلم غير ملتهب. أما النور الذي يبدو منه فهو مستَمدٌّ من الشممس. ولذا عبّر الله تعالى عن الشمس بأنها ضِياء، يعين مصدراً للضوء، وأن القمر نورٌ منير فقط. كذلك اشارات الآيةُ الى حقيقة فلكية، وهي ان القمرَ يدور حول الأرض، فيحتل مكاناً خاصّا بالنسبة لها في كل يوم. وهو يُتم دورتَهُ في الشهر القمري، وبه تُعلم السنة القمرية. وعلى ذلك يمكن بطريق الرؤية الحِسْبَةُ لِمنازله ومعرفة السنين وحساب الأشهر.
قراءات:
قرأ ابن كثير برواية قنبل: ضِئاء بالهمزة. والباقون بالياء. وقرأ ابن كثير وأهلُ البصرة وحفص: «يفصّل الآيات» بالياء والباقون: «نفصل» بالنون.
{إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .
ان في تعاقب الليل والنهار واختلافهما بالزيادة والنقصان، وفي خلق السماوات والأرض وما فيها من الكائنات، لدلائلَ عظيمةً وبراهينَ بيّنة على وجود الصانع، وألوهيته، وقدرته لقومٍ يتّقون مخالفةَ سُننه تعالى.
وتشير هذه الآية الى حقيقة مشاهَدة، وهي اختلاف طويل الليل والنهار على مدار العام في أي مكان على الأرض، وكذلك تعاقُب النهار والليل وكون النهار مبصراً، والليل مظلما. وتفسير ذلك أساسه دورانُ الأرض حول محورها وحول الشمس. وكل هذه دلائلُ على قدرة الخالق المبِع، والعلمُ بها لم يكن البتّةَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على انه وحيٌ من الله إليه.(2/181)
{إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} .
لا يرجون لقاءنا: لا يريدون، لا يأملون، لا يتوقعون.
ان الذين لا يتوقّعون لقاءَ الله في اليوم الآخر، إذا اعقتدوا أن الحياةَ الدينا هي منتهاهم ليس بعدها حياة، فقَصَروا كل همِّهم على الحصول على أغراضهم منها، واطمأنوا الى ذلك، ولم يعملوا لما بعدها، والّذين غفلوا عن آيات الله الدالة على البعث والجزاء- أولئك مأواهمُ النارُ بما كانوا يكسِبون.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم} .
ذلك جزاءُ الفريق المنحرِف الضال، اما الفريق المقابلُ وهم الذين آمنوا إيماناً صحيحا، وعملوا الصالحات في ديناهم بمقتضى هذا الايمان، فإنهم ربم يثبتهم على الهداية، ويُدخلهم يوم القيامة جناتٍ تجري الأنهار خلالها، يتنعمون خالدين فيما ابدا.
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} .
لي في دار النعيم هموم ولا شواغل، فهم يتلذّذون بالدعاء الى الله وتسبيحه، وتنزيهه عما كان يقوله الكافرون في الدنيا، ونياجونه بقولهم: سبحانك اللهُمّ، ويحيّي بعضم بعضا بالسلام، فهي تحية المؤمنين.
وآخرُ كل دعاءٍ يناجون به ربَّهم، ومطلب يطلبونه من احسانه وكرمه قولهم: «الحمد رب العالمين» على توفيقه إياهم بالايمان وفوزهم برضوانه عليهم.(2/182)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
الطغيان: مجاوزة الحد في الشر: يعمهون: يترددون فيحرتهم وضلالهم. القرون: جمع قرن ويطلق على كل مائة سنة، وفي كتب اللغة الختلاف كبير في تحديده. خلائف: جمع خليفة وهو من يخلف غيره.
{وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .
لو أجاب اللهُ ما يستعجِلُ به الناسُ على أنفسٍهم من الشرّ مثلَ استعجالِهم لِطلبِ الخير لأَهَلَكَهُم جميعا، ولكنّه يتلطّف بهم، فيرجئُ هلاكَهم، انتظاراً لما يظهر منهم حسب ما علمه فيهم، فّتتضح عدالتُه في جزائهم.
وفي هذه الآية جواب لمشركي مكة الذين قالوا: اللهمّ إن كان ما يقولُ محمد حقّا في ادّعاء الرسالة فأَمطْر علينا حجارة من السماء.
لقد استعجلوا وقوعَ الشر، كما ستعجلون الخير، ولكنّ الله أخّرهم الى ما أراده.
{فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
إننا ندعُ لا يتوقّعون لقاءَنا فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب، يتردّدون فيه متحيّرين لا يهتدون سبيلاً للخروج منه.
قراءات:
قرأ ابن عامر ويعقوب: «لقَضى الهيم أجلهم» بفتح القاف والباقون «لقُضي الهيم أجلهم» بضم القاف.
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} .
واذا أصاب الانسانَ ضررٌ في نفسه او مالِه او نحوِ ذلك أحسَّ بضعفه، ودعا ربَّه على أي حال من أحواله: مضجِعاً لجنْبه، او هو قاعد، أو قائم على قدميه، حائراً في أمره - دعاه ان يكشف ما نزلَ به من مِحنته.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} .
فلما استجاب الله له، فكشف عنه ضره وأزال عنه السوء، انصرف عن جانبِ الله، مضى في طريقِه واستمرَّ على عصيانه ونسيّ فضلَ الله عليه، كأن لم يصبْه ضرر، ولم يدعُ الله ليكشفَه عنه.
{كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وكمثلِ هذا المسْلك زُيَّن الشيطانُ للمشركين من طغاةِ مكّة وغيرِهم ما كانوا يعملون من سوءٍ وكفرٍ وعناد، وما اقترفوه من باطل.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} .
بيّن هنا ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى يُنزل بهم عذابَ الاستئصال كما حدّث للأمم الغبرة قبلضهم حتى يكون ذلك رادعاً لهم عن هذا الطلب. ولقد أهلكْنا كثيراً من الأمم السابقة قبلكم بسبب كفِرهم حين جاءتهم رسُلهم بالآيات الواضحة على صِدق دعوتِهم الى الإيمان، وما كان في عِلم الله أنهم سيؤْمنون، لإصرارهم على الكفر والعصيان. فاعتبروا يا كفّارَ قريش، فكما اهلكنا مَن قبلكم، سنجزي المجرمين بإهلاكهم.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .
ثم جعلناكم يا امة محمد خلفاء الأرض، تعمرُونها من بعدِ هؤلاء السابقين، لنختبركم ونرى ماذا تعملون في خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سُنّتنا فيمن قبلكم. وهذا واضح في ان هذه الخلافة منوطةٌ الأعمال الصالحة والاستقامة والعدل والاحسان، حتى لا يغترَّ إنسان بما سيناله من مُلك او ولاية. وهذا كما قال تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] .(2/183)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
من تلقاء نفسي: من عند نفسي. لبثت قيكم عمراً: مدة من الحياة.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} .
واذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتُنا الواضحة، قال لك يا محمد الكافرون الذين لا يتوقّعون لقاءَنا ولا يخافون عذابَ الله: أحضِر لنا كتاباً غير القرآن، او بدِّلْ ما فيه مما لا يُعجبنا ولا يخالفُ دينّنا ومعتقداتِنا الوثنية.
{قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
قل لهم ايها الرسول: لا يمكنني أن أُغير او ابدل من عندي ولا يجوز لي ذلك، وما أنا الا متَّبعٌ ومبلّغٌ ما يوحي إلي من ربي، إن أخاف إن خالفتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمَ الشأن هو يوم القيامة.
{قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} .
قل لهم، ايها الرسول: لو شاءَ اللهُ ان لا يُنزل عليَّ قرآناً من عنده، وان لا أبلّغكم به - ما أنزله، وما تلوته عليكم، ولا أعلمكم اللهُ به. . لكنه نَزَل، وأرسلني به، وتلوتُه عليكم كما أمرني.
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
وقد مكثتُ بينكم زمناً طويلا قبل البعث لم ادَّعِ فيه الرسالة، ولم أتلُ عليكم شيئا، وانتم تشهدون لي بالصدق والامانة. أفلا تعقِلون أن مَن عاش بينكم أربعين سنةً لم يقرأ كتابا ولم يلقَّن من أحدٍ علما، ولم يمارس اسالي البيان من شعرٍ ونثر - لا يمكنه ان يأتَي بمثلٍ هذا القرآن المعجِز، فاعقِلوا الأمور وأدركوها.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «ولأدراكم به» والباقون: «ولا أدراكم به» .
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} .
ان شر أنواعِ الظلم الإجرام افتراءُ الكذب على الله، والتكذيبُ بآيات الله التي جاء بها رسوله.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} .
لن يفوز الذين اجترموا الكفر وافتروا على الله الكذب عندما يلاقون ربهم.(2/184)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
بعد ان بيّن الله في الآيات السابقة أن المشركين طلبوا ان يأتي محمد بقرآن غير هذا او تبديله، لأن فيه طعناً على آلهتهم، وتسفيه آرائهم في عبادتها - نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين حقارة شأنها، اذا لا تستطيع ضرا ولا نفعا، فلا يليق بالعاقل ان يعبدها من دون الله.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} .
ان هؤلاء القوم يعبدون اصناما لا تملك لهم نفعا ولا ضرا.
{وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} .
ويقولون: ان هذه الاصنام تشفع لنا عند الله في الآخرة.
{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} .
قل لهم أيها الرسول مبينّا لهم كذبهم، وافتراءهم على الله: هل تخبرون الله بشيء لا يعلم له وجوداً في السماوات ولا في الارض!؟ ما الذي تزعمون!
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
تنزّه ربُّنا وعلا علواً كبيرا عكن الشريك، وعما تزعمون بعبادة هؤلاء الشركاء.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «عما تشركون» بالتاء، والباقون «عما يشركون» بالياء.
{وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
بعد ان اقام الأدلة على فساد عبادة الاصنام - ذكر هنا ما كان عليه الناس من الوحدة في الدين، ثم ما صاروا اليه من الاختلاف والفرقة. وقد كان الناس أمةً واحدة على الفِطرة، والقطرة في أصلها كانت على التوحيد، ثم بعث الله اليهم الرسل لارشادهم وهدايتهم. فاختلفت نزعاتهم، منهم من غلب عليه الخير، ومنهم من غلب عليه الشر. وقد اقتضت مشيئة الله ان يُمهِلهم جميعا الى أجَل يستوفونه، وسبقت كلمته بذلك لحكمة يريدها، ولولا ذلك لعجَّل لهم الهلاك بسبب الخلاف الذي وقعوا فيه.
{وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} .
ويقول هؤلاء المشركون: هلاّ أُنزل على محمد معجزةٌ غير القرآن تُقْنعنا بصدق رسالته كآيات الانبياء السابقين الين يحدّثنا عنهم!! ومعنى هذا أنهم ما زالوا غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية، من حيث أنها ليست معجزةً وقتية تنتهي بانتهاء جيلهم، بل معجزة دائمة وعامة تخاطب الناس جميعا جيلا بعد جيل. ولذلك اجابهم جوابا فيه الامهال والتهديد: قُل لهم ايها الرسول: إن نزول الآيات غيبٌ، ولا يعلم الغيبَ الا الله، فإن كان القرآن لا يقنعكم فانتضِروا قضاء الله بيني وبينكم في ذلك، وانا معكم من المنتظرين.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام انه قال:
«ما من نبي الا وقد أُعطيَ من الآيات ما مثله آمنَ عليه البشر، وانما كان الذي أُوتيتُه وحياً أوحاه الله ليّ، فأرجوا ان أكونَ اكثرَهم تابعاً يوم القيامة» .(2/185)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
أصل الذوق: ادراك الطعم بالفم، ومعنى «اذقنا الناس رحمة» : اعطيناهم صحة ومالا ونعمة. المراد بمكر الله: تدبيره الخفي. الفلك: السفن يطلق على الجمع والواحد. بريح طيبة: موافقة، مريحة سهلة، ريح عاصف: شديدة مهلكة. احيط بهم: هلكوا.
بعد ان ينتهي الكتاب من عرض ما يقول المشركون وما يعترضون به ويطلبون، يعود الى الحديث عن بعض طبائع البشر، حين يذوقون الرحمةً والنِعم بعد الضّرِ، كما تحدّث من قبل عنهم حين يصيبهم الضرُّ ثم ينجُون منه. ويضرب لهم مَثَلاً مما يقع في الحياة بصدق ذلك.
{وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} .
عجيبٌ أمرُ هذا الانسان لا يذكُر اللهَ إلا ساعة العسرة، فاذا أنعمنا على الناس من بعد شدةٍ أصابتْهم في أنفسهم او أهليهم وأموالهم، لم يشكروا الله على ما أنعمَ به، بل تجدهم يقابلون ذلك بالإصرار على التكذيب والكفرِ بالآيات.
{قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} .
قل لهم أيها الرسول: إن الله أقدرُ على التدبير وإبطال ما يمكرون، وأن الحَفَظَةَ من الملائكة الموكّلين بكم يكتبون اعمالكم سيحاسبكم الله عليها ويجازيكم بها.
قراءات:
قرأ يعقوب: «ما يمكرون» بالياء، وبالباقون «ما تمكرون» بالتاء.
ثم ضرب الله مثلاً من أبلغِ أمثلا القرآن الكريم في صورة حيَّة كأنها واقعةٌ يشاهدها الناس، وتتبعها المشاعر ليَظْهَر لهم بهذا المثَلِ ما هم عليه فقال:
{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} .
ان الله تكفُرون بِنِعمِه وتكذّبون بآياته، هو الذي وهبكم القدرةً على السَّير والسعي في البر مشاةً وركبانا، وفي البحر بما سخّر لكم من السفُن التي سخّرها لكم، وجَرَت بكم تدفعُها ريح طيّبة اطمأنتم اليها وفرحتم بها- هبّت ريح شديدة أثرات عليكم الموجَ من كل جانب، وأيقنتم أن الهلاكَ واقع لا محالة، ولا تجدون ملجأً غيرَ الله. عند ذلك تدعونه مخِلصين له الدّعاء موقنين أنه لا منقذّ لكم سواه، ومتعهدين بأن تكونوا من الشاكرين إن انجااكم من هذه الشدة.
{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} .
هذه تكملة للصورة. فلما أنجاهم اللهُ مما تعرّضوا له من الشدّىة والهلاك، نقضُوا عهدَهم، وعادوا بيغون في الأرض ويفسدون بغير الحق.
قراءات:
قرأ ابن عامر. «ينشركم» بالنون والشين. والباقون «يسيركم» بالياء والسين والياء اي زمان وُجدوا فقال:
{ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .(2/186)
أيها الناقضون للعهد، ان عاقبةَ بغيكم وظلمكم سترجِع عليكم وحدَكم، أما ما تحصُلون عليه من ظلمكم هذا فهو مجرد متاع دنيوي زائل، ينقضي بسرعة، ثم تعودون الى الله فيجزيكم بأعمالهكم التي اقترفتموها.
والحق، أن البغي، وهو أشدّ أنواع الظلم، يرجع على صاحبه، لما يولّد م العداوة والبغضاء بين الأفراد، ولما يوقد من نيران الفتن في الشعوب.
روى الامام احمد والبخاري عن أنس رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ هنّ رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي» ثم تلا: {بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} . {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 11] .(2/187)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
الزخرف: الزينة وكمال حسن الشيء، وزخرف الارض الوان نباتها. كأن لم تغنَ بالأمس: كأن لم تكن مأهولة. دار السلام: الجنة.
لما كان سببُ بغي الناس في هذه الدنيا هو إفراطُهم في حبّها، والتمتع بزينتها وما يجنون منها - ضَرب اللهُ بذلك مثلاً يَعْزِف بفضله العاقلُ عن الغرور بها، ويدفع الى الكف عن الظلم والفساد.
{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام. . . الآية} .
شبّه اللهُ حال الحياة الدنيا في روعتها وبهجتها، بماء أنزلَه من السماء، فاختلط به نباتُ الأرض مما يأكلُه الناس والحيوان، فيزدهر ويُثمر، وتزدانُ به الأرض نضارةً وبهجة، حتى إذا بلغتْ هذه الزينةُ تمامها، وأيقن أهلُها أنهم ملكوها وقَدَروا على الاستمتاع بثمارِها وخيراتها، أتاها أمرُ الله فجأة، فباتت كالأرض المحصودة التي قُطع زرعها ولم يبقَ منه شيء.
{كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
إننا بالأمثال الواضحة، نبين الآيات ونفصل ما فيها من الاحكام لقوم يتفكّرون ويعتبرون ويعلمون أن الدنيا زائلةٌ وأن متاعها قليل.
{والله يدعوا إلى دَارِ السلام وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
إن الله يدعو الناسَ جميعاً الى العمل الصالح والإيمان الصادق ليدخُلوا الجنة، وهو يهدي من يشاء الى الطريق الموصل إليها وهو الإسلام.(2/188)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
لا يرهق وجوههم: لا يغشيها ولا يغطيها. قتر: دخان ساطع الذلة: الهوان. العاصم: المانع فزيلنا بينهم: فرقنا وميزنا بينهم.
بعد أن بيّن الله تعالى في المثل الذي ضربَه غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا الزائل، ودعا الناس جميعا الى نشدان السعادة الأبدية - عقّب هنا ببيان حال المحسنين والمسئيين، وما أعدّ لكلٍ منهم في الآخرة فقال:
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} .
للذين احسنوا اعمالهم في الدنيا، المنزلة الحسنى في الآخرة وهي الجنة، ولهم زيادة على ذلك فضلاً من الله وتكريما، كما قال تعالى: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173] ، [النور: 38] ، [فاطر: 30] ، [الشورى: 26] . وقد فسّر تلك الزيادة عدد من الصحابة والتابعين برؤية الله، روى ذلك الإمام أحمد في مُسْنَده، ومسلمُ في صحيحه.
{وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
لا يغشى وجوههم كآبة من هّمٍ أو ذُل، وهؤلاء هم اهل الجنة ينعمون فيها دائما.
{والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} .
أما الذين لم يتسجيبوا لدعوة الله، فكفروا وعصَوا أمر ربهم، فسيُجْزَون بمثل ما عملوا من سوء.
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} .
وتغشاهم ذلة الفضيحة والهوان، وليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وجوهُهم مسودّةٌ عليها الغمُّ والكآبة كأنما أُسِدل عليها سوادٌ من ظلمة الليل، أولئك أهلُ النار هم فيها خالدون.
قراءات:
قرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب: «قطْعا» بسكون الطاء والباقون «قِطَعا» .
ثم بيّن الله ما ينال المشركين يوم الحشْر من التوبيخ والخزي بقوله تعالى:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} .
اذكُر أيها الرسول هول الموقف يوم نجمعُ الناس كافة، الذين أحسَنوا والذين أساءوا، ثم نقول لمن أشرك منهم: الزَموا مكانكم أنتم وشركاؤُكم لا تبرحوه حتى تنظُروا ما يُفعل بكم.
{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} .
فرّقنا بين المشرِكين والشركاء ووقعتْ بينهم الفُقة.
{وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} .
أيْ تبرّأ الشركاء من الذين عبدوهم، وقالوا لهم: إنكم ما كنتم تعبدوننا، بل كنتم تبعدون أهواءكم وشياطينكم.
{فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
تكفينا شهادةُ الله، واللهُ يعلم أنّنا ما أمرنْاكم بذلك، وما أردنا عبادتكم لنا، ولا نعلم بها ابدا.
{هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
هنالك في موقف الحساب تُختَبَر كلُّ نفسِ فتعلم ما قدّمت من خيرٍ أو شرٍ وتلقى جزاءه، وأُرجِعوا الى الله ربِّهم الحق، وتكشَّف الموقفُ عن ربِّ واحدٍ يرجع اليه الجميع، ولم يجد المشركون شيئاً مما كانوا يفترونه على الله.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «هنالك تتلوا» بتاءين من التلاوة يعني تقرأ ما عملت، او تتلوا تتبع عملها فيقودها الى الجنة او الى النار.(2/189)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
فأنى تصرفون: كيف تعدلون عن عبادة الله. انى تؤفكون: كيف تُصرفون وتعدِلون عن عبادة الله.
بعد عرضِ يوم الحشر وما فيه، وكيف تُكشَف الأعمال وتَسقُط الدعاوي والأباطيل، يؤكد الله هنا قدرته، وأنه مالكُ كلّ شيءٍ، يدبر الأمر في هذا الكون، ويسأل: كيف بعد هذا كله يعدِلون عن عبادته!!
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} .
قل لهم أيها الرسول: من الذي يأتيكم بالرِزِق من السماء بإنزال المطر، ومن الأرض بما تُنبته من شتّى أنواع النبات والثمر؟ من الذي يمنحُكم السمعَ والبصرَ، وانتم بدونها لا تدرون شيئا!! وقد خصّ هاتين الحاسّتين، لأنهما أهم الحواس.
{وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} .
من ذا الذي بيده أمرُ الموت والحياة، فيخرج النباتَ الحيَّ من الأرض الميتةُ، ويُخرِج الميِّتَ من الحيّ فيما تعرِفون من المخلوقات وما لا تعرفون!؟ .
{وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} .
من الذي يصرّف جميع أمور هذا الكون بقدرته وحكمته؟ . وهم يجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بأن فاعلَ هذا كلّهِ هو الله وحدَه، فقل لهم ايها الرسول: إذنْ، أفلا تخافونه وتتقون سخطه وعذابه، وتتركون عبادة غيره وترجوعن اليه!!
{فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال فأنى تُصْرَفُونَ} .
ان المتّصف بكل تلك الصفاتٍ السالفة هو الله المربّي لكم بِنِعمه والمدبّر لأموركم، وهو الحقُ الثابت بذاتِه، والذي تجب عبادتُه دون سواه. ليس بعد الحق من توحيد الله وعبادته الا الضلال، وهو الشِرك بالله وعبادة غيره، فكيف تتحوّلون عن الحقّ الى الباطل!؟
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} .
كما تحقّقت ألوهيةُ الله ووجبتْ عبادتُه، حقَّ قضاءه على الذين خرجوا وتمردوا على أمرِه، بأنهم لا يؤمنون. . . لأن الله تعالى لا يهدي إلى الحقّ إلاّ من سلَكَ طريقه المستقيم.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر: «حقت كلماتُ ربك» بالجمع، والباقون: «كلمة» كما هو في المصحف.
ثم أقام الله الحجَّةَ على حقيقة التوحيد وبطلانِ الشرك بما هو من خصائصه تعالى من بدء الخلق واعادته فقال سبحانه:
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ} .
قل لهم أيها الرسول: هل مِن معبوداتِكم مَن يستطيعُ أن ينشئ الخلقَ ثم يعيدُه بعد فنائه؟ سيعجِزون عن الجواب، فقل لهم: اللهُ وحدّه يفعل ذلك، فكيف تنصرفون عن الحق الواضح والايمان بالله!!(2/190)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
وهذا ضربٌ آخر من الحُجّة أقامه الله تعالى دليلاً على توحيده وبطلان الاشراك به، وقد جاء بطريق السؤال للتوبيخ وإلزام الخصم بالحجة.
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} .
ايها الرسول، قل لهؤلاء المشركين: هل من هؤلاء الذين عبدتموهم من يستطيع التمييز بين الهدى والضلال، فيرشده سواه الى السبيل الحق؟ إن الله وحده يفعل ذلك.
{أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} .
هل القادرُ على الهداية الى الحق أَولى بالاتباع والعبادة أم الذي لا يستطيع ان يهتدي في نفسه، ولا يهدي غيره الا اذا هداه الله!!
{فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
ما الذي جعلكم تنحرفون حتى أشركتم هذه الأصنامَ وغيرها في العبادة مع الله! كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده وتؤمنون بالخرافات، رغم الادلة الواضحة على فسادها!
قراءات:
كلمة يهدي: جاءت ثلاثة مرات «يَهدي» بفتح الياء وسكون الهاء وكسر الدال، والرابعة: «أمّن لا يهدِّي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال المشددة. وهذه قراءة حفص ويعقوب كما هي بالمصحف ومعناها يهتدي.
وقرأ ابن كثير وورش عن نافع عامر: «يهدي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ ابو بكر: «يهدي» بكسر الياء والهاء وتشديد الدال.
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} .
وما يتبع أكثرُ المشركين في متعقداتهم الا ظنّاً لا دليل عليه، والظنّ لا يفيد ولا يغني عن العلم الحق اي شيء.
{إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
ان الله عليم بما يفعله رؤساء الكفر وأتباعهم وسيجازيهم على ذلك.
وفي هذا تهديد لكل من يتبع الظن في أمرٍ من أمور الدين.
{وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
لايصحُّ ولا يُعقل ان يفتريَ هذا القرآنَ أحد، لأنه في إعجازه وأحكامه لا يمكن ان يكون من عند غير الله، لما فيه من علوم عالية، وحِكم سامية، وتشريعٍ عادل، وآداب اجتماعية وإنباء بالغيب من الماضي والمستقبل، وإنما هو مصدّقٌ لما سبقه من الكتب السماوية، فيما جاءت به من الحق.
{وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} .
وهو مفصِّلٌ وموضِّح لما كُتب وسَبَق من الكتب السماوية، فهو لا شك منزلٌ من عند الله رب العالمين.
هكذا بيّن الله تعالى أنّ القرآن أجلُّ من أن يُفترى، لِعجزِ الخلْق عن الإتيان بمثله، ثم انتقلَ إلى حكاية زعْمِ المعاندِين المشركين الذين قالوا: إن محمّدا قد افتراه فقال:
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .(2/191)
بل يقول هؤلاء المشركون: إن محمّداً اختلقَ هذا القرآنَ من عنده، فقل لم ايها الرسول: إن كانت هذا القرآنُ من عملِ البشَر، فأُتوا أنتم بسورةٍ واحدة مماثلةٍ له، واستعينوا على ذلك بمن تشاءون من دونِ الله، إن كتنم صادقين فيما تزعمون.
وهذا التحدي قائم الى الآن، وقد عجَزَ عنه الأوّلون الآخرون، وسيظل ثابتا الى أبد الآبدين.
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} .
لقد سارَعوا الى تكذيبه من غير أن يتدبّروا ما فيه، أو يقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين والحقائق.
{كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} .
وبمثل هذه الطريقة في التكذيب من غير علم، كذَّب الذين قبلهم من مشركي الامم رسلَهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل ان يأيتهم تاويله، فانظر ايها الرسول الكريم كف كيف كان عاقبة الظالمين، وما آل اليه أمر المكذبين السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
بعد ان بين الله ان المشركين كذّبوا بالقرآن قبل ان يأتيهم تأويله أو يحيطوا بعلمه - ذكر هنا كيف يكون حالُهم بعد ان يأتيهم التأويل، اذ سينقسمون فريقين: فريق يؤمن به وفريق يستمر على كفره وعناده.(2/192)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} .
من هؤلاء المعانِدين من يؤمن بالقرآن بعد ان يفطَنَ الى ما فيه، ومنهم من سيظل يعاند ويكابر فيصَر على الشرك ويستمر عليه، والله تعالى أعلم بهؤلاء.
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .
وان أصرّوا على تكذيبك بعد كل هذه الأدلة، فقل لهم: إن لي جزاء عملي، ولكم جزاءُ عملكم، أنا مستمر في دعوتي، وأنتُم لا تؤاخّذون به، وانا بريء مما تعملون.
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} .
من هؤلاء مَنْ يستمع إليك بآذانهم فقط حينَ تدعوهم الى الله، أما قلبهم فقد اغلقت وأمَّا عقولهم فقد غابت، فهل تقدر على إسماع الصمّ!! وإنهم لا يعقِلون ولا يفهمون.
{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} .
ومنهم من يتجه نظرهُ إليك حين تقرأ القرأن، فيرى دلائلَ نبوَّتِكَ واضحة، لكنهم كالعميان الذين لا يبصِرون، إن نفوسهم قد انصرفت عن استعمال عقولهم وأنت لا تستطيع هداية العمي.
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
لقد سهّل تعالى للناس كلَّ أسباب الهداية بإرساله الرسُل، وهو لا يظلم أحدا، لكن الناس بكفرهم واتّباع أهوائهم يظلمون أنفسهم بصدّهم وعدم اتباع الحق الموصِل الى السعادة.(2/193)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ. . .}
أنذرْهم أيها الرسول يومَ يجمعُهم الله للسحاب، وقل لهم إن هذه الدنيا التي غرّتهم بمتاعها الزائل، لهي قصرة الأمد وستزول بموتهم. وفي ويوم القيامة سيقدّرون قصرها بساعة من النهار، وبتلاومون على مان كانوا عليه من الكفر والضلال. يومئذٍ سيعرفون أن الذين آثروا هذه الحياة السريعة الزوال وكذّبوا باليوم الآخر- قد خسروا السعادة الأبدية ولم يهتدوا إلى طريقها.
قراءات:
قرأ حفص «يحشرهم» بالياء كما هو في المصحف، والباقون «نحشرهم» بالنون.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} .
وإن أريناك أيّها الرسول، وفي أثناء حياتك، بعض ما نعِدُهم من العقاب، من نصرك عليهم، وإلحاق العذاب بهم، أو توفّيناك قبل ان ترى كل ذلك، فلا مناصَ من عودتهم إلينا للحساب والجزاء.
{ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} .
والله تعالى رقيب على كل ما يفعلونه عالم بذلك، وسيجزيهم عليه.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
لقد أرسل الله لك أمةٍ رسولاً قبلّغها دعوة الله. فآمن بعضهم، وكذّب آخرون وهكذا استوفى الجميع حقهم الذي فرضه الله على نفسه بن لا يعذِّب قوماً إلا بعد الرسالة. وبعد الاعذار لهم فإن الله يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم لرسوله. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] .(2/194)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
ويقول كفار قريش للرسول الكريم: متى يكون هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب ان كنت ومن معك صادقن فيما تؤمنون به!؟
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} .
قل لهم أيها الرسول: إنّي بَشَرٌ مثلكم، لا أمِلك لنفسي خيرا ولا شرا، الا ما قدّرني الله عليه.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} .
ان لكل امةٍ من الأمم فترة حدّدها الله، فإذا جاءت تجدهم لا يتسطيعون التأخر عنها، ولا سْبقَها. فإذا كان الرسول الكريم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعاً، فكيف يملكه ليغره، بل كيف يملَك غيره لنفسه! ان الأمر لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاء، والأجلُ قد ينتهي بالهلاك الماديّ كما وقع لبعض الأمم السابقة، وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، اي الهزيمة والضياع والأمة الاسلامية بانحرافها عن دينها وخلقها قد انهزمت ولا يمكن ان تعود الى مجدِها وعزها بدون الرجوع الى الله.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المكذبين المستعجلين وقوع العذاب: أخبروني إن وقع بكم عذاب الله ليلاً او نهاراً، فأيّ فائدة تحصُلون عليها من استعجالكم إياه! ، وأي عذاب تستعجلون؟ عذاب الدنيا، أم عذاب الآخرة!؟
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} .
ثم اذا حل بكم، هل تؤمنون به حين لا ينفع الايمان؟
{الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .
عند ذاك يقال لكم على سبيل التوبيخ: الآن آمنتم به اضطرارا، وقد كنتم تستعجلونه في الدينا!! .
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد}
يومئذ يقال للذين ظلموا أنفسَهم بالكفر والتكذيب: يا هؤلاء، الآن ذوقوا العذاب الدائم.
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} .
إنكم اليوم لا تُجزون إلا على أعمالِكم في الدنيا، ونحن لن نظلمكم شيئاً.
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
ويسألونك ايها الرسول ان تخبرهم عن هذا العذاب الذي تعِدثهم به في الدنيا والآخرة، ويقولون: يا محمد، أحقّ أنه سيقع؟ فقل لهم: نعم، أُقسِم لكم بِربّي إنه حاصلٌ لا شك فيه.
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} .
وفي تلك اللحظة من ذلك اليوم لو ان لكل نفس كفَرت بالله جميعَ ما في الأرض لافتدَت به من عذابها لو تستطيع، وذلك لما تراه من عذاب يوم القيامة.
{وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
ولما رأوا العذابَ أخفَوا ندمَهم لعجزِهم عن النطق، ولشدة ما دهاهم من الفَزع، ونَفَذ فيم قضاءُ الله.(2/195)
وهم غير مظلمون في هذا الجزاء لأنه نتيجةٌ لما قدّموا في الدنيا.
ثم أبتعَ الله ما تقدّمَ بالدليل على قدرته على نفاذِ حُكمه وإنجاز وعده، فقال.
{ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} .
فلْيتذكّر من نَسِيَ او جَهِلَ وغَفَلَ ان الله وحدَه يملك جميع ما في هذا الكون يتصرف فيه كيف يشاء.
ثم اكد ما سَلَف بقوله:
{أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
وليعلموا أن وعدَه حق، فلا يُعجِزُه شيء، ولكن اكثرَ الكفار قد غرَتْهم الحياةُ الدنيا فباتوا لا يعلمون ذلك حق اليقين.
ثم أقام الدليلَ على قدرته على ذلك فقال:
{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
والله تعالى يَهبُ الحياةَ بعد عدَم، ويسلبُها بعد وجود، ثم إليه المرجِعُ في الآخرة حين يُحييكم بعد موتكم ويحشُركم اليه للحساب والجزاء.(2/196)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
موعضة: نصيحة ووصية بالخير واجتناب الشر. شفاء لما في الصدور: دواء للنفوس.
بعد ان ذكر الله تعالى الادلة على أسس الدين الثلاثة: الوحدانية، والرسالة والبعث، ذكر هنا القرآن الكريمَ وما فيه من مقاصد هامة أجملَها في أمور اربعة:
{ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} .
يا أيها الناس جاءكم على لسانِ الرسول الكريم كتابٌ جامع لكل ما تحتاجون اليه.
1- موعظة تصلح اخلاقكم واعمالكم.
2- شفاء لأمراض قلوبكم من الشِرك والنفاق.
3- الهِداية الواضحة الى الصراط المستقيم الذي يوصل الى سعادة الدارين.
4- ورحمة للمؤمنين من رب العالمين.
{قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} .
قل لهم أيها الرسول: إفرحوا بفضلِ الله عليكم ورحمتِه بكم بإنزال القرآن، وبيانِ شريعةِ الإسلام. ان هذا خير من كل ما يجمعه الناس من متاع الدنيا، لأنه هو سببُ السعاد في الدارَين.
وقد نال المسملون في العصور الأولى بسببه المُلْكَ الواسع والمالَ الكثير، لكنّهم تأخرون الآن لبُعدهم عن القرآن والدين، لانشغالِهم بالدنيا ومتاعها، نسأل الله تعالى ان يردّنا إلى ديننا، ويلهمنا الصوابَ في القول والعمل.
قراءات:
قرأ رويس عن يعقوب: «فلتفرحوا» بالتاء والباقون «فليفرحوا» بالياء. وقرأ ابن عامر ورويس: «تجمعون» بالتاء والباقون «يجمعون» بالياء.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين: أخبروني عن الرِزق الذي منحكم الله إياه، حلالاً طيبا، لكنكم جعلتم بعضهَ بعضهَ حراماً وبعضه حلالاً، فلماذا؟
وكان العرب في الجاهلية يحرّمون على أنفسهِم بعضَ الإبل وغيرها، ويجعلون بعضَها للذكور منهم خاصة. وقد تقدم بيان ذلك في سورة الانعام.
{قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} .
قل لهم أيها الرسول: إن حقّ التحريم والتحليل لا يكون الا لِله، فله أذِنَ لكم بذلك، ام أنكم تكذبون في ذلك!؟ .
وبعد ان سجل الله تعالى عليهم جرمة افتراء الكذب على الله، بين هنا ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة فقال: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة} .
أيظن اولئك الذين يكذبون على الله أنهم يتركون بلا عقاب على كذبهم وافترائهم؟ وهذا ينافي العدالة. والله تعالى يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار؟} [ص: 28] .
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} ان الله تعالى قد انعم على الناس نعما كثيرة من فضله، ولكن أكثرهم لا يشركون الله عليها.
اخرج البخاري والطبراني عن زهير بن ابي علقمة قال: «اذا آتاك الله مالا فليرَ عليك، فان الله يحب ان يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس» .(2/197)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
الشأن: الأمر، والحال، والمنزل. تفيضون فيه: تتوسعون في الحديث. وما يعزب: ما يغيب. مثقال ذرة: قدر نملة صغيرة او ما يرى في الغبار. الكتاب: اللوح المحفوظ البشرى: الخبر السار، البشارة.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} .
وما تكونُ أيّها الرسولُ في أمرٍ من أمورِك، وما تقرأُ عليهِم من قرآنٍ أو تعمَلُ أنتَ وأمّتك من عملٍ الا ونحنُ شهودٌ عليه حين تخوضُون فيه.
{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
ولا يغيبُ عن علمٍ ربك شيءٌ ولو كانَ في وزْنِ الذرَّة في الأرضِ ولا في السماء، ولا أصغُر من ذلك ولا أكبر منه، إلاّ وهو معلومٌ في كتابٍ عظيم الشأن.
قراءات:
قرأ الكسائي: «يعزِب» بكسر الزاي. والباقون «يعزُب» بضم الزاي. وقرأ حمزة وخلف ويعقوب «ولا أصغُر من ذلك ولا اكبر» بالرفع، والباقون بفتح الراء.
بعد ان بيّن اللهُ تعالى لعبادِه سعةَ عِلمه وقدرتَهُ مراقبته لعباده، ذكر هنا حال الشاكرين المتقين الذين لهم حُسْنُ الجزاءِ يومَ القيامة.
{ألاا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
إن أولياءَ الله الّذين يُخِلصون له بالعباة ويتوكَلون عليه لا خوفٌ عليهم في الدُّنيا والآخرة، وهم لا يحزَنون على ما فاتَهم من عَرَض الدنيا لأن لهم عندَ الله ما هو أعظمُ من ذلك.
{الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} .
وأولياءُ الله هؤلاء هم الذين صدَّقوا بكل ما جاءَ من عند الله، واتقوا الله حق تقاته.
{لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} .
كذلك فان البشرى لهؤلاء الاولياء بالخير في الدنيا بما وعدَهم اللهُ من نصرٍ وعز، وفي الآخرة بتحقيق وعده بعظيم الجزاء.
{لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلك هُوَ الفوز العظيم} .
لا تغييرَ ولا خُلف في مواعيد ربِّهم، وهذا هو الفوز العظيم.(2/198)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
العزة: الغلبة والقوة. يخرصون: يحزرون ويقولون بلا علم. والنهار مبصرا: يعين تبصرون فيه. من سلطان: من حجة او برهان.
{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} .
لا تحزنْ أيها الرسول لما يقوله المشركون من سُخرية وطعنٍ وتكذيب.
{إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السميع العليم} .
ولا تظنَّ يا محمد أن حالَهم ستدوم، بل ان العزَّة كلَّها لله، والنصرُ بيدِه، وسسينصُرك عليهم، وهو السميعُ لما يقول من تكذيب الحق، كما يعلم بما يفعلون وما يُضمرون، وسيجازيهم على ذلك.
{ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} .
اعملوا أيها الناس أن الله وحدَه يخضع كلُّ من في السماوات والأرض، فهو الخالِق وهو المالِك وهو المدبّر.
ثم بين الله انه لا شريك له ابدا فقال:
{وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} .
إنه هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله، لا يتّبعون شركاءَ له في الحقيقة، بل أوهاماً باطِلة. وليسوا في ذلك إلا واهمين، يخمِّنُون ويحْدِسون بلا عِلم ولا يقين.
بعدما نبَّه الله تعالى على انفرادٍه بالقدرة الكاملة، ووجَّه الأنظارَ الى بعض مجالي تلك القدرة في المشاهدة الكونية، قال:
{هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .
إن الله تعالى هو الذي خلَق لكم الليلَ لتستَريحوا فيه من عناءِ العملِ والسعي في النهار، كما خلَق لكم النهارَ مضيئاً لستعَوا فيه الى مصالِحكم، وفي تعاقب الليل والنهار دلائل بينة لقومٍ يسمعون ويتدبرون.
ثم شرع في تفنيد نوع آخر من أباطيلهم فقال:
{قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} .
وقال المشركون: لقد اتخذَ الله ولداً، إن الله منزّه عن ذلك، فهو غني عن اتخاذ الولد، لأن الولد مظهر الحاجة الى البقاء، والله باقٍ خالد.
{إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} .
ليس لديكم من البراهين ما يؤيّد صحةَ ما تقولون وتفترون.
{أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
لماذا تختلقون على اللهِ أمراً لا اساسَ له من الحقيقة.
{قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} .
قل لهم ايها الرسول: إن الذين يكذِبون على الله، ويزعمون ان له ولداً لن يُفلحوا ابدا.
{مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .
سيكون لهم متاع قليل في الدنيا ثم إلَينا مرجعُهم فنحاسبُهم نُذيقهم العذابَ الشديد بسبب كفرهم.(2/199)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
النبأ: الخبر له خطر وشأن. فاجمعوا امركم: اعزموا عليه من غير تردد. الغمة: ضيق الأمر الذي يوجب الحزن. خلائف: يخلفون من مضى.
يذكر الله تعالى هنا الأمَم السالفةَ وأخبارَهم مع رسُولهم، وكيف كذّبوهم وعاندوهم، وفي ذلك تسليةٌ للرسول الكريم، وبيانٌ له بأن قومه لم يكونوا بِدْعا في عنادهم، بل سبقهم في مثلِ فعلهم كثيرٌ من الأمم قبلهم. لكن العاقبة كانت على الدوام ان يفوز الرسلُ المؤمنون.
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} .
اقرأ يا محمد على المشركين، قصةَ نوحٍ أحسّ كراهيةَ قومه وعداءَهم لرسالته، فقال لهم: يا قومي، إن كان وجودي فيكم لتبليغ الرسالةِ أصبحَ ثقيلاً عليكم، فإنّي مثابرٌ على دعوتي، متوكلٌ على الله في أمري.
{فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} .
فأعِدُّوا أمرَكم واعزموا على ما تُقْدِمون عليه في أمري انتم وشركاءكم الذي تبعدونهم. لا تدعوا في عِدائكم لي أَيّ خفاء، ولا تُمهلوني فيما تُريدون لي من سوء ان كنتم تقدرون على ذلك.
قراءات:
قرأ نافع: «فاجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم. والباقون: «فأجمعوا» بالهمزة وكسر الميم. وقرأ يعقوب: «وشركاؤكم» بالرفع، والباقون «وشركاءكم» بالنصب.
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} .
فإن اعرضتُم عن دَعوتي، لم يضرّني ذلك، لأني ما سألتُكم أن تدفعوا لي أجراً على ما دعوتكم اليه، بل إن ثوابي على الله وحده، وهو يؤتيني إياه، وقد أمرين أن أُسْلِمَ اليه جميع أمري.
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} .
ومع كل هذه الجهود التي بذلها من اجل هدايتهم، فقد أصرّوا على تكذيبه، فنجاه الله ومن معه من المؤمنين في السفينة، وجعلهم خلفاء في الأرض، وأغرق الكافرين بالطوفان.
فانظر أيها الرسول كيف كانت عاقبةُ هؤلاء المكذبين لرسولهم: نجّى الله نوحا والذين آمنوا معه واستخلفهم في الارض على قلّتهم، اغرق المكذبين وهزمهم على كثرتهم.(2/200)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
نطبع على قلوب المعتدين: نختمها ونغلقها. الملأ: أشراف القوم لتلفتنا: لتصرفنا.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} .
ثم أرسلنا من بعدٍ نوحٍ رسُلا آخرين، مبشِّرين ومنذِرين، ومعهم الدلائلُ والمعجِزات لكم أقوامهم رفضوا أن يصدّقوا ويذعنوا، واصّروا على موقفهم، فلم ينتفعوا بتعاليم الرسل الكرام.
{كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} .
وعلى مثل هذه الصورة اغلق الله قلوب الكافرين المعتدين عن الإيمان وطبع الباطل عليها، فتحجّرت ولم تعدْ صالحة للهداية ابدا.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} .
ثم أرسلْنا من بعد اولئك الرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون مصر وخاصّتِه وأشراف قومه، فاستكبروا عن متابعة الرسولين في دوتِهما، ورفضوا إلا ان يكونوا مجرمين.
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} .
وحين ظهر لهم الحقُّ من عند الله على يدِ موسى، قالوا عن معجزته إنّها مجرد سحر مؤكد.
{قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} .
قال لهم موسى مستنكرا: أتصِفُون الحقَّ الّذي جئتكم به من عندِ الله أنه سِحْر؟ كذبتُم. وثِقوا أنه لن يفوز الساحرون أبدا.
وبعد أن أفحمهم موسى بحجّته كشفوا عن حقيقة الدوافع التي تصدّهم عن الايمان بالله، ألا وهي الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، وضَياع مصالحهم.
{أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} .
قال فرعون وقومه لموسى: لقد جئتَ إلينا لتصرِفنا عن دينِ آبائنا وتقاليد قومنا، لكم نصيرَ لكما أتبعاً ويكون لك ولأخيك المُلك والعظَمة والرياسة!؟
ولقد كان زعماء قريشٍ يدركون ما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من صدق وسموّ، وما في عقيدة الشِرك من فساد وخرافات، لكنهم كانوا يخافون على مكانتهم الموروثة ومصالحهم الذاتية، كما خشيَ الملأُ من قومِ فرعونَ مثل ذلك، فقالوا: «وما نحن لكما بمؤمنين» .
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .
وظن فرعونُ أن موسى وأخاه ساحران، والسَحَرةُ عنده كثيرون، فأمر رجاله ان يُحضروا له كل ساحر عظيم في ملكته.
{فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} .
ولما حضرَ السَحَرة ووقفوا أمام القوم لمنازلة موسى قال لهمك هاتُوا ما عندَكم من فنُون السِحْر.
{فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} .
فلما ألقَوا حِبالهم وعصيَّهم وجعلتْ تسعى كأنها الأفاعي، قال لهم موسى: إن الذي فعلتموه هو السِحر حقا، وهو خيالٌ لا حقيقة فيه، واللهُ تعالى سبُطلِهِ على يدي، فهو لن يجعلَ عملَ المفسدين صالحاً للبقاء، بل يزيلُه ويمحقه.
{وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} .
ويثّبت الله الحقّ الذي فيه صلاح الخلْق وينصرُه، ولو كره ذلك كل مجرم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي «بكُلّ سحار» على صيغة المبالغة، والباقون «بُكّلِ ساحر» وقرأ ابو عمرو: «ما جئتم به آلسحر» بالاستفهام والباقون: «السحرُ» .(2/201)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
الذرية: النسل. ان يفتنهم: ان يختبرهم ويبتليهم وهنا معناه ان يضطهدهم. لعال في الأرض: مستَبدّ. تبوأ المكان: اقام فيه. اطمس على اموالهم: أزلها واشدد على قلوبهم: ضيّق عليهم.
{فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} .
كان الذين آمنوا بموسى مجرد فئة قليلة من السَحَرة والشّبان، آمنوا على خوفٍ من فرعونَ وزعماءِ قومهم، خشيةَ أن يضطهدوهم ويعذّبوهم ليرتدّوا عن دينهم.
{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} .
ان فرعونَ مستبدُّ جبّار، غالى وأسرف وتجاوز كل حدّ في الظلم والطغيان.
{وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} .
وقال موسى لمن آمن من قومهَ، ولقد رأى عليهم الخوفَ من الفتنة والاضطهاد: إن كنتُم آمنتم بالله حقَّ الإيمان فتوكّلوا عليه، وسلموا أموركم له، وثقوا بنصره.
{فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} .
فقالوا ممثلين أمره: على اللهِ وحدَه توكّلنا. ثم دعَوا ربَّهم أن لا يجعلَهم أداةَ فتنةٍ وتعذيبٍ على يد الكفارين.
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} .
كذلك دعوا ربهم قائلين: خلَّصْنا يا ربنا برحمتك من أيدي فرعون وقومه الكافرين.
{وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} .
وقلنا لهما: اتخِذوا لقومكما بيوتاً في مصر تكون مساكنَ وملاجئَ تَعْتَصِمونَ بها «واجعلوا بيوتكم قِبلَة» أي متقابلة على جهة واحدو. «وأقيموا الصلاةَ وبشرّ المؤمنين» ، وأدّوا الصلاةَ على وجهِها الكامل، واستبشروا أن يحفظكم الله من فتنة فرعون واعوانه.
{وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} .
لمّا يئس موسى من فرعون وأعوانه أن يُرجى لهم صلاح، قال: يا ربّ، إنك أعطيتَ فرعون وخاصّتَه بهجةَ الدنيا وزينتَها من الأموال والبنين والسلطان، لكنَّ عاقبة هذا الغنى والنعيم كانت الاسرافَ في الضلال عن سبيل الحق.
{رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} .
اللهمّ اسحقْ أموالَهم واتركءهم في ظُلمةِ قلوبهم، فلا يوفَّقوا للإيمان حتى يروا العذابَ رأي العين. قارن بين موسى ومحمد، دعى موسى على قومه، ودعا سيدنا محمد لهم.
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} .
قال الله تعالى: قد أُجيبتْ دعوتُكما يا موسى وهراون في فرعونَ وأعواِنه، فامضيا لأمري واثُبتا على ما انتما عليه، ولا تسلُكا سبيلَ الذين لا يعلمون الأمور على وجهِها.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «ولا تتبعان» بكسر النون بدون تشديد. وقراءة اخرى: «ولا تتبعان» بسكون التاء الثانية وفتح الباء وتشديد النون. وقرأ الباقون «ولا تتبعان» بتشديد التاء الثانية وكسر الباء وتشديد النون المسكورة.(2/202)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ننجيك ببدنك نخلص بدنك بعد غرقك ليراه الناس. بوأنا: انزلنا. مبوأ صدق: منزلا صالحا.
في هذه الآيات الثلاث خاتمةُ قصة موسى وأخيه هارون مع فرعون، وما كان من تأييد الله لهما، وقوةِ فرعون وقومه. وكانت دولة الفراعنة من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.
{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} .
ولما أنقذْنا موسى وأخاه من بني اسرائيل وقطعوا البحرَ، تعقَّبَهُم فرعونُ وجنوده للانتقام. فلما دخل بنو اسرائيلَ البحرَ انفلَقَ لهم، فكانت فيه الطرقُ والسبل على قدْرِ عددٍ فِرَقِهِم، فساوا فيها آمنين. وأغرى ذلك فرعونَ وجندَه أن يكون مِن ورائهم، فلحِقوا بهم. عند ذاك انطبق عليهم البحرُ وكانوا من الغارقين.
ولم يُعرف موضعُ العبور من البحر، ولم يردْ بذلك خبر صحيح.
{حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} .
فلما ادرك الغرقُ فرعونَ قال: آمنتُ بالإله الذي يؤمن به بنو اسرائيل، وأنا من المسلمين. ولكن، هيهات! لقد قات الوقت وجاء إيمانك متأخرا.
وهذا ما بيّنه الله تعالى بقوله:
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} .
الآنَ تُقِرّ لله بالعبودية وتستسلم له بالذلّة، أما قد عصيته من قبلُ؟ بلى، لقد كتن من المفسدين في الارض الضالمين للعباد يا فرعون، فإيمانك لن يُقبَل.
{فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} .
واليومَ نُخرج جثتك من البحر ونعرِضها على الناس لتكونَ عِظَةً وعبرة لمن كانوا عبُدونك ومع كل هذا فإن كثيراً من الناس سيظلّون في غفلة عن البيّنات والأدلة الظاهرة في هذا الكون على قدرتنا.
وقد كان فرعونُ موسى «منفتاح» بن رعميسيس الثاني، وكان خروج بين إسرائيل في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد في عهد الاسرة التاسعة عشرة. وقد عُثر على جثة «منفتاح» هذا في قبر «امنحتب الثاني» وهي موجودة الآن في المتحف المصري. وهذا مصداق لقوله تعالى: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَة} ولم يكن هذا معروفا لأحدٍ في العالم إلى ما بعد نزل القرآن بثلاثة عشر قرنا. وهذا اكبر دليل على انه منع عند الله وقد اخبرني الدكتور موريس بوكاي أنه أخذ قطعة من الجثة وحللها فوجد ان صاحب هذه الجثة مات غرقاً. وقد زار الأردن وامضى اسبوعاً وحاضر في الجامعة عن الموضوع نفسه.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «آمنت انه» بكسر همزة انه. والباقون: «أنه» بفتح الهمزة. وقرأ يعقوب: «ننجيك» باسكان النون الثانية. والباقون: «ننجيك» بفتح النون الثانية وكسر الجيم المشددة.
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} .
ولقد اسكنّاهم منزلاً مُرْضيا في أرض خصبة طيبة، بعيدين عن الظلم الذي كانوا فيه، أغدَقْنا عليهمُ الرزقَ الوافر من جيمع الطيبات.
{فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
ولكنّهم حين ذاقوا نعمةَ العزَّة بعد الهوان تفرّقوا واختلفوا، مع أنهم تعلّموا وتبين لهم الحقُّ والباطل! سيقضي اللهُ بينهم يوم القيامة، ويجازي كلاً منهم بما عمِل.(2/203)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} .
الخطابُ للرسول الكريم ويقول: ان كنت يا محمد في شك مما أنزل الله اليك، من هذا القصص او غيره فاسألْ أهلَ الكتاب. . . إن لديهم عِلماً يقرأونه فيكتبهم، وفيها الجواب القاطع الموافق لما أنزلنا عليك.
ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يشك فيما أُنزِلَ اليه، وقد روى ابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة ان الرسول الكريم قال حين نزول الآية: «اَأشُكُ ولا أسأل» وانما كان هذا تثبيتاً للرسول لشدّة الموقف وتأزّمه في مكة بعد حادث الاسراء، وبخاصة ان بعض من أسلموا قد ارتدوا آنذاك، وبعد موت خديجة وأبي طالب، واشتدوا الأذى عل الرسول واصحابه.
{لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} .
لقد جاءك الحق الواضح يا محمد بأنك رسولُ الله، فلا تكونَنَّ من الشاكِّين في صحة ذلك.
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} .
إياك ان تكون أنت أو أحد من الّذين اتبعوك، من الذين يكذّبون بآياتنا البينات! ، اذا ذَالك يحلّ عليك الخُسران والغضب. . والخطابُ ههنا للرسول الكريم ولكن به هو وكل من يساوره ادنى شك في صدق رسالته.
{إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} .
ان الّذي سَبَق عليم قضاءُ الله بالكفرِ لمِا عَلِمَ من عنادِهم وتعصبُّهِم، لا يؤمنون وذلك لرسوخهم في الكفر والطغيان. وحتى لو جئتَهم يا محمد بكل حجّة واضحة فإنهم لنْ يقنعوا، بل يظلّوا على ضلالهم، وإلى أن يحلّ بهم العذاب الأليم.(2/204)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
الخزي: الذل والهوان. الى حِين: الى مدة من الزمن. الرِجْس: العذاب.
بعد ان بيّن الكتاب أن الّذين حقّت عليهم كلمةُ ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، جاء بهذه الآيات الثلاثة لبيان سُنن الله تعالى في الأُمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدّين للإيمان والكفر، والخير والشر؛ وفي شيئة الله وحثكمنه بأفعاله وأفعال عباده، وبيّن أن قوم يونُس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الايمان.
{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} .
ولو أن قريةٍ من القرى تؤمن لنَفَعَها إيمانُها، إلا قوم يونس. فقد بُعث الى أهلِ نِينَوى بأرض الموصل، فدعاهم الى الايمان بالله وحده وترك ما يعبدون من الاصنام. ولم يستجيبوا له، فأخبرهم أن العذابَ آتيتهم قريبا وتَرَكَهم ورحل عنهم. فلما أيقنوا بالهلاكِ آمنوا، فوجوا النفع لهم، فكشفنا عنهم عذاب الخِزي وما يترتّب عليه متَعناهم في الحياة الدنيا حيناً من الزمن.
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} .
ولو أراد اللهُ ان يؤمنَ أهل الأرض كلُّهم لآمنوا، فلا تحزنْ على كفرِ المشركين، فأنت لا تستطع ان تُكره الناس على ان يؤمنوا بالله. وقد اقتضت حكمة ربك ان يخلق البشر على هذه الحالة مستعدّين للخير والشر والكفر والإيمان. فليس لك أن تحاولَ إكراههم على الايمان.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} .
ما كان لنفسٍ (بمقتضى ما أعطاها الله من الاختيار والاستقلال في الافعال) ان تؤمن إلا بارادةن الله ومقتضى سننه في نظام هذا الكون.
{وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} .
فإذا كان كل شيء بمشيئته وتيسيره، فسُنّةُ الله ان يجعل العذاب والغضب على الّذين ينصرفون عن الحجج الواضحة ولا بتدبّرونها.(2/205)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
في هذه الآيات الكريمة، وهي في ختام سورة يونس، بين الله تعالى ان مدار سعادة البشَر على استعمال عقولهم في التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول الا التبشير والإنذار وبيان الطريق المستقيم الوصِل الى السعادة وأن الدينَ مساعدٌ للعقل على حسن الاختيار إذا أحسنَ الانسانُ والتفكّر في امر الله.
{قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} .
تدعو هذه الآية وكثير غيرها، الى العمل بالمشاهَدة والتأمل واستعمال العقل، كما تدعو الى العلمِ بالكون وما فيه لأنه مُسَخَّر للانسان، فإن ما في السماوات والأرض حافلٌ بالآيات ولكن الآيات والنذُرَ لا تفيد الّذين لا يؤمنون، لانهم لم يلقوا بالاً إليها ولم يتدبّروها.
{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} .
يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام محذِّراً من قومه: هل ينتظر هؤلاء المكذِّبون إى ان ينالهم من الأيام الشِداد مثلُ ما أصابَ الذين مضَوا من الأم السابقة!؟ .
{قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} .
قل أيها النبي منذِرا ومهدّدا: إذا كنتم تنتظرون مثلَ ذلك، فانتظروا إنّي مكم من المنتظرين. وهذا تهديدٌ كبير من رب العالمين.
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} .
ان سنَّتنا في رسُلنا مع أقوامهم الذين يبلّغونهم الدعوةَ، ان يؤمنَ بعضُهم فيما يصّر آخرون على الكفر. فننجّي رسلَنا والمؤمنين من العذاب ونهلك المكذّبين. هذا وعدق حقٌّ عليما لا نُخْلِفُه كما قال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 77] .
قراءات:
قرأ يعقوب: «ثم نُنْجى» بالتخفيف. والباقون بالتشديد «نُنَجِّي» وقرأ الكسائي ويعقوب وخفص: «ننج المؤمنين» باسكان النون الثانية وحذف الياء لالتقاء الساكنين، والباقون بالتشديد.
{قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} .
في هذه الآية والتي بعدها أَمر الله بإعلان الدين الإسلامي، وإظهارِ الفارق بينه وبين ما عليه المشركون والمكذّبون من عبادة الأوثان.
قل أيها الناس جميعا: ان كنتم في شك من ان ديني الذي أدعوكم إليه هو الحقُّ، فان هذا لا يحوِّلني عن يَقيني، ولا يجعلين أعبدُ آلهتكم التي تعبُدونها من دونِ اله، فهو الّذي يملك أجسامكم وأعماركم، وقد أمرني أن أكونَ من المؤمنين به.
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} .
وأمُرتُ أن أُقيم وجهي للدين القيم واتوجّه الى الله وحدَه، وأن لا أدخُلَ في غِمار الذين أشركوا بالله، بل ابتعدَ عنهم أنا ومن اتّبعني من المؤمنين.
{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} .
ولا تلجأُ بالدعاء الى غير الله مما لا يجلب لك نفعا، ولا ينزل بك ضررا، فانك ان فعلت ذلك كنتَ من الظالمين وهذا النهي الموجه للنبي عليه الصلاة والسلام هو موجه لأمته.(2/206)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} .
ان يصبْك الله بضُرّ فلن يكشفَه عنك أحد غيره، وان يقدِّر لك الخيرَ فلن يمنعه عنك أحد، لأن الله يهبُ الخير من فضله لمن يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم، فلا ييأس احد من فضله وعفوه.
{قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} .
ختم الله تعالى هذه السورة بهذا البلاغ للناس كافة، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.
بَلِغْ أيها الرسول دعوةَ الله الى الناس كافة، وقل لهم: ايها الناس، لقد أنزل اللهُ عليكم الشريعةَ الحقّة من عنده، فمن شاء ان يهتديَ بها فلْيُسارِع، ومن أصرَّ على ضلاله فإن ضلالَه سيكونُ عليه وحدَه، وما أنا بموكَّلٍ من عندِ الله بأموركم، ولا مسيطرٍ عليكم.
{واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} .
وهذا الختام خطابٌ الى الرسول الصلاة والسلام، باتّباع ما أُمر به، والصبر على ما يلقاه حتى يحكم الله بما قدَّره وقضاه، وهو الختام المناسب الذي يلتقي مع مطلع السورة، ويتناسق مع محتوياتها بجملتها على طريقة القرآن الكريم في التصوير والتنسيق.(2/207)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
تقدم الكلام على هذه الحروف التي افتتحت بها بعض السور، وانها تقرأ باسمائها: فيقال: «الف لام را» احكمت آياته: اتقنت فصلت: جعلت واضحة. يمتعكم متاعا حسنا: يجعل معيشتكم كلها صالحة وارضية الى اجل مسمى: الى عمر مقدر.
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ. . . .} .
حروف ابتدأت بها السورة للإشارة الى ان القرآن معجِز، مع انه مكون من الحروف التي ينطقون بها، وللتنبيه الى الاصغاء عند تلاوة القرآن الكريم الى انه كتاب آياته محكمة النظم واضحة المعاني، قد فصِّلت أحكامها، وأنزلها ربّ حكيمٌ يقدر حاجة عباده، وخبير يضع الأمور في مواضعها.
{أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} .
قل أيها النبي للناس: لا تعبدوا الا الله، انّي مرسَل من عنده لأُنذركم بعذابه إن كفرتم، وأبشّركم بثوابه ان آمنتم وأطعتم.
{وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} .
وقلْ لهم ايضاً: ادعوا الله واسألوا هـ ان يغفر لكم ذنوبكم، ثم توبوا ليه بإخلاص، فيمتّعكم في معيشتكم متاعاً حسنا بالرِزق الطّيب والعافية والأمن الى ان ينتهي الأجل المقدر لكم في هذه الحياة.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} .
ويعطي كل صاحب عمل صالح في الدنيا أفضل اثواب واحسن الجزاء في الآخرة.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} .
وان توليتم وأعرضْتم عما دعوتكم إليه، فإن أخاف عليكم عذابَ يومٍ كبير، هو يوم القيامة، لما فيه من أهوال شديدة.
{إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
إليه تعالى رُجوعكم بعد موتكم، وحينئذ تلقَون جزاءكم بالعدْل والقسطاس، والله قادر على كل شيء.(2/208)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
ثنى الشيء: عطف عضه على بعض فطواه. يثنون صدروهم: عن الحق وينكسون رؤوسهم. ليستخفوا منه: ليخفوا انفسهم يستغشون ثيابهم: يتغطون بها.
بعد ان ذكر الله تعالى أنهم إن أعرضوا حلّ بهم عذابٌ كبير، بيّنه هنا في هذه الآية وصفَ حالتِهم العجيبة وكيف يتلقى فريق منهم تلك الآياتِ، عندما يتلوها عليهم النبيّ الكريم.
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} .
إن هؤلاء الكافرين يطوون صورَهم ليكتُموا ما يجُول فيها.
{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
والله سبحانه وتعالى مطّلع على أحوالهم حتى في حال خَلْوَتِهم حين يتغطَّون بثيابهم، فهو يعلم سرَّهم وعلانيتَهم.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} .
وهو يعلم بأسرار الصدور وخواطر القلوب.(2/209)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
الدابة: كل حي يدب على الأرض، وغلبت على كل ما يركب من الخيل والبغال والحمير. المستقر: مكان الاستقرار. ومستودعها: الموضع الذي كانت فيه قبل استقرارها، كالصلب والرحم والبيضة. الى امة معدودة: الى زمن معين. حاق بهم: نزل بهم واحط بهم.
يبيّن الله في الآيات آثار قدرته، وما يتعلقّ بحياة البشر وشؤونهم المختلفة، ويعرِّفُ الخلْقَ بربهم الحقّ الذي عليهم ان يعبدوه، فهو العالِمُ المحيط علمه بكل خلْقه، وهو الرزاق الذي لا يترك أحداً من زرقه. ثم يُطلعها على آثار قدرتِه وحكمته في خلق السماوات والأرض بنظامٍ خاص في أطوا او آمادٍ مُحكّمة.
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} .
لي هناك دابة تتحرك على الارض الا وقد تكّفل الله برزقها، فكل مخلوق له رزقٌ مقدَّر من الله في سُننه التي ترتَّب النِّتاجَ على الجُهد، فلا يقعدنَّ أحد عن السعي فالسّماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] .
{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} .
ان الله يعمل اين تستقرّ تلك الدابة او المخلوق واين تقم، والمكانّ الذي تودع فيه بعد موتها.
{كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
كل شيء من ذلك مسجَّلٌ عنده سبحانه في كتابٍ مبين موضِحٍ لأحوال ما فيه.
{وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} .
انه هو الذي خلق السماواتِ والأرض في ستّ مراحلَ، كما تقدم في سورة الاعراف الآية 54، وسورة يونس الآية 4.
ومن قبل ذلك لم يكن الوجود اكثر من عالم الماء.
{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} يعني أن الماء كان موجوداً، خَلَقَه سبحانه وتعالى قبل ان يخلق السماوات والأرض.
أما كيف كان هذا الماء، وكيف كان عرشه عليه، فليس هناك نص على شيء من ذلك، والعقلُ وحده لا يمِلك العمل به ونترك البحث فيه.
ثم عَلل الله بما آنفاً بعض حِكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
ولقد خلق هذا الكونَ ليُظهر أحوالَكم ايها الناس، بالاختبار وليُظهِر أيكم احسنُ إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس.
{وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} .
لئن اخبرتَ يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سبعثُهم من قبورِهم بعد مماتِهم، سارعوا الى الرد عليك مؤكدين ان هذا الذي جئتَهم به لا حقيقةَ له، وما هو الا كالسِحر الواضح تسحَرُ به العقول. فما أعجبَ هذا القول وما أغربه!؟
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «ان هذا الا ساحر مبين» .
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ؟} .
ولئن أخّرنا عنهم عذابَنا الذي توعِدُهم به ايها الرسول إلى وقت محدّد لَيقولون مستهزئين: ما الذي يمنعُه عنّا الآن! شأنُهم في التكذي بالبعث، كشأنهم في مسألة العذابِ الدنيوي، يستعجِلونه ويتساءولن عن سببِ تأخيره.
{أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} .
الا فلْيعلمْ هؤلاء القوم ان العذابَ آتٍ حتما، لا خلاصَ لهم منه، وأنه سيحيط بهم بسبب استهزائهم واستهتارهم.(2/210)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
أذقنا: اعطينا. نزعناها منه: اخذنا منه. يؤوس: مبالغة في اليأس. نعماء: نعمة. ضراء: مضرة.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا. . . . الآية} .
هذه طبيعةُ الانسان العَجول القاصر، إذا أعطيناه بعضَ النِعم رحمةٍ منا كالصحَة والرِزق الواسع، ثم نزعنا تلك النعمة أسرفَ في يأسه من عودتها، وقطع الرجاءَ من رحمةِ الله. إنه يؤوس منَ الخير، كفور بالنعمة.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} .
واذا منحنا هذا الانسانَ اليؤوسَ نعمةً أذقناه لذَّتها بعد ضرر لحِقَ به، لم يقابلْها بالشُّكر والطاعة، بل تجده يبطَر ويفخَر على الناس ويقول: ذهبَ ما كان يسؤوني.
{إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
وذلك لا ينطبق على الذين صبروا عند الشدائد، وعملوا الصالحاتِ في السّراء والضراء، فهؤلاء لهم مغفرة من الذنوب، وأجر كبير عند الله في نعيم الجنة الأبدي.(2/211)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
وضائق به صدرك: تحس بالغم والحزن. كنز: أصل الكنز المالُ المدفون تحت التراب، وكل مال مدخر فهو كنز افتراه: جاء به من عنده كذبا.
لا تحاول ايها النبيُّ إرضاءَ المشركين، فهم لا يؤمنون ولعلّك يا محمد تاركٌ تلاوةَ بعضِ ما يوحى اليك ما يشُقُّ سماعه على المشركين، بل قد تحسّ بالضِيق وانت تتلوا عليهم ما لايقبلون.
{أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} .
إنهم يطلبون ان يُنزل اللهُ عليك كنزا، او يجيء مَلَك يؤيّكك في دعوتك، فلا تبالِ بعنادهم.
{إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} .
فأنت منذِر ومحذِّر من عقبا الله لمن يخالف أمره، وقد أدّيتَ رسالتك، وليس عليك من أعمالهم شيء.
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
لقد تكرر هذا القول، وتكرر التحدي، فقد جاء في سور {البقرة الآية: 23] قوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ. . . الآية} وفي سورة [يونس الآية 38] {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ. . . الآية} أمن هنا في سورة هود فالوضع فيه تحدٍّ، لكنّه يختلف عن السورتين السابقتين، فالله تعالى يقول لهم: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي فاتوا بمثله ولم كَذِباً مفترى.
والمعنى: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريتُه على الله من عندي، فإن كنتُم صادقين في دعواكم هذه، فهاتوا من عندكم عشرَ سُورٍ مثله مفتريات مكذوبات، واستعينوا في ذلك لك من تستطيعون من فصحائكم وبُلغائكم وشعرائكم وجنّكم وإنسكم.
فالقرآن الكريم معجز باسلوبه، وبما فيه من القصص الصادق، وما فيه من العلوم الكونية التي اشار اليها، ولم تكن معروفة في عصر نزوله، وفي الاحكام التي اشتمل عليها.
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} .
فان عجزتم وعجز من استعنتم بهم، فاعلموا ان هذا القرآن انما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمقتضى علم الله وارادته، ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدعون زورا انهم أعانواه. واعلموا انه لا إله الا الله، فلا يعمل علمه احد، فهل انتم بعد ان قامت عليكم الحجة داخلون في الاسلام الذي ادعوكم اليه بهذا القرآن؟ وان هذا التحدي لايزال قائما الى يوم القيامة.(2/212)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
نوف اليهم: نؤد الحق كاملا. لا يبخسون: لا ينقصون. وحبط ما صنعوا: بطل وفسد. بينة: برهان واضح. يتلوه: يتبعه. مرية: شك.
بعد قيام الحجّةِ على حقيقة الاسلام، والتحديث الشديد بالقرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله - ظل المشركون يكابرون. . لأنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به من منافع وسلطة وشهوات، لهذا يعقّب القرآنُ على ذلك بما يناسب حالهم يصور لهم عاقبة أمرهم بقوله:
{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} .
من كان يطلب الحياةَ الدنيا والتمتع بلذّاتها وزينتِها من طعامٍ وشرابٍ ومال وأولاد وغيرِ ذلك نعطِهم ثمراتِ أعمالهم لا يُنْقَص منها شيء.
{أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
هؤلاء الذين قَصَروا همَّهم على الدنيا وما فيها من لذائذ ليس لهم في الآخرة إلا عذاب النار، جزاءَ كل ما صنعوه في الدينا، لأنه لم يكن للآخرة فيه نصيب.
وبعد ان ذكَر اللهُ مآل من يعمل للدنيا وزينتِها، ولا يهتمُّ بالآخرة وأعمالِها، ذكر هنا من كان يريدُ اخرة ويعمل لها، ومعه شاهد عل صدقه وهو القرآن فقال:
{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إَمَاماً وَرَحْمَةً أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
أفمَن كان يسير في حياته على بصرةٍ وهداية من ربّه، ومعه شاهدٌ بالصدِق من الله وهو القرآن، وشاهدٌ من قبله وهو كتابُ موسى الذي أنزله الله قدوةً ورحمة لمتّبعيه، كمن يسيرُ على ضلالٍ وكفرٍ فلا يهتمُّ الا بالدنيا وزينتها؟! كلاّ أبداً.
اولئك الأَوّلون هم الذين أنارَ الله بصائرهم، فهم يؤمنون بالنبيّ والكتابِ الذي أُنزل عليه.
{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} .
ومن يكفر به ممن تألّبوا على الحقّ وتحزَّبوا ضده، فالنارُ موعدُه يوم القيامة.
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} .
لا تكن أيها النبيّ في شكّ من هذا القرآن. وحاشا النبيَّ ان يشكّ. واذا كان لخطاب موجَها اليه فالمقصود به كل من سمع برسالة محمد، ولا في القرآن المنزل عليه.
{إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} .
ان هذا القرآن هو الحقُّ النازل من عند ربّك، لا يأتيه الباطل، ولكنّ اكثر الناس تُضِلُّهم شهواتهم فلا يؤمنون.(2/213)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
الأشهاد: جمع شاهد. الذين يصدون عن سبيل الله: الذين يصرفون الناس عن الدين. يبغونها عوجا: يريدونها ملتوية معوجة. لا جرم: حقا. واخبتوا: خشعوا واطمأنوا.
بعد ان بين الله الناس فريقان: يريد الدنيا وزينتها، وفريق مؤمن بربه وبرسالة رسوله الكريم، ذكر هنا بيان حال كُلٍّ من الفريقين وما يكون عليه في الآخرة. وهو يضرب للفريقين مثلا: الأعمى والأصم، والبصير والسميع.
لا أحد أكثرُ ظلماً لنفسه وبُعدا عن الحق من الذين يكذِبون على الله. ان افتراء الكذب في ذاته جريمةٌ نكراء وظلمٌ لمن يُفترى عليه الكذب، فكيف إذا كان هذا الافتراءُ على الله!!
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} .
لا أحد أكثرُ ظلماً لنفسه وبُعدا عن الحق من الذين يكذِبون على الله. ان افتراء الكذب في ذاته جريمةٌ نكراء وظلمٌ لمن يُفترى عليه الكذب، فكيف إذاكان هذا الافتراءُ على الله!!
{أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} .
سَيُعْرَضُ هؤلاء المفترون يوم القيامة على ربهم ليحاسبَهم على أعمالهم السيئة، فيقول الاشهاد من الملائكة والانبياء والناس: هؤلاء هم الذين ارتكبوا جريمة الكذب على الله. بذلك يفضحونهم بهذه الشهادةِ المقرونة باللَّعنة، اي خروجِهم من رحمة الله.
وفي الصحيحَين عن عبد الله بن عمر قال: «سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يُدني المؤمنَ حتى يضعَ كنَفَه عليه ويسترَهُ من الناس، ويقرِّره بذنوبه ويقول له: اتعرف ذنْبَ كذا؟ اتعرف ذنب كذا؟ فيقول: يا ربِّ أعرف، حتى إذا قرّره بذُنوبه ورأى في نفسه انه قد هلَك قال: فإنّي سترتُها عليك في الدُّنيا وأنا أغفر لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته» .
{الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} .
الذين يَصرِفون الناسَ عن سبيلِ الله، وهو دينُه القيم وصراطُه المستقيم؛ ويريدون ان تكونَ هذه السبيلُ معوجَّة لتوافقَ شهواتِهم واهواءَهم، وهو كافرون بالآخرِة والبعث والجزاء.
{أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} .
هؤلاءِ الّذين يصُدُّون عن سبيل الله لم تكنْ لهم قوةٌ تعجِز اللهَ عن أخذِهم بالعذاب في الدنيا، ولم يكن لهم أنصارٌ يمنعون عنهم العذابَ لو شاء ان يُعَجِّلَه لهم. انهم سيلقون ضعف العذاب في الآخرة.
ثم بين علة هذه المضاعفة للعذاب بقوله:
{مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} .
لقد أعماهم وأصمَّهم انهماكهم في الكفر والضلال حتى كرهوا ان يسمعوا القرآن أو يبصروا آيات الله في الكون.
{أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
هكذا اضاع اولئك الكافرون أنفسهم، ولم يربحوا بعبادة غير الله شيئاً، وغابَ عنهم في الآخرة ما كانوا يفترونه من الكذِب على الله في دنياهم.(2/214)
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} .
حقا إنهم أشدُّ الناس خسارةً في الآخرة، وبذلك يكونون قد أضاعوا أنفسَهم في الدنيا والآخرة.
وبعد ان بين الله حال الكافرين واعمالهم ومآلهم، بين حال المؤمنين اصحاب العمل الصالح وعاقبة أمرهم فقال:
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
ان الذين آمنوا بالله ورسُله، وعملوا الاعمالَ الصالحة، وخشعتْ قلوبُهم واطمأنّت الى ربها، سيكونون أهل الجنةِ خالدين فيها ابدا.
{مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} .
مثل الفريقين: الكافرين والمؤمنين: الكافرين كالأعمى الذي يسير على غيرِ هدى، والأصمِ الذي لا يسمع ام يُرشده إلى النجاة؛ والمؤمنين، كالمبصِر يرى طريقَ الخير، وقويِّ السمعِ الذي يسمع كل ما ينفعه.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} .
هل يستوي هذانِ الفريقان في الحال والمآل؟ افلا تتفكرون ايها الناس فيما بين الباطل والحق من خلاف فتعتبروا به، وتسيروا على الصراط المستقيم!(2/215)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
ورد ذِكر نوح في ثلاثة واربعين موضعا من القرآن الكريم في ثمانِ وعشرين سورة. وذُكرت قصة نوح مفصلة في القرآن الكريم في سورة الاعراف وهود وسورة المؤمنين والشعراء والقمر وسورة نوح، وهي مختلفة اللفظ حسْب ما تكون العنايةُ موجهة نحوه من البيان والمعنى:
كما أرسلناك يا محمد الى قومه لتنذِرَهم وتبشّرهم، فقابلَكَ فريقٌ بالكفر والجحود، أرسلنا من قبلُ نوحاً الى قومه فقال لَهم: إني رسولُ الله إليكم، أُنذرُتكم من عذابِ الله وأبيّن لكم طريق النجاة.
ثم فسر هذا الانذار بكلام مختصر.
{أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .
وإني أطلبُ منكم ان لا تعبُدوا إلا الله، ولا تشرِكوا به شيئا، لأني أخاف عليكم إن عبدتم غيره او اشركتم معه سواه أن ينالكم عذابُ يوم مؤلم.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «إني لكم نذير مبين» بكسر همزة ان، والباقون بفتحها.(2/216)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
الملأ: كبار القوم. اراذل: جمع ارذل، وهو الخسيس الدنيء. بادى الرأي: ظاهره قبل التامل في باطنه. ارأيتم: اخبروني. عميت: خَفِيتء انلزمكموها: انكرهكم عليها. تزدري: تستهزئ.
اختار الله تعالى نوحاً من بين أولئك القوم لينذرَهم عذابَ الله، لأنهم تمادَوا في غيِّهم وضلالهم. وقد اجتمع كبراؤهم وأهلُ فيهم على تكذيبه واحتقاره هو ومن ابتعه، واستتعدوا ان يكونَ واحدٌ منهم - لا يمتاز عليهم بالغِنى والجاه- هو المختار لهدايتهم، وأَنِفوا ان يكونوا مثل الّذين اتّبعوا نوحاً من الضعفاء. وزعموا ان هؤلاء قد اتبعوه من غير رويّة ولا تكفير، «بادى الرأي» وطلبوا اليه لن يجد ناصر يدفع عنه عقاب اله اذا ما طردهم عن الهدى.
كذلك أوضح لهم ان إنما جاءهم بالهداية، وليس رجلَ مال قد مكّنه الله من خزائنه وأطلعه على غَيْبه، وقال إنه المُلك فيهم، وانما هو شخص اختاره الله تعالى لدعوتهم وتبليغهم أمره. أما اتباععه من المؤمنين الذين تزدريهم أعين الكبراء فإن أمْرَهم الى الله، وهو أعلمُ بسرائرهم، لان ادراك الهداية الى الحقّ لا يكون بالمظهر الفاخر بل باطمئنان النفس وركونها الى الهدى مع اليقين التام والرضى به، ثم إنه لا يطلبُ منهم أجرا على دعوته، فأجرُه على الله وحده.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «بادئ الرأي» بالهمزة والباقون بدون همزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «فعيت» بضم العين وتشديد الميم. «فعميت» بفتح العين وكسر الميم بدون تشديد.(2/217)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
جادلتنا: نافشتنا وخاصمتنا. يغويكم يضلكم.
قالوا: يا نوحُ، قد ناقشتَنا بجِدالك فأطلتَ حتى مَلِلْنا. ان كنت صادقاً فيما تدعيه، فعجِّلْ وهاتِ ما توعدنا به من العذاب.
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
عند ذالك قال نوح: هذا أمرٌ بيدِ الله وحدَه، فهو الذي يأتيكم بما تَشاء حكمتُه، ولن تعجزوه ابداً، لأنه لايعجِزه شيءٌ في الارض ولا في السماء.
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
إنه لن ينفعكم نصيحي لمجردٍ إرادتي الخيرَ لكم، إذا كان الله قد شاء ان يضلَّكم. . . انه ربُّكم وخالقكم لا أنا، واليه ترجعون يوم القيامة، ويجازيكم على اعمالكم.
ونرى من هذا الحوار الذي دار بين نوح والملأ من قومه أنهم عجَزوا عن الجدال فطلبوا ان يأتيَهم بالعذاب تشكيكاً فيه، وهذا دَيْدَنُ الأمم في عدم الخضوع لحكم العقل إذا خالف الأمرُ ما ألِفُوه وورثوه عن آبائهم.(2/218)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
في هذه الآية الكريمة دَفْعُ شبهةٍ من شُبَهِ المشركين من قريشِ الّذين ادَّعوا أن محمَّداً يفتري هذا القَصص، فيردُّ الله عليهم بأن هذا القَصص صادقٌ، وقل لهم أيها الرسول: إن كنت افتريتُه على الله كما تزعمون، فهو جُرمٌ عظيمٌ عليَّ وحدي إثمهُ، وإذا كنت صادقاً، فانتم المجرمون، وانا بريء من جرمكم هذا.(2/219)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
فلا تبئس: فلا تحزن الفلك: السفينة. مفرد وجمع. بأعيننا: تحت رعايتنا. وحينا: بارشاد وحينا.
في تلك الحال أوحى الله الى نوح أنه لم يؤمن من قومك غير الذين سبق وآمنوا، فلا تحزَنْ على ما كانوا يعملون. . . ابنِ السفينةَ تحت رعايتنا وبإرشادش وحْينا، ولا تشفعْ في الّذين ظلموا. . . فهم محكومٌ عليهم بالغرق. وشرع نوح في صنع الفُلك، فكان كلّما مر عليه نفر من قادة الكفر من قومه استهزأوا به، لجَهْلِهم الغرضَ من بناء السفينة، فيقول لهمك ان تهزأوا منا فنحن ايضاً نهزأ منكم، لكنكم سوف تعلمون من منا الّذي سيأتيه عذابٌ يذلّه في الدنيا، ثم يحلّ عليه في الآخرة عذاب دائم.(2/220)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
فار التنور: نبع منه الماء بقوة. التنور: فرن له شكل خاص للخبر. مجراها ومرساها: اجراؤها وارساؤها. ومجراها بفتح الميم ومرساها بضم الميم. معزل: مكان بعيد عن ابيه. سآوي الى جبل: سألتجئ الى جل يعصمني: يحميني. اقلعي: أمسِكي. وغيض الماء: نضب الجوديّ: اسم جبل يقال انه في الموصل.
حتى اذا جاء وقتُ أمرِنا بإهلاكهم نبع الماء بشدة من التنُّور. وحينئذ قلنا لنوح: إحملْ معكم في السفينة من كل نوعٍ زوجَين ذكراً وأنثى، واحمِل اهلَكَ جيمعاً الا من سبق عليه حُكْمنا بإهلاكه. كذلك واحمِل معك من آمن بك من قومك، وهم نفر قليل.
وقال نوح: اركبوا في السفينة باسم الله جريانُها ورسوُّها، ان ربّي لواسع المغفرة لعباده. وركبوا في السفنية وهم يذكُرون الله، وجرتْ بهم في أمواجٍ هائجة عالية كالجبال، ثم ان نوحاً دعتْه الشفقة على انبه الذي تخلّف ولم يرافق أباه. فناداه قائلاً: تعال اركب معنا يا بنّي، ولا تكن من الجاحدين. فكان جواب ذلك الوالد العاصي: يا أبتِ، سألجأ الى جبلٍ يحمين من طغيان الماء. فقال نوح: لا شيء يعصِم أحداً من عذاب الله في هذا اليوم العصيب، الا من رحمة الله. ثم إن الموج حال بينهما وغاب الولد في اللجة وكان من الهالكين.
ثم ذكر الله ما حدثَ بعد هلاكهم، فأُمرت الأرضُ أن تبتلغَ ماءضها، والسماءُ أن تكفَّ عن المطر. وغاضَ الماء، وانتهى حكمُ الله بالإهلاك، ورست السفينةُ عند الجبل المسمَّى بالجُودِيّ عند المَوْصِل بالعراق. «وقيِلَ بُعداً للقومِ الظالمين» .
قراءات:
قرأ حفص: «من كل زوجين اثنين» بتنوين كل والزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين. والباقون: «من كلّ زوجين اثنين» وقرأ حمزة والكسائي: «مجراها» بفتح الميم والباقون بضم الميم.(2/221)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} .
وبعد ان هدأت العاصفة، وسَكَن الهَول، ثارت الشفقةُ في قلب نوحٍ على ابنه، فنادى ربَّه ضارعاً مشفقا: يا ربّ، إن ابني منّي وهو من أهلي، وقد وعدتَ أن تنجّي أهْلي، ووعدْك هو الحقّ، وأنت أعدلُ الحاكمين.
{قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} .
قال الله تعالى: يا نوح، إن ابنك هذا ليسَ من أهلِك، بكفْره قد انقطعت الصِلةُ بينك وبينه، فهو عملٌ غير صالح. واحذر ان تطلبَ ما ليس لك به علم، فأنا أرشِدك الى الحقّ لكيلا تكونَ من الجاهلين الّذين تُنسِيهم الشفقةُ الحقائقَ الثابتة.
قراءات:
قرأ الكسائي ويعقوب: «انه عَملَ غيرَ صالح» والباقون «عملٌ غيرُ صالحٍ» وقرأ ابن كثير: «لا تسألن» بتشديد النون وفتحها. وقرأ نافع وابن عامر: فلا تسألَنِيّ.
{قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين} .
قال نوح: يا ربّ، إني ألجأ إليك فلا أسألُك بعدَ هذا ما لاعِلمَ لي بحقيقته، وإن لم تنفضَّلْ عليَّ بمغفرتِك، وترحمني أكْنْ في عِداد الخاسرين.
وفي هذه الآية دليل على ان الله تعالى يجازي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، نلا بأنسابهم. انه لا يحابي أحدا لأجل الآباء والاجداد ولو كانوا من الأنبياء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا قاطمة بنت محمد، واللهِ لا أُغني عنك من الله شيئا» . فأساس الدين عندنا انه لا علاقة للصلاح بالوارثة والأنساب. وانما بالايمان والعمل الصالح.
{قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال تعالى: يا نوح، انزِل من السّفينة بسلامٍ منا، وأمْنٍ وبركاتٍ عليك.
ويسأل أناس كثيرون: هل كان الطوفان عاماً في الأرض جميعا، ام حدث في المنطقة التي كان يسكنها نوح وقومه، وأين كانت هذه الأرض؟
لم يرد نص صريح بذلك، وقد ودت رواياتٌ واسرائيليات كثيرة واخبرا غير مقطوع بصحتها، ولذلك نضرب عنها صفحا.
ثم ذكر الله تعالى لنبيّه الكريم أن هذا قصصٌ من عالَم الغيب لا يعرفه هو ولا قومه من قبل، قال:
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} .
ان هذه القصة عن نوح وقومه من أخبارِ الغيب التي لا يَعلمها الا الله، ما كنتَ تعلمُها يا محمد ولا قومُك من قبل هذا. فاصبِر على إيذاء قومك كما صَبَرَ الأنبياءُ قبلك، فان عاقبة الفوز للّذين يتّقون اللهَ بالإيمان والعمل الصالح.(2/222)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
فطرني: خلقني. مدرارا: كثيرا.
جاء ذكر عاد قومي النبي هود سبع مرات بدون ذكره هو صراحة، وذلك سورة المؤمنون، وفصلت، والاحقاف، والذارايات، والقمر، والحاقة، والفجر.
والقارئ لقصة هود مع قومه يراه إنسانا وقوراً رزيناً يزنُ الكلامَ قبل إلقائه، ويتجلى الإخلاص وحُسن النية على قسمات وجهه. فهو لا يقابل الشرَّ بمثله، بل لا يفارقه اللّينُ مع قومه أبداً، ويتلطف معهم بذكِر نعم الله عليهم ويرغَّبهم في الايمان، ويذكّرهم بما أنعمَ اللهُ عليهم به من اموال وبنين وجنات وعيون، وأنه زادَهم في الخلْق بَسْطَةً، وجعلهم خلفاء الأرض من بد قوم نوح، فإذا آمنوا حازوا رضي الله، فيرسل السماءَ عليهم مِدراراً لسقي زروعهم وإبناتِ الكلأ لماشيتهم، كما يزيدُهم عزّاً على عزّهم، وكان في كل محاوراته معهم واسعَ الصدر، مثالَ الحكمة والرزانة والأَناة.
وقد ذكرت قصة هود في سورة الاعراف بأُسلوب ونَظْمٍ يخالف ما هنا، وفي كل من الموضعَين من العظمة والعبرة ما ليس في الآخرة.
{وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} .
وأرسلْنا الى قوم عادٍ أخاهم في النسَب والوطَن هودا، فقال لهم: يا قوم، اعبُدوا الله وحده، ليس هناك إلهٌ غيره، أما عبادتكم للأصنام والأوثان فهي محض افتراءٍ منكم على الله.
كانت مساكنُ عادٍ في أرض الأحقاف، في شمال حَضْرَمَوْت، وفي شمالها يوجد الرَّبْع الخالي، وفي شرِقها عُمان. وموضع بلادهم اليومَ رمالٌ خالية ليس بها أنيس. ولم يردْ ذِكرٌ لقوم عاد في الكتب القديمة سوى القرآن الكريم.
{ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
يا قوم إنني لا أطلبُ منكم أجراً على تبيلغ رسالة ربي إليكم، فأَجري على من خلقني وبعني اليكم. أفلا تعقِلون ما ينفعُكم وما يضركم؟ .
{وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} .
يا قومُ اطلبوا المفغرةَ من ربِّكم على سلَفَ من ذنوبكم، ثم توبوا إليه توبةً صادقة، فإنه يَغِيثُكم بالمطر الغزير المتتابع، ويزيدُكم قوةً الى قوتكم التي تغترّون بها، ولا تُعرِضوا عما أدعوكم اليه، وأنتم مصرّون على إجرامكم وآثامكم.(2/223)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
الناصية: شعر مقدم الرأس، ومقدم الرأس.
{قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} .
قالوا: يا هود ما جئتَنا بحُجّةٍ واضحةٍ تؤيّد دعواك في أنك مرسَل من عندِ الله، ولن تركَ عبادةَ آلهتِنا قولك.
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} .
وبالَغوا في الردّ وقالوا: ما نقول فيك الا أن بعضَ آلهتنا قد أصابك بمسٍّ من جُنونٍ. فقال: مصرَّا على ايمانه متحدّيا: إني أُشهِد الله، وأشهِدكم على قولي إن أبرأ الى اللهِ مما تُشركون به. واتحدّى أن دبِّرا كلَّ حيلةٍ لإهلاكي إذا استطعتم.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
حتى اذا عجَزتم جيمعا، ولم يبقَ شُبهةٌ في أن آلهتكم لا تضرّ ولا تنفع، أجبتُكم أَني توكَلْ على الله واعتمدتُ عليه. هو ربّي وربكم. وليس في ها الكون من دابّةٍ الا هو مالكُ أمرِها يصرّفها كما يريد، فلا يُعجِزه حِفظُها من أذاكم. وهو عادل تجري كل أفعاله على طريق الحق والعدل، ولا يضيع عنده مظلوم.(2/224)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} .
فان تُعرِضوا عن دعوتي لم يضرَّني إعراضُكم أبداً. . . لقد أبلغْتُكن رسالةَ ربي اليكم، وقد يُهلككمُ اللهُ ويستخلفُ قوماً غيركم في دياركم وأموالكم. وكذلك لا تضرون الله بإعراضكم عن الايمان، وهو رقيب على كل شيء من أعمالكم.
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
ولما نزلَ عذابُنا نجَّينا هودا والذين آمنوا معه من العذاب الشديد الذي نزل بقومه ثم ذلك سبب ما نزل بهم من البلاء فقال:
{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
وتلك قبيلة عادٍ. لقد أنزلنا لهم نقمتنا لأنهم أنكروا الحججَ الواضحة، وعصَوا رسُل الله جميعا بعصيانهم رسولَهم، وطاعتِهم لأمر كل طاغية من رؤسائهم وكبرائهم.
{وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} .
ولقد لحقتْ بهم اللعنةُ في هذه الدنيا، وسوف تلحقهم يوم القيامة.
ثم اكد الله كفرهم بشهادته عليهم فقال:
{ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} .
فلْيعلم كلُّ الناس ان عاداً جحدوا خالقِهم عليهم ولم يشكروها بالإيمان، فبُعداً لهم. وهذا دعاء عليهم بالطرد عن رحمة الله.(2/225)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
أنشأكم من الارض: اوجدكم منها. استعمركم فيها. جعلكم تعمرونها. مرجوا: نرجوا منك الخير. مريب: موجب للتهمة والشك. تخسير: خسران.
صالح هو الرسول الثاني من العرب، ورد ذِكره في القرآن تسع مرات، في سورة الأعراف ثلاث مرات، وفي سورة هود اربع مرات، وفي كل من الشعراء والنمل مرة واحدة. وجاء ذِكر ثمودَ في سورة الحِجْر، وفُصّلت، والذاريات، والنجم، والقمر، والحاقة، والشمس.
كانت مساكن ثمود بالحِجْر التي تُعرف اليوم بمدائن صالح، في شمال الحجاز، وآثارُها باقية الى اليوم، وكانوا وثنيين يعبُدون الاصنام.
{وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} .
وأرسلْنا إلى قوم ثمود رسولَهم صالحاً، فقال لهم: يا قومي، اعبدوا لله وحدَه، لي لكم آله غيره يستحق العبادة. لقد خلقَكُم من الأرض، ومكّنكم من عِمارتها، واستثمارها خَيراتِها، فاستغفِروه من ذنوبكم، ثم ارِجعوا إليه بالتوبة الصادقة، فهو قريبُ الرحمة مجيبٌ لمن دعاه.
{قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
قالوا: يا صالح، لقد كنّا نرجو الخير فيك قبل هذه الدعوة، كنا نرى فيك حكمةً وأصالة رأي، فما بالك الآن؟ أتنهانا عن عبادة ما كان يعبُد آباؤنا؟ نحن في شكّ من دعوتك هذه الى عبادة الله وحده، شكٍ يجعلُنا نرتابُ فيك وفيما تقول.
{قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} .
قال صالح: أخبرني ان كنتُ على بَصيرةٍ من ربي، واعطني رحمةً منه لي ولكن، وهي النبوة والرسالة، ماذا اصنع؟ وكيف أخالف أمره وأعصيه؟ ومن يُعينني إن عصيتُه؟ ، إنكم لن تزيدوني غيرَ الضياعِ والوقوع في الخسران.(2/226)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
الآية: المعجزة. ذروها: اتركوها فعقروها: قطعوا قوائهما ثم بعد ذلك ينحرونها. في داركم: في بلدكم. الصيحة: صوت الصاعقة. جاثمين: ساقطين على وجوههم. كأن لم يغنوا فيها: كأنهم لم يقيموا في تلك الديار.
يا قوم، هذه ناقةُ الله معجزةً لكم تشهدُ على صدقي، فاتركوها تأكل في الأرض ولا تَمَسُّوها بأذى فينزلَ بكم عذابٌ قريب. فعقروها. . . فقال لهم صالح: استمتعوا بحياتكم في بلدِكم ثلاثة ايام، ثم بعدَ ذلك يأتيكم عذابُ الله. هذا وعد من الله الذي لايًخلف وعده.
فلما نزل العذاب نجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من الهلاك ومن فضيحة ذلك اليوم على السوء والله هو القوي العزيز.
واخذت الصَّيحةُ ثمود، فاصبحوا في ديارِهم هامدين ساقطين على وجوههم. يؤمئذٍ انتهى أمرُهم وباتت ديارُهم خاليةً مهجورة كأنهم لم يسكنوها. لقد كفر قوم ثمود بآيات ربهم، فبُعداً لهم. وهكذا كانت الخاتمة، تجيل الذنب وإتباعهم اللعنة، وهلاكهم الى الأبد.
