أمركم به، أنزله لتأتمروا به وتعملوا به.
ثم قال: {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}.
أي: ومن (يخف الله) ويتقه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، يمح عنه ذنوبه ويعظم له أجراً يوم القيامة على عمله.
ثم قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم. . .}.
أي: أسكنوا مطلقات نسائكم من المواضع التي سكنتم من وجدكم، (أي): من سعتكم.
يقال: وجت في المال وُجْداً، ووجدت على الرجل وَجْداً ومَوْجِدَةً، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وَجْداناً.(12/7546)
وروي أن الأعمش قرأ بفتح الواو. وهو غلط؛ لأن الوَجْد بالفتح إنما هو في الغضب.
وقرأ يعقوب الحضرمي بسر الواو لغاية فيه.
أمر الله الرجال أن يُسْكِنُوا المطلقات مما يجدون حتى يقضين عدتهن.
قال السدي: {مِّن وُجْدِكُمْ}: من ملككم ومقدرتكم.
- ثم قال تعالى: {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ. . .}.
أي: لا تضاروهن في المسكن الذي [تسكنوهن] فيه وأنتم تجدون سعة من(12/7547)
المنازل تطلبون التضييق عليهن.
- ثم قال: {َإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. . .}.
أي: أنفقوا على المطلقة الحامل حتى تضع الحمل، وإن أرضعت فحتى تفطم. وهو قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. . .}، فلها أجرة الرضاع إن أرضعت وهي أحق بما يأخذ غيرها، وإن أبت أن ترضع اسْتَرْضَعَتْ له أخرى.
- ثم قال تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ. . .}.
قال السدي: معناه: " اصنعوا المعروف فيما بينكم ".
وقيل: المعنى: هموا بالمعروف واعزموا عليه.
وقد قيل: [وَاتَمُرِوا: تشاوروا، وليس بشيء].
- ثم قال: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى}.
أي: إن امتنعت المرأة من الرضاع فلا سبيل له عليها، ولكن يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه، قال السدي وغيره: وقال: إذا رضيت الأم من أجرة الرضاع بما(12/7548)
يرضي به غيرها فهي أحق.
- ثم قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله. . .}.
أي: لينفق الذي بانت منه امرأته إن كان ذا سعة من المال الذي بيده على امرأته لرضاعها ولده. ومن ضيق عليه في رزقه فلم يكن ذا سعة من المال فلينفق مما أعطاه الله على قدر ما يجد.
وقيل: معناه: إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه فأنفقه.
- ثم قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا. . .}.
أي: لا يكلف الله أحداً من النفقة على من تلزمه نفقته إلا ما أعطاه، أن كان ذا سعة فمن سعته، وإن كان مقدوراً عليه (رزقه) فمما رزقه الله. لا يُكَلَّفُ الفقير مثل نفقة الغني.
قال ابن زيد: معناه: لا يكلفه أن يتصدق وليس عنده ما يتصدق به.(12/7549)
- ثم قال تعالى: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}.
أي: سيجعل الله للمقل بعد شدة رخاء، وبعد فق غنى.
وقيل: [اليسر] الذي يجعله الله له إما في الدنيا وإما في الآخرة.
- ثم قال تعالى: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ. . .}.
أي: وكثير من أهل القرى عتوا عن أمر ربهم وخالفوه وعصوا رسله.
- {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً. . .}.
أي: حاسبنا أهلها على النعم التي أسديت إليهم والشكر عليها حساباً شديداً، أي حساباً ليس فيه عفو/ عن شيء.
- {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً}.(12/7550)
أي: منكراً، وهو عذاب جهنم.
وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة).
والعُتُوُّ في اللغة: التجاوز في المخالفة والطغيان.
- ثم قال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا. . .}.
أي: عقوبة عملها. الوبال: العاقبة. قال ابن عباس ومجاهد: " {وَبَالَ أَمْرِهَا} ": جزاء أمرها.
- ثم قال تعالى: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً}.
أي: غبناً، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس الدنيا وقليله.(12/7551)
- ثم قال تعالى: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً. . .}.
(أي): في الآخرة، يعني عذاب النار.
- ثم قال تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمَنُواْ. . .}.
أي: اتقوا الله في أمره ونهيه يا أصحاب العقول الذي آمنوا.
- ثم قال تعالى: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً. . .} {رَّسُولاً. . .}.
قال السدي: " الذكر: القرآن، والرسول محمد " فيكون (التقدير لى قوله: ذِكْراً ذَا رَسُول. فيكون نعتاً للذكر، قد حذف المضاف) وأقيم المضاف إليه مقامه مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] (وقيل: الرسول نصب " بذكر " كأنه قال: " أن تذكروا رسولاً " فهو مفعول به).
وقيل: الرسول نصب إضمار " أعني ".
وقيل: الرسول ترجمة عن الذكر كأنه بدل منه، ولذلك نصب، فيكون - على(12/7552)
هذا القول - الرسولُ بمعنى الرسالة. وقيل: رسولاً منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: أرسلنا رسولاً.
- ثم قال تعالى: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ. . .}.
أي: يتلو الرسول عليكم آيات الله واضحات، كي يخرج الذين آمنوا بالآيات من الظلمات إلى النور، أي: من الكفر إلى الإيمان.
- ثم قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله. . .}.
أي: يصدق به.
- {وَيَعْمَلْ صَالِحاً. . .}.
أي: يعمل بطاعة الله.
- {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار. . .}.
أي: من تحت أشجارها.
- {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً. . .}.
أي: (لا يخرجون منها أبداً) ولا يموتون.(12/7553)
- ثم قال تعالى: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً}.
أي: قد وسع الله له في الجنات رزقاً.
- ثم قال تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ. . .}.
أي: الله (الذي) خلق ذلك، لا (ما) يعبده المشركون من الأوثان والأصنام التي لا تقدر على شيء، وخَلَقَ من الأرض مثلهن (أي): سبعاً.
وعن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الأرضين السبع نحو ما على هذه الأرض من الخلق. ولذلك قال: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} لأن في كل سماء خلقاً لله.
وعن ابن مسعود أنه [قال]: خلق سبع سماوات، غِلَظُ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل واحدة منهم والأخرى مسيرة خمسمائة عام، وفوق(12/7554)
السماوات السبع [الماءُ]، والله - جل ذكره - فوق الماء لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم، والأرضُ سَبْعٌ، بين كل أَرْضَيْنِ مسيرة خمسمائة عام. وغِلَظُ كل أرض خمسمائة عام.
[وقال] مجاهد: هذه الأرض إلى تلك الأرض مثل الفسطاط ضربته بأرض فلاة. وهذه السماء إلى تلك السماء مثل حلقة رميت (بها) في أرض فلاة.
وقال الربيع بن أنس: " السماء أولها موج مكفوف، والثانية صخرة، والثالثة(12/7555)
حديد، والرابعة نحاس، والخامسة فضة، والسادسة ذهب، والسابعة ياقوتة ".
وقال مجاهد: (هذا) البيت الكعبة رابع أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيت، كل بيت منها [حَذْرَ] صاحبه، لَوْ وَقَعَ وَقَعَ عَلَيْهِ.