قراءات:
قرأ نافع: «ومِن خزي يومَئذ» بفتح ميم يومَئذٍ. وقرأ الباقون بكسرها. وقرأ الكسائي «لثمودٍ» بكسر الدال وتنوينها. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ويعقوب: «الا ان ثمودَ» بفتح الدال بدون تنوين. والباقون: «ثمودا» بالتنوين.(2/227)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فما لبث: أسرع. حنيذ: مشوي بالحجارة المحاماة. نكرة: أنكره، ضد عرفه. واوجس منهم خِيفة: احس بالخوف. يا ويلتا: يا عجبا. البعل: الزوج.
جاء ذِكر إبارهيم عليه السلام في خمس وعشرين سورة سيأتي بعض التفصيلات عنها في سورة ابراهيم.
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} .
ولقد أرسلنا الملائكة إلى ابراهيم تبشِّره بأن الله سيرزُقُه غلاماً من زوجته سارة. وكان له اسماعيل من هاجر. فقالوا يحيُّونه: سلاماً، فقال: سلام، وأسرع فهيَّأ لهم طعاماً لذيذاً، عِجلاَ مشوياً، وكان كريماً يحب الضيوف.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «قال سلم» بكسر السين وسكون اللام.
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} .
استغرب ابراهيم حال ضيوفه حين رأى أيديَهم لا تمتد الى الطعام، وأَدرك أنهم ليسوا من البشرَ، وأَضمر ذلك في نفسِه وخافَ أن يكون مَجيئهم لأمرٍ خطيرٍ لا يعلمه. فالذّي لا يأكل الطعام من الضيوف يكون امره مريباً، ويُشعر بأنه ينوي خيانةً او غدراً حسب تقاليد العرب.
وعند ذلك شفوا له عن حقيقتِهم، قالوا: لا تخفْ، لقد أُرسِلْنا إلى قومِ لوطٍ لإهلاكهم. وكانت ديارهم قريبةً من ديار ابراهيم.
{وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .
وكانت امرأةُ إبراهيم سارة واقفةً تسمع ما يقال، فضحكتْ سروراً بالأمنِ من الخوف، فبشَّرها الملائكة بأن الله سيرزقها ولداً اسمُه اسحاق، ومن بعدِه سيولد لإسحاقَ يعقوب.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة حفص «ويعقوب» بنصب الباء، والباقون «ويعقوب» بالرفع.
{قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .
قالت سارة متعجبة: كيف ألد وأَنا كبيرة في السن عجوز، وهذا زوجي كما تَرَونه شيخاً كبيراً لا يولَد لمثله! إن بشارتكم هذه شيء عجيب مخالف لما هو معروف.
{قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} .
قال الملائكة: لا ينبغي لك ان تعجبي من قُدرة الله وأمرهِ. انه لا يعجِزه شيء.
لتكنْ هذه معجزةً من معجزاته الخارقة للعادات، وهي رحمةٌ منه لكم واحدى نعمه الكثيرة عليكم يا أهلَ بيتِ النبوّة. وهل جلَّ ثناؤه مستحقّ لجيمع المحامد، حقيق بالخير والاحسان.(2/228)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
الروع: الخوف. حليم: يصبر على من آذاه وجهل عليه ويعامله بلطف. اواه: كثير التأوه والتضرع الى الله. منيب: يرجع الى الله في كل امر.
وكان ابراهيم عليه السلام رجلاً رقيق القلب، فلما عَلِمَ أن قومَ لوطٍ هالكون، كما أعلمه الملائكة- أخذتْه الشفقةُ عليم، فجعلَ يجادل ويسأل الرحمة بهم، رجاء ان ينظُر الله اليهم نظر رحمة.
قال تعالى:
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع وَجَآءَتْهُ البشرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} .
حين اطمأن ابراهيم الى ان ضيوفه ملائكة من رسُل الله، وذهب عنه الخوف، وسكن قلبه ببُشرى الولد التي حمولها اليه، أخذ يجادل الملائكة في خلاك قوم لوط. وكان لوط هذا ابن أخ ابراهيم، وقد آمن بعمه كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] .
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} .
لقد جادل ابراهيم الملائكة في عذاب قوم لوط لأنه كان يعمل ان لوطاً من الصدِّيقين، ولان ابرايهم نفسهَ كان حليماً لا يعْجَل بالانتقام من المسيء، بل هو كثير التأوُّه والتضرُّع الى ربه، ويرجع في كل اموره الى الله.
{ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .
وجاءه الرد بقوله الملائكة: دعْ هذا الجدل لمصلحة قوم لوط والتماس الرحمة لهم يا إبراهيم، فقد صدر أمرُ ربك بهلاكهم، فالعذاب آتيهم لا يُرَدّ، بعد أن حقَّت عليهم الكلمةُ بالهلاك.(2/229)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
سيء بهم: ساءه مجيئهم. وضاق بهم ذعا: تحير ولم يطق هذه المصيبة. الذرع: منتهى الطاقة، يقال: ضاق الامر ذرعا: اذا صعب عليه احتالُه عصيب: شديد يُهرَعون اليه: يسرعون. لا تخزوني: لا تخجلوني. رشيد: عاقل الى ركن شديد: الى من ينصرني من اصحاب النفوذ.
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} .
كان لوط ابنَ أخِ ابراهيم. آمن بنبوّة عمّه وتَبعه في رحلاته. فكان معه بِمِصْرَ وأغدق عليه ملكُ مصرَ كما اغدق على ابراهيم. فكثُر ملاه ومواشيه. ثم إنه افترقَ عن ابارهيم لأن المكانَ الذيسكنه عمّه لمي عد يتسع لمواشيهما، ونزل سدوم في جنوب فلسطين، وهو المكان الذي فيه البحر الميت الآن.
وقد ذكر لوط في القرآن الكريم سبعا وعشرين مرة في اربع عشرة سورة هي: الانعام، الاعراف، هود الحجر، الانبياء، الحج، الشعراء، النمل، العنكبوت، الصافات، ص، ق، القمر، التحريم.
وكان أهلُ سَدوم، قوم لوط، ذوري أخلاق دنيئة لا يتسحون من منكر، ولا يتعفّفون عن معصية، بل يأتونها علناً على رؤوس الاشهاد، كما قال تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29] .
وقد ذكرت قصة لوط بتمامها في عدة سُوَر، وخلاصتها ان قوم لوطٍ كانوا من الشرّ بمكان. . . كانوا يقطعون الطريقَ على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يَرْغَبون في حَسَن. وكانوا قد ابتدعوا من المنكَرات مالم يسبقهم اليه أحَد، ومن ذلك أنهم يأون الذكورَ من دون النساء، ويرون في ذلك سوءا. وقد وعظَهم لوط ونصحهم ونهاهم وخوَّفهم بأسَ الله فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا. فلما ألحّ عليهم بالعِظات والإنذار هدّدوه: تراةً بالرجم، وتارةً بالإخراج، لأنه غريب، الى أن جاءَ الملائكةُ الذين مرّ ذِكرهم. وقد جاءوا الى لوط بهيئةِ غِلمان مُرْدٍ حسان الوجوه، فلّما جاءوا على هذه الهيئة تألَم واستاء، واحسّ بضعف عن احتمال ضيافتهم وحمايتهم من فساد قومه، وقال: هذا يومٌ شديد، شرُّه عظيم.
{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} .
ولما علم قومُ لوط جاءوا مسرعين اليه، وكانوا معتادين على ارتكاب الفواحش والفُسوق وعملِ السيئات.
{قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} .
وحاول لوط ردَّهم فقال: يا قوم، هؤلاء بناتي، تزوجوا بهن، ذلك أظهرُ لكم من ارتكاب الفواحش مع الذكور. . . اخشوا الله واحذَروا عقابه، وتفضحوني بالاعتداء على ضيوفي، الي فيكم رجلٌ عاقل سديدُ الرأي يردّكم عن الغيّ والضلال!!
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} .
فأجابه قومُه بقولهم: أنت تعلم أ، الا نريد النساء كما تعلمُ ما هي رغبتُنا.(2/230)
وأَجمَعُوا أمرَهم على فعلِ ما يريدون من العمل الخبيث.
عند ذلك تحيرّ لوط، وأَحسّ بضعفه، وهو غريبٌ بينهم، لا عشيرةَ له تحميه، فقال بحزن:
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
آه لو كان لي قوة تدفعكم عن بيتي هذا، او ركن شديد أعتمدُ عليه في حماية ضيوفي، ومنعكم من ارتكاب السيئات.
وفي صحيح البخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهو يقرأ هذه الآيات يقول: «يغفرُ الله للوط، أنه كان لَيأوي إلى ركن شديد» .
فلما ضاق الأمر واستحكمت حلقاته، وبلغ الكرب اشده، كشف الرسل عن حقيقة أمرم وأَنهم ملائكة فقالوا:
قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ. . .} .(2/231)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
فأسر بأهلك: فسِرْ بأهلك في الليل، السرى والاسراء: السير ليلاً. بقطع من الليل: بجزء منه. من سجيل: من طين متحجر. منضود: متتابع منتظم. مسومة: لها علامة خاصة.
فما اشتدالأمرُ على لوط، وضاقت عليه الأرض بما رحُبَت، قالت الملائكة، وقد ظهرت على حقيقتها: لا تخف يا لوط، نحن رسُل ربك، ولسنا بشرأً كما بدا لك. ان قومك لن يؤذوك. سنمنعهم من ذلك. ولن يصلوا اليك بشر او ضر، أَسر بأهلك ليلاً، واخرج بهم من هذه القرية، ولا يلتفت أحدٌ منكم خلفه لكيلا يرى هولَ العذاب فيُصابَ بشرٍ منه، الا امرأتك التي لم تؤمن فإنها من الهالكين مع قومها، ان موعد هلاكهم الصبح، وهو موعدٌ قريب.
فلما جاء وقت لاعذاب قلَبْنا ديارهم، بهم، وجعلنا عاليَها سافلَها، وأَمطرنا عليهم حجارةً من طينٍ متحجّر، عليها علامة من عند ربك.
{وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} .
ليس العذاب الذي حل بقوم لوط وديارهم بعيا عنكم أيها المشركون من أهل مكة.
قراءات:
قرأ بان كثير ونافع: فاسر بهمزة الوصل، والباقون: «فأسر» من الإسراء. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: «الا امراتُك» بالرفع، والباقون: «الا امرأَتك» بالنصب.(2/232)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
الا بتخسوا الناس اشياءهم: لا تنقصوهم من حقوقهم. ولا تعثَوا في الارض مفسدين: لا تبالغوا في الافساد. بقية الله: ما ابقاه الله لكم من الربح الحلال.
تقدم ذكر قصة شُعيب في سورة الاعراف، وقد ذُكر شعيب في القرآن عشر مرات في سورة الاعراف وسورة هود، وفي سورة الشعراء وسورة العنكبوت. وفي كل موضع من العظمات والأحكام ما لي في الأخرى.
وأرض قومه فهي مَدْين في شمال الحجاز لا تزال معروفة الا الآن، ويسمي المفسِّرون شُعيباً خطيب الانبياء لحسن مراجعته قومَه وبراعته في الحوار واقامة الحجة عليهم. ويقول الشيخ عبد الوهاب النجّار في كتابه «قصص الأنبياء» صفحة 149:
«أما شُعيب فقد كان زمنه قبل زمن موسى، فان الله تعالى لما ذكر نوحاً ثم هوداً ثم صالحاً ثم لوطاً ثم شعيباً قال:» ثم بعثنا من بعدِهم موسى بأياتنا الى فرعون وملأه «سورة الاعراف، ومثل ذلك في سورة يونس وهود والحج والعنكبوت. . .» .
ولقد أرسلْنا الى قومِ مدين أخاهم في النسَب شعينا، قال لهم: يا قوم اعبُدوا الله وحده، ليس لكم إله يستحق العبادة غيره، ولا تنقُصوا المكيالَ والميزان حين تبيعون. إن اراكم أهل ثروة واسعةٍ في الرزق تُغنيكم عن الدناءة في بخس حقوق الناس وأَكل اموالهم بالباطل، وأخاف ان يحلّ عذابُ يومٍ يحيط بكم لا تستطيعون تفلتوا من اهواله اذا لم تشكروا الله وتطيعوا امره؟
{وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} .
أتمُّرهما بالعدْل دون زيادة ولا نقصان.
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} .
بسرقة أموالهم بالباطل.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} .
ولا تفسدوا في الارض بقطع الطريق، وتهديد الأمن، وتعطيل مصالح الناس.
{بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} .
ان ما يبقى لكم من المال الحلال الذي تفضّل اللهُ به عليكم خيرٌ لكم من المال الذي تجمعونه من الحرام، ان كنتم تؤمنون بالله حقّ الإيمان ولست استطيع أن أكون عليكم رقيبا أحصي أعمالكم واحاسبكم عليها.(2/233)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
بينة: حجة واضحة، ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه: ولا أريد ان أفعل ما انهكم عنه. واليه أنيب: الى الله ارجع. ولا يجرمنكم شقاقي: لا يحملنكم الخلاف بيني وبينكم على العناد.
بعد ان بين الله تعالى أمرَ شعيب لقومه بعباده الله وحده وعدم النقص في الكيْل والميزان- ذكر هنا ردَّهم عليه، ثم أعدا النُّصح لهم بأنه لا يريد لهم الا الإصلاح، فقالوا متهكّمين به:
أصلاتُك يا شعيب تأمُرك ان نتركَ ما كان يعبد آباؤنا؟ ون لا نتصرّف في أموالنا كما نشاء؟ افأنت الحليمُ الرشيدُ كما هو معروف بيننا؟ .
فأجاب شعيب:
يا قوم، أرأيتم ان كنتُ على حجةٍ واضحة من ربي (وهي النبوة) ورزقَني منه رزقاً حسنا. . . هل يصحُّ لي مع هذه النعم الجزيلة ان كتَم ما أمرين بتبليغه لكم؟ إنني لن آتي ما أنهاكم عنه لأستبدَّ به دونكم، وانما اريد الإصلاح قدر طاقتي، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي الا بهداية الله تعالى، عليه توكلت في أداء ما كلّفني من تبليغكم، وإليه أرجع في كل ما أهمَّني.
ويا قوم، لا يحملنَّكُم الخلافُ بيني وبينكم على العناد والإصرار على الكفر. عندئذ يصيبكم ما أصاب قومَ نوح من الغرق، او قوم هودٍ من الريح، او قوم صالح من الرَّجْفة. ان ديار قوم لوط قريبة منكم، فاتبروا بما أصابهم.
{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} .
واطلبوا من اللهِ ان يغفرَ لكم ذنوبكم، ثم ارجِعوا إله نادمين، فهو يرحم من اسغفر واعتذر، ويتودد الى عباده بالإنعام عليهم، والنصح لهم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «اصلاتك» بالافراد، والباقون: «اصلواتك» بالجمع.(2/234)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
ما نفقه: ما نفهم. لولا رهطك: ولولا جماعتك. لرجمناك: لرميناك بالحجارة. واتخذتموه وراءكم ظهريا: وراء ظهرهم نسيا منسيا. اعملوا على مكانتكم: ما يمكنكم، اقصى استطاعتكم. ارتقبوا: انتظروا الصحية: صيحة العذاب. جاثمين: باركين على ركبهم مكيبن على وجوههم. كأن لم يغنوا: كأنهم م يقيموا في ديارهم ولم يسكنوها. بُعداً لمدين هلاكا لهم.
قالوا: يا شعيب، نحن لا نفهم كثيراً مما تقول، وأنت بيننا ضعيف في مكانتك، ولولا ان عشيرتك عزيزةٌ علينا لقتلناك رَجماً بالحِجارة، وما انت علينا بعزيز حتى نجلّك ونحترمك.
قال شعيب: يا قوم أعشيرتي أعزُّ عليكم من الله ارسلني اليكم! لقد جعلتم أوامره منبوذةً وراء ظهوركم. . ان ربي محيط بكل ما تعملون.
يا قوم، اعملوا ضدي كل ما تستطيعون، أما انا فسأظل أعمل على الثبات والدعوة الى الله. وسوف تعلمون من منّا الذي يأتيه عذاب يفضحُه ومن هو كاذب انتضِروا وأنا معكم من المنتتظِرين.
ويحن جاء عذابُنا نجَّينا شعيباً ومن آمنَ معه، واخذت الظالمين من اهل مدين الصيحةُ المهلكة، فأصبحوا في ديارشهم باركين مكبيّبين على وجوههم.
وانتهى أمرُهم وزالت آثارهم وصارت ديارهم باركين مكبين على وجوههم.
وانتهى أمرُهم وزالت آثارهم وصارت ديارهم خاوية كأنْ لم يقيموا فيها. الهلاكُ لمدين، وبعداً لهم من رحمة الهل كما بعدت ثمود من قبلهم.(2/235)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
الآيات التسع المعدودة في سورة الإسراء، والمفصلة في سورة الاعراف وغيرها. سلطان مبين: الحجة الواضحة والدليل الظاهر. الملأ: اشراف القوم وزعماؤهم: بلوغ الماء، والمورد: الماء. وهنا استعمل بمعنى النار مجازا. والرفد: العطاء والعون، والمرفود: المعطى.
لقد تكرر ذِكر موسى عليه السلام في القرآن الكريم مراتٍ كثيرة، ولما ذكر سبحانه ما أصاب أقوامَ نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، اشار في هذه الآيات الى قصص موسى مع فرعون وقومه للإعلام بان عاقبة فرعون وزعماء قومه الهلاكُ مثل الظالمين من اولئك الأقوام، والغاية من ذلك العبرة والعظة.
لقد ارسلنا موسى، مؤيَّداً بالمعجزات الدالة على صدقه والحجّة، إلى فرعون وكبار قومه. فكفر فرعون وأمر قومه ان يتبعوه في الكفر، فاتبوعوا أمره وخالفوا أمر موسى. ولي ما فعل مما يدل على الرشد. وسيأتي يوم القيامة يتقدم قومه كما كان يتقدمهم في الدنيا، فيوردهم النار. ولبئس ذاك المورد. فعلى فرعون وعليهم لعنة الله والملائكة والناس. «بئس الرفد المرفود» بئس العطاء المعطى. . . اي تلك اللعنة.(2/236)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
منها قائم: موجود. وحصيد: محصود أمّحت آثاره كالزرع المحصود. تتبيب: اهلاك وتخسير تب: هلك وخسر.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} .
ان هذا القصص يا محمد هو بعض اخبار القرى التي أهلكناها، وهي جديدة عليك لم تكن تعلمها من قبل، لكن الوحي من لدنّا ينبئك بهذا الغيب. وذلك بعض اغراض القرآن في قصصه. «منها قائم» ومن هذه القرى ما لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران، كآثار الفراعنة بمصر، وبقايا عاد وثمود، «وحصيد» ومن تلك الآثار ما درس وزال، كأنه زرع محصود، كما حل بقوة نوح او قوم لوط وغيرهم.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} .
وما ظلمناهم بإهلاكهم، ولكنّهم ظلموا أنفسَهم بالكفر وعبادةِ غير الله والفساد في الارض، فما استطاعت آلهتُهم ان تردّ عنهم الهلاك، ولا نفعتْهم بشيءٍ لما جاء أمر ربك، فما زادوهم غير هلاكٍ وتخسير.
{وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
مثل هذا الذي قصصنْا عليك من الأخذِ الشديد يأخذ ربُّك القرى حين يهلكها وهي ظالمة مشركة تَدين لغيره بالربوبية.(2/237)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
لا تكلم: لا تتكلم. يوم مشهود: يشهده جميع الناس. لأجل معدود: معين الزفير: تنفس الصعداء من الهم والكرب. شهيق: نشيج في البكاء اذا اشتد تردده في الصدر وارتفع به الصوت. غير مجذوذ: غير مقطوع مرية: شك.
بعد ان ذكر اللهُ تعالى العبرةَ في إهلاك الأمم في الدنيا، ذكره هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء، وما ينال الاشقياءَ من العذاب والخلود في النار. ما يتمتع به المؤمنون في الجنة.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} .
ان في ذلك القصص عبراً ومواعظ يعتبر بها من آمن بالله وخاف عذاب الآخرة بعد يوم القيامة، وهو يوم يُجمع له الناس كلهم للحساب، وتشهدهُ الخلائق جميعا من الجن والانس والملائكة.
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} .
ونحن نؤخر ذلك اليوم حتى تمضي مدة محدّدة في عالمنا لا تزيد ولا تنقص، ولم يُطلع عليها أحداً من الخلق.
{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} .
في ذلك اليوم الذي يأتي لا تتكلَّم نفس من الأنفس الا بإذنه تعالى، ويكون الناس فريقين: شقياً مستحقاً للعذاب الأليم، وسعيداً مستحقاً لما وُعد به المتقون من نعيم الآخرة
قراءات:
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: «يوم يأتِ» بكسر التاء بدون ياء. والباقون «يوم يأتي» بالياء.
ثم فصل جزاء الفريقين فقال:
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} .
فاما الذين شقوا في الدنيا ففي النار مآلُهم يكون فيها تنفُّسه مصحوباً بآلام مزعجة، وشهيقُهم يشتد تردُّده في الصدر من شدة كروبهم.
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} .
خالدين في النار ما دامت السموات والارض، لا يخُرجون منها الا في الوقت الذي يشاء الله، وليعذِّبَهم بنوعٍ آخر من العذاب. ان ربك أيّها النبي فعّال لما يريد فعله، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
اما الذين رزقَهم الله السعادةَ فيدخلون الجنة خالدين فيها الى ما لا نهاية {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} الا الفريق الذي يشاء الله تأخيرَه عن دخول الجنة مع السابقين، وهم عصاةُ المؤمنين، وهؤلاء يتأخَرون في النار ريثما يم توقيع الجزاء عليهم، ثم يخرجون منها الى الجة ويعطي ربك أهل الجنة عطاءً دائماً غير مقطوع ولا منقوص.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «واما الذين سعدا» بضم السين وكسر العين والباقون: «سعدوا» بفتح السين وكسر العين.(2/238)
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} .
بعد ان بيّن الله تعالى قصص عبدةِ الأوثان وما آل اليه أمرهم، ثم أتبعه بأحوال الاشقياء والسعداء - أعاد الخطاب الى رسول الله عليه الصلاة والسلام ليسرّي عنه عن المؤمنين معه ويثبتهم.
ما دام امر الأمم المشركة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصنا عليك يا محمد- فلا يكن لديك أدنى شكٍ في مصير عَبَدِة الأوثان من قومك. انهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل، من الاوثان والاصنام فهم مقلِّدون لهم، وسوف نعطيهم نصيبهم من العذاب جزاء اعمالهم وافيا على قدر جرائمهم.(2/239)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
شك منه مريب: قوي دائم. طرفي النهار: الغدوة العشيّة، يعني صلاة الصبح والظهر والعصر. وزلفاً من الليل: الساعات الاولى منه، صلاة المغرب والعشاء.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} .
بعد ان ذكّر مشركي مكة بالماضين من أمثالهم، وما جرى لهم في الدنيا وما سينالهم في الآخرة - ذكّرهم هنا في هاتين الآيتين بقوم موسى، واختلافهم في الكتاب. فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فلا عجب أن آمن بك قومٌ ايها الرسول وكفر بك آخرون.
ولقد آتينا موسى التوراة فاختلف بنو اسرائيل فيها، ولولا كلمةٌ سبقت من ربك بتأخير عذابهم الى يوم القيامة لفصل بينَهم بإهلاك المبطِلين ونجاة المحقّين. ان كفار قومك يشكّون في صدق القرآن، وكذلك هؤلاء ورثوا التوراة واقعون في حيرة وبعدٍ عن الحقيقة.
{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
ان ربّك سيوفي كل فريق من هؤلاء: المصدّقين والمكذبين، جزاء اعمالهم، وهو خبير بهم يحيط علمه بكل ما يعملون.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو بكر «وان كلا» باسكان النون. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لما» بالتشديد والباقون «لما» بالتخفيف.
وبعد ان بيّن الله أمر المختلفين في التوحيد والنبوّة، وذكَرَ وعْدَهم ووعيدَهم- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بالاستقامة، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعمل والعمل والاخلاق الفاضلة، فقال.
{فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
ما دام هذا حالُ الأمم التي جاءها كتاب من الله فاختلفت فيه وخرجت عليه، فاستِقم انت يا محمد ومن معك من المؤمنين ولا يتتجاوزوا حدودَ الاعتدال، انه سبحانه محيط علمه بكل ما تعملون.
{وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} .
لا تميلوا ادنى ميلٍ ولا تطمئنوا الى اعداء الله وأَعدائكم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر والشرك فتستَحِقّوا عذابَ النار مثلهم. انه لا ناصر لكم غير الله، ولا تنصَرون الا بالاستقامة والايمان.
وكذلك لاتسكُتوا عن المنكر إذا رأيتموه. . . فإن الامام أحمد وأصحاب السُنن رووا عن ابي بكر رضي الله عنهـ انه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ان الناس رأوا المنكَر بينهم فلم يُنكِرونه، يوشكُ أن يعمَّمهم الله بعاقبه» وهذا ما هو حاصل فينا اليوم.
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} .
بعد ان امر الله رسولَه بالاستقامة وعدم تجاوُزِ ما رسمه الدين، وعدم الركون الى الظالمين، أمره هنا بأفضلِ العبادات وأجلّ الفضائل، فقال:
يا محمد، أقمِ الصلاة كاملة على أحسن وجه، وداومْ عليها في طرفَي النهار (وهما أوله وآخره) وفي اوقات متفرقة منه.(2/240)
وهذه تشمل أوقاتَ الصلاة المفروضة دوت تحديد عددها، لكن السُّنة وعمل الرسول الكريم حددت ذلك. وقد خصّ الله تعالى الصلاة بالذكرلانها أساس العبادات.
{إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} .
ان الأعمال الحنسة تمحو السيئات التي قلّما يخلو منها البشر، والمراد بالسيئات الذنوب الصغيرة، لان الكبائر لا يكفّرها الا التوبة. كما قال تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] .
وفي الحديث الصحيح: «الصلوات الخمسُ كفّارة لما بينَها ما اجتُنبت الكبائر» رواه مسلم وفي صحيح البخاري ايضا: «أأيتُم لو ان نهراً بباب أحدِكم يغتسل فيه لك يوم خس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا قال: فذلك ملُ الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا» .
{ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} .
ان في الوصايا السابقة من الاستقامة، والنهي عن الركون الى الذين ظلموا، واقامة الصلاة في تلك الأوقات عبرةً للمتعظين المستعدين لقبولها، الذين يذكرون ربهم على الدوام.
والاستقامة في حاجة الى الصبر، ولذلك عقب الله على ذلك بقوله:
{واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} .
اصبر ايها النبي على مشاق ما أمرناك به، فالاستقامة احسان، واقامة الصلاة في اوقاتها احسان، والصبر على المكاره احسان، والله لا يضيع أجر المحسنين.(2/241)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
فلولا: فهلا القرون: جمع قرن، الجيل من الناس وشاع تقديره بمائة سنة. اولوا بقية: ما يبقة من اهل الصلاح والعقل. ما اترفوا فيه: ما تنعموا فيه من ملذات الدنيا فافسدتهم وابطرتهم. وتمت كلمة ربك: قضاؤه وأمره.
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} .
فهلاَّ وجد هناك من أهل القرون التي كانت قبلكم جماعةٌ اصحابُ شيء من العقل او الرأي والصلاح ينهون قومهم عن الفساد في الأرض.
{إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} .
ولكن كان هناك نفَر قليل من المؤمنين لم يُسمع لهم راي ولا توجيه فأنجاهم الله مع رسلهم. أما الظالمون المعانِدون فقد تمسّكوا بما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطِروا واستكبروا وصدّوا عن سبيل الله، وكانوا بذلك مجرمين.
ثم بين الله تعالى ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .
ما كان من سنة الله، ولا من عدله في خَلقه، ان يظلم أمةً من الأمم فيهلكها وهي متمسكة بالحق، ملتزمة الفاضئل. وهذا هوا لعدل من احكم الحاكمين.
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} .
لو شاء ربك ايها النبيّ لجعلَ الناس على دينٍ واحد، مطيعين الله بطبيعة خلْقتهم، كالملائكة، ولكان العالَم غير هذا العالم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، بل خلقهم مختارين كاسِين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم، وهي لا يزالون مختلفين في كل شيء حتى في اصول العقائد، تبعا لميولهم وشهواتهم وتفكيرهم.
الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} .
لا يزالون مختلفين في شئونهم الدنيوية والدينية، الا من رحم الله منهم لسلامة فِطَرهم، فانهم اتفقوا على حكم الله فيهم، فآمنوا بجميع رسله وكتبه واليوم الآخر. ولهذه المشيئة التي اقتضتها حكمته تعالى في نظام هذا الكون، خلَقهم مستعدّين لهذا الاختلاق ليرتب على ذلك استحقاق الثواب والعقاب.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} .
ولقد سبق في قضائه وقدَره وحكمته النافذة، أن يملأ جهنم من اتباع ابليس من الجن والناس من الذين ظلموا ولا يهتدون.(2/242)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
نقص عليك: تخبرك. من ابناء الرسل: من اخبارهم نثبت: نقوي على مكانتكم: على تمكنكم واستطاعتكم.
في خاتمة السورة خطاب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن في قصص الأنبياء والأمم القديمة فائدةً عظمى له وللمؤمنين، وهي تثّبت الفؤاد وتُلقي العظمة.
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
إننا نقصّ عليك ايها النبي كلّ نبأ من انباء الرسُل المتقدمين مع أممهم كيما نقوي قلبك على تحمل اعباء الرسالة. وقد جاءك في هذه الأنباء بيان الحق الذي تدعو اليه مثلما دعا اليه السابقون من الرسل، وفيها موعظة وذكرة وعبرة ينتفع بها المؤمنون.
{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} .
ايها النبيّ، قل للذين يصرّون على العناد والكفر: اعملوا ما تستطيعون من محارة الاسلام وايذاء المؤمنين، فاننا ماضون في طريقنا على قدر ما نستطيع من الثابت على الدعووة وتنفيذ أمر الله.
{وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} .
وانتظروا بنا ما تترقبون لنا. إننا كذلك منتظرون وعدَ الله لنا بنجاح الدعوة والانتصار.
{وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
ولله وحده علم الغيب في هذا كله، واليه وحده يرجع تصريف كل أم من الأمور. واذا كان الامر كذلك فاعبد ربك وحده، وتوكل عليه، وامتثل ما أُمرت به من دوام التبليغ والدعوة وما ربك بغافل عما تعملون جميعا ايها المؤمنون والكافرون. وقد صدق وعده ونصر عبده، واظهر دينه على الدين كله.(2/243)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
الف. لام. را. سبقت الاشارة الى تلك الحروف وأمثالها في القرآن الكريم. المبين: الواضح المرشد الى مصالح الدنيا وسبيل الوصول الى سعادة الآخرة.
{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
لقد انزلنا هذا الكتاب على النبي العربي ليبّين لكم بلُغتكم نفسِها ما لم تكونوا تعلمونه، فعلنا ذكل تسهيلاً عليكم في أن تعقلوا معانيه وتفهموا ما ترشد اليه آياته من مطالب الروح، ومدارك العقل.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} .
نحن نروي لك يا محمد أحسنَ الأخبار التي تتضمن العِبر والحِكَم، بإيحائنا اليك هذا القرآن، وكنتَ قبل نزوله عليك لا تعلم شيئا عنها، وبخاصة أنك في مجتمع أميّ جاهل لا يعرف شيئاً من أمور الماضين ولاِأخبار الأنبياء واقوامهم.(2/244)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
أحد عشر كوكبا: هم اخوة يوسف. والشمس والقمر: ابوه وامه الرؤيا: ما يراه النائم في المنام. يجتبيك ربك: يختارك ويصطفيك. تأويل الاحاديث: تعبير الرؤيا.
قال يوسف لأبيه يعقوب: لقد رأيتُ في منامي أحد عشر كوكبا ساجدة لي، ومعها الشمس والقمر ساجدين أيضاً. (وهذا السجود سجودُ تعظيم لا سجودَ عبادة) وقد عِلَمَ أبوه ان هذه الرؤيا سيكونُ لها شأنٌ عظيم، وان يوسفَ سيكون له مستقبل وسلطان يسود به أهلَه والناس، فقال لولده: يا بنيّ، لا تقصَّ على إخوتك هذه الرؤيا، فإنها تثير في نوسهم الحسدَ ويكيدون لك كيداً عظيما، فالشيطان بالمرصاد للانسان وهو عدوه الظاهر على الدوام.
لقد اصطفاك ربك يا يوسف فأراك هذه الرؤيا التي تبشّر بخير عظيم، وسختارك أيضاً للنبوة والملك، ويعلّمك الرؤيا، فيعظُم قدرُك وذكرك. وتتم نعمة الله عليك بالنبوّة، كما أتمّها من قبلُ على أبويك: ابرهيم واسحاق إنه عليم بمن يصطفيه حكيم في تدبيره.
ان بعض الرؤى حقّ، ويتحقق كثير منها في المستقبل، وما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف وصاحبيه في السجن، ورؤيا ملك مصر - يجعلنا نؤمن بها. وقد حصل معنا الكثير من الرؤى ومع اشخاص عرفناهم، وتحقق بعضا في حالات متكررة.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «يا ابت» بفتح التاء والباقون: «يا ابت» بكسر التاء.(2/245)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
آيات: عبر. عصبة: جماعة اقوياء. الجب: البئر غيابه الجب: قعرها بعض السيارة: بعض المسافرين من القوافل يرتع: يلهو ينعم. واوحينا اليه: ألهمناه. لتنَبَّئهم: سوف تخبرهم فيما بعد.
لقد كان في قصة يوسفَ وإخوته عِبَرٌ للسائلين عنها والراغبين في معرفتها، اذا قال إخوة يوسف لبعضهم: إن يوسفَ وأخاه أحبُّ على أبينا منا، فهو يفضّلهما علينا على صغرهما. ونحن أكبرُ منهما وأنفعُ لكن أبانا بإيثاره يوسف وأخاه بنيامين يقع في الخطأ ويتعمد البعد عن الحق والصواب.
وتشاوروا فيما بينهم، فقال بعضهم: اقتلوا يوسف حتى لا يكون لأبيه أمل في لقائه، او أبعدوه الى أرضٍِ بعيدة عن العمران حتى يلا يهتدي الى العودة منها. بذلك يخلُص لكم حبُّ أبيكم، وتصيرون قوماً يرضى عنكم، اذ يقبل الله توبتكم، ويقبل ابوكم اعتذاركم.
فقال: واحد منهم: لا تقتلوا يوسف، ان ذلك ذنبٌ عظيم، ويكفي ان تُلقوه في قعر بئر يلتقطه منها بعض المسافرين من القوافل. . . وبذا يتم لكم ما تريدون.
قراءات:
قرأ نافع: «في غيابات» بالجمع والباقون «غيابه بالمفرد.
فأعجبهم هذا الرأي وأقرّوه، وذهبوا الى أبيهم يخادعونه، ويمركون به وبيوسف، فقولوا له: يا أبانا، لماذا تخاف على يوسف منّا فلا تأمنّا عليه؟ نحن نحبه ونُشفق عليه، فأرسلْه معا غداً الى المراعي.؟ هناك يتمتع بالأكل الطّيب، ويلغب ويمرح شأن بقية الصبيان، ونحن نحرص عليه من كل مكروه.
قراءات:
قرأ ابن كثير:» نرتع ونلعب «بالنون فيها، وقرأ أبو عمرو وابن عامر:» نرتع ونلعب «بالنون وجزم العين. وقرأ نافع:» يرتع ويلعب «.
قال ابرايهم: إنني لأشعر بالحزْن إذا ذهبتم به بعيدا عني، وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه لاهون.
قراءات:
قرأ الكسائي وخلف:» الذيب «بدون همز. والباقون:» الذئب «بالهمز.
قالوا: كيف يأكله الذئب ونحن جماعة قوية! لا خير فينا لأنفسنا في تلك الحال.
وذهبوا به لينفذوا المؤامرة، واتفقوا على إلقائه في غور البئر وفي تلك اللحظات ألهمناه الاطمئنان والثقة بالله، وانه سيعيش ويذكر إخوتَه بموقفهم هذا منه فيما بعد.(2/246)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
بعد ان بيّن الله تعالى أن كلّ من في السموات والأرض خاضعٌ لقدرته عاد الى المشركين يسألُهم عدة أسئلةٍ ليُلزمهم الحجّةَ ويقنعهم بالدليل.
قُل لهم ايها النبي: من خَلَقَ السماواتِ والأرضَ؟ فإن لم يجيبوا فقُل لهم: إن الذي خلق هذا الكونَ وما فيه هو الله، ثم اسألهم وقل لهم: كيف اتّخذتم مِن دونِ الله أرباباً مع انهم لا يملكون لأنفسهم ولا لكم نفعا ولا ضرا!؟
ثم ضرب مثلاً للمشركين الذي يعبُدون الأصنامَ وغيرها من دون الله، والمؤمنين المصدِّقين بالله، فقال:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير؟} .
هل يستوي الأعمى الذي لا يُبصر شيئاً ولا يهتدي، مع البصير الذي يُبصر الحقّ فيتّبعه.
ثم ضربَ مثلاً للكفر والايمان فقال:
{أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور؟} .
لا يستوي الكُفر والإيمان، فالظلماتُ التي تحجُب الرؤيةَ هي التي تلفُّهم وتكفُّهم عن إدراك الحق الظاهر المبين.
ام جعلوا لله شركاءَ خلقوا كخلقه فاشتبه الأمرُ عليهم فلم يعرِفوا من خَلَقَ هذا ومن خلق ذاك، قل لم أيّها النبي: اللهُ وحده هو الخالقُ لكلّ ما في الوجود، وهو الواحد القهار الغالب على كل شيء.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر: «هل يستوي الظلمات والنور» بالياء، والباقون «تستوي» بالتاء كما هي في المصحف.(2/247)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
اكرمي مثواه: أحسني معاملته. المثوى: مكان الاقامة مكنا ليوسف: جعلنا له مكانه رفيعة. والله غالبٌ على امره: قادر عليه من غير مانع حتى يقع ما أراد، او غالب على امر يوسف يدبره ويحوطه. بلغ اشده: استكمل قوته وبلغ رشده. آتيناه حكماًوعلما: وهبناه حكما صحيحا صائبا، وعلما بحقائق الاشياء.
انتهت محنة يوسف الاولى، وبدأ عهداً جديداً في بلدٍ جديد عليه، ومجتمع غريب مختلف عن بيئته واهله. هناك بيع يوسف لرئيس الشرطة في المدينة وقال رئيس الشرطة لزوجته: خذي هذا الغلام، اشتريتُه من أصحابه أكرمي مقامه عندنا لعلّه ينفعُنا او نتهذه ولدا لنا. وأحبه سيَدُه كثيراً، فجعله رئيس خَدَمه، حتى لم يكن لأحد في الدار كلمة اعلى من كلمة يوسف سوى سيده وسيدته، كما قال تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} الآية.
{وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} .
ألهمناه قدراً من تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الامور، والله غالبٌ على كل أمرٍ يريده، ولكنّ اكثرَ الناسِ لا يعلمون خفايا حِكمته ولطف تدبيره. ذلك أنا ما حدث ليوسف من اخوته، وما فعله الذي أخذوه حراً وباعوه عبدا، ثم ما وقع له من امرأة العزيز ودخوله السجن- كل ذلك كان من الاسباب التي أراد الله تعالى بها المكين ليوسف في الأرض.
ولما بلغ يوسف أشُدّه واستلكم قوته، اعطيناه حُكماً صائبا وعلماً نافعا، ومثلُ ذلك الجزاء العظيم نجازي بها المحسنين على احسانهم.(2/248)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وراودته: طلبت منه برفق ولين ومخادعة. هيت لك: هلم اقبل وأسرع. قال معاذ الله: قال اعوذ بالله. انه ربي: انه سيدي. احسن مثواي: احسن معاملتي فلا اخونه.
وراودته امرأة سيِّده عن نفسه، (وانه لتعبير لطيف محتشَم) وغلّقت أبواب قصرها وقالت: هلمّ، عليّ يا يوسف، فقد هيأت لك نفسي فقال يوسف: معاذ الله اخون ربّي وسيّدي ومالك نفسي. . . لقد أحسنَ إليّ غاية الاحسان، فكيف أخونه بعد كل هذا الاكرام!!
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} .
الذين يخونون من أحسن اليهم بالتعدي على اعراض الناس.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: «هَيْتَ لك» كما هي في المصحف. وقرأ ابن كثير: «هيت» بفتح الهاء وضم التاء مثل حَيْتُ. وقرأ نافع وابن عامر: «هيت» بكسر الهاء وفتح التاء. وروى هشام ابن عامر: «هِيئْتُ» يعني تهيأت لك.(2/249)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وهذه محنة يوسف الثانية: لقد افتتنت امرأة العزيز بجماله، فأَشعل ذلك في نفسها جذوة الحب، فراودته عن نفسه، فأبى، وحاولت اغراءه بشتّى الطرق، حتى همت عن المعصية والخيانة، وثبت على طُهره وعفافه. بذلك صرف الله عنه سوء الخيانة والمعصية وظل هو من عباد الله الذين أخلصوا دينهم له.
وهرب منها. . فلحقت به عند الباب، وتعلقت بقميصه فشقته من خَلف. وفي تلك الأثناء جاء سيّدها. وصادف الحادث وهو يهمُّ بالدخول ومعه ابن عمها. فملا رأت زوجها ارادت ان تشفيَ غُلَّ صدرها وحنقها على يوسف لما فاتها من التمتع به، فقالت لزوجها:
{مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
لقد أرادت ان توهم زوجَها أن يوسف قد اعتدى علهيا، وطلبت منه ان يسجنه أو يعذّبه عذابا اليما. وهنا وقف يوسف وجهر بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل، فقال: «هِيَ روادتْني عن نفسِي» لا أنا الذي فعلت. لقد حاولتْ ان تخدعني وتوقعني في المعصية. فقال ابن عمها: ان كان قميصه شُقّ من أمام، فقد صدقت وهو من الكاذبين، وان كان فميصه شُقّ من الخلف، فقد كذبت في قولها، وهو من الصادقين.
فلما رأى الزوج قميص يوسف تمزّقَ من خلْفٍ، قال لزوجته: ان اتهامك له باطل، وما الأمر الا من كيدكن معشر النساء، إن كيدَكن عظيم.
ثم التفت الى يوسف، وقال له: يا يوسف، أعرِض عن هذا الأمر، اكتمه ولا تذكره أبداً. وقال لزوجته: اما انتِ فاستغفري لذنبك من هذا العمل الخطأ.
وانتهى الامر الى هنا، ولم يوقع العزيزُ أية عقوبة على يوسف، لتأكده من براءته.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر ويعقوب: «المخلصين» بكسر اللام والباقون: «المخلَصين» بفتح اللام كما هو في المصحف.(2/250)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
فتاها: عبدها قد شغفها حبا: شغاف قلبها، والشغاف: حجاب القلب الذي يغشّيه. وأعتدت لهن متكأ: وهيأت لهن مجلسا مريحا فاخرا. وأكبرنه: أعظمنه ودُهِشْنَ من جماله. وقطّعن ايديهنّ: جرحن أيديهن من فرط الدهش. حاش لله: تنزيها له استعصم: عفّ وامتنع عن المعصية. أصبُ اليهن: أمِلْ اليهن.
شاع نبأ حادثة امرأة العزيز وفتاها في ارجاء المدينة، ولاكته افواه النساء، وشرعن يَلُمْنها على فعلتها. وبلغ ذلك امرأة العزيز فأخذت تكيد لهن حتى يَعْذُرنها. وهكذا ارسلت الدعوة الى طائفة من نساء عليه الوقم، وأعدّت لهن مجلساً من الوسائد والنمارق وقدّمت اليهن طعاماً، وأعطت كلاً منهن سكّينا تقشر بها الفاكهة. وحين اتخذْن مجالسهم قالت ليوسف: اخرج عليهن. فلما رأينه بهرنّ جماله، وألهاهن عن تقطيع الطعام والفاكهة، وجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول، واعلنَّ لذلك الجمال، حتى قلن «حاش الله، ما هذا بشراً إن هذا الا مَلَك كريم» .
حنيئذ باحت لهن امرأة العزيز بحبها ليوسف، وقالت: إن هذا التفى الذي بهركنّ حُسنه، هو الذي لمنَّني في شأنه، {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} وحاولت إغراءه، لكنه امتنع وعف، {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} وان لم يقبل فانه سيُسجن ويكون من الاذلة المقهورين. ولما سمع يوسف هذا التهديد والوعيد قال: يا رب، السجنُ احبُّ الى نفسي مما يطلبنه مني، وان لم تُبعِدْ عنّي شرَّهن، أمِلْ الى موافقتِهن، وأقعْ في شباك مكرهنّ، «وأكنْ من الجاهلين» الذين تستخفُّهم الاهواء والشهوات.
فاستجاب له ربه، فصرف عنه شرّ مكرهن، انه هو السميع لدعاء من تضرّع اليه، العليم بصدق إيمانه.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} .
ولما فشت الفضحية في الناس، رأى العزيز ان يصدّع أمر زوجته ويسجنه، وبذلك كيفّ ألسنة الناس عنه وعن زوجته ويخلصُ من العار. كانت الدلائل كلها تشير الى براءة يوسف وعفته وطهارته، ولكن امرأة العزيز المتغطرسة أمرت بالسجن، وزوجها نفّذ ذلك.
قراءات:
قرأ ابو عمرو ونافع: «حاشا» بالالف. والباقون: «حاش» بدون الف.(2/251)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
وهكذا، دخل يوسف السجنَ ظلماً، وهذه هي المحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف، فكل ما بعدها رخاء.
ودخل معه السجنَ فَتَيان، كان أحدهما رئيس الخبازين عند الملك، والثاني رئيسَ السقاة. وقد سُجنا لخيانة نُسبت اليهما كانت ستودي بحياة الملك.
وبعد ان استقر يوسف في السجن ظهر أمره للناس، وانه يختلف عن السجناء الآخرين. وفي ذات يوم جاءه صاحب شراب الملك واخبرنه انه رأى في منامه انه يعصر خمراً للملك، وجاءه الخباز وقال له: إني رأيتُ فوق رأسي طبقاً من الخبز تأكل منه الطيور، وطلبا اليه ان يفسر لكل واحد منهما ما رأى في منامه.
فانتهز يوسف هذه الفرصةَ ليُعلنَ لهم دِينَه ويدعوهم اليه، وقال لأهل السجن ينبئهم بمقدرته على تأويل الرؤيا: لن يأتيكما طعام الا نبأتكما بشأنه.
كل ذلك مما علّمني ربّي. ثم أضاف:
{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} .
إني برئت من ملّة مَن لا يصدّق بالله ولا يقر بوحدانيته، ويعبد عدداً من الآلهة لا تضرّ ولا تنفع، لأن هؤلاء الناس يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء. وبدلاً من ذلك، أجدُني اتبعتُ ملّة آبائي الذين دعوا الى التوحيد الخالص وهم: إبراهيم وإسحق ويعقوب.
ثم بيّن أساس الملّة التي ورثها عن آبائه الكرام بقوله:
{مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ} ؟
وذلك كلّه من فضل الله علينا أهل بيت النبوة، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} .(2/252)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
واسترسل يوسف يبيّن دينَه القويم. . . وبعد ان بين بُطلانَ الشِرك اتّجه الى السائلَين وقال لهما: يا رفيقيَّ في السجن، هل عبادة أرابٍ كثيرين متفرّقين لا ينفعون ولا يضرون خيرٌ لكما ولغيرٍ كما، ام عبادةُ الله الواحدِ القهّار الذي له ملك السماوات والارض وبيده كل شيء؟ .
ثم بيّن لهما ان ما يعبدونه ويسمّونه آلهةً انما هي من اختراعهم، وتسميةٌ من تلقاء انفسِهم توارثَها خَلَفٌ من سلف، ليس لها مستنَدٌ من عقلٍ ولا وحي سماوي. فقال:
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} .
وان هذه الأربابَ، سواءً كانت من البشرَ أم من غيرهم، ليستْ من الربوبية في شيء. . . انظروا، ليس لها قوّة ولا إرادة. اما الربوبية الحقّة فلا تكون إلا لله الواحِد القهار، لقد أمر ان لا تعبدوا سواه.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} . لا يدركون ماهم عليه من جهل وضلالة.(2/253)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
بعد ذلك شرع يوسف يفسّر لهما الرؤيا فقال: يا صاحبي السجن، ما أحدُكما فسيعود الى ما كان عليه، ساقيَ الملك وصاحبَ شرابه، واما الثاني فيُصْلَب ويُترك مصلوباً، فتقع عليه الطير وتأكل من رأسه، إن الأمر الذي يهُّمكما ويُشكل عليكما وتستفتيانني فيه قد اتّضح وانتهى حكمه.
ثم التفت يوسف الى الذي اعتقدَ انه ناجٍ منهما، وهو ساقي الملك، فقال له: اذكر حالي عند سيدك يا هذا، عساه يُنصفني وينقذني مما أنا فيه.
فشغل الشيطان ذلك الرجلَ بعد أن خرج من السجن وأنساه ان يذكر للملك قصة يوسف. وهكذا مكث يوسف في السجن بضع سنين والبِضعُ من ثلاثٍ الى تسع، ولا ندري كم المدة التي امضاها على التحديد.(2/254)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
سمان: جمع سمينة. عجاف: هزيلة مفردها اعجف وعجفاء. تعبرون: تفسرون. اضعاف احلام: احلام مضطربة يصعب تأويلها، والضغثُ وجمعه اضغاث: الحزمة من النبات او من كل شيء. واذّكر: تذكّر بعد امة: بعد حين. تزرعون سبع سنين دأبا: دواما. سبع شداد: سبع سنين صاعب، تشتد على الناس تحصنون: تدخرون. يغاث الناس: من الغيث، وهو المطر والرحمة يعصرون: يستخرجون العصير مما يعصر كالزيت والعنب والتمر والقصب.
بعد أن أمضى يوسف عداً من السنين في السجن أراد الله ان يبعثَ بالفَرَج فهيَّأ الاسباب لذلك. اذ رأى الملك رؤيا أفزعته. لقد رأى سبع بقرات سمان ترعى في روضة، ثم جاءت سبع بقرات اخرى هزيلات قبيحات المنظر خرجت من النهر وأكلت البقرات الاولى السمان. كذلك رأيى سبع سنابل خُضْر حَسَنة طالعةً في ساق واحدة، واذا سبع سنابل يابسات خلفها قد فلحتْهن الريح تهجم على السنابل الخضر فتأكلها.
اسيتقظ الملك منزعجا لهذين المنامين، وفي الصباح دعا اليه بالسحرة وكبراء دولته، وقص عليهم الرؤيا وسألهم عن تأويلها فلم يجد عند احد جوابا. قالوا:
{قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} .
هذه أحلام مضطربة ايها الملك.
وفي ذلك الوقت انتبه رئيس سقاة الملك، رفيق يوسف في السجن الذي فسر الرؤيا، وتذكّره، فقال للملك: إن في السجن شاباً ذكياً له علم في تعبير الرؤيا، فأرسِلوني اليه لأسأله عن تفسير هذهين المنامين. وأرسله الملك اليه فلما التقى بيوسف قال له:
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} .
قال يوسف: سيأتي على مصر سبعُ سنين مخصبات تجود الأرض فيها بالغلاّت الوافرة، ثم يأتي ذلك سبع مُجْدِبة تأتي على المخزون من السِّنين السبع التي تقدمتها.
نصحهم أن يقتصدوا في السنين ويخزِنوا ما فضلَ عن القوت في سنبله، حتى اذا حلّ الجدبُ وجدوا ما يسدّ الرمق الى أن يأتي الخصب من جديد.(2/255)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
ما بال النسوة: ما شأنهن. ما خطبكن: ما شأنكن: حَصْحَص الحق: ثبت واستقر.
ولما عاد رئيس السقاة الى الملك وأخبره بتأويل رؤياه سُرَّ الملك بذلك، وعَلِمَ أنه تأويلٌ مناسب مع الرؤيا فقال: ائتوني بيوسف، فلما جاؤوا ليوسف وطلبوا منه ان يخرج من السجن أبى حتى يعرف أمره على حقيقته. كذلك طلب الى الرسول ان يعود ويسأل عن النسوة اللاتي قطعّن أيديَهن، فلما سألوهن قلن: حاشَ الله ما علمنا عليه من سوء، وأنكرن ان يكنّ سمعن شيئا عن شأنه امرأة العزيز.
ولما سمعت امرأةُ العزيز بشهادة النسوة، وان الأمر قد استبان على حقيته ببراءة يوسف، ورأت انه اصبح من هَمِّ ان يأتي بيوسف من السجن ليستخلصه لنفسه - أقّرت بجرميتها وباحت بما كتمته عن زوجها عدة سنين. فقالت:
{الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} .
الحق أنني لم أنلْ من امانته أو أطعن في شرفه وعقته، بل صرّحتُ للنسوة بأني قد راودته عن نفسه لكنه تعفّف، وها أنذار أقرّ بهذا أمامَ الملِك ورجال دولته.
{وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وبهذا الاقرار من امرأة العزيز انتهت تلك المحنة التي وقع فيها يوسف، وجاءت خاتمتُها خيرا.(2/256)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
أستخلصه لنفسي: أجعله خالصا لي. مكين أمين: ذو مكانة عالية وامانة. يتبوأ منها حيث يشاء: ينزل في اي مكان يشاء.
ولما ظهرت براءة يوسف للملك طلب إحضاره من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه. فجاء يوسف، وكلّمه الملك فأُعجب بكلامه لما رأى من حسن تعبير يوسف ووفرة عقله وحكمته وقال له: «إنّك اليومَ لدينا مَكِينق أمين» وسأله أي عمل يرضاه لنفسه ويكون فيه سروره؟ فقال يوسف: «اجعلّني على خزائنِ الأرض» وما يخرُجُ منها من الغلاّت والخيرات «غني حَفيظٌ عليم» .
وقبل الملك عرضَه، فاستوزره، وبذلك انعم الله على يوسف نعمة جليلة، فجعل له سلطانا وقدرة في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء.
وهذا شأن الله في عباده، يهب نعمته لمن يختاره منهم، ولا يُضيع أجر المحسنين. وان ثوابه في الآخرة لأفضلِ واوفى لمن صدقوا به وبرسهل، وكانوا يتقون الشرك، ويخافون يوم الحساب.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «يتبوأ منها حيث نشاء» بالنون والباقون «حيث يشاء» .(2/257)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
منكرون: لم يعرفوه. جهزهم بجهازهم: امر ان يعطوا من الطعام ما يريدون. خير المنزلين: خير من يضيف. سنراود عنه أباه: نخادع ونستميل برفق. لفتيانه: لغلمانه من الخدم. اجعلوا بضاعتهم في رحالهم: اجعوا ما جاؤا من البضاعة او اوعيتهم.
مرت السنينُ السبع المخصِبة وأعدّ يوسف عُدَّته فيها، واتخذّ المخازنَ وملأها وخزو الغلاّتِ في غُلُفِها. ثم جاءت السني السبع المجدبة، واشتدَّ المحلُ والجفاف في جيمع أمحاء الأرض. وجاء المصريون الى فرعون يطلبون القوتَ، فأحالهم الجدبُ بلاد الشام وأحسَّ أهلُ فلسطين الجوع وعِلِموا أن الطعام بصر موفور. فأرسل يعقوب أولاده ومعهم الجمال والبهائم الى مصر لشراء القوت لأهلهم من هناك، ولما دخلوا على يوسف عرفهم ولم يعرفوه. . وذلك طبيعي، فقد فارقهم وهو غلام أضمرد، وها هو الآن قاربَ الأربعين، وقد كسته أبهة الملك مهابة، اما هم فانهم على حالتهم في مَلْبَسهم ولغُتِهم ومنظرهم لم يتغير منهم شي.
وأمرَ يوسف ان يكرَّموا في ضيافته، واعطاهم من المؤونة ما طلبوا، واخذ يحدّثهم ويسأل عن احوالهم سؤالَ الجاهلِ بها وهو بها عليم. فأخبروه ان لهم اباً شيخاً كبيرا ولهم أخر صغير يحبه أبوهم حبا جما ولا يريد ان يفارقه. وهو بنيامين شقيق يوسف. فقال لهم بعد ان جهزهم الجهاز الكامل: احضِروا اخاكم الصغير في المرة القادمة ولا تخافوا شيئا، وإلاّ فلا كيل لكم عندي ولا تأتوا الي، فقال له اخوته: سنراود عنه أباه.
وقد اكرمهم يوسف غاية الإكرم، وقال لفتيانه: ردوا اليهم بضاعتَهم التي دفعوها ثمناً للطعام، واجعلوها في أوعيتهم، فإنهم يعودون الينا.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «لفتيانه» كما هو في المصحف والباقون: «لفتيته» .(2/258)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
متاعهم: اوعيتهم. يضاعتهم درت اليهم: هي ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام. ما نبغي: ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من احسان الملك الينا؟ ونمِير أهلنا: نجلب لهم الطعام والمؤونة. عهدا. الا ان يحاط بكم: الا ان تغلبوا على امركم.
عاد إخوةٌ يوسف الى أبيهم وأخبروه ان الوزير المسئول اكرمهم غاية الاكرام وأخبرهم انه سيمنعهم من شراء الطعام في المرة الآتية حتى يأتوه بأخيهم بنيامين، فتذكّر يعقوب امر يوسفَ، وكيف فرطوا به فقال لهم: «له آمنكم عليه (بنيامين) الا كما أمِنْتُكم على أخيه من قبلُ» ؟! وفتح إخوة يوسف متاعهم لاستخراج الطعام الذي أتوا به من مصر، فوجدوا نقودهم بحالِها، وعرفوا ان ما جاؤا به من الطعام كان مجّاناً. فكان ذلك مما شدّد عزائمهم في الكلام مع أبيهم، حين قالوا له: يا أبانا، ماذا نطلب اكثر من ذلك! هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا، فاذا سمحتَ بأخينا يذهبُ معنا فاننا نشتري الميرةَ (الطعام) لأهلنا، ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير، وهو شيء يسير عند الملك الكريم.
والظاهر ان القحط كان شديدا جعل يعقوب يسمح بسفر ابنه تحت شروط اشتراطها على اولاده، فقال لهم: لن ارسله حتى تؤتوني عهداً بالله لتعودون به إليّ الا إن عجزتم عن ذلك. فأعطوه عهدهم، وحينئذ قال: اللهُ على ما نقول وكيل.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «يكتل» بالياء، والباقون: «نكتل» بالنون.(2/259)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
اطمأنّ يعقوبُ الى عهد أبنائه، ثم دفعتءه الشفقة والحرص عليهم الى ان يوصيهم بدخول مصر من ابواب متفرقة، لكي يلفتوا الأنظار عنهم عند دخولهم، ولا تترقّبهم أعين الطامعين. ثم قال: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} وليس في قدرتي ان ادفع عنكم أذى، فالحكم في تدبير العالم ونَظْم الاسباب لله وحده، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} .
ولقد استجابوا لوصية ابيهم، فدخلوا من أبوابٍ متفرقة، وما كان ذلك ليدفع عنهم أذًى كتبه الله لهم، ولكنها حاجةٌ في نفس يعقوب، وكان من باب شفقة الأب على أبنائه.(2/260)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
آوى اليه اخاه: ضمه اليه. لا تبتئس: لا تحزن السقاية: وعاء يسقى به ويُكال به الطعام، وهو المراد الملك. العير: القافلة من الابل والبغال والحمير. زعيم: كفيل.
ولما دخل اخوة يوسف عليه انزلهم منزلا كريما، واختص أخاه بنيامين بأن ضمّه إليه وأسرّ له قائلا: إني اخوك يوسف، فلا تحزنْ بما كانوا يصنعون معك، وما صنعوه معي.
ثم إنه أكرم وفادتهم، وكال لهم الطعام، وزادهم حِمْلَ بعير لأخيه وجهّزهم للسفر، لكنّه أمر أعوانه ان يدسّوا كأس شراب الملك في أمتعة أخيه بنيامين. وغادر القومُ، فنادى مناد: أيها الركْب القافلون بأحمالهم، قِفوا إنكم لسارقون.
ارتاع إخوة يوسف للنداء، واتجهوا الى المنادين يسألونهم: ما الذي ضاع منكم، أي شيء تفقدون؟ فأجابهم هؤلاء: لقد سرقتم سقاية الملك يوسف، ونحن نعطي لمن جاء به حِمل بعير من المؤونة.
فقال اخوة يوسف وقد فوجئوا بهذا الاتهام: إن اتهامكم ايّنا بالسرقة أمر عجيب. {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} .
فقال فتيان يوسف وقد فوجئوا بهذا الاتهام: إن اتهامكم ايّانا بالسرقة أمر عجيب.
فقال فتيان يوسف وأعوانه لإخوته: فما جزاء من سرق صواع الملك ان ظهر انه عند احدكم؟ قالوا: من وجدتم ذلك في رحله فجزاؤه ان يؤخذ عبدا للملك، {كذلك نَجْزِي الظالمين} .
فتش كبير الأعوان وأحمالهم، مبتدئاً بالكبير منتهيا بالصغير، فوجد السقايةَ في عِدْل بنيامين. {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} وبذلك نجحت حيلته، وحق له ان يحتجز أخاه. ورجع بقية الإخوة الى مصر ودخلوا على يوسف مستعطِفين مسترحِمين. عند ذاك لامهم يوسف على ما صنعوا بعد ان اكرمهم وأحسن اليهم.
ثم علّل الله ما صنعه من التدبير ليوسف بقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ} ولولا هذا التدبير على يوسف ان يضم أخاه اليه. فنحن {الله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالعلم والنبوة، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .(2/261)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
استيأسوا: يئسوا. خلصوا نجيا: انفردوا يتناجون ويتشارورن. موثقا: عهدا فرطتم: قصرتم. فلن ابرح الارض: فلن افارق مصر.
قال إخوة يوسف وقد ملئوا غيظا على بنيامين لما أوقعهم فيه من الورطة: إن يشرقْ فقد سرقَ* أخ له من قبل. يقصدون بذلك يوسف.
وفطن يوسف الى طعنِهم الخفيّ بقولهم: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} ساءه ذلك، لكنّه أسرّها، وقال في نفسه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} لانه العليم بحقائق الاشياء.
ثم أرادوا ان يستطعطفوه ليُطلقَ لهم بنيامين فيرِجعوا به الى أبيهم، لأنه قد أخذ عليهم ميثاقاً بان يردوه اليه، {قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً} طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فِراقه، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلينا في ضيافتنا وتجهيزنا. قال: حاش لله ان نأخذ إلاّ م وجدْنا عندَه السقايةَ المسروقة. ولقد حكمتم بذلك حين قلتم: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} .
فلما انقطع منهم الأمل، ويئسوا من قبول الرجاء، اختَلَوا بأنفُسهم يتشاورون في موقفهم من ابيهم. فقال كبيرهم: لقد أخذ أبوكم عليكم عهداً من الله بِردِّ أخيكم. وقد سبق ان فرّطتم في يوسف، وعلى ذلك فإنني لي أبرح أرض مصر حتى يأذن لي أبي في القدوم عليه، او يحكم اللهُ في شأني وهو خير الحاكمين.(2/262)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
سولت لكم: زينت. تولى: اعرض. ابيضّت عيناه: صار عليهما غشاوة بيضاء من كثرة البكاء، او ما يسمى المياه الزرقاء. كظيم: مملوء غيظا. تفتأ تذكر: لا تفتأ تذكر، لا تزال. حرضا: مشرفا على الهلاك. بثّي: همّي. تحسّسوا: ابحثوا بكل حواسكم.
بعد ان تشاور إخوةُ يوسف في أمرهم اشار عليهم أكبرُهم أن يعودوا الى أبيهم ويخبروه بالأمر على حقيقته، فيقولوا له: ان ابنك سرق صواع الملك، وعوقب على ذلك باسترقاقه، {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} وحدَث تحت سمعنا وبصرنا. فإذا كنا يا أبانا في شك مما بلّغناك، فأرسل من يأتيك بشهادِة أهل مصر، او اسأل رفاقنا في القافلة لتظهر لك براءتنا.
فلما سمع يعقوب مقالتهم لم يصدّقهم، وقال في نفسه: هذا امر دبّروه لبنيامين كما دبروا أسوأ منه لأخيه يوسف من قبل. وزاد به الحزن حتى ابيضّت عيناه، وعاوده من الوجد انقضى امره، وقالوا: ألا تزال تذكر يوسف حتى تشرِف على الهلاك؟! فقال لهم: انما أشكوا ما بي من الحزن والحسرة الى الله، وأعلم منه ما لا تعملون. يا بَنيّ، ارجعوا الى مصر فانضموا الى أخيكم الكبير، وابحثوا جميعا عن يوسف وأخيه، ولا تقنطوا من رحمة الله أن يردَّهما، فلا يقنط من رحمة الله الا الكافرون.(2/263)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
الضر: المجاعة. ببضاعة مزجاة: قليلة آثرك: فضلك واختارك. لا تثريب عليكم: لا لوم ولا تأنيب.
واستجاب أبناء يعقوب لطلب أبيهم فذهبوا الى مصر، ودخلوا على يوسف مسترحمين، وقالوا: يا ايها العزيز، مسّنا وأهلَنا الضرُّ والجوع، وجئنا ببضاعة قليلة فأوف لنا الكيلَ وتصدَّق علينا، ان الله تعالى يكافئ المتصدّقين بأحسن الثواب.
فاخذت يوسف الشفقة الأخوية، وابتدأ يكشف امره لهم قائلا في عتب: هل أدركتُم قبح ما فعلتموه بيوسف من إلقائه في الجُبّ، وبأخيه من أذى؟!
نبهتهم تلك المفاجأة السارّة الى إدراك ان هذا يوسف، فقولوا مؤكدين: إنك لأنتَ يوسف حقا! فقال يوسف مصدّقا لهم: أنا يوسف، وهذا أخي، قد منّ الله علينا بالسلامة من المهالِك، وبالكرامة والسطان {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} .
فقولوا: صدقت فيما قلت. . . إن الله فضَّلك علينا بالتقوى والصبر وحُسن السيرة، وأثابَك بالمُلك وعلوّ المكانة، وكنّا نحن آثمين.
فرد عليهم النبيّ الكريم قائلا: لا لومَ عليكم اليوم، ولكم عندي الصفح الجميل، وليغفر الله لكم {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} .
ثم سألهم يوسف عن ابيه، فلما أخبروه عن حاله وسوءِ بصره، أعطاهم قميصَه وقال لهم: عودوا به الى أبي فاطرحوه على وجهِه، فسيفَرَح بسلامتي ويعودُ إليه بصرُه، وحنيئذ تعالوا به وبأهلِكم أجمعين.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «انك» بهمزة واحدة. والباقون «أإنك» بهمزتين.(2/264)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
ولما توجهت القافلة نحو ديار الشام، وكان يعقوب مسغرِقا في ترقُّب ما تأتي به رحلةُ بنيه، قال: إني لأَشَمّ رائحة يوسف، ولولا خشيةُ أن تتهموني في قولي لأنبأتُكم عن يوسف بأكثر من الشعورِ والوجدان.
فقال من حضر وسمع مقاله: {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} يا يعقوب، من حبِّ يوسف لا تسلوه. ولم يطل الانتظار حتى جاء البشير الى يعقوب بسلامة يوسف وأخيه، والقى قميص يوسف على وجه يعقوب بصيراً وقرّت عينه وبشرّ نفسه باللقاء، فقال لمن لاموه وفنّدوا رأيه: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
فأقبلوا عليه معتذرِين عما كان منهم، وطلبوا منه ان يستغفر لهم ذنوبهم، واعترفوا بخطأهم، فقال لهم: سأظلّ أطلب لكم العفو من الله عن سيئاتكم، {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} .(2/265)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
وتيهأ يعقوب وبنوه وأهله للسفر وشدّوا رحالَهم الى مصر، فلما بلغوها دخلوا على يوسف، فآوى إليه أبويه: يعقوب وزوجته، خالة يوسف، لان أمه ماتت وهو غصير، ورفعهما على العرش. وسجد له ابوه وزوجته واخوته الاحد عشر، وقال لابيه: يا أبت، هذا تأويل رؤياي من قبلُ، قد جعلها ربّي تتحقق، وقد أكرمني وأحسنَ إليّ، فأظهر براءتي وخلّصني من السجْن، وأتى بكم من البادية لنلتقي بعد ان افسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وهذا كله من لطف الله بي وبكم، إن ربي لطيفٌ لمن يشاء انه هو العليم الحكيم.
واتجه يوسف الى الله بشكره قائلا: ربِّ ما أكثر عليَّ، وما أعظَمها! لقد منحتني المُلك ووهبتَني من العمل الكثير. يا خالق السماوات والأرض، أنت مالكُ أمري ومتولي نعمتي في محيايَ وبعد مماتي {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} من آبائي ابراهيم واسحق ومن قبلهم، واحشُرني في زمرتهم.
ذلك الذي قَصصنا عليك ايها النبيّ (الرسول الكريم) من أخبار الماضي البعيد، لم يأتك الا عن طري الوحي منها، وما كنتَ حاضراً إخوةَ يوسف وهم يدبّرون له المكائد، وما علمتَ بكيدِهم الا عن طريقنا.
انتهت قصة يوسف اكبر قصة في القرآن الكريم كما تقدم.(2/266)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
غاشية: عقوبة شاملة. الساعة: القيامة. بغتة: فجأة.
{وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} .
انتهت قصة يوسف وبدأت بعد ذلك التعقيبات عليها، ومعها لفتات متنوعة، وجولات موحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس، وفي الغيب المجهور، وكل هذا لولا وحيُ الله تعالى لما وصل الى علم النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام.
لقد كان رسولُ الله حريصاً على إيمان قومه، رغبة في إيصيال الخير الذي جاء به إليهم، ورحمة لهم مما ينتظرُ المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة.
وما اكثرُ مشكركي قومك يا محمد- ولو حَرَصت على ان يؤمنوا بك ويتبعوا ما جئتهم به من عندك ربك - بمؤمنين.
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} .
أنت غنيّ عن ايمانهم يا محمد، فلستَ تطلب منهم أجرا على الهداية ولا مالا ولا منفعة. انك انما تدعوهم ان يتبعوا أمر ربك، وفي ما تعدوهم اليه تذكير وموعظة لارشاد العالمين كافة الا لهم خاصة.
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} .
ما اكثر الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون على وجود الخالق ووحدانيته وكماله. انها معروضة للابصار والبصائر، في السموات والارض، وهم يمرون عليها صباح مساء، ولكنهم لا يروْنها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون ايقاعها العميق.
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} .
قال ابن عباس: هم اهل مكّة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك، الا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وهذا هو الشِرك الاعظم.
فايمان اكثرهم لا يقوم على اساس سليم من التوحيد، لأنهم لا يعترفون بوحدانية اله اعترافا خالصا، ولكنه مقترن في نفوسهم بشوائب تسلكهم في مسلك المشركين.
والشرك انواع، روى الامام احمد ان رسول الله قال: «انّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الاصغر، قالوا: وما الشِرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة اذا جاء الناس بأعمالهم: اذهبوا الى الّذين كنتم تراءون في الدّنيا فانظُروا هل تجشدون عندَهم من جزاء» .
وبعد، فما الذي ينتظره أولئك المعرِضون عن آياتِ الله الناطقة في صفحات الوجود بعد اعراضهم عن آيات القرآن التي لا يُطلب منهم عليها أجر.
{أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} .
افأمِنَ هؤلاء الذين يؤمنون بالله لكنهم يشركون به غيره في العبادة، ان تاتيهم عقوبة شاملة تغشاهم، او تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون!!(2/267)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
هذا سبيلي: السبيل يذكر ويؤنث، هذا طريقي. على بصيرة: على حجة واضحة بأسنا: عقابنا عبرة: موعظة.
بعد ان بين الله تعالى ان اكثر الناس لايفكرون فيما في السموات والارض من آيات، تدل على ان الله هو الخالق المدبر- امر رسوله ان يخبر الناس ان طريقه هي الدعوة إلى اخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، يدعو بها هو ومن ابتعه على بصيرة واضحة وبرهان.
{قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} .
قل ايها الرسول: ان هذه الدعوة التي أدعو اليها هي سنتي ومنهاجي، وهي الطريق الى الله، وانا على يقين مما أدعو اليه ولديّ الحجّةُ والبرهان، وكذلك يفعل كل من تبعني وآمن بشريعتي، ونزه الله وعظمه عما لا يليق به، {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} وأبرأ من أهل الشِرك لست منهم.
وكان المشركون في مكةَ يقولون: لو أراد الله بإرسال لبعث مَلَكا، كما حكى عنهم سبحانه بقوله: {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14] فرد عليهم بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
نحن لم نرسل الى الأمم السابقة إلا رجالاً نُنزل عليهم الوحي ونرسلهم مبشّرين ومنذِرين، فلم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر، بل بشرا مثلك.
ثم أتبعَ ذلك بتأنيبهم على تكذيب الرسول بتوجيه نظرهم الى آثار الغابرين كيف تركوا ديارهم خاوية على عروشها، فقال:
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض. . . . . الخ} .
افلم يسِرء هؤلاء المشرِكون المكذّبون في الارض فينظروا كيف أهلكْنا الّذين كفروا قبلَهم كقومِ لوطٍ وصالحٍ وسائرِ من عذبهم الله من الأمم!!
{وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
ان ثواب الآخرة أفضلُ، لأن نعيمها دائم، أفلا تفكرون في هذا الفرق أيّها لمكذبون بالآخرة!!
ثم ذرك سبحانه، تثبيتاً لفؤاد رسوله عليه الصلاة والسلام، أن العاقبةَ دائما لرسُله، وان نصرهُ تعالى ينزل علهيم حين يضيق الحال فقال:
{حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} .
لا تبتئس ايها الرسول، فان نصري قريبٌ اكيد، لكنه لا بدّ من الشدائد، حتى إذا يئس الرسلُ من إيمان من يدعونهم، وتيقنوا انهم جاءَهم نصرُنا، أنعمنا بالنجاةِ والسلامة على المؤمنين، ونَزَلَ عقابُنا بالمجرِمين المكذِّبين.
قراءات:
قرأ أهل الكوفة: كُذِبوا «بضم الكاف وكسر الذال بدون تشديد. وقرأ الباقون» كذّبوا «بتشديد الذال. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب:» فَنُنْجِي «بضم النون وكسر الجيم وتشديدها.(2/268)
وقرأ الباقون: «فنُجْى» بنونين على صغية الاستقبال.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
إن في أخبار الانبياء واقوامهم عبرة وموعظة يستنير بها أصحاب العقول، وليس هذا القرآن حديثا مختلقا ولا أساطير مفتراة، وانما هو وحي يؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل، ويبين كل ما يُحتاج الى تفصيله من أمور الدين، انه هدى لمن تدبّره وامعنَ النظرَ فيه ورحمةٌ عامة للمؤمنين الصادقين.
وهكذا تختتم سورة يوسف بمثل ما بدئت، وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها وبين ثناياها متناسقةً مع موضوع القصة، وطريقة أدائها. وكما قدمنأ، بدأت القصةُ وانتهت في سورة واحدة، فيها مشاهدُ وألوان م الشدائد، ثم كانت العقابة خيراً للذين اتقَوا ربهم، وهذا هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب.
ولقد بدأت السورة بقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} وخُتمت بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(2/269)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
ألفْ ميم راء صوتيّة، وقد سبق الكلامُ عليها في سورة البقرة تبدأ بها بعض سورة القرآن، وهي تشير الى أنه معجز مع انه مكوذن من الحروف.
إن تلك الآياتِ العظيمةَ هي هذا القرآن، الكتاب العظيم الذي نزل عليك أيها النبي، بالحق والصدق من الله الذي خلقك، ولكنّ اكثرَ الناس لا يصدّقون بما جاء بهم من الحق.
هكذا تبدأ السورة بقضية من قضايا العقيدة: قضيةَ الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه، وتكل هي قاعدةٌ بقية القضايا من توحيد الله، والايمان بالبعث والجزاء، والعمل الصالح في هذه الحياة - فكلُّها متفرعة عن الإيمان بالله، وان هذا القرآن وحي من عنده.(2/270)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
بغير عمد: العمد جمع عمود وهي السواري. مد الارض: بسطها. رواسي: جبال ثابتة يغشى الليل النهار: يغطيه ويستره. جنات: بساتين. صنوان وغير صنوان: الصنو، النظير والمثل، وجمعنا صنوان. والمراد هنا النخلات الكثيرة يجمعها اصل واحد. وغير صنوان: متفرقات ومن اصول شتى. الأُكُل: ما يؤكل.
بعد ان ذَكّر اللهُ تعالى أن أكثر الناس لايؤمنون، بدأ هنا باستعراض آياتِ القدرة، وعجائب الكون الدّالة على قدرة الخالق وحمته وتدبيره، وما في هذا الكون من امور تدل على وجوده ووحدانيته، بعضها سماويّ، وبعضها أرضي.
{الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} .
ان الله الذي أنزلَ هذا الكتابَ هو الذي رفع ما ترون من سمواتٍ تجري فيها النجوم بغير أعمدٍ تثرى ولا يعلمها الى الله، ثم مَلَكَ هذا الكونَ باستيلائه على العرش، وسخّر الشمس والقمر وجعلهما طائعين، فكلُّ يسيرُ في مدارٍ له لوقتٍ معين بنظام عجيب. وهو سبحانه يدبرّ كل شيء، ويبيّن لكم آياتِه الكونيةَ الدالة على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة.
{لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} .
حين ترون هذه الآيات مفصّلة منسقة.
وبعد ان ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحادنيته أردفها بالأدلة الأرضية فقال: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين يُغْشِي الليل النهار إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
وهو سبحانه الذي بسط لكم الأرض، وجعلا متَّسةً تسيرون فيها شرقا وغربا، وهي لِعظَمِها تظهر مبسوطة مع أنها مكوّرة (وهذا أيضاً من عجائب الكون) وجعل فيها جبالاً ثابتة راسيات وانهاراً تجري لمنافع الانسان والحيوان. وقد جعل في هذه الأرض زوجين اثنين، ذكراً ونثى، من كل أصناف الثمرات. ويتم التلقيح بينهما تلقائيا اذا كان في شجرة واحدنة او بواسطة الهواء، اذا كانا في شجرتين.
وانه تعالى يُلبِس النهارَ ظلمةً الليل فيستره فيصير الجو مظلماً، وكذلك يلبس الليل ضياءَ النهار فيصير الجوُّ مضيئا، ان في هذا الكون وعجائبه لَعلاماتٍ بينّةً تثبت قدرة الله ووحدانيته للذين يتفَكّرون.
{وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وفي الارض ذاتها عجائب، فهنالك قطع من الأرض يجاور بعضُها بعضا، ولكنها تختلف في التفاضُل، فبعضها قاحل لا يُنبت، وبعضها خِصب جيد التربة ينبت أفضل الثمرات ومنها صالحةٌ للزرع دون الشجر، وأخرى مجاروة لها تصلُح للشجرة دون الزرع، وفيها زرع من كل نوع وصنف، وخيل صنوان يجمعها أصلٌ واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوانٍ متفرقة مخلتفة الاصول. . وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد لكنه يعطي طعوماً مختلفة.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ويقدّرون قدرةَ الخالق وحكمته وله يشكرون.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو ويعقوب وحفص: «وزرعٌ ونخيل صنوان وغير صنوان» بالرفع والباقون بالجر. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم «يُسقى» بالتذكير كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي «يفضّل» بالياء والباقون: «نفضّل» بالنون.(2/271)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
الاغلال: واحدها غُل وهو طوق من حديد. السيئة: النقمة. الحسنة: النعمة. المثلات: مفردها مثلة بفتح الميم وضم الثاء. العقوبة والتنكيل بحيث تترك اثرا من تشويه ونحوه.
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟} .
ان أمْرَ المشركين مع كل هذه الدلائل لَعَجَب، فإن كنت تعجب يا محمد، فالعجب هو قولُهم: أبعدَ الموت وبعد ان نصير ترابا سوف نخلق من جديد؟ ان الذي خلق هذا الدون ودبره قادر على إعادة الناس في بعث جديد.
{أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} .
كل هذه أوصافٌ للمنْكِرين للبعث، فمثل هذه الاقوال لا تصدر الا عن الذين كفروا بربِّهم، لقد أغلقوا عقولهم وقيدّوها بالضلال وجزاؤهم يوم القيامة أغلالٌ في أعناقِهم يقادون فيها إلى النار.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «إذا كنا» بهمزة واحدة والباقون «أإذا» بهمزتين على الاستفهام. وقرأ نافع وابن كثير ورويس «أاذا» بتخفيف الهمزة الأولى وتليين الثانية.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} .
ثم العجبُ منهم أنهم يستعْجِلونك يا محمد أن تأتيَهم بعذابِ الله، بدلاً من ان يطلبوا هدايتَه ورحمته.
لقد مضت العقوباتُ الفاضحة النازلةُ على أمثالهم ممّن أهلكهم الله، وان ربَّك لذُوا عفوٍ وصفحٍ عن ذنوب التّوابين من عباده وان ظَلموا أنفسضهم فترة، لكنه شديد العقاب لِمَن يستمر على ضلاله.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} .
وهم يطلبون منك آيةً خارقة، والخوارق ليست من عَمَلِ الرسل ولا اختصاصهم. انما يبعث الله بها مع الرسولِ ولا اختصاصهم. انا يبعث الله بها مع الرسول حين يرى بحكمتِه أنها لازمة. ولستَ ايها النبي الا منذراً لهم ومحذراً ولكل قومٍ هاد يهديهم الى الحق ويدعوم الى سبيل الخير.(2/272)
الاغلال: واحدها غُل وهو طوق من حديد. الس(2/273)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
وما تغيض الارحام: ما تنقص غاض: نقص وغاب. عالم الغيب والشهادة: الغيب كل ما هو غائب عنا، والشهادة: الحاضر المشاهد. المتعالي: المستعلي على كل شيء. سارب: ذاهب على وجهه، ويقال سرب في حاجته. معقبات: ملائكة يحفظونه. من وال: من ناصر.
الله يعمل ما تحمله كل انثى في غيابات الأرحام من ذَكرٍ أو أنثى، واحداً أو اكثر، وما تنقصه تلك الارحام من خلوِّها من الولد، وما تزداد بولادتها وقتاً بعد آخر. . كلُّ شيء عنده بقَدْرٍ معلوم وله زمان معلوم.
{عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال} .
هو الذي يعمل ما احتجَبَ وغاب عن حِسِّنا، كما يعمل ما نشاهده في حاضِرنا عِلماً أعظمَ مما نشاهد ونرى، وهو سبحانه الكبيرُ العظيمُ المستعلي على كل شيء.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «المتعالي» باثبات الياء.
ثم بين الله تعالى ان عِلْنه شاملٌ لجميع الأشياء فقال:
{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار} .
ان عِلْمَه شاملٌ لكلّ شيء في هذا الوجود، يعلَم كلَّ أحوالِكم وأقوالكم في حياتكم، ومن أسرَّ القولَ او جَهَر به عندَه، سواءٌ، لأنه يعلم استخلفاءَكم باللَّيل، وظهروكم بالنهار.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. . . .} .
كل واحدٍ من الناس له ملائكة تحفَظه بأمرِ الله، وتتناوبُ عل حفظه في كل حال.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
ان الله تعالى لا يغير النعمة علة قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهِم، وكذلك لا يغير ذلة او مهانة الا ان يغير الناس من اعمالهم وواقع حياتم، وأكبر دليلٍ على ذلك واقُعنا اليوم من تفكّك وتمزق. . . فنحن العربَ والمسلمين نملك اكبر ثروة في العالم، ونعيش على أعظم بقاع الارض، ومع ذلك نعاني من الذل والفقر والمرض والجهل وكل ذلك بسبب تردي أحوالِنا وبُعدِنا عن ربّنا، وفي ذلك عبرة كبيرة لنا.
{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} .
اذا أراد اللهُ ان يُنزلَ بقومٍ ما يسوءهم فليس لهم ناصرٌ يحمِيهم من أمْرِه، ولا من يتولّى امورَهم فيدفع عنهم ما ينزل بهم.(2/274)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
شديد المحال: شديد القوة والكيد. الضلال: جمع ظل وهو خيال الشيء. الغذو: اول النهار. الآصال: جمع اصيل، وهو ما بين العصر والمغرب.
{هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} .
ان آثاره قدرةِ الله في الكون ظاهرة، والبرقُ من هذه الظواهر الكونية العجيبة، فهو الذي يسخّر البرقَ فيخافه بعضُ الناس خشية الضرر على محصوله من نزولِ المطر او ما يترتّب عليه من الصواعق، ويطمع فيه بعضُهم رجاءَ نزول الغيث لسقي الزرع. . فبعضهم يخاف وبعضُهم يطمع في الخير من ورائه، والله تعالىهو الذي ينشء السحابَ المملوءة بالأمطار فيغيث بها الزرعَ والضرع.
{وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال} .
ويسبِّح الرعدُ بدَلالتِه على وحدانية الله بحمدِه وتقديسه، فهذا الصوتُ المدوِّي في السماوات إنما هو حمدٌ وتسبيحٌ بالقدرةٍ التي صاغت هذا النظام، ويسبِّح الملائكةُ الكرامُ من هيبته وجلاِله. ثم تتم الصورةُ الرهيبة المشمولة بالرهبة والابتهار والبقرِ والرعدِ والسحابِ الثقال، بإرسال الصواعق، فيُصيب الله بها من يشاء.
ومع كل هذه الآيات والظواهر الكونية العجيبة يجادلُ الكفّار في شأن الله ووحدانِته وتفرُّدِه بالمُلْك، وهو سبحانه لا يغالب، فهو شديدٌ في عقوبة من طغى عليه وتمادى في كفره.
روى الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنَّسائي عن ابن عمر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سمعَ صوتَ الرعد والصواعق يقول: اللهمَّ لا تقتلْنا بغضَبك، ولا تُهلكنا بعذابك وعافِنا قبلَ ذلك» .
{لَهُ دَعْوَةُ الحق والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} .
المشرِكون المعاندون يجادلون في الله وينسبُون إليه شركاءَ يدْعونهم معه، ودعوةُ الله هي وحدَها الحق، وما عداها باطلٌ ذاهب. وفي هذا وعيدق للكفار على مجادَلَتهم الرسولَ الكريمَ في الله. هذا ما ان الّذين يدعونهم من الآلهة المزيَّفة من دونِ الله لا يَستجيبون دعاءَهم ولا يُنجِدونهم بشيء، ومثلُهم في ذلك كَمَن يبسُط كفّيه ليأخذَ بهما ماءً الى فمه، وهياتً ان يحصَل على شيء.
{َمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} . في ضياعٍ وخسارة بدون فائدة.
ثم بيَّن الله تعالى عظيم قدرته فقال:
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} .
في الوقت الذي يتّخذ الجاحدون آلهة من دون الله، ويتوجَّهون إليهم بالرّجاءِ والدعاء، نرى كلَّ من في هذا الكون يخضعُ لإرادته ويعنُون لعَظَمته من أناس وجِنّ وملائكةٍ طائعين أو كارهين، حتى ظِلالُهم خاضعةٌ لأمرِ الله ونَهْيِهِ في جميع أوقات النهار، وفي هذا تعميم لكل شيء.
عند قراءة هذه الآية يُسَنّ للقارئ والمستمع ان يسجد.(2/275)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
زبدا: هو ما يطفو على وجه الماء كالرغوة. رابيا: منفخا عاليا. جفاء: الجفاء هو كل ما رمى به الوادي من زبد وفتات الاشياء مما لا نَفْعَ فيه. بئس المهاد: بئس القرار.
{أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} .
في هذه الآية ضرب الله مثلَين الأول هنا وهو المقارنةُ بين الماء الذي يمكثُ في الأرض وينتفع الناس به من سقي الزرعِ والشجر والشُّرب وما فيه من الخير للناس، وبين الزَبَد الذي يعلو على وجه الماء وليسَ فيه نفعٌ. . وهي مقارنةٌ بين الحق والباطل.
والمعنى أن الله تعالى أنزلَ عليكم من السماءِ غيثاً تسيل به الوديانُ والأنهار، كلُّ بالمقدارِ الذي قدّره اله تعالى لفائدةِ الناس، وهذا السيولُ في جَرَيانها تحملُ ما لا نفع به من الزبَد الذي يعلُو سطحها.
والمثل الثاني أيضا للمقارنة بين الحقّ والباطل قولُه تعالى:
{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} .
كذلك المعانُ الّتي تُذيبونها في النارِ من ذَهَب او فضةٍ او نحاس وغيرِها مما تصنعون منها حِليةً أو آلةً او آنيةً فإن المعدنَ يبقى لمنفعة الناس. وما فيه من زبد وخَبَثٍ يذهب، فالحقُّ كالمعدنِ النافع، والزَبدُ كالباطل.
{كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} .
يعني أن الحقَّ مثلُ الماءِ النافع الذي يمكث في الأرض والمعدن المفيدِ للناس، والباطلَ مثلُ الزَبِد الذي يطفو على سطحِ الماء لا نفع فيه، وهذا معنى قوله تعالى:
{فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} .
كذلك الامر في العقائد، منها ما هو ضلالٌ فيذهبُ، ومنها ما هو صِدق فيبقى.
{كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} .
وبمثلِ هذا يبيّن اللهُ سبحانَه للناسِ ما أشكلَ عليهم من أمورِ دينهم وتظهرُ الفوارقُ بين الحقّ والباطل.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «يوقدون» بالياء، والباقون: «توقدون» بالتاء.
وبعد ان بين الله تعالى شأن كل من الحق والباطل، شرع يبين حال أهل الحق والباطل وما يؤول اليه حالهم ترغيبا، فقال:
{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أولئك لَهُمْ سواء الحساب وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} .
فمن أطاع اللهَ ورسولَه وانقاد لأوامره فلهم العاقبةُ الحُسنى في الدنيا والآخرة، ومن لم يجبْ دعوةَ الله ولم يطع أوامره فلهم العاقبةُ السّيئة. ولو ان لهم مُلْكَ ما في الأرض ومثلَه معه وقدّموه قِديةً لما نفعَهم أو دفع عنهم العذاب، ومصيرهم جهنم وبئس القرار.(2/276)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
يدرأون: يدفعون عن انفسهم. جنات عدن: جنات الاقامة. لهم عقبى الدار: خاتمة مكانهم الجنة وهي سعادة الدنيا والآخرة.
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} .
لا يستوي المهتدي والضالُّ، فالّذي يعلم ان الوحَي حق، وإن اللهَ تعالى الذي اصطفاكَ أنزلَ إليك هذا الوحيَ- مهتدٍ وبصير، والذي كذّب وعاند فهو أعمى ضال.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} .
انما يؤمنُ ويعتبر بهذه الأمثال ويتّعظُ بها، أهلُ العقول السليمة التي تفكّر وتُبصِر.
ومن ثم بيّن أولي الألباب فقال:
{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} .
هؤلاء هم أولو الالبابِ، فهم الّذين آمنوا بربِّهم وعَقَدوا الميثاقَ بينّهم وبينَه على أن يقوموا بأوامره ويبتعدِوا عن كلِّ ما خالفَ الشرع، ولا ينقضون هذا العهد.
{والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} .
ومن صفاتِ أولي الألباب: انهم يَصِلون الرَّحمَ ويُعاملون الأقاربَ بالمودَّةِ والحسنى ويُحسِنون الى الناس بقدْرِ ما يستطيعون، ويُعينون المحتاجَ، ويكونون في خدمة دينِهم وأُمّتهم ووطنهم، كل ذلك ضِمنَ خشية الله، ومخافةِ العقاب.
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة أولئك لَهُمْ عقبى الدار} .
وكذلك من صفات أولي الألباب: أنهم ثَبَتوا على العهد، فصَبروا على أداء التكاليف والواجبات وصبروا في خِدمة الناس ما استطاعوا، لا يُريدون في ذلك كلِّه إلا وجه الله، وأدَّوا الصلاةَ أتمَّ أداء، وأنفقوا من أموالِهم وجاهِهم في سبيلِ الله في السرِّ والعلَن، ويقابلون الاساءةَ بالإحسان. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] .
{أولئك لَهُمْ عقبى الدار} .
هؤلاء الّذين تحلَّوا بكلَّ هذه الصفات هم أولو الألباب ولهم سعادةُ الدارَين.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} .
أولئك الّذين وصفْناهم بتلكَ المحاسنِ لهم عقبى الدار: جناتُ عَدْنٍ للإقامة الدائمة والخلودِ، وفي هذه الجنات يأتَلِفُ شَمْلُهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجِهم وذريّاتم، فيجتمع الأحبابُ ويتلاقون في جوٍ من السعادة، وترحِّبُ بهم الملائكة ويدخلون عليهم بالتحية والإكرام من كلّ باب قائلين لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} .
{والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} .
بعد ان بين الله تعالى صفات المتقين، وما أعَدَّ لهم عندَه في دارِ الكرامة، بيَّن هنا حالَ المكذِّبين الجاحدين وما ينتظرُهم من العاب وأن مقرَّهم النارُ، فهذه الصفاتُ التي وصفَ بها أولئك الأشقياءَ هي السببُ في خُسرانهم. إنّهم الّذِين لا عهدٌ لهم ولا ميثاق، ولا إيمان، ولا يَصِلون أرحامهم، وليس لأحدٍ عندهم نفعٌ ولا رجاءٌ، يعيشون لأنفسِهم ولا يعلمون أن الدنيا أخذٌ وعطاء، ومع كلِ هذا فهم مفسدون في الأرض فلهم اللعنةُ وسوءُ العاقبة في جهنم.(2/277)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
يبسط الرزق: يوسعه. ويقدر: يضيق. أناب: رجع اليه بالتوبة. طوبى لهم: العيش الطيب. وحسن مآب: المنقلب الحسن.
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} .
ان الله تعالى يُعطي الرزقَ الواسعَ لمن يشاء إذا أخذَ في الاسباب، ويضيِّقه على من يشاء، فهو يعطيه للمؤمِن وغيرِ المؤمن، لا يظنَّ احدٌ ان كثرة المال دليلٌ على أنه على الحق.
{وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} .
والذين يفرحَون بما أُوتوا من مالٍ في هذه الحياةٍ الدنيا، ويعتبرون ذلكَ أكبرَ متاعٍ وأعظمً لذّة ولا يفيدون غيرَهم منها. يَقعون في غرورٍ باطل، لأن الحياةَ الدنيا بدونِ عملٍ صالحٍ ونفعٍ للناس متاعٌ زائل، والدنيا مزرعةُ الآخرة، والعمر مهما طال فيها قصير.
«روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصر فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتّخذنا لك فراشاً ناعما، فقال: مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا الا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها» .
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} .
ويلحّ المشركون في طلب آيةٍ من السّماء. والجوابُ على طلبهم هذا ان الآياتِ ليست هي التي تقودُ الناسَ الى الإيمان، وأن هذا الطلبَ وأمثاله من العناد والتعجيز، فللإيمان دواعيه الأصليةُ في النفوس، وأسابهُ المؤدّية اليه. فالله يهدي من يُنيبون إليه، فاسألوا الله الهداية.
{الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} .
وأما الذين اتّجهوا الى الله، وأقبلوا على الحقّ فهم الّذين آمنوا واطمأنّتْ قلوبُهم بذِكر الله، ألا بذِكر اللهِ وحدَه تطمئنُّ قلوبُ المؤمنين.
{الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} .
هؤلاء الذين أنابوا الى الله ورجعوا اليه واطمأنت قلوبهم بذكره، وعملوا الصالحاتِ، يُحسن اللهُ مآبَهم إليه، ولهم الفرحُ وقُرَّةُ العين عند ربهم.(2/278)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
خلت: مضت. متابي: مرجعي. سيرت به الجبال: سارت بسببه. قطعت به الارض: شققت. كلِّم به الموتى: جعلهم يتكلمون. ييأس: يعمل وهو لغة هوزان من العرب. قارعة: مصيبة.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ. . .} .
كما أرسلنا إلى الأمم من قبِلك وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم، ارسلناك يا محمد في أمة لاحقة واعطيناك القرآن معجزة لتقرأه عليهم. {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} فقل لهم ايها النبي الله الذي خلقني هو ربي لا إله بحق غيره، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} عليه وحده توكلت في جميع أموري، واليه توبتي ومرجعي.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} .
يعني: إنما أرسلناك لتتلوَ عليهم هذا القرآنَ العجيب، الذي لو كانَ من شأن قرآن ان تُسَيَّرَ به الجبالُ، او تقطَّع به الأرض، او يكلَّم به الموتى لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثّرات ما تَتِمُّ به هذه المعجزات، ولكنَّهم معاندون بل للهِ الأمرُ جميعاً بل مرجعُ الأمورِ كلّها بيدِ الله.
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} .
أفَلَم يَعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاءَ هِدايةَ الناس أجميعين لهداهم.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} .