وإن هذا الحَرَمَ حَرَمٌ مثله في السماوات السبع والأرضين السبع. قال أبو عثمان [النهدي]: كنت عند عمر جالسا إذ جاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي ابنا إذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى الأعلى الأعلى، فيكثر من ذلك، فلا أدري أَيَّ شَيْءٍ يريد به. قال: جئني (به)، فجاء الفتى، فقال عمر: ماذا يقول أبوك؟(12/7556)
قال: وما يقول؟ مقال: يقول إنك إذا سجدت أكثرت من سبحان ربي الأعلى الأعلى الأعلى، قال: يا أمير المؤمنين، شيء جراه الله على لساني. قال: وكعب جالس إلى جنبه، فقال كعب: صدق، يا أمير المؤمنين. قال عمر: وكيف ذاك؟ قال كعب: إذاً أخبرك، فإن الله خلق الأرضين سبعاً، (وجعل غلظ كل أرض خمسمائة عام، وما بين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، وجعل السماوات سبعاً)، وجعل غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء مثل ذلك، والله عز وجل ملائكة يحملون العرش قياماً في ماء، غِلَظُ ذلك الماء غلظ السماوات السبع والأرضين السبع، لا يبلغ ذلك الماء أعناقهم، فهو جل وعز الأعلى الأعلى الأعلى.
قال (قتادة): خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين، في كل سماء من سمائه وأرض من أرضه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه جل ثناؤه.(12/7557)
وذكر قتادة قال: التقى أربعة أملاك من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض: من أين [جئت]؟ فقال أحدهم: أرسلني ربي من المشرق وتركته، (ثم) قال الآخر: أرسلني ربي من الأرض السابعة وتركته، (ثم) قال الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته.
- ثم قال تعالى: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ.
. .}.
أي: يتنزل الوحي بين السماء السابعة والأرض السابعة. قاله مجاهد.
- ثم قال تعالى: {لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. . .}.
أي: يتنزل قضاء/ الله وأمره بين ذلك كي تعلما أيها الناس كُنْهَ قدرته وسلطانه، وأنه قادر على كل شيء، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء شاءه.
- ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.
أي: ولتعلموا أن الله بكل شيء (مِنْ) خلقه محيط علماً، لا يعزب عنه(12/7558)
مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فخافوه وأطيعوه تنجوا من عقوبته وتدخلُو جنته. وأعاد الاسم بالإظهار وقد تقدم إظهاره للتفخيم والتعظيم. و {عِلْماً} نصب [على التمييز]. أو (على) المصدر، كأنه قال: علم كل شيء علماً.(12/7559)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريم
مدنية
- قوله تعالى: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ {مَآ أَحَلَّ الله لَكَ). . .}، إلى قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}.
نزلت هذه الآية في سبب مارية القبطية أم ولده إبراهيم، سَرِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، كان النبي قد أصابها في بيت حفصة في يومها، فغارت لذلك حفصة فحرمها النبي(12/7561)
على نفسه بيمين أنه لا يقربها طلباً لرضاء حفصة، فعوتب النبي صلى الله عليه وسلم ونُبه على أن ليمينه مخرجاً.
قال زيد بن أسلم: " أَصَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي! فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَاماً. فقالت: يا رسول الله، كَيْفَ تُحَرِّمُ عليك الحلالَ؟! فَحَلَفَ لها بالله لاَ يُصِيبُهَا، فأنزلَ الله: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله. . .} الآية ".
قال زيد بن أسلم: " قال لها: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَمٌ، وَاللهِ لاَ أَطُؤُكِ ". قال الشعبي: حرمها وحلف ألا يقربها فعوتب [في] التحريم، وجاءت الكفارة في اليمين.(12/7562)
قال الضحاك: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة فغشيها، فبصرت [به] حفصة، وكان اليوم يوم عائشة [وكانتا] مُتَعَاوِنَتَيْنِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: اكْتُمِي عَلَيَّ وَلاَ تَذْكُرِي لعائشة ما رأيتِ، فَذَكَرَتْ حفصةُ لِعائشةَ الخَبَرَ، فغضبت عائشة، فلم يَزَلْ نَبِيُّ اللهِ حتى حلف لاَ يَقْرَبُها، فأنزل الله الآية، وأمره بكفارة يمينه.
قال ابن عباس: " أمر الله النبي والمؤمنين إذا حرما شيئاً على أنفسهم مما أحل الله لهم أن يكفروا بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا يدخل في ذلك طلاق "، فإنما حرم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه جاريته ولم يحلف. وروى عبيد بن عمير عن عائشة أنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث عند زينب بنت(12/7563)
جحش [يشرب] عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أينا جاءها النبي [فلتقل] له إن أجد منك ريح مغافير، فجاء إلى إحداهما فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلا، ولن [أعود]، فأنزل الله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله} وأنزل {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} يعني عائشة وحفصة ".
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصاب جاريته مارية في بيت عائشة وهي غائبة وفي يومها، فاطلعت على ذلك حفصة، فقال لها النبي: لا تخبري عائشة بذلك، فأخبرتها، فغضبت عائشة وقالت: في بيتي وفي يومي! فأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن حلف لها ألا(12/7564)
يطأها بعد ذلك وحرمها على نفسه، فأنزل الله السورة في ذلك.
- ثم قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والله مَوْلاَكُمْ.
. .}.
أي: قد بين الله لكم تَحِلَّةَ أَيْمَانكم وَحَدَّهَا (لكم)، {والله مَوْلاَكُمْ} أي: يتولاكم بنصره وهدايته - أيها المؤمنون - وهو العليم بمصالحكم، الحكيم في تدبيره خلقه.
- ثم قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ. . .}.
أي: واذكروا أيها المؤمنون (إذا أ) سر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً، وهو (على) قول ابن عباس وزيد بن أسلم ما أسر لحفصة من تحريمه لمارية وقوله لها: لا تذكري ما رأيت لعائشة. وقال منصور بن مهران: أَسَرَّ إلى حفصة أن أبا بكر خليفتي بعدي.(12/7565)
وقيل: هو قوله: بل شربت عسلاً، على ما مضى من الخبر.
وقيل: هو ما كان من خلوته بمارية في بيت عائشة.
- {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ. . .}.
أي: أخبرت حفصةُ بذلك عائشة.
- {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ. . .}.
أي: وأطلع الله نبيه على إعلام حفصةَ لعائشةَ بِسِرِّ النبي.
- {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ. . .}.
(أي: عرف النبي حفصةَ بعض ما أخبرت به عائشة ووبخها عليه وأعرض عن بعض) فلم يوبخها عليه.
قال المفسرون: أخبر النبي عليه السلام حفصة ببعض ما أخبره الله عنها أنها قالته لعائشة.
ومن قرأ بالتخفيف في {عَرَّفَ}، فمعناه أن النبي عَرَفَ لحفصةَ ما فعلته،(12/7566)
[يعني] غضب على ذلك وجازاها عليه بالطلاق.
وقيل: معنى التشديد أنه مأخوذ من قولك للرجل يَجْنِي عليك: لأُعَرِّفَنَّكَ فِعْلَكَ، على طريق التوعد والتهديد.
ثم قال: {فَلَمَّا [نَبَّأَهَا] بِهِ. . .}.
أي: أخبر حفصة/ بأن الله أَطْلَعَهُ على [إفشائها سِرَّهُ] إلى عائشة.