ان قدرةَ الله ظاهرةٌ بين أيديهم، فلا يزالُ كفَروا تُصيبهم بسبب عنادِه وكفرِهم المصائبُ الشديدةُ التي تُهلكهم، او تنزل قريباً منهم فتردعُهم وتُقلقهم، حتى يأتَي وعدُ الله الذي وعدَهم به، واللهُ تعالى لايخلف موعده.(2/279)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
فأمليت: فأمهلت. قائم: رقيب. واق: حافظ.
{وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} .
في هذه الآيةِ تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، على سفاهة قومه، فإذا كان أولئك الجاحدون قد استهزأوا بما تدعو إليه يا محمد وبالقرآن فقد نالَ الانبياءَ الذي قبلك من أقوامهم كذلك، فلا تحزّن. فإني أمهلتُ الذين كفروا ثم أخذتُم بعقابٍ شديد.
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} .
أفمن هو قائمٌ حفيظٌ على كلّ نفسٍ لا يخفى عليه شيء ما كسبت كَمَن ليس كذلك! فالجواب محذوف وهو: كمن ليس كذلك. وهذا من بلاغة القرآن.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} .
وقد جعل هؤلاء الكفرةُ لِله شركاءَ فعبدوهم، فقل أيها النبي: صِفُوهم بأوصافِهم الحقيقة، {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض} أتخبرونه بشركاءَ يستحقَّون العبادة في الرض وهو لا يِعلَمُهم. {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} أم تدَّعون أنهم آلهةٌ بالقول الباطلِ من غير حقيقة.
{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
بل الحقيقةُ أنه زُيِّن للذين كفروا تَدبيرُهم الباطلُ، فتخيَّلوا أباطيلَ ثم ظَنُّوها حقاً، وصُرِفوا عن السبيل وتاهوا، ومن يخذلْهُ اللهُ فما له من هادٍ يَهديه الى الصواب.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر: «وصدوا عن السبيل» بفتح الصاد. والباقون «وصدوا عن السبيل» بضم الصاد وهي القراءاة في المصحف.
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} .
لهم العذابُ في الدنيا بالهزيمةِ والأَسرِ والقتل، ولَعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأدوم، وما لهم حافظ يعصِمُهم من عذاب الله.(2/280)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
الأكل: ما يؤكل. الاحزاب: الكفرة الذين تحزبوا على رسول الله. المآب: المرجع. الواقي: الحافظ.
{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار} .
بعد ان ذَكَر اللهُ تَعالى ما أعَدّه للكافرين من العذاب في الدُّنيا والآخرة، أتْبعَهُ بذِكر ثوابِ المتقين، فإذا كان لِلجاحدينَ العذابُ الدائم، فإن للؤمنين الجنةَ ونعيمَها، وتجري تحت أشجارها هذه الجنة، أنهار عذبة الماء، وثمراتُها دائمة لا تنقطع، وظِلُّها ظليلٌ دائم. هذه عاقبةُ المؤمنين الذي وَقَوا أنفُسَهم بالإيمان والصلاح، أما الذي كفروا فلهم النارُ وبئس القرار.
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} .
إن فريقاً من الذين أُوتوا الكتابَ من اليهود والنصارى الذين آمنوا وصدّقوا يفرحون بما أُنزل من القرآن، لأنّهم يَجِدون فيه مصداقاً للقواعد الأساسية في عقيدة التوحيد وامتداداً للرسالة الالهية، ومن هؤلاء مَن آمن مثل عبد الله بن سلام واصحابه، وبعض النصارى من الحبشة ونجران واليمن.
{وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} .
ومن الّذين تحزَّبوا ضدَّ الإسلام من كفارِ قريش وغيرهم من أهل الاديانِ السابقة مَنْ ينكِر بعضَ ما أُنزلَ إليك عناداً وكفرا.
{قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} .
قلْ أيّها النبي: إنّي أُمرت بأن أعبدَ الله حدَه، ولا أُشرِكَ في عبادتِه أحداً، الى عبادته وحدَه أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري.
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} .
وكما أرسلْنا قبلك المرسَلين ونزلْنا عليهم الكتبَ، أنزلنا عليك القرآن حكماً عربياً بِلسانك ولسن قومك، فهو حاكمٌ لأن فيه بيانَ الحلال والحرام وجميعَ ما يَحتاجُ اليه المكلَّفون مما يوصِلُهم إلى السعادة في الدُّنيا والآخرة.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} .
لئن اتّبعت أهواءَ الاحزابِ ابتغاءَ رِضاهم بعد ما منحك اللهُ من العلم اليقين، فليس لك من دون اللهِ وليُّ ولا ناصرٌ ينصرك. ان ما يقولُه الأحزابُ اهواءٌ لا تستندُ إلى عِلم أو يقين.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} .
اذا كان هناك اعتراضٌ على بشريّةِ الرسول الكريم، وانه تَزوَّج النساءَ، وله أولادٌ وذرية، فقد كان الرسُل الذين أرسلناهم من قبلِه بشراً وكانوا يتزوَّجون ولهم نساءٌ وذرية.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} .
اذا كان يعترضُ بعضُهم من المتعنِّين ويطلب من الرسول ان يأتيَ بخارقةٍ ماديّة، فذلك ليسَ من شأنِه، إنّما هو من شأنِ الله، وهو الذي يقدّر ذلك يدبّره بحكمتِه ومشيئتنه، ولكل أمرٍ كبته اللهُ اجلٌ معين ووقت معلوم.(2/281)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
الاطراف: الجوانب. لا معقب لحكمه: لا راد له. ام الكتاب: أصله.
{يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} .
ينسَخُ الله ما يشاء من الشرائع، ويُحِلُّ محلَّها ما يشاء ويثبته، وعنده أصلُ الشرائع الذي لا يتغيّر، فما انقضَتْ حكمتُه يمحوه، وما هو نافعٌ يثبته حسبما تقتضيه حكمتُه، ولا رادَّ لقضائه.
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} .
ولئن أَرَيْناك ايها الرسول بعض الذي نَعِدُ هؤلاء المشركين من العقاب، او توفَّيناك قبل ان نُريَك ذلك، فليس عليك الا تبليغُ رسالةِ ربك، لا طَلَبَ صلاحِهم، وعلينا محاسبتُهم ومجازاتهم باعمالهم.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} .
ألم يروا ان قوةَ الله فوق كل شيء، فهي تأتي الأممَ القوية الغنية حين تَبْطَر وتكفر وتفسِد فَتُنقِص من قوتها ومن ثرائها وقدرتها، وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد ان كانت ذات سطان وحكم وامتداد! وإذا حكَمَ الله عليها بالنقص والتدهور فلا رادَّ لحكمه، وهو سريع الحساب.
وللمفسرين القدماء آراء كثيرة ومتعددة، وكذلك لبعض المفسّرين المعاصرين تأويل عن سرعة دوران الارض وما ينتج عنها من تفلطح ونقص في طرفيها، وكل ذلك حَدْس وخبط.
وبعدَ ذلك بَيّن اللهُ ان قومَ النبيّ عليه الصلاة والسلام ليسوا ببِدْعٍ في الأمم، فقد مكر كثيرٌ ممن قبلَهم بأنبيائهم فأخذَهم اللهُ فقال:
{وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} .
وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بانبيائهم، ثم دارت الدائرة على الظالمين، وأهلك الله المفسدين، ولله سبحانه تدبير الامر كله في حاضر الكافرين ومستقبلهم، وهو يعمل ما تعمله كل نفس، وسيعلمون يوم القيامة لمن تكون العاقبة الحسنة.
وفي هذا تسلية للرسول الكريم وتعبير بان العاقبة له لا محالة، وقد حقق الله له وعده.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} .
عن ابن عباس رضي الله عنهـ قال: قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له الرسول الكريم، هل تجِدني في الإنجيل رسولا؟ قال: لا فنزلت هذه الآية، وتكون ختام سورة الرعد بإنكار الكفار للرسالة، وقد بدأها الله تعالى بإثبات الرسالة، فيلتقي البدءُ والختام بقوله تعالى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} اي حسْبي الله شاهدا بتأييد رسالتي {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} وهو من اسلم من اليهود والنصارى وغيرهم.
اخرج انب جرير وابن المنذر عن قتادة قال: كان من أهلِ الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبدُ الله بن سلام والجارودُ وتميم الداري وسلمان الفارسّي رضي الله عنهم.(2/282)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} .
الف. لام. را. لقد أنزلنا اليك يا محمد هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف لتخرجَ به البشريةَ من ظلمات الكفر والجهل الى نور الإيمان والعلم، وذلك بإذن الله وتوفيقه ولطفه بهم، وتقودهم الى الطريق الى الله.
{الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
إن العزيزَ الحميد هو الله، مالكُ ما في السموات وما في الأرض، الغنيُّ عن الناس، والمسيطر على الكون وما فيه، والويل والعذاب للكافرين يوم القيامة لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الرسول الكريم.
ثم وصف الله أولئك الكافرين بصفات ثلاث.
الأولى: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} .
يختارون الحياة الدنيا ومتعها ولذّاتِها دون ان يعملوا لآخرتهم شيئا.
والثانية: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يمنعونِ الناس عن شريعة الله.
والثالث: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} ويردون ان تكون الشريعة معوجّة لا استقامة فيها لينفّروا الناس منها.
{أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} اولئك الموصوفون بهذه الصفات قد ضلّوا عن الحق، وبعُدوا عن الطريق المستقيم.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر: «الله» بالرفع، والباقون «الله» بالجر كما هو في المصحف.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم} .
وفي ذلك نعمةٌ من الله واحسانٌ إلى عباده، فهو يرسل كل رسول الى قومه بلسانهم الذي يفهمونه، وليس على الرسول هدايتُهم، فالله تعالى يضلّ من يشاء لعدم استعداه، ويهيد من يشاء لحسن استداده، وهو العزيز الحكيم، فلا يهدي ولا يُضل الا لحكمة.(2/283)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
أيام الله: وقائعه في الأمم السابقة. يسومونكم: يذيقونكم أشد العذاب. ويستحيون: يبقون نساءكم أحياء والاسترقاق. تأذَّن: أعلم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
يذكُر الله تعالى هنا بعضَ قَصصَ الأنبياء، وما لا قوه من أقوامهم من الأذى والتمرَد والناد تسليةً للرسول الكريم والمؤمنين، وأنّ المقصودَ من إرسالِ الرسُل هو هدايةُ الناس وإخراجهم من الظُلمات والضلال إلى النور والإيمان.
ولقد أرسلْنا موسى مؤيَّداً بمعجزاتنا، وقلنا له: يا موسى، أخرج قومك من ظلمات الكفر والجهل الى نور العلم والايمان، وذكّرهم بوقائع الله في الأمم السابقة، ان في لك التنبيه والتذكير دلائل عظيمةً على وحدانية الله، تدعو كلَّ من تحلَّى بالصبر والشكر الى الايمان.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} .
واذكر أيها النبي لقومك لعلّهم يعتبرون: اذكر ما قاله موسى لقومه يذكّرهم بنعمة الله عليهم يوم أنجاهم من سوء العذاب الذي كانوا يلقونه من آل فرعون. فقد كان هؤلاء يذبحون الذكور من أولادهم حتى لايتكاثروا، ويُبقون الإناث أحياء للخدمة والاسترقاق. . . وفي ذلك كله ابتلاء واختبار شديد.
ويمضي موسى يبين لقومه ما رتّبه الله جزاءً على الشكر والكفران:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .
واذكروا يا بني إسرائيلَ حين أَعلمَكم ربُّكم أن الشكر على ما أنعمَ يجلبُ زيادةَ الخير، وأن جحود النعمة يوجبُ العذابَ الشديد.
{وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
ان الله تعالى غنيُّ بذاتِه محمودٌ بذاته لا بحمدِ الناس وشكرهم، واذا كفر جميعُ أهل الأرض فلن يضروا الله شيئا، انه غني حميد.(2/284)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
ردوا أيديهم في أفواهم: جعلوا أيديهم على أفواههم من التعجب او الغيظ. وهذا تفعله العرب. مريب: مقلق. سلطان: حجة.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه فيقول: ألم يصِلْكم خبرُ الأقوام الماضين من قبلِكم مثل قوم نوح وعاد وثمود، والأمم الذين جاؤا من بعدِهم، امم كثيرة لا يعلمها الا الله، وقد جاءتهم رسُلهم بالحجج الظاهرة والمعجزات فوضعوا أيديَهم على أفواهِهم استغراباً واستنكارا وقالوا للرسل: إنّا كفرنا بما جئتم به من أديان جديدة، وانا لَنَشُكُّ في كل ما تدعوننا اليه من الإيمان والتوحيد.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات والأرض} .
قالت لهم رسُلهم: أفي وجودِ الله شك! إنه خالقُ السماوات والأرض على غير مثال، وهو {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} يدعوكم الى الإيمان ليغفر لكم بعضَ ذنوبكم، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ويؤخركم الى وقت محدَّد معلوم لديه.
فردّ اولئك المنكِرون الجاحدون على الرسل بتعنّت:
{قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .
كيف نصدِّقكم وأنتم بشر مثلنا لا فضلَ لكنم علينا، وتريدون ان تمنعونا من عبادِة الآلهة التي كان آباؤُنا يعبدونها!؟ إن كنتم صادقين في دعواكم فأْتونا بدليلٍ ظاهر واضح.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} .
فكان جوابُ رسُلهم: نعم إننا بشر مثلكم، ولكن الله يصطفي من يشاءُ من عباجِه فيخصّهم بالنبوةَ والرسالة، ولي في قُدْرَتِنا أن نأتيَكم بآيةٍ معجزة أو حُجّةٍ إلا بتَيسيرِ الله ومشيئته.
{وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} .
لقد أجابهم الانبياءُ على أقوالهم وما فيها من عناد بأن قولوا: إنا قد أبلَغْناكم رسالتَنا، ونحن لا نخاف في سبيلها أحدا، بل نتوكّل على الله، وأيُّ عذرٍ لنا في تركِ التوكل عليه! لقد هدانا إلى الحق، وأنارَ لنا سبلَ الخير، وسنصبرُ على أذاكم.
ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان ان ايذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} .(2/285)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
الملة: الدين والشريعة. استفتحوا: طلبوا النصر. كل جبار عنيدك كل عال متكبر معاند. ماء صديد: ماء قبيح الطعم في جهنم. لا يكاد يسيغه: لا يستطيع ان يبلعه. عذاب غليظ: شديد.
بعد ان ذكر اللهُ ما دار من الحِوزار والجَدَل بين الرسُل وأَقوامهم، وبيّن الحججَ المقْنعة التي جاء بها الرسل الكرام، ولم يستطع الذين كفروا ان يردّوا عليها- لم يجودا وسيلةً الا استعمال القوّة مع أنبيائهم، وتلك حجة المغلوب، فخيّروا رسُلَهم بين أمرين: الخرود من الديار، أو العودة الى ملّة الآباء والأجداد. فأوحى الله تعالى الى أنبيائه أن العاقبة لهم.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} .
وقال الطغاة من زعماء الكافرين لما أعْيَتْهُم الحيلةُ، وعجزوا عن مقاومة الدليل. . قالوا لرسلهم: لكم احد امرين، إما ان نُخرجَكم من أرضِنا، أو أن تعودوا إلى عبادةِ الأوثان، ديننا القائم، فأوحى الله الى رسُله مثبتا لهمك لا تخافوا، سنُهلك الظالمين.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} .
إننا سنجعلكم تسكنون ارضهم بعد اهلاكهم. . . هكذا أفعل بمن خاف موقفه بني يديّ يوم القيامة، وخاف وعيد فاتّقاني بطاعتي، فلم يفسد في الأرض، ولم يظلم الناس.
ووقف الطغاة المتجبّرون، ووقف الرسُل المتواضِعون ومعهم قوة الله، ودعا كلاهما بالنصر والفتح، وكانت العقابة للرسُل.
{واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
وطلب الرسُلُ على أقوامهم من الله لما يئسوا من إيمانهم، وطلبت تلك الأقوامُ النصر لنفسِها، فنصر اللهُ رسلضه، وخسِر كلُّ جبار متكبر عنيد.
{مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} .
إن جهنم لذلك الجبَّار الخاسر بالمرصاد، سيصلاها يوم القيامة وشرابُه فيها ماء كريه.
{يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} .
إنها صورةٌ مرعبة وخيبة أمل لهؤلاء الكفار المعاندين، يتجرّعون ذلك الماء الكريه فلا يكادون يستسيغونه لقذراته، وتحيط بهم أسبابُ الموت من كل جهة، وما هم بميتين في جهنم، ولهم عذابٌ مؤلم شديد.(2/286)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
برزوا: ظهروا جميعا يوم القيامة. تبع: جمع تابع. مغنون عنا: دافعون عنا. محيص: مهرب.
{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} .
مثلُ أعمالِ الكافرين التي كانوا يعملونها في الدّنيا كَمثَلِ رمادٍ حملتْهُ الريحُ في يومٍ عاصف وأسرعتء بالذهابِ به فلم يبقَ له أثر، وهم لا يستفيدون شيئاً يوم القيامة مما عملوا في الدنيا.
{ذلك هُوَ الضلال البعيد} .
ومثل هذا السعي والعملِ على غير أساسٍ ولا استقامة، هو الضلالُ البعيد عن الحق.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} .
ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلقَ السمواتِ والأرضَ لتقومَ على الحقّ بمقتضى حكمته، ومن قَدَرَ على هذا العمل العظيم لهو قادرٌ على إهلاك الكافرين، والإتيان بخلقٍ جديد غيرهم.
{وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} .
وليس بمتنعٍ على الله ولا متعذِّرٍ ان يستخْلِفَ قوماً مكان قوم من قريشٍ او غيرهم من المعاندين الجاحدين.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «خالق السماوات والارض» والباقون «خلق» كما هو في المصحف.
{وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} .
هذه صورة حيّة لموقف هؤلاء المجرمين وأتباعهم والحوارِ بينهم، فحين يقفون جميعاً بين يدي الله يوم القيامة، يقول الضعفاءُ التابعون للزعماءِ المستكبرين: لقد كُنا تابعين لكم في تكذيب الرسُل ومحاربتهم، فهل تدافعون عنا اليومَ في هذا الموقف الرهيب؟ فيقول المستكبرون: لو أن الله هدانا لأرشدناكم، ولكن ليس بيدِنا أيةُ حيلة، ولي لنا مهربٌ ولا خلاصٌ مما نحن فيه جميعا، وسِيّان الجزعُ والصبر، فلا نجاةَ لنا من عذاب الله.(2/287)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
ما كان لي عليكم من سلطان: من تسلط. ما انا بمصرخكم: ما انا بمغيثكم. استصرخني: استغاثني.
{وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} .
وجاء دورُ الشيطان، كل عظَمته وحِيَله قد ذهب الآن، وهو يقف موقف الذليل وتنصل من أتباعه. انه يعترف بصراحةٍ أنه كان كذّابا، وعد أتباعه كذباً وزوراً ويتسرسل قائلا:
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} .
ما كان لي عليكم قوةٌ أُجبِركم بها على اتّباعي، لقد دعوتُكم الى الضلال فأسرعتم الى إجابتي، فلا تلوموني بِوَسْوَستي ولوموا أنفسَكم لأنكم استجبتم لي.
ثم يتبرأ منهم وتنصّل.
{مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} .
أنا لا أستطيع اليوم ان أُغيثكم، ولا انتم تستطيعون إغاثتي من العذاب.
ثم يتبرّأ من كفرهم وإشراكهم ويكفرُ بهذا الإشراك فيقول:
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فأنا لا أقبلُ أن أكونَ شريكاً لله فيما أشركتُموني فيه من قبلِ هذا اليوم، ان الكافرين لهم عذابٌ شديد مؤلم.
ثم لمَّا جَمَعَ الله تعالى الخلْقَ وذكر ما لقيَ الأشقياءُ وصَفَهم بأسوأ حال، ذكر حال السّعاداء، وما أعدَّ لهم من نعيمٍ مقيم في ذلك اليوم فقال:
{وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} .
وهكذا يقابل الله تعالى بين حال الأشقياء والسّعداء، ويبيّن ان الذين آمنوا وصدّقوا وعملوا الأعمالَ الصحالة في جنّاته ناعمين مسرورين، خالين فيها على أحسن حالٍ بإذن الله تعالى، تحّيييهم الملائكةُ بالسلام، وهو شعارُ الإسلام.
قراءات:
قرأ حمزة: «وما انتم بمصرخيِّ» بكسر الياء المشددة. والباقون بفتحها. «بمصرخيَّ» كما هو في المصحف.(2/288)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
كلمة طيبة: كلمة الحق ويدخل فيها الايمان وجميع الاعمال الصالحة. كلمة خبيثة: الباطل ويدخل فيه كل شر.
بعد ان بيّن اللهُ حالَ الأشقياء وحالَ السعداء ومآل كلٍ منهم ضربَ هنا مثلا يبيّن فيه الحقَّ من الباطل، ويوضح الفرقَ بين الفئتين.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء} .
هنا شبّه اللهُ تعالى كلمةَ الإيمان التي هي كلمةُ الحقّ بشجرةٍ طيبةٍ ثبتَتء جذورثها في الأرض وارتفعت اغصانها في السماء، فهي:
{تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
فهي تعطي ثمرها الدائم في كل وتق بإذن ربّها. كلذلك تكون الهداَيةُ إذا ملأتء قلباً فاضت منه على غيره وملأت قلوباً كثيرة ويبيّن الله الأمثال للناس ليتعظوا ويؤمنوا.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتثت مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} .
وان الكلمة الخبيثة، كلمةَ الباطل، كالشجرة الخبيثة التي لا تنفع الناس، لي لها قرارٌ ثابت وقد اقتُلعت من فوق الأرضِ لأن جذورها غير قوية، فكما ان هذه الشجرة لا ثبات لها ولا دوام، فكذلك الباطلُ لا يدوم ولا يثبت.
وبعد ان وصف الكلمة الطيبة بالوصف الجميل أخبر بفوزِ اصحابها في الدنيا والآخرة:
{يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة وَيُضِلُّ الله الظالمين وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ} .
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا بكلمةِ الإيمان المستقرَّة في الضمائر، الثابة في قلوبهم، المثمرةِ بالعمل الصالح، والفوزِ في الآخرة، ويُضلُّ الظالمينَ بظُلمهم وشِركهم، وبفعل ما يشاءُ بإرادته المطلقة.
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات، وقد استغرتقت الشطر الأكبر من سورة إبراهيم. والكملةُ الطيبة تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى، حقيقة الرسالة الواحدة التي لاتتبدّل، وحقيقة الدعوة التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله.(2/289)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
دار البور: دار الهلاك. يصْلونها: يدخلونها ويقاسون حرها. اندادا: امثالا. لا بيع فيه ولا خلال: لا فدية ولا صداقة تنفع او تشفع.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} .
الم تَرَ وتعلم يكف تصرَّف هؤلاء القومُ! لقد تنكروا لنعمة الله الممثَّلة في دعوة رسوله إلى الإيمان ونبذوها (وأولئك هم السادة من قريش وكبراء قومهم) ، بعد ما رأوا ما حلَّ بمن قبلَهم. وقد عرض القرآن عليهم مشاهدَ تلك القصة التي مرت في هذه السورة!! لقد استبدوا بنعمة دعوة الرسول إياهم كفرا، وأنزلوا أتباعَهم من قومهم دارَ الهلاك، جهنم يدخُلونها ويقاسُون حَرَّها وبئس المنزل والقرار.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} .
وجعلوا لله الواحدِ في العبادة نظراءَ، ليُضلوا الناس عن دينه القويم فقل لهم أيها الرسول، تمتّعوا قليلاً في هذه الحياةِ الى الأجلِ الذي قدّرنه الله لكم، وعاقبتُكم ومصيركُم إلى جهنّم.
{قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} .
بعد ان هدّد الله الكفارَ على جحودهم وانغماسهم في اللذات خاطبَ نبيَّه الكريمَ أن يأمر المؤمنين من عبادهِ أن أحسِنوا وأقيموا الصلاةَ وأنفقوا بعض ما رزقكم ربُّكم في وجوه البِر في السر والعلَن، من قبلِ أن يأتي يومُ القيامة الذي لاتنفع فيه صداقة ولا شفاعة ولا بيعٌ ولا عمل، انا ينفع ما تقدّمون من اعمال طيبة.(2/290)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
الفلك: السفينة للواحد والجمع والمذكر والمؤنث. دائبين: دائمين في الحركة لظلوم: ظالم لنفسه. كفار: شديد الكفر والجحود.
في هذه الآيات الكريمة يذكِّر اللهُ تعالى بنعمهِ الكثيرة التي لا تُحصى، فإنه خلَق السمواتِ والأرضَ لبني الإنسان ليتمتع بخيراتها، وأَنزل من السماءِ غيثاً عميماً أحيا به الشجر والزرعَ فأثمرت لكم رِزقاً تأكلون منه وتعيشون به، وسخّر لكم السفنَ لتجريَ في البحر بأمرِه، تحملُ أرزاقكم وتحملكم، وسخر لكم الأنهارَ العذبة لتنتفعوا بها في رَيِّ الأنفس والزروع.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ} .
لا يفتُران عن الدوران، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} يتعاقبان، تستريحون في اللّيل، وتعملون في النهار {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} وهيّأ لكم كل ما تحتاجون، سواء أسألتُموه ام لم تسألوه. . . لأنه قد وضع فيه هذه الدنيا منافع يجهلُها الناس وهي معدَّة لهم، فلم يسأل الله أحدٌ قديما ان يعطيَهم الطائرات والكهرباء وغير ذلك من الأشياء الجديدة، ولم يزل هناك عجائب ستظهر فيما بعد، {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] .
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} . ان حاولتم ان تعدُّوا نعمةَ الله فإنكم لا تستطيعون حَصْرَها، فهي أكبرُ وأكثر من ان يحصيّها البشر.
وبعد هذا كلّه تجعلون لله أنداداً، ولا تشكرون نِعَم الله {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فالإنسان الذي بدّل نعمة الله كُفراً بعد كل هذه النعم لهو شديد الظلم والجحود.(2/291)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
واجنُبني: وأبعِدني. تهوي اليهم: تسرع شوقاً وحبا.
في هذه الآيات يتجلى النموذج الكامل للانسان الذاكر الشاكر في شخصية ابي الانبياء ابراهيم عليه السلام، فهو يدعو الله تعالى ان يجعل مكة بلداً آمناً مطمئنّاً، ويسأله ان يبعده هو وابناءه عن عبادة الأصنام، ثم يذكر مساوئ الاصنام وكل ما عُبد من دون الله بقوله:
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس}
ويبين الدين الحق الذي هو عليه ويتابع الدعاء فيقول:
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
فأما من تبع طريقي فهو منّي، ينتسب إليّ ويلتقي معي، وأما من عصاني منهم فأُفوّض أمره إليك، فأنتَ غفور رحيم.
وهنا تتجلّى رحمة ابراهيم وعطفه ورأفته، فهو لم يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله، كما أنه لا يستعجل العذاب لهم، وانما يَكِلُهم الى غفران الله ورحمته.
{رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة} .
وهنا يمضي في دعائه: بأنه أسكنَ من ذرتيه بمكة، وهي بوادٍ قاحلٍ لا زرعَ فيه عند بيت الله المحرّم، ثم يبين الوظيفةَ التي أسكنَهُم في هذا المكان القف ليقوموا بها، وهي عبادةُ الله وإقامة الصلاة على حقيقتها.
ثم يدعو تلك الدعوة اللطيفة التي استجابها الله، بقوله: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} اي تميل بشوقٍ إلى ذلك البيتِ العتيق واهلِه في ذلك الجديب، {وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وقد اجاب الله دعاءه، فألهم الناس الحجَّ منذ آلاف السنين إلى ما شاء الله، وفي أي وقت ذهب الانسان الى الحجاز يجِد فيه أنواع الثمار والخيرات. وفي هذا اظهارٌ لقدرة الله وصِدق وعده.
{رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} .
إنك يا ربنا تعلَم ما تُخفي نفوسنا وما تظهره مجاهرةً به، فليس يخفى عليك شيء في هذا الكون.
ثم يتوجه ابراهيم الى الله ويذكر نعمة الله عليه، فيلهج لسانه بالحمد والشكر فيقول:
{الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} .
فإن هِبةَ الذرّية على الكِبَر أوقعُ في النفس، فهو يحمد اللهَ تعالى على هذه النِعم ويطمع في رحمته.
{رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} .
بعد الحمد والشكر الذي قدّمه على ما وهبه الله من الذرّية على الكِبَر، يطلب ابراهيم من ربّه ان يُعينه على مداومة شكره بإقامةِ الصلاة هو وذرّيته، وان يتقبّل دعاءَه. والدعاءُ هو العبادة كما جاء في الحديث الصحيح.
{رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} .
بهذا الدعاء يختم ابراهيمُ شكره وتضرّعه الى الله، ويطلب المغفرةَ له ولوالديه ولجميع المؤمنين، يوم القيامة.(2/292)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
تشخص: ترتفع. مهطعين: مسرعين الى الداعي. مقنعي رؤوسِهم: ارفعين رؤوسهم كثيرا. لا يرتد اليهم طرفهم: لا يرجع، كأن ابصارهم جامدة من الهول. وافئتدتهم هواء: خالية من العقل والفهم لفرط الدهش والحيرة. من زوال: من انتقال.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} .
الخطاب في صورته للنبيّ عليه الصلاة والسلام، والمراد به جميع الناس. وفيه تسليةٌ للمؤمنين، وتهديد للكافرين. . . فإن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون في محاربة الاسلام. {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} .
إنما يُمْهِلهم ويمتّعهم بكثيرٍ من لذات الحياة، ليوم شديد الهول تبقى فيه أبصارُهم شاخصةً مفتوحة من الفزع.
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} .
إنها صورةٌ رهيبة وهم معروضون رافعين لرؤوسهم، وطرفهم جامد لا يتحرك من شدة الهول، وأفئتدتهم خاوية مضطربة لا إدراك فيها ولا وعي. . . هذا هو اليوم الذي يؤخّرهم الله إليه، والذي ينتظُرهم بعد الإمهال.
{وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} .
وانذِر الناس ايها الرسول أنه إذا جاء اليوم فلا اعتذارَ ولا نكال، يوم يقول الظالمون الجاحدون حين يرون ذلك الهول: ربّنا ارجعْنا الى الدنيا، وأمهلْنا امداً قريبا حتى نجيب فيه دعوة الرسل الى توحيدك، فيأتيهم الرد: ألم تَحلِفوا في الدنيا أنكم إذا متُّم لا تُخرَجون لبعثٍ ولا حساب، فكيف ترون الآن، ويان قولكم «ما لنا من زوال» ؟!
{وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} .
وسكنتم في الدنيا في مساكن الذين ظَلموا أنفسَهم بالكفر والمعاصي من الأمم قبلكم، وقد ظهرلكم بمشاهدة آثارِهم كيف عاقبناهم، وضربنا لكم الأمثالَ الواضحة، ثم بعد لك كله تُقسِمون «ما لكم من زوال» فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم، والآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم العذاب.
قراءات:
قرأ أبو عمرو: «انما نؤخرهم» بالنون والباقون «يؤخرهم» .(2/293)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
مقرنين: مربوطين. في الاصفاد: في القيود. سرابيهم: ثيابهم. من قطران: نوع من الزيوت شديدة الاشتعال اسود اللون تدهن به الابل عندما يصيبها الجرب. تغشى وجوههم النار: تعلوها وتغطيها. هذا بلاغ للناس: كفاية في الموعظة.
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} .
ولقد مكروا ودبّروا في إبطال الحق وبالرسول الكريم، وعند الله علمُ مكرهم، وان كان مكرهم من القوة والتأثير حتى لَيؤدي إلى زوال الجبال، والله تعالى محيطٌ بهم وبمكرِهم.
قراءات:
قرأ الكسائي: «لتزول» بفتح اللام الاولى، وضم اللام الاخيرة. وقرأ الباقون: «لتزول» بكسر اللام الاولى وفتح اللام الاخيرة كما هو في المصحف.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} .
لا تظنَّ ايها الرسول ان الله تعالى مخلفٌ رُسُلَه ما وعدَهم به من النصر، فما لهذا المكرِ من أثر، وما يعوق تحقيقَ وعد الله لرسله بالنصر، وأخذِ هؤلاء الماكرين أخْذَ عزيز مقتدر، ان الله شديدُ الانتقام لا يدع الظالمَ يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} .
ان الله تعالى سينتقم من هؤلاء الكفارِ يومَ القيامة يوم تتبدَّل الأرضُ والسموات. ولا ندري كيف يتم هذا، ولا طبيعةَ الأرض الجديدة وطبيعةَ السموات، وكلُّ ما بعدَ الموت شيء غير عاديّ بالنسبة إلينا واللهُ أعلمُ بذلك.
{وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} خرجوا من قبورهم، ووقفوا مكشوفين بارزين لا يستُرهم ساترٌ بينَ يدي الله الواحد القهار.
وبعد ان وصف نفسه بكونه القهار، بين عجز المجرمين وذلتهم فقال:
{وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} وهي صورة عن مَشاهدِ يوم القيامة فيها منظرٌ واقعي للمجرمين كأنك تراه، وهم يخبُّون في قُيودِهم.
{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} .
وهذا مشهد آخر لباسهم فيه من هذا الزيت القبيح، والنارُ تغشى وجوههم، وفي ذلك ما فيه من الذل والتحقير.
{لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} .
لقد فعل الله بهم ذلك ليؤديّ الى كل نفس جزاءَها بما فعلت، إن خيراً فخير وان شرا فشر، ان الله سريع الحساب يوم القيامة.
{هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} .
هنا يختم الله السورة بمثل ما بدأت. . . بإعلانٍ لجميع البشرية في الكون أجمع.
هذا القرآن بلاغ لجميع الناس، لنُصحِهم وإنذارِ هم من عذاب الله، وليكون لديهم العلمُ الحقيقي أن الله إلهٌ واحد عِدة آلهة كما يقول المشركون، وليتذكَّر اولو العقول عظَمةَ ربهم، ويتَّعظوا فيبتعدوا عما فيه هلاكهم، ويرجعوا الى ربهم في كل احوالهم.(2/294)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
ربما: بتشديد الباء وتخفيفها، تفيد التقليل. ذرهم: اتركهم.
{تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} .
الف، لام، را. . . من هذه الأحرف تتالف آيات الكتاب المعجزة، وهي القرآن الواضح المبين الذي يبَين لمن تأملَه وتدبَّره رُشدَه وهُداه.
{رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} .
سيأتي يتمنّى فيه الذين كفروا لو كانوا مسلمين في دار الدنيا، وهو يومُ القيامة عندما يَرَوْنَ العذاب، لكن هذا التمني لن يفيدَهم شيئا.
قراءات:
قرأ نافع وعاصم: «ربما» بفتح الباء بدون تشديد. والباقون: «ربما» بالتشديد.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
دعهم أيها الرسول في غفلَتِهم، يأكلون، ويتمتعون في شهواتهم ولذّاتهم، وتُلهيهم الآمال. . فسوف يعلمون سوءَ أعمالهم عندما يرون العذاب. وفي هذا وعيدٌ شديد.
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} .
إننا لم نُهلك أيّاً من الأمم السابقة إلاّ بعد أجلٍ مقدّر لا يُنسى ولا يُغفل. هذه سنّة الله الماضية التي لا تتخلّف، وهلاكُ الأمم مرهون بآجالها، وهذا ما أكده بقوله تعالى:
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .
فلا يغرَّنَّهم تخلُّفُ العذاب عنهم فترةً من الزمن، فإن أجَلهم آتٍ لا يسبقونه ولا يتأخرون عنه.(2/295)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
الذكر: القرآن. منظرين: مؤخرين. في شيع: في جماعات مفرده شيعة. نسلكه: ندخله. يعرجون: يصعدون. سكرت: سدت ومنعت من الابصار. بروجا: منازل الشمس والقمر. شهاب: شعلة من نار، والشهبُ ما ترى ليلا تتساقط من السماء.
{وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .
وقال بعض كفار قريش مستهزئين بالرسول الكريم: يا أيّها الرجلُ الذي زعم أنّه نُزّلَ عليه القرآن إنك لمجنون.
وقال «مقاتِل» : إن الذين قالوا ذلك هم: عبدُ الله بن أمية، والنضرُ بن الحارث، ونوفل بن خُلويلد، والوليدُ بن المغيرة من زعماء قريش.
{لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} .
إن كانت ما تدّعيه حقاً وقد أيَّدك اللهُ وأرسلك، فلماذا لا تسأل اللهَ ان يُنزِل معك ملائكة من السماء يشهدون بصِدق نبوَّتِك؟ ويتكرر طلبُ نزول الملائكة لا تنزِلُ على الرسول إلاّ لهلاِك المكذِّبين من قومه حين ينتهي الأجلُ المَعلوم فقال:
{مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} .
إنّنا لا نُنزل الملائكةَ إلاّ عندما نقرِّر أمراً له أهميته، ويكون قد مضى الأجلُ وحقَّ القولُ على الكافرين، ولو أنزلْنا الملائكةَ لأهلكنا أولئك الكافرين، ولم يكونوا مؤخَّرين.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص «ما ننزل الملائكة» بنونين وبنصب الملائكة. وقرأ ابو بكر «ما تنزل الملائكة» بالتاء والفعل يبنى للمجهول ورفع الملائكة. وقرأ الباقون: «ما تنزل الملائكة» بفتح التاء ورفع الملائكة.
ثم أجاب الله تعالى عن إنكارِهم تنزيلَ القرآن واستهزائهم بالرسول الكريم بقوله:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ان هذه من الآيات الجلية، والقرآن كلّه جليل عزين، وفيها تحدّ كبير لكن معاند، وطمأنينةٌ للمؤمنين. فالله سبحانه وتعالى يمنُّ علينا بأن هذا القرآن من عنده، وهو حافظٌ له، لم يَكِلْ حِفظه لغيره، فهو ذِكرٌ حيٌّ خالد مصون من التحريف والزيادة والنقصان، وهو باقٍ محفوظ لا يندثر ولا يتبدّل. والتحدي قائمٌ لكل معاند.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
ولا تحزن أيها الرسول، فقد أرسلنا قبلك رسُلاً إلى أُممٍ قد مضت، وما أتى رسولٌ أمةً إلا كذّبوه وستهزأوا به. وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم عما أصابه من سَفَهِ قومه، بأن هذا دأبُ الأمم المكذِّبة لِرُسُلها من قبل. . فلقد أصابهم مثلُ ما أصابك، وقد نَصَرْنا رسُلنا وسننصرك انت والمؤمنين، فَطِبْ نَفْساً ولا يَضِيقنَّ صدرُك بما يقولون.
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} .
وكا كانت حالُ الأمم الماضية حين أُنزلتْ عليهم الكتبُ من الملأ الأعلى فأصُّروا على الكفر والاستهزاء بالرسُل - كذلك نلقي القرآنَ في قلوب المجرمين من بين قومك وهو غيرُ مقبولٍ لديهم، لأنهم أجرموا بإصرارهم على الكفر فلم يؤمنوا به.(2/296)
وقد مضت سنّةُ الله في إمهالهم، وهكذا تجدنا نفعلُ باللاحقين كما فعلنا بالسابقين.
ثم بين الله تعالى عظيم عنداهم ومكابرتهم للحق فقال:
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} .
ولو فتحنا على هؤلاء المعاندين باباً من السماء يصعَدون فيه بأجسامِهم ويَرَوْن مَنْ فيها من الملائكة، وما فيها من العجائب- لقالوا لِفَرْطِ عنادهم، انما سُدَّتْ أبصارُنا، فما نراه تخيُّلٌ لا حقيقةَ له، وقد سَحَرَنا محمدٌ با يَظْهرُ على يده من الآيات، وظلّوا في عنادِهم ومكابَرَتِهم سادِرين.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «سُكرِت» بالتخفيف، والباقون بالتشديد كما هو في المصحف.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} .
بعد بيان مكابرة المعاندين، وانهم لا يؤمنون حتى بالأشياء المحسوسة، عَرَضَ هنا الآيات الكونية، وما فيها من إبداعٍ لمن يفكّر ويُبْصِر.
لقد أبدْعنا هذا الكونَ، وجعلنا في السماء أشكالاً عديدةً من النجوم، منها تلك البروجُ الظاهرة للعيان، البديعةُ، الدالَّةُ على جَمال هذا الكون، وحُسنِ نظامه وزينّاها بالكواكب للناظِرين المعتبرين والمفكرين.
فهلاّ نظر أولئك المعاندون إلى هذه السماء وما فيها من بروج ظاهرة، ونجومٍ ساطعة وأقمار نّيرة، ومجَرّات عظيمة، فإن فيها عبرةً لمن اعتبر!
{وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} .
ولقد حفظنا السماءَ ومنعنا كلَّ شيطانٍ رجيم من القرب منها، فلا ينالُها ولا يدنِّسها، ولكن من أرادَ من هؤلاء الشياطين ان يَستَرِقَ الاستماع من عالم الغيب، فنحن نلحقه بشهاب مشتعل محرق، فهم أعجَزُ من ان يَصِلوا إليها.(2/297)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
مددناها: بسطناها. رواسي: هي الجبال الثابتة. موزون: مقدر. فانزلنا: فأعطينا. لواقح: جمع لاقح. معناها حوامل للماء، ومعنى آخر لانها تلقح النباتات والشجر. المستقدمين: الذين ماتوا. المستأخرين: الاحياء الذين لم يموتوا بعد.
{والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} .
وخلقنا لكم الأرضَ ومهّدناها حتى صارت كالبساط الممدود، ووضعنا فيها جبالاً راسياتٍ ثابتة، وأنبتْنا لكم فيها من كلّ أنواعِ النبات ما يحفَظ حياتكم، وجعلناه مقدَّراً بأزمانس معيَّنة في نموِّه وغذائه، ومقدِّرا بمقدار حاجتكم، في أشكاله في الخلْق والطبيعة.
وتقرر هذه الآية حقيقةَ كونيةً لم تُعرَفْ الا في العصور الأخيرة، وهي ان كلَّ صنفٍ من المبات أفرادُه متماثلة من الوجهة الظاهرية، وكذلك في التناسُق الداخلي، التوازنُ دقيق فيكل أجهزِة النبات المختلفة، وكذلك بين الخلايا لتحقيق الغرض الذي وُجدت من أجْله.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} .
وجلعنا لكم في الأرضِ أسبابَ المعيشة الطيّبة من غذاءٍ وماءٍ، ولباسٍ ودواء، ومعادنَ تنفعون بها، وغيرِ ذلك مما لا يُعَدّ ولا يُحصى. وكما أن فيها أسبابَ المعيشة الطيّبة ففيها المعيشةُ لمن يكونون في وَلايتكم من عيالٍ وأبتاع، فاللهُ وحدَه يرزقُهم وإياكم، فكلُّ أولئك رِزْقُهُم على خالِقهم لا عليكم.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .
وما من شيء ينتفعُ به العبادُ من المصادرِ والموارد إلا هو موجودٌ عندنا مخزون، وما نعطيه الا بقدَر معلومٍ وحسْبَ مشيئِتنا وحاجةِ الخلق اليه.
ثم فصّل بعض ما في خزائنه من النعم فقال:
{وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} .
وقد أرسل الله تعالى الرياحَ بالماءِ تحملُه، فتحيي الأمطار الخلقَ والأرض وتعطيها حياةً جديدة، فتُزهرُ بكلّ لونٍ بهيج، ويشرب منها الإنسانُ ويسقي زرعه وحيوانه.
والخلاصة: نحن القادرون على ايجاد الماء وخزنه في السحاب وإنزاله مطراً، وما أنتم على ذلك بقادرين، لأنه في دورة مستمرة، يبتخر من البحر والأرض، ثم تحمله السحب فينزل على الارض ويعود الى البحر.
وقد زاد بعض المفسرين معنى آخر لكملة لواقح فقالوا: إن الرياح تحمل اللقاح من شجرةٍ الى شجرة، ومن نبته الى أختها، وهذا ايضا لم يكن معروفا في الازمان السابقة، فيكون هذا ايضا من معجزات القرآن الكريم.
قراءات:
قرأ حمز وحده: «وارسلنا الريح» بالإفراد، والباقون بالجمع كما هو في المصحف.
بعد ان ذكر الله تعالى نظم المعيشة في هذه الحياة بين ان الحياة والموت بيده وانه هو الحي الباقي يرث الارض ومن عليها.
{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون} .
ان كل شيءٍ في هذه الحياة مَرْجِعُه الى الله، الحياةُ والموتُ بيده، وسيموت الخلقُ جميعا ولا يبقى حي سواه.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27 - 28] .
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} .
ولقد عَلِمْنا من مضى منكم وأحصيناهم وما كانوا يعملون، وعَلِمْنا من هو حيّ ومن سيأتي بعدكم، فلا تخفى علينا أحوالكم ولا أعمالكم.
{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .
وسيجمع الله المتقدِّمين والمتأخرين جميعاً عنده يومَ القيامة وإليه المصيرُ، حيث يجازي كّلاً بما عمل، وهو حكيم يقدّر لكل أمةٍ أجَلَها بحكمته، ويعلم متى تموت ومتى تُحشر.(2/298)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
من صلصال: من طين يابس غير مطبوخ. من حمأ: طين اسود. مسنون: يمكمن تصويره على هيئة الانسان، وله معنى آخر وهو المتغير. الجان: الجن وهم نوع من الخلق لا نراهم. نار السموم: النار الشديدة الحرارة. سويته: اتممت خلقه. نفخت فيه من روحي: جعلت فيه الحياة.
بعد جولة طويلة في بيان تنزيل الذِكر، وتنزيلٍ الملائكة، ورجْمِ الشياطين، وتنزيلِ الماء من السماء؛ ثم ذِكر ما في هذا الكون من مشاهدَ وعجائب كالسماء والكواكب والبروج والشهُب والأرض والجبال والنبات والرياح؛ وبعد ضربِ الأمثلة على المكابرة من الكفّار المعاندين- بعد هذا كِلّه يأتي الحديثُ عن قصة البشرية وخلْقِ الإنسان والجانّ بطبيعتين مختلفتين، وقصة الهدى والضلال. وقد عُرضت هذه القصةُ في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، وفي كل مرة لها عَرْضٌ مخلتف وجوٌّ خاص، يلائم السياقَ ويتمشى مع الغرض المطلوب. وهنا يركز سبحانه على سِرّ التكوين في آدم، وسرّ الهدى والضلال وعوامِلهما الأصلية في كيان الانسان:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
نحن في خلْقِنا للعالمين في هذه الأرض خلقنا طبيعتين: خلَقْنا الانسان من طينٍ يابس يصلصل ويصوِّت عند نقرِه. {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} أما عالمُ الجن فقد خلقناه من قبلِ آدم من نار السَّموم الشديدةِ الحرارة.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
أذكر ايها النبي إذ قال ربُّك للملائكة إني سأخلقُ بشَراً من طينِ هذه الارض.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} .
فإذا اكملتُ خلْقه، وشرَّفتُه على سائر المخلوقات ونفختُ فيه من روحي، (وبهذه النفخة العلوية فرَّقتُ بينه وبينّ سائر الأحياء، ومنحتُه خصائصهَ الإنسانية، حيث تصِلُه بالملأ الاعلى، وتجعلُه أهلاً للاتصال بالله) فاسجثدوا له سجودَ تحيةٍ واكرام، لا سجودَ عبادةٍ. . . . فإن العبادةَ لله وحده.
{فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} .
فسدوا جميعاً خاضعين لامرِ الله، الا إبليس رفض اني يسجُد واستكبر أن يكونَ مع الملائكة الآخرين.(2/299)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
رجيم: مرجوم، مطرود من كل خير يوم الدين: يوم القيامة. فأنظِرني: فامهلين. يوم القوت المعلوم: يوم القيامة. جزء مقسوم: لكل فريق من اتباع ابليس جزء معين في جهنم.
{قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} .
قال الله تعالى: ما منعكَ يا إبليسُ ان تسجد مع الساجدين؟ .
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
قال إبليس، وقد ركبه الغُرور والاستكبار، إنه لن يسجدَ لبشرٍ مخلوقٍ من طين، فهو خيرٌ من آدمَ، آدمُ مخلوق من طين، وإبليسُ مخلوق من نار، والنارُ خير من الطين.
{قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} .
قال الله تعالى: فاخرجْ من الجنة،، أنت مطرودٌ من رحمتي كنتَ فيه من الدرجات الرفيعة. لقد كتبتُ عليك اللعنةَ إلى يوم القيامة.
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} .
قال إبليس، وهو المتردُ على طاعة الله: يا رب، أمهِلْني الى يوم القيامة. فقال الله تعالى: إنك من المؤجَّلين الممْهَلين، إلى اليومِ المعلوم، يوم القيامة.
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
قال ابليس: يا ربّي، بما امتَحَنْتَني به من الأمر بالسّجود لآدمَ، الأمر الذي أوقعني في العصيان، لأزيّنَنّ لبني آدم السوءَ والعصيان في هذه الأرض، وسأعمل كل شيء لإغوائهم وإضلالهم.
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} ولن ينجو من إضلالي الا الذين أخلصوا لك من العباد.
فرد الله تعالى عليه بالتهديد والوعيد بقوله:
{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} .
قراءات:
قرأ يعقوب: «صراط عليٌّ مستقيم» برفع، عليّ، صفة لصراط. والباقون «عَليَّ» .
قال الله تعالى إن الإخلاصَ هو الصراط المستقيم، فمن سَلكَه نجا، إن عبادي الذين أخلَصوا لدينهم ليس لك قدرةٌ على إضلالهم، وأما من تَبعِكَ فإنه من الضّلين الغاوين ومصيرُهم جهنم.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} .
فعاقبتُهم جهنمُ يجتمع فيها كل من تَبعَ إبليس.
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} .
وجهنمُ هذه ذات سبعة أبواب لكثرة من يرَدُها من المجرمين. ولكل باب طائفةٌ مختصة به، ولكل طائفة مرتبةٌ معلومة تتكافأ مع شرّهم.
ويقول عدد من المفسّرين ان لجنهم سبْعَ طباقات ينزلها مستحقّوها بحسب مراتبهم في الضلال وهي: جهنم والسعير ولظى والحُطَمة وسَقَر والجَحيم، والهاوية.(2/300)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
سرر: جمع سرير. نصب: تعب. نّبِّيءْ: خبِّرْ.
بعد ذِكر حال اهل الغواية، وعلى رأسهم ابليس، وما يلاقون يوم القيامة في جهنم - جاء ذِكُر حال المتقين، أهلِ الجنة، وما يتمتعون به من نعيم مقيم.
{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
ان الّذين اتقَوا اللهَ وأطاعوا أوامره يتمتعون في جنّات تجري من تحتِها الأنهار، حيث يُقال لهم:
{ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} .
ادخُلوها وأنتم على احسن حال من الفرح والسعادة والأمن، فلا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} .
ولقد طهّرْنا قلوبَهم من الحسد والغِل والكراهية، فاجتمعوا فيها على المحبَّة والصفاء، يتنادمون على سرر متقابِلين، وتيزاورون ويتواصلون.
{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} .
لا يحلقُهم في تلك الجنّات مشقَّة ولا تعب، ونعيمُها دائم لا يخرجون منه ابدا.
{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} .
وهذا ايضاً من اسلوب القرآن الحكيم، فان الله تعالى فَتَحَ بابَ الرحمة على مصراعيه وهو الغفور ذو الرحمة الواسعة، فنبئ يا محمدُ عبادي بذلك، وأخبرْهم ان العذابَ للعصاة المعاندين شديد أليم، فالترغيب والترهيب متلازمان دائما في اسلوب القرآن الكريم.(2/301)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
وجلون: خائفون. لا توجل: لا تخف. من القانطين: من اليائسين. ما خطبكم: ما شأنكم، ماذا تريدون. قدرنا: قضينا. الغابرين: الباقين في الهلاك.
{وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ. . .} .
يتناول القرآن الكريم قصص الأنبياء والمرسَلين، ويذكر طرفاً من أخبارهم ومعجزاتهم، وليس الغرضُ من هذا القصص التاريخَ ولا استقراء الوقائع، وانما الغرضُ منه الهداية والعِبرة والعظة. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [سورة يوسف: 111] .
وقد وردتْ قصةُ إبراهيم ولوطٍ في مواضعَ متعدّدة بأشكال متنوعة، تناسب السياقَ الذي وردت فيه، ووردتْ قصة لوط وحدَه في مواضع اخرى.
وهنا يقول الله تعالى: اخبرْني أيها النبيّ عن حال ضيف إبراهيم، عندما دخلوا عليه وسلّموا، فقال: إنّا منكم خائفون، فطمأنوه وقاولوا له: لا تخفْ، إنّا جئنا نبشّرك بغلام عليم. قال: كيف تبشّرونني بمولودٍ يولَد لي وأنا شيخٌ كبير السنّ، إنذ هذا الأمر لغيريب عجيب! فأجابوه مؤكدين ما بشّروه به: لقد بشّرناك بالحقٌ فلا تكنْ من القانِطين اليائسين. فقال إبراهيم، إنّي أيأسُ من رحمةِ الله، فإنه لا يقنَطُ من رحمة الله إلا الضالون.
ثم لما استأنس بهم وعرف أنهم جاؤوا بأمرٍ عظيم، واستفسر مهم فقال لهم: ما شأنكم بعد هذه البشرى أيّها المرسلون؟ قالوا: لقد أرسلَنا اللهُ تعالى الى قومٍ مجرمين في حقّ الله وحقِّ نبيِّهم وحق أنفسِهم، وسنهلكهم إلا آل لوط ومن اتّبعه فإنهم ناجون، دونَ امرأته (لأنها كفرتْ بالله ولم تتّبع زوجَها) فستكون من الماكثين في الهلاك مع القوم المجرمين.
قراءات:
قرأ نافع: «فبم تبشرونِ» وقرأ ابن كثير: «تبشرونِّ» بكسر النون مشددة. وقرأ الباقون: تشرونَ بفتح النون وقرأ ابو عمرو والكسائي: «ومن يقنط» بكسر النون، والباقون «يقنط» بفتح النون.(2/302)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
فاسر بأهلك: اذهب بهم ليلا. وابتع أدبارهم: وكن انت وراء اهلك. لعمرك: قسَم.
وبعد ان بشّر إبراهيم بالود وخبروه أنهم مرسَلون بعذاب قومٍ مجرمين، ذهبوا الى لوط. وبدأت المعركةُ بين لوطٍ وقومه حولَ هؤلاء الرسل.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون. . .} .
ولما وصَل الملائكةُ إلى ديار لوط، لم يعرفهم لوط في بادئ الأمر، وقال لهمك إنكم قومٌ مُنْكَرون، ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ قولوا: لا تخفْ، إنا رسُلٌ من عندِ ربك، جئناك بأمرٍ يسرُّك، وهو إنزالُ العذاب بهؤلاء المجرمين.
ثم شرعوا يرتّبون له كيف ينجو هو وأَهلُه والمؤمنون معه قبل حولول العذاب بقومه، فقالوا له: سِرْ ليلاً بأهلكَ ومن آمنَ معك بعد مرور قِطْعٍ من الليل، وكُنْ خَلْفَهم حتى يتأكد من ان الجميع ساروا ونجوا، ولا يتلفتْ منكم أحدٌ خلفه، بل امضوا حيث يأمركم ربكم.
{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} .
وقدَّرنا ان هؤلاء المجرمين هالكون عن آخرهم عند دخول الصباح.
وعندما علم القومُ بوصول الرسُل وهم بهيئةٍ جميلة، أسرعوا نحوهم مستبشرين بمجيئهم الى مدينتهم طمعاً فيهم، فلما رآهم لوط مسرعين قال لقومه: إن هؤلاء الذي جئتم تريدون منهم الفاحشَة هم ضُيوفي، فلا تفضحوني فيهم، «واتقوا اللهَ ولا تُخزون» ، اي خافوا عقاب الله ان يحل بكم.
فقال له قومه: أوَلَم نَنْهَكَ ان تُضيفَ أحداً من العالمين؟ فلما رآهم متمادين في غيِّهم، لا يرعَوُون عن غوايتهم، قال لهم لوط: هؤلاء بناتي وبناتُ القرية، يمكنكم ان تتزوّجوهن إن كنتم راغبين في قَضَاء الشهوة.
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} . بحقّ حياتك أيّها النبيُّ الأمين، انهم لفي غفلةٍ عما سينزل بهم، جعلتْهم كالسكارى يترددون ويتخبّطون، فلا يرجى ان يفيقوا ولا ان يسمعوا.(2/303)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
الصيحة: العذاب. مشرقين: عند شروق الشمس. من سجيل: حجارة من طين. للمتوسمين: للعقلاء اصحاب الفراسة. لبسبيل مقيم: بطريق واضح.
اصحاب الايكة: قوم شعيب. الايكة: الشجر اللملتف الكثيف. لبإمام مبين: بطريق واضح. وللامام معان كثيرة. اصحاب الحجر: هم ثمود قوم صالح، والحجر مكان في شمال الحجاز معروف للآن. الصفح الجميل: العفو.
ثم ذكر الله تعالى عاقبة أمر قوم لوط فقال:
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ} .
فنزل بهم العذابُ المنتظَر وقت شروق الشمس.
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} .
جزاء ظُلمهم جعل الله عاليَ المدينة سافلَها، أي أنه قلَبها، وأمطر عليهم حجارةً من طين متحجِّر، مع صيحةٍ عالية تصعق كلَّ من سمعها. ثم بين ان في هذا القصص عبرةً لمن اعتبر.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} .
ان ما فعلناه بقومٍ لوطٍ من الهلاك والتدمير لآياتٍ للّذين يعقِلون ويفكّرون ويعتبرون. ثم وجَّه انظار أهلِ مكة الى الاعتبار بها لو أرادوا ذلك فقال:
{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} .
ان هذه المدينة - مدينة سدوم - التي اصابها العذابُ والتدمير تقع على طريق ظاهرٍ ثابت هو طريقكُم ونتم ذاهبون الى الشام، وآثارها باقية في البحر الميت كما قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138] .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} ان فيما فعلناه بقومِ لوط من الهلاك والدمار ونجاةِ لوطٍ وأهلِه لدلالةً للمؤمنين الصادقين.
وبعد ان ذكر قصص قوم لوط ابتعه بقصص قوم شعيب فقال:
{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ فانتقمنا مِنْهُمْ} .
وإن قوم شعيبٍ، اصحابَ الغابة الكثيفة، كانوا ظالمين، فانتقمنا منهم وانزلنا عليهم العذابَ. وكذلك أهلُ مَدْيَنَ قد أخذتْهم الصيحة.
{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} يعني إن كلاً من مدينة لوط والأيكة واقعة على طريق ظاهر لكم تمر عليها قوافل قريش في ذهابهم الى الشام، فمن حقهم ان يعتبروا بآثارهم وهي باقية الى الآن.
ثم ذكر الله تعالى قصة صالح فقال:
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} .
لقد كذّبت ثمود نبيهم صالحاً، ومن كذّب رسولاً واحدا من رسُل الله فكأنما كذب جميع المرسلين.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .
وأريناهم حُجَجَنا الدالةَ على نبوة صالح، منها الناقة وغيرها، فأعرضوا عنها، ولم يعتبروا بها.
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} .
ولا تزال آثارهم وبعض ما نحتوه في الجبال باقياً الى الآن في شمال الحجاز، ويُعرف المكانُ بمدائن صالح.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ} .
اهلكهم اللهُ بالصيْحة التي تصعق كل واحد منهم في وقت الصباح.
{فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
ولم يدفع عنهم الهلاكَ الذي نزل بهم، ما كانوا يكسِبونه من أموال، ويتحصنون وراءه من حصون.
{وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ فاصفح الصفح الجميل} .
وما خلقنا هذا الكون وما فيه الا بالعدل والانصاف والحكمة، وان الساعة لآتية يوم القيامة لا ريبّ في ذلك، فأعرضْ عنهم أيها النبي واصفحْ الصفح الجميل وخالقْهم بخلق حسن. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم} .
ان ربك هو الذي خلقهم وخلق كل شيء.(2/304)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
سبعا من المثاني: سورة الفاتحة. وبعضهم يقولك انها سبع السور الطوال: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الانعام، الاعراف، ويونس. لا تمدن عينيك: لا تنظر او لا تَتَمنَّ. واخفض جناحك للمؤمنين: تواضع لهم. المقتسمين: اليهود والنصارى. عضين: اجزاء، مفردها عضة. فاصدع بما تؤمر: اجهر بِهِ. اليقين: الموت.
في ختام هذه السورة العظيم يمن الله على الرسول الكريم أنه اعطاه القرآنَ العظيم ومنه السبعُ المثاني، ويوصيه ان لا ينظر الى ما عند غيره، ويتواضع للمؤمنين، ثم يخلُص الى البيان السابق وهو أمرُ النبي عليه الصلاة والسلام ان يجهرَ بالدعوة ولا يحزنَ عليهم ولا يضيقَ صدرُه بما يقولون، فان الله تعالى كفاه أمْرَهم، وسوف يعلمون، وأمَرَه ان يعبد ربه حتى ينتهي أجلُه من هذه الحياة.
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} .
ولقد اكرمناك ايها النبي بسبع آياتٍ من القرآن هي سورةُ الفاتحة التي تكررها في كل صلاة. وهذه السورة لها مكانتها الخاصة، لانها تشتمل على مجمل ما في القرآن. فمقاصد القرآن هي: بيانُ التوحيد، وبيان الوعد والبشرى للمؤمنين، وبيانُ الوعيد والانذار للكافرين والمسيئين، وبيانُ السعادة في الدنيا والآخرة، وقصصُ الذين أطاعوا الله ففازوا، والذين عصَوا فخابوا.
والفاتحة تشتمل بطريق الايجاز والاشارة على هذه المقاصد ولذلك سميت «ام الكتاب» والسبع المثاني.
وبعد ان عرف الله رسوله عظيم نِعمه عليه، نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال:
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
لا تتمنَّينَّ ايها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعاً للاغنياء من اليهود والنصارى والمشرِكين، فإن هذا كله زائلٌ وزهيد بالنسبة لما أُوتيتَه من كمال الاتصال بنا ومن القرآن العظيم.
والخطاب تعليمٌ للمؤمنين، فقد رُوي أنه أتتْ من بُصرى الشام سبع قوافلَ لقريظة والنضير من اليهود في يوم واحد، فيها أنواعُ البضائع من الطيِّيب والجواهر والألبسة، فقال المسلمون: لو كانت لمن لتقوَّيْنا بها، ولأنفقناها في سبيل الله.
فالله تعالى يعلّمهم ان هذا كلَّه لا قيمةَ له بالنسبة لما أُوتيتم، «ولا تحزَن عليهم» بسب استمرارهم على الغيّ والكفر، وتواضعْ يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين.
ثم بيّن وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال:
{وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} .
وقل ايها الرسول للناس اجمعين أنا النذيرُ لكم من عذابٍ أليم، فارجعوا الى اله وآمِنوا بما انزلَ اليَّ تربحوا وتفوزوا بالجنة.
ثم بعد ان ذَكر الله أنه اكرم الرسولَ بالقرآن العظيم والسبعِ المثاني - يبين هنا أن الذين سبقوه من اليهود والنصارى قسّموا القرآن الى أجزاء، فبِلوا بعضَه وكفروا ببعض منه. فقال:
{الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} .(2/305)
وكم آتيناكَ سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، أنزلْنا من قبِلك على اليهود والنصارى التوراةَ والإنجيلَ، وهم الّذين اقتسموا القرآنَ فآمنوا ببعضه الذين وافقَ ما عندهم، وكفروا ببعضٍ، وهو ما خالفهم.
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
فوا الذي خلقَك ورباك لنسألَنّ الكفارَ جميعاً عن ما كانوا يقولون ويفلعون، ولنحاسبنَّهم أجمعين.
ثم يؤكد الله تعالى على نبيه بالجهر والقوة في تبليغ الرسالة جهد المستطاع فيقول:
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} .
فاجهرْ بدعوة الحق، وابلاغ ما أُمرتَ به، ولا تلتفت الى المشركين وما يقولون.
ولما كان ما يلاقيه من المشركين امرا عسيرا، واذى كبيرا، طمأنه الله بانه هو يكفيه شرهم فقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} .
إنا كفيناك شر المستهزئين من قريش الذين كانوا يسخرون منك ومن القرآن، وكانوا طائفةً من قريش لهم قوة، وكانوا كثيري السفاهة والأذى للرسول الكريم، وقد أبادهم الله وأزال كيدهم، فهم: الوليدُ بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعديّ بن قيس، والأَسود بن عبدٍ يغوث. وقد ماتوا جميعا.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال:
{الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
انهم اتخذوا آلها مع الله يعبدونه، فسوف يعلمون عاقبة امرهم، يوم القيامة، يوم يرون العذاب الشديد.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} .
إنا نعلم ما يصبك من ضيق وألم نفسي بما يقولونه من الفاظ الشرك والاستهزاء، فسّلاه الله تعالى بان يسبح ويلوذ به، ولا يفتر عن التسبيح بحمد ربه طوال حياته حتى يأتيه اليقين.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} .
وهذا هو ختام السورة: ارشاد من الله تعالى أن يكشف ما يجده من الغم باللجوء باليه بعمل الطاعات، والاكثار من العبادات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا حَزَبَه امر واشاد عليه خطب، فزع الى الصلاة.
اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليم ولا الضالين.(2/306)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
اتى امر الله: دنا وقرب. امر الله: وعده وحكمه. الروح: الوحي. انذاروا: خوفوا: خصيم: مخاصم.
كان مشركو مكةَ يستعجلون الرسولَ عليه الصلاة والسلام ان يأتيهم بعذاب الدنيا او عذاب الآخرة، فجاء ملطعُ هذه السورة حاسماً: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوه} .
وقد تحقَّقَ هذا الوعيدُ بان اهلك الله عدداً من صناديِدهم في هذه الدنيا ونصر رسولَه والمؤمنين، ولَعذابُ الآخرة أشدّ، وهو واقعٌ لا ريب فيه {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تَنَزَّه الله عنه ان يكون له شريك يُعبد دونه.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «تشركون» بالتاء، والباقون «يشركون» بالياء كما هي في المصحف.
{يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون} .
بعد ان تبرّأَ سبحانه من الشريك- بيّن انه تعالى وحدَه يعرف أسرار هذا الكون، وانه يُنَزّلُ ملائكتَه بالوحي الذي يُحيي القلوبَ على من يريد من عبادِه الذين يصطفيهم، لِيُعلِّموا الناس، ويُنذِروهم بأنَّ إله الخلْق واحدٌ لا اله الا هو، فاحذَروا، وأخلِصوا له العبادة، والتزِموا بالتقوى والإيمان.
قراءات:
قرأ الكسائي عن ابي بكر: «تنزيل الملائكة» بفتح التاء والنون والزاي المشددة. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: «ينزل» بضم الياء وكسر الزاي من أنزل. والباقون: «ينزل» بضم الياء وكسر الزاي المشددة.
{خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
بعد ان بيَّن الله أنه تنزَّه عن الشريك، وأنه هو الخالقُ الواحد، وأمر الناسَ بتقواه وإخلاص العبادة له - أخذَ في عرضِ أدلَّة التوحيد، والآياتِ الدالّة على النِعمة عرضاً لطيفاً هادئا.
خلَق الله العاَلَم العُلويَّ والسفليَّ بما حوة بالحق على نهجٍ تقتضيه الحكمة، لوم يخلقْه عَبَثا، وقد تنزَّه عن ان يكونَ له شريكٌ يتصرَّفُ في مُلكِه، او يستحقّ ان يُعبد مثله، تعالى عن شِركهم، وتعالى عما يشركون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «تشركون» بالتاء.
{خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} ما أعجبَ هذا الانسان الذي خلقه اللهُ من مادة لا تُرى بالعين المجرَّدة، فإذا به إنسانٌ قويٌّ مخاصِم مجادِل، ان هذا الكون كلّه عجيب، وأعجبُ ما فيه هذا الانسان.(2/307)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
الانعام: الابل والبقر والمعز والغنم. الدفء: ما يدفئ الانسان من ثياب وغيرها. المنافع: ما يفيد الانسان منها من ركوب وحرث ولبن. وجمال: زينة. تريحون: تردونها من المرعى الى مَراحِلها بعد رعيها. تسرحون: تخرجونها صباحا الى مراعيها. الاثقال: الامتعة. بشق الانفس: بمشقة وتعب. قصد السبيل: الطريق المستقيم. جائز: مائل، منحرف.
{والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
وقد تفضَّل اللهُ عليكم بأن خَلَقَ لكم الإبلَ والبقرَ والغنمَ والمَعز لتتّخِذوا من أصوافها وأوبارِها وأشعارِها وجلودها ما تحتاجون إليه في حياتكم وتشربون من ألبانِها، وتأكلون من لحومها.
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} .
ولكم في هذه الأنعام بهجةٌ وسرور عندما ترجع من مراعا وهي مُقْبِلَةٌ مساءً ملأى البطون، حافلةَ الضروع، رائعةً سمينة، وحين تُخرِجونها صباحاً إلى المرعى، فإن منظَرَها يسرُّ الناظرين. وهذا يبدو لأهلِ الريفِ والبدو، ولا يدركه أهل المدينة.
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} .
وبعضُ هذه الأنعامِ كانت من وسائل المواصلات ولا تزال كذلك في كثيرٍ من البلدان، تحمل أمتعتكم الثقيلة وتوصلُكم الى بلدٍ لم تكونوا تستطيعون الوصولَ إليه بدنها إلاّ بكلّ مشقّةٍ وتعب.
{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} إن ربّكم الذي هَيَّأ لكم كلَّ هذه النعم وجعلّها لراحتكم لهو رؤوف بكم واسع الرحمة لكم.
{والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .
وخلَق لكم الخيل والبغالَ والحمير أيضاَ لتركبوها، وهي بالإضافة الى الإبلِ كانت وسائلَ النقل، وزينةً لكم. وهذه اللفتةُ لها قيمتُها في بيان نظرة القرآنِ والإسلام للحياة، فإن الجَمالَ عنصرٌ أصيل في هذه النظرة، وليست النعمةُ مجردَ تلبيةِ الضرورات من طعام وشرابٍ وركوب، بل هناك ما يُدْخلُ السرورَ على الانسان، ويلبيّي حاسَّةَ الجَمال ووِجدان الفرحِ والشعورِ بالجمال.
ومع ان هذه الوسائلَ أصحبت قديمة، فإن كثيراً من الناس لا يزالُ يربِّي الخيلَ والإبلَ ويُسَرُّ فيها صباح مساء، ولا تزال في كثي من البلدان فرقٌ كاملة من الفرسان والهجّانة في الجيشِ، وهي من أجملِ الأشياء التي يحبُّها الانسان.
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
وهذا من عَظمة القرآنِ حيثُ أشار الى ما يجدُّ من وسائل النقل، وستجدُّ وسائل كثيرة لا نعلمها نحن في الوقت الحاضر. والقرآن الكريم دائماً يهيّئ القلوبَ والأذهان بلا جمود ولا تحجُّر.
ولحومُ الخيل محرَّمةٌ عند أبي حنيفة، وحلالٌ عند مالكٍ والشافعيِّ وابن حنبل، اما لحومُ البغال والحمير فهي محرَّمة عند أبي حنيفة والشافعيّ وابنِ حنبل، ومكروهةٌ عند مالِك، وجميعُها حلال عند الشِّيعة الإمامية مع الكراهة.
{وعلى الله قَصْدُ السبيل} .
وعلى اللهِ بيانُ الطريقِ المستقيم يوصلكم الى الخير. «ومنها جائزٌ» ومن الطرق ما هو جائز منحرفٌ لايُوصلُ الى الحق، وعلى الله بيانُ ذكل ليهتدي إليه الناس.
ثم أخبر سبحانه ان الهداية والضلال بقدرته ومشيئته فقال:
{وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
ولو شاءَ هدايتكم جميعاً لهادكم، لكنّه شاء ان يخلُقَ الإنسانَ مستعدّاً للهدى والضلال وان يدعَ لإرادته اختيار الطريق.(2/308)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
تسيمون: ترعون الماشية، تجعلونا ترعى النبات. ذرأ: خلق. سخر البحر: ذلله وجعله في خدمتكم. مواخر: جمع ماخرة: جارية فيه، مخر الماء شقة. الرواسي: الجبال. ان تميد بكم: ان تميل وتضطرب. وسبلا: طرقا. وعلامات: اشارات، ومعالم يستدل الانسان بها.
{هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} .
بعد أن ذكر اللهُ نعمته على الناس بتسخير الدوابّ والأنعام، شرع يَذْكُر نعمتَ عليهم بإنزال المطرِ والخلْق وتسخير الكونِ كلّه لهذا الإنسان.
إن الذي خلقَ لكم الأنعام والخيلَ وسائرَ البهائم لمنافِعِكم ومصالحِكم هو الذي أنزلَ المطر من المساءِ عذباً زلالاً تشربون منه وتسقون الشَجر والنبات. وهذا الجشرُ والنبات هو الذي تجعلون أنعامكم ترعاه وتمدّكم باللّبن واللّحم والأصواف والأوبارِ والأشعار والجلود.
{يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات} .
إن هذا الماء ينزله اللهُ من السماء بقدْرته فيحيي به الأرضَ وينبتُ لكم زرعكم المختلفَ من جميع أنواع الثمرات وتيجعله رِزِقاً لكمن ونعمةً منه عليكم، وحجةً على من كفر به.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
ان فيما ذُكر من الآيات الداّلة على قدرة الله وما فيها من نعم لا تحصى لأدلّةً وحُجَجَاً لقومٍ لهم عقول تفكّر، بها يدركون حكمة الله، ويفهمونها حق الفهم.
قراءات:
قرأ ابو بكر: «ننبت لكم» بالنون، والباقون: «ينبت لكم» بالياء.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} .
ومن نعمة تعالى عليكم ان جعل لكم الليلَ مهَّيئاً لراحتكم، والنارَ جعله مناسباً لِسعيكم وحركتكم وأعمالكم، والشمس تمدّكم بالدفء والضوءِ، والقمرَ لتعرفوا به عددَ السنين والحساب، والنجوم مسخَّرات بأمر الله لتهتدوا بها في أسفاركم في ظُلمات البرّ والبحر.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
إن في كلّ هذه النعمِ والدلائل لآياتٍ لقوم لهم عقول تدرك وتتدبّر ما وراء هذه الظواهر من قدرة.
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} .
ومن نعمه التي لا تُحصى عليكم ما خلقَ لكم في الأرضِ من أنواعِ الحيوان والنبات والجماد، وجعل في جوفها من المعادن المختلفة الألوانِ والأشكار، وجعلَ كلَّ ذلك لمنافِعِكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ان في ذلك كله لأدلة واضحة لقوم يذكرون ولا ينسون. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} [البقرة: 269] .
قرأ حفص: «والنجوم مسخرات» بالرفع. وقرأ ابن عامر: «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» بالرفع. والباقون «والشمس والقمر والجوم مسخرات» كلها بالنصب.
{وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} .
ومن هذه النعمِ الكبرى نعمةُ البحر وما فيه من أنواع الحيوان، فإن اله تعالى جلعَ هذا كلَّه للإنسان ليأكل منه ذلك الحمّ الطريَّ الشهيّ، ويستخرجَ من جوفه أنواعَ اللؤلؤ والمرجان حِيلةً جميلة تلبَسونها ايها الناس وتتلحَّوْن بها.(2/309)
{وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وترى أيُّها الناظرُ تلك السفنَ تمخر عبابَ الماء وتشقّه. . كلّ ذلك في خِدمتكم، سخَّرى الّلهُ لكم أيها الناسُ لتنتَفِعوا بما فيه، وتطلبوا من فضلِ الله الرزقَ عن طريق التجارة وغيرا، فلْتشركوا اللهَ على ما هيَّأ لكم وأنعمَ به عليكم.
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}
وجعل في الأرض جبالاً ثابتة حتى لا تميل بكم وتضطربَ بما عليها.
{وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
وجعل في هذه الأرضِ أنهاراً تجري فيها المياهُ الصالحة للشرُّرب والزرع، وجعلَ فيها طُرُقاً ممهَّدة لتهتدوا بها في السَّير إلى مقاصدكم.
{وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} .
وجعلَ لكم في هذا الكون علامات ودلائل يهتدي بها الساري ويسترشدُ في أثناء سيرة ليلاً بالنجوم التي أودعَها اللهُ في السماء.
بعد ان بيّن الله الدلائل على وجود الإله القادر، الذي خلَقَ هذا الكونَ على أحسنِ نظام، وان جميع ما في هذا الكون في خدمة الإنسان- أخذَ يردُّ على المشركين ويُبطل شِرْكَهم عبادتضهم غيرَ الله من الأصنام والأوثان، وأنهم عاجِزون لا يستطيعون اني يخلقوا شيئا فقا:
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
أفمنْ يخلُق كلَّ هذه الأشياءَ التي مرَّ ذِكُرها وغيرها، كمن لا يخلُق شيئاً لا كبيراً ولا صغيرا، أتَعْمُون أيّها المشرِكون عن آثار قدرةٍ الله فلا تعتَبروا وتشركوا الله عليها!؟ .
ثم بعد ان نبّهههم سبحانه إلى عظَمته وقدرته، ذكَّر الناسَ بنعمة عليهم واحسانه فقال:
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
إنْ تحاولوا عدَّ نِعم الله عليكم فلن تستطيعوا احصاءَها لكثرتها. . . وأكثرُ النعمٍ لا يدري بها الإنسانُ لأنه يألفُها فلا يعشر بها إى حينَ يفتقدها. إن الله لغفورٌ، يستُرُ عليكم تقصيركم في القيام بشكرها، رحيم بكم يُفيض عليكم نعمه.
{والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} . لا يخفى عله شيء من سركم وجهركم.(2/310)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
أيان يبعثون: متى يبعثون. لا جرم: لا بد. ولا محالة وتأتي بمعنى القسم: حقا.
{والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
إن هذه الأوثانَ التي تبعدونها من دونِ الله لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة، فيكف يكونُ إلهاً ما يكون مصنوعاً بالأيدي!!
وهم {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
إنها جماداتٌ ميتة لا حِسَّ لها ولا حركة، ولا تسمع ولا تُبصر ولا تعقل، وما تدري هذه الأصنامُ متى تكون القيامة والبعث للناس، فلا يَليقُ بكم أيّها العقلاء بعدَ هذا أن تظنوا أنها تنفعكم فتُشرِكوها مع الله في العبادة.
ولما أبطل اللهُ عبادة الاصنام وبيّن فساد مذهب المشركي - بيَّن أنه الإله الواحد الخالقُ المدبِّر.
{إلهكم إله وَاحِدٌ فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} .
ان الإله الذي تجبُ عبادته هو الله الواحدُ الخالق لا شريك له، أما الذين لا يؤمنون بالعبث والحساب فإنّ قلوبَهم مغلَقَةٌ منكِرة لوحدانيته، وهم مستكبِرون لا يريدون التسليمَ بالبراهين الواضحة، ولا يؤمنون بالرسول الكريم.
وبعد ان ذكر الأسبابَ التي لأجلِها أصرَّ الكفار على الشِرك وانكارِ التوحيد - ذَكَرَ هنا وعيدهم على أعمالهم فقال:
{لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
حقاً إن الله يعمل ما يسر هؤلاء المشركون ويعمل ما يعلنون من كفرهم وافترائهم عليه. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} عن سماع الحق والخضوع له.
وفي الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْر» وفي حديث صحيح آخر «ان المتكبرين امثال الذر يم القيامة، تطؤهم القيامة، تطؤهم الناس باقدامهم لتكبّرهم» .(2/311)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
أساطير الاولين: أباطيل وخرافات السابقين من الأمم. الأوزار: الآثام واحدها وزر. ساء ما يزرون: بئس ما يعملون من آثام فاتى الله بنيانهم من القواعد: هدمها من الأساس. فخر عليم السقف: سقط عليهم. فالقوا السلم: استسلموا. مثوى المتكبرين: مكان إقامتهم.
بعد ان ذكر الله تعالى دلائلَ التوحيد والبراهين الواضحة على بطلان عبادةٍ الأصنام وعدَّدَ نِعمه على عبادِه وما سخَّره في هذا الكون للإنسان - أردفَ ذلك بذِكر شبُهات من انكروا النبوة والجواب عنها فقال:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} .
كان كفار قريش وزعماؤهم يخشون أن يأتيَ الناسُ ويجتمعوا بالرسولِ الكريم عليه الصلاةُ والسلام ويقولون: ان محمداً رجلٌ حلو اللسان، إذا كلّمه أحدٌ ذهب بعقله. وكانوا يرقبون الطرقَ المؤدّيةَ الى مكة حتى يمنعوا من يأتي قاصداً الرسولَ الكريم ويصدّوه، كما يفترون على الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالاً مخلتفة، فتارةً يقولون إنه ساحر، وأخرى إنه شاعرٌ أن كاهن الخ، وما هذا الّذي يأتي به إلا أباطيل الأُمم السابقة وخرافاتها يتلوها على الناس.
وكل هذه الأمور الّتي يأتونها من نوعِ الدعاية يدبِّرونها حتى يتفادوا الإيمان بالنبيّ الكريم ولكنّ اللهَ هزمهم ونَصَرَ رسوله والمؤمنين.
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} .
إما عمِلوا، وتقولَّوا الكذبَ ليصدُّوا الناسَ عن اتِّباع رسول الله، ولتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامَهم وآثام الذين غرَّروا بهم وأضلُّوهم فاتَّبعوهم على جهلٍ وبغير علم.
{أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} بئس ما يرتكبونه من الإثمِ والذنوب.
ثم بين لهم أن عاقبة مكرِهم عائدة إليهم، كدأْب مَن قبلَهم من الأمم السابقة الذين اصبهم من العذاب ما أصبهم بتكذيب رسلهم، فقال:
{قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} .
ان الذين من قبلهم من الأمم السابقة قد مكروا برسلهم وكذّبوهم ودبروا لهم المكايد، فأبطل الله كيدَهم ودمرهم بلادهم وهدمها من الأسس، فانهارت البيوت وخرَّت سقوفها على أصحابها، واتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.
والله سبحانه سوف لا يُنجيهم من العذاب في الآخرة، بل لهم عذابٌ أشد واعظم.
{ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟} .
يسألهم الله تعالى يوم القيامة على سبيل الخِزي والاستهزاء بهم ويقول لهم: اين الذي اتخذتموهم شركاءَ لي في العبادة، وكنتم تحاربونني ورسُلي في سبيلهم؟ أين هم حتى ينصروكم ويمدوا لكم يد العون؟ فلا يستطيعون جوابا.
{قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين} .
وحينئذ يقول الذين يعلمون الحقّ من الأنبياء والمؤمنين والملائكة ان الذل والخزيَ والهوانَ اليوم على الكافرين المكذبين.(2/312)
قراءات:
قرأ نافع: «تشاقونِ» بكسر النون. والباقون «تشاقونَ» بفتحها.
ثم يبيّن ان الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمروا على كفرهم الى ان تتوفاهم الملائكة وهم ظالمون:
{الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} .
ماذا يفعلُون في ذلك الموقف المخزي؟ .
{فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} .
إنهم استسملوا لَمّا عاينوا العذابَ قائلين: ما كنّا نشرك بربّنا احداً، ولكنّ الله يكذّبهم بقوله:
{بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
ان الله لا يَخفى عليه شيء، وهو على علمٍ بما كنتم تكفرون وتكذبون.
ثم بين الله تعالى مصيرهم المحتوم، فقال:
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} .
ان مصيركم جهنمُ فادخلوها من أبوابها المتعددة، وذوقوا الواناً من العذاب خالدين فيها أبداً، وبئس المقامُ والمثوى لمن كان متكبراً عن اتّباع الرسل والاهتداء بما أُنزل عليهم من آيات.
قراءات:
قرأ حمزة: «الذين يتوفاهم» بالياء. والباقون بالتاء.(2/313)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
ينظرون: ينظرون. أمر بك: حكم ربك فيهم. حاق بهم: أحطا بهم.
بعد ان بين اله أحوالَ المكذبين وما ينالهم في الدنيا والآخرة، وذكر هنا وصف المؤمنين وثقتَهم بالله ورسوله، وما أعدّ لهم من الخير والسعادة في جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ جزاء ايمانهم واحسانهم.
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} .
وقيل للذين آمنوا بالله واتقوا: ما الذي أنزلَه ربُّكم على رسوله؟ قالوا: أَنزل عليه القرآن فيه خيرُ الدنيا والآخرة للناس جميعا، فكانوا بذلك من المحسنين. والله تعالى وعد بان يكافئ المحسنين بحياة طيبة، وفي الآخرة لهم الجنةُ بما أحسنوا.
{وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} .
لنِعم الدارُ التي يقيم فيها المتقون، جناتُ عدْن تجري من تحت قصورها واشجارها الانهار، ولهم فيها ما يردون من النعيم. ومثل هذا الجزاء الأوفى يجزي الله الذين اتقوه.
وفي هذا حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على التقوى، ولغيرِهم على تحصيلها.
{الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
هؤلاء المتقون تقبض الملائكة أرواحَهم طيبين، طاهرين من دَنس الشِرك والمعاصي، وتستقبلهم الملائكة بقولهم: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما قدّمتم من أعمال صالحة في دنياكم ولن يصيبكم بعدَ اليوم مكروه.
أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن القرظي قال: «إذا اشرفَ المؤمن على الموت جاءه ملَك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشرّه بالجنة» .
ثم يعود الكلام عن المشركين من قريش: ماذا ينتظرون، بعد عنادهم وكفرهم وتكذيبهم للرسول الكريم عليه صلواتُ الله وسلامه؟ وجزاءُ كفرهم وتكبّرهم النارُ وبئس القرار.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
ماذا ينتظر كفار مكة الذين قالوا ان القرآن أساطيرُ الأولين غير ان تأتيَهم الملائكة لتبقض اوراحهم، او يأتي أمر الله بالعذاب المهلك. وهم ليسوا بأول من كذّب الرسل، فقد فعل مثلَهم الذين من قبلهم من الأمم وحلّ بهم العذاب، وما ظَلضمهم اللهُ في ذلك، فقد اندّرهم بواسطة الرسل، وإننزاله الكتب، ولكنْ ظلموا أنفسَهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاؤا به. ثم اعقب الله ذلك بذكر ما ترتب على اعمالهم فقال:
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
لهذا نزلت بهم عقوبةٌ من الله جزاءَ ما عملوا من سيئات، وأحطا بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به.(2/314)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
الطاغوت: كل ما عُبد من دون الله من شيطان وكاهن وصنم، وكل من دعا الى ضلالة. حقت عليه: وجبت عليه.
{وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} .
لقد تكرر هذا القول من المشركين، وهم يريدون بقولهم هذا أن الله سبحانه أراد ان يشرِكوا ورضَي بذلك. وهذه مغالطةٌ وحجّة باطلة يستندون عليها من كفرهم.
وقد رد الله عليهم شُبْهَتَهم هذه بقوله:
{كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ومثل هذا الفعل الفعل الشنيع فعلَ مَن قبلَهم من الأمم. ثم بيّن خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال:
{فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين؟} .
هذه هي مهمة الرسل. . . إبلاغُ الناس رسالاتِ ربهم وانذارُهم، وليس عليهم هداهم.
فالله لا يريد لعباده الشِرك، ولا يرضى لهم ان يحرِّموا ما أحلَّه لهم من الطيبات، وإرادتُه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه، وانما شاءت ارادة الله أن يخلقَ البشرَ باستعداد للهدى والضلال، وان يدعَ مشيئتهم حرةً في اختيار اي الطريقين. لذا منحهم العقل يرجّحون به أحدَ الاتجاهين، وبَعَثَ الرسُلَ منذِرين ومبشّرين.
ثم بين الله تعالى ان بعثة الرسل امرٌ جرت به السنّة الالهية في الأمم كلها، وجُعلت سبباً لهُدى من أراد اللهُ هدايته، وزيادةِ ضلالِ من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح ينفع الصحيح السليم، ويضر بعض المرضى.
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} .
ولقد أرسلنا في كل أمةٍ سلفتْ قبلكم رسولا يقول لهم: اعبدوا الله وحده، واجتنبوا عبادة مَن دونَه مما لا ينفع ولا يضر، ففريقٌ استمع الى الرسول واهتدى، وفريق أعرضَ عن سماع الحق فحق عليه العذاب. واذا كنتم في شكّ أيها المشركون، فسيروا في الأرض قريبا منكم، فانظروا ما حلّ بالمكذّبين من عاد وثمود وقوم لوط، وكيف كانت عاقبة أمرهم لعلّكم تعتبرون بما حل بهم.
فالقرآن الكريم ينفي بهذا النصِّ، وَهْمَ الإجبار لوَّح به المشركون، والذي يستند اليه كثير من المنحرفين. والعقيدةُ الاسلامية عقيدةٌ واضحة، فالله يأمر عبادَه بالخير وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا، وعقابُ الآخرة لا شكَّ فيه، ويثيب المؤمنين المتقين.
ثم خاطب الله رسوله الكريم مسلّياً له عما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم، مع جدَبه عليهم وعظيم رغبته في إيمانهم، ومبيّنا له ان الأمر بيدِ الله. فقال:
{إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} .
ان تكن حريصا ايها النبي على هداية المشركين من قومك فلن ينفهم حرصك، لانهم قد تحكّمت في نفوسهم الشهات والكِبْرُ والعناد، وليس لهم يومَ القيامة ناصر ينصرهم من عذاب الله.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: «لا يهدي بفتح الياء وكسر الدال. والباقون:» لا يهدى «بضم الياء وفتح الدال.(2/315)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
جهد ايمانهم: اشد ايمانهم، أي بالغوا في الايمان لنبوئنهم: نُسكنهم، ونعطيهم.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} .
لقد أقسمَ المشركون أشدّ أيمانهم وأكدوا بان الله لا بيعث من يموت. وكانت قضيةُ البعث بعد الموت هي المشكلة الكبرى عند المشركين. . . لقد غلقوا عن معجزة الحياة الأولى، مع أن الله الذي اوجدّ الانسانَ من العدم قادر على ان يبعثه بعد الموت. لذلك ردّ الله عليكم وكذبهم فقال:
{بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} .
بلى إن الله سبعث الخلقَ بعد الموت، قد وعد بذلك وعدا حقا لا بد منه، ولن يُخلف اللهُ وعدَه، ولكن اكثر الناس لجهلهم لا يعلمون حكمة الله في خلق هذا العالم.
ثم ذكر سبحانه الحكمة في المعاد، وقيامِ الأجساد يوم القيامة فقال:
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} .
ان من عدْل الله في خلقه ان يبعهم جميعاً بعد موتهم، ليبين لهم حقائق الأمور التي اختفلوا فيها، فيعلم المؤمنون أنهم على حق، ويعلم الكافرون كذبهم في دعواهم ان الله لا يبعث من يموت.
ثم أخبر عن كامل قدرته، وانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فقال:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
إننا اذا اردْنا شيئا فإنما نقول له كن فيكون، والبعث شيء من هذه الأمور يتم عندما نريد. {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 29] .
قراءات:
قرأ الكسائي وان عامر: «فيكون» بنصب النون. والباقون بالرفع.
ثم جاء العرض للجانب المقابل للمنكرين، فذكر لمحةً عن المؤمنين الذين حملهم إيمانُهم على الهجرة في سبيل الله، فقال:
{والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .
والمؤمنون الذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم وهاجروا الى بلاد غريبة عنهم وتحمّلوا التعب احتساباً لأجر الله، وإخلاصاً لعقيدتهم من بعدِ ما وقع عليهم الظلم والعذاب، سنعوّضهم عن ذلك مساكنَ طيبةً في الدنيا وسيكون أجرُهم يوم القيامة أكبرَ ونعيمهم في الجنة أعظم.
ثم وصف اولئك المهاجرن بقوله: {الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} سينالون أعظم الأجرِ عند الله في الدنيا والآخرة.(2/316)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
اهل الذكر: اهل العلم. البينات: المعجزات. الزبر: الكتب، مفردها زبور. زبرت الكتاب: كتبته. المكر: السعي بالفساد خفية. في تقلبهم: في سيرهم وسعيهم وتصرفهم. على تخوف: على تنقص. يتفيأ ضلاله: يعود ويرجع. داخرون: صاغرون. من فوقهم: بالقهر والغلبة وهي كناية عن قدرة الله.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} .
انكر كفارُ قريش بعثة الرسول الكريم، وقالوا: اللهُ أعظمُ من ان يكون رسوله بشراً. فردّ الله تعالى عليهم مبيناً أنه لم يرسِل الرسل إلا رجالاً من بني آدم، مؤيَّدين بالوحي، وانه لم يرسل ملائكةً وخلقا آخر. فاسألوا اهل العلم بالكتب السابقة، ان كنتم لا تعلمون ذلك.
{بالبينات والزبر وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وقد أيَّدنا هؤلاء الرسل بالمعجزات والدلائل المبينّة لصدقهم، وانزلنا إليك أيها النبي القرآنَ لتبين للناس ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام، وتدعوهم الى التدبر فيه، ولعلّهم يتفكرون في آيات الله، ويتدبرون القرآن ويدركون أسراره واهدافه، ويعلمون انه أُنزل لخيرهم ومصلحتهم.
ثم حذّرهم وخوفهم مغبّة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال:
{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .
افأمِن الذين مكروا برسول الله وحاولوا صدَّ أصحابه عن الايمان بالله ان يصيبهم بعقوبة من عنده.
1- إمان بان يخسف بهم الارض ويبيدهم من صفحة الوجود كما فعل بقارونَ وغيره.
2- او بأن يأتيهم بعذابٍ من السماء فجأة من حيث لا يشعرون كما فعل بقوم لوط.
3- او يأخذَهم بعقوبة وهم في أعمالهم او اسفارِهم يكدحون في الارض.
4- او يهلكهم بنقصِ اموالهم او بنقص انفسِهم رويداً وهم في كل لحظة في عذاب من الخوف منه والترقيب لوقوعه، فلا تتمادوا ايها المشركون وتعتروا بتأخير عقوبتكم، فان الله سبحانه رؤوف رحيم، ورحمة الله واسعة شاملة.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} .
أَغَفلَ هؤلاء الناس عن آيات الله حولهم، ولم يروا ما خلقه من الاشياء القائمة تنتقل ظلالها، وتمتد تراة يمينا وتارة شمالا، وكل ذلك خاضع لأمر الله مناقد لإحكام تدبيره والكل ساجد لله وهم صاغرون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلق: «الم تروا» بالتاء والباقون بالياء.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} .
وللهِ وحده يخضع وينقادُ جميع ما خلقه في السموات، وما يدبّ على الأرض ويمشي على ظهرها من مخلوقات، وفي مقدِّمهم الملائكةُ يخضعون له ولا يستكبرون عن طاعته.
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وهنا موضعُ سجدة.
وكل هؤلاء الذين مر ذكرهم يخافون ربهم القاهرة، ويفعلون ما يأمرهم به.(2/317)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
الواصب: الدائم. تجأرون: تتضرعون، جأر: رفع صوته بالدعاء والاستغاثة.
{وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ فَإيَّايَ فارهبون} .
يحذّر الله تعالى من الشِرك به، ويقرر وحده الآله، انما الله الاله واحد فلا تعبدوا منعه إلهاً آخر، وخافوني ولا تخافوا غيري.
ثم بين انه هو المالك لهذا الكون، وان الدين له والطاعة فقال:
{وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَلَهُ الدين وَاصِباً أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} .
ان الله هو المالك الواحد لا شريكَ له في شيءٍ من ذلك، وله الطاعةُ والاخلاص دائما، فتحرروا ايها الناس من عبادة سواه، وأخلصوا له العبادة. . أفبعدَ ان علمتم هذا ترهبونَ غيرَ الله، وتخافون سواه؟
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} .
ان كل ما لديكم من نِعم في أبدانكم من صحة وعافية وسلامة، وفي أموالكم - لهي هبة الله، فبيده الخيرُ وهو على كل شيءٍ قدير، إنه هو الملجَأ الوحيد لكم، فإذا لحِقَكم ما يضرُّكم فإليه تتضرعون بالدُّعاء أن يكشفه عنكم.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .
ثم استجابَ لدعائكم ورفع عنكم ما أصابكم من الضرر، وفرَّج البلاءَ عنكم، اذا جماعة منكم ينسَون ربهم ويجعلون له شركاء، ويعبدون غيره.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} .
ذلك يحدث من بعضهم إذ ينكرون فضلَ خالقهم، ويكفرون بنعمةِ التي لا تحصى، ولذلك هدّدهم وتوعدهم بقوله: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تمتّعوا في هذه الحياة الدنيا، فسوف تعلمون عاقبة كفرهم.(2/318)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
تفترون: تكذبون. كظيم: ممتلئ غيظا وغما. يتوارى: يستخفي. على هون: على ذل. يدسه في التراب: يخفيه في التراب، وهو وأد البنات. مثل السوء: الصفة السيئة. المثل الاعلى: الصفة العليا.
بعد ان بين الله اقوال المشركين، اردف هنا بذكر قبائح افعالهم فقال:
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} .