- {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا. . .}.
أي: من أخبرك هذا؟! (قال): خَبَّرَنِي به العليم بكل شيء، الخبير بالسرائر والعلانية.(12/7567)
ويُروى أن [السِّرَّ] الذي أَسَرَّهُ النبي عليه السلام هو أنه أسرَّ إلى حفصة (أن الخليفة) بعده أبو بكر، وبعده عمر، وأمرها أن تكتم ذلك، فأفشته إلى عائشة، فَأَعَلَمَ اللهُ نبيه ذلك.
و {نَبَّأَنِيَ} تُعَدَّى إلى مفعول واحد، و {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} تُعدى إلى مفعولين. [وقد أصل] النحويون أنه يتعدى إلى ثلاثة، لا يقتصر على اثنين دون الثالث.
(وتفسير ذلك أن " نَبَّأَ " و " أَنْبَأَ " بمعنىً في التَّعدِي، وهما يجريان في الكلام على ضربين:
أحدهما: أن [يدخلا] على الابتداء والخبر، فهناك لا يقتصر على (اثنين) دون الثالث)، كما لا يقتصر على الابتداء دون الخبر، لأن الثالث هو خبر الابتداء في الأصل.
والموضع الثاني: [ألا] يدخلا على الابتداء والخبر نحو الآية، فهناك يكفتى باثنين وبواحد.(12/7568)
- ثم قال تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا. . .}.
[أي: إن تتوبا إلى الله مما فعلتما فقد مالت قلوبكما إلى ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم] من تحريمه جاريته على نفسه.
قال ابن عباس {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}: زاغت، أي: أثمت.
قال مجاهد: " كنا نرى أن قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} شيء (هين) حتى سمعت قراءة ابن مسعود " فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُمَا ".
ثم قال تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ. . .}.
يعني حفصة وعائشة، أي: وإن تتعاونا على النبي.
- {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ. . .}.(12/7569)
أي: وليه وناصره عليكما وعلى كل (من) بغاه بسوء، وجبريلُ أيضاً وَليُّهُ، وصالحُ المؤمنين أيضاً أولياؤه، يعني خيارهم.
وقال الضحاك وغيره: " هم أبو بكر وعمر رضي الله عنهـ ".
فيجب أن يكون أصلُ {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} على هذين القولين بالواو، وحذفت من الخط على اللفظ.
وقال مجاهد: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} عمر، وعنه: هو علي، فيكون لا أصل للواو فيه.
وقال قتادة: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}: الأنبياء. فيكون أيضاً أصله الواو. وهو(12/7570)
قول سفيان.
وقد ذهب أبو حاتم إلى [أن] الوقف (وصالحو) بالواو مثل {سَنَدْعُ} [العلق: 18] {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11]. وفي هذا مخالفة للسواد.
والأحسن ألا يوقف عليه، فإن وقف عليه [واقف] (وقف) بغير واو، على قول مجاهد أنه عمر أو علي رضي الله عنهـ فَيَتِمُّ له موافقةُ المعنى وموافقة الخط.
وكان الطبري يقول إن {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} اسم " للجنس: كقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ونظير ذلك قول الرجل: لا يقربني إلا قارئ القرآن.(12/7571)
فهو بلفظ الواحد ومعناه الجنس، فكذلك هذا، فيكون الوقف أيضاً بغير واو اتباعاً للخط والمعنى.
- ثم قال: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.
أي: والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين عوين على نصرة محمد. " وظهير " لفظ واحد، ومعناه جمع. ولو أتى على اللفظ لقال: " ظُهَرَاً ".
- ثم قال تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ. . .}.
أي: عسى رب محمد إن طلقكن يا أزواج محمد أن يبدله منكن أزواجاً خيراً منكن. وهذا تحذير من الله لنساء نبيه لما أجتمعن عليه في الغيرة.
روى أنس بن أنس أن عمر - رضي لله عنه - قال: " اجْتَمَع عَلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم نِسَاؤُهُ فِي الغِيرَةِ, فَقُلْتُ لَهُنَّ: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزوجاً خيراً منكن، فنزلت(12/7572)
كذلك ". قال عمر: " فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ امرأةً (امرأةً) أعظها وأَنْهَاهاَ عن أَذَى رَسولِ اللهِ وأقول: إِنْ أَبَيْتُنَّ أَبْدَلَهُ (اللهُ خيراً منكن، حتى أَتَيْتُ على زَينبَ فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله ما يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟! فَأَمْسَكْتُ. فأنزل الله عز وجل { عسى رَبُّهُ} الآية ".
- وقوله: {مُسْلِمَاتٍ}، أي: خاضعات لله بالطاعة {مُّؤْمِنَاتٍ} أي: مصدقات بالله ورسوله {قَانِتَاتٍ} أي: مطيعات لله، {تَائِبَاتٍ} [أي]: راجعات إلى ما(12/7573)
يحبه الله ورسوله. {عَابِدَاتٍ} أي: [متذللات] لله بالطاعة. {سَائِحَاتٍ} (أي): صائمات. قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك، وقال زيد بن أسلم: {سَائِحَاتٍ}: مهاجرات، وهو قول ابن زيد.
((وقال) ابن زيد): " ليس في (القرآن) ولا في أمه محمد سياحة إلا الهجرة ".
وقيل للصائم سائح لأنه لا ينال شيئاً بمنزلة السائح في [القفر] لا زاد(12/7574)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
معه.
وقيل: معناه: ذاهبات في طاعة الله. من: سائح الماء، إذا ذهب.
- وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}.
أي: نساءً كباراً قد تزوجن غيره، (ونساءً صغاراً) لم يتزوجن.
- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ {وَأَهْلِيكُمْ. . .}. إلى آخر الآية.
(أي): يا أيها الذين آمنوا اعملوا عملاً [صالحاً] تقون به أنفسكم من النار، ولْيُعَلِّمَ [بَعْضُكُمْ [بَعْضاً ما تقون به من تُعَلِّمُونَهُ من النار، وعَلِّمُوا أهليكم من العمل ما يقون به أنفسهم من النار.(12/7575)
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ - في [قوله]: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} أي: علموهم وأدبوهم.
قال ابن عباس: معناه: " اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصيه، ومُرُوا أهليكم بالذكر/ ينجيكم الله من النار ".
وقال مجاهد: " واتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله ".
وقال قتادة: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن [معصيته].
وقيل: المعنى: لا تعضوا فيعصي أهلوكم.
وفي الحديث: " لا تزن [فيزني] أهلك ".(12/7576)
وقوله: {وَقُودُهَا الناس والحجارة. . .}.
أي: حطبها بنو آدم وحجارة الكبريت.
{عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ. . .}.
(أي): على هذه النار ملائكة غلاظ على أهل النار، شِدَادٌ عليهم.
وقيل: {شِدَادٌ} بمعنى: أقوياء.
{لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ. . .}.
أي: لا يخالفون الله فيما أمرهم به عذاب الكفار وغيره.
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
أي: ينتهون إلى ما أمرهم الله به.
- ثم قال تعالى: {يا أيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.(12/7577)
(أي): يا أيها الذين جحدوا وحدانية الله، لا تعتذروا عن كفركم يوم القيامة بما لا ينفعكم، إنما تثابون جزاءً على أعمالكم.
ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً. . .}.
أي: يا أيها الذين صدقوا الله، ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله وإلى ما يرضيه عنكم رِجْعَةً نَصُوحاً، أي: لا تعودون معها أبداً.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: التوبة النصوح أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود فيه أبداً ولا يريد أن يعود فيه. هو قول الضحاك. وقاله ابن مسعود.
وقال قتادة: التوبة النصوح " هي الصادقة النصاحة ".
ومن ضم النون، فيجوز أن يكون جمع نُصْحٍ. ويجوز أن يكون مصدراً،(12/7578)
كرجل عدل، (أي): صاحب عدالة.
وقال ابن زيد: النصوح: الصادقة، ويعلم أنها صدق بندامته على خطيئته وحب الرجوع إلى طاعة الله.
- (ثم قال تعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ. . .}.
أي: محوها عنكم.
و" عسى " من الله) واجبة.
{وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ (مَعَهُ). . .}.
أي: ويدخلكم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار في يوم [لا يخزي] الله فيه النبي، أي: لا يبعده من إِفْضَالِهِ وإِنْعَامِهِ، ولا يُبْعِدُ الذين آمنوا معه من ذلك.(12/7579)
- ثم قال: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ.
. .}.
قال ابن عباس: يأخذون كتابهم فيه البشرى.
{يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. . .}.
أي: يسألون ربهم أن يُبْقِيَ لهم نُورَهُمْ حتى يَجُوزُوا الصراط، وذلك حين يطفئُ نور المنافقين وقت يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم. قاله مجاهد وغيره.
وقال الحسن: ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة فيُطفئُ نور المنافقين، فيخشى المؤمن أن يُطْفِئَ نوره. فذلك قوله: {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} ".
{واغفر لَنَآ. . .}.
أي: واستر علينا ذنوبنا.
{إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.(12/7580)
أي: إنك على إتمام نورنا وغفران ذنوبنا وغير ذلك من الأشياء قدير.
- ثم قال: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ. . .}.
أي: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالوعيد والتهدد.
قال قتادة: " أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف [ويغلظ على المنافقين بالحدود] ".
ومعنى {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي: اشدد عليهم في ذات الله ولا تلن.
ثم قال تعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير. . .}.
أي: ومسكنهم في الآخرة جهنم، وبئس الموضع الذي يصيرون إليه.
ثم قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ (فَخَانَتَاهُمَا). . .}.
أي مثل الله للذين كفروا هاتين المرأتين، كانتا تحت {عَبْدَيْنِ(12/7581)
(مِنْ عِبَادِنَا) صَالِحَيْنِ}، وهما لوط ونوح [{فَخَانَتَاهُمَا}].
قيل: إن خيانة امرأة نوح لنوح أنها كانت كافرة، وكانت تقول للناس إنه مجنون، وخيانة امرأة لوط (له) أنها كانت [تدل قومها] على أضيافه. وكان هو يسترهم. وقيل: كانت توقد ناراً إذا نزل بلوط ضيف فيعرف قومه أن عنده ضيفاً، فيأتون لأذاه. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما كانت أحدهما تقول إنه مجنون، والأخرى تدل على أضيافه.
قال عكرمة: " كانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين "، وقاله الضحاك.
فلم يغن صلاح زوجيهما عنهما شيئاً، بل قيل لهما: أدخلا النار مع من دخلها(12/7582)
بِخِيَانَتِكُما.
كذلك من كان كافراً وابنُه أَوْ زوجُه أو قريبُه مؤمنٌ، لا يغني عنه إيمان قريبه شيئاً من عذاب الله.
فالفائدة في هذا أن أحداً لا ينفعه إيمان غيره.
وقيل: {مَعَ/ الداخلين} يريد: مع القوم الداخلين.
ثم قال تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ}.
وهي آسية، آمنت وهي تحت عدو الله فلم يضرها كفره، إذ لا تز وازرة وزر أخرى. فدعت الله أن [يبني] لها بيتاً في الجنة ففعل، [وسألته] أن ينجيها من فرعون وعمله وعمل قومه ففعل، فماتت مسلمة.(12/7583)
قال القاسم بن أبي بزة: " كانت امراة فرعون تقول، تسأل من غلب، فيقال: غلب موسى وهارون، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسَل إليها فرعون، فقال: أنظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها،، وإن رجعت عن قولها فهي [امرأتي].
فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصَرَت بيتها في الجنة فمضت على قولها، فانتزع الله روحها وألقيت الصخرة على جسدها ليس فيه روح ".
قال قتادة: " أعتى أهل الأرض (على الله) وأبعده من الله، فوالله ما ضرَّ امرأَتَهُ كُفُور زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حَكَمٌ عَدلٌ لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه ".
- ثم قال: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا. . .}.
أي: وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم التي منعت جَيْبَ درعها جِبرِيل، وَكُلَّ ما كان في الدرع من فَتق أو خَرْقٍ فإنه يسمى فرجاً (وكذلك كل) [صَدع] أو شق(12/7584)
في حائظ أو سقف فهو فرج.
- ثم قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا. . .}.
(أي): فنفخنا في جيب درعها من جبريل عليه السلام.
وقيل: معناه: فجعلنا في الجيب من الروح الذي لنا أي: الذي نملكه.
- ثم قال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا. . .}.
[أي: وآمنت] بعيسى وهو كلمة الله، وبالكتاب الذي أنزل عليه وقبله، وهي كملة الله، هي التوراة والإنجيل.(12/7585)
ثم قال: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين}.
أي: من المطيعين، أي:
من القوم المطيعين. (داود بن إسحاق).(12/7586)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
مكية
روى جابر بن عبد الله أن النبي - عليه السلام - كان لا ينام حتى يقرأ: "تنزيل السجدة" و (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) و [كان] يقول: هما يفضلان كل سورة بسبعين حسنة، فمن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحي سبعون سيئة، ورفع له سبعون درجة.(12/7587)
ومعنى "يفضلان " أي: يعطي الله على قراءتهما من الأجر أكثر مما يعطي على غيرهما، لأن بعض القرآن أفضل من بعض، فافهمه.
قال ابن مسعود: من قرأ سورة الملك فقد أكثر وأطيب.
وقال: هي المجادلة جادلت عن رجل كان يقرؤها.
وعنه أنه قال: من قرأ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) كل ليلة وقاه الله فتنة القبر.
وقاله كعب. وذكر أنه يجدها في التوراة كذلك.
وروى أبو هريرة [عن] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي "تبارك الذي بيده الملك".
وعن ابن مسعود أنه قال: يُؤْتى الرجل من قبل رجليه -يعني في القبر-، قال: فيقول رجلاه: ليس (لكما) على ما قِبَلي سبيل، إنه كان يقوم على سورة الملك. فيوتى من قبل وسطه فيسأل، فيقول بطنه: ليس لكما على ما قبلي سبيل، إنه كان قد وَعَى في(12/7588)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
سورة الملك. فيؤتى من قبل رأسه فيقوم لسانه: ليس لكما على ما قبلي، إنه كان يقرأ في سورة الملك. ثم قال ابن مسعود: هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي في التوراة: هذه سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيَب.