ويجعل المشركون لالهتهم التي لا عِلْمَ لها، لأنها جاد، شيئاً من أموالهم يتقربون به إليها. وقد مر في سورة الانعام قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} [الانعام: 136] .
{تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} .
هَذا قِسَمٌ من الله عظيمٌ فيه تهديدٌ ووعيد على كذبهم وافترائهم، وأن اللهَ سوف يسألهم عن هذا الكذب.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} .
وهذا ايضاً من افترائهم، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن بناتِ الله، فنسبوا اليه الولد، وهو لم يلدْ ولم يولد. سبحانه تنزّه عن إفكهم. {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يختارون لأنفسِهم الذكور، ويأنفون من البنات. وهذا جهلٌ كبير، والحياة تنشأ من الذكر والأنثى، فالأنثى أصلية في نظام الحياة أصالةَ الذكر، بل ربما كانت أشدَّ أصالةً لأنها المستقر، فكيف يأنفون من الأنثى ونظام الحياة يقوم على وجود الزوجين!!
ثم أشار الى شدة كراهيتهم للاناث بقوله:
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} .
واذا أُخبر أحدُهم بانه وُلدت له أنثى، اسودَّ وجهه من الغم والغيظ، وحاول الاختفاء عن أعين الناس، وبات بين أمرين: إما أن يبقيها على قيد الحياة مع ما يلحقُه من الذل في زعمه، وإما ان يدفنَها في التراب. . بئسَ ما قالوا، وبئسَ حُكمهم الذي ينسِبون فيه الى الله ما يكرهون ان يُنسَب اليهم.
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء وَلِلَّهِ المثل الأعلى وَهُوَ العزيز الحكيم} .
للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب صفةُ السوءِ، وله تعالى الصفةُ العليا، تنزَّه عن الولد، وله العزّة والحكمة، وجميعُ صفات الجلال والكمال.(2/319)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
اجل مسمى: يوم القيامة. ما يكرهون: البنات. تصف السنتهم الكذب: يكذبون. لا جرم: حقا. مفرطون: بفتح الراء، معجل بهم. ومفرطون بكسر الراء: متجاوزون الحد. ومفرطون بكسر الراء المشددة: مقصرون وقرئ بالثلاثة كما سيأتي.
لما حكى الله عن المشركين عيمَ كفرهم وقبيح أفعالِهم، بيّن هنا عِلمه بخلْقه مع ظلمهم وأنه يُمهلهم بالعقوبة وإظهاراً لفضله ورحمته.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} .
لو أن الله يؤاخذ الكفارَ والعصاة بذنوبهم، ويعاجلُهم بقعوباتهم واستحقاقِ جناياتهم، لما ترك على وجه الأرض أحداً ممن يستحقّ ذلك من الظالمين، وإنما يؤخرهم تفضُّلاً منه ليراجعوا التوبة، ولكن يؤخرهم الى أجَلٍ سمّاه وعيّنه لهم.
{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} .
فاذا جاء الوقت الذي عيّنه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون. وقد تقدم في سورة الأعراف {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [33] .
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} .
وينسب هؤلاء المركون الى اللهِ ما يكروهون لأنفسهم من البنات، وتنطق ألسنتُهم بالكذِب إذ يزعمون أنّهم سيدخُلون الجنة. ورُوي أنهم قالوا: إن كان محمدٌ صادقاً في البعث فإنّ لنا الجنة، فردّ علييهم مقالهم بقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} حقا ولا شك أنّ لهم جهنّم وأنّهم إليها معجَّلون.
قراءات:
قرأ نافع: «مفرِطون» بكسر الراء، وقرأ أبو جعفر «مفرِّطون» بكسر الراء المشددة. والباقون «مفرَطون» بفتح الراء كما هو في المصحف.
ثم بيّن الله ان هذا الصنيع الذي صدرَ من قريشٍ قد حدث مثلُه من الأمم السابقة في حق أنبيائهم، فقال مسلّياً رسولَه الكريم على ما كان يناله من الغم بسبب جهالاتهم وعنادِهم.
{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
يُقسم الله تعالى بأنه أرسل رسُلاً من قبلك أيها الرسول إلى أُمم سابقة فحسَّن لهم الشيطانُ الكفرَ فاتّبعوه وكذّبوا رسلَهم، فهو متولي أمورهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار الأليم.
{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
القرآن هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو الهداي الى سبيل الرشاد لجميع الخلْق، وما أنزلنا عليك هذا القرآن الا لتبيِّن به للناس أجمعين الحقَّ فيما اختلفوا فيه، ولتهديَهم الى الصراط المستقيم.(2/320)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الأنعام: يطلق على الجمع ويذكر ولذلك قال هنا مما في بطونه وفي سورة المؤمنين ونسقيكم مما في بطونها بالتأنيث «الآية 21» من بين فرث ودم، الفرث: ما يبقى في كرش الحيوان من بقايا الاكل. سائغا: سهل المرور في الحلق تتخذون منه سكرا: خمرا. ورزقا حسنا: كل ما يستخلص من الثمرات من انواع المربى وغيره. يعرشون: بضم الراء وكسرها. يرفعون العرائش من الكرم وغيرها. ذللا: مفردها ذلول: الطائع المنقاد.
{والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .
هذه الآية من الحجج الدالّةِ على توحيد الله، وقد ذُكرت في سورة البقرة 22 و 164 والانعام 99 وسورة الرعد 19، وسورة ابراهيم 32 وفي سورة النحل هذه 10.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} .
ان لكم أيها الناسُ في الأنعام من الإبلِ والبقر والغنَم لموعظة دالّة على قدرة الخالق، إذ يُخرج اللبنَ السائغ اللذيذ الطعم من بين الفرْث والدم، فالعشبُ الذي يأكله الحيوان يتولَّد من الماء والتراب، فهذا الطينُ يصير نباتاص وعشباً، ثم يأكله الحيوانُ فيتحول الى لبنٍ سائغ للشاربين. . . وفي هذا كلِّه أكبرُ وأعظمُ دليل على قدرة الخالق سبحانه.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: «نسقيكم» بفتح النون والباقون: «نسقيكم» بضمها والمعنى واحد، سقاهُ وأسقاه.
{وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ومن هذه النِعم التي أنعم اللهُ بها عليكم ما تتخذون من العنب والتمر، فتصنعون منه خَمْرا، (وكان هذا في مكةَ وقبل تحريم الخمر) ، ورزقاً حسنَاً من الثمار وما تعلمون منه من شراب ومربَّى وغير ذلك. وفي هذه آية دالة على قدْرة الله ورحمته لكم لعلّكم تسمعون فتعقلون.
{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} .
وألهَمَ اللهُ النحل أسبابَ حياتها، ووسائلَ معيشتها، فهي تتَّخِذ بيوتاً في كهوف الجبال، وفي الشجر، وفي عرائشِ الكرم وغيرها.
ومن يرى خليَّةَ النحل وما فيها من نظامٍ وتدبير وهندسة بيوتٍ يجد العَجَبَ في هذه القدرةِ الفائقة والترتيب العجيب. وقد كُتب في ذلك مؤلفاتٌ عديدة، فالخليّة مملكة قائمةٌ بذاتها، لها ملكة واحدة، وعددٌ كبير من الشغّالين منهم من يطعم الملكة التي تبيض لهم، ومنهم من يخدم الصغار ويربيهم، ومنهم من يحرس الخلية، ومنهم من يصنع العسلَ والشمع الذي تُبنى منه البيوتُ السداسية الشكل العجيبةُ في الدقة والصنع.
قراءات:
قرأ ابو بكر وابن عامر: «يعرُشون» بضم الراء.(2/321)
والباقون: «يعرِشون» بكسر الراء.
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
ثم هداها الله للأكل من جميع أنواع الثمرات والنبات، وأن تسلكَ الطرق التي هيأها لها الله. وبعد ان تتغذى من شتّى أنواع الثمار تهضم ذلك كلَّه ثم يخرج من بطونها شارب مختلف الالوان، جعل الله فيه شفاءً عظيما للناس، وغذاءً لا مثيل له. ومنيرة العسل انه يُستعمل غذاء ودواء. وقد أُلفت فيه مؤلفاتٌ عديدة، وكان العسل هو الوسيلةَ للتحلية من أقدم العصور الى ان صار السكّر سلعةً تجارية هامة. وكما قتلُ: ان عسل النحل مغذّ ويمتصه الجسم بسهولة، وينتفع به، ويحتوي على 70 - 80% سكراً، والبقية ماء، واملاح معدنية، وآثار من البروتين والأحماض ومواد اخرى.(2/322)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
ارذل العمر: أخسه وهو الهرم مع فقدان الذاكرة، لان كثيرا من المعمرين يبلغون مرحلة كبيرة في السن ويبقون بصحة وذاكرة جيدة. ما ملكت ايمانكم: العبيد. حفدة: جمع حفيد، ان الابن وابن البنت. فلا تضربوا لله الامثال: لا تجعلوا له اشباها ونظائر.
بعد ان ذكر الله عجائب أحوال ما ذكر من النبات والماء والأنعام والنحل - أشار هنا الى بعض عجائب أحوال البشَر من أول عُمر الإنسان الى آخره وتطوراته فيما بين ذلك.
{والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
ان الله خلقكم أيها لناس ولم يتكونوا شيئا، ثم قدّر آجالاً مخلتفة، منكم من يتوفّاه مبكِّرا ومنك من يهرَم ويصير إلى أرذل العمر فتنقص قواه، ويكون في عقله وقوّتِه كالطِفل، فتكون عاقبته أن يفقدّ ذاكرته ولا يعود يعلم شيئا، حتى انه لا يستطيع التمييز بين أهله وأولاده وأقربائه، (وقد رأينا أناساً بهذه الحالة) ان الله عليم بأسرار خلقه، قادر على كل شيء.
ثم بعد ان ذكَر اللهُ تفاوتَ الناس في الأعمال ذكر تفاوتَهم في الأرزاق فقال:
{والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} .
والله جعلكم متفاوتين في أرزاقكم، فمنكم الغنيُّ ومنكم الفقير، فما لاذين فُضِّلوا بالرزق وأعطاهم الله المالَ الكثير بمعطين قِسماً من أموالهم لعبيدهم المملوكين لهم حتى يصيروا مشاركين لهم في الرزق ومساوين لهم، مع أنهم إخوانُهم وبشرٌ مثلهم وهم اعوانهم. فما بالكم ايها المشركون بالله، وهو الذي خَلَقَكم ورزقكم وأنعم عليكم! كيف تجحدون بنعمة الله وتشركون به غيره.
قراءات:
قرأ ابو بكر: «تجحدون» بالتاء والباقون بالياء.
ثم ذكر ضرباً آخر من ضروب نِعمه على بعاده تنبيهاً الى جليل إنعامه بها إذ هي زينةُ الحياة فقال:
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} .
واللهُ أنعمَ عليكم نِعماً لا تحصى، منها ان خلَق لكم أزواجاً لتسكُنوا الهيا، وأكبر نعمةٍ على الانسان هي الزوجةُ الصالحة، فهي جنّةُ البيت. وجعل لكم من أزواجكم بنينَ وأبناءَ البنين والبنات، كما رزقكم من الأرزاق الطيبة التي تنعَمون بها، وهذه من زينة الحياة الدنيا.
{أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ؟} .
ابعدَ كل هذه النِعم، وكل هذه الدلائل البينة يُشركون بالله، ويكفرون بهذه النعم!!
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} .
ومع كل هذِه النعم التي أنعم الله بها عليهم فإنهم يعبدون الأصنامَ التي لا تملِك شيئا، ولا تستطيع أن ترزقَهم أيَّ رزقٍ، سواء كان كان هذا الرزقُ آتياً من السماء كالماء أم من الارض كالنبات والشجر.
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .
لا تجعلوا لله مَثَلاً ولا تشبّهوه بخلْقِه، ولا تبعدوا غيره، فانه لا شبيه له ولا مثيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 10] .(2/323)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
ألكم: اخرس. كَلٌّ: عاجز، كأنه حمل ثقي على غيره فهو لا يستطيع ان يعمل شيئا. الساعة: القيامة.
بعد ان بين الله دلائل التوحيد البيانَ الشافي، وبيّن بعض نِعمه على عباده، ضرب هنا مثَلين يؤكد بهما إبطالَ عبادة الأصنام والشرك.
المثل الاول: عبد مملوك لا يقدِر على شيء ورجل حر كريم غنيٌّ كثير الإنفاق سِراً وجهرا، {هَلْ يَسْتَوُونَ} هل يجوز ان يكونا سواءً في الكفاية والمقدرة!! وعلى هذا فكيف يجوز ان يُسوَّى بين الله القادر الرازق، وبين الأصنام التي لا تملك شيئاً ولا تقدر على النفع والضرر!! {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} إن الثناء كلَّه والحمد لله، وان أكثر هؤلاء لا يعملون فيضيفون نعمه الى غيره، ويعبدون من دونه. والتعبير بقوله: «هل يستوون» بالجمع، ولم يقل: هل يستويان، لانه اراد النوع يعني هل يستوي العبيد والاحرار؟
والمثل الثاني: مثل رجلّين احدُهما أبكم عاجزٌ لا يقدِر على عمل شيء، واينما توجَّه لا يأتي بخير، والثاني فصيحٌ قوي السمع، يأمر بالحق والعدل، وهو مستقيم ؤمن مخلص، هل يستويان؟ ولذلك لا يجوز مساواة الجماد برب العباد.
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ولله عِلم ما غاب عن أبصاركم في هذا الكون، وما أمرُ مجيء يوم القيامة وبعث الناس عند الله الا كردّ الطرف، بل أسرعُ من ذلك، ان الله قادر على كل شيء، ولا أحدَ يملك معه شيئا.(2/324)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
في جو السماء: الجو: الفضاء ما بين السماء والارض، سكنا: مسكنا. يوم ظعنكم: وقت ترحالكم وتنقلكم وسفركم. الاثاث: فرش البيت. متاعا: ما يتمتع وينتفع به في المتجر والمعاش. ظلالا: ما يستظل به. اكنانا: واحدها كن وهو كل ما يقي الحر كالبيت والكهف وغيره. سرابيل: واحدها سربال وهو القميص او الثوب. وساربيل الحرب الدروع. البأس: الشدة عند الحرب.
{والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وهذه المنن التي يذكرها ربُّنا يَعْرِ ض فيها مثلاً من حياة البشر تعجِز عنه قُواهم، ويعجز عنه تصوُّرُهم، وهو يقع كل يوم. إن الله تعالى يُخرجكم ايها الناس من بطون أمهاتكم لا تدرِ كون شيئاً مما يحيط بكم، ثم أعطاكم السمعَ والبصرَ والأفئدة. وقد ثبت للباحثين اليومَ أن حاسّة السمع تبدأ مبكرة جدّاً في حياة الطفل في الأسابيع القليلة الأولى، اما البصر فيبدأ في بالشهر الثالث، تركيز الإبصار إلا بعدَ الشهر السادس، وأما الفؤاد وهو الإدراك والتمييز- فلا يتم إلا بعد ذلك. وهكذا فالترتيبُ الذي جاء به القرآن هو ترتيبُ ممارسة الحواس.
وهذه الاجهزة: السمع والبصر والافئدة، في الإنسان من أعجب العجب في تركيبها وعملها وأداء وظيفتها، ومن أكبرِ الأدلة على وجو الخالق القدير، وهي وسائل للعمل والإدراك، لتؤمنوا بالله، وتشكروه على ما تفضل عليكم.
ثم بعد ذلك نبّه عبادَه الى دليلٍ آخر من آثار القدرة الالهية يراها الناس كلَّ يوم فلا يتدبرونها، فقال:
{أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
الم ينظر المشركون الى الطير سابحاتٍ في الهواء، بما زوّدها الله به من أجنحةٍ أوسعَ من جسمِها تبسطها وتقبضها، وسخّر الهواء لها، فما يمسكهن في الجو الا الله بالنظامِ الذي خلَقها عليه، ان في النظر إليها والاعتبار بحمة الله في خلْقها، لدلالةً عظيمة ينتفع بها المؤمنون.
ولقد اخترع الانسان الطائرة وغيرها مما تطير في الفضاء، وقد انتفع بالطير وآلاته، وانه لَعملٌ جبّار ولكنه لا يزال غير أمين، ولا تزال تحفّ بالراكبين الاخطار، كما جعلوا القسم الاكبر منها للحرب والتدمير.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة وخلف ويعقوب: «الم تروا» بالتاء والباقون بالياء.
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} .
ومن نِعمه تعالى عليكم أن جعلكم قادرين على إنشاء بيوت لكم تتخذونها مساكن لكم فيها وتطمئّنون فيها بأمنٍ وسلام، وجعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً تسكنون فيها وتنقلونها بخفّةٍ وسرعة في أسفاركم وتنقّلكم، كما تتخذون من صوفها ووبرها وشعرها فُرُشاص ولباساً تتمتوعون بها في هذه الدنيا الى حين آجالكم.(2/325)
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} .
ومن نعمه تعالى عليكم ان جعل لكم من الأشجار وغيرِها ظِلالاً تقيكم شرّ الحر والبرد، وجعل لكم من الجبال مواضعَ تسكنون فيها، وجعل لكم ثياباُ تقيكم الحرَّ والبرد، ودروعاً من الحيديد تصونكم من قَسوة الحرب، كما جعل لكم هذه الأشياءَ فهو الآن يتم نعمتَه عليكم بالدِّين القيم، لعلكم تُسلمون، وتُخلصون عبادتكم له دون غيره.
قراءات:
قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو: «يوم ظعنكم» بفتح العين. والباقون بتسكينها.
وبعد ان عدّد ما أنعم به عليهم من النعم ذكر مايتَّبع معهم إذا أصرّوا على عنادهم فقال:
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} .
فإن أعرضوا وتولوا عنك ايها النبي، فلا تَبِعَةَ عليك في إعراضهم، فما عليك الا التبليغ الواضحُ، وحسْبُك ذلك وعلينا نحن حسابهم.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} .
انهم يعرفون أن هذه النعم كلَّها من الله، ولكنهم ينكرونها بكفرهم وعنادهم، وإن أكثرَهم لجاحدون نعم الله كافرون بها.(2/326)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
الامة: الجيل من الناس. شهيدا: شاهدا. لا يستعتبون: لا يقبل عذرهم. ولا هم ينظرون: لا يؤخرون. فالقوا اليهم القول: يعين ان شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم كذبوهم. السلم: الاستسلام تبيانا: بيانا.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} .
ويوم القيامة نحشرُ الناسَ ونأتي من كل أمةٍ بشهيدٍ يشهد لها او عليها بما قابلت رسولها، ويومئذ لا يُسمع من الكافرين أيُّ قول، لا يُقبل لهم اعتدار. وذلك كما قال تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35-36] .
{وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} .
ويوم القيامة اذا رأى الظالمون عذابَ النار، وطلبوا ان يخفَّف عنهم لا يجابُ طلبُهم، ولا يؤخرون عن دخول جهنم.
ثم اخبر الله عن محاولة المشركين إلقاءَ تبعه أعمالِهم على آلهتهم التي عبدوها وردَّ آلهتهم عليهم فقال:
{وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} .
واذا رأى الذين أشركوا اآلهتَهم التي عبدوها قالوا: يا ربنا هؤلاء الذين كنا نعبُدهم خطئين، فخفَّف عن العذابَ بإلقاء بعضِه عليهم.
فيجيبهم شركاؤهم قائلين:
{فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} .
فردّوا عليه قولَهم وقالوا إنكم لكاذبون في دعواكم أنّنا شركاء لكم في الإثم، وإنكم لما عبدتمونا، إنما عبدتُم أهواءكم. {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
واستسلموا إلى الله خاضعين، ولم يجدوا من ينصرهم وخاب ظنهم بمعبوداتهم وما كانوا يفترون على الله الكذب.
{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} .
ان الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الإيمان بالله زدْناهم عذاباً فوق العذاب الذي استحقّوه بالكفر، بسبب ما كانوا يعملون من الفساد وإضلال غيرهم من الناس، فلهُم على ذلك عذابٌ مضاعف.
ثم يخاطب الله رسولَه الكريمَ بهذه الآية المبشرة للمؤمنين.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء} .
اذكر أيها الرسول يومَ القيامة، يوم يبعُ الله نبيَّ كلِ أمةٍ شاهداً عليهم، ونجيء بك شاهدهاً على هؤلاء الذين كذّبوك.
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} .
ولقد أنزلْنا عليك القرآن يبيّن للناس كلّ شيءٍ من الحق وما يحتاجون اليه، وفيه الهدايةُ والرحمة والبشرى للذين أسلموا وآمنوا بك وصدقوك.(2/327)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
العدل: الانصاف، والاستقامة واعطاء كل ذي حق حقه. العهد: كل ما يتلزمه الانسان باختياره. ولا تنقضوا الايمان: لا تخنثوا بها. كفيلا: ضامنا. انكاثا: واحدها نكث، بمعنى منكوث، منقوض. دخلا بينكم: مكرا وخديعة: اربى: أكثر.
{إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
ان الله يأمر عبادَه بالعدل في اقوالهم وأفعالهم، والإحسان الى الناس والتفضُّل عليهم ومساعدتهم، ويأمر بصِلَة الأقارب والأرحام وإعطائهم ما يحتاجون اليه لدعم روابط المحبة بين الأُسَر، وينهى عن إتيان الفواحش والغلو في تحصيل الشهوات، كما ينهى عن الظلم والاعتداء على الغير. . واللهُ سبحانه يذكّركم بهذا ايها الناس ويوجّهكم الى الخير لعلكم تتذكرون فضله.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي انه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: صف العدل، فقلت بخٍ، سألتَ عن أمرٍ جسيم، كمن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمِثْل أخاً، وللنساءِ كذلك، وعاقبِ الناس قدْر ذنوبهم، ولا تضرِبنّ لغضبك سوطا واحداً فتكون من العنادين.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهـ قال: اجمعُ آية في كتاب الله للخير والبعد عن الشر قوله تعالى:
{إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان. . . .} .
رواه البخاري وابن جرير وابن المنذر.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} .
أوفوا أيها المؤمنون بالعهود التي تعطُونها على انفسكم، ولا تنقضوا الأيمان بالحنْثِ فيها بعدٍ عقدِها، وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالأيمان التي حلفتموها، ان الله رقيبٌ ومطلع عليكم، فكونوا عند عهودكم وأيمانكم.
{وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} .
لقد شدّد الاسلام على الوفاء بالعهود، ولم يتسامح فيها ابدا، لأنها قاعدةُ الثقة التي ينفرط بدونها عقدُ الجماعة، ولذلك أكد هنا بضربِ هذا المثل، بالمرأة الحمقاء التي تفتِلُ غَزْلَها ثم تنقضُه من بعد ان يكون قد اكتمل، منتخذين أيمانكم وسيلةً للمكرِ والخداع، وتنوون الغدر بمن عاقدتم، لأنكم اكثرُ وأقوى منهم.
{إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
انما يختبركم الله، فإن آثرتُم الوفاءَ كان لكم الغُنم في الدنيا والآخرة، وان اتجهتم الى الغدر كان الخسران، وليبيّنَ لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم تختلفون عليه في الدنيا، ويجازيكم حسب أعمالكم.
وهاتان الآيتان تدلان على أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم، مع العدالة والوفاء بالعهد وان العلاقات الدولية لا تنظَّم الا بالوفاء بالعهود، وان الدول الاسلامية إذا عقدت عهداً فإنما تعقده باسم الله فهو يتضمن يمين الله وكفالته، وفيهما ثلاثة معان لو نفَّذتها الدولُ لساد السلم العالم.(2/328)
اولها: انه لا يصح ان تكون المعاهدات سبيلاً للخديعة وإلا كانت غشّاً، والغش غير جائز في الاسلام في العلاقات الانسانية سواء كانت بين الافراد او الجماعات والدول.
ثانيها: ان الوفاء بالهد قوةٌ في ذاته، وان من ينقض عهده يكون كمن نقض ما يناه من اسباب القوة، مثلَ تلك الحمقاء التي نقضت غَزْلها بعد ان أحكمته.
ثالثها: انه لا يصح ان يكون الباعث على نكث العهد الرغبة في القوة او الزيادة في رقعة الأرض او نحو ذلك، كما تفعل اسرائيل، وكانت من ورائها بريطانيا، واليوم امريكا.
هذه المبادئ لم تكن معمولاً بها قبل الاسلام، وقد رأينا دولاً عظمى لم تفِ بالعهد وكذبت في عهودها فبدّد الله شملَها وعادت من الدول الفقيرة الحقيرة.
{وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد، ولكنه خلقهم متفاوتين بالاستعداد، وجعل نواميس للهدى والضلال، وشاء ان تختلفوا في الأجناس والالوان، ولكّلٍ اختيارٌ أُوتيه بحسب استعداده، وكلٌّ مسئول عما يعمل، فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود. وهذه قمة في صدق التعامل والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة الا الاسلام.(2/329)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
ان تزل قدم بعد ثبوتها ان تقعوا في المحن والخطايا ما عندكم ينفد: ينتهي ولا يبقى. فاذا قرأت القرآن فاذا اردت ان تقرأ القرآن. السلطان: التسلط. يتولونه: يطيعونه.
{وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
يؤكذ الله تعالى على التمسّك بالعهود والأيمان، والمحافظة عليها، ويحذّر من نقضها واتخاذها سبيلاً للمكر والخديعة والتغرير بالناس، رجاء منفعة دنيوية زائلة. وفي هذه الآيات تهديد ووعيد لمن ترك الحق الى الباطل، والهدى الى الضلال.
ثم اكد هذا التحذير بقوله:
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
لا تغرَّنَّكم الدنيا فتؤْثِروا منافعكم الخاصة بنقض العهود، فانّ متاعَ الدنيا قليل زائل، مهما كان كثيراً، وان ما عند الله من جزيل الأجر والثواب هو خيرٌ لكم من ذلك العَرَض القليل إن كنتم من ذوي العقول الراجحة.
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
ان كل ما عندكم زائل لا يبقى، وما عند الله من نعيم الآخرة خالد لا ينقطع، وسوف نكافئ الذين صبروا على مشاق التكليف بما وعدناهم، بثوابٍ احسن بكثير مما كانوا يعملون. . ينعمون به دائما في جنات عدن.
قراءات:
قرأ ابن كثير وعاصم: «ولنجزين» بالنون، والباقون «وليجزين» بالياء.
ثم رغّب في المثابرة على أداء الطاعات والواجبات الدينية فقال:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
في هذه الآيات الكريمة حَضٌّ على العمل الصالح لجميع الناس ذكورا واناثا، وان العمل الصالح مع الايمان جزاؤه طيبة في هذه الدنيا، يحيا فيها مطمئنا في رعاية الله وعند الله في الآخرة له الجزاء الأوفى، والنصيب العظيم من الأجر والثواب. وقد كرر الله قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} للترغيب في العمل الصالح.
{فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} .
هنا يرشدنا الله تعالى الى ان الذي يحمي النفس من كل شر هو القرآن الكريم، فاذا اردت ايها المؤمن ان تقرأ القرآنَ فاستعذْ بالله من الشيطان الرجيم، وبذلك تفوز بطيب الحياة في الدارَين.
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
إذا فعلت أيها المؤمن ما أمرك الله مخلصاً، حماك الله من الشيطان، لنه لا تأثير له على الذين آمنوا بصدق، وعلى ربهم يتوكلون، واليه بقولوبهم يتوجهون.
أما الفريق الثاني الذين يجعلون الشيطان وليَّهم، ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم فهم الذين عناهم بقوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} .
يعني أنهم اشركوا بسبب طاعتهم للشيطان وليِّي امرهم، وبسبب اغوائه لهم - بالله جلّ جلاله.(2/330)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
واذا بدلنا آية مكان آية: غيرنا ونسخنا مكانها آية. روح القدس: جبريل. يلحدون اليه: يميلون اليه. الأعكي: من كان غير عربي.
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
واذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية اخرى (والله اعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل، وهذا دليل على مرونة الشرع الاسلامي، فقد تستدعي الحكمة والمصلحة ان يشرع الله حكما لعباده لامد معين، فيفعل، حتى اذا انتهى الامد واقتضت المصلحة التغيير شرع غيره مكانه) قال المشركون انما انت متقوِّل على الله تأمر بشيء ثم تنهى عنه، وان اكثرهم جاهلون لا يعلمون الحقائق.
ثم بين الله لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين ان ذلك لم يكن من عند الله وان رسول الله قد افتراه فقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} وهذا رد واضح من الله تعالى بانه هو الذي انزل هذا القرآن من عنده تثبيتا للمؤمنين وليكون هاديا للناس الى الصواب ومبشرا بالنعيم المقيم للمسلمين.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} .
وإنا لنلعم ان هؤلاء المشركين يقولون افتراء، ان رجلا من البش يعلم محمدا هذا الذي يتلوه عليكم. وهذا الذي يزعمون هو عبد رومي كان يقرأ التوراة بلغة اعجمية. فلسان الذي يقولون عنه أعجمي لا يفصح، والقرآن لسان عريبي مبين واضح، تحداكم به اكثر من مرة، ولم تستطيعوا ان تأتوا بآية من مثله.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «يلحدون» بفتح الياء والحياء. والباقون «يحلدون» بضم الياء وكسر الحاء، وهما لغتان: لحد، وألحد.
ثم توعدهم الله على ما قالوا بالعقاب في الدنيا والآخرة فقال:
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ان الذين اصروا على كفرهم ولم يؤمنوا بأن هذه الآيات من عند الله لا يهديهم الله، وفي الآخرة لهم عذاب اليم، ولا يفتى الكذب على الله الا الذين كفروا وجحدوا الوهيته واولئك وحدهم هم الكاذبون.(2/331)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
اكره: غصب بالضغط. من شرح بالكفر صدرا: اعتقد الكفر من طيب نفس. لا جرم: حقا، لاشك.
{مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} .
ان الذين يكفرون بعد ان دخلوا الاسلام وآمنوا عليهم غضبُ الله، ويستثنى من ذلك من أُمره على الكفر بالضغط والتعذيب ونطق بالكفر ولكنه مؤمن ايماناً صادقاً، فلا لوم عليه. وقد ان كفار قريش يعذّبون الضعفاء من المسلمين الذين ليسوا من قريش مثل عمار بن ياسر وابويه وبلال وغيرهم، ويجبرونهم على النطق بكلمة الكفر، فاذا لم يفعلوا قتلوهم، فنزلت الآية تجيز لهم النطقَ بكلمة الكفر ظاهرا ليتخلصوا من عذاب المشركين، ولا تثريبَ عليهم.
{ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
أما الذين كفروا طائعين مختارين، فغضب الله عليهم ولهم عذاب عظيم في الآخرة.
{ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} .
هؤلاء الذين كفروا طوعا واصروا على لاشرك إنّما آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة، والله لا يوفق من يشر به ويجحد آياته.
{أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأولئك هُمُ الغافلون} .
إنّ الذين اتصفوا بما تقدم لهم الّذين طبع اللهُ على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فأغلقَها عنا لحق، فلا يؤمنون ولا يهتدون.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} .
لا شك بأنهم هم الخاسرون لكل خير في الدنيا والآخرة، ولا خسرانَ أعظمُ من غضب الله.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
ثم اعلمْ ايها النبي ان ربك ناصرٌ الذين هاجروا من مكة فراراً بدينهم، وبأنفسهم من عذاب المشركين، ثم جاهدوا وصبروا على مشاق التكاليف، ان ربك من بعد ما تحمّلوا ذلك الغفورٌ لما حصل منهم، رحيم بهم فلا يؤاخذُهم على ما أُكرهوا عليه. . . الآية كما يظهر من لفطها تعم جيمع الذين اضطهِدوا وعذَّبوا من ضعفاء المسلمين.
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
ويوم القيامة يأتي كل انسان لا يهمه الا نفسه والدافع عنها، وينسى كل شيء من مال ووالد وولد، والله تعالى يومئذ يوفّى كل نفس جزاءَ ما كسبت من اعمال، ولا يظلم ربك احدا.(2/332)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
رغدا: كثيرا واسعا. بأنعم الله: بنعم الله.
في هاتين الآيتين مثلٌ يضربه الله لأهل مكة ولكل من يأتي بعدهم ممن يجحدون النعم وكفرون بها وهم آمنون مطمئنون ولا يعتبرون، فبين الله صفةً لقريةٍ كان اهلُها آمنين من العدو، يأتيها الرزق الكثير من كل مكان، فكفروا بنعم الله ولم يشركوه، فعاقبهم الله بالمصائب التي أحاطت بهم، وذاقوا مرارة الجوع والخوف عبد الغنى والأمن.
وقد جاءهم رسول منهم، فكذّبوه عناداً وحسدا، فأخذهم العذاب واستأصل شأفتهم، بسبب ظلمهم وكفرهم.
فهذا المثل ينطبق على اهل مكة حيث كانوا آمنين مطمئنين، فيها بيتُ الله الحرام وجميع العرب، يعظّونه ومَم دخَلَه كان آمنا لا يجرؤ احد على إيذائه، وكان الناس يصِلهم الأذى من حولهم، واهلُ مكة في حراسة البيت وحمايته آمنون مطمئنون كذلك كان رِزقهم يأتيهم من كل مكان مع الحجيج والقوافل منذ دعوة ابراهيم الخليل.
وجاءهم رسول منهم يعرفونه صادقاً أميناً بدعوهم الى ما فيه كل الخير لهم وللناس أجمعين فكذّبوه، فأذهبُ اللهُ هيبتهم، ونصر رسوله عليهم، وعادت مكة الى حظيرة الاسلام.(2/333)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
بعد ان بين الله حال الجاحدين بنعمة الله وكيف عاقبهم، يقول للمؤمنين: اذا كان المشركون يكفرون بنعم الله فيبدّلها بؤساً وعذابا، فكلوا ما رزقكم الله من الحلال، واشكروه على ما أنعم عليكم ان كنتم تعبدونه بإخلاص. وبعد ان امرهم بالاكل من الحلال الطيب بيّن ما حرم عليهم فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي الآية 4 من سورة المائدة بأوسع من ذلك.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} .
ولا تحللوا ان تحروما كذباً وزورا دون استناد الى دليل، لتفتروا الكذب على الله. ثم اوعد المفترين وهددهم اشد التهديد فقال:
{إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} .
ان الذين يختلقون الكذب على الله من عند انفسهم لا يفوزون بيخر ولا فلاح.
ثم بين ان ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئا مذكورا اذا قيس بالضرر الذي يصحل منه فقال:
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ان ما يحصل عليه من الفوائد بسبب جرأتهم وكذبهم شيء قليل من المنافع يتمتعون به، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
{وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
في هذه الآية اشارة الى ما تقدم في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ. . . .} [النساء: 160] وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم ولكن ظلموا انفسَهم بمعصيتهم لربهم وتجوزِهم حدوده.
ثم بين الله تعالى ان الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبلها الله منهم، ويغفر لهم رحمة منه وتفضلا فقال:
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
{كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الانعام: 54] ، فمن تاب واصلح فان يغفر له، وباب التوبة عنده مفتوح دائما للخاطئين.(2/334)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
أمة: اماما، والامة: الرجل الجامع لخصال الخير. فانتا: مطيعا. حنيفا: مائلا عن الباطل، مستقيما. اجتباه: اختاره واصفاه.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين الى قوله: لَمِنَ الصالحين} .
بعد ان بين ما حرم على اليهود خاصة، وكان مشركو قريش يدعون انهم على ملة ابراهيم فيما يحرموه على انفسم ويجعلونه لآلهتهم، يبين الله تعالى هنا حقيقة دين ابراهيم ثم بعد ذلك يأمر الرسول الكريم باتباعه.
ان ابراهيم كان إماماً جامعاً لكل الفضائل، مطيعاً لله متبعاً للحق، ولم يكن من المشركين، وكان موحِّداً ليس يهودياً ولا نصرانياً، شاكرا لنعمة ربه، اختاره للنبوة، وهذاه الى الحق، وحبّبه الى جميع الناس، فجميعُ أهل الاديان يعرتفون به وهو في الآخرة في زمرة الصالحين.
وبعد ان وصل ابراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغايةَ في علوم المرتبة - أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم باتباعه فقال:
{ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} .
ثم اوحينا اليك ايها النبي باتباع ملة ابراهيم الحنيفة السمحة الخصالة من الشرك والزيغ والضلال، وذلك كرمر الله تعالى قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} ثم نعى الله على اليهود ما اختلفوا فيه وهو يوم السبت فقال:
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
فاما تحريم السبت فهو خاص باليهود الذين اختفوا فيه، وليس من ديانة ابراهيم، وليس كذلك من ديانة محمد السائر على نهج ابراهيم، وان ربك ليفصل بين الفريقين في الخصومة والاختلاف ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.
وايراد هذه العبارة بين سابق الكلام ولاحقه انذار للمشركين وتهديد لهم بما في مخلافة الانبياء من عظيم الوبال، كما ذكر مثل القرية فيما سلف.(2/335)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
ثم ختم الله تعالى هذه السورة المباركة باربع آيات فيها مثال الكمال، وجماع الاخلاق الفاضلة والتسامح والصبر، والحثّ على التحمل، ووعد بأننا اذا تحلّينا بهذه الاخلاق فانه سيكون معنا وينصرنا ويوفقنا.
ادعُ يا محمد الى دين ربك بالحكمة، والقول اللطيف بالموعظة الحسنة، وجادل من يخالفك بالتي هي احسن، وان اردتم عقاب من يعتدي عليكم ايها المسلمون فخذوا حقكم بان تعاقبوا بمثل ما فعل بكم، وتأكدوا انكم ان صبرتم وتسامحتم ولم تقتصوّوا لانفسكم فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة، لما في ذلك من ضبط النفس واستجلاب القلوب. عاقِبوا لأجل الحق، ولا تعاقبوا لأجل انفسكم.
ثم يلتفت الخطاب الى رسول الله {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} .
فلا يأخذك الحزن لان الناس كلهم لا يهتدون، فانما عليك واجب اداء الرسالة، اما الهدى والضلال فهما بيد الله، ولا يضيق صدرك من مكرهم وتدبيرهم، فالله كافيك اذاهم، وناصرك عليهم. وقد وفى بوعده.
قراءات:
قرأ ابن كثير واسماعيل: «في ضيق» بكسر الضاد. والباقون: «في ضيق» بفتح الضاد.
ثم تأتي الختمة الحسنة في قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} .
ان الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها، والذين يحسنون في كل شيء، فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
نسأل الله تعالى ان يجعلنا منهم، وان يوفق هذه الامة الى الاحسان والتقوى والاتحاد، والحمد لله رب العالمين.(2/336)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سبحانه الله: تنزيها له عن كل ما لا يليق بجلاله. أسرى: سار ليلا. المسجد الحرام: مسجد مكة. المسجد الاقصى: الحرم في بيت المقدس، وهو اقصى، أي بعيد بالنظر الى الحجاز.
تنزيها لله الذي اسرى بعبده محمد في جزء من الليل، ومن المسجد الحرام بمكة الى المسجد الاقصى ببيت المقدس، ذلك المسج الذي جعلنا البركة فيه وحوله لسكّانه في معايهشم وقواهم، لنُري عبدنا محمدا من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي والدليل الساطع على وحدانيتنا وعظم قدرنا. ان الله الذي اسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من اهل مكة، البصير بما يفعلون.
حادث الاسراء:
كان حادث الاسراء في ليلة 27 من رجب قبل الهجرة بسنة واحدة، وقد حصل الاسراء من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى بالجسد والروح فعلا، ولوم كان الاسراء بالروح فقط لما كان في ذلك شيء من العجب، ولما قامت ضجة قريش، وبادروا الى تكذيبه.
فالرواية تقول ان الرسول الكريم كان نائما في بيت انبه عمه ام هانئ، فأُسري به ورجع من ليته وقص القصة على ام هانئ، ثم قام ليخرج الى المسجد فتشبثت ام هانئ بثوبه، فقال لهاه: مالك؟ قالت: اخشى ان يكذّبك قومك ان أخرتهم: قال: وان كذّبوني. فخرج فجلس اليه ابو جهل، فاخبره رسول الله بحديث الاسراء، فقال ابو جهل: با معشر بني كعب بن لؤي، هلُم. فحدّيهم. فاستنكر القوم ذلك، فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وانكارا. وارتد ناس من المسلمين. وسعى رجال الى ابي بكر رضي الله عنهـ قال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أشهد لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: فتصدّقه في ان يأتى الشام في ليلة واحدة ثم يرجع الى مكة قبل ان يصبح؟ قال: نعم، انا أصدقه بأبعدَ من ذلك، اصدقه بخير السماء. فسُمّيَ الصدّيق. وكان منهم من سافر الى بيت المقدس، فطلبوا اليه وصف بيت المقدس فوصفه لهم وصفا دقيقا، فقولوا أخبرْنا عن عِيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها واحوالها، وقال: تَقْدُم يوم كذا، فكان كما قال. وفي الليلة ذاتها كان العروج الى السماء من بيت المقدس.
بيت المقدس بناه العرب الكنعانيون، واليبوسيون منهم، على جبل صهيون نحو سنة 2500 قبل الميلاد. وكلمة «صيهون» كنعانية أخذها اليهود وجعلوها شعاراً لهم. والرحلة من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى رحلة تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن ابارهيم واسماعيل عليهما السلام الى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. كما تربط من الاماكن المقدسة لديانات التوحيد، وتعيد الحق الى أهله. والمقصود من هذه الرحلة العجيبة اعلان وراثة الرسول الاخير لمقسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه الرحلة العجيبة اعلان وراثة الرسول الاخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات واراتباط رسالته بها جميعا، فهي رحلة ترمز الى ابعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من ذلك.(2/337)
كما أنها تتضمن معاني اكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها النظرة الأولى. وهي آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود، وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري، والاستعدادت الدينينة التي تيهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في اشخاص المختارين من هذا الجنس الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه.
وفي هذه الآية الكريمة يدلنا الله تعالى الى ان بيت المقدس والشام أجمع هي بلادنا وملك لنا فسارِعوا الى اخذها. ولم تمض عشرون سنة حتى كانت في حوزة المسلمين وبقيت وستبقى الى الأبد في أيديهم مهما كانت الغمّة القائمة.
ومهما جمعت اسرائيل من قوة واسلحة ودعمها الامريكان والانكليز وغيرها فانها سوف تزول، ولسنا نشك في ان دائرة السوء ستدور عليهم جميعا، ويذهب هذا الباطل، وينمحي ذلك في الزيف والكذب وتبقى القدس عربية مسلمة، وتبقى الصخرة المشرفة، ومسجد عمر {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون} [الروم: 4] .(2/338)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
الكتاب: التوراة وكيلا: كفيلا تكلون اليله اموركم.
وقد أعطينا موسى التوراة، وجعلنا فيها هدايةً لبني اسرائيل، وقلنا لهم لا تتخذوا غير الله إلهاً تفوّضون اليه أموركم، فانكم أبناء نبي كريم، هو ذلك العبد الشاكر، فاقتدوا به واستقيموا كما كان مستقيما، وكونوا شاكرين مثلَه ذاكرين كما كان.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وحده: «الا يتخذوا» بالياء. والباقون بالتاء.(2/339)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
وقضينا: اخبرنا بالوحي. لتعلن: لتطغون. فجاسوا خلال الديار: دخلوها ووطئوها. رددنا لكم الكرة: اعطيناكم الغلبة. اكثر نفيرا: اكثر عدداً. وليتبروا ما علوا تتبيرا: وليهلكوا ويدمروا ما استولو عليه من بلادكم تدميرا. حصيرا: مكانا للكافرين.
بعد ان ذكر تعالى انه أكرم رسولَه محمداً عليه الصلاة والسلام بالإسراء من مكة الى بيت المقدس- ذكر هنا ما أكرمه به موسى قبله من إعطائه التوراة، وجعلها هدى لبني اسرائيل، لكنهم أعرضوا عنها وليم يعملوا بهدْيها، بل أفسدوا في الأرض.
{وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} .
فافسدوا واعلوا علوًّا كبيرا.
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} .
كانت هذه الحملة الاولى من الملك البابلي نبوخذ نصر سنة 597 قبل الميلاد على مملكة يهوذا، فاستولى على القدس وسبى اليهود ومعهم ملكهم «يهوياكين» واهل بيته، واخذ جميع ما عندهم من اموال وذهب وكنوز.
ثم عاد نبوخذ نصر في حلمة ثانية سنة 586 قبل الميلاد يعين بعد احد عشر عاما واحتل القدس وخرجها واحرق الهيكل وسبى نحو 50 الف من اليهود.
وبقي اليهود في بابل الى ان جاء كورش الاخميني سنة 539 قبل الميلاد فسمح لهم بالعودة الى فلسطين، فعاد قسم وبقي عدد كبير في بابل ولم يعودوا لانهم استوطنوا واصبح لهم أملاك وتجارة، وحالوا بناء الهيكل، فاحتج السكان من غير اليهود والاقوام المجاورن من الحثيين والحوريين والعمونيين والأدوميين، ولم يتم بناء الهيكل، وبقي الى ان احتل دارا الأول ملك الفرس البلاد فسمح لهم ببناء اليهيكل سنة 515 قبل الميلاد.
فاذا اعتبرنان هذه الفترة كلها هي الأولى، تكون هي المقصودة بقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}
وتكون هذه الفترة تفرة استقرار. ثم جاء عهد اليونان حيث لاقوا اسوأ الحالات في عهد الملك السلوقي انطيوخس الرابع وذلك سنة 175 164 قبل الميلاد، اذا دمر الهيكل ونهب خزائنه واجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية اليونانية. وبقي الصراع بين اليهود يشتد حتى اندلعت ثورة المكابيين ودام عصرهم نحو قرن وربع، الى ان جاء الرومان، وعين الملك هيرودس الأدومي فسمح لليهود باعدادة بناء الهيكل سنة 39 قبل الميلاد. وفي سنة 66 م. قامت ثورة عارمة شاملة من اليهود على الحكم الرماني، بعد سلسلة من المعارك سيطر تيطس الروماني على الموقف وتمكن من القضاء على اليهود سنة 70. واوقع فهيم مذبحة مريعة وخرب المدينة، واحرق الهيكل ومره نهائيا فأُزيل من الوجود بحيث لم يعد يهتدي الناس الى موضعه، وسيق الايحاء عبيدا.(2/340)
ويقول المسعودي ان عد القتلى من اليهود والمسيحيين بلغ ثلاثة ملا يين، فيكون هذا معنى قوله تعالى:
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} .
هذا محصل تاريخ اليهود في فلسطين والله اعلم.
فاذا تأملنا في الآيات الكريمة نجد النصَّ الصريحَ على ان بين اسرائيل اذا حكموا وسيطروا طغوا وبغوا وافسدوا في الارض وعلَو كبيرا، واذا لم يحكموا افسدوا وسيطروا على المال، وهذا ما نراه اليوم من طغيانهم وبيغهم وتسلطهم في فلسطين. وهم في بقية انحاء العالم ايضا مفسِدون مسيطرون، يسيِّرون الحكام والزعماء على اهوائهم وحسب ما يريدون، وينشرون الفساد في كل ارجاء العالم، وسيظلون على هذا الحال ولا يمكن ان يغيروا من طباعهم وتعاليم دينهم المحرَّف. والله تعالى يقول:
{عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} .
فالمفوم أن اليهود عادوا وسيعودون الى الإفساد ما دام لهم سيطرة، وفيهم بقية، فلهم جهنم تحصرهم فلا يفلت منهم احد، وتتسع لهم فلا يند عنها احد.
فالمفسرون على اختلاف طبقاتهم اعتبروا المرَّتين مضى زمانُهما، الاولى في عهد نبوخذ نصر والاخير في عهد تيطس الروماني حيث زال الهيكل وزال حكمهم.
وفي عصرنا هذا وبعد وجود كيان الهيود الجديد، كتب بعض المفكرين يقول: ان الفترة الثانية هي هذه بوجود دولة اسرائيل (ودار نقاشٌ طويل في الصحف، والمجالس، وشهدتُ بعض هذا النقاش في المغرب لما كنتُ هناك) وان الله سبعث عليهم من يدمرهم.
والواقع ان وجود اسرائيل تقوّى وتمركز بتفككنا نحن العرب والمسلمين، وبعدنا عن ديننا. ونحن الذين جعلناهم اقوياء بخلافاتنا، ومحاربة بعضنا. وواقعهم غير صحيح، ودولتهم تعتمد على شيئين امريكا تمدها بالمال والسلامح، وضعفنا انشقاقنا وخلافاتنا، فمتى وحّدنا كلمتنا وجمعنا صفوفنا وعزمنا على استراداد مقدساتنا فان اسرائيل تزول ولا يبقى لها وجود، والله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 8] .
قراءات:
قرأ حمزة وابو بكر وابن عامر: «ليسوء» بالافراد، وقرأ الكسائي: «لنسوء» بالنون.(2/341)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{إِنَّ هذا القرآن. . . .} .
ينتقل الكلام على القرآن الذي يرشد الناس الى اقوام السبل وأسلمها في الوصول الى السعادة الحقيقة في الدنيا، ويبشر المؤمنين الصادقين العاملين، بالأجر العظيم، وينذِر الذين لا يصدّقون بالآخرة والحساب والجزاء بالعذاب الأليم في جهنم.
{وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} .
الانسان عجول بطبعه فغالبُ الناس اذا تألموا من شيء لا يصمدون، فيسارعون بالدعاء على انفسهم وعلى اولادهم كما يدعون لأنفهسم بالخير، فالمطلوب من المؤمنين ان يضبطوا أعصابهم، ويصبروا فان المشكلة مهما عظُمت لا بدّ ان تحل، ويبعث الله الفرج.
{وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ. . . .} .
وجعلنا الليل والنهار بتعاقبهما وتناسقهما علامتين دالّتين على وحدانيتنا وقدرتنا، فأذهبنا آية الليل وصار ظلاما، وجعلنا النهار مضيئا يبصر فيه الناس ويتصرفون في اعمالهم ومعاشهم، ولتعلموا باختلاف الليل والنهار عدد السنين وحساب الاشهر والأيام وكل شيء لكم فيه مصلحة بّيّناهُ لكم بياناً واضحا.(2/342)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
طائرة: عمله. في عنقه: ملازم له كالقلادة. كتابا يلقاه منشورا: صحيفة فيها جميع اعماله. الوزر: الاثم والذنب.
تتحدث هذه الآيات الثلاث عن بعض المشاهد يوم القيامةن فكل انسان مسؤول عما يقول ويفعل، فجميع ما نلفظه من كلام حسنا كان او قبيحا، حمدا او سخطا - كل ذلك يُحفظ في سجل كامل: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وهذا السجل سوف يعرض امام محكمة الآخرة، ليتم حساب الانسان، فيخرج له كتابه ويلقاه منشورا لا يغادر كبيرة ولا صغيرة. وكذلك اعمالنا مسجلة مثل الاقوال، وهكذا شأن ما يقترفه الانسان، وشأن الاحداث التي يعيشها، فان شريطاً كاملا لتلك الاحداث سوف يوضع بين يد كل فرد يوم القيامة حتى يقول الناس: {ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 50] وعندما يقدم للمحكمة يقال له: {اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} .
من اهتدى وابتع طريق الحق نفع نفسه، ومن ضل وحاد عن الطريق فقد اضر بنفسه، ولا يتحمل انسانٌ ذنب انسان آخر، وحاش لله ان يعب احدا قبل ان يبين له الحق عن طريق الرسل الكرام.(2/343)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
المترفون: المنعمون المتمردون الذين لا يبالون. امرنا مترفيها: بالطاعة، ففسقوا. فدمرناها: اهلكناها. العاجلة: الدنيا. يصلاها: يدخلها ويقاسي حرها. مدحورا: مطرودا. محظورا: ممنوعا.
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} .
الحياة لها قوانين لا تخلتف، وسنن لا تتبدل كما بين الله لنا ذلك، والله لا يأمر بالفسق والفحشاء، ولكن اذا كثر الفساد في مجتمع ما، وطغى كبراؤه بالانغماس في اللذات واتباع الشهوات، ولمن يوجد من يضع حدا لهذه الفوضى، ويضرب على ايديهم - نزل بلاء الله بهم وهلكت القرية ودمرت بمن فيها.
ويوضح هذا قراءةُ الحسن البصري: أمّرنا مترفيها، بتشديد الميم. وبذلك تكون الصورة واضحة تمام الوضوح، والناس دائما تبع للمترفين من السادة والرؤساء.
قراءات:
قرأ يعقوب: امرنا بمد الهمزة. وقرأ حسن البصري: «امرنا» بالتشديد وهي ليست من القراءات السبع المعتمدة.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} .
وقد أهلكنا أمماً كثيرة من بعد نوحٍ، بتمردهم على انبيائهم وجحودهم آيات الله، وحسبك ايها الرسول بيان ربك إعلامه بأنّ الله عالمٌ بكل شيء، وهو الخبيرُ بذنوب عبادِه البصير بها. وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لمن كذّبه من قومه.
ثم قسما لله عباده قسمين: محبٍ للدنيا لا يشبع منها، ومؤمنٍ مخلص محب للآخرة:
{مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} .
من كان يطلب لذات ومتاعها ويعمل لها ولا يؤمن بالآخرة عجلنا له في الدنيا ما نشاء من الغنى والسعة في العيش، وله في الآخرة جهنم يصلاها خالدا محتقراً مطرودا من رحمة ربك.
{وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} .
ومن اراد بعمله الآخرة، وعمل لها وهو مؤمن بالله وجزائه فاولئك يقبلهم بالله تعالى، وينالون عنده خير الثواب.
ثم بين الله تعالى ان عطاءه لا يخطر على بالِ احد فقال:
{كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} .
ورزقُ الله وعطاؤه للناس اجمعين فكل من يعمل ويسعى يحصل على عطاء ربنا في هذه الدنيا، وما كان عطاء ربك ممنوعا من احد، مؤمنا كان او كافرا، ما داموا يعملون وينشطون في هذه الحياة.
{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} .
ان التفاوت في هذه الحياة المعيشة ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم ونشاطهم في الاعمال. وان تفاوتهم في الدار الآخرة درجات من تفاوتهم في الدنيا، فالآخرة هي التي تكون فيه الرفعة الحقيقية، والتفاضل الحقيقي.(2/344)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
مخذولا: غير منصور. خذله: تخلى عنه. قضى: امر وأجب. اف: كلمة معناها التضجر. لا تنهزهما: لا تزجرهما بغلظة. خفض الجناح: التواضع والتذلل. للأوابي: للتوابين الراجعين الى الله.
{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} .
لا تُشرك بالله احداً، فتبقى ملوماً لا ناصر لك، ويكون الخذلان مكتوبا عليك.
{وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} .
وقد امر الله تعالى بعبادته باخلاص واكد ان لا نبعد غيره، ثم بعد ذلك امرنا بالبر والطاعة بالوالدين، لانهما عماد الاسرة، وفضلهما على الانسان لا يحد، وان اكبر نعمة تصل الى الانسان هي نعمة الخالق، ثم نعمة الوالدين.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
واذا كبرا في السن او كان احدهما عندك في مرحلة الشيخوخة وحال الضعف في آخر العمر، فلا تتضجر منهما، ولا تتأفف، ولا تزجرهما، وقل لهما قولا جميلا ليِّنافيه احسان اليهما وتكريم لهما. وألن لهما جانبك وتواضع لهما مع الاحترام الزائد، وادع لهما وتوجه الى الله ان يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك في صغرك وجميل شفقتهما عليك. وهما اديت لهما من خدمات فلن تستطيع ان تكافئهما.
وقد وردت احاديث كثيرة في بر الوالدين. منها عن عبد الله بن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم اي العمل أحب الى الله ورسوله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم اي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» .
«وروى البزار عن بريدة عن ابيه: ان جلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يطوف حاملاً امه، فقال: هل اديتُ حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة» .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: «اما يبلغان» وقرأ ابن كثير ويعقوب: «أف» بفتح الفاء من غير تنوين. وقرأ حفص واهل المدينة «اف» بالكسر والتنوين كما هو في المصحف، والباقون «أفِّ» بدون تنوين.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} .
ربكم ايها الناس اعلم منكم بما في ضمائركم، فإن أنتم أصلحتم نياتِكم واطعتم ربكم، فانه يتوب عليكم، ان هفَوتُم واتيتم بما يخالف اوامره ثم تبتم، لانه دائم المغفرة للتوابين.(2/345)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
التبذير: انفاق المال في غر موضعه. اخوان الشياطين: كل من خرج على الدين وسلك سلوكا مشينا. ميسورا: لينا. مغلولة: مقيدة، كناية عن البخل. ولا تبسطها كل البسط: لا تنفق بدون عقل، لا تبذر. محسورا: منقطعا. خشية املاق: خوفا من الفقر. خطئا: اثما. فاحشة: كل عمل قبيح فهو فاحشة. فلا يسرف: فلا يتجاوز الحد المشروع فيه والعفُو افضل واحسن. بالقسطاس المستقيم. بالميزان العادل. ولا تقفُ ما ليس لك به علم: لا تتدخل بما لا يعنيك. ولا تمش في الأرض مرحا: لا تتكبر في مشيك ولا تتعال. لن تخرق الارض: لن تؤثر فيها شيئا. لن تبلغ الجبال طولا: لن طاول الجبال. الحكمة: المعرفة والتعقل والتخلق بهذه الاخلاق الواردة في هذه الآيات الكريمة.
في هذه الآيات الكريمة وصايا بالاقرباء والمساكين وبالغرباء الذين انقطعوا عن السفر بسبب نفاد المال منهم، ثم تعاليم خلقية قيمة بأن ننفق ولا نبذر، لأن التبذير من الامور المكروهة وهي سبل الشيطان، ثم يقول الله تعالى:
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ. . . الآية} .
يعني اذا سألك احد الاقرباء او المساكين او ابن السبيل شيئا من المال ولم تجد ما تعطيه، الا الدعاء له، فقل لهم قولا سهلا حسنا، وعِدْه عدة حسنة، والكلمة الطيبة صدقة، وفي الحديث: «انكم لا تسَعون الناس باموالكم، فسعوهم باخلاقكم» .
ثم يأمرنا بالتوسط في الامور بان لا نبخل باموالنا كأننا مقيدون بالاغلال، ولا نسرف بالعطاء فنقعد فقراء محرومين، فالاعتدال والتوازن أساس كل شيء في الاسلام.
والله تعالى يَعدنا اذا اعتدلنا بأن يبسط الرزق ويسعه لمن يشاءَ من عباده، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} فهو خبير بطبائعم، بصير بحوائجهم.
ثم ينص على عادة قبيحة كانت عند العرب في الجاهلية وهي قتل الاولاد خشية الفقر فيقول هنا:
{وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} .
فينص على تحريم قتل الاولاد خوفا من الفقر، يعني ان الرجل يكون عنده المال ويكثر عنده الاولاد فيخاف من الفقر فيقتلهم. وهذا ذنب كبير، والله تعالى قد تكفل بالرزق للتجميع.
وفي سوة الانعام يقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .
وهذه لها معنى غير الآية التي في سورة الاسراء، فنا يقول تعالى لا تقتلوا اولادكم لانكم فقراء لا مال عندكم نحن نرزقكم واياهم، ففي آية الاسراء قدم رزق الابناء على رزق الآباء، {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} ، فلا تخافوا على اموالكم. وفي سورة الانعام قدم رزق الآباء على رزق الابناء {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فهنا قتل الاولاد خوفا من وقوع الفقر بسببهم، فقدَّم رزق الاولاد، وفي الانعام لان الفقر حاصل وموجود بسبب فقر الآباء فقدم رزق الآباء، فلا يظن من لا معرفة له بان الآيتين فيهما تكرار.(2/346)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} .
ثم يؤكد على موضوع كان متفشيا في الجاهلية وهو الزنا، ولذلك سماه فاحشة وساء سبيلا. وقد اكد على تحريم هذه الفاحشة عدة مرات في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من مفاسد واختلاط الانساب، والتعدي على حرمة الغير.
ثم نص على صيانة النفس، وانه لا يجوز بحال من الاحوال قتل الانسان بدون جناية جناها وبغير حق، وقد تقدم ايضا في سورة المائدة وغيرها النص على حرمة قتل النفس الا بالحق. . .
ثم بين هنا القصاص فقال:
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} .
فمن قُتل مظلوما بغير حق، فقد جعلنا لمن يلي امره من اقربائه الحقَّ بالقصاص، ولا يجوز لأقرابائه ان يسرفوا في القتل بان يقلوا احدا غير القاتل كما يفعل كثير من الناس، يأخذ الثأر من اي واحد من اقرباء القاتل إن هذا حرام لا يجوز في شرع الاسلام. والله سبحانه يقول: انه كان منصورا، فالله ناصره بان اوجب له القصاص من القاتل. وقد خير الاسلام اولياء القتيل بين اخذ ديته والعفو عنه او قتله، وفي الحديث الشريف: «من قتل فتيلا فأهله بين خيرتين: ان احبوا خذوا الدية» .
ثم اكد وكرر بالوصية على رعاية مال اليتيم. وقد تقدم في سورة الانعام الآية 152، وتقدم الكلام عليها مستوفى، وكذلك في اول سورة النساء.
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} ان كل ما امر الله به ونهى عنه عهد الوفاء به واجب، وقد تكرر الأمر بالوفاء بالعهد في عدد من الآيات.
ثم حض على إيفاء الكيل والوزن، وان نكون امناء في المكيال والميزان وجاء ذلك في عدد من الآيات. فالأمانة والاستقامة والعدل من قواعد الاسلام {. . . ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} اجمل عاقبةً واحسن مآلا في الآخرة، لما يترتب على ذلك من حفظ الحقوق، وعدم العش والتحلي بالامانة.
والرسول الكريم يقول: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به الا مخافة الله، الا ابدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك» .
ثم ينص على امر هام لا يزال الى الآن موجودا في مجتمعنا، وهوالفضول، والتدخل في امر الغير، والكلام على الناس، والغيبة، ونقل الكلام بدون تثبت، فيقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ولا تتبع ايها المرء ما لا علم به، فلا تكن فضوليا تتدخل في شئون غيرك، ولا تنقل خبرا ما لم تتأكد منه وتتثبت من صحته من قول يقال، او رواية تروى، ومن حكم شرعي او قضية اعتقادية، ولا تشهدالا بما رأت عيناك، وسمعته اذناك، ووعاه قلبك، ففي الحديث الشريف:(2/347)
«اياكم والظن، فان الظن اكذب الحديث» وفي سنن ابي داود: «بئي مطية الرجُلِ زعموا» ان الله يسأل الانسان عما فعلت جوارحه، وستسأل الجوراح نفسها عما اجترامت {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89-90] .
وانها لقواعد اخلاقية عظيمة، تؤمن سلامة المجتمع، وتجعل الناس يعيشون بامن وسلام. وهذا هو الاسلام، وهذا هو القرآن الكريم {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
ثم ينهى عن خلة سيِّئُه، وصفة بغيضة يختم بها هذه الوصايا والأوامر فيقول:
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} .
التكبر صفة ممقوتة، والخيلاء الكاذبة من الأدلة على نقص العقل، ولماذا يزعو الانسان وعلى من يتكبر؛ انه من طين وسيعود الى التراب، والله تعالى بيبن له بانه ضئيل ضعيف ازاء ما في هذا الكون من مخلوقات اعظم واكبر، فلو تواضع لرفع الله كما جاء في الحديث الشريف {من تواضع لله رفعه} فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضَعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير.
كل هذه الصفات التي نهى الله عنها سيئة مكروهة عند الله. {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} .
ان كل ما قدمنا اليك ايها الانسان هو من الحكمة التي تشتمل على التعقل والاتزان وحب المعرفة.
ثم يختمها بالتحذير من الشرك، والحفاظ على عقيدة التوحيد، وهذه بعض الحكمة التي يهدي اليها القرآن الكريم الذي اوحاه الى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «كان خِطَاءً كبيرا» بكسرا لخاء وفتح الطاء والمد. وقرأ ابن عامر: «خطأ» بفتح الخاء والطاء. والباقون: «خطئا» بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «القسطاس» بكسر القاف كما هو في المصحف، والباقون: «القسطاس» بضم القاف، وهما لغتان. وقرأ ابو بكر عن عاصم: «بالقصطاس» بالصاد. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع: «كان سيئةً» والبقاون: «كان سيئهُ» مضافا الى الهاء.(2/348)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
أصفاكم: خصكم. صرفنا. بينا. ليذكروا: ليتدبروا. نفورا: بعدا لا تبتغوا: تطلبوا. لا تفقهون: لا تفهمون.
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين. . .} .
لقد انكر الله، على القائلين ان الملائكة بنات الله وكان العرب في الجاهلية يفضلون الذكر على الانثى، ولا يزال هذا في كثير من المتجتمعات الجاهلية. ولذلك قال: افضلكم ربكم على نفسه فخصّكم بالبنين، واتخذ لنفسه من الملائكة بنات بزعمكم!! والعجيب من امر هؤلاء: انهم جعلوا الملائكة اناثا، ثم ادعوا انهن بنات الله، ثم عبدوهن، ولذلك قال {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} انكم في قولكم هذا تفترون على الله بهتانا عظيما.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} .
لقد بينا في هذا القرآن احسن بيان واضحه من الامثال والمواعظ والاحكام ليتذكروا ويتعظوا، ولكنهم لتحجُّر قلوبهم لا يزيدهم ذلك التبيين لا نفورا وبعدا عن الحق.
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ. . .} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين لو كان مع الله آلهة خرى كما يقولون، لحاولوا الوصول الا عرش الرحمن ونازعوه الملك، ولكن هذا غير صحيح، {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . تنزه الله عما يقولون، وتعالى جل شأنه عما يزعمون علوا كبيرا. . .
{تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} .
ان جميع من في هذا الكون من المخلوقات تسبح بحمده وتنزهه وتقدسه، والاكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات في صفاتها المحدثة.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} .
ولكن لا تفهمون تسبيح هذه المخلوقات، ولا تدركون ما يقولون لأنكم محجبون عن ذلك، والله تعالى حليم غفور لمن تاب واصلح.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وابو بكر: «يسبح» بالياء. وقرأ ابن كثير وحفص: «عما يقولون» بالياء. وقرأ اهل الكوفة إلا ابا بكر: «عما تقولون» بالتاء.(2/349)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
حجابا مستورا: مانعا ساترا. اكنة: جمع كنان وهي الأغطية. وفي آذانهم وقرا: صمما. نفورا: بعدا. مسحورا: مخبول العقل.
{وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ. .} .
واذا قرأت ايها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم ان تؤمن بهذا الكلام الواضح مع انهم كانوا يتأثرون بالقرآن بفطرتهم، ولكنهم بكفرهم وعنادهم بعيدون عنه، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون، فلا يهتدون. ثم بين السبب في عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال:
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} .
فقد جعل الله في قلوبهم ما يشغلهم عن سمع القرآن، كان عليها اغطية من الكفر والعناد كما قال تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 6] السجدة.
{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} .
ينفرون من التوحيد وهم مشركون ويحبون ان تكذكر آلهتهم مع الله سبحانه وتعالى، ولقد انوا يتسمعون سرا الى القرآن ويدركون معانيه، ولكن كبرياءهم يدفعهم عن التسليم والاذعان.
يقول ابو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ: أطعموا فاطعمنا، وحملوا فحملنا، وأَعطوا فاعطينا، حتى اذا تساوينا وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ابدا ولا نصدقه. فلم تقصر افهامهم عن القرآن ولكنه العناد والكبرياء.
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} .
نحن اعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع اليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن اعلم ايضا اذ هم يتناجون، اذا يقول الظالمون إن تبعون الا رجلاً مسحورا قد ذهب عقله.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} .
انظر كيف ضربوا لك الامثال فمثّلوك بالشاعر والساحر والكاهن فضلوا في جميع ذلك، فلا يستطيعون الوصول الى الحق.(2/350)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
ورفاتا: الرفات ما تكسر وبَلَى من كل شيء. يكبر في صدروكم: يستبعد قبوله، ذرأكم: أوجدكم. فيسيغضون اليك رؤوسهم: يحركون رؤوسهم تعجبا وسخرية.
في هذه الآيات حكاية عن هؤلاء المعاندين المنكرين للحياة الآخرة، وقالوا أإذا كنا عظاما وحطاما هل نبعث في الآرخة خلقا جديدا!! قل ايها النبي: لو كنتم حجارة او حديدا، او خلقا اكبر مما تنكره قلوبكم لبُعثتم، فسيقولون: من يعيدنا؟ قل: يعيدكم الذي خلقكم اول مرة. فسيحركون اليك رؤوسهم تعجبا، ويقولون استهزاء: متى هذا البعث الذي يعدنا به؟ قل لهم: عسى ان يكون قريبا، يوم يبعثكم من قبوركم، بقدرته، ولله الحمد على كل حال، وتظنون ما لبثتم الا قليلا.
ان الحياة الآخرة ذات هدف عظيم، هو المجازاة على اعمال الدنيا، خيرا كانت اوشرا، فان للانسان ثلاثة أبعاد، يعرف من خلالها، هي: نيته، وقوله، وعمله. وهه الثلاثة تسجَّل باكملها، فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر من عضو من اعضائنا يجل في سجل ويمكن عرضه في اي وقت من الاوقات بكل تفاصيله.
ان الاكتشافات الجديدة قربت هذه لامور، فان «الكمبيوتر» العقل الالكتروني، يخزن ملايين المعلومات، فيكف بسجل الله القدير؟ . . .(2/351)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
ينزغ بينهم: يفسد بينهم. الوكيل: المفوض اليه الأمر. الزبور: الكتاب الذي انزل على داود. الوسيلة: القربة الى الله. محذورا: يخاف منه.
{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ} .
قل ايها الرسول وعلِّم الناس ان يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى، كما قال تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 126] «والكلمة الطيبة صدقة» والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب.
{إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} .
ان الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما فضى ذلك الى عناد الخصوم وازدياد فسادهم. فان الشيطان عدو كبير لبني الانسان فاحذروه.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} .
ربكم اعلم باحوالكم ان يشأ يهِدكم للايمان قيرحمكم، وإن يشأ يعذبكم، وما جعلنا امرهم وموكولا اليك يا محمد فتجبرهم على الايمان، وانما ارسلناك بشيرا ونذيرا.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} .
إن ربك اعلم باحوال من في السموات والارض جميعا، فيختار منهم لنبوته من يشاء، والانبياء ليسوا سواء، فقد فضل الله بعضهم على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين، وفضل داود بالنبوة والكتاب الذي انزل عليه لا بالملك، لان داود كان ملكا نبيا، فالفضل الذي اوتيه بالنبوة.
{قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} .
قل ايها الرسول لهؤلاء الذين يعبودن المخلوقين، ويزعمون انهم آلهة، ادعوا من شئتم منهم ان يكشفوا عنكم البلاء، فانهم لا يستطيعون ذلك، ولا يقدرون ان يحولوه عنكم اذا نزل بكم.
{أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .
ان هؤلاء المعبودين من دون الله، يتقربون الى الله، ويحرص كل منهم ان يكون اقرب الى الله، يطمعون في رحمته، ويخافون عذابه، ان عذاب الله مخيف يجب ان يبتعد عنه الانسان بالطاعة والتقوى.(2/352)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
الناقة: مبصرة: معجزة فيها دلالة واضحة. قظلموا بها: فكفروا بها. احاط بالناس: احاطت بهم قدرته.
{وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} .
وقد جرت سُنتنا ان نهلك كل قرية ظالمة بمن فيها، او نعذب اهلها عذابا شديدا بالقتل وغيره، فليحذر قومك ذلك، فقد جرى بذلك قضاؤنا، وسُطر ذلك في اللوح المحفوظ.
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} .
كان كفار قريش يقولون: يا محمد، تزعم انه كان قبلك انبياء منهم من سُخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإنْ سرك ان نؤمن بك ونصدقك فادع ربك ان يجعل لنا الصفا ذهبا. فقال: ما منعنا من ارسال الآيات التي سألوها الا تذكيب الاولين بمثلها، فان ارسلناها، وكذبوا بها، ارسلنا عليهم العذاب واستأصلناهم.
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ} .
وقد كنا ارسلنا الناقة الى قوم ثمود فنحروها، فكفروا، فانزلنا عليهم العذاب فأبدناهم. {بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} فالآيات التي يرسلها الله ما هي الا لتخويف الظالمين ليعتبروا بها.
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} .
واذكر ايها النبي اذ اوحينا اليك ان ربك هو القادر على عباده، فهم في قبضته، فبلّغ رسالتك ولا تخف من احد فهو يعصمك منهم، فالله ناصرك ومؤيدك.
في صحيح البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: «وما جعلنا الرؤيا التي اريناك الا فتنة للناس» قال: هي رؤيا عين أُريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسِرى به الى بيت المقدس. «والشجرة الملعونة في القرآن» هي شجرة الزقوم «.
فقد افتن اناس من المسلمين ليلة الاسراء فارتدوا، وقامت ضجة كبرى في مكة كما مر في اول هذه السورة، وكان ابو جهل يقول: ان محمدا توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم انها تنبت شجرة، وتعلمون ان النار ترحق الشجر!! وهؤلاء لا يعلمون أَنَّ الحياة الأخرى تختلف عن حياتنا كل الاختلاف ولكنهم ضلوا فلم يؤمنوا وفُتنا بالاسراء، وفتنوا بالشجرة.
{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} ونخوف هؤلاء الضالين، فما يزيدهم هذا التخويف الا تماديا في الطغيان والضلال. والشجرة الملعونة ولا ذنب لها، والمعنى ملعون آكلها، وهذا التعبير كثير في كلام العرب.(2/353)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
أرأيتك: اخبرني. لأحتنكن: لاقودنهم كما اقود الدواب. موفورا. مكملا، تاما. واستفزر من استطعت: واستخف من استطعت. وأَجلب عليهم: صِح عليهم، وافرغ جهدك في جميع انواع الاغراء. بخيلك ورجلك: بفرسانك ومشاتك من جنودك.
تقدم الكلام على حسد ابليس لآدم، وأن العداوة قديمة ومنشؤها الحسد، ففي سورة البقرة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] وكذلك في سورة الاعراف من الآية 11 الى الآية 18، والحسد بلية قديمة، ومحنة عظيمة للخلق.
وخلاصة هذه الآيات: واذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تعظيم وتفضيل فسجدوا الا ابليس، تكبرّ ان يسجد، لأن آدم من طين وابليس من نار، ثم طلب من الله ان يمهله الى يوم القيامة وقال ان هذا الذي كرَّمته علي، لانتقمُ من ذريته، واجعلهم يفسدون ويفسقون. فقال الله له: اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤهكم جميعا، وهيج من سئت منهم بصياحك واجمع عليهم اعوانك من راكب وارجل، وشاركهم في الاموال والاولاد، بحلمهم على كسبها من الطريق المحرم، وعدْهم الوعود الخلابة، وما وعود الشيطان الا كذبا وزورا وغرورا.
أما عبادي المخلصون لي، فليس لك على اغوائهم قدرة، فانا وكيلهم وكفيتهم امرك،
قراءات:
قرأ حفص وحده: «ورجلك» بكسر الجيم، والباقون بستكينها.(2/354)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
يزجي: يسوق، يجري. الضر: الخوف. ضل: غاب. ان يخسف بكم: يجعل البر يغور بكم. حاصبا: ريحا فيها حصباء وحجارة. قاصفا من الريح: ريحا تكسر الشجر وغيره. التبيع: المطالب بالثأر.
{رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك الآيات. . . .} .
ربكم الذي يجري لكم السفن في البحر لتطلبوا الربح بالتجارة والحصول على ما ليس عنكم من محصول المم وصناعتها، انه دائم الرحمة بكم. واذا خفتم الغرق وانتم في البحر ذهب عن ذاكرتكم كل ما تعبدون من دون الله، والتجأتم اليه وحده، فلما انجاكم الى البر أعرضتم وعدتم الى ما كنتم عليه، ان شأن الانسان الكفر وجحد النعمة. وقد مر نظير هذا في سورة يونس الآية 22 وما بعدها.
افأمنتم وقد نجوتم الى البر ان يخسفه بكم فتغرور بكم الارض، او يرسل عليكم ريحا تفذقكم بالحصباء ثم لا تجدون من يحميكم منه!؟ ام أمنتم ان يعيدكم في البحر مرة اخرى، فيرسل عليكم ريحا لا تمر على شيء الا قصفته، فيغرقكم بسبب كفركم وجحودكم نعمة الله حين انجاكم من قبل، ثم لا تجدون من يطالبنا بما فعلنا بكم! .
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: «ان نخسف بكم، او نرسل عليكم، ام امنتم ان نعيدكم، فنرسل عليكم» بالنون في هذه جميعا، والباقون بالياء.(2/355)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
بإمامهم: بكتابهم الذي فيه اعمال. وله معنى آخر: بامامهم: صاحب رسالتهم كأن يقول ادعوا اصحاب ابراهيم، اعوا ابتاع موسى الخ. . . . الفتيل: اصل الفتيل: الخيط الضئيل الذي على نواة التمر، والمقصود به هنا الشيء الذي لا قيمة له. أعمى: اعمى البصيرة.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ الآية. . . .} .
ولقد كرمنا بني آدم بحسن الصورة، واعتدال القوام، وبالمواهب العقلية والنطق والتفكير، وحملناهم برا وبحرا وجوا ولا نجدري ما يستجد من مواصلات في المستقبل لان الله تعالى يقول: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 9] وزرقناهم من الطيبات المستلذة، وفضلناهم على كثير من المخلوقات.
{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} اذكر ايها النبي لقومك يوم ندعو كل قوم باسم زعيمهم فيقال يا اصحاب موسى. يا أهل القرآن، ليتسلموا كتب اعمالهم، فمن أُعطيَ كتابه بيمينه وهم السعداء فأولئك يقرأون كتابهم مسرورين، ولا ينقص من اجرهم شيء.
{وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} .
ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب والبصيرة فسيبقى على حالته ويكون في الآخرة اكثر عمى وابعد مدى في الضلال، وابعد عن سبيل الخير.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر: اعْمِي بالامالة(2/356)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
كدت تركن اليهم: قربت من الميل اليهم. ضعف الحياة: عذابا مضاعفا في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. لا يلبثون: لا يبقون. خلافك: بعدك. تحويلا: تبديلا.
{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} .
لقد حاول المشركون من قريش، ومن ثقيف وغيرهم ان يساوموا الرسول الكريم بان يتساهل معهم في عدم شتم آلهتهم، وبعضم قال له ان يتمسح بالهتهم حتى يدخلوا في دينه. قد تكررت هذه المحاولات، وقاروبا ان يخدعوك، ولو انك اتبعت ما يريدون لاتخذوك صديقا، ولكنك رسولنا الامين.
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} .
وهذا نص واضح ان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجبهم الى اغرائهم.
{إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} .
وهذا وعيد شديد للرسول، فلو قاربتَ الركون اليهم، لجمعنا عليك عذاب الدنيا وضاعفناه، وعذاب الآخرة وضاعفناه، ثم لا تجد من ينصرك ويمنع عنك العذاب.
{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} .
ولقد قارب اهل مكة ان يزعجوك ويخرجوك من مكة بالقوة، ولو انهم فعلوا ذلك واخرجوك لا يبقون بعدك الا زمانا قليلا.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} .
وهكذا مضت سنتنا مع الرسل الذين ارسلناهم قبلك. . . اهلكنا اقوامهم الذين اخرجوا رسلهم. ان سنتنا في هذه الحياة لا تتبدل. وقد اُخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة، ولم يَمْضِ على اخراجه سنة ونصف حتى كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش واهلكهم الله.
وبعض المفسرين يقول ان هذه الآية مدنية، وان اليهود هم الذين ضايقوه وهمَّ بترك المدينة، ولكن هذا بعيد.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص: «خلافك» والباقون: «خلفك» والمعنى واحد.(2/357)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
دلوك الشمس: زوالها عن منتصف السماء في النهار. غسق الليل: شدة الظلمة. قرآن الفجر: صلاة الصبح. التهجد: صلاة الليل. نافلة لك: صلاة زائدة عن الفريضة. مقاما محمودا: مقاما عاليا يحمده الناس. زهق: زال واضمحل.
{أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل} .
الصلاة لب العبادة، فحافظ عليها وأدّها على احسن وجه، من زوال الشمس من وسط السماء الى ظلمة الليل، وهذا الوقت يشمل الصلوات الاربع: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} .
وصلاة الصبح فان الملائكة تشهدها. وقد بينت السنة من اقوال الرسول الكريم وافعاله تفاصيل هذه الاوقات وكيفية ادائها واقامتها.
{وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} .
وصلّ من الليل صلاة زائدة عن الفريضة بقدر ما تستطيع. وبهذه الصلاة، وبهذه الصلة الدائمة بالله. يقيمك ربك يوم القيامة في مقام سام يحمدك فيه الخلائق. وفي هذا تعليم لنا أن نتعبد ونقوم بالليل، فاذا كان الرسول الكريم مأموراً بذلك فنحن أولى واحوج.
{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} .
وقل رب أدخلني فيما حملته من اعباء الرسالة ادخلا مُرضيا، واخرجني مخرجاً حسنا مرضيّا (وهذا دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعو به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه اليه) واجعل لي قوةً أعلي بها دينك ورسالتك التي حمّلتني اياها.
{وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} .
وقل جاء الحق بالاسلام، وذهب الباطل واضمحل، ان الباطل مضمحل زائل دائما.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» .(2/358)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن. . . .} .
نأى بجانبه: استكبر. شاكلته: مذهبه وطريقته. يئوسا: شديد اليأس. أهدى سبيلا: اقوم طريقا.
ونزل عليك ايها الرسول من القرآن ما هو شفاء لأدواء النفوس ورحمة للمؤمنين، ولا اصابته مصيبة الا خسرانا لكفرهم وعنادهم.
واذا انعمنا على الانسان بالصحة والسعة بطر واستكبر وبعُدَ كأنه مستغن عنا، واذا اصابته مصيبة كان كثير اليأس والقنوط من رحمة الله.
ولما ذكر حال الضالين والمهتدين ختم ببيان ان كلاً يسير على مذهبه فقال:
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ. . .} .
قل أيها النبي: كل منا يعمل ويسير على طريقته، وعلى ما طُبع علهي من الخير والشر، وربكم أعلم من كل واحد بمن هو سائر على الطريق المستقيم.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح. . . .} .
ويسألك قومك عن حقيقة الروح، قل الروح من علم ربي الذي استأثر به، وما مُنحتم من العلم الا شيئا قليلا.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي «ونأى بجانبه» بالامالة. وقرأ ابن عامر: «وناء بجانبه» من الفعل ناء ينوء.(2/359)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
الظهير: المعين. طرَّفنا: كررنا القول ورددناه بوجوه مختلفة. الكفور: الجحود.
ولو أردنا ان نمحو من صدرك القرآن الذي اوحينا اليك، لفعلنا، ثم لا تجد من ينصرك، ولكن أبقيناه منا لأن فضل ربك في هذه المعجزة كان عليك عظيما. قل لهم ايها النبي متحديا ان يأوا بمثله، لئن اجتمعت الإنس والجن وتعاونا على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يستطيعون، ولو كانوا متعاونين.
ولقد نوعنا مناهج البيان بوجوه مختلفة للناس في هذا القرآن، فآبى اكثر الناس الا الجحود والانكار، والاعراض عن الحق.(2/360)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
الينبوع: النبع، عين الماء. كسفا: جمع كسفة كَقِطْعَة لفظا ومعنى. قبيلا: مقابلين، تأتي بهم عيانا. الزخرف: الزينة، الذهب. ترقى: تصعد.
وقالوا في تَعنُّتِهم لن نؤمن لك يا محمد حتى تخرج لنا ماء من عين تفجّرنا لا ينضب ماؤها.
او يكون لك في مكة بستان من نخيل وعنب فتجرى الانهار وسطه، او تسقط السماء فوق رؤوسنا كما زعمتَ ان الله توعّدنا بذلك، او تأتي بالله والملائكة نقابلهم نراهم مواجهة ليشهدوا على صحة ما تقول لنا.
او يكون لك بيت مزخرف من ذهب، او تصعد في السماء. ولن نصدقك في هذا الحل الا اذا جئتنا بكتاب من الله يقرر فيه صدقك نقرؤه. قل لهم ايها الرسول: سبحان ربي ان يتحكم فيه احد، او يشاركه في قدرته، فهل انا الا بشر رسول من الذين يرسلهم بما يلائم احوالهم ويصلح شئونهم، وما منع مشركي مكة ان يؤمنوا لما جاءهم الرسول بالهدى.
الا زعمهم جهلاً مهم ان قالوا: كيف يبعث الله رسولا من البشر، قل لهم ايها الرول: لوك ان في الارض بدل البشر ملائكة يعيشون مستقرين فيها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا من جنسهم، فان الحكمة الالهية اقتضت ان يرسل لكم جنس ما يناسبه من الرسل.
قل: يكفي ان الله شاهد على صدق رسالتي اليكم، انه كان بعباده خبيرا يعمل احوالهم، بصيرا لاتخفى علي منهم خافية.
قراءات:
قرأ الكوفيون ويعقوب: «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم. والباقون: «تفجر» بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة.
قراءات:
قرأ اهل المدينة وابن عامر وعاصم: «كسفا» بكسر الكاف وفتح السين. والباقون «كسفا» باسكان السين.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: «قال سبحان ربي» والباقون: «قل سبحان ربي» .(2/361)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
خبت: سكن لهيبها. السعير: اللهيب. خشية الانفاق: خوف الفقر. قتورا: شديد البخل.
ومن تيولاّه الله بالهداية فهو المهتدي، ومن يقضي علهيم بالضلال فلن تجد لهم من ينقذهم، ونحشرهم يوم القيامة فيُسبحون على وجوههم، لا نيطقون ولا يرون ولا يسمعون، منزلهم جنهمُ كلما سكن ليهبها زدناها توقدا واشتعالا. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الاعراف 178.
أَغَفِلوا ولم يعلموا ان الله الذي خلق هذا الكون موما فيه، قادر على ان يخلق مثله! والذي يقدر على خلق مثل هذه السموات والارض يقدر عل اعادتهم. وهو اهون عليه. لقد جعل لاعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلاً مضروبا ومدة مقدرة، وبعد اقامة الحجة عليهم ابوا الا تماديا في ضلالهم وكفرهم. وتقدم فقي نفس السورة نفس المعنى الآية 50.
ثم بين حرصهم على الدنيا، وتمسكهم بها وشحهم بانهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبخلوا فقال:
{قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي. . . . .} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المعاندين لو كنتم تملكون خزائن رزق الله وسائر نعمه لبخلتم مخافة نفادها بالانفاق، والانسان مطبوع على شدة الحرص والبخل والله هو الغني الرزاق.(2/362)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
مسحورا: مخبول العقل. بصائر: حججا وبينات. مثبورا: هالكا. يستفزهم: يخرجهم من الارض. جئنا بكم فليفا: جميعاً.
ولول أوتي هؤلاء من الآيات ما اقترحوا، لما آمنوا بها، ولقد آتينا موسى تسع آيات هي: العصا، واليد البيضاء. والطوفان. والجراد والضفادع والقمل والدم. والجدب ونقص الثمار وفلق البحر، وابنجاس الماء من الحجر. ونتوق الجبل كانه مظلة. وخطابه لربه، واسأل بني اسرائيل لما جاءهم، فانهم مع كل ذلك كفروا وقال فرعون لموسى: اني اظنك مسحورا. قال موسى: لقد علمتَ يا فرعون ان الذي انزل الآيات هو الله خالق هذا الكون وربه. وهي دائل واضحة تبصرك بصدقي، ولكنك تكابر وتعاند، واني لأظنك يا فرعون هالكا. فتمادى فرعون بطغيانه، افارد ان يخرج موسى وبني اسرائيل من ارض مصر فاغرقناه مع جنوده جميعا.
قراءات:
قرأ الكسائي: «لقد علمت» بضم التاء والباقون: بفتحها.
ونجينا موسى وقومه، وقلنا من بعد اغراق فرعون لبني اسرائيل، اسكنوا حيث شئتم بمصر او الشام، وكان المفروض ان يشكروا الله ان خلصهم من ذلك البلا الكبير، ولكنهم لم يلبثوا ان عبدوا العجل من دون الله، وبدلوا نعمة الله كفرا، فاذا جاء وقت الحياة الاخرى جئنا بكم من قبوركم جميعا ثم نحكم بينكم بالعدل.(2/363)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
فرقناه: انزلناه مفرقا. على مكث: على مهل وبتأَنٍ يخرّون للاذقان: يسقطون على وجوهه. خفت الرجل بقراءته: لم يرفع صوته با. لاتخافت بها: اقرأها بوضوح.
ولقد انزل الله هذا القرآن قائما بالحق، فنزل ليقر الحق في الارض ويثبته، فالحق مادة، والحق غايته. فأنزلناه مؤيدا بالحكمة الآلهية. وما ارسلناك ايها النبي الا بمشرا من آمن بالجنة، ونذيرا لم نجحد بالنار.
وقد فرقنا هذا القرآن ونلزناهُ منجَّما على مدة طويلة، لتقرأه على الناس على مهل، ليفهموه. نزلناه شيئا بعد شيء تنزيلا مؤكدا لا شبهة فيه.
ثم هدد الله تعالى اولئك الجاحدين على لسان نبيه بقوله:
{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا} .
قل لاولئك الضالين اختروا لانفسكم ما تحبون من الايمان بالقرآن وعدمه، ان الذين اوتوا العمل وقرأوا الكتب السابقة، يخرون لله سجدا، شكرا له على انجاز وعده بارسالك، حين يتلى عليهم القرآن، ويقولون في سجودهم:
{سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} ان وعده كان محققا.
ويخرون للاذقان باكين من خشية الله ايتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعط خشوعا وخضوعا. وهنا موضع سجدة.
قُلْ ايها الرسول هؤلاء المشركين: سموا الله، او سموا الرحمن فبأيّ اسم تمسونه فهو حسن، ثم امر رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أن يقرأ بصلاته صلاة متوسطة لا يرفع صوته بها ولا يسر كثيرا.
وتختم السورة كما بدئت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتزيهه عن الحاجة الى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.
{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} .
فالله سبحانه وتعالى غني عن كل معين ان نصير او شريك او ولد، وهو مالك هذا الملك، وهو اكبر من كل شيء، فكبره تكبيرا.(2/364)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
عوجا: العِوج بكسر العين عدم الاستقامة. قيّما: مستقيما، معتدلا. البأس: العذاب. من لدنه: من عنده. كبرتْ كلمة: ما اعظمها من مقالة في الكفر، ومعنى الكلام الاستغراب والتعجب. فلعلك باخعٌ نفسَك: لعلك مهلكٌ نفسك. على آثارهم: من بعدهم. صعيدا جرزا: تراباً لا يُنبت.
ان الله تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا حمد نفسه على إنزاله القرآنَ على رسوله الكريم، وهو اعظم نعمة أنعمها الله على أهل الارض. فبه أَخرجهم من الظلمات الى النور، ولم يجعل فيه اعوجاجا لا باختلال ألفاظه، ولا بتباين معانيه، بل جعله مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، لينذر الجاحدين بعذا شديد من عنده، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الاعمال الصالحة بأن لهم ثوابا جزيلا. {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} مقيمين فيه ابدا.
وينذر على الخصوص الذين قالوا إن الله اتخذ ولدا، وهو منزه عن الولد والشريك، ولا دليل لديهم على قولهم هذا لا هم ولا آباؤهم، فما أعظمَ هذا الافتراء، وما اكبر هذه الكلمة التي تفوهوا بها! وما قولهم هذا الا محض اختلاق وكذب.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} لا تهلك نفسك أيها النبي أسفاً وحسرة عليهم. لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن، أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى منهم فلنفسه، ومن ضل فانما يضل عليها.
إنا خلقناهم للخير ولاشر، وصيرنا ما فوق الارض زينة لها ومنفعة لأهلها، لنرى من يحسن منهم ومن يسيء، ويمتاز افراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب درجات اعمالهم.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} وانا لجاعلون الارض وما عليها تراباً لا نبات فيه عند انقضاء الدنيا. والخلاصة ان {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 27] .(2/365)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
الكهف: النقب المتسع في الجبل. الرقيم: اللوح الذي كتبت فيه اسماء اصحاب الكهف. فضربنا على آذانهم: أنمناهم عدداً من السنين، والنائم عادة لا يسمع. ثم بعثناهم: ايقظناهم. احصى: اضبطُ لاوقات لبثهم.
لقد انكر الذين استهوتهم الدنيا البعثَ، مع ان الوقائع تثبت الحياة بعد الرقود الطويل، وهذه قصة أهل الكهف واللوح الذي رُقمتْ أسماؤهم فيه بعد موتهم لم تكن وحدها من العجائب وان كانت قصةً خارقة للعادة.
اما قصتهم فهي ان جماعة من الشباب آمنوا بربهم، وهربوا بدينهم من الاضطهاد، فلجأوا الى كهف، ودعوا ربهم ان ينقذَهم قائلين: ربنا آتِنا من عندك رحمة وهيّىء لنا من أرمنا رشَدا.
فاستجبنا دعاءهم، فأنمناهم آمنين في ذلك الكهف سنين عديدة لا ينتبهون. ثم أيقظناهم لنعلم مَن مِن الحزبين اللذين اختلفا في مدة مُكثهم بالكهف أضْبَطُ احصاءً لطول المدة التي مكثوها.
روي عن ابن عباس: ان الرقيم اسم قرية قرب أَيلة «العقبة» ، ويقول ياقوت في معجم البلدان: «وبقرب البلقاء من اطراف الشام موضع يقال له الرقيم. .» ويقول: «ان بالبلقاء بأرض العرب من نواحي دمشق موضعاً يزعمون انه الكهف والرقيم قرب عَمان، وذكروا ان عمّان هي مدينة دقيانوس» الملِكِ الذي كان في ذلك الزمان.
وهناك اقوال كثيرة متضاربة علُها عند الله. وقد اورد الطبري وغيره من المفسرين قصتهم، وليس لها سند صحيح، وقد اعتنى احد موظفي الآثار من اهل عمان بهذا الكهف وهو اليوم في ضواحي عمان، وعمل له باباً، وألّف رسالة مؤكدا فيها انه هو الكهف المقصود في القرآن، وبنى بجانبه مسجدا، والآن يزور الكهف كثير من السيّاح.(2/366)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
النبأ: الخبر العظيم. وربطنا على قلوبهم: قوّينا عزائمهم. الشطط: الجور والظلم. السلطان المبين: الحجة الظاهرة. اعتزلتموهم: بعدتم عنهم وتجنبتموهم. المرفق: كل ما ينتفع به. تزاور: اصله تتزاور، تميل. وتقرضهم: تجاوزهم. في فجوة منه: متسع من الارض. وتحسبهم ايقاظا: تظنهم صاحين غير نائمين. وهم رقود: جمع راقد نائم. باسط ذراعيه: عندما يجلس الكلب فانه يمد ذراعيه. بالوصيد: فناء الكهف.
نحن نقصّ عليك أيها الرسول خَبَرهُم بالصدق، إنهم شبابٌ آمنوا بربهم وسط قوم مشركين، وزِدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان.
وثبّتنا قلوبهم، فثبتوا ولم يرهبوا أحدا، ووقفوا وقفة واحدة فقالوا: ربّنا الحقُّ ربُّ السموات والارض، ولن نعبدَ غيره إلهاً، ولن نتحول عن هذه العقيدة، لأننا اذا دَعَوْنا غيرَ الله نكون قد بعُدنا عن الحق وتجاوزنا الصواب.
ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض: ما دمنا قد اعتزلْنا قَوْمَنا في كفرهم وشِركهم، فالجأوا الى الكف فراراً بدينكم، وأخلِصوا لله العبادة، فإنه تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارَين، ويسهل لكم من امركم ما تنتفعون به من مرافق الحياة
ثم بين تعالى حالهم بعد ان لجأوا الى الكهف فقال:
{وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين. . .} .
وانك ايها المخاطَب لو رأيتَ الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهةَ اليمين، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدِلُ عنهم جهةَ الشمال، وهم في متّسع من الأرض، فحرارة الشمس لا تؤذيهم، ونسيمُ الهواء يأتيهم. وذلك كلّه من دلائل قدرة الله، فمن اهتدى بآيات الله فقد هاده وفقَ ناموسه حقا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضلّ، ولن تجد له من يرشدُه ويهديه.
وتظنهم أيها الناظر منتبهين، وفي الحقيقة هم نيام، ونقلّبهم في نومهم مرةً يمينا، وُخرى يسارا لنحفظ أجسامَهم من تاثير الارض، وكلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعيه بفناء الكهف وهو نائم في شكل اليقظان. ولو شاهدتَهم وهم على تلك الحال لهربتَ منهم، {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} ولفزعت منهم فزعا شديدا، لأنهم في وضع غريب، وذلك لكيلا يدنومنهم احد ولا تمسّهم يد.
قراءات:
قرأ ابن عامر واهل المدينة: «مَرفِقا» بفتح الميم وكسر الفاء. والباقون: «مِرفقا» بكسر الميم وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب: «تزورّ» بفتح التاء وإسكان الزاي وتشديد الراء. والباقون: «تزاور» . وقرأ اهل الحجاز: «لملّيت» بتشديد اللام وبالياء وبدون همزة. والباقون.(2/367)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
بورقكم: الورق بفتح الواو وكسر الراء، والورق باسكان الراء: الفضة، سواء كانت عملة او غيرها. ازكى طعاما: اجود او اطيب. وليتلطف: ليكن حذرا ومعاملته لطيفة. ولا يشعرن بكم احدا: لا يفعل ما يؤدي الى كشف احوالهم. ان يظهروا عليكم: ان يطّلوا عليكم. وكذلك اعثرنا عليهم: كذلك كشفنا امرهم فاطلع عليهم اهل المدينة. رجما بالغيب: القول بدون علم.
وكما أنمناهم بعثناهم نم نومِهم، ليسأل بعضهُم بعضا عن مدة بقائهم نائمين. فقال احدهم: كم مكثتُم نائمين؟ قالوا: مكثنا يوماً او بعض يوم. ثم احالوا العِلم الى الله، فقالوا: الله أعلمُ بما لبثتم. وشعروا باحتياجهم الى الطعام والشراب فقالوا: ابعثوا أحدكَم بدراهمكم الفضيّة الى المدينة، فلْينظْر أي الاطعمة أشهى فليأتِنا برزق منه وليتلطف بالتخفيّ حتى لا يعرفه احد. وكانوا لا يعلمون ان ثلاثة قرونٍ قد مرّت عليهم وهم راقدون.
انهم ان يطّلعوا عليكم يقتلوكم رجماً بالحجارة، او يعيدوكم إلى دينهم، ولن تفلحوا إذَنْ أبدا.
واطلعنا عليهم أهل المدينة ليعلم الناسُ أن وعدَ الله بالبعث حق، وان القيامة لا شك فيه. وآمن اهلُ المدينة بالله واليوم الآخر، ثم امات الله الفتية وتنازعَ الناس في شأنهم، فقال بعضهم: ابنُوا عليهم بنيانا ونتركهم وشأنهم، فربُّهم أعلمُ بحالهم. وقال الذين غلبوا على امرهم لنتخذنَّ على مكانهم مسجداً نعبد الله فيه.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وحمزة وابو بكر: «بَورْقكم» بفتح الواو وسكون الراء. والباقون «بورِقِكم» بفتح الواو وكسر الراء.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ. . .} .
لما ذكر الله القصة ونزاعَ المتخاصمين فيما بينهم، شرع يقصّ علينا ما دار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف في عدد اصحاب الكهف. سيقولُ فريق من الخائضين في قِصتّهم من اهل الكتاب: هم ثلاثةٌ رابعهم كلبهم، ويقول آخرون: هم خمسة سادسهم كلبهم، ظناً بدون يقين، ويقول آخرون هم سبعة وثامنهم كلبهم. قل يا محمد لهؤلاء المختلفين: ربي أعلمُ بعددهم، ولا يعلم حقيقته الا قليل من الناس أطلعَهم الله عليه، فلا تجادلْ في شأن الفتية الا جَدَلاً سهلاً ليّنا، ولا تستفتِ في شأنهم احدا، فقد جاءك الحق الذي لا مرية فيه.(2/368)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} .
جاءت هاتان الآيتان معترضتين اثناء القصة فيهما ارشادٌ وتأديب للرسول الكريم، وتعليمٌ للمؤمنين بأن يفوّضوا الأمورَ كلّها إلى الله، بعد ان يتخذوا كل الاحتياطات، وان يقرِنوا قولهم بمشيئة الله علاّم الغيوب.
لا تقولن ايها الرسول لشيء تُقدمِ عليه وتهتم به: إني فاعل ذلك غداً او بعد غد دون أن تقرِنَ قولك بمشيئة الله بان تقول: «إن شاءَ الله» . فاذا كان هذا الخطاب للرسول الكريم الذي قال: «أدّبني ربي فأحسنَ تأديبي» فنحن أَوْلى وألزم ان نلتزم بهذا الادب القرآني العظيم، ونشعر دائما اننا مع الله يوجّهنا الى ما فيه الخير لنا ولأمتنا.
واذا نسيتَ امراً فتداركْ نفسك بذِكر الله، وقل عسى ان يوفقني ربي إلى امرٍ خير مما عزمتُ عليه وأرشدَ منه.
ثم بعد ذلك بين الله تعالى ما أجملَ في قوله: فضربْنا على آذانِهم في الكهف سنينَ عددا فقال: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} . وثلاثمئة سنة وتسعٌ قمرية هي ثلاثمئة سنة شمسية، ولذلك جاء هذا النص مبينا حقيقة علمية لم تكن معروفة في ذلك الزمان.
قل أيها الرسول للناس: ان الله تعالى وحدَه هو الذي يعلم كم لبثوا في كهفهم وهو الذي يعلم ما غاب في السموات والارض. {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ما اعظم بصره في كل موجود وما اعظم سمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى لعيه شي. والله ولي امر هذا الخلق جميعهم، لا يُشرك في قضائه أحداً من خلقه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك.
قراءت:
قرأ حمزة والكسائي: ثلاثمئةِ سنين: بالاضافة، والباقون «ثلاثمئةٍ سنين» بتنوين مئة.(2/369)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
لا مبدل لكلماته: لا مغير لأحكامه. ملتحدا: ملجأ. واصبر نفسك: احبسها. بالغداة والعشي: في الصباح والمساء. يريدون وجهه: يطلبون رضاه. فرطا: مجاوزاً للحد. أعتدنا: هيأنا، اعددنا. السرادق: الخيمة، الفسطاط، كالمهل: خثارة الزيت، المعدن المذاب. مرتفقا: متكأ.
بعد ان ذكر الله قصة اهل الكهف، وبين ان هذا القرآن يقص الحق، لأنه وحي من علام الغيوب، أمَرَ بالمواظبة على تلاوته ودرسه، وبيّن في هذه الآية الكريمة، ان القيم الحقيقية ليست هي المالَ، ولا الجاه، ولا السُّلطة، ولا لذائذ الحياة ومتعها - فانها كلّها قيم زائفة - وان الاسلام لا يحرِّم الطيب منها، ولكنه لا يجعل منها غاية الحياة، فمن شاء ان يتمتع بها فليتمتع، ولكن لِيذكُرِ الله الذي انعم بها، وليشكرْه على نعمة بالعمل الصالح.
{واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً. .}
اتلُ ايها الرسول الكتابَ الذي اوحي اليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من احكام وتعليم وتأديب. ولا يستطيع أحدٌ ان يغيّر او يبدّل مافيه، وليس لك ملجأٌ الا الله، فإليه المرجع والمآب.
{واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
احتفظ بصحابتك ايها الرسول، الذي يعبدون اللهَ وحده في الصباح والمساء، يطلبون رضوانه، وهم فقراءُ الصحابة مثل: عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال وغيرهم، فقد رُوي ان عُيَيْنَةَ بن حصن الفَزاري والأقرعَ بن حابس وغيرَهم - جاءوا الى الرسول الكريم، طلبوا منه ان يبعد هؤلاء الفقراءَ من الصحابة ليحادثوه ويسْلموا. فنزلت. ويقال إن أشرافَ قريش هم الذين طلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى ان لا يتخلّى عن اصحابه، ولا يلتفت إلى هؤلاء وما عندَهم من قوةٍ وجاهٍ ورجال، فاللهُ أكبرُ من كل ما عندهم. وهذا الأصح لأن السورة مكية.
ثم امره بمراقبة أحوالهم ومجالسِهم فإن فيهم الخير فقال:
{وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا. .} .
ولا يتحول اهتمامُك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة، فهذه زينةُ الحياة الدنيا الزائلة.
ثم اكد هذا النهي بقول: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .
لا تطع هؤلاء المتكبرين فيما يطلبون من تمييزٍ بينهم وبين الفقراء، وطردِهم من مجلسك. فهؤلاء قد أغفلْنا قلوبَهم عن ذكرنا، واتجهوا الى ذواتهم وإلى لذّاتهم، وشغلوا قلوبهم بزخرف الدنيا وزِينتها، وصار أمرُهم في جميعِ أعمالهم بعيداً عن الصواب. ولقد جاء الاسلام ليسوّي بين الناس امام الله، فلا تفاضل بينهم بمال ولا نسبٍ ولا جاه.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «بالغدوة والعَشِيّ» والباقون: «بالغداة والعشي» .(2/370)
{وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ. . .} .
بعد ان أمر اللهُ رسوله صلى الله عليه وسلم ان لا يلتفت لى قولِ أولئك الأغنياء الذين قالوا: إن طردتَ اولئك الفقراء منا بك، أمره ان يقول لهم ولغيرِهم على طريق التهديد والوعيد: انّ ما جئتُ به هو الحقُّ من عند ربكم، فمن شاءَ أن يؤمن به فليؤمن، فذلك خير له، ومن شاء ان يكفر فليكفر، فانه لا يظلم الا نفسه. إن الله قد أعدّ لمن ظلم نفسه بالكفر نارا تحيط بهم كالسُّرادقِ، وإن يطلبوا الغوثَ بطلب الماء يؤتَ لهم بماءٍ عكرٍ أسود يحرقُ الوجوه لشدة غليانه.
{بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً. .}
ما أقبح ذلك الشرابَ، ويا لَسوءِ النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء.(2/371)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
جنات عدن: جنات الاقامة والاستقرار. يقال عدنَ بالمكان اذا اقام فيه. الاساور: واحدها سوار، معروفة. من سندس: من حرير الديباج وهو حرير رقيق، فاسيٌّ معرب. استبرق: حرير ايضا ولكنه غليظ. الأرائك: جمع اريكة، المقعد المنجَّد.
بعد ان ذَكر حال اهل النار وما يلاقون فيها من عذاب وشقاء، ثنّى هنا بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وبدينه الحق، وعملوا الصالحات، فانهم عند ربهم في جنات عدن يقيمون فيها منعمين أبدا، تنساب الانهار من تحتهم بين أشجارهم وقصورها، ويتحلَّون فيها بمظاهر السعادة، إذ يرفُلون بالحرير من سندس ناعم، واستبرقٍ كثيف، في ايديهم الأساور من الذهب، ومتكئين على أفخر المقاعد بين الوسائد والستائر، نعم الثوابُ لهم، وحسنت الجنة دار اقامة وراحة.(2/372)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
الجنة: البستان. حففناهما بنخل: جعلنا النخل يحيط بهما. آتت أُكلها: اثمرت الثمر الجيد. ولم تظلم منه شيئاً: كان له مال. وهو ظالم لنفسه: لكفره وغروره. يحاوره: يجادله. اعز نفرا: اكثر خدما وحشما واعوانا. ان تبيد: ان تفنى. وما أظن الساعة قائمة: لا أؤمن بيوم القيامة. منقلبا: مرجعا وعاقبة. حسبانا من السماء: مطرا عظيما، آفة مهلكة. صعيدا زلقا: ارضا ملساء لا شيء فيها. او يصبح ماؤها غورا: يغور نهرها في الارض. واحيط بثمره: هلكت امواله. يقلب كفيه: تصوييراً للندامة والحسرة. خاوية: خالية، خلت من اهلها وزرعها. على عروشها: ساقطة على عرائشها. عقبا: عاقبة.
لقد ضرب الله مثلاً في هذه الآيات الكريمة يبيّن فيه أن المال لا ينبغي ان يكون موضع فَخار، لأنه ظلٌّ زائل، وانه كثيرا ما يصير الفقير غنياً والغني فقيراً، وغنما الذي يجب ان يكون أساسَ التفاضل هو الإيمانُ بلله والعمل الصالح الذي ينفع الناس.
واذكر ايه الرسول مثلاً وقع فيما سلَف بين رجلَين: كافرٍ ومؤمن، وقد رزقنا الكافر جنّتين فيهما أعنابٌ واصناف كثيرة من الشجر المثمر، وأحطناهما بالنخل، وجعلنا بين البستانين زرعا جيدا.
وقد اثمرت كل واحدةٍ من الجنتين ثمراً كثيرا، ولم يَنْقُص منه شيءٌ، وقد فجرّنا بينهما نهرا يسقيهما.
وكان لصاحب الجنتين أموالٌ أخرى مثمرة، فداخَلَه الغرور والكبرياء بتلك النعم، فقال لصاحبه المؤمن وهو يجادله: أنا أَكثرُ منك مالاً وأكثر خدماً وحشَما وانصارا.
ثم زاد فخرا على صاحبه المؤمن، فدخل إحدى جنتيه وهو مأخوذ بغروره فقال: ما أظنُّ أن تَفنى هذه الجنة أبدا، وما أظنّ ان يوم القيامة آتٍ كما تقول، ولو فُرض ورجعتُ إلى ربي البعث كما تزعم، ليكوننّ لي هناك أحسنُ من هذا الحظ عند ربي، لأنه لم يعطِني هذه الخيراتِ في الدنيا الا ليعطيني ما هو أفضل منها فيما بعد.
فقال له صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر: كيف تكفر بربك الذي خَلَقك من ترابٍ ثم من نطفة لا تُرى، ثم صوّرك رجلاً كاملا. أنا أقول: إن الذي خلَقني وخلَق هذا الكونَ وما فيه هو الله ربي، وانا أومن به وأعبُده وحده ولا أُشرِك معه أحدا.
ثم زاد في وعظه قائلا: هلاّ إذ أعجبتْك جنتُك حين دخلتَها ونظرتَ الى ما فيها من رزق وجمال حمدتَ الله على ما أنعم به عليك وقلت: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} هذا ما شاء الله، فيكون ذلكَ شكراً كفيلاً بدوام النعمة عليك.
وبعد ان نصح الكافرَ بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله وكبيرَ سلطانه، قال له: إن تَرَنِي انا أفقرَ منك وأقلُ ولدا، فإني ارجو من الله ان يرزقني خيراً من جنتك ويرسلَ على جنتك سيولاً عظيمة وصواعقَ تخرّبها فتصيرَ أرضاً ملساء لا ينبت فيها شيء ولا يثبت عليها قوم، وتصبح انتَ وما تملك أثراً بعد عين.(2/373)
وقد اخبر الله تعالى بانه قد حقّق ما قدّره هذا المؤمن فقال:
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ. . .}
أحاطت الجوائحُ بثمار جنته التي كان يقول: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} وأهلكتها الصواعقُ والآفات، وأبادت أصولَها، فأصبح يقلّب كفيه ندماً وتحسرا على خسارته وضياع ماله حين رآها ساقطةً على عروشها خاليةً من الثمر، وضاعت منه الدنيا وحُرم الدنيا والآخرة معا، وعظُمت حسرته وقال: ليتَني لم أشرك بربّي أحدا.
{وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} . ولم تكن له عشيرة تنصره من دون الله، وما كان منتصراً بقوّته. وهنا تبيَّنَ ان الله ينفرد بالوَلاية والنصرة والعزة، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ، فلا قوةَ الا قوّته، ولا نصر الا نصرهُ، وثوابهُ.
ويسدل الستار على مشاهد الجنة الخاوية على عروشها، وصاحبها يقلّب كفّيه أسفاً وندما، وجلالُ الله يظلل الموقف، حيث تتوارى قدرةُ الإنسان.
قراءات:
قرأ حمزة: «الوِلاية لله الحق» بكسر الواو، وقرأ ابو عمرو: «الوَلاية لله الحق» بفتح الواو، وبضم القاف. وقرأ الكسائي: «الوِلاية لله الحقُّ» بكسر الواو وضم القاف من الحق.
وقرأ عاصم: وكان له ثمر. واحيط بثمره، بفتح الثاء والميم. وقرأ ابو عمرو: بضم الثاء واسكان الميم، والباقون: ثمر بضم الثاء والميم.(2/374)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
هشيما: يابسا متفتتا. تذروه الرياح: تنثره، تفرقه. الباقيات الصالحات: الاعمال الصالحة.
اذكر ايها الرسول للناس مَثَلَ حال الدنيا في نُضْرتها ثم سرعةِ فنائها وزوالها كمثَلِ نباتٍ اخضرَّ والتفّ وأزهر، ثم صار هشيماً يابسا تنثره الرياح، والله قادر على كل شيء، وكل ما نراه إلى زوال، وفي الحديث: «الدنيا كَسُوقٍ قام ثم انفضّ»
والمال والبنون جمالٌ ومتعة للناس في هذه الحياة الدنيا ولكنْ لا دوامٍ لشيءٍ منها. وقد بين الله تعالى ما هو الباقي فقال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، فإن الاعمال الصالحةَ التي تنفع الناس، وطاعة الله خيرٌ عند الله يُجزل ثوابها، وخير املٍ يتعلّق به الانسان.(2/375)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
بارزة: ظاهرة ليس على وجهها شيء. حشرناهم: سقناهم الى الموقف. فلم نغدر: لم نترك. وعرضوا: أُحضروا للفصل والحساب. صفا: مصطفين. ووضع الكتاب: جعل كتاب كل انسان في يده. مشفقين: خائفين. الويل: الهلاك. احصاها: عدها.
بعد ان بين الله تعالى ان الدنيا فانية زائلة، وانه لا ينبغي ان يعتزَّ أحدٌ بِزخْرفها ونعيمها، أردف هنا بذِكر مشاهدِ يوم القيامة وما فيها من أهوال، وانه لا ينجيّ في ذلك اليوم الا من آمنَ وعمل صالحا، ولا ينفع الانسانَ مالٌ ولا بنون ولا جاهٌ ولا مناصب.
اذكر أيها الرسول للناس وأنذِرْهم يومَ نُفني هذا الوجودَ ونقتلع هذه الجبالَ من أماكنها ونسيّرها ونجعلها هباء منثورا، كما قال تعالى في سورة النمل 88: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} وتبصر في ذلك اليوم الأرضَ ظاهرة مستوية لا عوج فيها ولا وادي ولا جبل.
{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} .
وجمعنا الناس وبعثناهم من قبورهم فلم نترك احدا، كما قال تعالى: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 104] . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» يُحشَر الناس حفاةً عراة. . فقلت: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشدُّ من ان يهمَّهم ذلك «وزاد النِّسائِّي: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 36] ، يعني من شدّة الهول لا ينظر أحد إلى غيره.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر:» ويوم تُسيَّر الجبالُ «بضم التاء ورفع الجبال، والباقون» نسير «بضم النون ونصب الجبال.
ثم بين كيفية حشرِ الخلق وعرضِهم على ربهم بقوله:
{وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً. . .} .
ويعرَض الناس في ذلك اليوم على الله في جموع مصفوفة ويقول الله تعالى: لقد بعثناكم بعدَ الموت كما أحييناكم أولَ مرة، وجئتمونا فُرادى حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد، وقد كنتم في الدنيا تكذِّبون بالبعث والجزاء.
ووُضع كتابُ الأعمال في يد كل واحد، فيبصره المؤمنون فَرِحين بما فيه، ويبصره الجاحدون فتراهم خائفين مما فيه من الأعمال السيئة. وعند ذلك يقولون: يا ولينَا ما لِهذا الكتابِ لا يترك صغيرةً ولا كبيرة الا بيَّنها بالتفصيل والدّقة وعدَّها!! .
ثم اكد الله ذلك بقوله: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
ووجدوا أمامهم في كتابهم كلَّ عملٍ عملوه مثبتا، والله سبحانَه عادلٌ لا يظلم أحداً من خَلْقه بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذّب من يشاء بحكمته وعدله.
أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل رضي الله عنهـ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:» ان الله تعالى ينادي يوم القيامة: يا عبادي، أنَا الله لا اله الا انا ارحمُ الراحمين وأَحكَم الحاكمين واسرع الحاسبين، أحضِروا حجّتكم، ويسرِّروا جوابكم، فإنم مسئولون محاسَبون «(2/376)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
فَسَقَ عن امر ربه: خرج عن طاعته. فهم لكم عدو: العدو يطلق على الواحد والجمع. العضد: ما بين المرفق والكتف ومعناه هنا المعين المساعد والنصير. فدعوهم: فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم. موبقا: حاجزا فيه الهلاك. الموبق: المهلك، وبق يبق وبوقا: هلك. مواقعوها: واقعون فيها. مصرفا: مكانا ينصرفون اليه.
{وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ. . . .} .
تقدم ذلك في الآية 34 من سورة البقرة والآية 11] من سورة الاعراف، والآية 61 من سورة الاسراء، وهي في كل موضع جاءت لفائدةٍ ومعنى غير ما جاءت له في المواضع الأخرى، على اختلاف اساليبها وعباراتها المعنى المراد منها.
وهنا يشير الله تعالى الى أن الكفر والعصيانَ مصدرهما طاعة الشيطان، وابليس أعدى الأعداءِ. وقد خرج عن طاعة الله ولم يسجد لآدمَ سجودَ تحيَّةٍ وإكرام، مع ان الملائكة كلَّهم سجدوا وأطاعوا أمرَ ربهم، فعصى ربه عن امره. ومعهذا وبعد ان عرفتم عصيانه وتمرُّدَه على الله تتخذونه هو وأعوانَه أنصاراً لكم من دون الله، وهم لكم اعداء!
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} بئس البدلُ للكافرين بالله اتخاذُ إبليسَ وذرّيته أولياءَ من دونه.
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} .
ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما احضرتُ إبليس ولا ذريته خَلْقَ السموات والارض وما أشهدتُ بعضَهم خلق بعض لأستعين بهم، وما كنتُ في حاجةٍ الى معين، وما كنت متخذ المضلِّين الجاحدين أعوانا وانصارا، تعالى الله الغنيُّ عن العالمين.
ثم اخبر سبحانه عما يخاطَب به المشركون يوم القيامة على روؤ الاشهاد تقريعاً لهم وتوبيخا فقال:
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} .
اذكر لهم أيها الرسول يوم يقول الله للمشركين: نادوا الذين ادَّعيتم أنهم شركائي في العبادة ليشفعوا لكم كما زعمتم، فاستغاثوا بهم فلم يُجيبوهم، وجعلْنا بينهم حاجزاً مهلكا، وهو النار. ورأى المجرمون النارَ بأعينهم، فأيقنوا انهم واقعون يها، ولم يجدوا عنها مَحِيدا.
قراءات:
قرأ حمزة وحده: «ويوم نقول» بالنون، والباقون: «ويوم يقول» بالياء.(2/377)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} .
لقد وضحنا للنا كلَّ ما هم في حاجة إليه من أمورِ دينهِم ودنياهم، ليتذَّكروا ويعتبروا، لكنهم لم يقبلوا ذلك.
{وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
كان الانسان بمقتضى جِبِلَّتِه اكثرَ شيء مِراءً وخصومة، لا يُنيب الى حق، لا يزدَجِر بموعظة.
{وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا. .}
وما منع هؤلاءَ المشركين من الإيمان، حين جاءهم الحقُّ وهو الرسول والقرآن، الا تعنُّتهم وطلبهم من الرسول أن يأتيَهم بالهلاك، وهي سُنَّةُ الاولين، أو يأتيَهم العذابُ مواجهة وعيانا.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: «قُبُلا» بضم القاف والباء. والباقون: «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ. . .} .
وما نرسل الرسلَ والأنبياء الا ليبشّروا بالإيمان والتصديق بالله ورسُله وبجزيل ثوابه، وينذِروا الناسَ بعظيم عقابه وأليم عذابه.
ويجادل الذين أشركوا بالباطل، ليُبْطِلوا الحق، واتخذوا آيات الله وحُجَجَهُ والنذُرَ التي انذرهم بها استهزاء وسخريّة.(2/378)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
اكنة: أغطية، واحدها كنان. ان يفقهوه: ان يفهموه. وقرا: ثقلاً. موئلا: ملجأ، يقال وَأُلَ يَئِل وَأْلاً وَوُؤلاً: لجأ.
ليس هناك أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله فلم يتدّبرها، ونسي عاقبةَ ما عمل من المعاصي، وبسبب مَيْلِهم الى الكفر جعلْنا على قلوبهم أغطية، فلا تعقِل، وفي آذانهم صَمماً فلا تسمع، وإن تدْعُهم ايها الرسول الى دين الله الحق فلن يهتدوا ابدا.
ثم بين الله تعالى انه لا يعجِّل العقوبة لعباده على ما يقترفون من السيئات والآثام، لعلّهم يرجعون اليه ويتوبون فقال:
{وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب. . .} .
إن ربك ايها الرسول عظيمُ المغفرة لذنوب عباده، فهو يرحمهم ويتجاوز عن خطاياهم. ولو شاء ان يؤاخذَهم على أعمالهم السيئة لعجَّل لهم العذاب، لكنّه لحكمة قدّرها إنما أخّرهم لموعدٍ ليس لهم عنه مهرب ولا ملجأ.
{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} . وتلك القرى من عاد وثمود واصحاب الأيكة وغيرهم دمرناهم لما ظلم اهلها بتكذيب رسلهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا، وكذلك نفعل بالمكذبين من قومك اذا لم يؤمنوا.
قراءات:
قرأ حفص: لمهلكهم: بفتح الميم وبكسر اللام والكاف. وقرأ ابو بكر: لمهلكهم: بفتح الميم واللام: والباقون: لمهلكهم: بضم الميم وكسر اللام.(2/379)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
فتاه: خادمه، تلميذه. لا ابرح: لا ازال سائرا. مجمع البحرين: مكان اجتماعهما. حقبا: مدة طويلة: سربا: مسلكا. نصيبا: تعبا. اوينا: التجأنا. ذلك ما كنا نبغي: ذلك ما كنا نريد. فارتدا على آثارهما قصصا: رجعا في نفس الطريق التي جاءوا منها. الحوت: السمكة الكبيرة.
هذه القصة الثالثة التي اشتملت عليها سورة الكهف، وهي قصة موسى مع الرجل الصالح الذي آتاه الله علما. وهذه القصة وردت هنا في سورة الكهف ولم تكرر في القرآن. وموسى هذا اختلف المفسرون فيه: هل هو موسى بن عمران النبي المرسل صاحب التوراة، او موسى آخر؟ واكثر المفسرين على انه موسى بن عمران. وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: ان نوفا البكالي من اصحاب امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، يزعم ان موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني اسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله.
ونوف البكالي هذا كان من التابعين ومن اصحاب سيدنا علي بن ابي طالب وإمام اهل الشام في عصره. وكان ابن زوجة كعب الاحبار، وكان راويا للقصص، توفي نحو سنة 95 هـ.
وعند اهل الكتاب وبعض المحدّثين والمؤرخين ان موسى هذا ليس موسى بن عمران، بل موسى آخر، وهو متقدم في التاريخ.
والقرآن الكريم لم يحدد الاسماء ولا زمن الحادثة، ونحن لا يهمنا الاشخاص وانما نقف مع نصوص القرآن، والعبرة من القصص، وما نستفيد منها.
وفتاه: يقول المفسرون انه يوشع بن نون تلميذه وخليفته. ومجمع البحرين لم يحدَّد مكانهما، وهناك اقوال كثيرة منها انهما البحر الاحمر والبحر الابيض، او مجمع البحرين عند طنجة وغير ذلك.
قال البقاعي في «نظم الدرر» : الظاهر واللهُ اعلم ان مجمع البحرين عند دمياط او رشيد من بلاد مصر، حيث مجمع النيل والبحر الابيض.
وكلها اقوال بدون دليل او خبر قطعي.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً. . .} .
اذكر ايها الرسول حين قال موسى لفتاه خادمه وتلميذه: سأظل اسير حتى ابلغ ملتقى البحرين او أسير زمنا طويلا حتى التقي به.
وسبب ذلك كما في كتب الحديث: «عن ابي كعب رضي الله عنهـ انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان موسى قام خطيبا في بني اسرائيل، فسئل اي الناس اعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه اذ لم يردّ العلم اليه، فأوحى الله اليه ان لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك. قال موسى: يا رب وكيف لي به؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو هناك» المِكتَل: النزبيل، القفة.
فلما وصل موسى وفتاه المكان الجامع بين البحرين نسيا حوتهما الي حملاه معهما، وكان الحوت سقط في الماء وغاص فيه.
فلما ابتعدا عن ذلك المكان، أحس موسى بالجوع والتعب، فقال لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا في هذا السفر تعبا ومشقة.
فقال له فتاده: اتذكر حين جلسنا نستريح عند الصخرة، فاني نسيت الحوت هناك، ان الحوت سقط في البحر، ونسيت ان اذكر لك ذلك، وما انساني ذلك الا الشيطان.
فقال له موسى: ان هذا الذي حدث هو ما اريده لحكمة ارادها الله. فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يتتبعان اثرهما حتى أتيا الصخرة.(2/380)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
رشدا: اصابة الخير. على ما لم تحط به خُبرا: على معرفة الشيء معرفة تامة. والخُبر: المعرفة. ذكرا: بيانا وشرحا.
فلما بلغا تلك الصخرة وجدا عندها رجلا صالحا اعطاه الله الحكمة، أي علّمه من عنده علما كثيرا. وسلم عليه موسى، وقال له: هل اصحبك لتعلمني مما علمك الله أسترشدُ به في امري؟ فقال الرجل الصالح: انك لن تستطيع الصبر على ما تراه مني.
وكيف تصبر على أمور ظاهرها منكر، وباطنها مجهول لا خبرة لك بمثلها؟ قال موسى: ستجدني ان شاء الله صابرا معك مطيعا لك فيما تأمر به.
قال الرجل الصالح: ان سرت معي ورأيت اني عملت عملاً منكرا فلا تعترض علي وتسألني عنه حتى أحدثك عنه وأبين لك سره.
وهذا العبد الصالح اختلف العلماء فيه، هل هو الخضر كما هو شائع بين اكثر المفسرين او هو رجل آخر، وهل هو نبي او ملك من الملائكة، او ولي؟ وهذا قول كثير من العلماء.
واختُلف فيه: هل هو لا يزال حيا الى اليوم او انه مات، فقد انكر البخاري ان يكون حيا، وعلماء السنة يقولون انه ميت بدليل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] .
وبذلك جزم ابنُ المناوي وابراهيم الحربي وابو طاهر العبادي، وابو يعلى الحنبلي، وابو الفضل بن تامر، والقاضي ابو بكر بن العربي، وابو بكر بن النقاش، وابن الجوزي. قال ابو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخشر، وهل هو باق ام لا فاذا اكثر المغفلين مغترون بانه باق، والاحاديث الواردة واهية والسند الى اهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم.
وقال في «فتح البيانط: والحق ما ذكره البخاري واضرابه في ذلك، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع اليه صلى الله عليه وسلم حتى يقيمه عليه.
ويقول الصوفيون انه حي، وان بعضهم لقيه، وهذا كلام ليس عليه دليل ويناقض نصوص القرآن.
وبما انه لم يرد نص معتمد في القرآن او الحديث فاننا نكتفي بالعبرة من القصة، ولا يهمنا معرفة الاسماء والاشخاص.
وقد كتبا لحافظ ابن حجَر في» الاصابة «بحثا طويلا في نحو عشرين صفحة قال فيه: وقد جمعت من اخباره ما انتهى إليّ علمه مع بيان ما يصح من ذلك وما لا يصح.(2/381)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
إمرا: منكرا. لا ترهقني: لا تحمّلني ما لا اطيق. العسر: الشدة والمشقة وضد اليسر، يعني ارفق بي وعاملني باليسر. زكية: طاهرة من الذنوب. نكرا: منكرا تنفر منه النفوس. قد بلغت من لدني عذرا: وجدت عذرا من قبلي. استطعما اهلها: طلبا منهم ان يطعموهما. جدارا يريد ان ينقض: حائطا مشرفا على السقوط. فأقامه: فسوّاه ورممه. هذا فراق بيني وبينك: إلى هنا انتهى اجتماعنا. سأنبك بتأويل: سأخبرك بتفسير ما لا تعرفه. خيرا منه زكاة: احسن منه طهارة. واقرب رحما: قرابة ورحمة. كنز: مال مدفون تحت الجدار. يبلغا اشدهما: بلوغ الرشد وكمال العقل.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، حتى وجدا سفينة فركباها، فخرقها العبد الصالح فاعترض موسى قائلا: أخرقتَ السفينة لتغرق من فيها من الركاب؟ لقد راتكبت امراً منكرا.
قال العبد الصالح: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} لما ترى من اعمالي ولا تدرك سرها.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «ليغرق اهلها» بالياء ورفع اهلها.
قال له موسى: لا تؤاخذني فقد نسيت العهد الذي بيننا، ولا ترهقني وتكلفني مشقة ويسّر عليّ أمري.
وخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان، فلقيا صبياً، فقتله العبد الصالحن فقال موسى مستنكرا هذا العمل: كيف تقتل نفسا طاهرة بريئة من الذنوب، ولم ترتكب ذنبا!
{لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} لقد ارتكبت اثما عظيما.
الى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر، والحمد لله على ذلك، واسأل الله تعالى ان يعين على اتمامه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
قال العبد الصالح: لقد قلت لك: انك لن تستطيع الصبر على ما ترى من اعمالي.
قال موسى: ان سأتلك عن شيء بعد هذه المرة عن عجيب افعالك التي اشاهدها فلا تصاحبني، قد بلغتَ الغاية التي تعذر بسببها في فراقي.
قراءات:
قرأ يعقوب: فلا تصحبني. والباقون: فلا تصاحبني. وقرأ نافع: من لدني. بتخفيف النون. وقرأ ابو بكر: من لدني: بإسكان الدال.
قرأ ابن كثير والبصْرِيَّان: لتخِذت عليه اجرا، بفتح التاء وكسر الخاء.
فانطلقا يمشيان حتى وصلا الى قرية، فطلبا من اهلها ان يطعمهما، فرفضوا ان يضيّفوهما ووجدا في القرية جدارا يكاد يسقط، فسوّاه العبد الصالح ورممه. فقال موسى: لو شئت لطلب اجره على بنائه.
فقال: هذا الاعتراض الدائم منك على ما افعل سبب الفراق بيني وبينك، وسأخبرك بحكمة هذه الافعال التي خفي عليك امرها ولم تستطع الصبر عليها.
اما السفينة التي احدثتُ فيها خرقا، فهي لمساكين ضعفاء يعملون بهافي البحر لتحصيل رزقهم، فاحدثتُ فيها عيبا، لانه كان هناك ملك يغتصب كل سفينة صالحة، وبعملي هذا نجت السفينة من ذلك.(2/382)
واما الغلام الذي قتلته، فكان ابواه مؤمنين، وعلمت انه ان عاش فإنه سيكون سبباً لكفرهما.
واراد ربك بقتله ان يعوضهما خيرا منه ديناً واقرب براً ورحمة. واما الجدار الذي أقمته دون اجر، فكان لغلامين يتيمين من اهل المدينة، وكان تحته مال مدفون تركه ابوهما لهما، وكان رجلا صالحا، فاراد الله ان يحفظ لهما ذلك المال حتى يبلغا رشدهما ويستخرجاه، رحمة ربهما، وتكريماً لأبيهما.
واعلمْ اني ما فعلت هذا كله بأمري واجتهادي من عندي نفسي، وانما فعلته بتوجيه من ربي، هذا تفسير ما خفي عليك يا موسى، ولم يستطع الصبر عليه.
قرأ نافع وابو عمرو: ان يبدلهما بتشديد الدال. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم: رحما بضم الراء واسكان الحاء. والباقون: رحما بضم الراء والحاء.
اختلف المؤرخون والمفسرون في شخصية ذي القرنين، فقال كثير من المفسرين انه اسكندر المقدوني، وفي تاريخ ملوك حمير واقيال اليمن ان ذا القرنين هو تبَّع بن شمر يرعش. . وانه غزا بلاد الروم واوغل فيها حتى وصل الى وادي الظلمات.
وفي رواية انه الصعب بن تبع ابن الحارث ويلقب بذي القرنين، وروايات كثيرة، وكلها من باب الرجم بالغيب والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا.
ويقول ابو الكلام أزاد في كتابه عن ذي القرنين انه «كورش الأكبر» مؤسس الاسرة الاخمينية، والذي يقول العقاد إننا اذا انعمنا النظر في التاريخ نجد ان اوصافه تنطبق على ما وصف به القرآن ذا القرنين، اذ كان ملهماً وفاتحا عظيما، غزا الارض شرقا وغربا واقام سدا ليصد به هجمات المغيرين من «يأجوج ومأجوج» على بلاده. واما اسكندر المقدوني فقد كان وثنيا معروفا بالقسوة والوحشية، ثم ان الاسكندر لا يعقل ان يكون هو باني سور الصين، فهو اولاً لم يصل الصين، بل عاد من الهند حيث تمرد عليه رجاله، وان سد الصين بني بعده بنحو مائة وعشرين سنة. ما بين سنة 246 - 209 قبل الميلاد وبانيه معروف وهو الملك «ش هو انجتي» . وطول سد الصين 2400 كيلو متر استغرق بناؤه سنين عديدة. وسيأتي الكلام على السد ومكانه قريبا.(2/383)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
ذكراً: خبرا. مكنّا له في الارض: جعلنا له قوة وسلطة. آتيناه من كل شيء سببا: هيأنا له السبب الذي يوصله الى ما يريد. وأتبع سببا: سار في طريقه. حمئة: ذات طين اسود. نكرا: فظيعا. الحسنى: المثوبة الحسنة. يسرا: سهلا ميسرا. خبرا: علما.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً}
يسألك بعض زعماء قريش ايها الرسول عن نبأ ذي القرنين فقل لهم سأقص عليكم بعض اخباره.
روي في سبب نزول سورة الكهف ان زعماء قريش ارسلوا النضر بن الحارث وعقبة بن ابي معيط الى احبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وَصِفا لهم صفته، واخبراهم بقوله فانهم اهل الكتاب الاول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الانبياء. . فقال لهم اليود: سلوه عن ثلاث، فان اخبركم بهن فهو نبي مرسل والا فهو رجل متقوِّل فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان من امرهم، فانهم كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فان اخبركم بذلك فهو نبيّ فاتبعوه. . . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فأخبروهم بما قال اليهود. فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن هذه الأمور الثلاثة. فقال: اخبركم غدا عما سألتم ولم يَقُلْ ان شاء الله، ومكث خمس عشرة ليلة لم يأته الوحي. فأرجف اهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمش عشرة قد اصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه! وشق ذلك على النبي الكريم، ثم جاءه جبريل بسورة الكهف. وهناك روايات اخرى في سبب النزول ولا يهمنا ذلك كله، والمهم العبرة من القصص القرآني ويكفينا ذلك.
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}
انا مكنا لأمره في الأرض، فاعطيناه سلطانا قويا، ويسرنا له اسباب الحكم والفتح، واسباب البناء والعمران، وآتيناه الكثير من العلم بالاسباب كي يستطيع توجيه الأمور، ورحل ثلاث رحلات: واحدة الى المغرب، وواحدة الى المشرق، وواجدة الى ما بين السدّين.
قراءات:
قرأ ابن عامر واهل الكوفة: فأتْبع سببا، بفتح الهمزة وسكون التاء، اولباقون: فاتَّبع سببا: بجعل الهمزة الف وصل، وتشديد التاء المفتوحة.
{فَأَتْبَعَ سَبَباً} ومضى بهذه الاسباب يبسط سلطانه على الارض، حتى اذا وصل الى مكان بعيد جهة مغرب الشمس، ووقف على حافة البحر، وجد الشمس تغرب عند عين ذات حمأة وطين اسود، ووجد بالقرب من هذه العين قوما كفارا. فألهمه الله ان يتخذ فيهم احد امرين: اما ان يدعوهم الى الايمان، وهذا امر حسن في ذاته؛ واما ان يقاتلهم إن لم يجيبوا داعي الايمان.(2/384)
قراءات:
قرأ ابن عامر واهل الكوفة الا حفصا: في عين حامئة. والباقون: في عين حمئة بفتح الحاء وكسر الميم وفتح الهمزة، كما هو في المصحف.
قرأ اهل الكوفة الا ابا بكر: فله جزاءً الحسنى: بنصب جزاء مع التنوين. والباقون فله جزاءُ الحسنى: برفع جزاء واضافته الى الحسنى.
فقال ذو القرنين: ان من ظلم نفسه بالبقاء على الشرك، استحق العذاب في هذه الدنيا على يديه، ثم يرجع الى ربه فيعذبه عذابا شديدا.
واما من استجاب وآمن بِرِبِه وعمل صالحا، فله المثوبة الحسنى في الآخرة، وسنعامله في الدنيا برفق ولين ويسر.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} وقفل راجعا من مغرب الشمس حتى بلغ مشرق الشمس حيث بلغ غاية المعمور من الارض في ذلك الزمن، فوجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا لباس لهم، فهم عراة في العراء او في سراديب في الارض.
{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}
ان امر ذي القرنين كما وصنا من قبل بلوغه طرفي المشرق والمغرب، ونحن مطلعون على جميع احواله لا يخفى علينا شيء منها.(2/385)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
السدين: الجبلين. خَرْجا: اجرة من اموالنا. ردما: حاجزا. زبر الحديد: قطع الحديد، المفرد زبرة، الصدفين: واحدها صدف: جانب الجبل. قطرا: نحاسا مذابا، او رصاصا. ان يظهروه: ان يرقوا عليه ويجتازوه. دكَّاء: مهدوما مستويا مع الارض. نفخ في الصور: الصور: قرنٌ ينفخ فيه فيحدث صوتا عاليا.
{حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} .
وهذه رحلة ذي الرقنين الثالثة فلما وصل الى مكان بعيد بين جبلين وجد هناك قوما لا يفهمون ما يقال لهم لغرابة لغتهم وجهلهم. ويقال ان الجبلين المذكورين عند مدينة دربند، بالقرب من مدينة ترمذ حيث يرعف بباب الحديد.
{قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} .
قال المجاورون لهذين الجبلين لذي الرقنين انه يوجد اناس مفسدون في الارض وهم يأجوج ومأجوج، ويقال انهم التتر والمغول، وكانوا يغيرون على الأمم المجاورة لهم فيفسدون ويدمرون، ولذلك توسل المجاورون الى ذي القرنين ان يجعل بينهم وبينهم سدا.
ولذلك أجاب طلبهم بانه بحول الله وقوته سيبني هذا السد، وشرع فيه وقال لهم: أعينوني بما تقدرون عليه من رجال وادوات احققْ لكمهذا الطلب و {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} . وطلب منهم ان يمدوه بقطع الحديد، فاقام سدا عاليا ساوى به بين حافتي الجبلين، ثم امر ان يوقدوا نارا حتى انصهر الحديد فصب عليه النحاسَ المذاب، فاصبح سدا منيعا. ويقول الخبراء الذين زاروا تلك المنطقة: ان هذا السد موجود الآن ويُعرف بسد دريند، وطوله 50 ميلا وراتفاعه 29 قدما، وسمكه عشرة اقدام، وتتخلله بعض الأبواب الحديدية، فوي اعلاه برج للمراقبة.
{فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} .
فما استطاع يأجوج ومأجوج ان يجتازوه، ولا ان ينقبوه لصلابته.
وبعد ان أتم ذو القرنين بناء السد، قال شاكرا لله:
{قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} .
ان هذا السد من رحمة الله بكم، وسيظل قائما حتى يسويه بالارض، وان امر الله نافذ لا محالة.
وهذا النص لا يحدد معينا لخروج يأجوج ومأجوج، ففي سورة الانبياء {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [فمن الجائز ان تكون هي غارات المغول والتتر التي دمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو، ويكون هذا تصديقا للحديث الصحيح الذي رواه الامام احمد عن زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول:
«ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا.(2/386)
وحلّق باصبعيه السبابة والابهام. قلت: يا رسول الله انهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم اذا كثر الخبث «.
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}
وتركنا يأجوج ومأجوج خلق السد يموج بعضهم في بعض لكثرتهم الى ان نأمر بفتحِهِ ويخرجون الى ما وراءه يفسدون ويدمرون كعادتهم.
فاذا كان موعد يوم القيامة ونفخ في الصور، يجمع الله الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
قراءات:
قرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر وابو بكر ويعقوب: بين السدّين بضم السين. والباقون بين السدين بفتح السين، وهما لغتان.
وقرأ حمزة والكسائي:» لا يكادون يفقهون قولا «بضم الياء وكسر القاف. والباقون: يفقهون بفتح الياء والقاف. وقرأ عاصم وحده: يأجوج ومأجوج بالهمز. والباقون: ياجوج وماجوج بدون همز.
وقرأ أهل الكوفة: خراجا، الا عاصما: خرجا. وقرأ ابن كثير: ما مكنني. وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر الصُدفين بضم الصاد والدال، وقرأ ابو بكر: الصدفين بضم الصاد واسكان لادال. والباقون: الصدفين بفتح الصاد والدال. وقرأ حمزة وابو بكر: ائتوني. والباقون: آتوني بمد الهمزة. وقرأ اهل الكوفة: دكاء بالهمزة مع المد. والباقون: دكا، بدون همزة.(2/387)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
غطاء: غشاوة. اعتدنا هيأنا. نزلا: اصل النزل ما يُهيّأ للضيف النزيل، وهنا جعل جهنم مكانا لهؤلاء الجاحدين ينزلون به. الهزؤ: السخرية.
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ. . .}
بعد ان ذكر الله تعالى انه اذا نفخ في الصور وجاء يوم القيامة جمع الناس من جميع اطراف الارض - بين هنا انه عند ذلك يُبرز جهنم ويعرضها للذين كفروا بالله، الذين كانت اعينهم في الدنيا مقفلة، وقلوبهم في غفلة عن ذكره، وكانوا لا يستطيعون ان يسمعوا ذكر الله.
ثم بين ان ما اعتمدوا عليه من المعبودات الاخرى لا تنفعهم ولا تنصرهم في ذلك اليوم.
{أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ. . .}
اظنوا ان اتخاذهم المعبودات الضعيفة التي لا تملك لهم ضرا ولا نفعا ينفعهم او ينجيهم من العذاب. إنا أعتدنا لهم جهنم مقرا ينالون فيه ما يستحقون من جزاء.
وفي ذلك تهكم بهم، وتهطئة في حسبانهم ذلك، واشارة الى ان لهم وراء جهنم الوانا اخرى من العذاب.
ثم بين سبحانه ما فيه تنبيه الى جهلهم وخسرانهم فقال:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}
قل ايها الرسول لهؤلاء الجاحدين هل نخبركم بأشد الناس خسرانا لأعمالهم، الذي بطل عملهم في الحياة الدنيا، وهم يعتقدون انهم يحسنون بعملهم صنعا! انهم عملوا بغير ما امرهم الله به، وظنوا انهم بفعلهم هذا مطيعون له، وقد ذهب سعيهم هباء فلم يجدِهم شيئا.
ثم بين الله السبب في بطلان سعيهم فقال:
{أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} .
هؤلاء الذين كفروا بما جاء به الرسول من دلائل وآيات، وانكروا البعث والجزاء ولقاء الله فحبطت اعمالهم، اي فسدت وبطلت. وأصل الحبوط انتفاخ بطن الدواب عندما تأكل شيئا يضرها من الكلأ ثم تلقى حتفها، وهذا انسب شيء لوصف اعمال هؤلاء الكفار الذين هم اشبه شيء بالدواب. ولذلك سوف يمهَلون يوم القيامة ويتركون في جهنم، ولا قيمة لهم.
ثم بين مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم بعد ان بين حبوط اعمالهم وخسرانهم فقال {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} ذلك الذي بيناه وفصلناه شأن هؤلاء، وجزاؤهم جهنم بسبب كفرهم وسخريتهم بما انزل الله.(2/388)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
الفردوس: المنازل العليا في الجنة: حِوَلا: تحولا. مدادا: حبرا. يرجو لقاء ربه: يطمع في لقائه.
بعد ان ذكر سبحانه ما اعده للكفار من عذاب، جزاءَ جحودهم بربهم واستهزائهم برسله وآياته - بين هنا لمقابل، وهو حال المؤمنين وما ينتظرون من نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الانهار فقال:
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} .
ان الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤا به، وعملوا صالح الاعمال جزاؤهم اعلى المنازل في الجنة، خالدين فيها ابدا، لا يرضون غيرها بديلا.
ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي فيه الدلائل والبينات على وحدانية الله، وارساله الرسل، وكلماته التي لا نهاية لها، فالبحرُ وسعه مهما كبر يظل صغيراً الى جنب علم الله وكلماته التي تمثل العلم الالهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته.
{قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي. . .} قل ايها الرسول للناس: ان علم الله محيط بكل شيء، ولو كان ماء البحر مدادا يسطر به كلمات الله الدالة على علمه وحكمته لنفذ هذا المداد، ولو مد بمثله، قبل ان تنفذ كلماتُ الله، لأن علوم الله ولكماته لا نهاية لها. ومثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] .
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ. . .} قل لهم ايها الرسول: انما انا انسان مثلكم أستمد علمي من الوحي اللهي، اعلمكم ما علمني الله اياه، وقد اوحى الله الي ان ربكم واحد لا شريك له، فمن كان يطمع في لقاء الله وثوابه فليعمل الاعمال الصالحة مخلصا له، {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} هذا هو العمل العظيم الذي ينجي الانسان عند لقاء ربه.
وهكذا تختم سورة الكهف التي بدأ بذكر الوحي والتوحيد بما بدئت به من ان محمد عليه الصلاة والسلام بشر مرسل يوحى اليه، والتوحيد وعدم الشرك هما الجواز الذي يوصل الى الجنة.
نسأل الله تعالى ان يجعل علمنا خالصا لوجهه الكريم.(2/389)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
كاف. ها. يا. عين. صاد. هكذا تُقرأ. وهي تنبيه للسامعين، وتوجيه لنظرهم. وهَن العظم مني: ضعف ورقّ من الكبر. اشتعل الرأسُ شيبا: صار الشيب كأنه نار، والشَّعر كالحطب، والمقصود أن رأسه شابَ من الكبر. ولم اكنْ بدعائك ربِّ شقيا: وكنت بدعائي لك سعيدا غير شقي، فإنك كنتَ تستجيب لي دائما. الموالي: أقارب الرجل. من ورائي: من بعد موتي. عاقر: لا تلد، ويقال للرجل والمرأة عاقر. وليّا. وراثا. رضيّا: مرضيّا عندك.
ذُكر زكريا في القرآن الكريم ثمان مرات: في سورة آل عمران، والانعام، ومريم والأنبياء. ولم يذكر نسب زكريا في القرآن، ولا في كتب الأنبياء عند اهل الكتاب. وكل ما هو معروف أنه من وَلَدِ سليمان بن داود، وكان زوجاً لخالة مريم. وذكر في حديث المعراج ان زمكريا ويحيى ابنا خالةٍ وعلى هذا يكون ذلك تجوُّزا.
ويحيى بن زكريا عُرف عنه الصلاح وطلبُ العلم منذ صباه، فكان يقضي أكثر أوقاته في البريّة يعيس على العسَل والجراد، حتى حصل على رتبة عالية في الشريعة الموسوية، وأصبح مرجعا مهما لكلّش من يَستفتي في أحكامها. {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} .
وكان يحيى على أكملِ أوصاف الصلاح والتقوى، وقد نُبّىء قبل الثلاثين، وكان يدعو الناس الى التوبة من الذنوب، وكان يُعَمِّدُهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا. وهو الذي عمَّدَ المسيح واسمه عندهم «يوحَنّا المَعْمَدان» .
وكان حاكمُ فلسطين في زمنه «هيرودس» وكانت له بنت أخٍ يقال لها «هيروديا» كانت بارعةَ الجمال، فأراد عمُّها ان يتزوجها. وكانت البنت موافقة وكذلك أمها، غير ان يحيى لم يرضَ عن هذا الزواج لأنه محرَّم. فاخذت الأُم ابنتَها الى مجلس عمِّها وجعلتها ترقص له، وقالت لها: إذا عَرَضَ عليك شيئا، فاطلبي رأس يحيى. ففعلتْ. ووفّى لها عمّها الحاكمُ بذلك. . قتل يحيى وأحضر لها رأسه على طبق. وبعد ان قُتل يحيى أخذ المسيحُ يَجْهَرُ بدعوته، وقام في الناس واعظاً.
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ. . . .} .
نقصّ عليك أيها الرسولَ خَبَر رحمتِنا لعبدِنا زكريا حين دعا ربَّه في خفيةٍ عن الناس، فقال: ربِّ إني قد ضعُفت، وشابَ رأسي، وإنك يا ربّ تمنُّ عليَّ دائما وتستجيب دعائي. لذلك فإني سعيدٌ بدعائي لك، ولم أكن به شقيا. لقد خِفتُ بعد موتي ألا يحسن أقاربي القيامَ على امر الدين، وامرأتي عاقر لا تلد، فارزقْني من رحمتِك وفضلِك غلاماً يخلُفُني في قومي، اجعله يا ربّ يرثني في العلم والدِين، ويرِث من آل يعقوب واجعلْه يا رب بَرّاً تقيا مرضيا عندك وعند خلقك. والمراد بالوراثة هنا وراثةُ العلم والدين، لأن الأَنبياء لا يُوَرّثِون مالاً ولا عقارا.
قراءات:
قرأ ابو عمرو والكسائي: يرثْني ويرثْ من آلِ يعقوبَ بجَزْمِ الفِعلين.(2/390)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
لم نجعل له من قبل سَمِيّا: لم يُسضمَّ أحد بهذا الاسم قبله. عَتَا الشيخ: كبر وانتهى. وقد بلغت من الكِبَرِ عتيّا: بلغت من الكبر حالةٌ يبستْ معها مفاصلي وعظامي. آية: علامة. سوياً: سليما صحيحا. المحراب: المصلّى. فأوحى زكريا اليهم: أشار اليهم.
{يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ. . . .} .
لقد أخبر الله تعالى زكريا انه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسِه، ونادى: زكريا، إنا نبشّرك بهبتِنا لك غلاماً اسمُه يحيى، ولم نسمِّ به احداً من قبله.
فَسُرَّ زكريا بهذه البشرى وقال متعجباً: يا ربّ، كيف يكون لي ولدٌ وزوجتي عاقر وأنا قد ضعفتُ من الكِبَرِ وبلغت سن الشيخوخة! .
{قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. . . .} .
فأوحى الله لعبده زكريا أن الأمر كما بُشِّرْتَ. ان مَنْحَكَ الولدَ وأنت على هذه الحالة من كبر السنّ وعقم الزوجة هيّن علي. ثم ذكر ما هو أعجبُ مما سأل عنه فقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} خلقتُك من العدَم.
قال زكريا عندما سمع هذه البشرى وتحقَّق من تمامها: ربِّ اجعل لي علامةً تدلّ على حصول ما بُشرتُ به، قال: علامتك هي أن لا تستطيع الكلامَ مدةَ ثلاثِ ليالٍ وأنت صحيحٌ سليم الحواس.
فخرج زكريا على قومه من مصلاَّه وهو منطلق اللسان بذِكر الله ولا يستطيع ان يكلِّم الناس، فأشار الى قومه ان سبِّحوا اللهَ صباحاً ومساء.
قراءات:
قرأ حمزة: نُبْشِرك: بضم النون واسكان الباء من أبشر. والباقون: نبشرك بفتح الباء وتشديد الشين. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: عتيا، بكسر العين. والباقون: عتيا، بضم العين.(2/391)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
الكتاب: التوراة. بقوة: بجد واجتهاد. الحُكم: الحكمة والمعرفة. حنانا: عطفا على الناس. وزكاة: طهارة من الذنوب. وبرا بوالديه: كثير الاحسان اليهما. ولم يكن جبارا عصيّا: لم يكن متكبرا متعاليا مخالفا لما أُمر به.
ثم ناداه الله: يا يحيى، خذ التوراةَ واعمل بجّدٍ واجتهاد وعزم، وآتاه الحكمةَ والعلم منذ صباه، ونشأ على التقوى.
وقد جَعَلَه الله ذا حنانٍ وشفقة على الناس، وطهارة نفس، وكان تقيا. كما جعلّه كثير البِرّ بوالديه والإحسان اليهما والى الناس، ولم يجعله متجبّرا عليهم، ولا عاصياً لله.
ثم ذكر سبحانه جزاء يحيى على ما قدّم من عمل صالح وأسلف من طاعةِ ربه فقال:
{وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ. . . .}
وتحيةٌ من الله عليه، وأمانٌ له يوم موته، ويوم يُبعث يوم القيامة حيا. في هذه المواطن الثلاثة يكون العبدُ أحوجَ ما يكون للرحمة والأمان. ذلك هو يحيى الذي اعطاه الله الحكم صبيا، واستجاب دعاء ابيه زكريّا ووهبه ذلك الغلام الطاهر.(2/392)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
انتبذتْ: اعتزلت. مكاناً شرقيا: شرقي بيتَ لحم، وذلك في الغور لأنه المكان الوحيد في بلادنا الذي يثمر فيه النخل. روحنا: جبريل. بشَرا سويا: رجلا كامل الخلقة. أعوذُ: أَعتصم والتجىء. تقيا: مطيعا. لأهَبَ: لأكون سببا في هبته لك. زكريا: طاهرا. أنَّى يكون لي غلام: كيف يكون لي غلام. آية: علامة على قدرة الخالق. مقضيّا: محتوما.
بعد ان ذكر الله قصة زكريا واستجابة دعائه، ويحيى الذي اوجده الله من شيخين فانيين - ثنى بقصة عيسى لأنها اغرب من ذلك. وقد فتنت قصة عيسى عليه السلام كثير من البشر حتى تصوروه إلهاً، ونسجوا حوله كثيرا من الخرافات والاساطير، فجاء القرآن الكريم يقص كيف وقعت هذه القصة العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والاساطير.
واذكر ايها الرسول ما في القرآن من قصة مريم حين اعتزلت عن اهلها في مكان شرقيّ بيت لحم والقدس حيث كانوا يقيمون. وضربت بينها وبينهم حجابا. فارسلنا اليها جبريل في صورة انسان معتدل الخلق، فلما رأته مريم فزعت منه وقالت: اني استجير بالرحمن منك ان كنت تتقي الله وتخشاه.
فقال جبريل مجيباً لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لا تخافي اني رسول من ربك لاكون سببا في ان يهب الله لك غلاما طاهرا مبرأ من العيوب.
فعجبت مريم مما سمعت وقالت لجبريل: كيف يكون لي غلام، ولست بذات زوج، ولم يقربني انسان ولست من اهل الفجور؟ .
فقال لها الروح الامين: ان الله قد قال: ان هذا الأمر عليه هين، وان اسباب الولادة لا تنحصر عند الله بما هو المعتاد من زوجين، فانه كما اوجد آدم من غير اب وأم، واوجد هذا الكون من العدم - فانه يهب لك الغلام من غير اب {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] . وقد نفخ جبريل في قميصها فكانت تلك النفخة سببا للحمل، كما في قوله تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] . وفي سورة التحريم الآية 12 {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} وقد قدرنا ذلك لنجعلَ خلقه برهانا على قدرتنا كما يكون رحمة لمن يهتدي به، وكان خلق عيسى محتوما.
قراءات:
قرأ ابو عمرو ونافع: ليهب لك، بالياء. والباقون: لأهب لك كما هو في المصحف.(2/393)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
قصيا: بعيداً عن اهلها في غور الاردن. فأجاءها المخاضُ: فألجأها الطلب. نسيا منسيّا: نسياً بفتح النون وكسرِها، الشيء الذي لا قيمة له فيظلّ منسيا لا يذكر. سريّا: شريفا. رُطبا جنيا: الرطَب، هو ثمر النخل اذا ادرك ونضج قبل ان يصير تمرا. جنيا: صالحا للقطف. نذرتُ للرحمن صوما: يعني صوما عن الكلام.
وتحققت ارادة الله تعالى، وحملت مريم بعيسى، وذهبت بحملها الى المكان البعيد عن الناس. . الى غور الاردن، لأنه هو المكان الذي يوجد فيه النخل وهو المكان الشرقي البعيد وكان مأهولا من بعض المتعبدين. وكون الوقت فيه رطب يعيِّين ان يكون وقت الولادة في الصيف، لا في الشتاء كما يقرر النصارى الذين يوقتون الميلاد في الشتاء.
فالجأها ألم الولادة والطلق الى جذع النخلة لتستند اليه وتستتر به، وتمنت لو انها كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت، حياء من الناس وخوفا من لومهم، وكان شيئا منسيا. لان الناس لا يعرفون الحقائق ولا يعذرون.
فناداها عيسى من تحتها، حيث انطقه الله. وتلك ايضا من المعجزات: لا تحزني بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومن الألم، ومما يقوله الناس، فقد جعل ربك تحتك انسانا شريفا رفيع القدر والشأن.
يفسر بعض المفسرين: سريا بمعنى الجدول او النهر، وان المنادى جبريل، فكيف يكون جبريل تحتها؟ . .
{وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} .
وهزي النخلة يتساقط عليك الرطب الطيب، والرطب فيه الغذاء الكافي، ويعيش عليه خلق كثير.
ويقول بعض المفسرين ان الوقت لم يكن صيفاً، واللهُ أحيا تلك النخلة وجعل فيها الرطب. . وهذا كلام ليس عليه دليل.
فكلي من ذلك الرطب، واشربي من الماء عندك وطيبي نفسا، فان رأيتِ احدا من البشر ينكر عليك امرك، فأفهميه بانك نذرت لله الصوم عن الكلام وأنك لا تكلمين اليوم احدا.
قراءات
قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وابو بكر: يا ليتني مت بضم الميم، والباقون: مت بكسر الميم. فهما لغتان.
قرأ حمزة وحفص: نسيا بفتح النون، والباقون: نسيا بكسر النون وهما لغتان. قرأ حفص وحمزة والكسائي ونافع: مِن تحتها من حرف جر وكسر تحتها، كما هو في المصحف، والباقون: من تحتها. بفتح ميم من، وتحتها بفتح التاء. قرأ حفص: تساقط بضم التاء وكسر القاف. وقرأ حمزة: تساقط بفتح التاء والسين بدون تشديد. وقرأ ابو عمر وابن عامر والكسائي وابو بكر: تساقط بفتح التاء والسين المشددة. وقرأ يعقوب: يساقط بضم الياء والجميع باسكان الطاء جواب الامر.(2/394)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
فريا: عجيبا، مختلقا. يا اختَ هارون: يا شبيهة هارون في التقوى والصلاح. المهد: الموضع يهيَّأ للصبي. الكتاب: الإنجيل. يمترون: يشكّون يوتنازعون.
بعد ان وضعتْ مريم وليدها أقبلت على أهلِها تحمل عيسى، فقالوا لها مستنكرين: يا مريم، لقد جئتِ أمراً عظيماً منكَرا!! . يا أخت هارون، يا من انتِ شبيهةٌ بهارونَ النبيّ في التقوى والصلاح، كيف يصدر عنكِ هذا العمل المنكر، وما كان أبوك بالفاجر، ولم تكن أُمك من البغايا! فمِن أين لك هذا الولد؟
روى أحمدُ ومسلم والترمذي والنَّسائي وعبد بن حميد وغيرُهم عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجرانَ فقالوا: أرأيتَ ما تقرأون: {ياأخت هَارُونَ} وموسى وهارون قبل عيسى بزمنٍ بعيد. قال فرجعتُ، فذكرت ذلك لرسول الله فقال: ألا اخبرِّكم أنهم كانوا يُسَمَّون بالأنبياء والصالحين قبلهم! يعني يُشَبَّهون بهم»
وفي دائرة المعارف البريطانية: ان القرآن غَلطَ تاريخياً حين قال: {ياأخت هَارُونَ} في سورة مريم مع أن بينَ مريمَ وهارونَ أخِ موسى مئاتِ السنين.
وهذا طبعا من الافتراءات المبنيّة على الجهل الفاضح، والحديثُ المذكور يفسّر ذلك.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ. . . .} .
فأشارت الى ولدها عيسى ليكلموه، فقالوا: كيف نكلم طفلا لا يزال في المهد، وهم يظنون انها تزدري بهم. فلما سمع عيسى كلامهم أنطقه الله:
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} .
يعني انه سيؤتيه الإنجيل، ويجعله نبيّا، ويكون مباركاً في كل أوقاته، وأين ما كان، معلّماً للخير، وأوصاني بالصلاة وأداء الزكاة مدةَ حياتي، كما أمرني ان اكون بارّا بوالدتي مطيعا محسناً لها ولم يجعلْني متجبّرا في الناس ولا شقيّا بمعصيته.
{والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} .
وهذه الآية مثلُ الآية التي وردت في يحيى في نفس السورة رقم 15.
ذلك الذي ذُكرت مناقبه واوصافه هو عيسى بن مريم، وهذا هو القول الحق في شأنه الذي يجادل فيه المبطلون، ويشك في امر نبوته الشاكّون، لا ما يقوله الذين ألّهوهُ، او المتهمون لأمه في مولده.
{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ. . .} .
تعالى الله وتنزَّهَ عن ان يتخذ ولدا. والولد إنما يتخذه الفانُونَ والضِعاف، واللهُ باقٍ قادر لا يحتاج مُعينا. والكائنات كلّها توجد بكلمة منه، فهو إذا قضى أمراً من الأمور نفذت إرادته بكلمة - فما يريد تحقيقه يحققه بتوجُّهِ الإرادة لا بالولد المعين.
جاء ذكر عيسى بلفظ المسيح تارةً وبلفظ عيسى بن مريم في القرآن في ثلاثَ عشرةَ سورة، وفي ثلاثٍ وثلاثين آية منه.
قراءات:
قرأ الكسائي: آتاني واوصاني بالامالة. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب: قول الحق، بنصب قول على انه مصدر. والباقون: قولُ الحق على انه خبر المبتدأ.(2/395)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
الأحزاب: طوائف اهل الكتاب. من مشهد يوم عظيم: من حضور يوم القيامة. ويل: خِزي وهوان. أسمِع بهم: ما أسمعَهم. ابصِر بهم: ما ابصرهم. يوم الحسرة: يوم القيامة، حيث يندم المفرطون على انهم لم يعملوا صالحا في الدنيا. قُضي الأمر: انتهى وفرغ من الحساب.
{وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ. . . . .} .
وهذا من بقية كلام عيسى. . إن الله ربي وربكم، وأَمَرَهم بعبادته، وان هذا هو الذي أوصيتُكم به وأن دين التوحيد هو الصراط المستقيم.
ثم اشار الله الى انه مع وضوح الأمر في شأن عيسى، وانه عبدُ الله ورسوله، وكلمته القاها الى مريم، وروح منه - اختلفوا فيه كما قال:
{فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ. . . .} .
ومع ما تقدم من قول الحق في عيسى، فقد اختلف اهلُ الكتاب فيه، وذهبوا مذاهبَ شتى، والعذاب الشديد للكافرين منهم يوم القيامة، يوم يَحضُرون موقف الحساب ويلقَون سوء الجزاء.
ما أشدّ سمعَهم وأقوى بصرهم يوم يلقَون الله، والظالمون في ذلك اليوم يتحققون أنهم كانوا في ضلالٍ مبين لا يخفى.
ثم أمر الله سبحانه نبيه ان ينذر قومه المشركين جميعا فقال:
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة. .} .
أنذرْ أيها الرسول هؤلاء الظالمين يوم يتحسّرون ويندمون على ما فرّطوا في الدنيا في حقِّ اللهِ وحق أنفُسِهم. . وسُمِّي يوم الحَسرْة لأن المجرمين يندمون ويقولون: {ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} [الزمر: 56] .
وقُضي الأمر وفرغ من حسابهم ونالوا جزاءهم وقد كانوا في غفلةٍ عن ذلك اليومِ وحسَراته وأهواله، وهم لا يصدّقون بالبعث ولا بالجزاء.
ثم سلَّى الله رسولَه وتوعَّدَ المشركين فقال:
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .
لا يُحزنك أيها الرسول تكذيبُ المشركين لك فيما أتيتَهم به من الحق، فإن إلينا مرجعَهم ونحن الوارثون، والكلّ عائد إلينا عودةَ الميراث الى الوارث الوحيد، فنُجازي المحسنَ بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا ظلمَ في ذلك اليوم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع ويعقوب: وأَن الله ربي وربكم، بفتح الهمزة. والباقون وإنّ. . . بكسر الهمزة.(2/396)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
واذكر في الكتاب: في القرآن. صدّيقا: من يكون صادقاً ومخلصا في أفعاله وأقواله او صحبته. صراطاً سويا: طريقا مستقيما. أراغبٌ أنت عن آلهتي: أكارهٌ لها. لأرجمنّك: لأَضربنّك بالحجارة. واهجُرني مليّا: اتركني دهراً طويلا. إنه كان بي حفيّا: إن ربي كان مبالغا في العناية بي وإكرامي. لسان صدق: ثناءً حسنا.
انتهت قصةُ المسيح، وقد بيّنها القرآن بوضوح، خاليةً من كل شائبة من الأساطير والخرافات. وهنا تأتي حلقة من قصة إبراهيم حيث ذُكِرَ في خمسٍ وعشرين سورة من القرآن. وهنا في هذه الحلقة يتبين ما في عقيدة الشِرك من كذب وضلال. وإبراهيمُ هو الذي ينتسب اليه العرب، وهو الذي بنى البيتَ الحرام مع ابنه اسماعيل. وتبدو في هذه الآيات شخصيةُ إبراهيم الأوّاب الحليم، ووداعتُه وحِلْمُه في ألفاظه وتعبيره.
واذكُر أيها الرسول لقومك وللناس ما في القرآن من قصة إبراهيم الصدّيق (والصدقُ من أكملِ الصفات واصدقها) حين نهى قومه عن عبادة الأصنام، ووجّه الخطاب لأبيه في رِفق ولين قائلا له: يا أبتِ، كيف تعبد أصناماً لا تسمع ولا تبصر، ولا تجلب لك خيراً، ولا تدفع عنك شرا!؟ ويظهر من هذا المنهج أنه سَلَك في دعوته أجملَ الآداب في الحِجاج، واحتجّ بأروع البراهيم ليردّه عن غيّه.
يا أبتِ، لقد جاءني من العِلم الآلهيّ ما لم تطّلع عليه، فاتّبعني فيما أدعوك إليه من الإيمان بالله - أدلّك على الطريق القويم الموصِل الى الله.
يا أبت، لا تطع الشيطانَ فيما يزّين لك من عبادة الأصنام، إن الشيطان عصى الله وخالفَ أوامره، وكلُّ من أطاعه فقد عصى الله.
ثم حذّره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال:
{ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن. . . .} .
يا أبتِ، إني اخشى إنْ أصررتَ على الكفر أن يصيبك عذابٌ شديد من الله، فتكون قرينا للشيطان في النار.
فأجابه أبوه بعد كل هذا الكلام اللطيف والعبارات الرقيقة بكلّ جفاء وغلظة فقال:
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم؟ . . . .} .
أتكره آلهتي ولا ترغب في عبادتها يا إبراهيم؟ لئن لم تنتِه عما انتَ فيه من النَّهي عن عبادتها والدعوةِ الى ما دعوتني اليه، لأرجمنَّك بالحجارة، فاحذَرْني وأبعد عني وفارِقني دهراً طويلا.
ولما سمع ابراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين:
1 - {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ} .
سلمتَ مني لا أصيبك. وهذا جوابُ الحليم للسفيه، وفيه مقابلةٌ للسيئة بالحسنة.
وزاد على ذلك فقال:
2 - {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} .
سأدعو لك ربي أن يهديك ويغفر لك. وقد عوّدني ربي ان يكون رحيماً بي مجيباً لدعائي.
وإني سأهجركم وأبتعدُ عما تعبدون من دون الله، وأعبدُ ربي وحده، راجياً ان يقبل مني طاعتي، ولا يخيّب رجائي، وان لا يجعلني شقيا.
وقد حقق إبراهيم ما عزم عليه، فحقق الله رجاءه وأجاب دعاءه، فلم يتركه وحيداً، بل وهب له ذريةً وعوّضه خيرا.
{فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} .
فلما فارق إبراهيم أباه وقومَهُ وهاجر الى بلاد الشام - أكرمه الله بالذرّية الصالحة، ورزقه اسحاقَ، ثم رزقه من اسحاقَ يعقوبَ، وكلاهما من الأنبياء.
واعطيناهم فوق منزلة النبوّة كثيراً من خير الدنيا والآخرة برحمتنا.(2/397)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
مخلَصا: بفتح اللام، مختارا. الطور: الجبل. وقرّبناه نجيّا: قربناه تقريب تشريف وتكريم، ونجيّاً: مناجيا ومكلِّما بلا واسطة. واجتبيناه: اصطفيناه.
اتلُ أيها الرسول على الناس ما في القرآن من قصة موسى، وما اتصف به من صفاتٍ حميدة، واذكُر أن الله أخلَصَه واصطفاه للنبوة والرسالة.
وكرّمناه فناديناه من الجانب الأيمن للطور في سيناء، وقرّبناه تقريب تشريف وتكريم، حين مناجاته لنا. فَقَرُب من ربّه وارتقت نفسُه حتى بلغت أقصى مناها. ثم إننا وهبنا له من رحمتِنا مؤازرةَ أخيه هارونَ نبيّا، ليعاونَه في تبليغ الرسالة.
وقد جاء في سورة طه {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} . وقد استجاب له ربه فقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} .
قراءات:
قرأ الكوفيون الا ابا بكر: مخلصا بفتح اللام بمعنى اخلصه الله للنبوة. والباقون: مخلصا بكسر اللام بمعنى اخلص هو العبادة لله.
واتل عليهم أيها الرسول ما جاء في القرآن من قصة إسماعيل أبِ العرب، ومن أخصِّ صفاته صدقُ الوعد والوفاءُ به، حتى إنه وعد أباه بالصبر على الذبح ووفى به: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 103] . فقداه الله وشرّفه بالرسالة والنبوة.
وكان اسماعيل يأمر أهلَه بالصلاةِ وإيتاء الزكاة، {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} في جميع أعماله، محموداً فيما كلفه به، مستقيماً في أقواله وافعاله.
واتل أيها الرسولُ على الناس ما في القرآن من قصة إدريسَ إنه كان من الصدِّيقين ونبياً ذا مكانة عالية عند الله. وهذا معنى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} أي رفعنا ذِكره في الملأِ، كما خاطب الله تعالى الرسول الكريم بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح: 4] .
وقد نُسجت حول إدريس خرافات وأساطير، ونُسب إليه انه مصدر لجميع العلوم، واول من خطَّ بالقلم، وأولُ من بنى الهاكل ومجّد الله فيها، واول من نظر في علم الطب، وألَّف لأهلِ زمانه قصائد موزونة في الأشياءِ الأرضية والسماوية، وغير ذلك كثير جدا. وكلّها أخبار لم تؤيد بنقل صحيح، ولم يسنِدها نصٌّ قاطع، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه الرجوعُ الى كتاب: قصص الانبياء، للمرحوم عبد الوهاب النجار.
وبعد أن ذكَر الله تعالى هؤلاء الرسلَ الكرام وهم عَشَرة، وأثنى عليهم بما هو جديرٌ بهم، أردفَه بذِكر بعض ما جزاهم به من النعم. فقد هداهم إلى سُبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.
{أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين. . . .} .
بنعم الدنيا والآخرة من ذريّة آدم وذرية من نجّاه الله مع نوح في السفينة، ومن ذرية إبراهيمَ ويعقوب، وممَّن هديناهم إلى الحق، واخترناهم لإعراء كلمةِ الله. واذا تتلى عليهم آياتُنا خَرُّوا الله سجَّدا، وهم باكون خشية منه، وحَذَرا من عقابه. وهنا موضع سجدة عند قوله: خروا سجّدا وبُكِياً.(2/398)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
الخلف: بسكون اللام، العقِبُ السوء، النسل الطالح. اضاعوا الصلاة: تركوها. غيا: ضلالا. جنات عدن: جنات الاقامة الدائمة. مأتيا: آتيا. اللغو: فضول الكلام. التنزل: النزول. سميّا: شبيها، او مثيلا.
بعد ان استعرض اللهُ أولئك الأنبياءَ السعداء ومن تَبِعَهم بإسحاء، جاء هنا يوازي بين أولئك المؤمنين الأتقياء، وبين الذين خلفوهم. فإذا المسافةُ شاسعة والفارقُ بعيد. فلقد جاءَ من بعد هؤلاء الأنبياء الأخيارِ خَلْفُ سوء كانوا على غيرِ هديهم، تركوا الصلاة وانهمكوا في المعاصين وآثروا شهواتِهم على طاعة الله.
ثم ذكر عاقبة أعمالهم، وسوء مآلهم فقال:
{فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} . وسيلقى هؤلاء جزاء غيِّهم وضلالهم في الدنيا والآخرة.
ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تهبُّ منه نسماتُ الرحمة واللطف والنعمى. فَمَنْ تدارك منهم نفسَه بالتوبة والإيمان الصادق، والعمل الصالح - فإن الله يقبل توبته، ويُدخله الجنة، ويوفي له أجره كالماً، والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها.
كما جاء في الحديث: «التائبُ من الذنْب كمَنْ لا ذنبَ له» أخرجه ابنُ ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود.
ثم أوضح الله جنة الخلد ومن فيها فقال:
{جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} .
هذه الجنات هي جنات إقامةٍ دائمة قد وعد الرحمنُ عباده بها فآمنوا بها بالغيب في ان يروها. ووعدُ الله واقع لا محالة.
ثم يوضح تلك الصورة الجميلة وما فيها من عيشة راضية، ونعيم مقيم، فيقول:
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً. . . .} .
لا يسمعون فيها فُضولا في الحديث، ولا ضجةً ولا جِدالا، وانما صوت السّلام والأمان. والرزقُ في هذه الجنات مكفولٌ دائم.
{تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} .
هذه هي الجنة ذات هذه الصفات الشريفة، نورثها عبادَنا المتّقين الذي يُطيعون اللله في السّرِ والعلَن.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} .
بعد ان ذَكر اللهُ قَصص الأنبياء عليهم السلام، وأعقبه بذِكر ما أحدثه الخَلْفُ بعدهم، وَذكَر جزاءَ الفريقين - أعقب ذلك بقصص تأخُّخرِ جبريلَ على النبي صلى الله عليه وسلم ردّاً لما زعمه المشركون من أنه كان يتأخر عليه، وبياناً لهم أن الأمر على غير ما زعموا.
وما تنزِلُ الملائكةُب الوحي إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمتُه، وتدعو اليه مصلحة عباده. والكلام على لسانِ جبريل: إن أمْرَنا موكولٌ الى الله تعالى، يتصرّف فينا حسب مشيئته، فهو سبحانه المالكُ المدبّر، العالِمُ بمستقبلنا وماضينا، وما بين ذلك. ولإحاطة عِلمه بملكه، فإنه لا يطرأ عليه غَفْلة ولا نسيا.
{رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا. . . .} .
فهو سبحانه الخالقُ المالكُ لهذا الكون كلّه، والمدبر لشؤونه، والمستحقّ وحده للعبادة، فاعبُده أيها الرسول ومن معك، واصطبرْ وثابر على عبادته، هل تعلم له شبيها؟ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} . الشورى.(2/399)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
يذْكر: يتذكر. لنحشُرنّهم: لنجمعنهم. جثيا: جمع جاثٍ، وهو البارك على ركبتيه. شيعة: جماعة تعاونت على أمرٍ واحد. عتيا: تكبراً، ويقال عُتُوّا ايضا. صليّا: دخولا. صلي النارَ دخلها وقاسى حرّها. واردُها: مارّ عليها. حتما: واجبا. مقضيّا: جرى به قضاءُ الله.
بعد أن ارودَ الله قَصص الأنبياء الكرام وغرابةَ مولد يحيى، وعيسى بن مريمن وذكَرَ إبراهيم واعتزالَه أباه، وهجره لقومه ووطنه، وذكر من خَلَفَ بعدهم من المهتدين والضالين، ثمّ جاء اعلانُ الربوبية الواحدة، التي تستحقّ العبادَة بلا شريك، وهي الحقيقةُ الكبيرة التي يبرزها ذلك القَصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته - يذكر هنا ما يدور من الجدَل حول عقائد الشِرك وإنكارِ البعث، ويعرِض مشاهد القيامة، ومصيرَ البشرّ في مواقف حيّة. ثم ينتقل السياقُ إلى ما بين الدنيا والآخرة.
{وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً. . . .} .
ويقول الجاحد الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّباً ومستبعِداً: كيف أُبعث حياً بعد الموت والفناء!! .
كيف يستغرِب هذا الانسانُ قدرة الله على البعث في الآخرة، ولا يتذكّر أنه تعالى خلَقَه في الدنيا من عدم، ولم يكُ شيئا!
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وعاصم «اولا يذكُر» باسكان الذال وضم الكاف. وقرأ الباقون: «أولا يذكر» بتشديد الذال المفتوحة وفتح الكاف.
ثم يعقب الله على هذا الانكار بقسَمٍ فيه تهديد كبير، اذ يقسم بنفسه أنهم سيحشَرون بعد البعث.
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين. . .} .
فوربّك الذي خلقك يا محمّد لنجمعنَّ الكافرين يوم القيامة مع الشياطين، الذين زيّنوا لهم الكفر، وسنُحضِرهم حول جهنّم جاثِين على رُكَبهم في ذِلّة وفزع.
ثم لنأخذَنَّ من كل جماعة أشدَّهم كفراً بالله، وتمردا عليه، فيُدفع بهم قبلَ غيرِهم الى أشد العذاب.
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} .
ونحن أعلمُ بالذين هم أحقُّ بسبقهم الى دخول جهنم والاصطلاءِ بنارها. وأنهم جميعاً يستحقّون العذاب، لكنّا ندخِلهم في جهنم بحسب عِتِيِّهم وتجبُّرهم في كفرهم.
ثم خاطب الناس جميعاً ليذكُروا ويعتبروا:
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} .
وما أحدٌ منكم أيها الناس إلا يدنُو من جهنّم، يراها المؤمن ويمرّ بها، والكافرُ يدخلها. . هكذا قضى ربك، وجعلَه أمراً محتوما.
ثم إننا نشمل المتقين برحمتنا، فنُنْجيهم من شرّ جهنم، ونتركُ بها الذين ظلموا أنفسَهم جاثين على ركبهم،، تعذيباً لهم، وجزاءَ ما اقترفوا وكذّبوا.
قراءات:
قرأ الكسائي ويعقوب: ثم نُنْجي بضم النون الاولى واسكان الثانية، والباقون بضم النون الاولى، وفتح الثانية وتشديد الجيم. وقرأ ابن كثير: مُقاما: بضم الميم الأولى والباقون: مَقاما بفتح الميم.(2/400)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
بينات: ظاهرات الإعجاز. مقاما: مكانا، منزلا. نديا: مجلسا، النديّ والنادي والمنتدَى بمعنى، وكذلك الندوة. القرن: أهل كل عصر، واصبح في العرف الآن مائة عام. الأثاث: متاع البيت وفرشه وكل ما يحتاج اليه، لا واحد له. رئِيا: منظرا، ونضارة وحسنا. فليمدُد له: فليمهله. جندا: انصارا. مردّا: مرجعا وعاقبة.
بعد ان أقام الله تعالى الحجة على مشركي قريش المنكِرين للبعث بعد الفناء، أتبعه هنا بذكر شبهةٍ أخرى، حيث قال بعض زعمائهم (وهم النضر بن الحارث وأبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم) عندما كانت تتلى عليهم آيات الله واضحةَ الدلالة.
{أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} . . .
أعرضوا عنها وقالوا للمؤمنين: لستم مثلَنا حظّاً في الدنيا، فنحنُ خيرٌ منكم منزلاً ومجلسا، فكذلك سيكون حظّنا في الآخرة.
انظروا الى المؤمنين الذين حول محمد، مثل بِلال وعمّار وخَبَّاب وغيرِهم من الفقراء المعدِمين، فأيُّ الفريقَين منا ومنكم أوسعُ عيشاً وأنعم بالا!؟ .
فردّ الله عليهم شُبْهَتَهم بقوله:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} .
كان على هؤلاء المتكبّرين الجاحدين ان يتَعِظوا بمن سبقَهم، وكانوا أحسنَ منهم حظاً في الدنيا، وأكثر متاعا، فأهلكناهم بكفرهم، ولم ينفعْهم أثاثهم ورياشهم، ولم يعصِمهم شيءٌ من الله حين كتب عليهم الهلاك.
ثم أمَرَ سبحانه نبيّه الكريم ان يُجيب هؤلاء المفتخِرين بما عندهم بقوله:
{قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً. . . .} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: من كان في الضلالة والكفر أمهلَهُ اللهُ، وأملى له العُمُر، ليزدادَ طغياناً وضلالا، ثم يأخذُه أخْذَ عزيز مقتدر، إما بعذاب الدنيا، وإما بعذاب الآخرة. سيعلمون أنهم شّرٌّ مكاناً واضعفُ جُنْدا وأقلُّ ناصراً من المؤمنين. وعند ذلك يظهر من هو خيرٌ مقاما واحسنُ نَدِيّا.
اما المؤمنون بآيات الله لإإن الله تعالى يزيدهم هدى وتوفيقا، ذلك ان الطاعاتِ التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاءً، وأبقى عند الله ثواباً وعاقبة.(2/401)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
لأوتينّ: لأُعطين. اطلع الغيب؟ : اظهر له علم الغيب. سنكتب ما يقول: سنسجّل كل اقواله ونظهرها له يوم القيامة. ونمدّ له من العذاب: ونزيد له من العذاب. ونرثه ما يقول: ونسلبه كل ما عنده من مالٍ وولد، وذلك لأنه يقول لأوتينَّ مالاً وولداً. ضدا: أعداء. تؤزّرهم: تزعجهم. وفدا: وهم القادمون المكرمون. وِرْداً: مشاةً مهانين كأنهم دواب حين ترد الماء.
في صحيح البخاري ومسلم عن خباب بن الأرتّ قال: كنتُ حدّاد وكان لي على العاص بن وائل والد عمرو بن العاص، دَين. فأتيتُه أتقاضاه منه فقال: لا واللهِ، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا واللهِ لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموتَ ثم تُبعث. قال: فإني إذا متّ ثم بُعتث جئتني ولي مال وولد، فأعطيك. فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ. . الآية} .
وقولُ العاص هذا نموذجٌ من تهكُّم الكفار واستخفافِهم بالبعث. فالقرآنُ هنا يعجب من هذه الجُرأة والاستخفاف.
انظُر ايها الرسول الى حالِ هذا الجاحد المتكبر. واعجبْ من مقاله الشنيع، وجُرأته على الله إذ قال: سيكون لين مالٌ وولد في الآخرة. هل اطّلعَ هذا الكافر على الغيب، حتى يتجرأ ويقول ما قال، ام أخذ من الله عهداً بذلك!!
«كلاّ» ، وهي لفظة نفيٍِ وزجر، ليس الأمرُ كذلك. إنه لم يطّلع على الغيب ولم يأخذ عند الله عهداً، عليه كلَّ أقواله، ونزيدُه من العذاب ونُطيله عليهم في جهنم.
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ. . . . . يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} .
ونسلبُه ما عنده من المال والولَد وكلَّ ما يعتز به في الدنيا، ويأتي في الآرخرة وحيداً منفردا، لا مالَ معه ولا ولد ولا نصير.
أولئك الذين كفروا عبدوا غير الله آلهة مختلفة، لتكونَ لهم شفعاءَ يعتزّون بها يوم القيامة. كلا: فسيكفر بهم الملائكةُ والجنّ وكلّ المعبودات، ويبرأون الى الله منهم، ويكونون لهم أعداء وخصوما.
ألم تعلم أيها الرسول أنا سلَّطنا الشياطينَ على الكافرين واستحوذوا عليهم، يُغْرونَهم بالمعاصي ويدفعونهم إلى التمرُّدِ والوقوع فيها.
فلا يضيقُ صدرك أيها الرسول بكفرهشم، ولا تستعجلْ لهم بالعذاب، فإنما نتركهم في الدنيا لمدة محدودة، ونُحصي عليهم أعمالهم وذنوبهمن لنحاسبَهم عليها في الآخرة.
ثم يبين الله ما يكون في ذلك اليوم، وكيف يستقبل المتقين بالتكريم، ويسوق المجرمين كالدواب.
{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدا} .
اذكر أيها الرسول ذلك اليوم الذي نجمع المؤمنين فيه الى جنة الخلد وفودا مكرمين، كما نصوق المرجمين الى جهنم وندفعهم عِطاشاً كالدوابّ الواردين الى الماء، لا شفاعةَ لأحدٍ في ذلك اليوم الا من قدّم عملاً صالحاً، فهو عهدٌ له عند الله ينجيه ويجعله من الفائزين.(2/402)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
جئتم: فعلتم. إدّا: منكرا عظيما. يتفطَّرون: يتشققن. تخرُّ: تسقط. دعوا: نسبوا. قوماً لُدّا: قوما شديدي الخصومة. رِكزا: صوتا خفيا.
بعد ان فنّد مقولة عبده الأوثان وأثبت أنهم في ضلال يعمهون - أردف ذلك بالردّ على الذين نسبوا الى الله الولد، وبيّن انها منكَرة يهتزّ لها الكون بأجمعه.
{تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} .
وقال المشركون: إن الله اتخذ من الملائكة بناتٍ، وقال اليهود والنصارى ان الله اتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك.
لقد جئتم أيها القائلون بمقالِكم هذا أمراً منكَرا، تنكره العقول المستنيرة. ان السمواتِ تكاد تتشقق من هذا القول لشدّة هوله، وتُخْسف الأرض، وتسقط الجبال لمجرّدِ سماعه.
قراءات:
قرأ نافع والكسائي: يكاد بالياء، والباقون: تكاد بالتاء. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وحفص: يتفطرن، بالتاء. والباقون: ينفطرن، بالنون.
إنها لكلمةٌ شنيعة لو صورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام، ولتفتت وتفرقت اجزاؤها من شدتها.
ثم بين علّة ذلك بقوله:
{أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} .
من أجلِ أنهم نسبوا الى الله اتخاذ الولد، وما يليق به اتخاذُ الولدن لان اثبات الولد له يقتضي أن يكونَ حادِثاً ومحتاجا، وهذا مُحالٌ على الله سبحانه.
ان كل ما في السموات والأرض من مخلوقات هم عبيدُ الله، ينقادون لحكمنه، ويخضعون له. لقد أحاط بهم جميعاً وبأعمالهم، وعدِّ أشخاصِهم وانفاسهم وافعالهم.
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} .
وهم جميعا سيأتون إليه يوم القيامة منفردين عن النصراء والولد والمال.
وقد تكرر لفظ «الرحمن» في هذه السورة ستَّ عشرة مرة، لأ المشركين كانوا ينكرون هذه الكلمة وكانوا يقولون ما هو الرحمن، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60] . والرحمن وصفٌ يدل على عموم الرحمة، فهي شاملة لكل موجودٍ. ان الله مع كل ما يأتيه المنكِرون رحمنٌ رحيم سبقت رحمته غضبه.
ثم ختم السورة بذكر احوال المؤمنين عموما وما ينتظرهم يوم القيامة، حيث سيستقبلهم الرحمن بالترحيب والمودة.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} .
ان الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسُله، وعملوا الاعمال الطيبة الصالحة - سيجعل الله لهم محبةً في قلوب الناس، ويكونون في رحاب الله وتكريمه يوم القيامة.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال «اذا أحبَّ الله عبداً يقول لجبريل: إني احببتُ فلانا فأحِبَّه، فينادي في السماء ثم تنزل له المحبّة في الارض» ، فذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات. . الآية} وللحديث روايات متعددة. .
وبعد، فان هذه لَبشرى للمؤمنين، ومعها إنذار للجاحدين، وقد يسّر الله فهمَ كتابه على العرب، فأنزله بلسانهم ولسان رسوله الامين.(2/403)
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} .
لقد يسّرنا القرآن بلغتك لتبشّر برضى الله ونعيمه من اتبعَ أوامره واجتنب نواهيَه، وتنذِرَ بسخط الله وعذابه من كفر واشتد في خصامه.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} .
فلا يحزنك أيها الرسول عنادُهم لك، فقد أهلك اللهُ قبلهم كثيرا من الأمم والاجيال. . . ولقد اندثروا، فلا ترى منهم أحدا، ولا تسمع لهم صوتا. إنهم بادوا وهلكوا، وخلتْ منهم دورهم واوحشت منازلُهم. وكذلك هؤلاء، فهم صائرون الى ما صار اليه أولئك ان لم يتداركوا أنفسَهم بالتوبة.(2/404)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
لتشقى: للتعب. تذكرة: تذكيرا. يخشى: يخاف الله. العُلى: جمع العليا، مؤنث الأعلى. العرش: في الأصل سرير الملك، وهنا مركز تدبير العالم. استوى: استولى عليه، ولهذه الكلمة عدة معان. الثرى: التراب، والمراد به هنا الأرض. وأخفى: أخفى من السر كحديث النفس، وما يخطر بالبال.
طه: تقرأ هكذا طاها. واختلف المفسرون اختلافا كبيرا في معناها، هل هو اسم من اسماء الله، أم معناها: يا رجلُ، كما قال الطبري: او انها اسمٌ من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
قراءات:
قرأ قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب: طاها، هكذا. وقرأ حمزة والكسائي وخلَف وابو بكر: طه بالإمالة.
ابتدأ الله تعالى السورةَ بهذه الحروف، لتحدّي المنكِرين والإشارة إلى أن القرآن مكون من هذه الحروف التي تتكلمون بها، ومع ذلك عجزتم عن الإتيان بسورة قصيرةٍ أو آيات مثله.
{مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى. . . .} .
ما أنزلْنا عليك القرآن لتُتعب نفسك في مكابدة الشدائد، وتتحسَّر على عدم إيمان من تدعوه، بل أنزلْناهُ عليك لتبلِّغَ وتذكِّر، وقد فعلت.
قال الواحدي وغيرُه من المفسرين في أسباب النزول: قال ابو جهل والنضرُ بن الحارث، والوليد بن المغيرة، والمطعِم بن عَدِي للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتَتشقى بتركِ ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهادهِ، فأنزلَ الله تعالى: {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} .
ولكن أنزلناه تذكيراً لمن يخافُ الله ويطيعه، فحسْبُك ما حملته من متاعب التبليغ والتبشير والانذار.
وفي هذا تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان يعتزّ به من التعب حين كان يدعو أولئك القوم، وهم معاندون جاحدون.
والذي نزّل القرآن عليك هو خالق الأرضِ والسماوات العلى، إنه هو الرحمن، نزّله عليك من الملأ العلى. لق داستوقى على العرش، وبيدِه زمامُ الأمر كله، وله وحدَه سبحانه ملكُ السموات وما فيها والأرض وما فيها وما عيلها. لقد شملت قدرتُه كل شيء، واحاط علمُه بهذا الكون، فان تجهر بالدعاء يعلمه الله، لأنه يعلم حتى ما تحدِّثُ به نفسك، {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 154] .
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى} .
اللهُ هو الإله الواحد، لا إله غيره، وهو المتصف بصفات الكمال، وكلّ أسمائه حَسنة لأنها تُعبِّر عن أحسن المعاني.(2/405)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
امكثوا: انتظروا، توقفوا. آنستُ: أبصرت، ولها معان اخرى. بقبس: بشعلة من نار على رأس عود. بالواد المقدّس: الذي اسمُه طُوَى. لذكري: لتكون ذاكرا لي. أكاد اخفيها: ابالغ في اخفائها عن الناس. فتَرْدَى: فتهلك.
بدأ قصة موسى من الآيات التاسعة وتستمر الى نهاءة الآية السابعة والتسعين، والواقع ان ذِكر موسى في القرآن أكثرُ قَصص المرسَلين وروداً فيه. وتأتي القصة على ما يناسب موضوع السورة. وهنا جاءت قصة موسى لتسلية الرسول الكريم، وتقوية قلوب المؤمنين، وإظهار كيف كانت العاقبة لموسىوالنصر حليفه بعد أن شُرِّدَ، وأذاق فرعونُ قومه ألوانَ العذاب. وقد تحمَّل موسى من المكاره ما تنوء به راسياتُ الجبال، وقابل ذلك بعزمٍ لا يفتر.
هل بلغكَ أيها النبيُّ خبرُ موسى وكيف كان بدء الوحي إليه. . لقد أبصر ناراً في مسيره ليلاً من مَدْيَنَ ومعه زوجتُه وبعضُ اهله، فقال لزوجته ومن معها من أهلِه: انتظِروا في مكانكم، إني أبصرتُ نارا، وأرجو ان أَجيئكم بشُعلة منها، أو أجدَ حول النار من يهديني الطريق. وفي سورة القصص 29 {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} هذا يدلّ على أنه كان هناك بعضُ البرد، والجذوة: الجمرة.
فلما بلغ المكانَ الذي رأى فيه النار، سمع صوتاً عُلوياً يناديه: يا موسى. فلم ير شيئاً وتحيَّ روهو يتلفّت يميناً ويسارا. فإذا بالصوت يقول له: إني أنا اللهُ ربك، فاخلَعْ نعلَيك احتراماً للبقعة المدَّسة، وتكريماً للموقف، فإنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمَّى «طوى» ، وقد اصطفيتُك من قومك بالنبوّة والرسالة، فأصغِ لما أُوحيه إليك لتعيَه وتبلِّغه الى قومك، فإن هذا الّذي جاءك أمرٌ عظيم فتأهّبْ له.