ويقال: إن عذاب القبر يكون من ثلاثة أشياء: من النميمة والغيبة وقلة التنزه من البول.
ويقال: ليس يصحب المؤمن في قبره (شيء) خير له من كثرة الاستغفار.
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، إلى قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
تبارك: تفاعل على البركة، ولا يقال منه مستقبل ولا اسم فاعل.
ومعناه: تعاظم وتعالى الرب الذي بيده ملك الدنيا والآخرة(12/7589)
[وسلطانهما]، نافذ فبهما أمره وقضاءه.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
أي: وهو ذو قدرة على فعل كل شيء أراده [{قَدِيرٌ}]: لا يمنعه مما أراد شيء.
وقيل: معناه: الذي بيده الملكم، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
- ثم قال تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
أي: خلق الموت ليميت الأحياء، وخلق الحياة ليحيي الموتى. وفعل ذلل ليختبركم في حايتكم وطول إقامتكم في الدنيا، أيكم أحسن عملاً فيجازيه على ذلك في الآخرة. وقد علم تعالى كل ما هم عاملون، وعلم الطائع والعاصي/ قبل خلقهم، لكن المجازاة إنما تقع بعد ظهور الأعمال، [لا يجازى] أحد (بعلم الله(12/7590)
فيه دون ظهور عمله).
فالمعنى: ليخبتر وقوع ذلك (منكم) على ما سبق في علمه وقضائه. وتقديره: من خير وشر احتساباً منكم.
قال قتادة: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دا ر حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
- ثم قال: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقاً. . .}.
أي: اخترع ذلك طبقا فوق طبق.
{مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ. . .}.
أي: من اختلاف، يعني في خلق السماوات، وقيل: في كل ما خلق، فكله محكم دال على قادر بارئ حكيم في تدبيره ولطفه.
- ثم قال تعالى: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ}.
أي: هل ترى يا ابن آدم من شقوق أو وَهْيٍ؟(12/7591)
- (ثم قال تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}).
أي: ثم رد البصر يا ابن آدم مرتين مرة بعد آخرى، هل ترى من شقوق، أو وَهْيٍ في الخلق أو تفاوت؟!
{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: يرجع إليك البصر صاغراً متبعداً عن أن يجد تفاوتاً أو شقوقاً. من قولهم للكلب: " اخسأ " إذا طردوه، أي: أبعد صاغراً. يقال: خسأته فخسأ.
وقوله: {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: معي.
(وقال ابن عباس: " {خَاسِئاً}: ذليلاً {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: مرجف.
وقال قتادة: معناه: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}، أي: معي)، وعنه(12/7592)
قول ابن عباس.
يقال: حسير ومحسور للرجل إذا بلغ غاية الإعياء.
- ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين. . .}.
أي: زينا السماء بنجوم ترجم الشياطين بها إذا [أتوا لاستراق] السمع.
قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: خلقها للزينة، وترجم الشياطين (بها)، وعلامات يهتدوا بها.
و" رجوم " مصدر على قول من قال: إنما يرجم من [النجوم] بالشهب، ولا تبرح النجوم (بنفسها).
ومن قال: بل يرجم بها نفسها قال: رجوم جمع رجم.(12/7593)
- ثم قال: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير}.
أي: وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاباً يسعر عليهم.
- ثم قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المصير}.
أي: وللذين جحدوا توحيد ربهم في الآخرة عذاب جهنم، وبئس المصير عذاب جهنم.
- ثم قال تعالى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ}.
أي: إذا [ألقي] الكافرون في جهنم سمعوا لجهنم شهيقاً، أو صوت الشهيق. والشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة كصوت الحمار.
{وَهِيَ تَفُورُ}: تغلي بهم كما تغلي القدر.
- ثم قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ. . .}.
(أي: تكاد جهنم تتفرق وتتقطع من الغيظ على الكفار).
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}.(12/7594)
أي: كلما أقرى في جهنم جماعة سألهم خزنة جهنم فيقولون لهم: ألم يأتكم نذير في الدنيا ينذركم هذا العذاب الذي حل بكم؟ [فيجيبهم] المشركون:
{قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ. . .}، فيقول لهم [الخزنة].
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ}.
أي: في ضلال عن الحق بعيد.
" ونذير ": بمعنى منذر.
- ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير}.
أي: وقال الفوج لخزنة جهنم: لو كان نسمع من النذير ما جاءنا به ن الحق سماع قبلو، أو نعقل عنه ما يدعونا إليه فنفهمه فهم قبول ما كنا اليوم في أصحب النار.
وقيل: {نَسْمَعُ} بمعنى]: نقبل منهم ما يقولون لنا. ومنه قولهم: سمع الله(12/7595)
لمن حمده: أي قبل منه.
والقول الأول هو بمنزلة قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] لم يكونوا كذلك، ولكن لما لم ينتفعوا بهذه الجوارح في عاقبة أمرهم كانوا بمنزلة الصم والبكم والعمي.
- ثم قال تعالى: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير}.
أي: فأقروا بذنبهم، فبعدا لهم. قال ابن عباس.
وقال ابن جبير: {فَسُحْقاً}: هو واد في جهنم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
أي: إن الذين يخافون ربهم ولم يروه وقيل: يخافون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، فمن خاف الله في الخلاء فهو أحرى أن يخافه بحضرة الناس.
{لَهُم مَّغْفِرَةٌ}.
أي: ستر على ذنوبهم وصفح عنها.(12/7596)
{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
أي: وثواب عظيم، وهو " الجنة ".
- ثم قال تعالى: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ. . .}.
أي: وأخفوا كلامكم إن شئتم أو أعلنوه إن شئتم، فإنه لا يخفى على الله منه شيء.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ/ الصدور}.
أي: عليم بضمائر الصدور. فمن كان لا يخفى عليه ضمائر الصدور كيف يخفى عليه القول سراً كان أو جهراً.
؟!
- ثم قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير}.
" من ": في موضع رفع اسم الله جل ذكره. ويقبح أن تكون في موضع نصب لأنه يلزم أن يقال: " ألا يعلم ما خلق "، لأنه راجع إلى (ذات الصدور). فالمعنى: ألا يعلم من خلق الصدور سرها وعلاينتها، كيف يخفى عليه خلقه وهو اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم؟! وإذا جعلت " من " بمعنى " ما " في موضع نصب، كان فيه دليل قوي) على أن الله خالق ما تكن الصدور من خير وشر. ففيه حجة(12/7597)
[قوية] على القدرية الذين يدعون أنهم يخلقون الشر وأن الله لم يخلقه ولا قدره، تعالى أن يكون في ملكه ما لم يخلقه بقدره، بل لا خالق لكل شيء إلا الله، ولو كان الشر لم يخلقه الله فمن خلق إبليس؟! ومن خلق الأصنام التي تبعد من دون الله؟! ومن خلق نطفة الزاني وولد الزانية؟! ومن خلق قوة الزاني والسارق وقاطع الطريق؟! وهو كله شر من خلق الله كما قال تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [فاطر: 8].
وقال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، فكلُّ بمشيئته كان، لا شريك له، يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه.