ثم بين الله له أهم ما أوحى اليه:
{إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} .
لقد عرّفه اللهُ بنفسه وأنه إله واحد إلا هو. ثم بعد ذلك أمرَه بعبادته دون غيره، وان يقيم الصلاة على أحسن وجهٍ ليذكره دائما. فهذان أمران من الأصول: توحيدُ الله، وعبادته بالخلاص. ثم بين الأصلَ الثالث المهم الذي ينكره المشركون والملحِدون. فقال:
{إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} .
إن يوم القيامة آتٍ لا محالة، وإني أنا أُخفي توقيته ليُجزى كل عمل وتحاسَبَ كل نفس على ما عملتْ. وقد فسّر بعض المفسرين: أكاد أخفيها: أكاد أظهرها. وفي اللغة خَفَيْتُ الشيء اظهرته.
فلا يصرفنّك يا موسى عن الإيمان بالساعة والاستعدادِ لها من لا يؤمن بها، ولا يصدِّق بالبعث، فهو لا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، فإن فعلتَ ذلك يا موسى هلكتَ.
قراءات:
قرأ حمزة: فقال لأهلهُ امكثوا، بضم هاء لأهله. والباقون لأهله بكسر الهاء. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: أني انا ربك بفتح همزة اني. والباقون إني بكسر الهمزة. وقرأ حمزة: وأنّا اخترناك، بصيغة الجمع. والباقون: وانا اخترتك كما هو في المصحف.(2/406)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
أتوكأ عليها: اعتمد عليها في المشي. أهشّ بها على غنمي: اخبط بها ورق الشجر لتأكله الغنم. مآرب: واحدها مأرب، ومأربة: الحاجة. سيرتها الأولى. تعود كما كانت عصا. جناحك: أصل الجناح للطائر، والمراد به هنا: الإبط والجانب. من غير سوء: من غير عاهة كالبرص. آية اخرى: معجزة اخرى. طغى: تجاوز الحد. واحلل عقدةً من لساني: كان في لسان موسى حبسة، وهو يسأل الله تعالى ان يطلق لسانه. يفقهوا قولي: يفهموه. وزيرا: معينا. وأشركه في أمري: اجعله شريكا لي في النبوة والرسالة. انك كنت بنا بصيرا: عالماً بأحوالنا.
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} .
وبينما موسى مستغرقٌ في لحظاتٍ ربَّانية، في نشوة روحانية مما سمع وما تلقّى، قد نسي نفسه وما جاء من اجله، كما نسيَ أهلَه وما هم فيه - إذا بنداءٍ قُدُسي وسؤال يلقى عليه: ماذا تحمل بيمينك يا موسى؛ واللهُ أعلمُ بما في يده. فقال موسى مجيبا: إنها عصايَ، أعتمدُ عليها في سَيري، وتوقفي، واسوق بها غنمي، وأضرب بها ورق الشجر ليسقط وتأكله الغنم، وليَ فيها حاجاتٌ ومنافع اخرى.
وبعد ان ذكر هذه الأجوبة أمره تعالى بإلقائها لتتبين لها فوائدُ لم يعرفها موسى من قبل.
{قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} .
قال الله لموسى: إرمِ بها على الأرض، فألقها فإذا هي ثعبانٌ عظيم ينتقل من مكان الى مكان. وكانت مفاجأةً لموسى جعلتْه يهرب منها كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] [القصص: 31] .
فلما خافَ منها طمأنَهُ الله وأمره بأخذِها وهي على حالها:
{قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} .
خذها بيمينك ولا تخف منها، إنا سنرجعها الى حالتها الأولى التي كانت عليها من قبل عصا.
{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء آيَةً أخرى} .
أدخِل يدك في جيبك ثم أخرجْها تخرجْ بيضاءَ ناصعةً من غير مرضٍ كالبرص وغيره وذلك لأن موسى كان أسمر، وكان خروجُ يده بيضاء تتلألأ ويسطع منها النور - معجزةً ثانيةً جعلَها الله له بعد العصا. وذلك كله لترى يا موسى بعض معجزات الله الكبرى فتكون دليلاً لك أمام قومك على صِدقك في الرسالة.
وبعد ان زوّده بهذه المعجزات أمره بالذهاب الى فرعون الطاغية فقال:
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} .
اذهبْ الى الطاغية فرعون المتكبر، وادعُه الى الإيمان بالله الواحد الأحَد، فإنه تجاوز الحدَّ في كفره وطغيانه.
بعد هذا سأل موسى ربه بعض الأمور ليستعين على تبليغ رسالته فقال:
{قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي. . . .} .
لقد طلب من ربّه أربعةَ أمور: أن يشرح له صدره فلا يغضبَ بسرعة حتى يؤدي رسالته، ويسهّل له امره بأن يُمده بالعون والتوفيق لأداء ما كلّفه به، وان يطلق حُبْسَة لسانه حتى يستطيع تبليغ رسالته، ويُفهم الناس ما يقول.(2/407)
أما الطلب الرابع فهو ان يمده بأخيه هارون يكون نبياً معه يُعينه ويساعده، لأن هارون كان فصيحا، وليّنا رقيقا، ووسيما، بخلاف موسى الذي كان حادَ الطبع سريع الغضب. وهذه امور تعين الانسان على أداء اكبر مهمة تناط به.
ثم قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. . إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} .
إننا اذا تعاونّا على أداء الرسالة، بإمدادك لي بأخي، فلسوفَ ننزّهك عما لا يليق بك، ونذكُرك وحدك ابتغاء مرضاتك، لأنك تفضّلتَ علينا وكنت دائماً عليما بأحوالنا، ومتكفلاً بأمرنا.
قراءات:
قرأ ابن عامر: أشدد بهِ أزري بفتح همزة أشدد، وأشركه في أمري: بضم همزة أشركه، والباقون: اشدد بهمزة وصل، فعل امر، وأشركه: بفتح الهمزة.(2/408)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
سؤلك: مطلوبك. مننا: أنعمنا. أوحينا: ألهمنا. اقذفيه في التابوت: ضعي فيه. فاقذفيه في اليم: فألقيه في البحر. ولتُصنع على عيني: ولتتربى برعايتي. تقر عينها: تُسر به. وفتنّاك: اختبرناك. مدْين: ببلد في شمال الحجاز معروفة الى الآن.
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} .
بعد ان سأل موسى ربه فأطال السؤال، وبسط حاجته، وهو لا يزال في ذلك الموقف الكريم في ضيافة ربه - من عليه ربُّه وأجابه على سؤاله، قائلا: قد اعطيتُك ما سألتَ يا موسى. ولقد سبق ان تفضّلنا عليك بمنةٍ أخرى من قبل، وذلك حين ألهمنا أُمَّك إلهاماً كريما كانت فيه حياتك، ألهمناها ان تضعَك في التابوت، (وهو صندوق صغير) ثم تلقي به في النِّيل، حتى تنجو أنتَ من فرعون، لأنه يقتل كُلَّ ذكر يولد في بني اسرائيل. وشاءت إرادتُنا أن يلقي النيل ذلك التابوت في بستانٍ لفرعون، عدوّي وعدّوك. وبينما فرعون جالس في ذلك البستان مع زوجته إذا بالتابوت يجري به الماء، فأمر فرعونُ غلمانه بإخراجه. وفتحوه، فإذا فيه صبي لطيف. فأحبّه فرعون، وأمر ان يكون تحت رعايته.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} .
وجعلتُ كل من رآك يُحبّك، ومن ثم أحبَّك فرعونُ وزوجته حتى قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9] . وحتى تتربَّى برعايتي وكما أُحبّ.
ورحمةً بأُمك، هيَّأتُ الظروف حتى جمعتُك بها، وكانت أُختك تمشي متتبّعةً التابوت حتى علمتْ أينَ ذهب. فجاءت متنكَرة الى قصر فرعون حيث وجدتْهم يطلبون لك مرضعا، فقال: هل أدلُّكم على من يرضعه ويحفظه ويربيه؟ قالوا: نعم، فجاءت بأُمك، ورجعتَ إليها حتى تفرحَ وتُسَرَّ وتقر عينُها بك، ويزول عنها الحزن والقلق عليك.
وكنتَ قد قتلتَ نفساً من أهل مصر فنجّيناك مما لحقَكَ من الخوْفِ والغم، كما جاء في سورة القصص 15: {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} وهذا كما يأتي في سورة القصص: حين كبر وشبّ في قصر فرعون، ونزل الميدنةَ يوماً فوجد فيها رجلَين يقتتلان: أحدُهما من شيعته والآخر من شيعة فرعون، فاستغاثه الّذي هو من شِيعته، فوكز موسى المصريَّ بيده فسقط ميتاً. ولم يكن موسى ينوي قتله، فاغتمّ لذلك فهربَ الى مَدْيَن، وهذا معنى قوله تعالى:
{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} .
اختبرناك اختباراً شديداً بالغُربة ومفارقة الأهل والوطن. وامتُحن بالخدمة ورعي الغنم، وهو ربيبُ القصور عند الملوك، وجازَ الامتحانَ ونجحَ في كل عمل عمله.
{فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى (*) واصطنعتك لِنَفْسِي} .
ونجّيناك من الهمّ الذي لحق بك فذهبتَ الى مدين. وهناك لقيتَ شُعَيْب وتزوّجت ابنته على شرط ان ترعى له الغنم مدة، وأمضيتَها على أحسنِ حال، ثم عدتَ من مدين في الموعد الذي قدرناه لإرسالك، وقد اصفيتك لنفسي وحملِ رسالتي. وفي هذا تشريف كبير لموسى عليه السلام.(2/409)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
آياتي: المعجزات، منها العصا واليد البيضاء. لا تنيا: لا تقصرّا، لا تفترا. في ذكري: في تبليغ رسالتي. قولاً لينا: كلاما لطيفا لا عنف فيه ولا خشونة. ان يفرط علينا: ان يعجّل علينا بالعقوبة. والسلام على من اتبع الهدى: السلامة من العذاب لمن آمن وصدق.
بعد ان أجاب الله موسى ما سأله، شرع الكتابُ الكريم يذكر الأوامر والنواهي التي طلب اليه الله ان يقوم بتنفيذها ويؤدي الرسالة على اكمل وجه.
اذهبْ انت وأخوك الى رفعون، مؤيدّين بمعجزاتي التي زودتك بها: العصا واليد البيضاء، وغيرها، كما قال تعالى في الآية 101 من سورة الإسراء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ولا تتهاونا في تأديه الرسالة التي حمَّلتكم إياها.
إذهبا الى فرعون معاً وبلِّغاه الرسالة، لأنه طغى وتجبرَّ حتى ادّعى الربوبية {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] . وكثيراً ما يخُصُّ فرعونَ بالدعوة لأنه كان متجبرا متألِّهاً، فلو أنه استجابَ للدعوة لآمنَ قومُه جميعا.
ثم أرشدهما كيف يتكونُ دعوتُهما لفرعون بقوله:
{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} .
فكِّلماه بكلامٍ رقيق لين، ليكون أوقعَ في نفسه، لعلَّه يجِيب دعوتكما الى الإيمان، ويخشى عاقبة كفره وطغيانه.
قال موسى وهارون متضرّعَين الى الله: يا ربّنا، إننا نعرف هذا الجبّارَ المتكبر، ونخشى ان يبادرَنا بالأذى والعقوبة، او يزدادَ طغياناً وكفرا.
وهنا يشجّعهما الله تعالى، بأنه معهما. لا تخافا من فرعون، إنني معكما بالرعاية والحفظ، أسمعُ لكل ما يجري في هذا الكون، وأُبصر ما يفعل فرعونُ وغيره، فلا يستطيع ان يُلحق بكما أذى.
اذهبا إلى فرعون فقولا له: إننا رسولان إليك من ربك، جئنا ندعوكَ الى الإيمان به، وسنألك ان تُطلق بني إسرائيل من الأسر والعذاب. وقد أتيناكَ بمعجزةٍ من الله تشهد لنا بصدق ما دعوناك اليه، {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} .
والسلامةُ والأمنُ نم العذاب على من اتبع رسُلَ ربه، واهتدى بآياته التي ترشد الى الحق.
وان الله قد اوحى الينا ان عذابه الشديد واقع على من كذّبنا واعرض عن دعوتنا.(2/410)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
اعطى كل شيء خلقه: اتقن خلْق كل شيء واعطاه صورته وشكله. ثم هدى: ثم عرّفه كيف ينتفع بما أثعطي له. ما بالُ القرون الاولى: ما حال هؤلاء الماضين. لا يضل: لا يخطىء. مهداً: ممهدة كالفراش. وسلك لكم فيها سبلا: سهل لكم فيها طرقا. ازواجا: اصنافا. شتى: مختلفة النفع والطعم واللون. لأولي النهى: لأصحاب العقول، مفردها: نُهْية.
ذهب موسى وهارون إلى فرعون. وتقول الرواية عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى باب فرعون اقاما مدّةً لا يُذون لهما، ثم أُذِن لهما بعد حجاب شديد، فدخلا ودار بينهما من الحوار ما قصَّه ربنا علينا.
قال فرعون وهو جالس في طغيانه وجبروته: مَن ربكمن الذي أرسلكما يا موسى؟ قالا: ربنا الذي منح نعمةَ الوجود لكل موجود، وأودع في كل شيء صفاتِهِ الخاصة، وخلَقَه على الصورة التي اختارها سبحانه له. {ثُمَّ هدى} ثم أرشده ووجَّه لما خُلق له.
فقال فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذه الإله: وماذا جرى لها؟ فاجابه موسى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} .
ان عِلْمَ هذه القرون عند ربّي، وهي من علوم الغيب، وهي مسجَّلة لديه في كتاب لا يغيب عن علمه شيء منه، ولا ينساه.
ثم عاد الى تتميم كلامه بإبراز الدلائل على الوجود فقال:
{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً. . . .} .
انه هو الإله المتفضّل على عباده بالوجود والحفظ، مهَّد لكم الأرضَ فبسطها بقدرته وجعلها لكم كالفراش، وشقّ لكم فيها طرقاً تسلكونها. وأنزلَ المطر عليها تجري به الأنهار فيها، فأخرج أنواعَ النبات المختلفة في ألوانها وطعومها ومنافعها.
وقال لخلقه يوجِّههم الى الانتفاع بما أخرج من النبات، كلوا منها، وارعوا أنعامكم. إن في هذا الخلْق والإبداع والإنعام به دلائلَ واضحة، يهتدي بها أصحابُ العقول الى الايمان بالله ورسالاته.
ثم بين سبحانه أن هذه الدنيا ومن عليها دارُ ممر، وان هناك حياةً أخرى هي الحياة الدائمة فقال:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} .
من تراب هذه الارض خلقَ الله آدم وذريته، وإليها يردّهم بعد الموت، ومنها يُخرجهم أحياء مرة اخرى للبعث والجزاء.
ولقد أرينا فرعون على يد موسى المعجزاتِ البينة المؤيدةَ لرسالته وصِدقه في كل ما اخبر به عن الله، ومع هذا كله تمادى فرعون في كفره، وكذّب بكل ما رأى ولم يؤمن.
قراءات:
قرأ الكوفيون: مهدا. والباقون: مهادا بالجمع.(2/411)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
سُوى: مستوى من الارض. يوم الزينة: يوم عيدٍ كان لهم. يُحشر الناس: يجمعون فيه. فجمع كيده: ما يكيد به من السحرة وادواتهم. ويلكم: هلاك لكم. فيسحتكم: يستأصلكم بعذاب شديد. وأسرّوا النجوى: بالغوا في اخفاء كلامهم. بطريقتكم المثلى: بدينكم الصحيح. فأجمعوا كيدكم: اجعلوا كيدكم مجمَعاً عليه. صفّا: مصطفين. استعلى: غلب.
فلما رأى فرعونُ ما عند موسى من الحجج والآيات اتهم موسى بالسِّحر وانه يريد بسحره اخراجه وقومه من أرضه، ويجعلها في يد بني اسرائيل، وقال ذلك ليحمِّس شعبه ويحملَهم على السخط على موسى، فلا يتبعه أحد منهم.
ثمقال: فوالله لنأْتينَّك بسحرٍ مثلِ سحرك، فاجعلْ بيننا وبينك موعدا نجتمع فيه نحن وأنتم، فنبطلَ ما ئجتَ به بما عندنا من السِّحر، ولا يتخلَّفَ من اأحد عن ذلك الموعد في مكانٍ مستوٍ مكشوف حتى يحضُرَه اكبرُ عددٍ من الناس.
قال موسى: ميعادُكم للاجتماع يوم عيدكم الذي تسمّونه يوم الزينة، فيجتمع الناس في ضحى ذلك اليوم، ليكون الحف عاماً، وليشهدَ الناس ما يكون بيننا وبينكم.
فانصرف فرعون من ذلك المجلس، وأمر بجمع أعظم السحرة، وأشرفَ بنفسه على جمْعِ كل وسائل السحر وأدوته. ثم أقبل في الموعد المحدد، وجلس على سرير ملكه وحوله اكابر دولته وأعوانه، واجتمع الناس ينتظرو، ز وجاء موسى يتوكأ على عصاه ومعه اخوه هارون وحدَهما لا سند لهما ولا نصير الا الله يسمع ويرى.
ووقف موسى وحذر السّحرة {قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} .
لا تختلقوا على الله الكذب، بزعمكم أن فرعون إله، وتكذِّبوا رسلَ الله، فإن فعلتم استأصلكم الله بعذابٍ شديد، وقد خابَ من افترى على الله الكذب.
فلما سمع السحرةُ كلامَ موسى هاجوا وذُعروا، فتشاوروا فيما بينهم ماذا يفعلو، وبالغوا في كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يُقال عنهما.
ثم يبن الله خلاصة ما استقرّت عليه آراؤهم بعد التشاور السّريّ الذي خاضوا فيه.
{إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ. . . .} .
إن هذا الرجلَ وأخاه ساحران خبيران بصناعة السِحر، وهما يعملان على إخراجكم من أرضكم، حتى تكون الرياسةُ لهم دونكم.
ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم فقالوا:
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} .
اجعلوا ما تكيدون به موسى أمراً متفقاً عليه، ثم احضُروا مصطفّين مجتمعين، وألقوا ما في أيديكم دفعةً واحدة، لتكون لكم في نفوس الناسِ الهيبةُ والغلبة، وقد فاز اليومَ من غلب.
قراءات:
قرأ ابن عمر وعاصم وحمزة ويعقوب: يومُ الزينة بضم ميم يوم. والباقون: يوم الزينة بنصب الميم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب: فيُسحتكم: بضم الياء وكسر الحاء والباقون: فيَسحَتكم: بفتح الياء والحاء. وقرأ ابو عمرو: ان هذين لساحران، بتشديد ان ونصب هذين. وقرأ نافع وحمزة والكسائي، وابو بكر عن عاصم: ان هذان لساحران.
باسكان نون ان. وقرأ ابو عمرو وحده: فاجمعوا كيدكم، بهمزة الوصف واسكان الجمي. والباقون: فأجمعوا كيدكم: بهمزة القطع.(2/412)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
فأَوجسَ في نفسه خيفةً: أحسن بالخوف. انت الاعلى: المنتصر. ما في يمينك: هي العصا. تلقف ما صنعوا: تبتلع كل حبالهم وعصيّهم. حيث اتى: اينما كان. انه لكبيركم الذي علّمكم السحر: ان موسى لَزعيمكم الذي علّمكم السحر. من خلاف: وذلك ان تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلا. لن نُؤْرك على ما جاءنا: لن نفضلك على الايمان الذي حصلنا عليه. فَطرنا: خلقنا. فاقض ما انت قاض: اعمل ما تريد. تزكى: تطهر.
بعد ان اتفقوا على الموعد وهو يومُ الزينة، جاؤا مصطفين مستعدّين أتم استعداد وسألوا موسى وخيّروه بين أن يبدأ فيُلقي عصاه، او يكونوا هم البادئين.
قال موسى: بل ابتدئوا، ألقوا ما عندكم. فالقوا حِبالهم وعصَّيهم فاذا هي افاعٍ تسعى.
وخُيّل لموسى أنها حقيقة من شدة سحرهم، واحس بالخوف لِما رآه من أثر السحر. فأدركه الله بلطفه فأوحى اليه قائلا: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} لا تخشَ شيئا، إنك انت الغالب المنتصر على باطلهم. ألقِ العصا التي بيمينك فإنها تبتلع ما زوّروا من السحر، فليس الذي فعلوه إلا كيد ساحر. وكانت صنعة السحر هي الغالبة في ذلك الزمان، وكانوا يضعون الزئبق بطريقة خفية في الحبال والعصي، فعندما تتأثر بحرارة الشمس (وجوُّ مصرَ حارٌّ) تضطرب الحبال وتتحرك فيظنُّ من يراها أنها تسعى.
فلا تخفْ يا موسى، فالساحر لا يفلح امتثل موسى أمر ربه، والقى عصاه فاذا هي حيذَة تسعى. بل إنها اخذت تلقف ما زوّروه من حبال وعصي وتبتلعها. فلما رأى السحرة تلك المعجزة آمنوا بموسى وربه وسجدوا لله قائلين: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} وعلموا أن ما جاء به موسى ليس سحرا.
وقال رئيس السحرة: كنا نغلِب الناسَ بالسحر، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه من حبال وعصي، أي ذهبت؟ ما هذه العصا الصغيرة التي تأكل كل ما عندنا؟ ان هذا ليس سحرا، انما هو شيء آلهي خارق للعادة؟ ولذلك آمنوا وخرّوا ساجدين.
قال صاحب الكشّاف: سبحان الله، ما أعجبَ أمرهم، قد القوا حبالهم وعصيَّهم للكفر الجحود، ثم ألقوا رؤوسَهم ساعةٍ للشكر والسجود!! وقال ابن عباس رضي الله عنهـ: كانوا اول النهار سحَرة، وفي آخره شهداء بررة، لأن فرعون قتلهم.
ولما خاف فرعون أن يصير ايمانهم سبباً لاقتداء الناس بهم في الإيمان.
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} .
قال فرعون: كيف تؤمنون بهدون إذنٍ مني؟ إنكم تلاميذُ موسى في السحر وهو كبيركم الذي علمكم إياه، وليس عمله معجزةً كما توهمتم.
ثم هددهم بالقتل والتعذيب تحذيراً لغيرهم من الاقتداء بموسى وهارون: فقال:
{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} .
وأقسم إني لأقطعنّ من كل واحدٍ منكم يدَه ورجلَه المتختلفتين، يده اليمنى، ورجله اليسرى.(2/413)
ولم يكتفِ بذلك بل قال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} . زيادة في التعذيب والإيلام، وتشهيرا بهم. ولاجعلنكم مُثْلَةً يتعجّب منها الناس.
ثم يزيد استعلاء بقوته وجبروته فيقول: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} .
وسوف ترون من هو الذي يكون أشدَّ عذاباً، انا، أم آله موسى وهارون؟
لم يكن يعلم أنه فاتَ الاوان، وان الإيمان قد بلغ ذِروتَه في قلوبهم، وهانت عليهم نفوسُهم في الله، فلن يأبهوا لوعيده وتهديده، فأجابوه مطمئين:
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا} .
اراد فرعون من السحرة ان يرجعوا عن إيمانهم، فثبتوا عليه، ودفعوا تهديده بقولهم: لن نختارك على ما جاءنا من الهدى، وعلى خالِقنا الذي فطرنا وانشأَنا من العدم.
{فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ. . .}
افعل ما تريد، إن سلطانك وحكمك لا يتجاوز هذه الحياة الدنيا.
آمنّ بربنا الحق، ليغفرَ لنا ما سلف من الخطايا، وعن ممارسة السحر الذي أكرهَتنا على تعلُّمه والعملش به.
{والله خَيْرٌ وأبقى}
خيرٌ منك يا فرعون ومن ثوابك، وأبقى منك سلطانا وقدرة.
ثم ختم السحرة كلامهم بهذه الآيات التي تبيّن حال المجرمين، وحال المؤمنين يوم القيامة وم ينتظر كلاً منهم.
{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} .
إن من يلقى الله وهو مجرم بكفره يكون مصيره الى جهنم لا يموت فيها فينتهي عذابه، ولا يحيى حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم.
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} .
أما من يلاقي ربه على الإيمان وصالح الاعمال، فله المنازل الرفيعة، والدرجاتُ العالية.
ثم فسر تلك المنازل والدرجات بقوله:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ مَن تزكى} .
تلك المنازل هي جنات الاقامة الدائمة، في نعيمٍ خالد، تجري بين اشجارها الأنهار، وذلك الفوز الذي أوتوه جزاءٌ لمن طهّر نفسه من الكفر بالايمان الطاعة والاعمال الصالحة.
قراءات:
قرأ حفص: تلقفْ بفتح القاف وسكون الفاء. وقرأ ابن عامر: تلقّفُ: بتشديد القاف ورفع الفاء. والباقون: تلقف: بتشديد القاف وسكون الفاء. وقرأ حمزة: كيد سحر. والباقون كيد ساحر. قرأ حفص وابن كثير وورش: أمنتم، فعل ماض على انه خبر. وقرأ الباقون: أآمنتم بهمزتين.(2/414)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
أسرِ بعبادي: سر بهم ليلا. اضرب لهم طريقا في البحر يَبَسا: افتح لهم طريقا يابسا لا ماء فيه. لا تخاف دَرْكا: لا تخاف ان يلحقك احد. دركا: لَحقا. فغضيهم من اليم ما غشيهم: فغمرهم من البحر ما علاهم. واضلّ فرعونُ قومه: صرفهم عن طريق الرشد والهداية. ولا تطغوا فيه: لا تأخذوه من غير حاجة اليه. هوى: سقط.
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي. . . الآية} .
لم يذكر في هذه السورة ما الذي حصل بعد مواجهة موسى لفرعون وقومه حيث آمن السحرة وبنو اسرائيل (ولقد فصّل ذلك في سورة اخرى) وانما انتقل الكلام هنا الى الهجرة والنصر الكبير الذي حصل عند عبور البحر وغرقِ فرعون وجنوده. ثم أتبع ذلك بتعدادِ نعمه على بني اسرائيل، وذكّره بأن يكونوا معتدلين فلا يأتوا أعمالاً توجب غضبه، وانه غفار لمن تاب وآمن.
وأوحى الله الى موسى ان يخرج ببني إسرائيل ليلا، وان يشقّ لهم طريقا في البحر، وطمأَنه ان لا يخاف من فرعون فإنه لن يدركهم.
وضرب موسى بعصاه البحر، فانشق شقَّين، كل جانب كأنه طودٌ عظيم كما جاء في سورة الشعراء {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} ، واجتازه موسى ومن معه.
وتبعهم فرعونُ وجنوده، ودخلوا الطريق نفسها فانطبق عليهم الماء، وغشيَهم من اليمّ ما غشيَهم، وغرقوا جميعا. هكذا اضل فرعون قومه عن الحق، وغرّر بهم فهلكوا.
ثم عدد الله نعمه عليهم فقال:
{يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ. . .} .
لقد أنجيناكم من عدوّكم فرعونَ وجنودِهِ حين كانوا يسومونكم سوءَ العذاب، وقد أقرّ الله أعينكم بغرقِهم وأنتم تنظرون، كما قال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50] .
{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} .
وواعدناكم جانب الطور الأيمن بمناجاةِ موسى لربه وإنزال التوراة عليهم، ونَزَّل عليكم المنَّ والسلوى رزقاً طيباً من الحلو ولحم الطير الشهي. وقلْنا لكم: كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم، ولا تطغوا فيه: لا تظلموا وتبطَروا فتركبوا المعاصي ولا تُسرفوا بل عيشوا في هذه النعم، حتى لا ينزل عليكم غضبي، ومن ينزل عليه فقد هلك.
وإني لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب عن شِركه، ويقلع عن ذنبه، ويخلص في العمل، ويؤدي فرائضي. فهذه أربعة شروط كاملة تتحقق بها التوبة الحقيقية.
قراءات:
قرأ الجمهور: قد انجيناكم، وواعدناكم بنون الجمع. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: قد أنجيتك من وواعدتكم، وقرأ الجمهور: «ما رزقناكم» بنونالجمع، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: «ما رزقتكم» بتاء المفرد.
قرأ حمزة: لا تخف دركا. والقاون: لا تخاف دركا. وقرأ الكسائي: فيحلّ عليكم غضبي: بضم الحاء، ومن يحلل عليه غضبي: بضم اللام. والباقون: بالكسر فيحِل، ومن يحلِل عليه.(2/415)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
ما أعجلك عن قومك: لماذا تركت قومك، فلقد غيروا وبدلوا بعدك. على اثري: لاحقون بي. فتنّا قومك: اختبرناهم. وأضلّهم: اوقعهم في الضلال. السامريّ: دجال من شعب اسرائيل. أسِفا: حزينا. فاخلفتم موعدي: ما وعدتموني من الثبات على الايمان. بملكنا: بقدرتنا واختيارنا. اوزارا: اثقالا. من زينة القوم: من حليهم ومصاغهم. فقذفناها: طرحناها في النار. جسدا: جثة لا روح فيها. له خوار: لو صوت.
{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} .
سأله ربه عن سبب تعجُّله بالمجيء إليه وتركِ قومه خلفه، والله اعلم بما سأل. فقال موسى مجيبا:
{قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} . انهم لاحقون بي، وإنما عجِلتُ إليك وتقدمتُهم يا ربي رغبةً في رضاك.
يقول بعض المفسرين: ان موسى ذهب الى الميعاد قبل الوقت المحدد وترك قومه وراءه ليلحقوا به، وهذا سببُ لومِ ربه له على الاستعجال بالمجيء.
والقصة هنا مختصرة، وقد مرت مفصلة في سورة البقرة وسورة الأعراف، وذلك ان موسى لما نجا هو وقومه من فرعون، واستقر في سيناء، واعَدَه ربه، وضرب له ميقاتا كما جاء في سور الاعراف 142 {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ. . . . الآية} فذهب إلى ربه عند الطور، وكلّمه وتلقّى عنه. وكان استخلف أخاه هارون على بني اسرائيل. فجاءهم السامريّ وأضلهم بجعلِه لهم عِجلاً من الذهب له صوتٌ، فعكفوا عليه يعبدونه، ولم يستطع هارون ان يردّهم عن غيّهم وكفرهم. وقد اخبره ربه بأن قومه من بعده قد ضلّوا فقال:
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري} .
لقد أوصلهم الى اتخاذ العجلِ إلهاً والدعاء الى عبادته، وظهر عندهم الاستعداد لذلك، لأنهم حديثو عهد بالوثنية في مصر. وفي سورة الاعراف سألوا موسى ان يجعل لهم إلها كما للقوم الذين مرّوا عليهم آلهة: {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .
{فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} .
عاد موسى الى قومه بعد ان قضى الميعاد وهو في غضبٍ شديد وحزنٍ لِما أحدثوه بعده، وخاطب قومه منكِرا عليهم عملهم:
{قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} .
لقد وعدكم ربكم بالنجاة والهداية بإنزال التوراة، والنصر، فهل تناسيتُم وعدَ ربكم؟ .
{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد} .
لم يطل عليكم العهدُ حتى تنسوا وعد الله لكم، أم أردتم بسوء صنيعكم ان ينزل بكم غضبُ الله جزاء عبادتكم العجلَ، فأخلفتم عهدَكم لي!!
فاعتذروا بعذرٍ عجيب إذ قالوا: {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} .
نحن لم نخلفْ موعدك باختيارنا، {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا} وإنّما غَلَبَنا السامريّ وحملنا أثقالاً من حَلي المصريين الذي خرجنا به، فقذفناها في النار بإشارة السامريّن فصاغ لنا عجْلاً جسدا له صوت.(2/416)
{فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} .
قال السامري ومن تبعه: هذا معبودُكم ومعبود موسى، ونسيَ السامري ربَّه فعمل هذا العمل السّيء وأضلَّ به القوم.
وقال عدد من المفسرين: نسي موسى الطريق الى ربه وضلّ عنه، وهذا غير واضح. وتكلم المفسرون في السامري كلاماً طويلا، عن أصله، واسمه وهل هو من بني اسرائيل او هو قبطي. وهذا كله كلام طويل لا طائل تحته. والسامري يهودي من بني اسرائيل دحّال.
ثم ردّ عليهم الله سبحانه مقبّحاً افعالهم، مسفِّهاً أحلامهم بقوله:
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} .
افلا يعتبرون ويتفكرون في ان هذا العِجل لا يتكلم ولا يردّ على اقوالهم، وانه لا يستطيع ان يدفع عنهم ضرراً، ولا ان يجلب لهم نفعا، فكيف يتخذونه إلهاً! وتقدير الكلام: أفلا يرون انه لا يرجعُ اليهم قولاً.
وليس اتخاذ العجل من الذهب إلهاً بغريب على اليهود، فإنهم عبيد الذهب والمادة منذ خُلقوا. ومن يقرأ التلمود يجد العجائب في استحلال كل شيء في سبيل المال والحصولِ عليه، فهم يحلّلون كل وسيلة في أخذ المال من غير اليهود لأن كل ما في الارض لهم وحدهم.
قراءات:
قرأ الجمهورك على أثري بفتح الهمزة. وقرأ رويس عن يعقوب: على إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء. قرأ نافع وعاصم: بملكنا بفتح الميم. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابو عمرو ويعقبو: بملكنا بكسر الميم. وقرأ حمزة والكسائي وخلق: بملكنا بضم الميم وهي ثلاث لغاة. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: حملنا بضم الحاء وتشديد الميم المكسورة. وقرأ ابو بكر وحمزة وابو عمرو والكسائي: حملنا بفتح الحاء والميم مخففة بدون تشديد.(2/417)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
انما فتنتم به: اتبعتم اهواءكم في عبادة العجل. لن نبرح عليه عاكفين: لا نزال عليه مقيمين. ولم ترقب قولي: لم تحفظ وصيتي ولم تعمل بقولي. فما خطبك: فما شأنك. بصرُت بما لم يبصروا به: علمت ما لم يعلمه القوم. قبضة من اثر الرسول: الرسول جبريل او موسى. فنبذتها: فطرحتها. سولت نفسي: زينت وحسنت. لا مساس: لا مخالطة، فلا يخاطله احد، فعاش وحيدا طريدا. لن تخلفه: سيأتيك حتما. ظلت: ظللت، اقمت. اليمّ: البحر.
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ. . .} .
في هذه الآيات تتمةٌ للقصة، فقد نصح هارونُ لقومه الذين عبدوا العِجل قبل رجوع موسى، فقال لهم: يا قوم، ما الذي غركم من عبادة هذا العجل فوقعتم في فتنة السامري؟ إن إلهكم الحق هو الرحمن، فاتبعوني فيما أنصحكم به واطيوني أهدِكم سبيل الرشاد. فلم يسمعوا نصحة، ولم يطيعوا أمره وأجابوه بعناد:
{قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} .
سنبقى مستمرّين على عبادة العجل الى أن يعود إلينا موسى.
وجاء موسى: فالتفت الى أخيه هارون بعد ان فرغ من خطاب قومه وبيان خطأهم. {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} .
قال موسى متأثرا مما رآه من عمل قومه: يا هارون، اي سبب منعك ان تلحقني الى الطور بمن آمنَ معك من قومك، حين رأيت الباقين قد ضلّوا بعبادتهم للعجل؟ أخرجتَ عن طاعتي وخالفت امري؟ . فقال هارون مجيباً أخاه في رفق ولين:
{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} .
قال هارون لموسى: يا ابن أمي، لا تغضبْ عليّ ولا تجرَّني بلحيتي، ومن شعر رأسي. لقد خفتُ إن شددتُ عليهم ان يتفرقوا، فتقول لي: لقد فرّقت بين بني اسرائيل، ولم تخلُفْني فيهم كما أمرتُك، ولم تحفظ وصيتي كما عهدت اليك. وقد رأيت من الصواب ان أحفظ العامة، وأداريهم على وجه لا يختلّ به نظامهم حتى ترجع فنتداركَ الأمر بحسب ما ترى. ولقد كادوا يقتلونني، كما جاء في سورة الأعراف الآية 50 {إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي.} وبعد ان انتهى موسى من سماع اقوال قومه واسنادهم الفساد الى السامري، ومن سماع اعتذار هارون، التفت الى السامري ووجه الخطاب اليه:
{قَالَ: فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} .
ما هذا المر الخطيب الذي أتيتَ، وأفسدتَ به بني اسرائيل؟ . {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} .
قال السامري لموسى: إني علمتُ ما لم يعلمه قومك، وصنعتُ لهم العِجل من الذهب فعبدوه. وقد اتّبعتُك مدةً واخذتُ من دينك، ثم تبيّن لي أنه غير صحيح فتركته.(2/418)
كذلك زينتْ لي نفسي أن أفعلَ ما فعلته.
فكأن السامريّ يريد ان يهرب نم ذكر الحقائق ويموّه على موسى.
هذا ما أراه أقرب الى الصواب في تفسير هذه الآية، وبهذا المعنى قال عدد من المفسرين المحديثن، ولكن اكثر المفسّرين القدامى قالوا: إن المراد بالرسول هو جبريل، وان السامريّ رآه راكبا على فرس، واخذ ترابا من أثرِ الفرس، وألقاه على العِجل حتى صار له خوار. وذكروا أقوالا كثيرة، وروايات عديدة.!!
وهناك معركة كبيرة بين المرحوم عبد الوهاب النجار، ولجنة من علماء الأزهر حول السامري والعجل وحقيقتهما، لمن اراد الاطلاع عليها ان يجدها في كتاب «قصص الانبياء» ص 220 - 223.
{قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ. . . .} .
قال موسى للسامري: اذهبْ فأنت طريدٌ لا يمسّك أحد، ولا تمس أحداً، بعيداً عن الناس، معزولا عنهم، لا يخالطك احد.
وخرج السامري طريدا في البراري. هذا جزاؤه في الدنيا. أما في الآخرة فله موعدٌ محدد لعذابه لا مفرّ منه. وقد ند موسى به وبالهه قائلا: انظر الى إلهك الذي عبدته، ماذا نصنع به؟ سنحرقه ونلقيه في البحر حتى نتخلّص منه.
ثم يعلنُ بعد ذلك كلّه حقيقة العقيدة، والدين الحق فيقول:
{إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .
وبهذه الآية وما فيها من غعلان عن الاله الحقيقي الذي لا اله الا هو ينتهي هذا القدْر من قصة موسى في هذه السورة، وتتجلى فيه رحمةُ الله ورعايته بحَمَلِة دعوته من عباده.
قراءات:
قرأ الجمهور: يا ابن أمّض بفتح الميم. وقرأ ابن عامر وحمزية والكسائي وابو بكر وخلف: يا ابن أُم بكسر الميم.
وقرأ الجمهور: بصرت بما لم يبصروا: بالياء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بما لم تبصروا بالتاء، على انه خطاب لموسى وقومه. وقرأ الجمهور: لن تخلفه: بفتح اللام. وقرأ ابن كثير ويعقبوك لن تخلفه: بكسر اللام.(2/419)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
ذِكراً: القرآن. ومن اعرض: من كذب. وزرا: حملا، وقد فسره في الآية التي بعدها. الصور: قرن ينفخ فيه ويدعى لاناس الى المحشر. زرقا: الوانهم متغيرة. يتخافتون: يتحدثون بصوت خفي. أمثلهم: افضلهم. ينسفها: يجعلها كالغبار. يذرُها: يتركها. قاعا: ارضا ملساء. صفصفا: مستوية. عِوجا: انخفاضا. امتا: نتوءا يسيرا. لا عوج له: مستقيم. همسا: صوتا خفيا. عنت: خضعت، ذلّت. القيوم: القائم بتدبير الأمور. هضما: نقصا، بخسا.
بعد ان ذكر الله تعالى قصص موسى مع فرعون ثم السامريَّ وفتنته، بيّن للرسول الكريم في هذه الآيات ان مثل هذا القصص عن الأمم الماضية يلقيه سبحانه وتعالى إليه تسلية لقلبه وإذهابا لحزنه حتى يعلم ان ما يحدث له قد حدث مثلُه للرسل من قبله.
{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} ان من كذّب بهذه القرآن واعرض عن اتّباعه، فانه يضل في حياته، ويأتي يوم القيامة حاملاً إثم عناده، ويجازَى بالعذاب الشديد. وسيكون هؤلاء خالدين في ذلك العذاب.
{وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} .
بئس الحمل الي حملوه من الأوزار في ذلك اليوم العصيب. ذلك اليوم الذي يُنفخ فيها بالصور، ويُساق المجرمون الى المحشَر زُرق الالوان، يرهق وجوهَهم الذلّ، يتهامسون بينهم من الرعب، ويقول بعضهم لبعض ما لبثتم في الدنيا إلا عشرةَ أيام.
والله يسمع تهامسهم وهو أعلمُ بما يقولون بينهم، كما يعلم ما يقول أعدَلُهم رأياً واكملهم عقلا: ما لبثتم إلا يوما واحدا.
ويسألك المنكرِون للبعث ايها الرسول عن مصير الجبال يوم القيامة، فقل لهم: ان الله تعالى يفتّتها، ثم ينسِفها هباء.
اخرج ابنُ المنذر عن ابن جريرج قال: قالت قريش يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال. . . .} .
ثم بعد ذلك يدع أماكنها بعد نسفِها ملساءَ مستوية، ولا تبصِر العين في الأرض انخفاضا ولا ارتفاعا، وكأنها لم تكن معمورة من قبل.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ} .
يومئذ يرى الناس هذه الاهوال، يتّبعون داعي الله الى المحشر، يجمعهم فيه الى موقف الجزاوء والحساب، ولا يستطيع احد ان يعدل عنه.
{وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن. . .} .
بالسكون والرهبةِ لعظَمة الله، فلا تسمع إلا صوتاً خفيّا لا يكاد يبين.
يومئذ لا تنفع الشفاعة من أحد، الا من أكرمه الله فأذِن له بالشفاعة، ورضي قولَه فيها، ولا تنفع الشفاعة في أحد الا من أذِن الرحمن في ان يُشفع له.
والله تعالى يعلم ما تقدّم من امورهم في دنياهم، وما يستقبلونه في الآخرة، ولا يحيطون علماً بتدبيره وحكمته.
وكما ذكر سبحانه وتعالى خشوع الاصوات أتبعَه خضوعَ ذويها فقال:
{وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} .(2/420)
استسلمت الخلائق لخالقها الحيّ الذي لا يموت، القائم على خلقه بتدبير شئونهم. في ذلك اليوم خسر النجاة كل من ظلم نفسه في الدنيا فأشرك بربه.
وبعد ان ذكر أهوال يوم القيامة بيّن حال المؤمنين في ذلك اليوم فقال:
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} .
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وجاؤا ربَّهم في ذلك اليوم، فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته، لا يخافون من ظلمٍ ولا نقصٍ لحقوقهم. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] .
قراءات:
قرأ الجمهور: يوم ينفخ في الصور بالياء، وقرأ ابو عمرو وحده: ننفخ بالنون. وقرأ الجمهور: فلا يخاف ظلماً ولا هضما: بالياء. وقرأ ابن كثير: فلا يخف بالجزم.(2/421)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
صرفنا: كررنا وفصلنا. ذكرا: عظمة وعبرة. لا تضحى: لا تبرز للشمس، ولا تتعب. طفقا يخصفان: شرعا يلزقان ورق الجنة. غوى: ضل. اجتباه: اصطفاه وقربه.
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً. . . .} .
وكما انزلنا ما ذُكر من البيان الحق الذي سلف في هذه السورة، كذلك أنزلنا القرآن كلَّه بأسلوب عربي واضح، وصَرَّفنا فيه القول في أساليب الوعيد ليجتنبوا الشِرك والوقوعَ في المعاصي، او يتذكروه غذا اذنبوا فيتوبوا الى الله ويسألوه العفو.
{فتعالى الله الملك الحق. . .} .
تقدّس الله المتصرفُ بالأمر والنهي، المحقُّ في أُلوهيته وعظمته. ولا تَعْجَلْ يا محمد بقراءة القرآن من قبلِ ان يُتمَّ جبريلُ تبليغه اليك. أَنصِتْ حين نزول الوحي بالقرآن عليك، حتى يفرغ المَلَكُ من قراءته، ثم اقرأه بعده.
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
بالقرآنِ ومعانيه وكل شيء. وهذا يدل على فضيلة العلم، فان الله تعالى لم يأمر رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ولقد قام الاسلام على العلم والتعلم من بدايته، وبالعلم سيطرت الأمم المسيطِرة في الوقت الحار، ولو أننا اتّبعنا القرآن حق اتباعه لكنّا اليومَ في الذروة من كل شيء.
وسبب نزول هذه الآية ان الرسول الكريم كان اذا لقَّنه جبريلُ الوحي، يتبعه عند تلفظ كل كلمةٍ وكل حرف، لكمالِ اعتنائه بالتلقّي والحفظ، فأرشده الله الى التأني ريثما يسمعه ويفهمه. ونحوه قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19] .
روى الترمذي عن ابي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» اللهمّ انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزِدني علما، والحمدُ لله على كل حال، واعوذ باللهِ من حالِ أهل النار «
قراءات:
قرأ يعقوب: من قبل أن نقضي اليك وحيه. بفتح النون وكسر الضاد ونصب وحيه. والباقون: من قبل ان يُقضَى اليك وحيُه، بضم الياء ورفع وحيه.
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} .
بعد تلك الجولة الطويلة في قصة موسى، والعرضِ الموجز لأحوال القيامة وتذكيرِ الناس بأهوال ذلك اليوم العظيم، ثم ذكرِ القرآن وما فيه من وعيد ومن احكام، والأمر للرسول ان لا يعجل في تلقّيه خوف ان ينسى - يأتي الحديث هنا عن قصة آدم. فقد نسيَ آدمُ ما عهِد الله به اليه، وضَعُفَ أمام الإغراء بالخلود فاستمع لوسوسةِ الشيطان. وكان هذا ابتلاءً من ربّه قبل ان يعهد اليه بخلافة الأرض. ثم تداركت رحمةُ الله آدم فاجتباه وهداه.
ولقد وصينا آدم وقلنا له أن لا يخالف لنا أمرا، فنسي العهدَ وخالف، ولم نجدْ له ثباتا في الرأي، ولا تصميماً قوياً يمنع من ان يتسلل الشيطان الى نفسه بوسوسته.(2/422)
وكل هذا العرض بإجمال لأنه فصِّل في سورة البقرة والأعراف والحِجر والإسراء والكهف.
ثم بين الله تعالى ما عهد اليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى. . . .} .
اذكر ايها الرسول حين امرنا الملائكةَ ان يسجدوا لآدم سجودَ تعظيم، فامتثلوا ولبّوا الأمر، إلا ابليس الذي امتنع وأبى ان يكون من الساجدين.
فقلنا يا آدم ان هذا الذي رأيتَ منه ما رأيت عدوٌّ لك ولزوجتك، فاحذرا وسوستَه فلا يكونن سبباً إلخراجكما من الجنة فتشقى يا آدم بعد الخروج. إن في هذه الجنة عيشا هينئاً رغداً بلا كلفة ولا مشقة، فلا جوع فيها ولا عُري، ولا ظمأ ولا حر شمس.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان. . . .} .
بعد ان بين الله أنه عظّم آدم وعرّلإه شدة عداوة ابليس، ذكر هنا أن آدم أطاعَ إبليس، وأكلض من الشجرة المحرّمة عليه، لأن إبليسَ جاءه وقال له: هل أدلّك على شجرةٍ إن اكلتَ منها خلّدت ولم تمتْ أبدا!؟ فنسي آدم العهد وأكل هو وزوجته، وخالفا أمر ربهما، فظهرت لهما عوراتُهما جزاء مخالفتهما الأوامر الربانية، وصارا يقطعان من ورقِ شجر الجنّة، ويستران بها ما بدا منهما.
{وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} .
خالف آدم أمر ربه، فحُرِم الخلد، وأفسد على نفسه تلك الحياة الهنيئة التي كان يعيشها.
{ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} .
ثم ادركتْ آدمَ وزوجتَه رحمةُ الله بعد ما عصاه، فاصطفاه للرسالة، وقبل توبته، وهداه الى الخير.
قراءات:
قرأ نافع وابو بكر: (وإنك) لا تظمأ فيها، بكسر ان. والباقون: (وأنك) بفتح الهمزة.(2/423)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
معيشة ضنكا: معيشة ضيقٍ شديد. أعمى: أعمى البصيرة: فنسيتَها: فتركتها. وكذلك اليوم تُنسى: تترك. لأولي النهى: لذوي العقول. لزاماً: لازما لهم.
أمر الله آدم وزوجته ان يخرجا من الجنة، فقال لهما انزِلا منها الى الأرض، وأخبرَهَما بان العداوة ستكون بين ذريتهما، وان الله تعالى سيمدّهم بالهدى، فمن استقام واتبع الهدى منهم فإنه لا يضِلّ في هذه الحياة، ولا يشقى بالعذاب.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان قال: «من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» ومن أعرضَ عن هدى الله وطاعته، فإن له معيشةً ضيقة شديدة {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} أي أعمى البصيرة عاجزاً عن الحُجّة التي عيتذر بهان فيسأل ربَّه في هذا الموقف الحرج:
{قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} .
فيقول: يا ربّ، لِمَ حشرتَني أعمى عن حجتي وعن رؤية الاشياء على حقيقتها وقد متُ في الدنيا ذا بصرٍ بذلك؟ .
فيجيبه ربه بقوله: {. . . كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} .
لقد جاءتك آياتنا ورسُلنا في الدنيا فنسيتها، وتعاميتَ عنها، وكذلك اليوم تُترك وتنسى.
وهكذا نعاقِب في الدنيا من أسرفَ فعصى ربه ولم يؤمن به وبرسُله، وان عذاب الآخرة في النار أشدّ أَلما، واكثر بقاء، لأنه لا نهاية له.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} .
افلم يرشدْهم الى وجهِ العِبرَ، إهلاكُنا لكثيرٍ من الأمم الماضية قبلهم بسبب كفرهم، ولم يتّعظوا بهم مع أنهم يمشُون في ديارِهم ومساكنهم، ويشهدون آثار ما حلّ بهم من العذاب! ان ما يشاهدون، ويرون من آثار ما حلّ بهم لدلائلَ وعبراً واضحة لأصحاب العقول الراجحة.
ولولا حكمٌ سبقَ من ربك بتأخير العذاب عنهم إلى أجلٍ مسمّى هو يوم القيامة، لكان العذابُ لازماً لهم في الدنيا، كما حل بأصحاب القرون الماضية. وتقدير الكلام: ولوا كلمة واجلٌ مسمى لكان العذابُ لِزَاماً.(2/424)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
آناء الليل: ساعاته. مفردها إنْيٌ، وإنو، بكسر الهمزة وسكون النون. وأنى بفتح الهمزة والنون مقصورةً مثل على. وإنَى بكسر الهمزة وفتح النون مثل إلى. لا تمدّن عينك: لا تنظر الى ما عند هؤلاء. متعنا: اعطيناهم ما يتلذذون به. ازواجا: اشكالا واشباها. زهرة الحياة الدنيا: زينتها وبهجتها. لنفتنهم: لنختبرهم ونبتليهم.
فاصبر أيها الرسول على ما يقولون من كفرٍ واستهزاء، واتّجه إلى ربك وسبذِح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ونزهْه واعبدْه في ساعات الليل، وفي أطراف النهار. {لَعَلَّكَ ترضى} فتطمئنَّ الى ما أنتَ عليه.
ولما صبَّر رسوله الكريم على ما يقولون وأمَرَه بالعبادة والتسبيح، أتبع ذلك بنهْيهِ عن مدِّ عينيه إلى ما مُتِّعوا به من زينة الدنيا فقال:
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ. . .} .
ولا تتعدّ بنظرك الى ما متعنا به أصنافاً من الكفار، لأن هذا المتاع زينةُ الحياة الدنيا وزخرفها، يمتحن الله به عباده في الدنيا. {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} يدّخره لك الله في الآخرة، وهو رزق نعمةٍ لا للفتنة، رزقٌ طيب باق، وهو خير من هذا المتاع الزائل.
عن زيد بن ثابت قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِه من الدنيا الا ما كتبَ له «
وهذه التَّنبيهات ليست دعوةً للزهد في طيبات الحياة، ولكنها دعوة الى الاعتزاز بالقِيم الأصيلة الباقية، وبالصِلة بالله والرضى به.
قراءات:
قرأ ابو بكر والكسائي:» لعلك تُرضى «بضم التاء. والباقون: طلعلك ترضى» بفتح التاء.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} .
دوامْ على الصلاة ووجِّهْ أهلك أن يؤدوها في اوقاتها، فان أول واجبات المسلم أن يحوِّل بيته الى بيتٍ مسلم. ونحن لا نكلّفك مالا، بل عملاً نؤتيك عليه أجراً عظيما. إننا نعطيك الرزق، والعاقبةُ الصالحة لأهل الخسية والتقوى، والانسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه.
قراءات:
قرأ يعقوب: زَهَرة الحياة. بفتح الزاء والهاء وهي لغة. والباقون: زهرة، بسكون الهاء.(2/425)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
بآية: بمعجزة. البينة: البرهان. الصحف اأولى: التوراة والنجيل. نخزَى: نفتضح. متربص: منتظر. الصراط: الطريق. السوي: المستقيم.
وقال المشركون المتعنتون في عنادهم: لماذا لا يأتينا محمدٌ بمعجزة تدلّ على صدقه في دعوى النبوة؟ ألم يأتِهم القرآنُ؟ وهو اكبر بينةٍ جاء مشتملاً على ما في الكتب السابقة من أنباء الأمم الماضية، وكفى بذلك آية.
وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة 118، وفي سورة يونس الآية 20.
ولو أهلكنا هؤلاء المكذِّبين قبل ان ننزل عليهم القرآن على يد رسول كريم لقالوا: ربّنا، هلاّ ارسلتَ الينا رسولا قبل ان تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، من قبل ان ينزل بنا العذابُ واخزي في الآخرة؟! ولكن الله بإرساله النبي الكريم قطع جميع حججهم وأعذارهم.
{قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي وَمَنِ اهتدى} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المعاندين: إننا جميعاً منتظِرون فتربَّصوا وارتقبوا، فستعلمون من هم أهلُ الطريق المستقيم، وأيّ الفريقين صاحب الدين الحق والمهتدي بهدى الله.
وهكذا خُتمت سورة طه بأن يؤمر الرسول أن يترك هؤلاء المشركين فلا يشقى بهمن ولا يكرُبُه عدم إيمانهم. وقد بدأت السورة بنفي الشقاء عن النبيّ الكريم من تنزيل القرآن، وحددت وظيفةَ القرآن بأنه تذكرةٌ لمن يخشى. وجاء الخاتم متناسقاً مع المطلع كل التناسق، فهو التذكِرة الأخيرة لمن ينفعه التذكير، وسيندم المخالفُ حيث لا ينفع الندم.(2/426)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
اقترب للناس حسابهم: اقترب يوم القيامة. من ذِكر: من قرآن. مُحدَث: جديد: لاهية قلوبهم: غافلون عن ذكر الله. أسرّوا النجوى: أخفوا حديثهم بينهم. اضغاث أحلام: الأضغاث هي الأشياء المختلطة بعضها ببعض، ومعنى اضغاث أحلام: ما كان منها ملتبسا مضطربا يصعب تأويله. بل: كلمة تُذكر للانتقال من غرض لآخر
دنا للناس وقت حسابهم بقرب مجيء يوم القيامة، وهم غافلون عن هول ذلك اليوم، ساهون لا يتفكرون في عقابتهم. . فإن يوم الحساب آتٍ لا محالة.
ثم بين الله ما يدل على غفلتهم واعراضهم بقوله:
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} .
ما يُنزل الله من قرآن يجدّد لهم فيه الذكر، ويُحْدِث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على اسماعهم التنبيه والموعظةَ لعلّهم يتعظون، الا زادهم ذلك لعباً واستهزاء. ولقد بالغوا في اخفاء نجواهم وتآمرهم على الرسول الكريم، فهل محمدٌ إلا بشرٌ مثلكم!
{أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} .
اتصدّقون محمداً وتذهبون الى مجلس السحر وأنتم تعلمون انه ساحر!؟ .
قال لهم الرسول وقد أطلعه الله على حديثهم الذي أسرّوه: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فيَّ فإن ربّي يَعلم كل ما يقال في السماء والأرض، لا يخفى عليه شيء.
ثم بين اللهُ خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدَّمَ من أن النبي ساحر بقوله تعالى:
{بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} .
إنهم لم يثبُتوا على صفة له، ولا على رأي يرونه. . . . كيف يصِفون هذا القرآن، وكيف يتقونه. قالوا في أول الأمر إن محمداً بشَرٌ مثلكم، ثم قالوا إن ما جاء به سِحر، ثم قالوا إنه أحلامٌ مختلطةٌ يراها محمد ويرويها عليكم، ثم عادوا وقالوا إن هذا الذي يجيء به كذبٌ مفترى، بل هو شاعر، فإذا كان رسولاً حقيقياً فليأَتِنا بمعجزة مادية تدل على صدقه، كما أُرسِل الانبياء الأولون مؤيدين بالمعجزات. إنهم حائرون لا يدرون بماذا يصفون هذا الرسول والقرآن، فينتقلون من ادّعاء الى ادّعاء، ومن تعليلٍ إلى تعليل، ولا يستقرون على رأي.
{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} .
إن القرى التي أهلكناها لم تؤمن مع أنّنا أرسلنا إليهم رسُولنا بالمعجزات المادية، فأهلكناهم، فهل يؤمن هؤلاء من قومك إذا جاءهم ما يطلبون!! .
قال قتادة: قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم اذا كان ما تقولُه حقاً ويسرّك ان نؤمن، فحوِّل لنا الصَّفا ذهبا. فأتاه جبريل فقال: ان شئتَ كانَ الذي سألك قومُك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا، لم يُنظَروا (يعني ان الله يهلكهم حالا) وان شئتَ استأنيتَ بقومك، قالك بل أستأني بقومي. فانزل الله:
{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ. . الآية} .(2/427)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
أهل الذِكر: العِلم. الجسد: الجسم ذِكركم: عظتكم. كم قصمنا من قرية: كم أهلكنا، أصل القصم الكسر. أنشأنا: أوجدْنا. أحسّوا: أدركوا. الى ما أترفتم: الى ما بطرتم فيه من نعيم. يا ويلنا: يا هلاكنا، يا خزينا. حصيدا: مثل الحصيد. خامدين: كالنار التي خمدت وانطفأت.
بيّن الله تعالى لهم جواباً لشُبهتهم أن الرسولَ لا يكون بشراً بقوله:
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
وما أرسلْنا قبلك يا محمد من الرسُل إلا رجالاً من البشَر نوحي اليهم الدِّينَ ليبلّغوه الى الناس، فاسألوا أيها المنكِرون أهلَ العلم بالكتب المنزلة ان كنتم لا تعلمون.
ثم بيّن الله كون الرسل بشَرا كسائر الناس في أحكام الطبيعة البشرية فقال:
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} .
وما جعلنا الرسُلَ الذين قبلك أجساداً تخالفُ أجسادَ البشر، فقد كانوا لا يعيشون دون طعام، وما كانوا مخلَّدين، بل إنهم كغيرهم من الناس كلّفهم اللهُ بتليغ الرسالة.
قراءات
قرأ عاصم: نوحي بالنون، والباقون: يوحَى بالياء وفتح الحاء.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا المسرفين} .
إنا ارسلْنا رسلاً من البشر وصدّقناهم وعدَنا فنصرناهم على المكذّبين، وأنجيناهم هم ومن آمن معهم، وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم في تكذيبهم برسالة أنبيائهم.
وبعد أن حقق اللهُ رسالته صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام - شرع يحقق فضل القرآن الكريم، ويبيّن نفعه للناس.
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
لقد أنزلنا إليكم القرآن ورفعنا فيه ذِكركم أيها العرب، وفيه مجدكم وعِظَتُكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب وسديد الشرائع والأحكام، أفلا تتفكرون؟ ، ومَنْ هم العربُ لولا القرآن؟ هو الذي جعلهم أمةً ذاتَ حضارة ودين قويم، بعد ان كانوا خاملين يعيشون في ظلام الهمجية والجاهلية.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ. . . . .} .
والقصمُ أشدُّ حركات القطع، والتعبيرُ به يشير إلى شدة وقع الضربة على تلك القرى.
وكثير من أهل القرى أهلكناهم بسبب كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، ثم أنشأنا بعد إهلاكهم أُمماً أخرى أحسنَ منهم حالاً ومالاً.
ثم بيّن حالهم حين حلول البأس بهم فقال:
{فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} .
فلما أيقنوا أن العذابَ واقعٌ بهم لا محالة سارعوا الى الهروب، فخرجوا منها يركضون. . . . ولكن الى اين!
{لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} .
يُقال لهم على سبيل الاستهزاء والتهكم: لا تهربوا أيها المنكرون، فلن يعصِمكم من عذاب الله شيء، ارجعوا الى ما كنتم فيه من نعيم وترف ومساكن طيبة، لعلّكم تسألون عن ذلك كلّه فيم أنفقتموه.
{قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
حين يئسوا من الخلاص قالوا: يا هلاكنا إنّا كنا ظالمين. بهذا كانوا يحاولون التوبة والاعتذار، ولكن فات الآوان. {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} فما زالوا يردّدون هذه المقالة، ويصيحون بها حتى جعلناهم بالعذاب كالزَّرع المحصود، خامدين لا حياة فيهم.(2/428)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
نقذِف: نرمي. فيدمغُه: فيُبطله ويمحوه. ومن معاني الدمغ: الكسرُ والشجّ. زاهق: زائل، هالك. ومن عنده: يعني من عند الله، وهم الملائكة. ينشرون: يحيون، انشر أحيا. ولا يستحسرون: لا يتعبون. لا يفترون: لا يضعفون؛ ولا يتراخون.
{وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} .
لقد خلق اللهُ سبحانه هذا الكون لحكمة عنده، لا لعباً ولا لهوا. . . خَلَقَه بنظام محكَم، وصنعٍ بديع. فتكوينُ العالم وإبداع هذا الخلق مؤسس على قواعدَ أصيلة، وغايات جليلة محكمة.
{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} .
ولو أراد الله تعالى ان يتخذ لهواً لاتخذه من عنده، ولكن هذا مستحيل عليه، ولن يفعله، ولا يليق به. وانما خَلَقَنا اللهُ لحكمة، وصوَّرَنا لغايةٍ سامية.
{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} .
بل أمْرُنا الذي يليق بنا أن لا يكون هناك لهو، وإنما هو جِدٌّ فنقذف الحقَّ في وجه الباطل فيمحوه ويبطله، فإذا هو هالك زائل، والويلُ لكم أيها الكافرون من وصفِكم ربكم بصفاتٍ لا تليق بهن وافترائكم على الله ورسوله.
هذه هي سُنّة الحاية الأصلية، الحقُّ دائما يعلو، واذا تفشّى الباطل وعلا امره فانما يكون ذلك من تقصير منا، وتخاذلٍ في أمرنا، وبعدٍ عن ديننا، وفي الحديث الشريف: «للباطل صولة ثم يضمحلّ» .
{وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} .
للهِ وحده كل ما في هذا الكون خَلْقاً ومُلْكا، فمن حقه وحده أن يُعبَدَ. والملائكة عنده يعبدونه حقاً ولا يستكبرون عن عبادته والخضوع له، ولا يكِلّون ولا يتعبون.
{يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} .
فهم دائبون في العبادة ليلَ نهار، لا يتخلَّل تسبحّهم وتنزيههم لله فتورٌ ولا ملل.
{أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} .
بل عبدوا غيرَ الله، واتخذوا آلهةً من هذه الأرض من الأصنام وغيرها. كيف يعبدون هذه الأصنام وهي لا تستطيع إعادة الحياة!
ثم أقام الدليلَ العقلي على التوحيد ونفيِ تعدُّد الآلهة فقال:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} .
لو كان في السموات والارض إله آخر غير الله لوقع الاضطرابُ والفساد في هذا الكون، واختلّ النظام فيه بتعدد الآراء، واختلاف الأوامر.
{فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} .
فتنزيهاً لله ربّ العرش المحيط بهذا الكون، عما يقول هؤلاء المشركون.
{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
الله تعالى هو الحاكم المطلق، لا معقّب لحكمه، وإرادته طليقةٌ لا يحدّها قيد من إرادةٍ اخرى، فهو لا يحاسَب ولا يسأل عما يفعل، فهو الحكيم العليم، لا يخطىء في فعل شيء، والخلقُ جميعهم يُسألون.(2/429)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
هذا ذِكر من معي: هذا القرآن الذي معي. وذِكر مَن قبلي: الكتب السابقة. لا يسبقونه بالقول: لا يتكلمون حتى يأمرهم. مشفقون: حذرون، خائفون.
أعاد الاستنكار مرةً أخرى لبشاعة ما يقولون، ولإظهار جهلهم فقال:
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً. . . .} .
بعد هذه الأدلّة التي ظهرت تقولون: إن لله شركاءَن فأين الدليل؟ هاتوا دليلكم على صحة ما تقولون. ان هذا القرآن قد جاءَ مذكّرا لأُمتي بما يجب عليها، هذه كتب الأنبياء التي جاءت لتذكر الأممَ من قبلي - كلّها تشهد على توحيد الله، وليس فيها ذِكر للشركاء الذين تزعمون.
ولما كانوا لا يجِدون لهم شُبهة فضلاً عن حجة، ذمَّهم الله على جهلهم بمواضع الحق فقال:
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} .
بل أكثُر هؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل، وهذا هو السبب في إعراضهم وتجافيهم عن سماع الحق.
ثم أكّد ما تقدّم من أدلة التوحيد فقال:
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} .
ان الرسلَ جميعاً أُرسلوا بالتوحيد، فهو قاعدة العقيدة منذ ان بعثَ الله الرسلَ للناس، لا تبديل فيه ولا تحويل، فأخلِصوا لله العبادة.
وبعد أن بين سبحانه بالدلائل القاطعة أنه منزّهٌ عن الشريك والشبيه، أردف ذلك ببراءته من اتخاذ الولد فقال:
{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} .
وقال بعض مشركي العرب وهم بعض خُزاعة وجُهينة وبنو سَلَمة: ان الملائكة بناتُ الله، فردَّ الله عليهم بقوله: سبحانه، تنزَّه عن أن يكون له ولد، بل الملائكةُ الذين عنده هم عبادٌ مكرَّمون مقرَّبون.
{لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} .
لا يتكلّمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه في ذلك ولا يتعدون حدود ما يأمرهم به.
ثم علّل سبحانه هذه الطاعة بعلمِهِم أن ربَّهم محيطٌ بهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم فقال:
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .
ان الله يعلم كل أحوالهم واعمالهم، وما قدّموه وما أخّروه، وهم لا يشفعون الا لمن رضي الله عنهـ، وهم من خوف الله والإشفاق من عقابه دائماً حذِرون.
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} .
ومن يقل من الملائكة إني إله، فذلك جزاؤه جهنم، ومثل هذا الجزاءِ نجزي كلَّ من يتجاوز حدود الله من الظالمين.
قال بعض المفسرين: عنى بهذا إبليسَ حيث ادَّعى الشرِكَة ودعا إلى عبادة نفسِه وكان من الملائكة، ولم يقلْ أحدٌ من الملائكة إني إله غيره.(2/430)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
رتقا: ملتئمتين. ففتقناهما: ففصلناهما. رواسي: جبالا ثابتة. تميد: تضطرب وتتحرك. فجاجا سبلا: الفجاج واحدها فج: المكان المنفرج، والسبُل واحدها سبيل: وهو الطريق الواسع. في فلك: في دائرة بهذا الكون الواسع. نبلوكم: نختبركم.
لقد ذكر الله هنا ستة أدلة تثبت وجودَ الخالق الواحد القادر، ولو تدبَّرها المنصِفون، وعقَلَها الجاحدون، لم يجدوا مجالاً للإنكار.
الأول: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} .
أولم يعلم الذين كفروا ولم يبصروا الحق، أن السمواتِ والأرضَ كانتا في بدء خَلْقِهما ملتصتين في صورة كتلة واحدة ففصلناهما حتى صارتا في هذا النظام! وهو ما يسمونه: النظام الشمسي، ويتكون من الشمس، يدور حولها تسعة كواكب سيارة هي: عطارد، والزُّهرة، والأرض، والمريخ، والمشتري، وزحَل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتو، وعدد من الأقمار يدور حول كل من هذه الكواكب.
ويدخل ضمن هذه الأسرة عدد من الاجسام الصغيرة تقع بين مداري المريخ والمشتري، وتدور حول الشمس كسربٍ من الطير، ومن بينهما المذنّبات، والشُهُب التي نرى الكثير منها يتهاوى في الليل نحو الأرض، ويتمزّق عند احتكاكه بالغلاف الجوي المحيط بها.
أما بقية الأجرام التي نراها في السماء ليلاً تزين سطح القبة السماوية فهي النجوم، وهي شموس لا حصر لها، والكثيرُ منها يَكْبُرُ شمسَنا. وهي بعيدة جدا لا نستطيع الوصول اليها بكل ما لدينا من وسائل حديثة، والبحث فيها يطول.
ولعلماء الفلك نظريات عددة في كيفية انفصال هذه الأجرام عن بعضها البعض، لكن هذا الموضع ليس موضع بحثه. والقرآن الكريم كتاب يهدي الانسان الى سعادته في دنياه وآخرته وليس كتاب نظريات في الفلسفة والعلم والفلك وغيره، وان كان ما يرِدُ فيه لا يخالف أحدث نظريات العلم والفلك، واكبر دليل على ذلك هذه الآية العظيمة.
الثاني: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} .
وخلقنا من الماء كلَّ ما في هذا العالَم من حياة، فالماء مصدر الحياة لكل نامٍ، إنساناً كان او حيواناً او نباتا، فهل بعد كل هذا يعرضون، فلا يؤمنون بانه لا اله الا الله!
وتقرر هذه الآية حقيقةً علمية ثابتة، وهي ان الماء هو المكوِّن الهام في تركيب مادة الخلية، وهي وَحْدة البناء في كل كائن حيّ. ولقد اثبت علم الكيمياء الحيوية ان الماء لازم لحدوث التفاعلات والتحولات التي تتم داخل اجسام الأحياء.
وأثبت علم وظائف الاعضاء ان الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوافر له مظاهر الحياة ومقوماتها.
الثالث: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} .
وجعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تضطرب بمن عليها من الخلق، وجعلنا فيها طرقاً فسيحة، ومسالكَ واسعة، لكي يهتدوا بها في سيرهم الى أغراضهم.(2/431)
وقد ثبت ان توزيع اليابس والماء على الأرض، ووجودَ سلاسل الجبال عليها - يحقق الوضع الذي عليه الأرض من التوازن، فالجبالُ ذات الجذور الممتدة في داخل القشرة الارضية الى اعماق كبيرة تتناسب مع ارتفاعها، فهي كأنّها أوتاد. وبهذا الترتيب تتوزع الأوزان على مختلف جوانب الكرة الارضية.
وهذه المعلومات معجزة في الآية ترشِد الى ان القرآن وحيٌ يوحى، لن احداً لم يكن يعلم عن هذه المعلومات شيئا في العصر الذي نزلت فيه.
ولما ارتفعت الجبال حدثت السهور والأودية والممرات بين الجبال وشواطىء البحار والمحيطات والهضاب، وكانت سُبلاً وطرقا. وهذا هو الدليل الرابع حيث يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .
وجعلنا في الارض طرقاً بين جبالها يسلكها الناس من قُطر الى قطر ومن إقليم الى آخر، ليهدوا بذلك الى مصالحهم وأمورهم في هذه الحياة الدنيا.
الخامس: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} .
وجعلنا السماءَ فوقهم كالسقف المرفوع، وحفظناها من أن تقع كما في الآية الاخرى، {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 66] . او يقع ما فيها عليهم، وهم مع ذلك منصرفون عن النظر في آياتنا الدالَّ على قدرتنا وحكمتنا.
فالآية تقرر أن السمواتِ وما فيها من أجرام محفوظةُ بكيانها متماسكةٌ لا خلل فيها، وفق نظام بديع لا يتخلف ولا يتبدل. وقد جعل الله لهذه الأرض غلافاً جوياً يحفظها وتتبع الاشعاعات الضارة من أن تصل إليها، وجعل فوق الغلاف الجوي أجرام السماء على أبعاد مختلفة تحتفظ بنظام دورانها وكيانها منذ القدم وإلى ما شياء الله.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
والله خلق لكم الليلَ والنهار نعمةً منه عليكم فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم، وخلَقَ الأرض والشمس والقمر تجري في افلاكها، لكل جرم سماوي مدارُه الخاص يسبح فيه. وأجرام السماء كلها لا تعرض السكون، وتتحرك في مدارات خاصة.
بعد ذكر هذه الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بيّن سبحانه وتعالى في كتابه للناسِ أن هذه الدنيا لم تُخلَق للخلود والدوام، وانما للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلةً الى الآخرة التي هي دار الخلود فقال:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} .
وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك ايها النبي الخلود في هذه الدنيا، فكل من على هذه الأرض ميت، كما قال تعالى ايضا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} إفإنْ متَّ فهم يخلُدون في هذه الحياة!! .
نزلت هذه الآية لما تضايق كبراء قريش من الرسول الكريم فقالوا: نتربّص به الموتَ فنستريح منه.
ثم اكد الله الأمرَ وبيّن انه لا يَبقى أحد في هذه الدنيا فقال:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .
كل نفس لا بد ان تذوق الموت، إنما نعاملكم في هذه الحياة معاملة المختبِر بما يصيبكم من شر او خير، ونعلم الشاكر للخير والصابر على البلاء.(2/432)
إلينا مرجعُكم فنحاسبكم على أعمالكم. والكثرُ من الناس يصبرون على الابتلاء بالشرّ من مرضٍ او فقر او غير ذلك، لكن القليل القليل منهم يصمد أمام الابتلاء بالخير، ولا تبطره النعمة، ويقوم بحقها خير قيام، ويصبر على الإغراء بالمناصب والمتاع والثراء.
روى مسلم في صحيحه «ان الرسول الكريم قال:» عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمنين، إن اصابتْه سرّاء شَكَرَ فكان خيراً له، وان اصابته ضرّاء صَبَرَ فكان خيرا له «
{وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} .
واذا رآك المشركون ايها النبي يسخرون منك ويستهزئون، لأنك سفّهت أحلامهم وأتيتهم بالدِّين القويم، ويقول بعضهم لبعض: اهذا الذي يذكر آلهتكم بالعيب! وكيف يعجبون من ذلك وهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم!(2/433)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
خلق الانسان من عَجَل: خلق الله الانسانَ عجولا، يطلب الشيء قبل أوانه، والعجلة مذمومة. لا يكفّون عن وجوههم: لا يدفعون، لا يمنعون. بغتة: فجأة. فتبهتهم: تحيرهم، تدهشهم. وهم لا ينظرون: لا يُمهلون، لا يؤخَّرون. ولا هم منا يصحبون: ولا هم منا يجارون، من الجور، ويقال في الدّعاء، صحبك الله: حفظك وأجارك، وأصحبَ الرجَلَ: حفظه، وأجاره.
{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} .
خلق الله الإنسانَ وفي طبيعته العجلة، فهو دائماً يستعجل الأمور لأنه طُبع على العجلة، فيريد ان يجد كل ما يجول في خاطره حاضراً. والعَجَلة مذمومة، وفي المثل: ان في العجلة الندامة، والعجلة من الشيطان. فتمهلوا أيها المشركون ولا تستعجِلوا طلب العذاب، سأُريكم آياتي الدالّةَ على صحة رسالة النبي محمدن وما ينذركم به من عذاب في الدنيا والآخرة.
وهم في كل اوقاتهم وحالاتهم مستعجلون.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
فهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: متى يجيئنا هذا الوعدُ بعذاب الدنيا والآخرة الذي تَعِدوننا به ان كنتم صادقين فيما تقولون؟
لذا بيّن الله شدةَ جهلهم بما يستعجلو، وعظيمَ حماقتهم لهذا الطلب فقال:
{لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .
لو يعلم هؤلاء الكفار ما سيكون حالُهم في النار، يوم لا يستطيعون دَفْعَ النار عن ان تلفح وجوههم وتشوي ظهورهم، ولا يجدون من ينصرهم وينقذهم - لو يعلمون كل هذا ما قالوا ذلك، ولا استعجلوا العذاب، وهذا هو الجواب وهو محذوف. . .
ثم بيّن أن هذا الذي يستعجلونه غيرُ معلوم ولا يأتي الا فجأة فقال:
{بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} .
ان الساعة لا تأتي إلا بغتةً، تفاجئهم فتحيّرهم وتدهشهم، ولا يستطيعون ردَّها، او تأخيرعها، ولا هم يُمهَلون حتى يتوبوا ويعتذروا فقد فات الأوان.
ثم سلّى رسولَه الكريم على استهزائهم به فقال: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
إن ما حَدَثَ لك من استهزاء قد حدث قبلك: فحلّ بالّذين سخِروا من رسلهم العذابُ والبلاء، فلْعلموا أن مصير المستهزئين بالرسل معروف، وعاقبتَهم وخيمةٌ، وسيكون لك النصر المبين، وفي وسرة الانعام {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الآية: 35] . وقد نصره الله وصدق وعده.
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} .
سَلأْهُم أيها الرسول: من يحفظكم في الليل والنهار من عذابِ الرحمن إن نزل بكم؟ ان الله هو الحارص وسفتُه الرحمةُ الكبرى، بل هم عن القرآن الذي يذكّرهم بما ينفعهم، ويدفع العذاب عنهم - منصرفون.(2/434)
وانظر أيها القارىء كيف يصف الله نفسه بالرحمة دائما.
ثم يعيد السؤال في صورة اخرى وهو سؤال للأنكار والتوبيخ: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} كلاَّ فهؤلاء الآلهة لا يستطيعون أن يُعِينوا أنفسهم حتى يعينوا غيرهم.
{وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} .
ولا هم يُجارون ويُحفظون منا.
ثم بين الله تفضُّله عليهم مع سوء ما أتوا به من الاعمال فقال:
{بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون} .
إننا لم نعجَّل لهم العذابَ بل استدرجناهم ومتعناهم حتى طالت أعمالهم وهم في الغفلة فنسوا عهدَنا، وجهِلوا مواقع نعمتنا، فاغترّوا بذلك. أفلا يرى هؤلاء المشركون أنّا نقصد الأرض فتنقصها من اطرافها بالفَتْح ونصرِ المؤمنين، ونقتَطعُها من أدي المشركين. افهم الغالبون، ام المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد؟(2/435)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
الصُم: واحدُه أصم، الذي لا يسمع. نفحة: الشيء الضئيل. الخردل: نباتُ عشبي ينبت في الحقول، تُستعمل بذوره في الطب، والطعام، ويُضرب به المثل في الصغر. القسط: العدل. حاسبين: محصين عادين. الفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل وتطلق على التوراة، وكذلك على القرآن، والضياء كالفرقان لأنه ينير الطريق للناس. مشفقون: خائفون.
بعد ان بين الله هول ما يستعجلون، وحالَهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذِكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار - أمَرَ رسولَه الكريم ان يقول لهم: إنما أخبركم به قد جاءَ من عند الله فقال:
{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي} .
قل أيها النبي لهؤلاء الجاحدين السادرين في غَيِّهم: إنما أحذّركم بالوحي الصادق الصادر عن الله، فإن كنتم تسخرون من أمرِ الساعة وأهوالها، فانها من وحي الله وامره، لا من وحي الخيال.
ثم أردَفَ بأن الانذار مع مثل هؤلاء لا يجدي فتيلا، فهم كالصمّ الذي لا يسمعون داعي الله فقال:
{وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ} .
وكيف يُجدي الإنذارُ من كان أصم لا يسمع! وكيف يسمع الطرش النداءَ حين يوجّه اليهم! وكل من لا يستجيب لداعي الله فهو أصم ولو كان يسمع ويرى.
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
وحين يسمهم أقل العذاب يوم القيامة يدعون على أنفسِهم بالويلِ والثبور ويقولون: إنا كنا ظالمين لأنفسنا بكفرنا، ويندمون على ما فَرَطَ منهم، لكنه لن ينفعهم الندم ولا الاعتراف بعد فوات الأوان.
ثم يبين في خاتمةهذا الحوار ما سيقع من أحداث يوم القيامة وحين يأتي ما أُنذروا به فيقول:
{وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} .
في ذلك اليوم العظيم نضع الموازينَ العادلة الدقيقة التي تُحصي كل شيء، ويأخذُ كل انسان حقه كاملاً، ولا تُظلم نفسٌ شيئا، ولو كان العمل بوزن حبةِ الخردل، وحبة الخردل جزء من الف جزء من الغرام، فان الكيلو غرام يحتوي على 913 الف حبة، وهذا صغُر وزنٍ لحبة نبات عُرف حتى الآن. فإن كان الانسانُ اخترع الكمبيوتر، الذي يحصي أدقّ المعلوما فإن الله عنده ما هو أدق منه وأعدل. ولا يخفى ما في هذه الآية من التحذير الشديد والوعيد.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «ولا تُسمع الصم الدعاء» بضم التاء وكسر الميم. والباقون: ولا يَسْمعُ الصمُّ بفتح الياء والميم، وضم الصم. . وقرأ نافع: وان كان مثقالُ حبة برفع مثقال، والباقون: مثقالَ بالنصب.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} .
يبين الله تعالى هنا أن الرسل كلّهم من البشر وهي السُنّة المطّردة، وأن نزول الكتاب على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعةً مستغربة، فقد أنزلْنا على موسى وهارونَ الفرقانَ، وهو التوراة.(2/436)
والفرقانُ من صفات القرآن ايضا، فالكتب المنزلة من عند الله كلّها فرقان بين الحق والباطل، وضياء تكشف ظلماتِ القلب، وتذكير ينتفع به المتقون.
ثم يذكر صفاتِ المتقيم:
{Oلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} .
والمتقون هم الذي يخافون ربَّهم في السرّ والغيب والعلانية، وهم مع ذلك خائفون وَجِلون من عذاب يوم القيامة، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالضياء ويسيرون على هداه.
{وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} .
وهذا القرآن الذي انزلنا على محمد الأمين كما انزلنا الذكر على موسى وهارون، ذكر لكم فيه البركة والخير، وموعظة لمن يتعظ بها، أفبعد ان علمتم شيأنه وعظمته تنكروه، وانتم أولى الناس بالايمان به!(2/437)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
رشده: هدايته. التماثيل: الاصنام. لها عاكفون: مواظبون على عبادتها. فطرهن: أوجدهن: لأكيدنَّ أصنامكم: لأدبرنّ لها تدبيرا يسوؤكم. جُذاذا: قطعا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} .
لقد أعطينا إبراهيمَ النبوة والهداية الى التوحيد الخالص، من قبلِ موسى وهارون، وكنّا عالمين بفضائله التي تؤهله لحمل الرسالة.
كان ابراهيم من أهل «فدان آرام» بالعراق، وكان قومه أهلَ أوثان، وكان أبوه نجارا ينحت التماثيل ويبيعها لمن يعبدها من قومه، وقد أنا رالله قلب إبراهيم وهداه الى الرشد فعلم ان الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟}
اذكر أيها النبي حين استنكر إبراهيمُ عبادة الأصنام وقال لأبيه وقومه: ما هذه الاصنام التي تعبدونها وتظلون ملازمين لها؟
{قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}
لم يجدوا جواباً مقنعاً فلجأوا إلى التشبّت بالتقليد، لذلك قالوا: إننا نعبدها كما عَبَدها آباؤنا من قبل، فنحن مقلّدون لهم.
فكان ابراهيم معهم صريحا، واجابهم ببيان سوء ما يصنعون:
{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .
لم يقنع ابراهيم بجوابهم هذا، وقال لهم إنكم أنتم وآباؤكم في ضلال واضح بعبادتكم لهذه التماثيل التي لا تنفع ولا تضر.
فأجابوه إجابة مستفهِمٍ متعجّب مما يمسع ويرى:
{قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين؟} .
لمّا سمعوا ما في كلام ابراهيم مما يدل على تحقير آلهتهم، استبعدوا ان يكون جادّاً فيما يقول، فقالوا: هل ما تقوله هو الحق، أم أنت هازل من اللاعبين!؟ .
عند ذاك ردّ عليهم ببيان الحق وذكر الإله الذي يستحق العبادة.
{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} .
قال: جئتكم بالحق لا باللعب. ثم بيّن لهم ان الإله المستحق للعبادة هو ربُّ السموات والأرض الذي خلق كل شيء، فمن حق هذا الإله وحده أن يُعبد، وانا على ما اقول لكم من الشاهدين.
وبعد ان أقام البرهان على إثبات الحق نوى الشر في نفسه لهذه الآلهة التي جمدوا على عبادتها، ولم تُفدْهم موعظةٌ ولا برهان عن الغواية بها، فأقسَمَ في نفسه ان يُلحق الأذى بها فقال:
{وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} .
أقسَم ابراهيم بالله انه سيكيد الأصنامَ بأن يكسرها بعد ذهابهم من معبدهم. وأقبل عليها فكسرها جميعا الا الكبير فتركه. وقد اراد بهذه الطريقة ان يُفْهم القومَ مركز آلهتهم، ويقيم الحجة عليهم في أن تلك الاصنام لا تنفع ولا تضر. فها هي لم تستطع ان تردّ الأذى عن نفسها.
أما تركُ ابراهيم كبيرها قائماً فذلك لكي يسألوه اذا كان يجيب او يتكلم.
قراءات
قرأ الكسائي: جذاذاً بكسر الجيم. والباقون: جذاذا بضم الجيم.
{قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .
وعاد القوم الى معبدهم فرأوا أصنامهم مكسَّرة قطعا، إلا كبيرهمن فقالوا: من الذي اعتدى على آلهتنا ففعل بها هذا العمل المنكر!؟ إنها لَجُرأة عظيمة وانه لمن الظالمين. قال بعضهم: سمعنا شاباً يذكرهم بالشتم والتحقير يدعى إبراهيم.(2/438)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
على أعينِ الناس: علناً أمام جميع الناس، كما يقال: على رؤوس الأشهاد. فرجعوا الى أنفسهم: ففكروا وتدّبروا. ثم نكسوا على رؤوسهم: بعد أن أقرّوا انهم ظالمون، انقلبوا تلك الحال الى المكابرة والجدل بالباطل.
{قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} .
واتفقوا أن يحاكموه علناً على رؤوس الأشهاد فقالوا: أحضِروه أمام جميع الناس ليشهدوا عليه وتكون شهادتهم عليه حجةً لنا. فلما أتوا به قالوا له: أأنت كسرتَ هذه الآلهة وجلْتَهم قظعا؟ وطلبوا منه ان يعترف بذنبه.
فأجابهم جواباً ذكياً لطيفا، أدهشهم وحيّرهم إذ قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} فاسألوه واسألوا أصنامكم ليُخبروكم إن كانوا يتكلمون. فكانت مقالةُ إبراهيم عليه السلام حجةً شديدة الوقع في نفوسهم وحيرّتهم ولم يعرفوا ما يقولون.
{فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون}
فكأنهم أفاقوا نم غفلتهم لحظات، فراحوا يلومون أنفسَهم ويقولون: حقيقةً إنكم أنتم الظالمون، كيف نعبدُ آلهة لا تدفع الأذى عن نفسها!
{ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} .
ثم عادوا إلى جهالتهم كأنهم وقفوا على رؤوسهم، وانقلبوا من الرشاد الى الضلال، وقالوا لإبراهيم: أنت تعلم ان هؤلاء لا يتكلمون فكيف تطلبُ منا ان نسألهم؟
وهنا ظهرت حجةُ ابراهيم واضحة، ورأى الفرصة سانحة لإلزامهم الحجة فقال: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
فقال إبراهيم متهكماً عليهم: لقد أقررتُم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تردّ أذى ولا تنفع، ومع ذلك تعبدونها من دون الله، متى ترتدّ اليكم عقولكم! أفٍّ لكم وقبحاً لآلهتكم.
ولما بان عجزُهم وظهر الحقّ أخذتهم العزّةُ بالإثم كما تأخذ الطغاة حين يفقدون الحجة، فلجأوا الى استعمال القسوة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
{قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} .
هنا لجأوا الى منطق العُتاة وفعل الطغاة، فقالوا: احرِقوا إبراهيم هذا بالنار، وانصروا آلهتكم عليه بهذا العقاب، إن كنتم تريدون نصرها.
ولكن الله تعالى أبطَلَ كيدهم، ودفع عنه الهلاك بمعونته وتأييده فقال:
{قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} .
أوقَدوا ناراً عظيمة ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تضرّه بإذن الله، ونجا منها، وكانت معجزةً كبرى لابراهيم. لقد أرادوا ان يبطشوا به ويهلكوا بالنار، فنجّيناه ورددنا كيدهم في نحورهم وجعلناهم الخاسرين.
ونقل كثير من المفسرين كلاماً كثيراً في سيرة ابراهيم من الاساطير القديمة نضرب عنه صفحا لعدم الفائدة منه.(2/439)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
لوط: ابنُ أخ ابراهيم: الأرض التي باركنا فيها: الديار المقدسة وهي ديار الشام كاملة. نافلة: عطية، هبة. ويراد بها الأحفاد، اولاد الاولاد. حُكما: نبوة ومعرفة. القرية: سدوم من اراضي البحر الميت. الخبائث: الاعمال القذرة. الكرب: الغم.
ونجّينا إبراهيم ولوطاً الذي آمن معه وهاجرا الى الأرض المباركة، وهي أرض الشام، فنزل إبراهيم جنوبي القدس في الخليل من أرض فلسطين، ونزل لوط في سدوم وعاموراء وهي منطقة البحر الميت. ووهبنا لإبراهيم إسحاق، ثم زدناه نافلةً يعقوبَ بن اسحاق، وكلاهما من الصالحين. وجعلناهم أئمة يهدون الناس الى الحق بأمرِنا، وأوحينا اليهم فعل الخيرات ليعلِّموا الناس وان يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، وكانوا هم من اهتدى بهم لنا عابدين.
لقد ترك إبراهيم عليه السلام وطناً واهلاً وقوما، فعوضه الله وطناً خيرا من وطنه، وجعل ابنه اسحاق، وحفيده يعقوب اهلاً خيرا من أهله السابقين.
أما لوط فقد منحه الله حكمةً ونبوة وعلماً ونجذاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وهي اللواطة، ان أهلها كانوا قوم سوء خارجين عن الدين، وقد سبقت قصة لوط مفصَّلة في سورة الاعراف، وسورة هود.
ونوحاً إذ دعا على قومه بالهلاك فاستجبنّا له فنجّيناه وأهلَه من الغمّ الشديد،
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} .
وقد ذكر نوح في ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم. وذكرت قصته مفصلة في سورة الاعراف وسورة هود وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح.(2/440)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
الحرث: الزرع. نفشت فيه غنم القوم: رعته الغنم في الليل بلا راع. صَنعة لَبوس: الدروع من الحديد. لتحصِنكم: لتحفظكم: لتحفظكم. من بأسكم: من حربكم، والبأس هي الحرب. الأرض التي باركنا فيها: أرض الشام. من يغوصون: الذين يغوصون الى قاع البحر ليُخرجوا ما به من كنوز ثمينة. عملاً دون ذلك: غير ذلك من بناء المدن والقصور والصناعات.
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} .
اذكر أيها الرسول نبأ داود وسليمان حين حكما في الزرع الذي رعته غنمٌ لقومٍ آخرين غير صاحب الزرع فأفسدتْه، وكان ربك شاهداً عليماً بما حكم به داود وسليمان.
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}
وقد فهّمنا سليمانَ الحكم الصوابَ وآتيناه الحكمة والعلم جميعا.
وقصة الحكم:
أن غنماً رعت في زرع بالليل فأفسدته، فقضى داود بأن صاحب الزرع يأخذ الغنم مقابل زرعه. فلما علم سليمان بالحكم، قال: الحكم ان تبقى الغنم مع صاحب الزرع ينتفع بلبنها وصوفها، ويكلَّف صاحبُ الغنم بأن يحرث الارض ويزرعها حتى اذا استوى الزرع سلّمه الى صاحبه وساترد غنمه. وكان هذا الحكم هو الصواب. ولما علم داود بالحكم استحسنه وأمضاه.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
وسخّرنا الجبال والطير لداود يسبِّحن معه بتسبيحٍ لا يسمعه البشرَ، وكنا فاعلين ذلك بقدرتنا. وهذا التسبيح لا نفهمه نحن. وفي سورة الإسراء الآية 45، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فعلماؤنا الأقدمون كانوا يقولون ان هذا التسبيح مَجازي، وذلك علدم معرفتهم. وكيف يكون مجازياً، واللهُ تعالى في عدد من الآيات يحدّثنا عن تسبيح الكون والذرّات وكل شيء للخالق العظيم!!
يقول الدكتور عماد الدين خليل في مجلة العربي العدد 259 رجب 1400 حزيران 1980.
«واننا لنقف هنا خاشعين أمام واحد من جوانب الإعجاز القرآني، تلك المجموعة من الآيات الكريمة التي تحدثنا عن تسبيح الكون والذرات للخالق العظيم، من سورة الحشر والصف والاسراء. . . . ان التسبيح ها هنا لا يقتصر على كون الذرات والاجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعها الله فيها، فهي تسبّح بحمد الله سبحانه، فهنالك ما هو أبعد من هذا وأقرب الى مفهوم التسبيح الحي أو التقديس الواعي. إن هذه الأشياء المادية تملك ارواحاً، وهي تمارس تسبيحها وتقديسها بالروح وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيته. وان هذا ليقودنا الى مقولة» اوينقتون «:» ان مادّة العالم هذه مادة عقلية «، كما يقودنا الى الآية الكريمة {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. . . .} .
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} .
وعلّمنا داودَ صنعة الدروع لتكون لباساً يمنعكم في الحرب ويَقيكم من شدّة بعضكم لبعض فاشكروا الله على هذه النِعم التي أنعم بها عليكم.(2/441)
وهذه حقيقة واقعة، وذلك ان الحديد استُعمل في عصر داود في صناعة الدروع.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحفص: لتحصنكم بالتاء، وقرأ ابو بكر: لنحصنكم بالنون، والباقون: ليحصنكم بالياء.
{وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} .
وسخّرنا لسليمانَ الريحَ عاصفة شديدة الهبوب تارة وليّنةً رُخاءً تارة أخرى، تجري بحسب رغبته الى أي بقعة في أرض الشام المباركة، وكنّا بكل شيء عالمين، لا تغيب عنا صغيرة ولا كبيرة.
{وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}
وسخّرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في الماء الى أعماق البحار، ليستخرجوا له اللؤلؤ والمرجان، ويعملون له ما يريد من بناء الحصون والقصور والمحاريب والتماثيل كما جاء في سورة سبأ 12 {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} من التمرّد على أمر سليمان، فهم لا ينالون أحداً بسوء.(2/442)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
الضُر: الضرر بالنفس كالمرض ونحوه. والضَر: بالفتح الضرر من كل شيء. ذو النون: النبي يونس بن متّى. والنون: الحوت. مغاضِبا: غضبان من قومه. الظلمات: جمع ظلمة، المكان المظلم. اصلحنا له زوجه: جعلناها تلد وكانت عقيما.
{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} .
اذكر أيها النبي قصة أيوب حين دعا ربه وقد أضناه المرض، ومسّه البلاء، فقال: يا رب، قد أصابني الضر وأنت الكريم الجواد، وانت أرحم الراحمين. فاستجبنا له دعاءه، وعافيناه ورفعنا عنه الضر، وأعطيناه أولاداً بقدْر من مات من أولاده، وزدناه مثلهم، رحمةً به من فضلنا، وتذكرة لغيره من العابدين.
وقصة أيوب من القصص الرائعة، والنصوصُ القرآنية تشير الى مجملها دون تفصيل. وقد ذُكر صاحبها في القرآن أربع مرات: في سورة النساء، والأنعام، والانبياء، وص. وله سِفر خاص به في العهد القديم يحتوى على 42 إصحاحا في خمسة فصور كبيرة:
الأول: يتضمن تقوى ايوب وأملاكه واقرابه وصفاته
الثاني: يتضمن ما جرى بينه وبين أصحابه من الجدال.
الثالث: يذكر أقوال الحكمة التي نطق بها «الياهو» اصغر اصحاب ايوب.
الرابع: يذكر مخاطبة الله إياه من العاصفة.
الخامس: يتضمن خضوعه وشفاءه وتعويض ما فقده من المال والأهل.