وكذلك يكون المعنى إذ جعلت " من " في موضع رفع اسم الله جل ذكره [ويكون التقدير: ألا] يعلم الخالق خلقه وهو (ما) في الصدور (ومن خير وشر فيهم ذلك أن الخلق كله لله: ما في الصدور) وغيره. وقل أهل الزيغ: " من " في(12/7598)
موضع نصب يراد به الخلق دون ما في الصدور، فهو يدل على خلق أصحاب الأفعال دون الأفعال، وهو خطأ ظاهر على ما قدمنا.
- ثم قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً. . .}.
أي: سهلا ً سهلها لكم.
{فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا}.
قال ابن عباس: في جبالها، وقاله قتادة، وعن ابن عباس أيضاً: {مَنَاكِبِهَا}: أطرافها، وقيل: نواحيها، وقيلأ: معناه في جوانبها [المذللة] الممهدة. وقال(12/7599)
مجاهد: " طقرها وفجاجها ".
{وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ. . .}.
(أي: من رزقه) الذي أخرجه لكم من الأرض.
{وَإِلَيْهِ النشور}.
أي: وإليه نشوركم من قبوركم.
- ثم قال تعالى: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض. . .}.
أي: أأمنتم - أيها الكافرون - الله الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض عقوبة على كفكركم به؟!
{فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}.
أي: تضطرب.
{أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء} (وهو الله).
{أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً. . .}.(12/7600)
وهو التراب فيه الحصباء الصغار فيهلككم بذلك على كفركم. أي: لم تأمنوا [من ذلك]، فما بالكم مقيمين على كفركم؟!
ثم قال: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}.
أي: كيف عاقبة نذيري لكم إذا كذبتموه.
ولا يعمل {فَسَتَعْلَمُونَ} " في {كَيْفَ} لأنها استفهام، وهي خبر " نذير ".
- ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ}.
أي: ولقد كذّب الذين كانوا قبل هؤلاء المشركين رسلهم، فيكف كان إنكاري لتكذيبهم؟! ألم نهلكهم بضروب من النقمات؟!
- ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات. . .}.
أي: أو لم ير هؤلاء المشركون قدرة الله في الطير فوقهم في الهواء صافات أجنحتهن أحياناً ويقبضنها أحياناً؟!.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن}، فيكون لهم بذلك مذكر على قدرة الله وأنه لا(12/7601)
يقدر على إمساك الطير على تلك الحال أحد إلا الله.
{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}.
أي: إن الله بصر وخبر بكل شيء، لا يدخل في تدبيره خلل ولا في خلقه تفاوت.
- ثم قال تعالى: {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن}.
أي: من ينقذكم من عذاب الرحمن إذا نزل بكم على كفركم؟!
ما {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} من ظنهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تنفع أو تضر.
- ثم قال تعالى: {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. . .}.
أي: من يرزقكم أيها المشركون إن أمسك الرحمن رزقه عنكم. أي: من يأتي بالمطر أمسكه عنكم الرحمن.
ثم قال تعالى: {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}.
([اي]: بل تمادوا في طغيان ونفور) [من] الحق استكباراً.(12/7602)
ثم قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
أي: أفمن يمشي في الضلالة أهدى أمن يمشي في الهدى؟! يعني الكافر والمؤمن، فهو مثل ضربه الله لهما في الدنيا. هذا معنى قول مجاهد والضحاك وابن عباس. قال قتادة: هذا في الآخرة، أفمن يمشي مكبا على وجهه وهو الكافر، أكب في الدنيا على [المعاصي] فحشره الله يوم القيامة على وجهه.
-[رواه] عن النبي صلى الله عليه وسلم -، وقال: " فقيل: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه/ فقال: إن الذي أمشاه على رجليه لقادر أن يحشره يوم القيامة على وجهه ".
وقيل: الذي يمشي مكباً على وجهه: أبو جهل، والذي هو على صراط(12/7603)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
مستقيم: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهـ، ثم هو في كل من كان مثلهما.
- قوله تعالى: {(قُلْ) هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ. . .} إلى آخر السورة.
أي: قل يا محمد للمكذبين بالبعث: الله الذي ابتدأ خلقكم قبل أن لم تكونوا شيئاً.
- {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة. . .}.
لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، فكيف تتعذر عليه إعادتكم ..
{قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}.
أي: قيلاً شكركم لربكم على هذه النعم التي خولكم.
قال تعالى: {هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض. . .}.
أي: خلقكم فيها.(12/7604)
{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
أي: تجمعون يوم القيامة من قبوركم لموقف الحساب.
- ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
أي: ويقول المشركون المكرون للبعث: متى يكون هذا البعث الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين في قولكم أيها المؤمنون؟!
{قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
أي: قل لهم يا محمد إنما علم وقت البعث عند الله، وإنما أنا نذير إليكم، أي: منذر مبين ما أرسلت به إليكم.
- ثم قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ. . .}.
أي: فلما رأى المشركون عذاب قريباً وعاينوه، ساء الله وجوه الذين كفروا.
قال الحسن: {رَأَوْهُ زُلْفَةً}، أي: عاينوه.(12/7605)
قال مجاهد: زلفة: " قد اقترب ".
وقال ابن زيد: زلفة: حاضراً، أي: قد حضرهم العذاب.
وقال ابن عباس: {رَأَوْهُ زُلْفَةً}، أي: لما رأوا عملهم السيء.
وقيل: فلما رأوا الحشر. ودل عليه: " يحشرون ".
وقيل: الهاء تعود على الوعد لتقدم ذكره.
- ثم قال تعالى: {وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}.
أي: وقال الله لهم عند معاينتهم العذاب: هذا الذي كنتم به تدعون ربكم أن يعجله لكم.
وقال الحسن: تدّعون أن لا جنة ولا ناراً.
وأصل {تَدَّعُونَ} [تَدْتَعِيون]- على " تَفْتَعِلون " - من الدعاء، ثم أعلي ثم(12/7606)
أُدْغِمَ.
وقال أبو حاتم: {تَدَّعُونَ}: تكذبون.
وقيل: {تَدَّعُونَ}: يدعو بعضكم بعضاً إلى التكذيب.
وقرأ قتادة والضحاك: " تدعون " مخففا، وهما بمعنى، كما يقال: قدر واقتدر، وعدا واعتدى، إلا أن في " أفتعل ": معنى التكرير، و " فعل " يقع للتكرير ولغير التكرير.
- ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.(12/7607)
أي: قل يا محمد للمشركين من قومك: أرأيتم أيها القوم إن أهلكني الله فأما تني ومن معي، أو رحمنا فأخر في آجالنا، فمن يجيركم من عذاب مؤلم (أي: موجع) وهو (عذاب) النار؟! أي: ليس ينجيكم من عذاب الله موتنا ولا حياتنا، فلا حاجة بكم (إلى) أن تستعجلوا قيام الساعة ونزول العذاب، فإن ذلك غير نافعكم بل هو (بلاء) عليكم.
- ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)}.
أي: قل لهم يا محمد: ربنا الرحمن، صدقنا به وعليه توكلنا، أي: اعتمدنا في جميع [أمورنا].
{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
أي: فستعملون أيها المشركون من هو في ذهاب عن الحق، نحن أم أنتم.
- ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً. . .}.(12/7608)
أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتم أيها القوم العادلون عن الحق إن أصبح [ماؤكم غائراً] لا تناله الدلاء، فمن ذا الذي يأتيكمم بماء معين غير الله؟! أي: بماء تراه العيون ظاهراً.