وأيوب من أنبياء العرب كان يسكن أرض «عُوص» في شرق فلسطين او في حوران. وهو من بني ابراهيم كما جاء في سورة الأنعام الآية 84 {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ} وسِفر ايوب عربي الأصل بما فيه من أسماء للأشخاص والأماكن، ومن وصف لبادية الشام وحيواناتها ونباتاتها. . . . يقول الأب لويس شيخو في كتابه: النصرانية وآدابها، وهو يذكر علم النجوم: ولنا شاهدٌ في سِفر أيوب على معرفة العرب لأسماء النجوم وحركاتها في الفلك، إذ كان ايوب النبي عربي الأصل عاش غربي الجزيرة حيث امتحن الله صبره.
ويقول الدكتور جواد علي في كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام. . من القائلين بأن سفر أيوب عربي الاصل والمتحمسين في الدفاع عن هذا الرأي المستشرقُ «مرجليوث» . وقد عالج هذا الموضع بطريقة المقابلات اللغوية ودرساة الاسماء الواردة في سفر ايوب. وقد اكد هذا الرأي كثير من المؤرخين.
وخلاصة قصته انه كان صاحب أموال كثيرة، وابتلاه الله بان أذهبَ اموالَه حتى صار فقيرا، وابتلاه بجسده حتى نفر عنه أقاربه، وبقي طريحاً مدة من الزمن، وهو صابر مستمرٌّ على عبادته وشكره لربه. ثم ان الله تعالى عافاه ورزقه وردّ له احسن مما ذهب عنه من المال والولد.(2/443)
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين} .
اذكُر أيها النبي اسماعيل وادريس وذا الكفل، كل منهم كان من الصابرين على احتمال التكاليف والشدائد، وكل هؤلاء ادخلناهم جناتِ النعيم، إنهم من عبادنا الصالحين.
{وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} .
واذكر ايها الرسول يونسَ، صاحبَ الحوت، حين بعثه الله الى أهل «نينوى» في العراق، فدعاهم الى توحيد الله وعبادته فأبَوا عليه وتمادوا في كفرهم، فغضب منهم وتركهم. وركب مع قوم في سفينة، فهاج البحر وكان لا بد من إلقاء أحدٍ ممن في السفينة، فوقعت القرعة على يونس، كما جاء في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} [الصافات: 141] ، فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت. فدعا ربه وهو في الظلمات، واعتراف بأنه من الظالمين، فاستجاب الله له دعاءه، ونجّاه من ذلك الكرب الشديد. هكذا ننجي المؤمنين الذي يعترفون باخطائهم ويدعون ربهم مخلصين.
قراءات:
قرأ يعقوب: فظن ان لن يُقدَر عليه بضم الياء وفتح الدال. والبقاون: نقدر بفتح النون وكسر الدال.
{وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} .
اذكر يا محمد خبر زكريا حين نادى ربّه وطلب منه أن يرزقه ولدا، فرزقه يحيى من خيرة الأنبياء. وأصلحنا له زوجته بأن جعلناها تلد، فهم أهل بيت صالحون، يعملون الخير ويعبدوننا رغبة منهم في رحمتنا، وخوفا من عذابنا. وقد مر ذكر زكريا في سورة آل عمران، وسورة مريم.
{والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} .
كذلك اذكر يا محمد مع هؤلاء الأبرار قصة مريم التي صانت نفسها، فألقينا فيها سرّاً من أسرارنا، ومعجزة كبيرة بأن حملت دون زوج، وجعلنا امرها هي وابنها آية للناس يستدلّون بها على قدرة الله وحكمته.(2/444)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
الأمة: جماعة من الناس تجمعهم صفات موروثة ومصالح وأماني واحدة، او يجمعهم امر احد من دين او مكان او زمان، ثم شاع استعمالها في الدين. وتقطّعوا امرهم: تفرقوا وصاروا شيعا. فلا كفران لسعيه: لا يضيع سعيه، ولا يُجحد. حرام على قرية: ممتنع على اهل القرية. من كل حدب: من كل مرتفع من الارض. ينسلِون: يسرعون. حصب جهنم: وقود جهنم. زفير: شدة تنفسهم في النار.
بعد عرض سُنن الله الكونية، الشاهدة بوحدة الخالق، وسنن الله في ارسال الرسل بالدعوات الشاهدة بوحدة العقيدة - يؤكد القرآن الكريم هنا وحدة الأمة والإله، وان الله لا يضيع عمل عاملٍ مخلص، ثم يعرض مشهداً من القيامة، ومصير المشركين والشركاء في ذلك اليوم.
{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} .
الخطاب هنا لجميع الناس، ان هذه ملّتكم ملة واحدة، وأنا ربكم ايها الناس، فعليكم ان تدينوا جميعاً بدِين التوحيد الذي جاء به جمع الانبياء. فاعبدوني دون جميع هذه الآلة والأوثان. وأمةً بالنصب حال.
{وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} .
مع كل هذا الإرشاد تفرَّق اكثرُ الناس بحسب شهواتهم، وصاروا شِيعاً مختلفة، منهم الجاحدون ومنهم المشركون، وكلّهم راجعون الينا، فمن يعمل الأعمال الصالحةَ وهو مؤمن بالله فلا ينقص شيء من سعيه، بل سيوفّاه كاملا {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] .
{وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} .
ان كل أهل قريةٍ اهلكناهم في الدنيا لا بد ان يرجعوا الينا ليلاقوا جزاءهم يوم القيامة فالجزاء على الاعمال إنما يتم في الآخرة ولو قدِّم منه شيء في الدنيا. وهذه الآية أشكلت على المفسرين، وقال بعضهم إنها مشكلة، وتعذر معناها: وحرام على أهل قرية حكمنا باهلاكها ان يُقبل لهم من عمل لأنهم لا يتوبون، وقال بعضهم: وحرم الله على اية قرية اهلكها الله أن يعيدها الى الدنيا. . .
قراءات:
قرأ ابو بكر وحمزة والكسائي: وحرم بكسر الحاء واسكان الراء. والباقون: وحرام بفتح الحاء والراء والف بعدها والمعنى واحد.
{حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} .
لا يزال الأمر يجري على ما قدّمنا، نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين ونشكر سعيهم، ونهلك القرى الظالمة، ونحرم رجوعهم بعد الهلاك الى ان يُفتح سدُّ يأجوج ومأجوج، وتراهم يسرعون من كل مرتفع من الارض. وهذا الأمر من علامات اقتراب الساعة، كما جاء في سورة الكهف 98 {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} قراءات:
قرأ ابن عامر: فُنُّحتْ بالتشديد. والباقون: فُتِحت بالتخفيف.
{واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}
لقد َرُبَ مجيء يوم القيامة، وعندها تشخَص أبصار الذين كفروا من شدة الهول، فيصيحون قائلين: يا هلاكنا قد كنا في غفلة من هذا اليوم، بل كنا ظالمين لأنفسنا بالكفر العناد.(2/445)
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ويقال لهؤلاء الكفار: انكم جميعا مع من عبدتم من دون الله وقودُ نارِ جهنم واردون لها، وداخلون فيها.
{لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} .
لو كان هؤلاء الأصنام الذين عبدتموهم من دون الله آلأهة ما دخلو النار، وكلُّكم: العابدون والمعبودون المزيفون - في النار مخلَّدون. ولكم في النار زفير ونَفَس متقطع، من شدة ما ينالكم من العذاب، ولن تسمعوا شيئا يسرّكم.(2/446)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
الحسنى: البشارة بالجنة. حسيسُها: صوتها. السجلّ: الصحيفة والكاتب؟ كطيّ السجلّ للكتب: كما تطوى الورقة في الكتاب أو كما يطوي الكاتب الكتاب. الزبور: الكتاب الذي أُنزل على داود.
بعد ان ذكر اللهُ حالَ أهلِ النار وعذابهم بسبب شِركهم بالله، بيّن أحوال السعداء من المؤمنين بالله، والذين قدَموا صالح الأعمال فقال:
{إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} .
ان الذين وفّقناهم لأتّباع الحق وعمل الخير، وسبقت لهم منّا البِشارة بالجنة، أولئك لا يدخلون النار ولا يقربونها، ولو أن بعضهم عُبد مِن دونِ الله كالمسيح بن مريم، فإنه لا دخْل له بعصيان من عَبده.
إنهم لا يسمعون صوت النار، وهم في سرور دائم وفيما تشتهيه انفسهم خالدون.
{لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
لا يحزنهم الهولُ الأكبر الذي يخيف الكفار، وتستقبلهم الملائكةُ بالتهنئة البشرى بالنجاة، قائلين لهم: هذا هو اليوم الذي وعدكم اللهُ به.
{يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
يوم نطوي السماءَ كام تُوطى الورقة في الكتاب، ونعيد الخلق الى الحساب والجزاء، وهو علينا هيّن، فكما بدأناهم نعيدُهم، قد وعدْنا بذلك وعداً حقا، لا بد من تحققه وإنا لذلك لفاعلون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: للكتب بالجمع. وبالباقون: للكتاب بالمفرد.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} .
لقد كتب الله عنده وأثبتَ في قديم عِلمه، ثم أثبتَ في الكتب السماوية من بعدِ ذلك أن الارض لا يعمرها من عباده الا من يصلح لعمارتها، وهذه سُنة من سنن الله لا تتخلَّف ولا تتبدَّل. كما قال تعالى ايضا: {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] ، {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] .
{إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} .
ان فيما ذكرنا من أخبار الأنبياء مع أقوامهم، وأخبار الجنة والنار - لكفايةً في التذكير والاعتبار لقوم يتعظون بالعبر وينتفعون بالنذر.
وما أرسلناك يا محمد بهذا الدِّين القويم، والقرآن الكريم الا رحمة عامة للعالمين.(2/447)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
مسلمون: منقادون مستسلمون. تولَّوا: أعرضوا. آذنتكم على سواء: أعلمتكم جميعاً بلا استثناء. لعله فتنة: لعله اختبار. ومتاع: كل ما يتمتع به. احكم بالحق: اقضِ بالعدلِ. المستعان: الذي نستعين به. على ما تصِفون: على ما تفترون وتكذبون.
{قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} .
قل يا محمد لمشركي قومك وللناس اجمعين، ان الله أوحى إلي أنه لا إله إلا هو اله واحد، فأسلموا اليه واخضعوا جميعا.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} .
فإن أعرضوا عن اتباع دعوتك، فقل لهم: لقد أعلمتكم جميعاً برسالتي وما أمرني به ربي ولا أدري ما توعدون به من البعث والحساب أهو قريب أم بعيد. . . . إن علمه عند الله.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} .
ان الله يعلم كل ما يقال مما تجهرون به وما تكتمون في أنفسكم.
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}
وما أدري سببَ تأخير جزائكم، لعلّه اختبار لكم يمتحنكم به الله، ويؤخركم ليمتعكم بلذائذ الحياة الى حينٍ قدره الله بحسب حكمته.
وهنا في ختام هذه السورة يتوجه الرسول الى ربه وقد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة فيطلب من ربه حكمه الحق بينه وبين قومه، ويستعينه على كيدهم وتكذيبهم.
{قَالَ رَبِّ احكم بالحق وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ} .
يا رب، احكُم بيني وبين من بلّغتم الوحيَ بالعدل، والله الرحمن هو المستعان به على ما تصفون من الشرك والضلال وما تزخرفون من أباطيل.(2/448)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
اتقوا ربكم: أطيعوه ولا تعصوه. الزلزة: حركة الأرض الشديدة. تذهَل: تسلو وتترك الشيء من الدهش والخوف. المَريد: الطاغي، الشرير. النطفة: كمية قليلة من ماء الرجل. العلَقة: القطعة الصغيرة الجامدة من الدم. المضغة: القطعة الصغيرة من اللحم بقدر ما يمضغ. مخلَّقة: تامة الخلقة. غير مخلقة: غير تامة الخلقة. الى اجل مسمى: حين الوضع. لتبلغوا أشُدكم: تكمل قوتكم. ارذل العمر: آخره مع الكبر والخرف بحيث لا يعرض شيئا. هامدة: يابسة لا حياة فيها. اهتزت: تحرك نباتها. وربت: ازاد نباتها نموا. من كل زوج بهيج: من كل صنف حسنٍ يسر الناظرين.
{ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} .
تبدأ السورة بمطلع رهيب مخيف: يا أيها الناس، نداءٌ الى جميع الخلق، احذَروا عقاب ربكم، فأطيعوه ولا تعصوه. . إن زلزلة الساعة، وهي قيامُ بعد خراب هذا الكون - شيء مذهل. ففي ذلك اليوم يبلغ الأمر من الهول والدهشة، ان تذهَل المرضعةُ عن ولدها فتتركه وتحاول ان تنجوَ بنفسها، وتُسقط الحوامل ما في بطونها من الأجنة من الفزع. وترى الناسَ كأنهم سكارى مع أنهم ليسوا كذلك، لكن شدة الموقف وعظمة الساعة وما فيها من أهوالٍ جعلتهم بهذا الحال، {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] . ان الهول الذي يشاهدونه والخوفَ من عذاب الله الشديد هو الذي أفقدَهم توازنهم، وجعلهم في حيوة مذهلة.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي: سكرى، والباقون: سكارى.
وبعد ان أخبر الله تعالى ما فيه القيامة من أهوالِ وشدائد، ودعا الناس الى التقوى والعمل الصالح، بيّن أنه مع هذا التحذيرِ الشديد فإن كثير من الناس ينكرون هذا البعث، ويجادلون في امور الغيب بغير علم فقال:
{وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير}
مع هذا التحذير الشديد، فإن بعض الناس يدفعه العناد الى الجدَل في الله وصفاته، لا يستند في جَدَله وإنكاره الى علمٍ صحيح أو حجة صادقة، ولكنه يقلّد ويتّبع خطواتِ كل شيطان متمرد على ربه، شريرٍ دأبُهُ الفساد والضلال.
ولقد قرر الله وقضى أن كل من اتبع ذلك الشيطانَ، وسلك سبيله - أضلّه الشيطان عن طريق الحق، ووجهه الى الباطل المفضي به الى عذاب جهنم.
{ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ}
يا أيها الناس إن كنتم في شكٍّ من بَعْثِكم من القبور بعد الموت يوم القيامة، فانظروا الى خلقكم. لقد خلناكم من تراب. ثم جعلنا منه نطفةً سغيرة حولناها بعد مدة الى علَقة، أي قطعة صغيرة من الدم، ثم الى مُضْغة وهي قطعة صغيرة من اللحم، تارة تكون تامة الخلقة، وتارة غير مخلقة.(2/449)
وذلك لنبيّن لكم قدرتنا، وعظيم حكمتنا، والتدرج في التكوين.
{وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}
ونبقي ما نشاء من الأجنّة في الأرحام الى الوقت الذي يكمل فيه الحَمْل وتتم فيه الولادة، ثم نخرجكم من بطون أمهاكم اطفالا، ثم نرعاكم حتى تبلغوا تمام العقل والقوة. ومنكم بعدَ ذلك من يتوفاه الله، ومنكم من يَمُدّ له عمره حتى يبلغ درجة من الكبر يعود فيها الى الخَرَف وعدم معرفة اي شيء، وذلك هو أرذلُ العمر نعوذ بالله منه. . فاللهُ الذي بدأ خلقكم بهذه الصورة لا يُعجزه إعادتكم.
ثم ذكر الاستدلال على امكان البعث بحال خلْق النبات ايضا فقال:
{وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
وأمرٌ آخر يدلنا على قدرة الله على البعث، أننا نرى الأرضَ بينما تكون هامدة يابسة قاحلة، فإذا نزل عليها الماء دبّت فيها الحياة وتحرّكت ونمت وازدهر نباتها، وأظهرت من أصناف النباتات ما يروق منظرُه، وتبتهج النفس لمرآه.
{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ذلك الذي تقدَّم من القدرة على خلْق الانسان ونبات الزرع - شاهدٌ على ان الله هو الإله الحق، وأنه يحيي الموتى عند بعثهم كما بَدَأهم، فهو القادر على كل شيء.
{وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} .
وأنكم إذا تأملتم في خلْق الانسان والحيوان والنبات وهذا الكون العجيب - أمكنكم ان تؤمنوا بقدرة الله على كل شيء، وان الساعة آتيةٌ لا شك فيها، وان الله يبعث من في القبور بعد موتهم، للحساب والجزاء.(2/450)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
بغير علم: بغير معرقة ولا مشاهدة حسّية. ولا هدى: ولا نظرٍ صحيح ولا عقل. ولا كتاب منير: ولا وحي. ثاني عطفه: جاء متكبرا مختالا. على حرف: على ناحية معينة، اذا رأى شيئا لا يعجبه عَدَل عنه. وأصل معنى الحرف الطرَف، وله معان كثيرة. فان أصابه خير: مالٌ وكثرة في الولد. فتنة: بلاءٌ ومحنة في نفسه او أهله او ماله. انقلب على وجهه: ارتد عن دينه. خسر الدنيا والآخرة: ضيّعهما. يدعو من دون الله ما لا يضره. . .: يعبد غير الله. المولى: الناصر. العشير: الصاحب المعاشر.
{ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} .
ومع كل هذه الأدلة الواضحة فإن بعضَ الناس يجادل في الله وقدرته، وينكر البعثَ بغير معرفة، ولا برهان عقليّ على ما يقول، ولا وحي من عند الله ينير صحته.
{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق}
تراه متكبراً مختارا بين الناس، مُعْرِضا عن قبول الحق، ليصدّ المؤمنين عن دينهم. . وهذا الصنفُ من الناس له في هذه الدنيا هوان وخِزي، وسيصَلى في الآخرة عذاب الجحيم.
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو ورويس: ليَضِل بفتح الياءن والباقون: ليُضل بضم الياء.
ثُم يبيّن الله سبب هذا الخزي المعجَّلِ والعذابِ المؤجل فقال:
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ}
ويقال لهذا المتكبر المختال الضال: ذلك الذي تلقاه من خزي وعذاب بسببِ ضلالك وكبريائك، واللهُ لا يظلم أحدا.
{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين}
ومن الناس نوعٌ آخر لم يتمكن الإيمان من قلبه، فهو كأنه واقف على طرف غير ثابتٍ على حال، فهو مزعزع العقيدة، مضطرِب مذبذَب، يعبد الله على وجه التجربة. فان اصابه خيرٌ بقي مؤمنا، وإن أصابه شر من مرض او ضياع مال او فقد ولد - ترك دينه وارتدّ كافرا. خسِر الدنيا والآخرة. . . فخسر في الدنيا راحةَ البال والاطمئنان الى قضاء الله، كما خسر في الآخرة النعيم الذي وَعَدَ الله المؤمنين به.
وذلك هو الخسران الذي لا خسران مثله.
{يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذلك هُوَ الضلال البعيد} .
ان مثلَ هذا يعبد من دون الله أصناماً لا تضره ولا تنفعه. وأيُّ ضلالٍ وخسران اكبر من هذا الضلال، وابعد عن الهدى!!
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} .
يدعو من دون الله من ضررُه أقربُ من نفعه، لبئس ذلك المولى ناصراً، ولئس ذلك المعبودُ من صاحبٍ معاشر لا فائدة منه.(2/451)
فأيُّ ناصرٍ ذلك الذي لا ينفع ولا يضر!! .
بعد ان بين الله حال المشركين الضالين وما يعبدون من دون الله، ومصيرهم في الآخرة ذَكَر هنا ما يدّخره للمؤمنين، وهو خيرٌ من عَرَضِ الحياة الدنيا كله فقال:
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} .
ان الله يتفضّل على لامؤمنين الذي عملوا صالح الأعمال، ويكافئهم لقاءَ إحسانهم، بدخول جناته التي تجري من تحت اشجارها الأنهار بسبب صدقهم وايمانهم وما قاموا به من جليل الاعمال. {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من اكرامِ من يطيعه، وإهانةِ من يعصيه، ولا رادّ لحكمه، ولا مانع لقضائه.(2/452)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
بسبب: بحبل. الى السماء: الى مكان مرتفع. ثم ليقطع: ليختنق. فلينظر: فليقدّر في نفسه النظر. الذين هادوا: اليهود. والصابئين: وهم فرقتان: جماعة يوحنا المعمدان واسمُهم المندائيون، وصابئة حَران، الذين عاشوا زمنا في كنف الاسلام. . وسيأتي في الشرح التعريف بهم. المجوس: كلمة إيرانية، أهلُها أتباع زرادشت. وهم يقدّسون النار، والشمس والقمر، وقد انقرضت المجوسية او كادت بعد استيلاء المسلمين على فارس. الذين اشركوا: عبدةُ الأوثان. ألم تر: ألم تعلَم.
{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} .
من كان من الناس يحسَب أن الله لن ينصر نبيّه محمداً في الدنيا والآخرة فليتقلْ نفسه وينظر هل يُذهِب ذلك ما يجِدُ في صدره من الغيظ!
وهناك من المفسّرين من يقول من يفقد ثقته بنصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله حين تشتد به المِحَن، فدُونَه فليفعل بنفسه ما يشاء؛ فليمدد بحبل الى السماء ويشنق نفسه به، ثم ينظر هل ينقذه تدبيره ذلك مما يغيظه.
قراءات
قرأ ابن عامر وابو عمرو ورويس: ثم لِيقطع فَلِينظر: بكسر اللام. والباقون: بسكون اللام.
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} .
ومثلَ ما بينّا حجتنا الواضحات فيما سبق، أنزلنا القرآنَ كله على محمدٍ آياتٍ واضحة، واللهُ يهدي من أراد هدايته وارشاده الى سبيل السلام.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
ان الذين آمنوا بالله وبرسلِه جميعا، واليهودَ، والصابئين (وهم فرقتان: جماعة المندائيين أتباع يوحنا المعمدان، وصابئة حَرّان. وقد ورد ذِكرهم في القرآن ثلاث مرات بجانب اليهود والنصارى، مما يؤذن بأنهم أهلُ كتاب. وقد فصّل تاريخهم وطقوسهم كل من الشهرستاني في «المِلل والنِحَل» والدمشقي في «نخبة الدهر في عجائب البحر» . وهم قوم لهم طقوس، ويعدُّون بين الروحانيين الذي يقولون بوسائط بينَ الله والعالم، وهم يتطهرون بالماء إذا لمسوا جسداً، ويحرّموا الخِتان، كما يحرمون الطلاق إلا بأمر القاضي، ويمنعون تعدُّد الزوجات، ويؤدون ثلاث صلوات كل يوم. ولقد عاشوا متفرقين في العراق، وكان مركزهم الرئيسي حَرّان، ولغتهم السريانية، وكان منهم المترجمون والرياضيون والنباتيون في صدر الاسلام كما نبغ منهم شخصيات عديدة. ومنهم بقية في العراق في الوقت الحاضر.
والنصارى أتباع سيدنا عيسى. والمجوس: الذين يقدّسون النار، ويقولون ان الخير من النور، والشر من الظلام، وهؤلاء تقريبا انقضروا ولا يزال منهم بقية في الهند. والذين اشركوا هم عبدة الاوثان وهم كثيرون، ولا يزال منهم عدد هائل في عصرنا الحاضر، وهم منتشرون في افريقيا، وآسيا وكثير من البلدان.(2/453)
إن الله سيفصل بين هؤلاء جميعا يوم القيامة بإظهار المحقّ من المبطِل منهم، فهو مطّلع على كل شيء، عالمٌ بأعمال خلقه وما تكنّه ضمائرهم.
تقدم في سورة البقرة 66 {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فلم يذكر المجوس ولا الذين اشركوا.
وفي سورة المائدة 69 {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى. . . .} فلم يذكر المجوسَ ولا الذين أشركوا.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} .
الخطاب لجميع الناس، وجعله «الطبريط لسيدنا محمد. وتفسيره: ألم تعلم أن هذه الخلائقَ جميعَها مسخَّرة لقدرة الله، منقادةٌ لإرادته، فتسجد له سجودا لا تطّلع أنتَ عليه، وكثيرُ من الناس يؤمن بالله ويخضع لأوامره. . وبذلك استحقوا الجنة، فيما أعرض كثير منهم ولم يؤمن فاستحقوا العذاب، ومن يهنْه الله لسوءِ سلوكه فليس له من مكرِم، ان الله يفعل في خلقه ما يشاء، فهو لا يُسأل عما يفعل، فمن سلك طريق السلام سلم، ومن سلك طريق الهلاك هلك.
هذه الشجدة من غزائم السجود في القرآن فَيُسَنُّ للقارىء والمستمع ان يسجد عند تلاوتها او سماع تلاوتها.(2/454)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
خصمان: واحدُهما خصم وهو المنازع. قطعت لهم: قدرت، فصلت لهم وهي الأوْلى. الحميم: الماء المغلي. يصهر به: يذاب به. مقامع: واحدتها مِقمعة بكسر الميم الأولى، خسبة او حديدة يُضرب بها الانسان على رأسه ليذّل ويهان. الحريق: المحرِق: أساور: الاسوار والسوار هو الحلية التي تلبس في المعصم، جمعها أسورة، وجمع الجمع أساور وأساورة. هدوما: ارشدوا. الطيب من القول: الكلام اللطيف الرقيق. الصراط الحميد: الطريق المحمود. العاكف: المقيم. البادي: الطارىء القادم عليها. الالحاد: الانحراف، والعدول عن القصد. بظلم: بغير حق.
{هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ. . . . .} .
إن أهلَ الأديان الستة الذين سبق ذِكرهم فريقان: فريق المؤمنين وفريق الكافرين، جادلوا في دين الله، وتنازعوا في أمر ربهم، وكل فريقٍ يعتقد أن الّذي عليه هو الحقّ. فالذين كفروا أُعدّت لهم نيرانٌ تحيط بهم كأنها ثياب قُدِّرت على أجسامهم، ولزيادة تعذيبهم تصبُّ الملائكة على رؤوسهم الماء المغلي، فينفذ إلى بطونهم فيذيبُ أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم.
ولتعذيبهم سياطٌ من حديد، تضرب بها رؤوسهم، يُقمعون بها كلّما حاولوا الهروب من جهنم والخروج منها من شدة الغم. وتردّهم الملائكةُ الى جهنم، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار المحرِقة جزاءَ كفركم.
ويرى جماعة من المفسرين ان هذه الآياتِ نزلت يوم بَدْرٍ، وان المراد بالخَصْمَين: حمزة ابن عبد المطلب، وعلي بن ابي طالب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهـ وهم المؤمنون، وعتبة بن ربيعة، وشَيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة وهم الكافرون، وهؤلاء اول من تبارزوا يوم بدر.
فقد روى ابن جرير الطبريّ في تفسيره أن أبا ذَرٍّ رضي الله عنهـ كان يُقسم ان هذه الآيات نزلت في المتبارزين يوم بدر. وفي الصحيحَين عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه انه قال: فينا نزلتْ هذه الآيات، وأنا أولُ من يجثو في الخصومة على رُكبتيه بين يد الله يوم القيامة. . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وبعد ان بين الله سوء حال الكافرين أردفَ ذلك ببيانِ ما يناله المؤمنون من الكرامة من المسكن والحِلية والمَلْبس وحسن القول والعمل {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] .
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
أما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمالَ الصالحة، فإن الله تعالى أعدَّ لهم نعيماً مقيماً في جنات الخُلد، ترجي من تحت قوصرِها وأشجرها الأنهار، ويتمتعون فيها بالحليّ من الذهب واللؤلؤ، ويلبسون افخر أنواع الحرير.
قراءات
قرأ نافع وعاصم: ولؤلؤا بالنصب. والباقون: ولؤلؤ بالجر.
{وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} .
وزيادةً في ما اسبغ الله عليهم من النعيم، يتعاملون فيمابينهم بالكلام اللِّين الطيب، والعشرةِ المحمودة بمحبة وسلام.(2/455)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
ان الّذين كفروا بالله ورسوله، ويمنعون الناسَ أن يدخلوا في دين الله وأن يصِلوا الى المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس، سواء الميمُ فيه والطارىء الذي جاء قاصداً له من مكان بعيد - يجازيهم اللهُ على ذلك بالعضاب الشديد. . . . وكذلك يجازي من ينحرف عن الحق، ويميل إلى الظلم في الحَرَمِ ويعذّبه عذاباً أليما.
روى ابن عباس رضي الله عنهما: ان الآية نزلت في أبي سفيانَ وأصحابه من قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عامَ الحُدَيبية عن المسجد الحرام، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.(2/456)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
بوّأْنا لابراهيم مكان البيت: انزلناه فيه، يعني في الحرم. وطهِّر بيتي: اجعله مطَّهرا بالعبادة الصحيحة. للطائين: الذين يدورون حوله. وأذّن في الناس بالحج: ناد الناس للحج وادعهم اليه. رجالا: مشاة. وعلى كل ضامر: جملٌ ضامر وناقة ضامر، قليلة اللحم تتحمل مشاق السفر. فج عميق: طريق بعيد. ليذكروا اسم الله: ليحمدوه ويشكروه. في أيام معلومات: ايام النحر الثلاثة وهي يوم العيد ويومان بعده. بهيمة الانعام: الإبل والبقر والضان. البائس: الذي افتقر واشتدت حاجته. ثم ليقضوا تفثهم: ليزلوا ما علق بهم من اوساخ. وليوفوا نذورهم: يؤدوا ما نذروه. بالبيت العتيق: المسجد الحرام، لأنه أولُ بيتٍ وضع للناس.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود} .
واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذي يصدّون عن سبيلِ الله ودخول المسجد الحرام ويدَّعون انهم أتباع ابراهيم. . . . اذكُر لهم قصة إبراهيم والبيت الحرام حين أنزلناه فيه وأمرناه باعادة بنائه، وقلنا له: لا تُشرك بي شيئا، وطهّر بيتي من عبادة الاثان لمن يطوف به ويقيم بجواره ويتعبد عنده.
{وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}
وقلنا له (ابراهيم) : نادِ الناسَ داعياً اياهم الى الحجّ وزيارة هذا البيت الذي أُمرتَ ببنائه يأتويك مشاةً على ارجلهم، وركباناً على كل جمل ضامر وناقة ضامر من كل طريق بعيد.
ثم بيّن السب في هذه الزيارة فقال: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} .
نادِهم يا إبراهيم ليحصلوا على منافعَ دينية لهم بأداء فريضة الحج، ومنافعَ دنيوية بالتعارف مع إخوانهم المسلمين والتشاور معهم فيما ينفعُهم في دينهم ودنياهم. (والحجُّ اكبر مؤتمرٍ في العالم، وهو من أعظمِ التجماعت لو عرف المسلمون كيف يستفيدون منه.) وليذكروا اسم الله في أيام النَّحْر ويشكروه ويحمدوه على ما رزقهم ويسّر لهم من الإبل والبقر والغنم، فكلوا منها ما شئتم وأطعِموا الفقراءَ وكلَّ محتاجٍ من البائسين والمحتاجين.
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} .
ثم عليهم بعدَ ذلك أن ينظّفوا أجاسمهم مما عَلِقَ بها أثناء الإحرامِ من آثار العرق وطول السفر، لأن الحاجّ لا يستطيع ان يقصّ شَعره او يقلّم ظافره او يزلَ ما علق به من أدران حتى يتحلّلَ من الإحرام، ثم بعد ذلك يقومون بما عليهم من نُذورِ فيؤدونها، ويطُوفون.(2/457)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
حرمات الله: التكاليف الدينية وكل ما نهى الله عنه. فاجتنبوا الرجسَ من الأوثان: ابتعِدوا عن عبادتها. الزور: الكذب. حنفاء: واحدهم حنيف، وهو من استقام على دين الحق، ومال عن كل زيغ وضلال. كأنهما خرّ من السماء: كأنما سقط من السماء. فتخطَفه الطير: يعني بعد ان يسقط ويموت تأكله الطير. مكان سحيق: مكان بعيد. شعائر الله: جمع شعيرة وهي كل اعمال الحج والهدايا التي يسوقها الحاج. منسكا: مكانا للعبادة. مُخبتين: خاشعين. وَجِلتْ قلوبهم: خافت.
{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} .
ذلك الذي أمرءنا به من قضاء المناسك هو الواجبُ عليكم في حَجِّكم، ومن يلتزم أوامر الله ونواهيه في حجه تعظيماً لحدود الله يكن ذلك خيراً له عند ربه في دنياه وآخرته. لقد أحلّ الله لكم لُحوم الإبل والبقرة والغنم، إلا في حالاتٍ مما بينه القرآن، كالميتة وغيرها، فاجتنبواعبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان. . إن ذلك رجس. ابتعِدوا عن قول الزور على الله وعلى الناس.
{حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .
تمسّكوا بهذه الأمور مخلصين العبادةَ لله وحده، دون إشراك أحدٍ به. . . . إن من يشركْ بالله يعرّض نفسه للهلاك المريع، وكأنه سقط من السماء فتمزَّقَ قِطعاً تتخطّفه الطور فلا تبقي له أثرا، أو كأن الريح العاتية عصفتْ به فشتّتَت أجزاءه، وهوت بكل جزء منها في مكانٍ بعيد.
{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} .
امتثِلوا ذلك واحفظوه، لأن من يعظّم دينَ الله وفرائضَ الحج وأعماله، ويسوق البُدْنَ والهدايا الى الحَرَم ويختارها عظيمةَ الأجسام صحيحة سمينة - فقد اتقى الله، لأن تعظيمها أثرٌ من آثار تقوى القلوب.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق}
لكم في هذه الهدايا منافع دنيوية، فتركبونها حين الحاجة وتحمل أثقالكم، وتشربون من ألبانها، ثم لكم منافعهُها الدينية كذلك حين تذبحونها عند البيتِ الحرام تقرباً الى الله.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ المخبتين} .
ليست هذه المناسك خاصةً بكم، فقد جعلنا لأهل كل دينٍ من الأديان من قبلكم قرابينَ يتقربون بها الى الله، يوذكرون اسم الله عليها ويعظّمونه عند ذبْحِها شكراً له على ما أنعم عليهم، ويسَّره لهم منها. إن عبودَكم إله واحدٌ فاسلِموا له وحده، ولا تشركوا معه أحداً. ويا أيها الرسول بشّر بالجنة والثوابِ الجزيل المخلصين، الخاضعين لله من عباده. وقد بيّن الله علاماتِ أولئك المختبين فقال:
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ والمقيمي الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
وهؤلاء المختبين لهم صفات:
أولاها: أنهم إذا ذُكر الله عرتهم رهبةٌ من خشيته، وخوفٌ من عقابه.
ثانيتها: الذين يصبرون عند الشدائد على ما يصيبُهم من المكارِه والمتاعب.
ثالثتها: ويقيمون الصلاةَ على أحسنِ وجهٍ في أوقاتها بخضوع ونشاط.
رابعتها: وينفقون بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق في وجوه البِرِّ وفي سبيل الله.(2/458)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
البدن: بضم الباء جمع بدنة، وهي الناقة او البقرة التي تنحر بمكة أيام الحج. وتطلق اللفظة على الذكر والانثى. صوافّ: قائمات قد صُفت أيديهن وأرجلهن، مفردها: صافَّة. وجبت جنوبها: سقطت على الأرض عند نحرها. القانع: الراضي بما يعطى له نم غير سؤال. المعرّ: الذي يتعرض للسؤال ويطلب الصدقات من الناس.
بعد أن حثّ الله على التقرب بالأنعام كلّها، وبين ان ذلك من تقوى القلوب - خصَّ من بينها الإبلَ والبقر لأنها أعظمُها خَلقا وأكثرها نفعا، وأغلاها قيمة.
{والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وقد جعلنا تقديم الإبل والبقر هدايا في الحجّ من شعائِرِ الدِّين ومظاهره، ولكم فيها خيرٌ كثير، ركوبها وشُرب ألبانها ولكم في الآخرة أجرٌ وثواب بإطعام الفقراء منها. فإذا صُفَّت للذبح فاذكُروا اسمَ الله عليها. فإذا تم ذبحها وسقطت على الأرض، فكُلوا بعضاً منها، وتصدّقوا على لافقير القانع المتعفف الذي لا يسأل، والفقيرِ الذي يسأل. وكذلك سخّرناها لكم وذلّلناها لإرادتكم لتشكرونا على نِعمنا التي لا تحصى عليكم.
ثم بين الله تعالى أن عملكم هذا ينفع الفقراء والمحتاجين، والله غنيٌّ عن ذلك كله فقال:
{لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين} .
اعملوا أن الله تعالى غنيّ عن العالمين، ولا يصله شيءٌ من هذه الأضاحي والهدايا والصدقات، وهو لا يريد منكم مجرد التظاهرِ بالذبح وإراقة الدماء، لكنّه ينال رضاه تقواكم وإخلاصُ نواياكم. وهذا سخّرها لكم لتشكروه على هدايتكم لمعالم دينه، ومناسك حجّه. وبشِّر أيها النبي المحسِنين الذين أحسنوا أعمالهم بثواب عظيم وجنةٍ عرضُها السموات والارض.
قراءات
قرأ يعقوب: لن تنال الله لحومها، ولكن تناله، بالتاء، والباقون بالياء.(2/459)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
اذن: رخِّص. صوامع: واحدها صومعة، وهي معابد الرهبان خارج المدن. وبيَع: واحدتها: بيعة، وهي الكنيسة. وصلوات: معابد اليهود. ومساجد: معابد المسلمين.
{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو: ان الله يدفع بدون الف.
إن الله يدفع عن عباده المؤمنين شرَّ المعتدين، ويحميهم وينصرُهم بإيمانهم. وفي الآية تمهيد لما في الآية التي بعدها من الاذن في القتال، فهو يدافع عن الذين آمنوا لأنه يدافع عن دِينه، ولا يحب الخائنين لأماناتهم، المبالغين في كفرهم بربّهم.
وكان المؤمنون وهم في مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ان يطلب من الله الاذن بالقتال، وكان المشركون يؤذونهم ويظلمونهم، فيأتون الى النبيّ الكريم بين مضروبٍ ومشجوج في رأسه، ويتظلمون إليه. فيقول لهم: «صبراً صبرا، فإني لم أوذَن بالقتال، حتى هاجر وانزل الله تعالى هذه الآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
وهذه، كما يقول العلماء، أولُ آيةٍ نزلت بالاذن بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيّف وسبعين آية كما رواه» الحاكم «في: المستدرَك، عن ابن عباس.
لقد أُبيح للمؤمنين ان يقاتِلوا المشركين دفاعاً عن أنفسِهم وأموالهم ووطنهم، وان يردّوا اعتداءهم عليهم، بسب ما نالهم من ظلم صبروا عليه طويلا.
ثم وعدهم الله بالنصر ودفع أذى المشركين عنهم: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
سبق ما ذكره القرآن الكريم في هذه الآية من الاذن بالقتال، جميع القوانين الوضعية، وهو ان الدفاع عن النفس والمال والوطن والعقيدة - امر مشروع مهما كانت نتائجه، وان المُدافع عن نفسه وماله ووطنه وعقيدته، لا يؤاخذ امام الله وامام العدالة ولو قتل نفساً وأزهق أرواحا. وقد قررت الآية ان المسلمين مأذون لهم في الدفاع عن أنفسهم اذا اعتُدي عليهم.
والآن وقد اعتدى علينا العدو الاسرائيلي وحلفاؤه الغربيون، وسلب أ {ضنا، فان الله تعالى أذِن لنا بالدفاع عن مالنا وانفسنا ووطننا، فيجيب علينا ان نعدّ العدة ونتسلح بالايمان الصادق ونعمل على استرداد مقدساتنا، ولا يستطيع أحدٌ أن يلومنا اذا فعلنا ذلك، بل إننا مقصّرون في حق ديننا وظننا اذا لم نفعل ذلك ومؤاخذون عند الله والرسول.
روى احمد والترميذ والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس: قال لما أُخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال ابو بكر: أخرجوا نبيَّهم، إنا لله وإنا اليه راجعون، ليهلكنَّ القوم. فأنزل الله تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ. . . .} قال ابو بكر: فعرفتُ انه سيكون قتال.
قراءات
قرأ نافع وحفص: اذن للذين قاتلون بضم الهمزة من أُذن وفتح التاء من يقاتلون.(2/460)
وقرأ ابن كثيرة وحمزة والكسائي: اذن بفتح الهمزة، للذين قاتلون بكسر التاء.
ثم وصف الله هؤلاء المؤمنين بقوله:
{الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} .
الذين ظَلمهم المشركون وأرغموهم على ترك مكة والهجرة منها بغير حق، لأنهم آمنوا بالله وحده.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
ولولا ان سخّر الله للحق أعواناً يردعون الطغاة بالقوة لسادات الفوضى وعمَّ الفساد في الأرض، وأخمدوا صوت الحق، وهدموا صوامع الرهبان وكنائس النصارى، ومعابد اليهود، ومساجد المسلمين التي يُذكر فيها اسم الله كثيرا.
وقد تعهّد الله بأن ينصر كلَّ من نَصَرَ دينه، ووعدُ الله لا يتخلف، ان الله قوي على تنفيذ ما يريد، عزيز لا يغلبه غالب.
ثم وصف الله الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله:
{الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور}
هؤلاء المؤمنون الذي أُخرجوا من ديارهم هم الذين ان قوَّينا سلطانهم في الارض، حافظوا على صلواتهم، وعلى صِلتهم بالله، وأدوا الزكاة وأمروا بالمعروف، وحثّوا على كل خير، ونهوا عن كل ما فيه شر، ولله وحدضه مصيرُ الأمور، وإليه المرجع.
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو ان الله يدفع، ولولا دفع الله بدون الف، وقرأ نافع ان الله يدافع ولولا دفاع الله، وقرأ نافع وابن كثير: لهدمت صوامع بدون تشديد الدال.(2/461)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
فأمليت: فامهلت. ثم أخذتهم: أهلكتهم. النكير: العقوبة الرادعة. خاوية: خالية وساقطة. عروضها: سقوفها. بئر معطلة: مهملة لا يُستقى منها. قصر مَشيد: عظيم فخم. معاجِزين مسرعين من الحق الى الباطل.
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
هؤلاء المشركون بالله، فلا تحزن أيها الرسول. . . . لقد كَذَبت أمم كثيرة رسُلهم قبلك، ولستَ أولَ رسولٍ كذّبه قومه وآذوه، فقد كذّب قومُ نوحٍ نوحا، وكذبت عاد وثمود رسُلهم، وكذب قوم ابراهيم رسولَهم ابراهيم، وكذلك فعلَ قوم لوط، وكذب اهل مَدْيَنَ رسولهم شُعيبا، وكذبت فرعونُ وقومه موسى. . . . وقد أمهلتُ أولئك المكذبين مدة لعلّهم يتوبون الى رشدهم ويستجيبون لدعوة الحق، فلم يرتدعوا بل تمادَوا في غيّهم، فعاقبتُهم بأشد انواع العقاب، فانظر يا محمد في آثارهم كيف كان عقابي لهم.
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}
وكثير من القرى أهلكناها بسبب ظُلْم أهلها وكفرهم، وأصبحت خاليةً من سكانها، سقوفها ساقطة على جدرانها، كأن لم تكن بيوتها موجودة من قبل. وكم بئرٍ معطلة لا يرِدُ عليها أحد، وقصرٍ عظيم خلا من سكانه!
قراءات
قرأ اهل البصرة: اهلكتها بالتاء. والباقون: اهلكناها بالنون.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}
أوَلَم يتعظ هؤلاء المكذبون بمصارع الأولين، وينظروا كيف أصبحتْ ديارهم خاليةً ودورهم معطلة! أين عقولهم وسمعُهم وأبصارهم، هل تعطلت؟
ان العمى الحقيقي ليس في العيون، ولكنه في القلوب والبصائر، فإنهم في هذه الحالة يرون ولا يدركون، ويسمعون ولا يعتبرون.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} .
ها إنَّ قومُك يا محمد بدلاً من التأمل في مصارع الماضين، وديارِهم الخاوية، والاتعاظ بها والايمان بالله - راحوا يستعجلون في العذاب الذي أخَّره اللهُ عنهم إلى أجلٍ معلوم!! وهذاغرور كبير منه، واللهُ تعالى لن يُخلف وعدَه، فهو واقع بهم، ولكن في موعدٍ قدَّره الله في الدنيا او في الآخرة. ان أيام الله لا تقدير لها، فان يوماً واحداً من أيامه كألف سنةٍ من أيامكم.
ولم يكن هذا مفهوماً في الزمن الماضي، ولكنه اليومَ أصبح بديهيا، بعد ان صعد الانسان الى المر وعرف أَن الزمن نسبيٌّ، وان الانسان إذا خرج من جوّ الأرض الذي نعيش فيه اصبح الزمن بلا حدود.
قراءات
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: مما يعدّون بالياء والباقون: مما تعدون بالتاء.
ثم أكد الله تعالى ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وان طالب الأمد فقال:
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير} .(2/462)
كم من قرية أخرتُ إهلاكها مع استمرارها على ظُلمها، فاغترَّتْ بذلك، ثم أنزلتُ بها أشد العذاب، ثم مرجعُهم جميعاً اليَّ يوم القيامة فأجازيهم بما يستحقون. . . . فلا تغترو ايها الجاحدون بتأخير العذاب عنكم.
{قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (*) والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك أَصْحَابُ الجحيم}
بعد ان بيّن مصارع الغابرين، وسُنَة الله في المكذّبين، يخاطب سبحانه وتعالى رسوله الكريم لينذر الناس ويبين لهم ما ينتظرهم.
قل ايها النبي لهؤلاء المكذّبين الذين يطلبون منك استعجالَ العذاب: ليس ذلك إليّ، وإنما ارسلني ربي نذيراً لكم محذِّراً تحذيراً واضحا، واللهُ هو الذي يتولى حسابكم ومجازاتكم. فالذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرةٌ من الله كما ان لهم رزقاً كريماً في الجنة. واما الذين سَعوا في محاربة القرآن وتعطيل آياته، ظناً منهم أنهم يُعْجِزوننا وأنهم لا يُبعثون - فأولئك هم أهلُ النار المقيمون خالدين فيها ابدا.
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو: معجّزين بتشديد الجيم المكسورة بمعنى مثبطين وبمطئين. والباقون: معاجِزين بالالف.(2/463)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
تمنى: تمنى الشيء أراده: وحدث نفسه بما يكون وما لا يكون. وتمنى: سأل ربه: وفي الحديث: اذا تمنى أحدكم فليستكثر. وتمنى الكتابَ: قرأه. ينسخ: يبطل. يحكِم: يجعلها محكمة مثبتة. في مرية: في شك. يوم عقيم: منفرد لا شبيه له. مهين: مذل.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
إن اغلى أُمنية لأي رسولٍ أو نبيّ هي ان يعرف الناسُ حقيقةَ رسالته ويفهموها ويدركوا أهدافها ليهتدوا بها، فلا حزنْ أيها الرسول من محاولاتِ هؤلاء الكفارِ أربابِ الأطماع، فقد جرت الحوادثُ من قبلك مع كلِّ رسولٍ ونبيّ من أنبيائنا أنه كلما قرأ عليهم شيئاً يدعوهم به الى الحقّ تدّى له شياطينُ الانس المتمردون لإبطال دعوته وتشكيك الناس فيما يتلوه. وذلك لكي يَحولوا دون تحقيق أُمنيته في إجابة دعوته، فينسخُ الله ما يدبّرون، ثم يثّبت شريعته وينصر رسله، ويجعل آياتهِ محكَمةً لا تقبل الردّ. انه عليم باحوال الناس ومكايدهم، حكيم في أفعاله يضع كل شيء في موضعه.
وجاء في كثير من التفاسير روايةٌ منسوبة الى ابن عباس، ان النبي صلى الله عليه وسلم تلا على قريش سورةَ النجم، ولما بلغ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} ألقى الشيطانُ في تلاوة الرسول: «تِلك الغرانيقُ العُلى، وإنّ شفاعتَهن لتُرتَجى» . فلمّا سمعتْ قريش ذلك فرِحوا به. ولما سجد الرسول سجد المسلمون والشمركون جميعا بسجوده. . . . فنزلت هذه الآية والآياتُ الثلاث التي بعدها.
وهذه الرواية مكذوبة لا اصل لها ولم تردْ في كتاب من الكتب الموثوقة، وليس لها سند صحيح. بل إنها من وضع الكذّابين المشككين في الدين.
وقد كذّبها العلماء. . . قال القاضي عياض في الشفاء: ان هذا لم يُخرجه أحد من أهل الصح، ولا رواه ثقةٌ بسندٍ سليم متصل.
وقال أبو بكر البزّار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل.
وقال الفخر الرازي في تفسيره: هذه الرواية باطلة موضوعة عند اهل التحقيق.
وقال الامام ابو بكر البَيْهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
وهذه السورة مدنية فكيف نوفق بينها وبين سورة النجم وهي مكية ومن اوائل ما نزل بمكة! ولا أعتقد بصحة ما يقوله بعض المفسرين أن هذه الآيات 52، 53، 54، 55 من سورة الحج مكية، فإنهم قالوا إنها مكية حتى توافقَ هذه الروايةَ الباطلة.
{لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
إن الشيطان ليجدُ الفرصة مهيّأة أمامه ليلقي الفتنةَ في نفوس أوليائه الذين في قلوبهم مرضٌ من نفاقٍ او انرحاف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين، فيجدون في مثل هذه الأقوال مادةً للجدَل والشقاق والتمردِ على أحكام الله.(2/464)
{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}
اما الذين أوتوا العلمَ والمعرفة فتطمئنّ قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل، فيزيدهم إيماناً وعلما بأن ام يقوله الأنبياء والرسل هو الحقّ المنزل من عند الله.
ثم بين الله حُسن مآلهم وفوزَهم بالسعادة الأبدية فقال:
{وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
ان الله ليهدي الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابَهَ من الدّين، وينسَخ ما ألقاه الشياطين من الفتن، فلا تلحقُهم حَيرة، ولا تعتريهم شُبهة، ولا تُزلزِل أقدامهم تُرَّهاتُ المبطِلين.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}
ذلك شأنُ الذين كفروا مع القرآن كله، فهم لا يزالون في شكٍّ منه، فلا مطمع في إيامنهم، ولا زوالِ الشك من قلوبهم،. . سوف يستمرون على شكّهم في القرآن حتى يأتيَهم الموتُ فجأةً أو يأتيهم عذاب يوم القيامة، العذابُ العقيم الذي لا شبيه له.
{الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم}
في ذكل اليوم يكون المثل: لله وحده، فلا مُلك لأحدٍ، والحكم يومئذٍ لله وحده، يحكم بينهم بالحق. والناس في ذلك اليوم فريقان: فريق في الجنة هم الذين آمنوا وعملوا الصلاحات يتنعمون في جنات النعيم، وفريق في الجحيم هم الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين.(2/465)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
مدخَلا يرضونه: الجنة. بغى عليه: اعتدى عليه، ظلم.
بعد ان ذكر اللهُ أن المُلك له يوم القيامة، وانه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين - ذكَر هنا وعدَه الكريم للمهاجرين في سبيله بالجنَة، ثم بين أنه ينصر الذين يُضْطَرّون إلى مفارقة أوطانهم في سبيله، والذين يُعتدى عليهم، وجميعَ المظلومين، وذكر بعض آياته التي تتجلّى في صفاحات الكون ونواميس الوجود.
{والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين}
الذين تركوا أوطانهم، وفارقوا أهلَهم وعشيرتهم، حفاظاً على عقيدتهم وابتغاءَ رِضوان الله، ثم قُتلوا في ميدان الجهاد، أو ماتوا على فراشِهم - لهم عند الله رزقٌ أكرمُ من كل ما تركوا في ديارهم. هذا وعدٌ من الله لهم بالعوض الكريم وهو خير الرازقين.
ثم بيّن هذا الرزقَ الحسن بقوله:
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}
وهذاه تعهّدٌ من كريم بأن يُدخلهم الجنة، ويحقّقَ لهم ما يرضونه، ويكرِمهم بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر. وإنه عليم بما وقع عليهم نم ظلمٍ وأذى، وبما يرضي نفوسهم ويعوّها، حليمٌ يمهِل، ثم يوفَى الظالمَ والمظلومَ الجزاء الأوفى.
{ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
ذلك شأننا في مجازاة الناس، لا نظلِمهم شيئا. والذي يقتصّ ممن جنى علي، ويجازيه بمثل اعتدائه عليه دون زيادة، ثم اعتُدي عليه بعد ذلك، فإن الله ينصره على من تعدّى عليه. واللهُ كثير العفو والمغفرة، فهو يستُرُ هفواتِ عباده الطائعين ويعفو عنهم.
{ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
ذلك النصر الذي ينصره الله لمن بُغي عليه هيِّن على الله، لأنه قادر على كل شيء، ومن آياتِ قدرته البارزه هيمنتُه على العالَم، فيداول بين الليل والنهار، بأن يزيد في أحدِهما ما يُنْقِصُه من الآخر، فتصير بعض ظلمة الليل مكانَ ضوء النهار، وعكس ذلك. والقادرُ على هذا الكون، قادرٌ على نصر المظلومين. وهو مع تمام قُدرته سميعٌ لقول المظلوم بصيرٌ بفعل الظالم، لا يغيب عنه شيء.
{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير}
ذلك الاتصاف بكمال القدرة، والتصرّف المطلق في الكون، إنما هو لأن الله هو الحق الذي لا اله معه غيره، وأن ما يعبده المشركون من الأصنام هو الباطل، وهو العليُّ لا سلطان فوق سلطانه، وهو الكبير الذي وسع كل شيء قدرةً وعلما ورحمة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
الم تتبصرّ ايها القاعل بما ترى حولك من مظاهر قدرة الله، فهو الذي ينزل الماءَ من السماء فيُحيي به الأرضَ فتنبت أنواعاً مختلفة من النبات بديعةَ الألوان والأشكال تسرّ الناظرين، انه تعالى لطيف يصِل عِلمه الى الدقيق والجليل، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم.(2/466)
{لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد}
كل ما في السموات والأرض وما في هذا الكون مِلكٌ له، يتصرف فيه كما يشاء، فما به سبحانه حاجةٌ الى من في السماء والأرض. . انه الغنيُّ عن الجميع، وهو المحمود على نِعمه المشكور عليها من جميع خلقه.
قراءت
قرأ ابن عامر: ثم قتّلوا بتشديد التاء. والباقون: ثم قتلوا بالتخفيف، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عارم وأبو بكر: وان ما تدعون من دونه بالتاء والباقون: ما يدعون بالياء.(2/467)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
المنسك: موضع العبادة، والشريعة والمنهاج. ناسكون: عابدون فيه، ملتزمون به. والناسك: العابد، والنسك العبادة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم. . . .}
ألا تنظرُ أيها العاقل الىمظاهر قدرة الله، كيف يسرَّ للناس جميعا الانتفاعَ بالأرض وما فيها، وهيّأ لهم البحرَ تجري فيه السفنُ بمشيئته، وسيّرَ هذه الأجرامَ السماوية بنظام محكَم لا يختل، وامسك كل ما في السماء ان تقع على الارض، وذلك بقدرته!!
لقد تجلَّتْ مشيئة الله ورأفته بالعباد بان هيّأ غلافاً جوياً يحتوي على العناصر الغازية التي لا غنى للحياة عنها، كما يحمي سكانَ الأرض من الإشعاعات الكونية وأسرابِ الشهب والنيازك التي تَهيم في الفضاء، وتتساقق. وعندما تدنو من الارض تحترق في جوّها العلوي قبل ان تصل الى سحط الأرض.
ومن رحمته تعالى بنا أن سقوط النيازك الكبير التي تدمر سطح الأرض نادرُ الحدوث جداً، وهو يتم في الأماكن الخالية من السكان، وفي هذا تأييدٌ وتصديق لقوله تعالى:
{وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
كَم في هذا الكون وهذه الارض من قوة؛ وكم من ثرورة سخّرها الله لهذا الانسان؟ والانسانُ غافل عن قدرة الله ونعمه التي لا تحصى.
{وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}
وهو الذي أنعم عليكم بهذه الحياة بعد أن كنتم تراباً، ثم يُميتكم حين تنقضي آجالكم، ثم يحييكم يومَ القيامة للحساب والجزاء، فيلقى كلٌّ حسابه.
ثم بيّن طبيعة الانسان التي فَطِرَ عليها بقوله: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي أن الانسان مع كل هذه الدلائل والنعم يظل شديد الجحود بالله وبعمه عليه.
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ. . . .}
لقد جعلنا لأهل كل دين من الأديان شريعةً خاصة يعملون بها، ومنهجاً يسيرون عليه ويعبدون الله به، فلا ينبغي للمشركين من قومك أن ينازعوك في أمر هذا الدين. . . فاثُبتْ أيها الرسول على دِينك، ولا تلتف لمجادلتهم واستمرَّ في الدعوة الى ربِّك كما أمرك. إنك تسير على هدى من ربكم مستقيم، وشريعة توصل الى السعادة.
{وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
وإن أصرّ هؤلاء المشركون على المجادلة، فأعرض عنهم وقل لهم: اللهُ أعلم بأعمالكم: إن الجدل يجدي مع القلوب المستعدّة للهدى، لا مع القلوب التي تصر على الضلال، فلا ضورة الضاعة الوقت والجهد معهم.
{الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
دعْهُم في غيّهم يا محمد، فقد انْذرتَ، وقل له: الله هو الذي يحكم بين الناس جميعاً يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وعندها يتبين المحقّ من المبطِل، فيثيب المهتدي، ويعاقب المضليّن.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} .
ألم تعلم أيها الرسول ان الله يحكم بعلمٍ كامل، وهو محيطٌ بكل ما بكل ما في السماء والأرض، لا يندُّ عنه سبب، ولا تخفى عليه خافية في العمل والشعور. . . . كلّ ذلك ثابتٌ عنده في لوحٍ محفوظ، واثباتُه وحفظه يسيرٌ عليه كل اليسر.(2/468)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
سلطانا: حجة، برهانا. نصير: ناصر، معين. يسطون: يبطشون. يستنقذوه: يخلّصوه. يصطفي: يختار.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً. . . .} .
وأعجبُ شيء ان هؤلاء المشركين يعبدون أوثاناً واشخاصاً ولا يعبدون الله، مع أن هؤلاء الذين يعبدونهم لم ينزل بهم كتاب من الله ولم يقم دليلٌ على أنهم آلهة. . . . ليس لهؤلاء الظالمين ناصرٌ يوم القيامة ولا معين.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر. . . .} .
وهؤلاء الجاحِدون لا يناهضون الحُجَّة بالحجةِ، وإنما يلجأون الى العنف والبطش، فإذا تُليتْ عليهم آياتنا الواضحة تلحظ في وجوهِهم الحَنَقَ والغيظ. بل يحاولون البطشَ بالدّذين يتلُون عليهم هذه الآيات.
ثم بين الله أن هذا الغيظَ الكمين في نفوسهم ليس بشيء إذا قِيسَ بما سيلاقونه من العذابِ يوم القيامة فقال:
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم. . . .} .
قل لهم ايها النبي: هل أخبركم بشرِّ من غيظِكم وبطشكم؟ إنه النارُ التي وعدَ الله الكافرين أمثالكم يوم القيامة، وبئس المصير.
{ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ. . . .} .
يعلن الله في هذه الآية على الناس جميعاَ ضعفَ هذه المعبودات المزيفة، فهي عاجزة عن خَلق ذباب واحد على حقارته، بل اعجب من ذلك انها عاجزةٌ عن مقاومة الذباب. فلو سلبم شيئا لما استطاعوا ان يخلصوا ذلك الشيء منه. وما اضعف الذي يهزم امام الذباب! فكيف يليق بانسان عاقل أن يعبد تلك الأوثان ويلتمس النفع منها! ويختم الله تعالى هذه الآية بعبارة ناطقة للحقيقة: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} .
ما أضعف الطالب وهو تلك الآلهة، وما أضعف المطلوب وهو الذباب!
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
ما عرفَ هؤلاء المشركون الله حق معرفته، ولا عظّموه حق تعظيمه، حين اشركوا به في العبادة اعجز الاشياء، وهم يرون آثار قدرته وبدائع مخلوقاته.
{الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
اقتضت ارادة الله تعالى وحكمته ان يختار من الملائكة رسُلا يبلّغون الانبياءَ الوحي، ويختار من البشر رسلا، ليبلّغوا شرعه الى خلقه، فكيف يعترض المشركون على من اختاره رسولاً اليهم؟ انه تعالى سميعٌ لأقوال عباده بصيرٌ بهمن فيعلم من يستحقّ ان يختار منهم لهذه الرسالة.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}
يعلم سبحانه مستقبل احوالهم وماضيَها، فهو يسمع ويرى ويعلم عِلماً شاملاً لا يندّ عنه حاضرا ولا غائب، وإليه وحدَه الأمور كلّها، فهو الحَكَم الأخير، وله السيطرة والتدبير.(2/469)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
وجاهِدوا في الله: في سبيل الله. اجتنابكم: اختاركم. من حرج: من ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم. شهيدا: شاهدا. واعتصِموا بالله: استعينوا به وتمسكوا بدينه.
{ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
يا أيها الذين آمنوا: لا تلتفتوا إلى تضليل الكفار، واعبدوا الله بإقامة الصلاة كاملة، وافعلوا الخير الذي أمركم بفعله من صِلة الأرحام ومكارم الاخلاق والاستقامة التامة كي تكونوا من المصلحين السعداء وتنالوا رضوان الله.
السجدة: عند قوله تعالى {واسجدوا} : قال بعض العلماء إنه يُسنُّ للقارىء والمستمع ان يسجد عند تلاوتها، منهم ابنُ المبارك والشافعي واحمدن وقال بعضهم لا يُسنّ السجود لأنها للصلاة فقط ومنهم: الحسنُ البصري وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جُبير وسفيان الثوري وأبو حينفة ومالك.
{وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ. . . .} .
وجاهدوا في سبيل الله إعلاءً لكلمته ونشرِ دينه حتى تنتصرواعلى أعدائكم وشهواتكم، فإن الله تعالى اختاركم صنر دينه، وجعلكم أمة وسطاً، ولم يكلّفكم في شرعه ما يشقُّ عليكم، ويسرّ عليكم ما يعترضكم من المشقات التي لا تطيقونها بما جعله لكم من انواع الرُخَص. فتمسّكوا بهذا الدين القويم، فهو دين أبيكم إبراهيم الذي سماكم المسلمين.
{مِن قَبْلُ وَفِي هذا. . .}
من قبلُ في الكتب السابقة، وفي هذا القرآن الكريم، فكونوا كما سماكم وانصروا الله ينصركم. . ليكون الرسول شاهداً عليكم بانكم عملتم بما بلّغكم، وتكونوا شهداء على الأمم السابقة بأن رسُلها بلّغوها. فاذا كان الله قد خصكم بهذه الميزات كلها، فمن الواجب علكيم ان تقابلوها بالشكر والطاعة له، فتقيموا الصلاة على أتم وجوهها، وتؤدوا الزكاة، وتتوكلوا على الله وتعتصموا به في كل اموركم، وهو ناصركم، فنعم المولى ونعم النصير.(2/470)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
أفلح المؤمنون: ظفروا وفازوا. خاشعون: خاضعون، اقبلوا بقلوبهم على صلاتهم. اللغو: ما لا فائدة فيه من الكلام. الزكاة: اخراج شيء من المال. وأصل الزكاة: التزكية وطهارة النفس. او ما ملكت أيمانهم: من الجواري، وهذا لم يعد موجدا. فمن ابتغى وراء ذلك: فمن طلب غير. العادون: الذين يتجاوزون الحدود. راعون: حافظون. الفردوس: في هذه الآيات الكريمة صورةٌ للمؤمن الحقيقي، وهو الذي يجمع هذه الخصالَ السبع الحميدة. لقد فاز المؤمنون الّذين هم خاضعون في صلاتهم مقبلين عليها بقلوبهم، والذين هم معرِضون عما لا يفيد من الكلام، والذين يؤدون الزكاة، ذلك الركن الاسلامي العظيم الذي يؤدي الى توثيق الروابط الاجتماعية بين المسلمين، واشعار كل فرد منهم بأنه مسئول عن أخيه ومجتمعه، والزكاة من اكبر الاهداف الاقتصادية التي تقضي على الفقر اينما حل.
والذين يحافظون على أنفسِهم من أن تكونَ لهم علاقةٌ محرّمة بالنساء، إذ أن الزنا من الامور التي حرّمها الاسلام تحريماً قاطعا، لما فيه من الآثار الاجتماعية السيّئة التي لا يشك فيها عاقل، وما له من عواقب وخيمة من الناحية الصحية لما ينقله من الأمراض، وما يؤدي إليه من اختلاط الانساب.
والله تعالى أباح لنا الزواج او مِلْكَ اليمين من الإماء فقال:
{إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} .
فمن طلب ما بعد ذلك مما حرّم الله فهو متعدٍّ للحدود المشروعة، وبذلك يكون مؤاخَذاً ومذنباً يستحق العقاب.
{فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون}
من صفات المؤمن مراعاةُ الأمانة وحفظُها وأداؤها، وحفظُ العهود التي بينه وبين الله، او بينه وبين الناس، فالمؤمنون لا يخونون الأماناتِ، ولا ينقضون العهود.
{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .
وقد كرر ذِكر الصلاة والمحافظة عليها لما لها من أهمية في حياة المؤمنين، وذلك لتعظيم شأنها، وإشارةً إلى انها أَولى بالعناية فهي مصدر جميع الكمالات النفسية، إذ بها يستمدّ الانسان من الله روحاً عالية، وتكون له نوراً فياضا. . . . فمن خشع فيها وحافظ عليها كان جديراً بأن يتّصف بجميع الصفات السامية التي تقدمت.
وقد افتتح الله هذه الصفاتِ الحميدةَ بالصلاة واختتمها بالصلاة، دلالةً على عظيم فضلها، وكبير مناقبها. وقد ورد في الحديث «اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمن»
وماذا ينتظر من اتصف بهذه الصفات؟ ان من تحلّى بهذه الصفات يجازيه الله بالجنة.
{والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
يتفضل الله عليهم بالفردوس، أعلى مكانٍ في الجنة، يتمتعون فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون. وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين، وليس بعدَها من غاية تمتد إليها عينٌ او خيال.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحده: لأمانتهم، والباقون: لأماناتهم بالجمع. وقرأ حمزة والكسائي: على صلاتهم، ولاباقون: على صلواتهم بالجمع.(2/471)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
سُلالة: الخلاصة، ما انتزع من الشيء، النسل. نطفة: القطرة من الماء، المني. قرار مكين: محل استقرار حصين. علَقة: دما متجمدا. مضغة: قطعة لحم بقدر ما يمضغ الانسان. سبع طرائق: سبع سماوات.
ولقد حلَفْنا أصلَ هذا النوع الانساني من خلاصة الطين، ثم جعلنا نسله في أصلاب الآباء، ثم قُذفت في الأرحام نُطفة فصارت في حِرز حصين من وقتِ الحمل الى حين الولادة.
ثم حوّلنا النطفةَ من صفتِها الثانية الى صفةِ العَلَقة وهي الدم الجامد. ثم جعلنا ذلك الدمض الجامد مضغةً، اي قطعة من اللحم بمقدار ما يُمضغ. ثم صيرناها هيكلاً عظيماً، ثم كسونا العظام باللحم.
ثم أتممنا خلْقه فصار في النهاية بعد نفخِ الروح فيه خَلْقاً مغايراً لمبدأ تكوينه، {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} .
ثم إنكم يا بني آدم بعد النشأة الأولى من العدَم تصيرون الى الموت، فالموتُ نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة، وهو إذنْ طورٌ من أطوار النشأة الانسانية، وليس نهايةَ الأطوار.
ثم بعد ذلك تُبعثون يوم القيامة، فالبعثُ هو المؤذِن بالطَّور الأخير من تلك النشأة وبعده تبدأ الحياةُ الكاملة.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ}
لفظُ العدد في القرآن لا يدلّ على الحصر، فقد يكون هناك مليون سماء. وقد ثبتَ الآن في علم الفلك ان هناك عدداً من المجموعات من السُدُوم والنجوم في هذا الكون الواسع لا نستطيع الوصولَ غليها حتى رؤيتَها على كل ما لدينا من وسائل. فقد يكون المعنيُّ هو المجموعاتِ السماويةَ التي لا حصر لها، وقد يكشف العِلم عنها في المستقبل.
وقد خلقنا هذا الخلقَ كله، ونحن لا نغفل عن جميع المخلوقات، بل نحفظها كلَّها من الاختلال، وندّبر كلّ أمورها بالحكمة.
قراءات:
قرأ ابن عامر وابو بكر: فخلقْنا المضغةَ عظما، فكسونا العظم لحما، بالافراد، والباقون: عظاما بالجمع.(2/472)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
بقدَر: بمقدار معلوم. فأسكناه في الارض: جعلناه ثابتا فيها. على ذهاب به: على ازالته واعدامه. وشجرة تخرج من طور سيناء: الشجرة هي الزيتونة. طور سيناء: هو الجبل لاذي ناجى فيه موسى ربه، وهو معروف الآن باسم جبل الطور في سيناء، ويسمى طور سينين. الصبغ: ما يؤتدم به الاكل، وهو الزيت يؤكل مع الخبز، ويستعمل في كثير من الطعام. وكان في الزمن الماضي يستعمل للانارة، وكان زيت الزيتون هو بترول العالم في الزمن القديم، ولا يزال محتفظا بقيمته.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}
وأنزلنا من السماء ماءً موزَّعا بتقديرٍ لائق حكيم، لاستجلاب المنافع ودفعِ المضارَ، وتكفي لسقي الزروع وللشرب، ولحدوث التوازن الحراري المناسب في هذا الكوكب. كما ان المياه انزلت على الأرض بقَدَرٍ معلوم، لا يزيد فيغطي كلَّ سطحِها، ولا يقلّ فيقصّرُ دون ريّ الجزء البريّ منها.
وإنا لقادرون على إزالته ونفي إمكانكم الانتفاعَ به، ولكنّنا لن نفعل رحمةً بكم. وهذا من فضلِ الله على الناس ونعمته.
ثم يبين ان الحياة تنشأ من الماء فيقول:
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
فأخرجْنا لكم بما أنزلنا من الماء بساتينَ وحدائقَ فيها نخيلٌ وأعناب وفواكهُ كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والاعناب. ومن زروع هذه الجنّات وثمارِها تأكلون، وتحصِّلون معايشكم.
ثم خصَّ شجرةَ الزيتون بالذكر لما لها من المنافع والقدر الكبير فقال:
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ}
وخلقنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في منطقة طورِ سيناء، وهي من اكثر الشجَر فائدةً بزيتها وزيتونها وخشَبها، وفيها طعامٌ للناس.
والزيتونة تعمر طويلاً، لا تحتاج إلى خدمة كثيرة، وهي دائمة الخضرة. ويعتبر الزيتون مادة غذائية جيدة، فيه نسبةٌ كبيرة من البروتين، بالإضافة الى عدة موادّ هامة وأساسية في غذاء الانسان. وزيتُ الزيتون من أهم أنواع الدهون، وهو يُستعمل في كثير من أنواع الطعام، لأنه يفيدُ الجهاد الهضمي عامة، والكبدَ خاصة. وهو يفضُل جميع أناوع الدهون النباتية والحيوانية، ويُستعمل في كثير من الأدوية والمنظِّفات مثل الصابون والصناعات الغذائية.
وفي الحديث الشريف: «كلوا الزيتَ وادّهنوا به فإنه من شجرةٍ مباركة» رواه احمد والترمذي وابن ماجه عن سدينا عمر بن الخطاب، والحاكمُ عن أبي هريرة.
وبعد ان بَين لنا فوائد النبات انتقل الى عالم الحيوان، وكل هذه المخلوقات إنّما نشأت من الماء.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} .
وان لكم في خلْق الأنعام لخِدمتكم لعبرةً لمن ينظر إليها بقلبٍ مفتوح وحسن بَصيرة.(2/473)
فهذه الإبلُ والبقر والغنم نسقيكم لبناً منها خالصاً سائغاً للشرابين، ولكم فيها منافعُ في أصوافها وأوبارِها واشعارها.
ثم يخصِّص منها منفعتين كبيرتين مهمّتين فيقول:
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ}
فكما أنكم تنتفعون بألبانها وأوبارها وأشعارِها، كذلك تأكلون من لُحومها، وتُحمَلون عليها وعلى الفلك التي تجري في البحر. وقد ذكر الفلكَ هنا للأأنه يجري على الماء الذي تفضّل الله علينا به.
وكل هذه من دلائل الإيمان الكونية، لمن يتدبرها تدبُّرَ الفهم والادراك.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو: سيناء بكسر السين، والباقون: سيناء بفتح السين وهما لغتان. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: «تنبت» بضم التاء وكسر الباء. والباقون: تنبت بفتح التاء وضم الباء. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: نسقيكم بفتح النون، والباقون: نسقيكم بضمها. وهما لغتان: سَقى وأسقى.(2/474)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
الملأ: زعماء القوم. يتفضل عليكم: يدعي الفضل والسيادة. به جِنة: مجنون. فتربصوا: فانتظِروا. بأعيينا: بحفظنا ورعايتنا. فار التنور: نبع منه الماء بقوة، والتنور: فرن خاص يخبز فيه. فاسلك: فادخل. استويت: استقررت على الفلك. لمبتلين: لمختبرين.
بعد ان عدّد سبحانه ما أنعم به على عباده في نشأتهم الأولى، وفي خلْق الماء لهم لينتفعوا به، وانشاء النبات وما فيه من الثمرات، وفي خلق الحيوان وما فيه من المنافع للانسان - ذكَر هنا ان كثيراً من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذّبوا رسلَه الذين أُرسِلوا اليهم. . . فأهلكهم الله بعذاب من عنده. وفي هذا إنذارٌ وتخويف لكل من ينحرف ويكذّب ويعبد غير الله.
وقد مرّت قصةُ نوح في سورة هود بتفصيلٍ أوسعَ في الآيات 25 الى 49 ومر شرحها فلا داعي لتكرار ذلك، وانما اذكر موجَزا لبحثِ قيّم اورده الدكتور موريس بوكاي في كتابه «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم» اذ يقول ما ملخصه:
«الاصحاحات 6، 7، 8، من سفر التكوين مكِّرسةٌ لرواية الطوفان، ويشكل أدقّ روايتين غير موضوعيتين جنبا الى جنب. . . . والحقيقة أن في هذه الاصحاحات الثلاثة تناقضاتٍ صارخة. وتقول الرواية: إن الارض تغطّت حتى قمم الجبال وأعلى منها بالماء، وتدمَّرت الحياة كلها، وبعد سنةٍ خرجَ نوح من السفينة التي رست على جبلِ أراراط بعط الانحسار.
وتقول الرواية اليهودية ان مدة الطوفان أربعون ويما، وتقول الرواية الكهنوتية ان المدة مئةً وخمسون يوماً.
ومعنى هذا ان البشريَّة قد أعادت تكوينها ابتداءً من أولاد نوح وزوجاتهم. . . . ان المعطيات التاريخية تثبت استحالَة اتفاق هذه الرواية مع المعارفِ الحديثة. فإذا كان الطوفان قد حدث قبل ثلاثة قرون من زمن ابراهيم، كما يوحي بذلك نصُّ سِفر الكوين في الانساب، فإن الطوفان يكون قد وفع في القرن 21 أو 22 قبل الميلاد.
وفي العصر الحديث لا يمكن تصديق هذا التاريخ، إذ من المعلوم بأن حضاراتٍ متقدمةً بقيت آثارها خالدة قد نمت في هذه الفترة في بلاد ما بين النهرين وفي مصر. فكيف يكون الطوفان قد عمّ الأرضَ جميعها!! فالنصوص التوراتية إذنْ في تعارضٍ صريح مع المعارف الحديث.
وان وجود روايتين لنفس الحدَث، هذا بالاضافة الى التضارب الذي تحويانه - يوضح بصورةٍ قطعية ان ايدي البشَر قد حوّرت الكتب التوراتية.
اما القرآن الكريم فان رواية الطوفان فيه كما يبسطها تختلف تماماً عن رواية التوراة، ولا تثير أيّ نقدٍ من وجهة النظر التاريخية. وذلك لاسباب بسيطة جداً، فالقرآن لا يحدد الطوفان بزمان، ولا يذكر كارثةً حلّت بالأرض قاطبة، ولكنه يذكر عقاباً سُلِّط على قومِ نوح دون سواهم، وهذا يدل دلالةً قاطعة على ان القرأن أُنزل بنوحي من عند الله» .
قراءات:
قرأ أبو بكر: منزلا بفتح الميم وكسر الزاي، والباقون: منزلا بضم الميم وفتح الزاي. وقرأ حفص عن عاصم: من كلِ زوجين اثنين بتنوين كل. والباقون: من كل زوجين بالاضافة.(2/475)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
القرن: الأمة، اهل العصر الواحد، والمراد بهم هنا عاد، قوم هود، لقوله تعالى في سورة الاعراف: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} . ارفناهم: وسّعنا عليهم الرزق وجعلناهم في ترف ونعيم. لخاسرون: مغبنون. هيهات: بضعُد ما توعدون وهو البعث والحساب. ليصبحن: ليصيرن. الصيحة: العذاب. غثاء: هو ما يحمله السيل من الاشياء التافهة التي لا يُنتفع بها. بعدا: هلاكا.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. . . .} .
ثم أوجدنا من بعد مَهْلَكِ قوم نوحٍ قوماً آخرين هم قومُ عاد، فأرسلْنا فيهم رسولاً منهم هو هود، وقد تقدم الكلام عليهم في سورة هود من الآية 50 الى 65، فقال لهم الرسول: اعبُدوا الله لا إله إلا هو، أفلا تخافون عذابه؟ فقال زعماء قومه من الذين كفروا وكذّبوا بالحياة الآخرة، وقد وسَّعنا الرزقَ في هذه الحياة: ما هذا الا بشر مثلكم. ولئن أطعتُم بشَر مثلكم إذنْ أنتم خاسرون. وهذا يَعِدكم أنكم إذا متُّم وصِرتم تراباً وعظاماً بالية أنكم بعد ذلك لَمبعثون من جديدٍ، ومحاسَبون على ما قدّمتم من اعمال. وذلك غير معقول، هيهاتَ هيهاتَ لِما توعَدون. ليس هناك الا حياة واحدة هي هذه الحياة الدنيا التي نجد فيها الموت والحياة، ولن نُبعث بعد الموت أبدا.
وما صاحبكم هذا الا رجلٌ كذب على الله، وادّعى أنه أرسله، وكذَب فيما يدعو اليه، ولن نصدّقه ابدا.
قال هود بعد ما يئس ما إيمانهم: ربّ انصُرني عليهم وانتقمْ منهم، بسبب تكذيبهم لدعوتي. قال الله له مؤكدا وعده: سيندمون بعد قليلٍ على ما فعلوا عندما يحلُّ بهم العذاب.
فأخذتْهم صيحةٌ شديدة أهلكتهم، وجعلناهم كالغُثاء الذي يجرُفُه السيِّل، فبُعداً للقوم الظالمين.(2/476)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
تترى: متتابعين، تواترت الاشياء تتابعت مع فترات، واتر الشيءنَ: تابعه. وجعلناهم احاديث: يتحدث الناس بما جرى عليهم. بآياتنا: هي الآيات التسع التي سبقت في سورة الاعراف. وسلطان مبين: حجة واضحة. عالين: متكبرين. ربوة ذات قرار معين: الربوة: المرتفع من الأرض، ذات قرار: مستوية يستقر عليها الناس. معين: ماء. وهي القدس.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}
ثم خلقنا من بعدهم أقواماً غيرهم، كقومِ صالحٍ ولوطٍ وشُعيب. ولكل أمةٍ زمنُها ووقتُها المعيّن، لا تتقدم عنه ولا تتأخر، وكذلك لا تهلك أمةٌ قبل مجيء أجلِها ولا بعده.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}
ثم أرسلْنا رسُلَنا متتابعين، كلاَّ الى قومه، وكلّما جاء رسول قومَه كذّبوه في دعوته، فأهلكناهم متتابعين، وجعلنا أخبارَهم أحاديثَ يردّدها الناس ويعجبون منها. ومثلُ هذه الآية قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] . فبعداً لهم عن الرحمة، وهلاكاً لقومٍ لا يؤمنون.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. . . . .}
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بعد الرسُل الذين تقدّم ذِكرُهم الى فرعون وقومِه، وفامتنعوا وتكبروا ولم يؤمنوا، وقالوا في تعجُّب وإنكار: أنؤمن بدعوةِ رجلَين من البشر مثلنا، وقومُهما لنا خاضعون وخادمون لنا كالعبيد!! فكذّبوهما في دعوتهما فكانوا من الملهَكِين بالغَرَق.
ولقد أوحينا إلى موسى بالتوراة، ليهتديَ قومُه بما فيها من أحكام وإرشادات لعلَّهم يهتدون. وجعلنا عيسى بنَ مريم وأُمّه: في حملها به من غير ان يمسها بشر، وفي ولادته من غير أبٍ - دلالةً قاطعةٌ على قدرتنا البالغة، وأنزلناهما في أرضٍ طيبة مرتفعة يجدان فيها الرعاية والإيواء. ففي كل هذه الآيات اجمالٌ وتلخيص لتاريخ الدعوة، يقرر سُنة الله الجارية، في امد الطويل بين نوح وهود وموسى وعيسى، كل قرن يستوفي أجَله ويمضي.(2/477)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
أُمتكم: ملّتكم وشريعتكم. فتقطعوا: تفرقوا وتمزقوا. زُبُرا: قطعا وجماعات واحدها زُبْرة. فذرهم: دعهم واتركهم. في غمرتهم: في جهلهم، وأصل الغمرة الماءُ الذي يغمر القامة ويسترها. حتى حين: الى ان يموتوا فيستحقوا العذاب.
{ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
هذا نداؤٌ لجميع الرسُل في كل زمان ومكان، ان يأكلوا من الحلا الطيب، وان يعملوا في هذه الدنيا ويعمُروها، فالعملُ من مقتضيات البشرية. فالرسُل كلُّهم يتلقَّون من عند الله، لا فرقَ بين أحدٍ منهم والآخر.
وهذا النداء، وإن كان موجَّهاً الى الرسُل والأنبياء فانه ايضاً لأممهم جميعاً. فهو نداء لجميع الناس في جميع الأقطار أن يأكلوا من الحلال الطيب، وان يعمروا هذه الارض، بالأعمال الصالحة. ثم قال في ختام الآية: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} لا يخفى عليَّ شيء منهان وأنا مجازيكم على ما تعملون.
{وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون}
يقرر الله تعالىفي هذه الآية وَحدةَ الأديان، وأنها كلّها من عنده، غايتها واحدة، هي الدعوةُ إلى عبادة الله وحدضه لا شريكَ له، والعملُ على إحياء هذه الأرض. والجدّ والكدّ في سبيل الأمة وتماسكها ووحدتها.
وفي هذا دليل كبير على وَحدة الدين، وأن الأديان جميعَها من عند الله، لكن الأمم اختلفت وخالف الناسُ رسُلَهم واتبعوا اهواءهم فبدّلوا وغيّرواوتفرقوا شِيعاً واحزاباً، كما قال: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
فتفرّق أتباع الرسُل والأنبياء فِرقاً وأحزابا، وأصبح كلّ فريقٍ معجَباً بنفسه، فرِحاً بما عنده، معتقدا أنه على الحق وحده. فبعد ان كان الرسل أمةً واحدة ذاتَ كلمة واحدة وعبادة واحدة تفَرّق الناس من بعدِهم شيعاً واحزابا لا تلتقي على منهج ولا طريق.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} .
الخطابُ للنبيّ الكريم عليه صلواتُ الله وسلامه، فاترك الكافرين يا محمد في جَهالتهم وغفلتِهم ما دمتَ قد أدَّيتَ رسالت:، حتى يقضيَ الله فيهم فيفاجئهم المصيرُ حينَ يجيء موعده المحتوم.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: وإِنَّ امتكم بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر: وان بكسر الهمزة وسكون النون. والباقون: وان بفتح الهمزة وتشديد النون.
ثم بين خطأهم فيما يظنون من أن سعةَ الرزق في الدنيا علامةُ رضا الله عنهم في الآخرة فقال:
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} .
أيظن هؤلاء المغرورون ان المقصود مما نعطيهم من الأموال والأولاد والرزقِ الواسع هو المسارعةُ بالخيرات لهم! إنما هي فتنةٌ لهم وابتلاء، إنهم لا يشعرون أنني غيرُ راضٍ عنهم، ولا أن هذه النعم استدراجٌ منّي لهم، ثم وراءها المصيرُ المظلم.(2/478)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
من خشية ربهم: خوف ربهم. مشفقون: خائفون، يقال اشفق منه خاف منه، واشفق عليه عطف عليه. وجلة: خائفة. سابقون: ظافرون بنيلها. الوسع: القدرة والطاقة. كتاب: هو صحائف الاعمال.
في هذه الآيات يُبرز الله تعالى الصورةَ الحسَنةَ للمؤمنين، بعد ان بين صورةَ الغَفلة والغمرة في القلوب الضالّة.
{إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ. . . .} .
ان هؤلاء المؤمنين يُشفِقون من ربّهم خشيةً وتقوى، وهم يؤمنون بآياتِ ربّهم الكونية التي نَصبَهَا في الأنفس والآفاق دلالةً على وجوده وواحدنيته، ولا يشرِكون به. وهم يؤدون واجباتِهم ويقومون بالتكاليف خير قيام، ويأتون من الطاعاتِ ما استطاعوا. والذين يعطون مِمَّا أُعظوا، ويتصدقون بما تصدَّقوا، وقلوبُهم خائفة ألا يُتَقَبَّل ذلك منهم، لأنهم راجعون الى ربهم ومحاسَبون.
اولئك الذين جمعوا هذه المحاسنَ يرغبون في الطاعاتِ أشدَّ الرغبة، وهم الذين يسبقون لها فينالون الخيرات.
{وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
هنا يتكرّم الله علينا بأنّ ما كلَّفنا به سهلٌ يسيرٌ لا يخرجُ عن حدِّ القدرة والطاقة، وانه مهما قلَّ محفوظٌ عنده في كتاب يَنطقُ بالحق، ولا يَظلم الله أحداً من خلقه بزيادة عقاب او نقص ثواب.(2/479)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
الغمرة: الجهالة والغفلة. من دون ذلك: من غير ذلك. المترف: صاحب النعمة الكثيرة الذي يستعملها في غير موضعها. يجأرون: يصيحون. تنكصون: تدْبرون وتعرِضون عن سماعها، وأصل النكوص: الرجوع الى الخلق. سامرا تهجرون: تسمرون بالليل بالكلام القبيح والطعن في القرآن. به جنة: مجنون. الحق: من الالفاظ المشتركة لها عدة معان. فالحق هو الله، والحق: هو القرآن، والحق: الدين كله بما فيه القرآن، والمراد به هنا: الله. أتيناهم بذكرهم: بالقرآن الذين هو فخرهم. فهم عن ذكرهم معرضون: فهم معرضون عن فخرجهم. الخروج والخراج: الجعل والأجر.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
بعد أن ذكَر الله تعالىسماحةَ هذا الدين، وأنه لا يكلِّف أحداً الا بما يُطيق، وان كل عملٍ يعمله الانسانُ مسجّل عليه في كتاب محفوظ، ثم بين صفات المؤمنين من الإيمان بالله، والمسارعة الى الخيرات، وما ينتظرهم من الجزاء يوم القيامة - بيّن هنا أن المشرِكين بسبب عنادِهم وغيِّهم في غفلةٍ عن كل هذا، ولهم اعمالُ سوءٍ أخرى من فنون الكفر او الطعن في القرآن والرسول الكريم.
{حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ}
فإذا حلّ بهم بأسُنا وأوقعنا العذابَ بالأغنياء المترفين يومَ القيامة صاحوا واستغاثوا، فنقول لهم: لا تصرخوا ولا تستغيثوا، فلن ينصركم أحدٌ من عذابنا ولن تجِدوا من يُغيثكم في هذا اليوم العظيم. والتعبير بإذا للشيء المحقق، وإنْ للشك.
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}
ان هذا الصراخَ لن يفيدّكم لأنكم فَرَّطتم في الدنيا، وقد جاءتكم الآياتُ والنذُر على لسان رسُلي فلم تستمعوا لها، وكنتم تُعرِضون عنها ولا تسمعون لها.
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} .
كنتم في غعراضِكم وتولّيكم عن آياتي متكبرين، وتسمرون حول الحَرَم وتتناولون القرآنَ والرسولَ الكريم بهُجْرِ القولِ وقبيح الألفاظِ والطعن في الدين.
ثم أَنّبهم على ما فعلوا، وبيّن أن إقدامهم عليه لا بدّ ان يكون لأحدِ أسباب أربعة فقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}
1 - أجهِلَ هؤلاء المعرِضون فلم يتدبروا القرآنَ ليعلموا أنه حق، وما يحتوي عليه من تشريع وتهذيب للنفوس، وما فيه من فضائلَ وآدابٍ وأخلاق.
2 - أم كانت دعوةُ محمد صلى الله عليه وسلم غريبةً عن الدعوات التي جاءت بها الرسلُ الكرام الى الأقوام السابقين.
3 - أم لم يعرفوا رسولَهم محمداً عليه الصلاة والسلام الذي نشأ بينهم، وما كان يتحلّى به من صدقٍ وأمانة (وكانوا يسمونه: الأمين) فهم ينكِرون دَعْوته حسداً منهم وعنادا.
4 - ام يقولون: انه مجنون؟ فلايدري ما يقول، وهم أعلم الناس به!
وبعد ان عدّد سبحانه هذه الوجوه، ونبه الى فسادها، بين وجه الحقّ في عدم إيمانهم فقال:
{بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .(2/480)
كلا: إنه جاءهم بالدين الحق، لكن اكثرهم كارهون للحق، لأنه يخالف شهواتِهم واهواءهم فهم لا يؤمنون به، وذلك لأنه يسلبُهم زعاماتهم والقيم الباطلةَ التي يعيشون بها، فالدفاع عن مصالحهم هو الذي يتستّرون فيه. ومثل هؤلاء كثيرون في الوقت الحاضر يتخذون الدين ستاراً لزعاماتهم ومنافعهم.
ثم بين الله ان اتّباع الهوى يؤدي الى الفساد الكبير فقال:
{وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ}
ولو أن الله تعالى سايَرَ هؤلاءِ فيما يشتهونه ويقترحونه، لفسَدَ هذا النظامُ العظيم الذي نراه في السموات والأرض، واختلّ نظام الكون، وساد الظلمُ والفساد في الخلائق، ولكنّ الله ذو حكمةٍ عالية، وقدرة نافذة.
وبعد ان أنْبهم على كراهتهم للحق، ذكر أنه أعرضوا عن أعظم خيرٍ جاءهم فقال:
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} .
بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرُهم وشرفُهم، وهم مع ذلك معرِضون عن هذا الخيرِ العميم، والشرف العظيم، وكان قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] .
وهذا هو القول الحقّ، فإن العربَ قبل الإسلام لم تكن أمة متحدة، ولم يكن لها ذكر في التاريخ حتى جاءها الاسلام، فأصبحتْ بفضله تُذكر في الشرق والغرب، وظل ذِكرُها يدوّي في العالم قرونا طويلة. ولما تركت وحدتها ودينها وأعرضت عنه تضاءل ذِكرها وخبا نورها، ولن يقوم لها ذكر إلا برجوعها الى الاسلام، والأخذ بالعلم، ووحدة الصف.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}
إنك أيها الرسول لا تسأهلم أجراً على أداء رسالتك، ان أجرَ ربك لك خيرٌ مما عندَهم، وهو خير الرازقين.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو نافع وعاصم: «أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير» كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي: «ام تسأهلم خراجا فخراج ربك» وقرأ ابن عامر «ام تسأهلم خرجا فخرج ربك خير» .(2/481)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
ناكبون: زائغون، عادلون عن الرشاد. للجّوا: لتمادوا فيه. يعمهون: يتحيرون، يترددون في الضلال. استكانوا: خضعوا وذلوا. مبلسون: آيسون من كل خير. انشأ: خلق. ذرأكم في الارض: خلقكم وبثكم فيها.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
وأنت يا محمد على الحق الذي لا معدلِ عنه، وتدعو هؤلاء المشركين الى الدين القيّم الموصلِ الى السعادة الأبدية.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} .
ان الذين لا يصدّقون بك، ولا يؤمنون بالبعثِ بعد الموت، وبقيام الساعة، لَزائغون عن الحق، ومائلون عن النّهج القويم، وضالّون عن الطريق المستقيم.
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
لقد بلغوا في التمرّد والعناد حداً لا يُرجى معه صلاحهم، فلو رحمناهم وأزلنا عنهم ما نزل بهم من ضرر في أبدانهم وقحطٍ في أموالهم - لزادوا كفراً في طغيانهم يتردَّون في الضلال.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} .
ولقد عذّبناهم بأنواع كثيرة من العذاب منها قتلُ زعمائهم يوم بدر، والقحطُ الذي أصابهم، وغير ذلك - فما خضعوا لربهم وما تضرعوا، بل أقاموا على عُتُوّهم واستكبارهم. . . . لم ينفع معهم الإنذارُ ولا التحذير.
ثم بين الله عاقبة أمرِهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال:
{حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
حتى إذا جاء أمر الله، وجاءتهم الساعةُ ووقفوا بين يدي الله، وأخذَهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون - أيِسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.
{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}
ثم يبين الله تعالى بعض ما أنعمَ على خلقه لعلّهم يتذكرون: كيف تكفرون بالله وهو الذي انشأ لكم السمعَ لتسمعوا الحق! والأبصارَ لتروا الكون وما فيه من عجائب! والعقولَ لتدركوا عظمته فتؤمنوا به! ومع كل هذه النعم فإنكم لم تشكروها ولم تؤدوا واجبها.
{وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
وهو الذي خلقكم وبثّكم في هذه الأرض تستثمِرون خيراتِها، وإليه وحدَه تُحشرون يوم القيامة. وهو الذي يحيي ويميت، وبأمره وقوانينه يتعاقبُ الليلُ والنهار طولا وقصرا، فهل بعد كل هذه الدلائل، وهذه النعم تجحدون!!(2/482)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
أساطير: أباطيل، والاحاديث العجيبة واحدها أسطورة، واسطار، واسطير. الملكوت: الملك، والتدبير. يُجير: يغيث. ولا يجار عليه: لا يعين أحدٌ منه احدا. تُسحَرون: تخدعون عن الحق، لأن السحر تمويه وتخييل وخداع.
{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون. . . .}
لم يعتبر المشركون بكل هذه الأدلّة الواضحة بل ولا تدبروا الحُجَج، بل قلّدوا أسلافَهم السابقين فقالوا مثل قولهم.
قالوامنكرين للبعث: أمنَ المعقول ان نُبعث بعد الموت، وبعد اننصير تراباً وعظاما! لقد وُعِدْنا هذا الوعد، ووُعد آباؤنا من قبلنا بذلك، وما هذا الكلام إلا من أساطير الأمم السابقة، ليس له أصلٌ من الصحة.
{قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. . . . الآيات} في هذه الآيات الثلاث يجادل اللهُ المنكرين للبعث ويبين اخطاءهم:
1 - قل ايها الرسول: من الذي يملك الأرضَ ومن عليها من الناس وسائر المخلوقات، إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. إنهم ولا شك سيقرّون بالحقيقة ويقولون المالك هو الله. قل لهم حين يعترفون: أفلا تتذكرن فتعلموا أن من قَدَرَ على خلقِ هذا الكون لهو قادرٌ على إحيائكم وبعثكم!
2 - ثم قل لهم ايضا: من هو ربُّ السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقرون ويقولون الله. قل لهم: أتعلمون ذلك ولا تتقون عقاب ربكم!!
3 - وبعد ان أقرّوا بأن هذا الكون جميعه مِلك له تعالى بيَّن لهم جلّ جلاله أن تدبير هذا الملك الواسع بيده، وانه مالك كل شيء، فهو المدّبر لنظام العالم بأجمعه، له الحكم المطلق في كل شيء، وهو يحمي بقدَره من يشاء، ولا يمكن لأحد ان يجير أحداً من عذابه. ثم أجاب عن هذا السؤال قبل ان يجيبوا فقال:
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} .
إنهم سيقرون بالحقيقة ويقولون كل شيء لله، فقل لهم: إذنْ كيف تُخدعون وتُصْرَفون عن هذه الحقائق الثابتة، وتنصرفون عن طاعة الله!!
ثم بعد كل هذه الاسئلة والمحاورة يجيء التقريرُ الفاصل بقوله تعالى:
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لقد أتيناهم بالدين الحقّ على لسان رسولنا، وهم كاذبون في إنكار ذلك، وفي كل ما يخالف هذا الحق.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: سيقولون الله. والباقون: سيقولون لله.(2/483)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
الغيب: ما غاب عنا. الشهادة: الحاضر الآن. همزات الشياطين: وساوسهم. من ورائهم: من امامهم. برزخ: حاجز.
{مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} .
من الحقِّ الي جاء به الرسولُ الكريم من عند ربه معلَناً للناس كافة أن الله تعالى لم يلدْ ولم يولد ولم يتخذْ ولدا، ولم يشاركْهُ في الملك آلهٌ آخر، وبيّن ذلك بدليلين:
1 - إذا لذهبَ كل إلهٍ ما خلق. يستقل كل اله بما خلقه، يصرّفُه حسب ما يريد، فيصبح لكلّ جزءٍ من الكون، او لكل فريقٍ من المخلوقات - قانون خاص، ويحصل التباين في نظام هذا الكون. . . وهذا غير واقعٍ، فنظام الكون منسَّق منتظم {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ} [الملك: 3] .