وقال ابن عباس: بماء معين: " بماء عذب ".
وقال ابن جبير: بما ظاهر.
وقال قتادة: المعين: الجاري، وغوراً: ذهاباً، وكذلك قال الضحاك.
وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون " معين " فعيلا من معن الماء إذا كثر، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول. والأصل فيه معيون، مثل مبيع. فيكون معناه على هذا: بماء يُرى بالأعين.(12/7609)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نون والقلم
مكية
- قوله تعالى: {[ن] والقلم} إلى قوله: {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ}.
قال ابن عباس: " ن هو الحوت. قال: أول ما خلق الله جل ذكره القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلقت منه السماوات، ثم خلق الحوت، فبسط الأرض على ظهر النون، فتحركت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال(12/7611)
لتفخر على الأرض. وهو قول مجاهد.
وقال أبو هريرة: الأرضون على نون، ونون على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة لها أربعة أركان، على كل ركن منها ملك قائم في الماء.
وعن ابن عباس أيضاً من رواية عكرمة عنه: " ن " حرف من حروف الرحمن. وروى معاوية بن قرة عن أبيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نون لوح من نور ".(12/7612)
وروى ثابت البناني عن ابن عباس أيضاً نون: الدواة والقلم: هو القلم المعروف. قال: خلق الله النون - وهي الدواة - وخلق القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فجور، ورزق مقسوم حلال أو حرام، قال: ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه/ دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف، ثم جعل على العباد حفظة، وجعل للكتاب خزانا، والحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم. يريد: قبل أن يمله العبد، [فيعمل العبد] في ذلك اليوم على ما [نسخته] الحفظة من عند الخزان لا يزيد ولا ينقص. هذا التفسير ليس من كلام ابن عباس، وهو معنى قوله " وقد تقدم نحوه في " الجاثية ".
قال ابن عباس: فإذا فني الرزق وانقطع الأمر [وانقضى] الأجل، أنت(12/7613)
الحفظة الخزنة فيطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً، فيرجع الحفظة فيجدونه قد مات. ثم قال ابن عباس: ألستم قوماً عرباً تستمعون الحفظة؟! يقولون: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟!.
وروى معمر عن الحسن وقتادة أن نون هو الدواة.
وروى ابن جبير عن قتادة أن {[ن] والقلم}: قسم، (قال): يقسم ربنا بما شاء، وهو قول ابن زيد.
وقيل: هو اسم من أسماء السورة.
وقيل: هو تنبيه.(12/7614)
وقيل: التقدير: ورب نون. والقلم هو المعروف، لكن أقسم ربنا بالقلم الذي جرى بأمره [بما] هو كائن إلى يوم القيامة.
وقال زياد بن الصلق لابنه لما حضرته الوفاة: أي بني، اتق الله، واعلم أنك لم تتق الله ولم تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خير وشره [حلوه ومره]، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ عز وجل: القَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فقال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكْتُب الْقَدَرَ.
قال: فَجَرى القلمُ في تلك الساعة بما كان (وبما هو [كائن]) إلى الأبد ".(12/7615)
وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: إن مما خلق الله لوحاً من لؤلؤة [أو درة] بيضاء دَفَّتاه من [ياقوته] حمراء، قلمه وكتابه نور ينظر فيه ستين وثلاث مائة نظرة، في كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.(12/7616)
وقوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ}.
معناه: والذي يخطون، يعني يكتبون، كأنه تعالى أقسم بأفعال الخلق هذا على أن تكون " ما " بمعنى " الذي "، فإن جعلتها والفعل مصدراً كان القسم بالكتاب.
وقال قتادة: {وَمَا يَسْطُرُونَ}: يخطون.
وقال ابن عباس: يكتبون، وكذلك قال مجاهد.
وقيل المعنى: وما تكتب الحفظة من أعمال بني آدم.
وروى أحمد بن صالح عن ورش: [يصطرون] بالصاد لأجل [الطاء]،(12/7617)
والأصل (السين).
- ثم قال تعالى: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}.
" ما " ما جواب القسم. وهي نفي للجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين ر (موه) بالجنون مرة، وبالسحر مرة، وبالكهانة (مرة). والجنون ستر العقل. ومنه قيل: جن عليه الليل وأجنة إذا ستره. ومنه: الجنين، لأنه كان مستوراً في البطن، ومنه قيل للقبر: جَنَنْ منه سمي الجن حناً لاستتارهم عن أعين الناس. وسمع من العرب على غير قياس: أجن فهو مجنون. والقياس: مجن.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}.
أي: إن لك، يا محمد، على صبرك على أذاهم لك ثَوَاباً عظيماً {غَيْرَ مَمْنُونٍ}، أي: غير منقوص ولا مقطوع، ومنه قيل حبل منين، أي: ضعيف.
وقيل: غير منقوص ولا مقطوع، ومنه قيل حبل منين، أي: ضعيف.
وقيل: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: لا يمن به عليك.(12/7618)
وقال مجاهد: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: غير محسوب.
- ثم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
أي: لعلى أدب عظيم. وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله (به)، وهو الإسلام وشرائعه.
وقال ابن عباس: {خُلُقٍ عَظِيمٍ}، أي: لعلى دين عظيم، وهو الإسلام.
قال قتادة: سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله، فقالت: كان خلقه القرآن.
وقال علي رضي الله عنهـ: {لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}: أدب القرآن.(12/7619)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أكملُ الناسِ إيماناً أحسنُهم خلقاً، تأوله قوم: أحسنهم ديناً وطريقة على ما تأول ابن عباس: الآية.
وقيل: الخلق العظيم هو ما كان من البشاشة والسعي في قضاء حوائج الناس وإكرامهم والرفق بهم.
- ثم قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} {بِأَييِّكُمُ المفتون}.
[أي: فسترى يا محمد ويرى المشركون بأيكم المجنون، وهذا تأويل(12/7620)
مجاهد؟
وقيل: المعنى: " بأيكم الجنون]، فيكون المفعول وقع [موقع] المصدر، كما يقال: ما له معقول، أي: عقل وهو قول ابن عباس والضحاك.
وقيل الباء زائدة، والمعنى: [فسترى] ويرون أيكم المجنون.
وقيل: المعنى: بأيكم فتنة المفتون، قاله المبرد.
وقال مجاهد: {بِأَييِّكُمُ المفتون} أي: الشيطان.(12/7621)
وقيل: المعنى: أيكم أولى بالشيطان، فالباء (أيضاً) زائدة على هذا القول. روي/ ذلك عن قتادة.
وقل: الباء بمعنى " في "، والتقدير: في أيكم فتن المفتون).
وقال المازني: التمام: فستبصر ويبصرون، وهذا على زيادة الباء، والتقدير: فستبصر ويبصرون يوم القيامة، ثم ابتدأ: أيكم المفتون.
وقال الأخفش: المفتون بمعنى الفتنة. والتقدير: بأيكم الفتنة، وهذا التمام [عنده].
- ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ. . .}.(12/7622)
أي: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن طريق الحق، وهو أعلم بمن اهتدى، فاتبع الحق. وهذا من معاريض الكلام، والمعنى: إن ربك يا محمد هو أعلم بك وأنك المهتدي، وأن قومك هم الضالون. وهو مثل قوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
- ثم قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. . .}.