2 - ولَعلا بعضُهم على بعض. ولحصَلَ خلافٌ كبير بين الإلهين، وقهر أحدُهم الآخر، وكل هذه الامور غير موجودة. على العكس فإن وحدةَ الكون ظاهرةٌ تشهد بوحدة مكوّنه، بوحدة خالقه، وكل شيء في هذا الكون يبدو متناسقاً منتظماً بلا تصادم ولا نزاع.
وبعد ان وضَح الحقّ وصار كفَلَقِ الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال:
{سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}
تنزه الله عما يقوله المشركون مما يخالف الحق. ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال:
{عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
هو العالم بما غاب عن خلقه من الشاء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويعملونه، فليس لغيره نم خلْقٍ يستقلّ به، فتنزه اله عما ينسبُه الكافرون إليه من وجود الشريك.
ثم بعد أن يقرر هذه الحقائقَ يأمر رسلَه الكريم ان يتوجّه إليه، وان لا يجعله قريناً لهؤلاء المشركين، وأن يستعيذَ به من الشياطين، فلا تثور نفسُه، ولا يضيق صدره بام يقولون:
{قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين}
قل: يا رب، إنْ عاقبتَهم وانا أشاهدُ ذلك فإني اسألك ان لا تجعلني مع القوم الكافرين. والرسولُ عليه الصلاة والسلام في منجاةٍ من ان يجعلَه الله مع القوم الظالمين حين يحلُّ بهم العذاب، ولكن هذا تعليمٌ له وللمؤمنين ان لا يؤمنوا مكر الظالمين، وان يظلّوا أبداً أيقاظا، يلوذون بحمى الله.
روى الإمام أحمد والترمذي «ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول:» واذا أردتَ بقومٍ فتنةً فتوفَّني غيرَ مفتون «
{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} .
ان الله قادرٌ على ان يحقّق ما وعدَ به الظالمين في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام. ولقد أراه بعضَ ما وعدهم في غزوة بدرٍ من قتلِ زعمائهم، وفي غزوة الفتح من النصر العظيم.(2/484)
ثم أرشده الى ما يفعل بهم إذا لحِقه أذاهم، وهو أن يصبر حتى يأتي امر الله:
{ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}
استمر يا محمد في دعوتك، وقابلْ إساءتهم بالتي حي أحسن، ومن العفو والصبر والتجاوز عن جهلهم. . . نحن أعلمُ بما يصفوننا به، وبما يصفون دعوتك من سوء وافتراء، وسنجازيهم عليه.
رُوي عن أنس رضي الله عنهـ: «يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: ان كنتَ كاذباً فإني أسأل الله ان يغفر لك، وان كنتَ صادقاً فإني أسأل الله ان يغفر لي» .
ولمّا أدّب الله رسولَه الكريم بأن يدفع بالحسنى أرشده لى ما يقوى به على ذلك، من الاستعاذة من هَمزات الشياطين.
{وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}
وقل أيها الرسول: يا رب، إني ألتجيء اليك من أثر وساوسِ الشياطين، وان يبعثوا إليَّ أعدائك لإيذائي، وان يكونوا بعيدين عني في جميع أعمالي، ليكون عملي خالصاً لوجهك الكريم.
أخرج الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمور بن شعيب عن ابيه عن جده قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا كلماتٍ نقولها عند العزم خوف الفزع:» بسم الله، اعوذ بكلماتِ الله التامة من غضبه وعقابه وشرِّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون «
ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين قُربِ الوفاة، ومعاينة المصير من سؤال الرَّجعة الى الدنيا ليُصلحوا ما كانوا أفسدوا حالَ حياتهم فقال:
{حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
سوف يستمر هؤلاء المعاندون على كفرهم، حتى إذا حلّ موعد موتِ أحدهم، ورأى مصيره ندم وقال: يا رب، ردَّني إلى الدنيان لأعملَ عملاً صالحا فيما قصرّت فيه من عبادتك، وما تركت من مالي. ولكن هيهات، فقد فات الأوان، ولن يجاب الى طلبه، وإنما هو كلام يقوله دون فائدة. إن أمامهم حاجزاً بينهم وبين الرجوع الى الدنيا.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحفص: عالمِ الغيب بالجر. والباقون: عالمُ الغيب بالرفع، على تقدير هو عالم الغيب.(2/485)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
الصور: بوق ينفخ فيه. لا يستاءلون: لا يسأل بعضهم بعضا، كل واحد مشغول بنفسه. موازينه: بما فيها من حسنات او سيئات. المفلحون: الفائزون. تلفح وجوههم النار: تحرقها. كالحون: مكشرّون عابسون. غلبت علينا شِقوتنا: سوء العاقبة، شقاؤنا من كثرة معاصينا. اخسئوا: كلمة زجر، اسكتوا سكوت ذل وهوان. حتى أنسوكم ذِكري: حتى أنسوكم عبادتي.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}
اذا جاء موعد البعث دعوناهم الى الخروج من قبورهم بالنفخ في الصور فيقومون مذهولين، لا تنفع أحداً منهم يومئذ قرابة ولا نسب، ولا يسأل بعضهم بعضا. . . . كل امرىء مشغولٌ بنفسه {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
وفي ذلك اليوم يكون العمل هو ميزان التقدير، فمن جاء بعملٍ صالح رجَح ميزانُه وفاز فوزاً عظيما، ومن لم يكن له عمل صالح ولا حسنات فقد خفّ ميزانه وخسِر كل شيء وذهب إلى نار جهنم خالداً فيها.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}
يومئذ تحرق النار وجوه الذين خسروا، وهم فيها معبِسون مكشّرون. نعوذُ بالله منهم، ومن سوء المصير.
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}
هنا يعدلِ الحديثُُ عن اسلوب الحكاية الى الخطاب والمواجهة: لقد كانت آياتي المنزلة تُقرأ عليكم في الدنيا، لكنّكم كنتم تكذّبون بما فيها. فيقولون مقرّين بخطئهم:
{قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ}
إننا نعترف إليك يا ربنا بكثرة معاصينا التي أورثتنا الشقاءَ، وكنا بذلك ضالّين عن طرق الهدى.
ثم يطلبون من الله أن يخرجَهم من النار ليعملوا صالحاً: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} وذلك بعد ان انسدّ باب التوبة، وانقطع التكليف.
فيأتيهم الجوابُ القاطع.
{قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}
اخرسوا واسكتوا أذلاّء مهانين، ولا تكلّموني مطلقا.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين} .
كيف أرحمكم وأترك عباداً لي آمنوا برسلي والتزموا بما أمرتُهم وقدّموا الأعمالَ الصالحة وكانوا يطلبون الرحمة والغفران في جميع احوالم! ليس من العدالة في شيء ان تكونوا مثلهم في هذا اليومن فلم يكن جُرمكم أنكم لم تؤمنوا فحسب، بل إنكم تماديتم في السخرية منهم.
{فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}
لقد بلغ بكم السَفَهُ والوقاحة ان تسخَروا من الذين آمنوا وتضحكوا منهم حتى شَغَلَكُم ذلك عن ذكري وطاعتي.
ثم بيّن الله ما جازى به أولئك المستضعَفين فقال:
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون}
لقد صبروا فكان جزاؤهم الجنةَ وفازوا بنعيمها خالدين فيها ابدا.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: غلب علينا شقاوتنا. والباقون: شقوتنا بكسر الشين كما هو في المصحف.(2/486)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
اللبث: الاقامة. العادّين: الحفظة الحاسبين لأعمال البشر. فإنما حسابه عند ربه: جزاؤه.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العآدين}
الله تعالى يعلم كل شيء لكنه يسألهم هنا للتقريع: كما كانات إقامتكم في الدنيا؟ فيقولون لبثنا يوما او بعض يومن فاسأل الحفَظَةَ العارفين لأعمال العباد.
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
إنكم لم تقيموا في الدنيا الا رَمَقاً قليلا بالقياس الى ما أنتم مقبلون عليه لو كنتم تحسنون التقدير.
ثم يعود فيعنّفهم على تكذيبهم بالآخرة فيقول:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}
أظننتم أننا خلقناكم بغير حكمة، وظننتم انكم لا تُبعثون لمجازاتكم!؟
ثم تنتهي السورة بتقرير القاعدة الأولى للإيمان، وهي التوحيد، وإعلان الخسارة الكبرى للمشركين، في مقابل الفوز والفلاح للؤمنين كما افتتحت السورة بذلك. ثم بالتوج الى الله في طلب الرحمة والغفران وهو أرحمُ الراحمين:
{فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم}
العظمةُ لله وحده، هو مالك الملك كله، لا معبودَ بحقٍّ سواه، وهو رب العرش الكريم.
وبعد ان ذكر انه الملِكُ الحق، أتبعه ببيان ان من ادّعى ان في الكون إلهاً سواه فقد ادعى باطلا لا دليل عليه فقال:
{وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون}
افتُتحت السورة بفلاح المؤمنين، وختمت بخيبة الكافرين. . . ومن يعبد مع الله آلها آخر لا دليل على صحة الوهيته، يعاقبْه الله على شِركه، وان الكافرين لا يفلحون. وهنا يتناسق مطلع السورة مع ختامها، نسأل الله تعالى حسن الختام.
{وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} >
وقل أيها النبي بالختام داعياً الله ضارعاً اليه: يا ربّ اغفر لي ذَنبي وارحمني وارحم عبادك. فأنت خير الراحمين.(2/487)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
السورة: المنزلة الرفيعة، الفضل والشرف، العلامة. فرضناها: اوجبنا العمل بها. يرمون المحصنات: يقذفون العفيفات بالزنا.
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
هذه سورة أوحينا بها وأوجبنا أحكامَها، وأنزلنا فيها دلائلَ واضحةً على قدرة الله ووحدانيته، لعلّكم تتعظون فتعملون بهذه التعاليم الإلهية.
{الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} .
تبين هذه الآية الكريمة حدَّ الزاني غير المتزوج والزانية غير المتزوجة اذا ثبت عليهما ذلك بإقرارهما او بشهادةِ أربعة شهودٍ رأوا ذلك العملَ بأعينهم وحلفوا عليه، فلو كانوا ثلاثةَ شهود لا تثبتُ الجريمة، ولا يقع الحّد. وتنص الآية ان لا ترأفَ عند تنفيذ الحكم. وتطلب ان يكون ذلك بمشهدٍ من الناس، ليكونَ في العقاب ردع لغيرهما من الناس. ويزاد على عقاب الجلد ان يغرَّب الزاني عاماً عن بلّده عند جمهور العلماء، وعند أبي حنيفة أن التغريب عائدٌ الى رأي الإمام ان شاء غرَّبَ وان شاء لم يغرِّب.
قراءات:
قرأ ابن كثير: رآفة بفتح الهمزة ومدها. والباقون: رأْفة باسكان الهمزة. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: فرّضناها بتشديد الراء اي فصّلناها. والباقون: فرضناها بفتح الراء دون تشديد.
أما عقوبة الزاني المتزوج فقد ثبتت بالسنّة الشريفة أنها القتلُ رجماً بالحجارة. وكانت العقوبة في أول الاسلام: للمرأة الحبسُ في البيت والأذى والتعبير، وللرجل الأذى والتعيير كما تنص الآية على ذلك من سورة النساء: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} الآيتان 15، 16. ثم نسخ هذا الحكم بهذه اآية.
فالاسلام جاء ليحافظ على المصالح المعتبرة وهي خمس:
1 - المحافظة على النفس.
2 - المحافظة على الدين.
3 - المحافظة على العقل.
4 - المحافظة على المال.
5 - المحافظة على العِرض.
فالقتلُ اعتداءٌ على النفس، والردّةُ اعتداء على الدين، وتعاطي الخمر والمخدّرات اعتداءعلى العقل، والسرقةُ اعتداء على المال، والزنا اعتداء على العرض.
{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} .
روى مجاهد وعطاء وغيرهم من المفسّرين أن المهاجرين لما قدِموا المدينة كان فيهم فقراء ليس لهم أموال ولا أقارب في المدينة، وكان فيها عدد من النساء بغايا يؤجّرون انفسهن، وهن يومئذ اخصبُ أهل المدينة عيشا، وعلى أبوابهن رايات للتعريف عنهن، فرغبَ في زواجهن رجالٌ من فقراء المسلمين المهاجرين، وقالوا نتزَّوجُهن الى أن يُغنينا الله عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.(2/488)
وفي هذه الآية زَجرٌ كبير، وإيضاح بأن من يرغب في زواج الزانية فهو زانٍ او مشرك، والزانية لا يرغبُ في زواجها الصالحون من الرجال المؤمنين، وهذا النكاح لا يليق بالمؤمنين فهو محرم عليهم.
اما اذا تابت الزانيةُ فيجوز الزواج منها، وكذلك الزاني إذا تاب يجوز ان يتزوج من المؤمنات العفيفات، كما نصّ على ذلك الإمامُ أحمد رضي الله عنهـ.
{والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
والذين يتّهمون العفيفاتِ من النساء بالزنا، ثم لا يُثبتون ذلك بأربعة شهود عدولٍ يشهدون انهم رأوا ذلك بالعين، فعاقِبوهم بالضرب ثمانية جلدة، ولا تقبلوا شهادتهم على أي شيء مدى الحياة، جزاءً على هذه الفِرية الشنيعة. هؤلاء خارجون عن طاعة ربهم، وأصحاب واحدةٍ من الكبائر، الا الذين رجعوا منهم عما قالوا وندموا على ما تكلموا به وتابوا توبةً نصوحا، فان الله يتجاوز عنهم ويغفر لهم.(2/489)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
يرمون أزواجهم: يتهمون زوجاتهم بالزنا. يدرأ عنها العذاب: يدفع عنها الحد.
والذين يتهمون زوجاتِهم بالزنا، ولا يستطيعون إثباته بأربعة شهود عدول، فان على الواحد منهم ان يشهد بالله أربعَ شهادات (يعني اربع مرات) انه صادق في هذا الاتهام، ويقول في المرة الخامسة أن عليه لعنةَ الله إن كان من الكاذبين.
وعلى الزوجة إذا لم تعترف بهذا الاتهام ان تقفَ وتقول أربع مرات: أشهدُ بالله أن الزوجَ كاذب في اتهامه إياها بالزنا، وتقول في المرة الخامسة إن عليها غضبَ الله إن كان زوجها من الصادقين. وهذا يدفعُ عنها الحد.
وفي هذه الحالة يقضي القاضي بالتفريق بينهما الى الأبد، وتحرُم عليه حرمةً مؤبدة، ويسقط عنها الحد، وينتفي نسَب الولد عن الزوج فلا يرثه، ويبقى الولد ابنَ الزوجة فقط هي أمه الشرعية، وليس لها مسكن ولا نفقة وليس لها أيّ حقوق من زوجها.
وهذا التشريه من لطف الله وحكمته، فيه ستر للأعراض، وتهدئةٌ للنفوس، واطمئنانٌ للقلوب، وتيسير على الناس.
وقد عقّب الله بعد ذلك بقوله الكريم:
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} .
من فضل الله عليكم ورحمته بكم أن شرع لكم هذه الأحكام الميسّرة، وإلا لكان وقَعَ بينكم شر عظيم. لقد ستر عليكم، ورفع عنكم الحدَّ باللعان، وإن الله توابٌ حكيم. وجواب لولا محذوف تقديره: لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: فشهادة أحدهم اربعُ شهادات برفع العين. والباقون: أربعَ شهادات بفتح العين. وقرأ نافع ويعقوب: والخامسة أنْ لعنةُ الله، وأنْ غضبُ الله عليها باسكان النون، ورفع كلمة لعنة. وق {أنافع: وأنْ غَضِبَ الله عيها. وقرأ يعقوب وان غضب الله عليها. والباقون: والخامسة انّ لعنةَ الله. . . . وانّ غضبَ الله، بتشديد ان وفتح لعنةَ وغضب. وقرأ حفص: والخامسةَ ان غضب الله عليها بنصب الخامسة. والباقون بالرفع.(2/490)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
الإفك: الافتراء، والفعل أفَك يأفِك مثل ضرب يضرب، وأفِك يأفَك: مثل علم يعلم. وأفك الناسَ: كذبهم. العصبة: الجماعة. تولى كبره: تحمل معظمه. إفك مبين: كذب ظاهر. لولا: بمعنى هلا. أفضتم فيه: خضتم فيه. اذ تُلقون بألسنتكم: اذ تتلقون الافك ويتناقله بعضكم عن بعض. بهتان عظيم: كذب محير لفظاعته. تشيع: تنتشر. الفاحشة: الزنا، وكل امر قبيح.
{إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
نزلت هذه الآيات العشر في شأن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حين رماها أهلُ الافك والبهتان من المنافقين ومن انضمّ اليهم من بعض المؤمنين بما قالوه من الكذب والافتراء. وكان القصدُ من ذلك إيذاءَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أحبّ نسائه اليه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبراءتها. وهذا باتفاق المفسرين والرواة من جميع الطوائف والمذاهب الاسلامية إلا من شذ.
وقد روى حديثَ الافك عددٌ من العلماء في مقدمتهم البخاري عن السيدة عائشة وابن الزبير؛ وام رومان ام السيدة عائشة؛ وابن عباس وابي هريرة وابي اليسر. كما رواه عدد من التابعين. والحديث طويل من أراده فليرجعْ الى صحيح البخاري وسيرة ابن هشام وغيرهما.
وخلاصته: ان الرسول الكريم كان إذا اراد سفراً عمل قُرعةً بين زوجاته، فالتي تخرج قرعتها أخذها معه. وفي سنة ستٍ من الهجرة (كما حدّدها ابن هشام في السيرة) خرج الرسول الى غزوة بني المصطَلِق وأخذ السيدة عائشة معه. فلما انتهى من الغزوة رجع، تقول السيدة عائشة: «حتى اذا قَفَلْنا ودنونا من المدينة، نزلنا منزلا. ثم نوديَ بالرحيل في الليل، فقمتُ لأقضي حاجة، ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش. فلما قضيت شأني أقبلت الى رحلي فلمست صدري فاذا عِقدي قد انقطع. فرجعتُ ألتمسه. فحبَسَني ابتغاءه. وجاء الذين توكلوا بهَوْدَجي فاحتملوه ووضعوه على بعيري وهم يحسبون اني فيه لخفّتي في ذلك الوقت. ورحَلَ الناس. وبعد ان وجدت عقدي جئت الى منزل الجيش فلم أجد أحدا، فجلست في مكاني وأنا أعلم أنهم سوف يفتقدونني ويعودون في طلبي. فبينما أنا جالسة في مكاني غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطّل السُّلَمي قد تخلف عن الجيش، فلما ورآني عرفني، فاستيقظت على صوته وهو يقول: إنا لله وانا اليه راجعون. فخمَرتُ وجهي بجلبابي، وواللهِ ما تكلّمنا بكلمة ولا سمعت منه غير استرجاعه. ثم أناخ راحلته فقمتُ إليها فركبتها، وانطلق يقود بي الراحلة حتى ادركنا الجيشَ عند الظهر وهم نزول. وكانوا قد افتقدوني وماج القوم في ذكري. فبينما الناس كذلك إذ وصلتُ عندهم.(2/491)
«وبعد وصولهم الى المدينة، بدأ الناس يتهامسون: ما بالُ عائشة تأخرتْ عن الجيش، وجاءت مع صفوان على بعيره، وصفوان شاب وسيم الطلعة مكتمل القوة! وقاد هذه الحركة وتولّى كِبرها رأسُ المنافقين عبدُ الله بن أبَيّ وبعض المؤمنين سيأتي ذكرهم وعددٌ من المنافقين.
وبلغ النبيَّ الخبرُ، واضطرب له. وبعد مدة بلغ السيدة عائشةَ الخبر. وهاج الناس وماجوا واضطربت المدينة لهذا الخبر، وبقيتْ كذلك مدة شهر إلى ان نزلت هذه الآيات تبرىء السيدة عائشة وتحسم الموضوع حسماً كاملا.
ان الذين اتهموا عائشةَ أمَّ المؤمنين بالزنا هم جماعة من كبار الكذّابين المفترين، وهم من المنافقين الموجودين بينكم، لا تظنوا هذه الحاديثة شراً لكم بل هي خير لكم، لأنها ميزت المنافقين من المؤمنين، واظهرت كرامة المبَّرئين منها، ولكل امرىء منهم جزاؤه على مقدار اشتراكه في هذه الجريمة.
{تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
ورأسُ الكفر والمنافقين عبدُ الله بن أبيّ هو الذي قاد هذه الحركة وتولى معظمها - له يوم القيامة عذابٌ عظيم. وقد انساق معه بعض المؤمنين منهم حسّان بن ثابت ومِسطَح بن اثاثة وهو أقارب ابي بكر الصديق، وحمنة بنتُ جحش أختُ زينب أم المؤمنين. ولما نزلت آية البراءة أمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بجَلْدِهم.
{لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} .
كان مقتضى الإيمان ان تظنوا بمن اتُّهم خيرا عند سماعِ هذه التهمة، وكان عليكم ان تقولوا هذا كذبٌ واضح لا يصدَّق.
ثم علل لسحبانه كذب الآفكين ووبخهم على ما اختلقوه واذاعوه فقال:
{لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون}
هلاّ جاء الخائضون في الإفك بأربعةِ شهداءَ يشهدون على ثبوت ما قالوه، فإن لم يستطيعوا فهم الكاذبون فيما اتَّهموا به عائشة.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
ولولا تفضُّلُ الله عليكم ببيان الأحكام، ورحمتُه لكم في الدنيا بعدم التعجيب بالعقاب، وفي الآخرة بالمغفرة - لنزل بكم عذابٌ عظيم على هذه التهمة الشنيعة.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} .
فقد تناقلتم هذه التهمةَ بألسنتكم وأشعتُموها بينكم، وتخوضون فيما لم يكن لكم علمٌ بصحته، وتحسبَون ان هذا الأمر هين بسيطٌ لا يعاقِب الله عليه، مع أنه أمرٌ خطير عظيم يعاقِبُ عليه الله اشد العقاب.
{ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
كان عليكم أن تقولوا حين سمعتموه: إن هذا كذِبٌ واختلاقٌ كبير، وأن تنصحوا بعدمِ الخوض فيه. . . . لأنه غير لائق بكم، وأن تقولوا متعجِّبين من هول هذه الفِرية: سبحانك يا ربّ، نحن ننزهك، إن هذا كذبٌ عظيم.(2/492)
ثم حذّر الله المؤمنين أن يعوداو لمثل هذا فقال:
{يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}
يعِظُكم الله بهذه المواعظ وينهاكم ان تعودوا لمثل هذه المعصية ابدا، ان كنتم مؤمنين حقّاً، لأن هذه الأعمال تتنافى مع الإيمان الصادق.
{وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
ويفصّل الله لكم في كتابه الآياتِ الدالةَ على الأحكام ومحاسن الفضائل والآداب، واللهُ واسعُ العلم لا يغيب عنه شيءٌ من أعمالكم وهو الحكيم في كل ما يشرع ويخلق.
{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .
ان الذين يحبّون ان يُفشوا القبائح ويتهمون بها المؤمنات لهم عذاب مؤلم في الدنيا بالعقوبة المقررة، وفي الآخرة بالنار، واللهُ عليم بجميع أحوالكم وأنتم لا تعلمون ما يعلمه.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، لَما بيَّن لكم الأحكامَ ولعَجَّلَ عقوبتكم في الدنيا وكنتم من الهالكين.(2/493)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
خُطُوات: بضم الخاء والطاء، واحدتها خطوة: المسافة ما بين الرِجلين في المشي، والمقصود: وساوس الشيطان. لا يأتلِ: لا يحلف. اولو الفضل: الاغنياء. المحصنَات: العفيفات. الغافلات: سليمات الصدور، اللاتي لا يفكرون في السوء. دينهم الحق: جزاءهم الثابت. ان الله هو الحق: ان الله هو الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء ويبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان. . .} .
يا أيها الذين آمنوا، لا تسلكوا سُبُلَ الشيطان، بل احذَروا وساوسه التي تجرّكم الى شاعة الفاحشة والمعاصي بينكم. ومن يتبع الشيطان فقد عصى. . . . لأنه يأمر بكبائر الذنوب. ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته بكم ببيان الأحكام - ما طَهُرَ أحدٌ منكم من ذنوبه ابدا، ولكن الله يطهِر مَن يشاء من خلقه بقبول توبته، واللهُ سميع لما تقولون، عليم بما في قلوبكم.
{وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
كان أبو بكر الصدّيق ينفق على مسطح بن أثاثه ابنِ خالته، وهو صحابي بدريّ من المهاجرين الفقراء، ولكن هذا كان من المخائضين في حديث الإفك، فحلف أبو بكر ان يقطع النفقة عنه، فنزلت هذه الآية:
لا يحلف اصحابُ الفضل من الأغنياء منكم الامتناعَ عن الإنفاق على أقاربهم من المساكين والمهاجرين ولو أساؤوا اليهم، بل عليهم ان يسامحوهم ويصفحوا عنهم. ألا تحبّون أن يستر الله عليكم ويغفر لكم ذنوبكم!! إن الله غفورٌ لذنوب من أطاعه رحيم به. فاستغفرَ ابو بكر ربه وأعاد النفقة على مسح.
{إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
ان الذين يتّهمون المؤمناتِ المتزوجاتِ الشريفاتِ الغافلات عن كل سوء عليهم لعنةُ الله والطردُ من رحمته في الدنيا، ولهم عذابٌ عظيم في الآخرة.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} .
في ذلك اليوم العظيم لا يحتاج الله شهوداً، لأن جوارحَ الانسان تشهد عليه بما كان يعمل. . . الله تعالى يجعلُها تنطق بالحق. وعند ذلك يحاسبُهم الله حساباً دقيقا ويجزيهم على ما عملوا جزاءَ الحق والعدل. عندئذٍ يعلمون أن ما وعدَهم الله هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.(2/494)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
تستأنسوا: تستأذنوا، لأن الاستئذان يحصل به الأنس لأهل البيت. تذكرون: تتعظون. ازكى: اطهر. جُناح. حرج. المتاع: كل ما يُنتفع به من طعام وأثاث ومال.
{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ. . . . الآية} .
في هذه الآية تأكيدٌ على نفي الريبة عن السيدة عائشة بأجلى وضوح، فقد جرت سُنةُ الله في خلقه على مشاكلة الاخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيّبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. . . ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أطيب الطيبين، وكذلك الصدّيقة عائضة يجب ان تكون من اطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم.
{أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ. . .} .
مبؤون من التهم التي يلصقها بها المنافقون، وقد منَّ الله عليهم بالغفران ورزق كريم عند ربهم في جنات النعيم.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ. . . . الآيات}
في هذه الآيات الثلاثة يبن الله تعالى حُكمَ دخولِ المرء بيتَ غيره، وانه لا يجوز لأي انسان ان يدخل بيت غيره الا بعد الاستئذان، فعلى المؤمنين ان لا يدخلوا بيوتَ غيرهم الا بعد ان يستأذنوا ويسلِّموا على أهلها. فإن لم يجدوا فيها أحداً فلا يجوز لهم ان يدخلوها، وان قيل لهم ارجعوا لأننا مشغولون لا نستطيع استقابلكم فيعلهم ان يرجعوا، فان ذلك من فضائل الأخلاق، وحُسنِ المعاشرة، وهو أزكى لهم وأَطهر.
ولا بأس ان يدخل المرء بيتاً وضع فيه حاجاتِه ومتاعه، ان كان غير مسكون، وله ان يدخله دون اذن، والله يعلم ما يُظهره الانسان وما يخفيه فليتّقِ الله وليراقبْ نفسه.(2/495)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
يغضوا من أبصارهم: يكفّونها عن المحرمات ويخفضونها. الخُمُر: جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رسأها. الجيوب: واحدها جيب، وهو فتحة في أعلى القميص. البعولة: الازواج، واحدها بعل. الإربة: الحاجة إلى النساء، يقال أرِب الرجل الى لاشيء اذا احتاج اليه، والاربة والأرَب بفتح الهمزة والراء، والمأربة بفتح الراء بمعنى واحد. الطفل: يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجوز ان يقال طفل وطفلة واطفال وطفلات، ويقال له طفل حتى يبلغ. لم يظهَروا على عورات النساء: لم يبلغوا حد الشهوة ولا يدرون ما هي.
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. . . .}
في هايتن الآيتين تعليمٌ لنا وتهذيب لأخلاقنا، لأن الإسلام يهدف الى إقامة مجتمع سليم نظيف، وذلك بالحيلولة دون استثارة المشاعر، وابقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً. ذلك أن الميل الفطري بين الرجل والمرأة مَيْلٌ عميق في التكوين الحيوي، لأن الله قد أناط به امتدادَ الحياة على هذه الارض. والله سبحانه يرشدنا الى أرقى الاخلاق وأسماها لنعيش في أمن وسلام.
قل ايها الرسول للمؤمنين: كفُّوا أبصاركم عما حرَّم الله عليكم من عورات النساء ومواطن الزينة منهن، واحفظوا أنفسكم من عمل الفاحشة. ان ذلك الأدبَ أكرمُ بكم واطهرُ وأبعدُ عن الوقوع في المعصية. {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فلا يخفى عليه شيء مما يصدُر منهم من الافعال.
وبعد ان أمر المؤمنين بغضّ أبصارهم - أمر المؤمنات كذلك. فقل يا أيها النبي للمؤمنات: عليهنّ ان يحفظن أبصارهن فلا ينظرن الى المحرَّم من الرجال. ويحفظن انفسَهن من الوقوع في الزنا وفتنة الغير. وذلك بستر أجاسمهن ما عدا الوجه والكفّين. وهذا معنى قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .
ولما نهى عن إبداء الزينة أرشدَ الى غخفاء بعض مواضعها فقال:
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}
وليضعن الخمارَ على رؤوسهن ليَسْتُرْنَ بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن.
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ. . . .}
لا يحلُّ لهنّ ان يُظهرن شيئا من اجسامهن الا لأزواجهن والاقارب الذين يحرُم عليهن التزوج منهم تحريماً مؤبدا مثل آبائهن او آباء أزواجهن، أو أبنائهن، أو أبناء أزواجهن من زوجات سابقات، او إخوانهن أو أبناء اخوانهن او ما ملكت ايمانهن من الأرقاء، او من يشتغل عندهن من المسنّين الذي ماتت شهواتهم والاطفال الذين لم يبلغوا سن البلوغ.
ثم نهى الله عن إظهار وسوة الحليّ وما يثير الشهوة فقال:
{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}
اطلبْ منهن أيها السرول ان لا يفعلن شيئا يجلب أنظار الرجال الى ما خَفِيَ من الزينة، وكل ما يثير الفتنةَ من المشي غير المعتاد.
{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}
ارجعوا الى الله والى طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه من عاداتِ الجاهلية، والتزِموا آدابَ هذا الدين القويم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.
قراءات:
قرأ ابن عامر وابو بكر: غير أولي الإربة، بنصب غيرَ. والباقون: غير بالجر كما هو في المصحف.(2/496)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
الأيامى: واحدهم أيِّم، وهو غير المتزوج رجلا كان او امرأة، بكرا او ثيبا. يقال: آم الرجل وآمت المرأة اذا لم يتزوجا.
منم عبادكم: من عبيدكم. الإماء: جمع أمة وهي المملوكة.
والذين يبتغون الكتاب: المكاتبة وهي ان يكاتب العبدُ سيده على مبلغ من الماء اذا ادَّاه اليه يصبح حرا. الفتيات: الاماء. البغاء: الزنا. التحصن: العفة. مبينات: مفصلات لكل ما تحتاجون.
{وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
وزوِّجوا من لم يتزوج من رجالكم ونسائكم، وأعينوهم على الزواج، حتى لا يقعوا في المعصية، ويسِّروا الزواج بقدْرِ ما تستطيعون من تقليل المهور، والمساعدة بكل الوسائل.
وأعِينوا الصالحين من عبيدِكم وإمائكم على الزواج ليتحصنّوا او يعفُّوا. ولا تنظروا الى فقرِ من يخطُب او فقرِ من تريدون زواجَها، ففي فضل الله ما يغنيهم، واللهُ ذو سعةٍ عليمٌ بكل شيء.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}
اما الذين لا يجدون القدرة على مئونات الزواج فعليهم أن يصبروا ويسلكوا طرق العفّة وينتظروا حتى يغنيَهم الله من فضله. وقد ورد في الحديث الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا معشرَ الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوجْ، فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء»
الباءة: النكاح ومؤنته. الوجاء: الخِصاء، يعني انه يعين على نسيان النكاح.
وفي الحديث الصحيح: «ثلاثةٌ حقٌ على الله عونُهم: المجاهدُ في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» أخرجه الترمذي والنسائي.
{والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}
هنا يحثّ الله تعالى على تيسير تحرير الرقيق. . . . فكل عبدٍ أو عبدة تريد التحرر وتكاتب سيّدَها على مبلغ من المال - على المؤمنين ان يساعدوهما في ذلك ويسهّلوا لهما طريق الحرية من العبودية. وهكذا كان الاسلام أول من شرع تحرير الرقيق، وقد انتهى نظام الرق الآن.
ثم حث الله المؤمنين جميعاً على تحرير الرقاب فقال:
{وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ}
وعلى جميع المسلمين أن يساعدوا أولئك الذين يريدون التحرّرَ فدفْعِ ما يستطيعون من الأموال لهم حتى يتم تحريرهم.
ثم نهى المؤمنين عن السعي في جمع المال من الطرق غير المشروعة فقال:
{وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا}
كان من عادات الجاهلية ان الرجل يكون عنده غماء فيُكرهُهُنَّ على البغاء حتى يكسبن له المال، ليأخذَ أجورهن. وكانت هذه العادة فاشية فيهم. وقد اشتكت بعضُ الجواري الى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فأنزل الله هذه الآية ليقطع دابر تلك العادة القبيحة.
{وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
ومن يكره غماءه على البغاء فإن الله غفور رحيم لهنّ، والذنبُ على المكرِه، وقد وعد المكرَهاتِ بالمغفرة بعد الاكراه على عملِ لا يدَ لهن فيه.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}
لقد أنزلنا اليكم في هذا القرآن آياتٍ واصحةً مبينّةٌ للأحكامٍ، كما أنزلنا اليكم امثلةً من احوال الأمم السابقة، وارشاداتٍ ومواعظَ للذين يخافون الله وهدى وعزاً لمن تولاه.(2/497)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
المشكاة: الكوّة في الحائط غير نافذ يوضع فيها المصباح. الزجاجة: القنديل من الزجاج. دريّ: مضيء متلألىء نسبةً الى الدر. لا شرقية ولا غريبة: يعني في مكان متوسط، لا شرقية فتُحرم حرارة الشمس آخر النهار، ولا غريبة فتحرمها أول النهار. الغدوّ: جمع غدوة: الصباح. الآصال: جمع أصيل، وهو المساء.
{الله نُورُ السماوات والأرض. . . .}
الله مصدرُ النور في هذا الكون، فهو منوِّرُ السماواتِ والأرضِ بكلّ نورٍ حسّي نراه ونسير فيه، وبكل نورٍ معنويّ كنور الحق والعدل، والعلم والفضيلة، والهدى والايمان. إن مَثَلَ نوره الباهر في الوضوح كمَثَلِ نور مصباح شديد التوهج، وُضع في فجوة من حائط يشعّ نوره، وقد وُضع المصباح في زجاجة يتلألأ نورها كالدّر (والعربُ تسمي النجومَ العظام الدَّراري) ، ويستمدّ هذا المصباح وقودَه من زيتِ شجرةٍ مباركة طيبة التربة والموقع، زيتونةٍ مغروسة في مكان معتدل لا يسترها عن الشمس في وقتِ النهار شيء، فهي شرقية غربية، تصيبها الشمسُ بالغداة والعشي، يكاد زيت هذه الشجرة لشدة صفائه يضيء ولو لم تمسّه نار المصباح.
{نُّورٌ على نُورٍ}
نور مترادِف متضاعف تجمَّع فيه نور المشكاة والزجاج والمصباح والزيت، وفق ذلك كله نورُ رب العالمين بهدْيه الناسَ الى الصراط المستقيم.
{يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}
وهكذا، تكون الشواهد المنبثة في هذا الكون، الحسّيُّ منها والمعنوي، آياتٍ واضحةً لا تدع مجالاً للشك في وجود الله، والله يوفق من يشاء الى الإيمان، إذا حاول الانتفاعَ بنور عقله. وهو يأتي بالأمثلة المحسوسة ليسهّل على الناس إدراكها، ولما فيها من الفوائد والنصح والارشاد. وهو سبحانه واسع العلم، محيطٌ بكل شيء، يعطي هدايته من يستحقّها ممن صفَتْ نفوسهم واستعدّوا لتلقي احكام الدين وآدابه.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص: دُرّي بضم الدال واتشديد الراء بدون همز. وقرأ ابو عمرو والكسائي: دِريء بكسر الدال والهمزة. وقرأ حمزة وعاصم: دُرِّيءٌ بضم الدال وتشديد الراء وبالهمزة المضمومة في آخره.
وقرأ ابن كثير وابو عمرو: تَوقَّدَ بفتح التاء والقاف المشددة وفتح الدال على انه فعل ماض. وقرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي: يُوقَدُ فعل مضارع بضم الياء وفتح القاف وضم الدال فعل مضارع مبني للمجهول كما هو في المصحف. وقرأ حمزة وأبو بكر: تُوقدُ بضم التاء والدال.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ. . . .} الآية.
ذلك النور المشعّ في السموات والأرض يتجلّى في بيوت الله (وهي المساجد) التي تتصل فيها القلوب بالله.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجدُ بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الارض.(2/498)
أمر الله ان تبنى وتعظَّم وتعمر بذكر الله من رجالٍ لا تَشغَلُهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجارتهم عن ذكر الله. . فهم يعملون للدنيا في الأسواق والحقول والمصانع، ويعملون للآخرة فيؤدون جميع فروضهم وواجباتهم، فلا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولا الآخرة عن الدنيا. وهم مع هذا يخافون هولَ يوم القيامة لاذي تضطربُ الأفئدة من شدّته، وتشخَصُ فيه القلوب والأبصار في حيرة ودهشة. والله تعالى مع كل ذلك يطمئِنُ المؤمنين ويبين مآل أمرِهم وحُسْنَ عاقبتهم بقوله:
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
إنها بشرى عظيمة للذين آمنوا واحسنوا، فانه بعد أن يجزيهم أحسنَ ما عملوا يزيدُهم من فضله. {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
ما أحسنَ هذه البشرى وما اعظم فضل الله.
قراءات:
قرأ ابن عامر وابو بكر: يسبح بضم الياء وفتح الباء. والباقون: يسبح بضم الياء وكسر الباء.(2/499)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
السراب: ظاهرة ضوئية سببُها انعكاس الشعاع من الأرض عندما تشتد حرارة لاشمس فيظنه الانسان ماء يجري ويتلألأ على وجه الأرض، وما هو الا وهمٌ لا حقيقة فيه. القيعة: مكان منبسط من الأرض لا نبات فيه ويقال لها القاع ايضا. لُجّيّ: اللج معظم الماء حيث لا يدرَك قعره، وبحر لجي: عميق. يغشاه: يغطيه. لم يكد يراها: تصعب رؤيتها. صافات: باسطة اجنحتها في الهواء. المصير: المرجع.
{والذين كفروا أَعْمَالُهُم كَسَرَابٍ. . . .}
في هاتين الآيايتنين يبين الله في مقابل ذلك النورِ المتجلِّي في السموات والأرض، المشعّ في بيوت الله والمشرِقِ في قلوب المؤمنين - مجالاً مظلما لا نور فيه، مخيفاً لا أمن فيه، ضائعاً لا خير فيه. . . . ذلك هو حال الذين كفروا. فَمَثَلُ اعمالهم في بطلانها وعدم جدواها كمثل السرابِ الذي يراه الظمآن في الفلاة في شدة حرارة الشمس فيسرع إليه، حتى إذا وصله لم يجد الماء الذي رجا ان يشرب منه. . . {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} يعني ان كل ما عمله هذا الجاحدُ من أعمال خيرٍ تذهب هباء منثورا، وفي يوم القيامة يحاسبُه الله ويفّيه جزاءه وعقابه. فلا يستفيد من أعماله شيئاً، لأنه لم يؤمن بالله والبعث والجزاء. وكما قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23]
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ. . . .}
وهذه صورة أخرى من صور حال الكفار الجاحدين. فأعمالُ الكافرين في الدنيا كمثل السراب الذي ليس بشيء، او كهذه الظلمات في البحر العميق، تتلاطم امواجُه ويتراكم بعضها فوق بعض. ومن فوقِ ذلك كله سحابٌ كثيف مظلم لو رفع الإنسان يدَه الى وجهه لما رآها من شدة الظلام. ان قلوب الكافرين وأعمالَهم مثلُ هذه الظلمات المتراكمة تراكمت عليها الضلالات، فهي مظلمة، في صدور مظلمة، في اجساد مظلمة.
ولقد جمع الله تعالى في هذا الوصف بينَ الليل المظلم، وتراكُب الأمواج في البحر بعضها فوق بعض، ومن فوقها السحاب الكثيف. . . . وهذا أشدُّ ما يكون من الظلمات.
وتجمع هذه الآية الكريمة أهم ظواهر عواصف المحيطات العظيمة. وهذا من أكبرِ الأدلة على ان القرآن من عند الله، لأن الرسول الكريم لم يركب المحيطاتِ وكان يعيش في بلاد صحراوية. . . . فورودُ هذه الدقائق العلمية دليل على أنها وحي من عند الله.
{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}
ومن لم يوفقه الله لنورِ الإيمان، فليس له نور يهديه الى الخير، ويدلّه على الصراط المستقيم.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}
ألم تعلم ايها النبي أن جميع من في هذا الكون يسبِّح بحمد الله تعالى، وان تسبيحَ كل صنف يختلف باختلاف صفاته وخصائصه، وكلٌّ يسبّح بدلالة وجوده وصورته وأحكامه على وجود المصوّر الحكيم، فالعاقل يسبّح بلسان المقال، وغيره يسبّح بلسان الحال، والطير صافات باسطةً أجنحتها في الفضاء تسبّح الله وتحمدُه بلغاتٍ لا نعملها.(2/500)
واعلم أن هذا الوجودَ كلَّه حيّ، ولا معنى للوجود بغير حياة، وان الحياة على مقدار إشراق الأنوار العلوية على المخلوقات، فللانسان وللحيوان وللنبات حياة، أي ان هناك نوعاً من الشعور. وهكذا الجماد له نوع من الشعور لا ندركه. وكل هذه المخلوقات تسبح بحمده تعالى.
{وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وإلى الله المصير}
والله تعالى هو مالكُ هذا الكون ومن فيه وصاحبُ السلطان عليهم، وكلُّهم راجعٌ إليه يوم القيامة للحساب والجزاء.(3/1)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
يزجي: يسوقُ برفق. يؤلف بينه: يجمع بين أجزائه وقطعه. ركاماً: متراكما بعضه فوق بعض. الودق: المطر. من خلاله: من بينه. من جبال: من قطعٍ عظام تشبه الجبال.
سنا برقه: ضوء برقه. يذهب بالأبصار: يخطفها لشدة بريقه ولمعانه. يقلّب الليل والنهار: يتصرف فيهما طولا وقصرا. لأولي الأبصار: لأهل العقول والبصائر.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً. . . .} .
في هذه الآية والتي تليها دلالةٌ على قدرة الله ووحدانيته. . . . انظرُ أيها الرسولُ الكريم السحابِ يسوقُه الريحُ بقدرة الله أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرّق من أجزائه، ثم يجعل بعضَه متراكماً فوق بعض، فترى المطرَ يخرج من خلاله. واللهُ يُنزل من مجموعات السحب المتراكمة التي تشبه الجبالَ في عِظَمِها بَرَداً ينزل على قومٍ فينفعهم او يضرّهم تبعاً لقوانينه وارادته، ولا ينزل على آخرين كما يريد الله. وانظُر إلى ما في هذه السّحاب من بَرْقٍ يضيء بشدّةٍ وسرعة حتى يكاد يخطَفُ الأبصار، كما في قوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] .
وهذه الظواهر من أقوى الدلائل على قدرة الله، وكلُّ من ركب الطائرة يعرف التشابه بين السحب والجبال، فانه يراها متراكمة كأنها الجبال والآكام، وهذا من الأدلة الباهرة على إعاجز القرآن الكريم. ولم تُعرف هذه الصورة الا بعد وجود الطائرات التي ترفع الإنسان فوق السحب فيراها على حقيقتها كما وُصفت في القرآن.
{يُقَلِّبُ الله الليل والنهار إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}
انظر أيضاً الى اختلاف الليلِ والنهار وتقلُّبِها بزيادة أحدِهما ونقص الآخر، والى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة. . . . ان في ذلك كله لعبرةً لذوي العقول السليمة، وعظةً لكل من ينظر ويتأمل.
{والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ. . . .}
والله خلقَ كلَّ حيوان يدب على الأرض من الماء، وكما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ} [الانبياء: 30] . ثم بيّن اقسام هذا الحيوان، فمنهم من يمشي على بطنه كالزواحف، ومنهم من يمشي على رِجلين كالانسان والطير، ومنهم من يمشي على أربع كالأنعام والوحوش. {وَيَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} من الحشرات التي تمشي على أكثرَ من أربع ارجل، وغير ذلك على اختلاف انواعها.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ان الله على إحداث ذلك وخلْقِ ما يشاء لذو قدرة، لا يتعذر عليها شيء فالماء هو اصل الانسان، وجسمُ الانسان معظمه من الماء اذ يحتوي على نحو 70% من وزنه ماءً. والماء اكثر ضرورةً للانسان من الغذاء، فبينما يمكن للانسان ان يعيش ستين يوما بدون غذاء لا يمكنه ان يعيش بغير الماء الا ثلاثة ايام الى عشرة على اقصى تقديره.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
لقد انزلنا عليك يا محمد دلالئلَ واضحةً تبين الأحكام والعظات، والله يوفق الى الخير من يشاء من عباده، ويرشدهم الى الطريق المستقيم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: والله خالق كل دابة. والباقون: والله خلق كل دابة.(3/2)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
يتولى: يعرض ولا يطيع. مذعنين: منقادين. أفي قلوبهم مرض: فسادٌ وبغض يحملهم على الضلال. ارتابوا: شكوا. يحيف: يجور. جهد أيمانهم: اقصى غايتها. فان تولّوا: فان تتولوا بحذف التاء، أصلُه تتولوا.
الحديث في هذه الآيات الكريمة عن المنافقين الذي يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فيقولون: آمنّا بالله والرسول وأطعْنا أوامرهما، ثم يفعلون ضدّ ما يقولون، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين.
فاذا طُلبوا الى التحاكم أمامَ رسول الله فيما يتنازعون فيه أَبَوا وخافوا ان يحكمَ عليهم. اما اذا عرفوا الحق في جانبهم فإنهم يأتون الى الرسول مسرعين ليحكم بينهم.
لماذا يقفون هذا المقوف، هل هم مرضى القلوب بالكفر والنفاق؟
أم يشكّون في عدالة الرسول الكريم؟
ام يخافون ان يجور عليهم الله ورسوله؟
كل هذا لم يحصل، بل هم الظالمون لأنفسهم ولغيرهم بسبب كفرهم ونفاقهم وعدولهم عن الحق.
وبعد ان نفى عن المنافقين الإيمانَ الحقَّ بيَّن صفاتِ المؤمنين فقال:
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون} .
فأما المؤمنون حقاً الصادقون فِعلاً فإنهم إذا طُلبوا الى التحاكم بمقتضى ما جاء عن الله الى رسوله قالوا مطيعين: سمعْنا وأطعنا الأمر، وأولئك هم المفلحون.
ومن يطِع الله ورسولَه فيما أمرا به وتركِ ما نهيا عنه، وخشيَ الله وغضبه - فأولئك هم الفائزون في الدنيا والأخرة.
ثم بعد المقابلة بين المنافقين والمؤمنين يعودُ لاستكمال الحديث عن المنافقين:
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
أقسم المنافقون بالأيمان المغلّظة لئن أمرتَهم يا محمد بالخروج إلى الجهاد معك ليخرجون، قل لهم: لا تحلِفوا، إن طاعتكم معروفة لنا، فهي طاعة باللسان فحسب، والله تعالى خبير لا تخفى عليه خافية من اعمالكم فلا يحتاج الى حلف او توكيد.
{قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول. . . .}
قل لهم ايها الرسول: أطيعوا الله وأطعيوا الرسول طاعة صادقة، فإن أعرضوا ولم يمتثلوا، فإنما على الرسول ما حمّله الله من أمر التبليغ، وعليكم ما حمّلكم من التكليف والطاعة. إنكم ان تطيعوا الرسول تهتدوا الى الخير، وما عليه الا التبليغ الواضح.
قراءات:
قرأ حفص: «يتقْه» باسكان القاف، والباقون: «يتقِهِ» بكسر القاف والهاء. قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي: ويتقهي بكسر القاف ومد الهاء.(3/3)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
ليستخلفنهم: يجعلهم خلفاء في الحكم على هذه الارض. وليمكننّ لهم دينهم: يثبت لهم الاسلام الذي ارتضاه لهم دينا.
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات. . . .}
وعد الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم العاملين المجاهدين لجعل الاسلام هو الحاكمَ في الأرض - أن ينصرهم ويجعلهم حكام الأرض، كما فعل مع المؤمنين الذين سبقوهم. كما وعدهم ان يرسِّخَ دعائم دينهم الذي ارتضاه لهم، وان يبدِّل حالهم من الخوف الذي عاشوا فيه عند بداية الإسلام الى أمنِ واستقرار وعز، وبشرط ان يعبدوا الله وحده.
وقد تحقق هذا الوعدُ لأسلافنا، وهو قائمٌ الى الأبد إذا نحن أقمنا على شرطِ الله بأن نصدُق في إيماننا، ونسيرَ على منهاج ديننا. ان وعدَ الله حقٌّ قائم وشَرْطَ الله حق معروف،
ومن أوفى بعهِده من الله.!؟
والذين كفروا بعد هذا الوعد الصادق، هم الخارجون المتمرّدون، وحسابهُم على الله.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة. . . .}
وبعد الوعد الصادق للمؤمنين بالنصرِ واستخلافِهم في الأرض يأتي الأمرُ بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة عن طيب خاطر لمستحقّيها، واطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في سائر ما أمرنا اللهُ به حتى يكون لنا رجاءٌ في رحمته ورضوانه.
ثم بين الله بعد ذلك أن الكافرين لا قيمة لهم، وانه سيحلُّ بهم العذاب، ولا يجدون مَهْرَباً مما أوعدهم به ربهم، وأن مصيرهم النار وبئس القرار.
قراءات
قرأ أبو بكر: كما استخلف، بضم التاء وكسر اللام. والباقون: كما استخلف بفتح التاء واللام. وقرأ ابن عامر وحمزة: لا يحسبن بالياء. والباقون: لا تحسبن بالتاء. وقرأ ابن كثير وابو بكر: وليبدلنْهم باسكان النون. والباقون: وليبدلنّهم بالتشديد.(3/4)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
ما ملكت ايمانكم: العبيد والاماء. الحلم: بضم اللام وسكونها، البلوغ. تضعون ثيابكم: تخلعونها. الظهيرة: وقت اشتداد الحر عند منتصف النهار. العورة من الجسم: كل ما يستحي الانسان ان يظهرهُ من جسمه. ثلاث عورات: ثلاث مرات في الاوقات التي تستريحون فيها. جناح، بضم الجيم: اثم. طوافون عليكم: يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة. القواعد من النساء: العجائز الكبار في السن. لا يرجون نكاحا: لا يطمعون بالزواج. التبرج: اظهار المحاسن.
في هذه الآيات توجيهٌ للمؤمنين وتربيةٌ وتعليم إلى اللّياقة الاجتماعية في محيط الأسرة، وذلك أن اندماجَ الخدم والصبيان في أسَرهم قد يتجاوز بهم الاحتشامَ في المخالطة فيدخلون على الكبار دون استئذان في هذ الاوقات الثلاثة المذكورة في الآية. وظراً لأنها أوقات خلوة وحرية شخصية ويتحلل الانسان فيها من لباس الحشمة، جاء القرآن الكريم بتشريع الاستئذان في تلك الاوقات بالنسبة لمن ذكرتُهم من الهدم والصبيان حتى لا يطلعوا على ما يعتبر سراً لا يستساغ إظلاعهم عليه، إذ هو كالعورة التي ينبغي سترها.
وفي هذا توجيه لأعضاء الأسرة المؤمنة الى اتخاذ الملابس اللائقة لمقابلة بعضهم البعض، حتى تظل كرامتهم مصونة، وحريتهم مكفولة وآدابهم مرعية، فالقرآن الكريم جاء ليعلّمنا ويوجهنا الى الخير وفضائل الاخلاق وحسن المعاشرة.
وكان الخدم والصبيان والعبيد قبل هذا يدخلون على بعضهم دون استئذان. وهناك روايات عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، وأسماء بنت مرثد وغيرهما ان بعض الخدم دخل عليهم في بعض هذه الاقوات فتأذوا من ذلك فنزلت هذه الآيات، وهناك احاديث كثيرة في هذا الموضع.
بيّن الله تعالى في هذه الآيات ان على الاطفال والخدم ان يستأذنوا للدخول على الكبار في ثلاثة اوقات من اليوم هي: قبل الفجر، وعند الاستراحة وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء. وفيما عدا ذلك يمكن ان يدخلوا دون اذن.
أما اذا بلغ الاطفال سن البلوغ فعليهم ان يستأذنوا كما يفعل الكبار على كل حال. واما النساء الكبار في السن اللاتي لا مطمع لهن في الزواج، فلا جناح عليهن اذا تحللن من بعض الملابس في بيوتهن، واذا تعففن باللباس الساتر فانه خير لهن، والله سميع بما يجري بين الناس، عليم بمقاصدهم لا تخفى عليه خافية.
قراءت:
قرأ الجمهورك ثَلاثُ عورات بضم الثاء، وقرأ ابو بكر وحمزة والكسائي: ثَلاثَ عورات بفتح الثاء.(3/5)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
الحرج: الضيق، ومعناه هنا الإثم. ما ملكتم مفاتحه: ما كان تحت تصرفكم. الصديق: يطلق على الواحد والجمع. جميعا: مجتمعين. اشتاتا: متفرقين.
في هذه الآيةِ الكريمة توجيهٌ للمؤمنين لتنظيم العلاقاتِ والمعاشرة والمخالطة بين الأقارب والاصدقاء، فقد سمح الله للمؤمنين أن يأكلوا مع أصحابِ العاهات من عُمْيٍ وعُرجٍ ومرضى من هذه البيوت التي سمّاها، يدخلونها مجتمعين او متفرقين. وعليهم إن ارادوا دخولها ان يسلِّموا على أهلِها إن كانوا موجودين، او يسلِّموا على انفسهم ان لم يكن في البيت احد. وهذه التحية تحية مشروعة مباركة، بها تطيبُ النفوس. وعلى هذا النحو يوضح الله لنا آياته لعلّنا نعقِلها ونتفهّم ما فيها من الأحكام والعظات لنعمل بها، ونِعْمَ الأدب والمؤدب.(3/6)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
امر جامع: امر هاميستدعي ان يجتمع الناس عليه للتشاور والتداول. لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضا: لا تنادوا الرسول باسمه: يا محمد، بل عظموه وقولوا: يا رسول الله. يستللون منكم. . .: يخرجون خفية. لواذا: متسترين يلوذ بعضهم في بعض. يخالفون عن امره: يخرجون عن طاعته.
{إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ. . . .}
كما أمَرَ اللهُ تعالى المؤمنين بالاستئذان عند الدخول - أمَرَهم هنا بالاستئذان عند الخروج، وفي هذا تعليمٌ وتأديبٌ لنا جميعا.
ان المؤمنين حقاً اذا كانوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في امر مهمٍ من أمور المسلمين، كتشاوُرٍ في أمر الحرب، او ما ينفع المسلمين - فلا يحقّ لهم ان ينصرفوا الا بعد استئذانه ومشورته، فمن التزم بهذا فهو من المؤمنين الكاملين، ويحق للرسول أن يأذَنَ لمن يشاء منهم كما تقتضي المصلحةُ التي اجتمعوا عليها، ويستغفر للمستأذنين.
فقد حدث حين بدأ المسلمون بحفر الخندق عندما غزتهم قريشُ ومن معها من العرب - وكان في مقدمتهم الرسول الكريم - أنّ بعضَ المنافقين أخذوا يتسلّلون من ذلك المكانِ ويذهبون الى أهلِهم، اما المؤمنون فقد ثبتوا معه، وكان من يريد ن يذهب الى قضاء حاجة يستأذن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فإن قضى حاجته عاد إلى مكانه وعمله.
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} .
وعندما تخاطبون الرسولَ الكرمين فلا تنادوه باسمه: «يا محمد» مثلاً، أو يا أبا القاسم، وإنما خاطبوه بياء أيها الرسول، واحترموه غاية الاحترام، باللين من القول وخفض الجناح.
{قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً}
والله تعالى يعلم عِلم اليقين الّذين ينصرفون متسلّلين بدون إذن حتى لا يراهم الرسول، فليحذَرِ الذين يخالفون أمرَ الله أن يصيبَهم بلاءٌ من الله او عذاب أليم.
{ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض. . . .}
واعلموا أيها الناسُ أن هذا الكونَ وما فيه مِلْكٌ لله وحده لا شريك له، ويعلم كل ما تعلمون، وسترجعون غليه فينبئكم بكل ما عملتموه من خير او شر، وسيجازيكم عليه، واللهُ بكل شيء عليم.
وهكذا ختمت السورة بتعليق القلوب والابصار بالله، وتذكيرها بخشيته وتقواه، والحمد لله أولاً وآخرا، ونسأله التمام على خير.(3/7)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
تبارك: عظمت بركته، والبركة كثرة الخير لعباده بإنعامه عليهم. الفرقان: القرآن، وسمي الفرقان لانه فرق بين الحق والباطل. على عبده: على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. الافك: الكذب. افتراه: اختلقه. فقد جاؤا ظلما: قالوا باطلا. زورا: كذبا. أساطير الاولين: خرافات الأمم السابقة. اكتتبها: نقلها غن غيره. تُملى عليه: تلقى عليه ليحفظها. بُكرةً وأصيلاً: صباحا ومساء.
تعالى الله عما سواه، صاحب البركة العظيمة، نزّل القرآنَ الذي يَفْرُق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، لينذرَ به الناس جميعا، ويبلّغه للعالم كله، ليجعلوه منهاج حياتهم في جميع امورهم.
ثم وصف نفسه بأربع صفات انفرد بها فقال:
1 - الذي له مُلكُ السمواتِ والأرض: له السلطانُ القاهر عليهما، وهو وحدَه المالك المتصرف في هذا الكون، وله السيطرة المطلقة فيه.
2 - ولم يتّخذ ولداً، وهو منزَّه عن اتخاذ الولد، والتناسلُ من نواميس الخلق لامتداد الحياة، والله تعالى باقٍ لا يفنى، قادر لا يحتاج.
3 - ولم يكن له شريكٌ في المُلك، والدليل على ذلك وَحدة هذا الكوْن، ووحدة نظامه ووحدة التصريف، ولو كان له شريكٌ لاختلّ النظام وتعدد.
4 - وخلقَ كل شيء فقدّره تقديرا، وهذه هي الصفةُ الرابعة التي انفرد بها سبحانه. فقد خلق كل شيء في هذا الوجود وقدَّره تقديراً دقيقا منظَّما بنواميس تكفل له أداء مهمته بنظام. وقد أثبت العلمُ الحديث ان كل الموجودات تسير بحكم تكوينها وما يجري عليها من تطورات مختلفة وَفْقَ نظامٍ دقيق ثابت لا يقدِر عليه الا خالق قدير مبدع. ويُظهر تقدُّمُ العلم للناس إعجاز القرآن الكريم ومعنى قوله تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} .
{واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً}
مع كل هذه الأدلة الظاهرة اتخذ المشركون أرباباً لهم ضِعافاً عاجزين، لا يقدِرون ان يخلقوا شيئاً، وهم مع ذلك مخلوقون، ولا يستطيعون ان يدفعوا عن انفسهم الضرر، ولا جلْبَ الخير لها. وكذلك لا يستطيعون إماتة أحدٍ ولا إحياءه، ولا بعثاً من القبور. فهل يستحق هؤلاء ان يُعبَدوا؟
{وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ. . . .}
وزعم الجاحدون أن هذا القرآن ليس من عند الله، وان النبيّ عليه الصلاة والسلام جاء به من عنده ونَسَبه الى الله، أعانه على وضعه جماعةٌ من أهل الكتاب ممن أسلموا، فردّ الله عليهم بقوله:
{فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً} .
لقد كذبوا في مقالهم، وظلموا وزوّروا الحقيقة، ولو أنه من عند محمدٍ نفسه لاستطاع كثير من الفصحاء أن يأتوا بمثله!! وقد تحدّاهم أكثر من مرة أن يأتوا بسورةٍ من مثله فلم يستطيعوا. . . . ولا يزال التحدي قائما.
ثم أمعنوا في الكذِب والافتراء بأن قوماً آخرين أعانوه عليه كما قال تعالى:
{وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
وقالوا ايضا: إن القرآن ليس إلا خرافاتِ الأولين الماضين نَقَلَها محمّد ان قُرئت عليه صباحاً ومساء حتى يحفظها ويقولها للناس.
فأجابهم الله بقوله:
{قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}
قال لهم أيها النبي: ان هذا القرآن أنزله الله الذي يعلم الأسرارَ الخفية في السماوات والارض، الرحيمُ الغفور.(3/8)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
مسحورا: مغلوبا على عقله، مخدوعا. الأمثال: الأقاويل العجيبة. فضلّوا: فبقوا متحيرين في ضلالهم. أعتدنا: هيأنا. سعيرا: ناراَ شديدةاللهب، يعني جهنم. أذا رأتهم: إذا قربوا منها وكانت بمرأى منهم. سمعوا لها تَغيظاً: غلياناً وهيجانا عظيما. وزفيرا: وتنفسا شديدا. مقرّنين: مقيدين بالسلاسل. ثبورا: هلاكا.
سخِر المشركون من النبي الكريم، وقالوا: انه لا يتميز عنا بشيء، بل هو مثلُنا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فهل الانبياء مثل البشر؟ لو كان رسولاً لأنزل الله معه مَلَكاً من السماء يساعده على الإنذار والتبليغ، او يُنزّل الله عليه كنزاً يُنفِق منه، او يكون له سبتان يأكل منه. ثم زادوا في تعنُّتِهِم فقال الجاحدون: إنكم تتبعون رَجلا سُحِرَ فاختلّ عقلُه فهو لا يعي ما يقول.
انظر ايها النبي كيف ضربوا لك الأمثال، وقالوا عنك إنك مخدوعٌ بما يتراءى لك. بذلك ضلّوا عن طريق الهدى، وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون.
ثم رد الله عليهم بما اقترحوه من الجَنّة والكنز فقال:
{تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً. . . .} .
تعالى الله وتزايد خيره، وهو قادرٌ على ان يجعل لك في الدنيا أحسنَ مما اقترحوا، جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ وقصوراً عاليات، لكنّه أراد ان يكون ذلك لك في الآخرة، والآخرةُ خير وأبقى.
ثم انتقلَ من ذلك الى كلامهم في البعث وإنكار أمر الساعة وما ينتظرهم فقال:
{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} .
ولقد أتَوا بأعجبَ من هذا كله، وهو تكذيبُهم بيوم القيامة. وهم يتعلّلون بهذه المطالب ليصرِفوا الناس إلى باطلهم، وقد أعدَدْنا لمن كذّب بيوم القيامة ناراً مستعرة شديدة الحرارة واللهب، اذا قربوا منها ورأتهم من مكان بعيد سَمِعوا غليانها وأصواتَ زفراتها التي تملؤهم بالرعب. واذا أُلقوا في مكانٍ ضَيّق منها مقرونةً أيديهم الى أعناقهم بالسلاسل - نادَوا هنالك طالبي هلاكهم ليستريحوا من العذاب.
فيقال لهم توبيخاً: لا تطلبوا هلاكاً واحدا، بل اطلبوه مِرارا، فلن تجدوا خلاصاً مما أنتم فيه.
ثم يعرض في المقابل ما وعد الله المتقين لتزدادَ حسرةُ المكذبين وندامتهم:
{قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد. . . .} .
قل ايها النبي للكافرين: هل هذا العذابُ خير من جنة الخلد التي أعدّها الله للمتقين، ثواباً لهم يجدون فيها جزاء ما قدموه!؟
قراءات:
قرأ ابن كثير وابن عامر وابو بكر: ويجعلُ لك قصورا برفع لام يجعل. والباقون: يجعلْ بالجزم.(3/9)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
ضلّ السبيل: خرج عن طريق الهدى. نسوا الذِكر: تركوا ما ذكِّروا به من القرآن وهدى النبي الكريم. بورا: هالكين. يقال رجل بور وأمرأة بور، وجماعة بور. فما تستطيعون صَرفا ولا نصرا: فلا تقدرون على رفع العذاب، ولا نصر أنفسكم. فتنة: ابتلاء واختبار.
بعد ان ذكر الله ما أعدّ للمكذّبين الجاحدين يوم القيامة من العذاب الأليم، وما أعدّ للمتقين من النعيم في جنات الخلد - بيّن هنا أحوال الكافرين مع من عبدوهم من دون الله، وأن هؤلاء المبعوداتِ تكذّبهم فيما نسبوه اليها. فيوم القيامة يحشُر الله المشركين مع من عبدوهم من دون الله مثل عيسى بن مريم وعُزير والملائكة فيسألهم ويقول لهم: أأنتم أضللتم عبادي فأمرتموهم أن يعبدوكم، أم هم الذين ضلّوا باختيارهم؟
فيقولون: سبحانك، ما كان يحقّ لنا ان نطلب من أحدٍ ان يتخذ إلهاً غيرك، لكن هؤلاء الذين أنعمتَ عليهم بالرزق الكثير (هم وآباؤهم) أطغاهم ذلك، ونسوا شكرك والتوجّه إليك وحدك، وبذلك كانوا قوماً خاسرين.
فيقال للمشركين الذين عبدوا غير الله: إن الذين عبدتموهم قد كذّبوكم، فاليوم لا تستطيعون دفع العذاب عن أنفسكم، ولا تجدون من ينصركم ويخلّصكم منه، ولْيعلمِ الناسُ جميعا ان من يَظْلِم بالكفر والطغيان - نعذبه عذابا شديدا.
ثم يّرد الله تعالى على الذين اعترضوا على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بكونه بشَرا، وانهم يريدون ملائكة تأتي بالرسالة، فيقول:
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} .
اذا كان المشركون لا يعجبهم ان تكون رسولاً لأنك تأكل الطعامَ وتمشي في الاسواق، فإن تلك سُنّةُ الله في المرسَلين من قبلك. . . . كلّهم كانوا رجالاً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. كما قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109] .
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}
وامتحنّا بعضَكم ببعض. وهذا صراعٌ طويل طويل منذ بدءِ العالم ولا يزال مسمر. اصبروا إنَّ الله مطّلع على كل شيء، ويجازي كلاً بما عمل. وهو البصير بحال الصابرين وحال الجازعين.
قراءات
قرأ ابن كثير ويعقوب وحفص: ويوم يحشرهم بالياء، والباقون: يوم نحشرهم بالنون. وقرأ ابن عامر: فنقول بالنون، والباقون: فيقول بالياء. وقرأ حفص: فما تستطيعون بالتاء، والباقون: فما يستطيعون بالياء.
اللهم اجعلنا من الصابرين على أذى السفهاء، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واعفُ عنا وارحمنا واثبتنا على الإيمان.(3/10)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
لا يرجون: لا يخافون ولا يتوقعون. واستكبروا في أنفسِهم: تكبروا، تمكن الكبر من نفوسهم. وعتَوا عتواً كبيرا: تمردوا، وتجاوزا حد كبيرا في الظلم. لا بشرى لهم: سوف يكون ذلك اليوم مصدر ازعاج لهم لا بشارة فيه. حِجراً محجورا: تعبير تقوله العرب عندما ينزل بهم مكروه، ومعناه نسأل الله ان يمنع ذلك منعا، ويحجره حجرا. وقدمنا الى ما عملوا: ونأتي الى ما عملوه. هباء منثورا: غبارا متفرقا لا قيمة له. خيرٌ مستقرا: افضل مكان يُستقر فيه. وأحسن مقيلا: وأحسن مكان للراحة والقيلولة.
وقال الذين ينكرون البعث، ولا يتوقّعون لقاءنا: لماذ لا تُنَزَّلُ علينا الملائكةُ فيخبرونا بأن محمداً صادقٌ فيما يدّعي؟ ولماذا لا نرى الله فيخبرنا بأنه أرسلك؟ لقد استكبروا ووضعوا أنفسَهم في مكانٍ لا يستحقونه، وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان.
ثم بين الله انهم سيَلْقَون الملائكة يوم القيامة، ولكن ذلك اليوم لن يسرَّهم ولن يكون لهم فيه بشارة، وسوف يقولون لهم: لا بشرى لكم اليوم. ويومئذٍ يقولون: {حِجْراً مَّحْجُوراً} حراماً محرَّماً، وهي جملة تقال اتقاءً للشر والأعداء، وذلك لا يعصمهم من العذاب.
{وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}
ويوم القيامة نأتي الى ما عملوه من الخير فنحرِمُهم ثوابه ونجعلُه كالغبار المتطاير في الهواء، لا قيمةَ له ولا وزن.
{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
وفي المقابل ستكون منازلُ اهل الجنة في ذلك اليوم خيراً من منازل المشركين، فهي أحسن الأماكن للاستقرار الدائم، وأعظمها راحةً وسعادة.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً. . . .}
في ذلك اليوم يختلف كل نظام هذا العالم الذي نراه، فتنفرج السماءُ ويُحشر الناس جيمعا. وعند ذلك تنزل الملائكةُ، ويكون المُلك لله وحده، ويكون اليوم شديدا عسيراً على الجاحدين. يومئذ يتحقق الظالمون انهم كانوا على الباطل، فيعَضُّ الظالمُ منهم على يديه من الندم ويقول متمنيا: يا ليتني اتبعتُ الرسُل وآمنت بهم.
ثم ان ذلك الظالم يتحسّر ويأسف ويقول: يا ليتني لم أصادقْ ذلك الصاحبَ الذي أضلَّنين وأبعدني عن الخير، وعن ذكر الله بعد ان يسَّره الله لي. لقد خذلني الشيطان. ولكن هذا كله لن ينجيه من العذاب.(3/11)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
جملة واحدة: دفعة واحدة. لنثّبت به فؤادك: لنقوّي به قلبك. ورتّلناه ترتيلا: نزلناه على مهل، بعضُه إثر بعض. بمثل: بنوع من الكلام. تفسيرا: ايضاحا. يُحشرون على وجوههم: يسحبون عليها. وزيرا: معينا له برأيه. فدمّرناهم تدميرا: أهلكناهم ومحقناهم محقا. الرسّ: الفساد، والبئر المطوّية بالحجارة. أصحاب الرس: طائفة من ثمود. وقرونا: جماعات. تبّرنا تتبيرا: أهلكناهم. القرية التي أُمطرت مطر السوء: هي سَدَوم، قرية قوم لوط. لا يرجون: لا يتوقعون. نشورا: بعثنا للحساب والجزاء.
هنا يقول الرسول شاكيا الى الله ان قومه هجروا القرآن ولم يلتفتوا الى ما فيه من هداية.
فأجابه الله تعالى يسلّيه بأن هذا ليس دأب قومك فحسب، بل إن كثيراً من الأمم قد فعلوا مع رسُلهم مثل، فلا تجزع يا محمد واصبر كما صبروا، وسينصرك الله عليهم، وكفى بالله هادياً لك وناصراً لدينك.
وقال الكافرون: لو كان القرآن من عند الله حقاً لأنزله جملةً واحدة. فردّ الله عليهم مقالتهم، وبيّن لهم فوائدَ إنزاله منجَّماً، ومنها تثبيتُ قلب النبي صلى الله عليه وسلم بتيسير الحفظ، وفهم المعنى، وضبط الألفاظ. ثم وعده بأنهم كلما جاؤوا شبُبهةٍ أبطلَها بالجواب الحق، والقول الفصل الذي يكشِف وجه الصواب، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} وفرّقناه آية آية: على مهل وتؤدة.
ثم بين الله حال المشركين الذين يحشَرون يوم القيامة وهم في غاية الذل ويُسحبون على وجوههم الى جهنم في أسوأ حال، واضيق مكان.
ثم اردف بعد ذلك بقصص بعض الأنبياء مع أممهم الذين كذّبوا فحلّ بهم النَّكالُ والوبال ليكون في ذلك عبرة للمكذبين. فذكر خمس قصص: قصة موسى مع فرعون وقومه، وقصة نوح وقومه، وقصة هود مع قومه عاد، وقصة صالح مع قومه ثمود، وصاحاب الرسّ. وأوردَ كيف اهلكهم جميعاً كما أهلكَ بين ذلك أمماً كثيرة.
{وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} .
لقد أنذرْنا هؤلاء كلهم وذكرنا لهم العظاتِ والأمثال، لكنّهم لم يتعظوا، فأخذناهم بالعذاب ودمّرناهم تدميرا.
وهؤلاء قريشُ، يمرّون في أسفارهم الى الشام على قرية قوم لوطٍ التي أمطرنا عليها شرَّ مطر وأسوأه، أفلم يروْها فيتّعظون بما حل بأهلها؟
{بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً}
إنهم لم يتعظوا بها لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء ولا يتوقعون أنهم سيُنْشَرون من قبورهم يوم القيامة.(3/12)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
اتخذ إلهه هواه: اتبع هواه وشهواته. وكيلا: مؤكَّلا به.
واذا رآك المشركون يقولون مستهزئين: أهذا الذي بعثه الله إلينا رسولاً نتبعه ونسير وراءه!؟ ها هو بحُسنِ بيانه وفصاحته يكاد يزحزحنا عن آلهتنا لولا صبرُنا وتمسّكنا بها.
سيعلم هؤلاء حين ينزل بهم العذابُ من هو الضالّ ومن هو المهتدي.
{}
انظر يا محمد في حال الذي اتّبع شهواتِه حتى جعلها إلها له، انك لا تستطيع ان تدعوه الى الهدى، ولا أن تكون عليه حفيظاً ووكيلا.
وهل تظنّ أن اكثرهم يسمعون حقّ السماع ما تتلو عليهم أو يعقِلون ما تتضمنه المواعظ التي تلقيها عليهم! إنهم كالبهائم، لا همّ لهم إلا الأكل والشرب ومتاع الحياة الدنيا، بل هم شرٌّ من البهائم وأضلُّ سبيلا.(3/13)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
ألم تَرَ: الم تنظر. الى ربك: الى صنع ربك. مد: بسط. الظل: الخيال. ساكنا: ثابتا على حاله لا يزول. دليلا: علامة. قبضناه قبضا يسيرا: قليلا قليلا. لباسا: ساترا. سباتا: سكونا. نشورا: بعثا وحركة. بُشْرا: مبشرة. بين يدي رحمته: الرحمة هنا المطر، يعني ان الرياح تأتي مبشرة بالمطر. بلدة ميتا: ارضا لا نبات فيها. أناس: الناس. كُفورا: كفرانا للنعمة وجحودا لها. مَرضجَ البحرين: خلطهما ببعض. عذْب فرات: حلو سائغ للشرب. ومِلح أُجاج: مالح شديد الملوحة. برزخا: حاجزا. حِجرا محجورا: لا يبغي احدهما على الآخر، ولا يفسد المالح العذب. نسبا: ذكورا ينسب اليهم. وصهرا: إناثا يصاهَر بهن.
انظر الى صنع ربك كيف بسَط الظلَّ، وجعل الشمس سبباً لوجوده، كما جعله مرافقاً لنور الشمس، فإن مالت طال، وان ارتفعت في السماء قصُر، ثم يقبضه تدريجا. وهو الذي جعل الليلَ ساتراً ومظلِما، والنومَ راحة وهدوءاً، كما جعل النهار مجالاً للسعي والعمل.
إنه الله. . هو الّذي جعل الرياح تسوق الغيوم مبشِّرة برحمتِه من المطر، وبهذا الماء الطهور يحيي الأراضيَ التي لا نبات فيها، ومنه تشرب الأنعام والناس.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً}
لقد كررنا هذا القولَ (وهو ذِكر إنشاء السحاب وإنزال المطر) على الناس ليعتبروا، ولكن اكثر الناس أبَوا إلا الكفر والعناد.
وهناك رأيٌ ثانٍ في تفسير هذه الآية ومعناه: وهذا القرآن قد بيّنَا آياته وصرّفناها ليتذكر الناس ربهم، وليتَّعظو ويعملوا بموجبه.
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً}
إنا عظّمناك ايها الرسول بهذا الأمر، وجعلناك مستقلا بأعبائه، فاجتهد في دعوتك. ولا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه، وجاهدْهم بتبليغ رسالتك جهاداً كبيراً.
{وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} .
ومن آثار نعمة الله على خلْقه ان خَلَقَ البحارَ نوعين، منها عذبٌ سائغ للشاربي، ومنها مالح شديد الملوحة، وجعل البَحْرَين متجاورين، لكنّ بينهما حاجوزاً بحيث لا يطغى المالح على العذب فيفسده.
وهو الذي جعلَ الماءَ جزءاً من مادة الانسان، وخلقه من النطفة ثم جعل الناس ذكورا واناثا، ذوي قرابات بالنسبَ أو المصاهرة، والله قديرٌ فعال لما يريد.(3/14)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
ظهيرا: مظاهرا، يعاون الشيطان على ربه. البروج: منازل الشمس الاثنا عشر: الحمَل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ. . . .} تقدم في الآية 18 من سورة يونس.
{وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} يُعين أهلَ الباطل على أهلِ الحق.
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} . تقدمت نفس الآية في سورة الاسراء 105.
{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}
قل لهم أيها الرسول: لا مطمعَ لي في أموالكم، ولا أريد منكم أجراً، إلا من شاء منكم ان يتقرّب إلى الله ويهتدي ويسلُكَ سبيل الحق. . . . فأجرُه على الله.
وتوكلْ في كل أمورك على الله الحيّ الباقي الذي لا يموت، وسبِّحْ بحمده، والله يعلم كلا ما يعلمه العباد وهو خبير بها، ومجازيهم عليها يوم القيامة.
{الذي خَلَقَ السماوات والأرض. . . . الرحمن}
تقدمت الآية في سورة الاعراف 54 وسورة يونس 3.
{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
في هذه الآية الكريمة توجيه علميّ من الله الى ضرورة البحث والتنقيب فيما يمكن بحثه من مظاهر الكون ونظُمه المختلفة للوقوف على أسرار قدرة الله في إبداع الكون.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}
اذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون غير الله: اعبدوا الرحمن، قالوا: لا نعرف من هو الرحمن حتى نسجد له. أتريدنا ان نطيعَك ونعصي آباءنا فيما كانوا يعبدُون؟ وازادوا عن الإيمان بُعدا.
{تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً}
تعالى الله وتزايد فضله، إذ جعل في السماء نظاماً من النجوم تمر أمامها الشمس، وهي كأنها منازل لها في دورانها اثناء السنة. وكل ثلاثة منها تؤلف فصلاً من فصول السنة، فبرجُ الحمَل والثور والجوزاء لفصل الربيع، والسرطان والأسد والسنبلة للصيف، والميزان والعقرب والقوس لفصل الخريف، والجدي والدلو والحوت لفصل الشتاء.
والشمس هي النجم الوحيد في عالمنا الذي نعيش فيه، أما بقية الكواكب التي تدور حولها مثل الارض وعطارد والزهرة والمريخ وزحل والمشتري واورانوس ونبتون وبلوتو - فكلّاه كواكب غير مضيئة تستمد نورها من الشمس. وكذلك القمر فالمشس سِراج، والقمر منير يتلألأ بالنور من ضياء ذلك السراج.
ونحن نوجد في النظام الشمسي: الشمس وما يدور حولها من الكواكب المذكورة، من اتباع المجرّة التي يسميّها العوام «دَرْبَ التبّانة» . وهي سَديم لولبي عدسي الشكل قُطره اكثر من مئتي الف سنة ضوئية، وسماكته نحو عشرين الف سنة ضوئية. وهذا كلام كالخيال. وتشتمل هذه المجرّةُ على ملايين النجوم المختلفة الحجم والحرارة والسرعة والضوء.
والواقع ان شمسنا بحجمها وعظمتها - لهي متوسطة الحجم والسرعة والنور بالنسبة الى النجوم التي في هذه المجرة، فهناك نجوم اكبر بكثير من شمسنا، ولكنها تظهر صغيرة لبعدها.(3/15)
والنجمُ تستصغر الأبصارُ صورته ... والذنْب للطَّرفِ لا للنّجم في الصِغَر
واقرب نجم الينا نجم اسمه: «حَضارِ» بفتح الحاء والضاد وكسر الراء، يبعد عن شمسنا اربع سنوات وربع سنة ضوئية. ولا اريد الاطالة فالموضوع واسع كُتبت فيه مجلداتٌ وتجري فيه ابحاث يوميا.
{وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}
الله وحده هو الذي جعل الليلَ والنهار متعاقَبين يَخْلُف أحدُهما الآخرب، وفي ذلك عظةٌ وذكرى لمن أراد ان يتعظ باختلافهما ويتذكر نعم الله، ثم يتفكر في بديع صنعه، ويشكره على هذه النعم الجلية.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: سُرُجا بالجمع. والباقون سراجا. وقرأ حمزة: ان يذْكُر، باسكان الذال وضم الكاف. والباقون: ان يذّكّر بفتح الذال المشددة والكاف المفتوحة المشددة.(3/16)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
هونا: برفق ولين: يمشون بسكينة ووقار. الجاهلون: السفهاء. سلاما: مسالمة ومسامحة. غراما: هلاكا. لم يسرفوا: لم يجاوزوا الحدود في النفقة. ولم يقتُروا: لم يضيّقوا على عيالهم بالبخل والشح. قَواما: وسطاً مَتابعاً: مرجعا حسنا. مرّوا كراما: لم يخوضوا باللغو مع الخائضين. لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا: انهم يتفهمون ما يلقى عليهم، ولا يأخذونها بدون فهم. قرة أعين: ما يسر الأعين ويفرحها. واجعلْنا للمتقين إماما: المام يُستعمل للمفرد والجمع. الغرفة: كل بناء مرتفع، والمراد بها هنا الدرجات الرفيعة. ما يَعبأ بكم: لا يعتدّ بكم. دعاؤكم: عبادتكم. لزاما: لازما.
{وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً. . . .} .
ختم الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بصفاتِ عباده المؤمنين، وبيّن فيها ما لهم من فاضِل الصفات وكامل الاخلاق التي تميّزوا بها، وكانوا قدوة للعالم حين أعطوا المَثَلَ الأعلى في العدل والمساواة والتسامح. وقد عدّد في هذه الآيات إحدى عشرة صفة مما تَشْرئبّ اليها اعناق العاملين، وتتطلع اليها نفوس الصالحين، الذين يبتغون المثوبة. وهي:
1 - فعباد الرحمن هم المتواضعون لله، يمشُون في سَكينة ووقار غيرَ متكبرين. وليس معنى هذا أنهم يمشون متماوتين منكّسي الرؤوس كما يفهم بعضُ الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح، كلا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعَ الناس مِشيئةً وأحسَنَها وأسكنها.
2 - واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما: اذا اعترضهم السفهاءُ وسبّوهم وآذوهم بالقول السّيء لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون، فهم حُلماء لا يجهلون، واذا جُهِلَ عليهم حَلِموا ولم يسفهوا.
3 - والذين يبيتون لربهم سجَّداً وقياماً. والذين يصلّون في الليل، لان العبادة في الليل أبعد عن الرياء. قال ابن عباس: من صلى ركعتين او اكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا. وليست العبادة بالكثرة، ولكنها بالاخلاص والخشوع والنية الصافية.
4 - والذين يقولون ربَّنا اصرفْ عنا عذابَ جهنم. . . . وهم يغلِّبون الخوف على الرجاء فيسألون الله تعالى ان يبعد عنهم عذاب جهنم وشديد الآلمها. فانها بئس المنزل مستقرا ومقاما.
5 - والذين إذا أنفقوا لم يُسرِفوا ولم يَقْتُروا. . . . ومن صفاتهم العالية الاعتدال في انفاقهم المال، فهم ليسوا بالمبذرين في انفاقهم، ولا ببخلاء على انفسهم وأهليهم، وهم اجواد في مصالح الناس والوطن وعمل الخير.
6 - والذين لا يدْعون مع الله إلهاً آخر. . . . والذين لا يعبدون غير الله ولا يشركون به احدا، بل يخلصون له العبادة والطاعة.
7 - ولا يقتلون النفسَ التي حرَّم الله لا بالحقّ. لا يُقْدِمون على هذه الجريمة الكبرى بغير حق، {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(3/17)
[المائدة: 32] .
8 - ولا يزْنُونَ، ومن يفعلْ ذلك يَلْقَ أثاما. ولا يقدمون على هذه الجريمة القبيحة التي كانت متفشية في الجاهلية. فقد كرمهم الله تعالى بنفي هذه الصفات السيئة عنهم وبذلك كانوا عباد الرحمن حقا.
9 - والذين لا يشهدون الزورَ، وإذا مرّوا باللغو مَرُّوا كراما. وهذه الصفات من اخلاق عباد الرحمن، فانهم لا يشهدون الشهادة الكاذبة، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو من القول الباطل، ولا يخوضون مع الخائضين.
10 - والذين اذا ذُكِّروا بآيات ربّهم لم يَخِرَّوا عليها صُمّاً وعُميانا. والذين اذا ذكّروا بآيات الله واحكامه تلقَّوها بالفهم والوعي الصحيح، ثم نفّذوها وعملوا بها.
11 - والذين يقولون: ربَّنا هبْ لنا من أزواجنِا وذريّاتنا قُرَّةَ أعينٍ واجعلءنا للمتقين إماما. ويسألون الله تعالى ان يرزقهم الزوجات الصالحات والذرية الطاهرة التي تسر نفوسهم وتقر بها أعينهم، وان يجعلهم ائمة في الخير يقتدي بهم الصالحون، وقد كانوا كذلك.
{أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً}
فعباد الرحمن الذين اتصفوا بهذه الصفات الكريمة الفاضلة لهم الجناتُ وأرفعُ الدرجات لقاءَ صبرهم وجهادهم. وستتلقاهم الملائكة في الجنّة بالتحيّات الزاكيات والتسليم. خالدين فيها ابدا في احسن مكان، وأنعم بال، وأطيب عيش.
{وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23، 24] .
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}
ان الله تعالى غنيّ عن العالمين، ولولا هذه الصفوةُ من الناس الذين يعبدونه حقَّ عبادته، وهم أهلُ هذه الصفات السامية - لما كان اللهُ يَعْبَأ بالبشريَّة جميعها. ان الله لا يُبالي بكم إذا لم تؤمنوا، فقد كذَّبتم بدينه، فسوف يعذّبكم عذاباً لازماً لا ينفكُّ عنكم ولا يزول.(3/18)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
باخع نفسك: مهلكها من شدة الحزن. اعناقهم: رقابهم، والمراد بها هنا الجماعات، من ذِكر: من موعظة. من كل زوج: من كل صنف.
طسم: تقرأ هكذا طا. سين. ميم. وتقدم الكلام على هذه الحروف، وهي لبيان ان القرآن المعجِز للبشر رُكبت كلماته منها ومن أخواتها، فمن ارتاب في ان هذا القرآن من عند الله فليأتِ بمثله، ولن يستطيع.
{تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين}
ان هذا الكلام الذي أوحيتُ به اليك يا محمد هو آياتُ القرآن البيّن الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل.
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}
لعلّك أيها الرسول ستعتل نفسك ان لم يؤمن قومُك برسالتك، هوِّنْ عليك فإن الله سينصرك. ومثله قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] .
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}
ان في قدرتنا أن نأتيَهم بمعجزة تُلجئهم إلى الإيمان وتجبرهم عليه، فيخضعون. ويتم ما نرجوه.
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ}
وما يجدد الله لقومك من موعظةٍ وتذكيرٍ إلا جدّدوا إعراضا وتكذيبا واستهزاء.
{فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
لقد كذّبوا بما جئتهم به من الحق فاصبر عليهم، فسيَرَوْن عاقبةَ استهزائهم، وسيحلّ بهم عاجلُ العذاب وآجله في الدنيا والآخرة.
وبعد ان بيّن إعراضهم عن الآيات المنزلة من عند ربهم - ذكر أنهم أعرضوا عما يشاهدونه من آياتٍ باهرة فقال:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ؟
كيف اجترأوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابة!! أوَلَم ينظروا ويتأملوا في عجائب قدرته تعالى وخلقِه هذه الأصنافَ التي تسترعي الأنظار، وتبهر الناظرين! .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}
ان في هذا وأمثاله لمعجزةً عظيمة وعبرةً جليلة ودليلاً على وجود الخالق القدير، ولكنّهم لم يُعمِلوا عقولَهم في النظر في هذا الكون البديع، فما آمنَ أكثرهم، وظلّوا جاحدين.
ثم بشّر الله رسولَه بالنصر والتأييد وغلبتِه لأعدائه وإظهاره عليهم فقال:
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}
ان ربك أيها الرسول لقويٌّ قادر على كل ما يريد، وهو ذو الرحمة الواسعة، فلا يعجِّلُ بعقاب من عصاه، وهو المتفضّل بالرحمة على المؤمنين.(3/19)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
مرت حلقاتٌ من قصة موسى في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، عدا اشارات اليها في سورة أخرى. وفي كل سورة تأتي القصة مناسبةً لها، وهنا تبدأ القصة من الآية العاشرة الى الآية 68.
اذكر يا محمد لقومك اذ نادى اللهُ موسى وأمَرَه ان يذهب إلى قوم فرعونَ الظالمين ليدعوهم الى دين الله، فقال موسى إني أخاف أن يكذّبوا برسالتي، ولا ينطلق لساني لما فيه من الثقَل، فأرسلْ معي أخي هارون رسولاً يعنني. ولهم عليَّ ذنبٌ حين قتلتُ منهم رجلاً فأخاف ان يقتلوني به. فقال له الله: لن يقتلوك، فاذهبْ أنت وأخوك هارون بآياتي وأنا معكم أستمعُ لما تقولون وأرى ما يجري بينكم. اذهبا وقولا لفرعون إننا رسولا ربِّ العالمين، أرسلَنا اليك لترسلَ معنا بني اسرائيل وتدَعَهم أحرار يعبدون الله.
فلما ذهبا الى فرعون وقالا له ما أمرهما الله به، قال فرعون لموسى: يا موسى، ألم نُربِّك في قصرِنا وأنت وليد صغير، ومكثت في رعايتنا سنين من عمرك حتى كبِرتَ وأصحبتَ شابا، وجنيتَ جنايتك فقتلتَ رجلاً دون ذنبَ!! وأنت الآن تكفر بدِيني، وتنكر نعمتي! فقال موسى: لقد ارتكتبُ جريمتي وأنا ضالّ لا أعرف حدود الله، وفررت منكم لَمّا خفت أن تقتلوني، فوهب الله لي حُكماً وعلماً وجعلني من المرسلين. انك يا فرعون تمنّ عليّ بتربيتك لي، والواقع أن جميع ما أنعمتَ به علي لا يعادل ما ارتكبتَه أنت مع بني اسرائيل من استعبادٍ وقتل وإذلال.
قراءات:
قرأ يعقوب: ويضيق صدري ولا ينطلق لساني، بنصب يضيق وينطلق، والباقون بالرفع.(3/20)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
ثعبان مبين: ظاهر بلا تمويه. الملأ: أشراف القوم. فماذا تأمرون: بماذا تشيرون. أرْجه وأخاه: أخّره وأخاه ولا تقتلهما. حاشرِين: اجعل رجال الشرطة يحشرون السحرة من جميع البلاد.
قال فرعون يسأل موسى في تجاهل وهزء: أيّ شيء يكون ربُّ العالمين الذي تدعو اليه؟ فأجابه موسى بالصفة المستملة على الربوبية: إنه ربُّ السماوات والأرض ورب هذا الكون الهائل، {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} . فالتفتَ فرعون الى مَن حوله ليصرفَهم عن التأثر بقول موسى وقال لهم: ألا تستمعون الى ما يقوله موسى، إنه يدعوكم الى عبادة إلهٍ لا عهدَ لنا به، ولا قاله احد نعرفه.
فقال موصى: هو ربكم وربّ آبائكم الاولين: فلما لم يستطع فرعون ان يردّ على ما جاء به موسى {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . ولكن موسى لم يسكت ومضى يصدَعُ بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة فقال: {قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} . اني ادعوكم إلى عبادة إلهِ هذا الكون العظيم ان كان لكم عقول تفكر وتتدبر في الأمور.
فقاطعه فرعون قائلا: إنِ اتخذتَ إلها غيري أسجنُك وتكونُ من المعذبين. فقال موسى: أتفعل ذلك ولو جئتك ببرهانٍ عظيم يدلّ على صدقي فيما اقول؟
فقال فرعون: فأتِ بالذي يشهد بنبَّوتك إن كنت صادقاً في دعواك.
وهنا كشف موسى عن معجزتيه: ألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ ظاهر حي يخيف، وأخرج يده من جيبه فاذا هي بيضاء مع أن موسى أسمر البشرَة. عندئذٍ أحسّ فرعون بضخامة المعجزة فأسرع يقاومها، واخذ يتملّق الذي حوله ويخوّفهم من موسىن فقال لمن حوله: ان هذا ساحرٌ كبير، يريد ان يستميل إليه قلوبكم لتؤمنوا به، فيكثر بذلك أتباعه ويأخذَ البلاد منكم، فأشيروا عليَّ ماذا اصنع به؟ فأجابوه بقولهم: أخِّرْه مع أخيه، واضربْ لهما موعِدا، واجمع له كل سحرة دولتك، لينازلوه في يوم معيّن، تجمع فيه الناس ليشاهدوا هذه المبارة.(3/21)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
الميقات: الوقت المحدد. يوم معلوم: يوم العيد كما جءا في سورة طه يوم الزينة. وعزة فرعون: قسمٌ بقوته وعظمته. تلقَفُ: تبتلع. يأفكون: يكِذبون بقلب الحقائق، بكيدهم وسحرهم. من خلاف: قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس بالعكس. لا ضير: لا ضرر. منقلبون: راجعون.
ذُكرت هذه المبارة في سورة الأعراف وسورة طه وفي هذه، السورة وخلاصتها:
ان فرعون وقومه أرادوا ان يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا ان يُتمَّ نورَه ولو كره الكافرن.
فلما جاء السحرةُ في اليوم المعيّن من مختلف اقاليم مصر العليا - وكانوا ابرع الناس في فنّ السحر وأشدَّهم خِداعا وتمويها - طلبوا من فرعون الأجرَ ان هم غَلَبوا، فأجابهم الى ما طلبوا، وزادهم بأنه سيجعلهم من بطانته المقربين اليه.
وابتدأت المباراة. . . . فقال موسى للسَحَرة: ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر. فألقَوا حبالهم وعصيَّهم. وخيِّل للناس المجتمعين انها تسعى. وأقسموا بعزّة فرعون انهم الغالبون. فألقى موسى عصاه فإذا بها تبتلع كل ما ألقوه، وما خدضعوا بن أعينَ الناس. وانتهت المباراة بغلبة موسى لهم، وعرف السحرة ان هذا الذي جاء به موسى ليس سحراً وإنما هو معجزة نبيّ، فسجدوا وقالوا: آمنا بربّ العالمين، ربّ موسى وهارون. فقال فرعون وقد اخذه الغضب: وأخذ يهدد السحرة ويتوعدهم ويقول: انه لكبيرُكُم الذي علَّمكم السحرَ. ان موسى هذا هو الذي علّمكم هذا لاسحر، وقد تواطأتم معه، فلسوف تعلمون ما سأفعله بكم وبه، لأقطَعَنَّ أيديَكم وأرجُلكم بشكل متخالف، ولأصْلبنَّكم على جذوع الشجر.
فقالوا جميعا: لا ضرر، افعلْ ما تريد، فإن المرجع إلى الله، وهو لا يُضيع أجر من احسنَ عملا، وإنا لنرجو ان يغفر لنا خطايانا، لأننا اول من آمن بدين موسى.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر وروح: أأمنتم بهمزتين، والباقون: آمنتم. قرأ حفص: تلقف بسكون اللام وفتح القاف دون تشديد. والباقون: تلقف بفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة.(3/22)