أي ود المشركون لن تكفر بالله فيتمادون على كفرهم، قاله ابن عباس والضحاك وسفيان.
وعن ابن عباس أيضاً معناه: " وَدّ المشركون لو ترخص لهم فيرخصون ".
وقال مجاهد: معناه: ود المشركون لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من(12/7623)
الحق (فيمالتوك).قال الفراء: الادها: التليين [لمن لا ينبغي التليين] له. فالتقدير: وَدّ المشركون لو تلين لهم في دينك بجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادة إلهك، وهو قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74]، وهو مأخوذ من الدهن، شبَّه التليين في القول بتليين الدهن.
- ثم قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ}.
(أي: لا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف بالباطل {مَّهِينٍ}: أي: ضعيف. قاله الحسن.
وقال ابن عباس: المهين: الكذاب.
وقال مجاهد: الضعيف القلب.(12/7624)
وقال قتادة: هو المكثار في البشر.
وقيل: معناه: مهين عند الله وعند المؤمنين أي: حقير.
وقيل: مهين بمعنى: مهان، و " فعيل " يأتي بمعنى " مُفعَل ".
وروي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، ثم هي في كل من كان مثله.
- ثم قال تعالى: {هَمَّازٍ}.
أي: يهمز الناس - وأصله الغمز - أي: يعيبهم.
وقال ابن زيد: هو الذي [يغمز] الناس بيده [ويضربهم] وليس باللسان.(12/7625)
واللماز: الذي يذكرهم من ورائهم.
(وقيل: هما جميعاً [لمن] يذكر الناس من ورائهم).
قال قتادة: {هَمَّازٍ} (أي) " يأكل لحوم المسلمين ".
قال أبو عبيد: " بعد ذلك " أي: مع ذلك. وقال: والزنيم (هو) المعلق بالقوم [وليس] منهم.
وعن ابن عباس أيضاً أن الزنيم: [الظَّلُوم].
وقال شهر بن حوشب: " هو [الجِلْفُ] الجافي الأكول الشروب من(12/7626)
[الحرام].
وقال عكرمة: " الزنيم: الذي يعرف باللوم كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال أبو رزين: هو الفاجر.
وقيل: نَزَلَتْ في الوليد بن المغيرة.
وسئل ابن عباس عن الزنيم، فقال هو " [الدعي] ".
واشتقاقه: الزنمة التي في حلق الشاة. كما يقال لمن يدخل في قوم وليس. منهم: زِغْنَفَة. والزِّعْنِفَة: الجناحُ من أجنحة [السَّمَكِ ".
ذكره المبرد بفتح [الزاي]، وذكره غَيْرَهُ بالكسر.(12/7627)
وعن ابن عباس أيضاً أن الزنيم هو رجل من قريش كانت له زنمة مثل زنمة الشاة.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه ق ل: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ} ما عرفناه حتى قال {زَنِيمٍ} فعرفناه، وكانت له زنمتان [كزنمتي] الشاة.
وروى عنه ابن جبير أن الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها، وهو قول الشعبي.
العتل: الجافي الشديد في كفره. وكل قوي شديد [جاف] فالعرب تسميه عتلاً.
وقال الفراء: العتل هنا: الشديد الخصومة بالباطل.
قال الشعبي: نزلت في [الأخنس بن شريق].(12/7628)
وقال مجاهد: نزلت في الأسود بن عبد يغوث أو عبد الرحمن بن الأسود.
- ثم قال تعالى: {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ}.
أي: يسعى بالنمائم بين الناس.
قال ابن عباس: " بنميم: ينقل الكذب. يقال: نميم ونميمة ".
وقال قتادة: بنميم: " بنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض ".(12/7629)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة قتات "، وهو النمام.
- قوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} إلى قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
أي: [بخيل] بالمال عن إخراجه في الحقوق، معتد على الناس في معاملته إياهم {أَثِيمٍ}: مأثوم في أعماله لمخالفته أمرَ رَبِّه.
وقيل: {أَثِيمٍ}: ذي إثم.
- قال تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ}.
- ثم قال تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ(12/7630)
الأولين}.
أي: (أَلأَِنْ) كان صاحب مال وبنين تطيعه/ على وجه التوبيخ لمن أطاعه، ثم أخبر عنه أنه يقول: إذا قرئت عليه آيات الله -: هي أساطير الأولين استهزاءً أو إنكاراً لها أن تكون من عند الله. " فَأَنْ " مفعول من أجله متعلقة بما بعدها أي: من أجل أنه ذو مال وبنين يقول: - {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين}.
ويجوز أن (تكون) أن " في موضع نصب متعلقة بقوله ": {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}، (أي): يفعل ذلك لأنْ كان ذا مال وبنين، فهي أيضاً مفعول من أجله. هذا على قراءة من قرأ: " أن كان " بغير استفهام، ومن قرأه بالاستفهام فهو إنكار وتوبيخ " لمن يطيعه أيضاً، والمعنى: أَلأَِنْ كان هذا الحلاّف المهين(12/7631)
(الهماز) المشاء بنميم القناع للخير، [المعتدي] الأثيم ذا مال وبنين تطيعه؟!
ويحتمل أن يكون توبيخاً وتقريعاً لهذا الحلاف المهين.
والمعنى: أَلأَِنْ كان هذا الحلاف ذ مال وبنين يقول - إذا تتلى عليه آياتنا -: هي أساطير الأولين: فيحسن الابتداء بالاستفهام على ها الوجه، ولا يحسن الابتداء: " بأن كان ذا مال " في الوجهين الأولين؛ لأنه متعلق بالمخاطب.
ومعنى {أَسَاطِيرُ الأولين}: أي: كتبهم وأخبارهم وهو جمع أسطورة.
- ثم قال تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم * إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة. . .}.
قال ابن عباس: معناه: سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك فيه سمة، أي: علامة، قال: وقد قاتل الذي نزلت فيه هذه الآية يوم بدر فخُطِم بالسيف في القتال.(12/7632)
وقال قتادة: هو شين لا يفارقه.
وروي عنه: شين على أنفه.
قال المبرد: الخرطوم من الإنسان الأنف. ومن السباع موضع الشفة.
والمعنى عنده: سَنَسِمُه على أنفه يوم القيامة بما يشوه خلفه وَيَعْرِفهُ بِهِ من شَهِدَه في القيامة أنه من أهل النار.
وقيل: معناه: سنعلق به عاراً وسبة حتى يكون (بمنزلة من وسم على أنفه).
وقيل: المعنى: سَنُسَوّد وجهه، فاستعير الأنف في موضع الوجه لأنه منه.
وقيل: الخرطوم هنا: الخمر.(12/7633)
- ثم قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ}.
أي: إنا بلونا قريشاً، أي: امتحناهم ما امتحنا أصحاب الجنة، إذا حلفوا ليصرمن ثمرها إذا أصبحوا ولا يقولون: إن شاء الله.
قال عكرمة: هم أناس من الحبشة، كانت لأبيهم جنة، وكان يطعم المساكين (منها، فلما مات أبوهم قال بنوه: والله ما كان أبونا إلا أحمق حين يطعم المساكين)، فأقسما لَيَصْرِمُنَّها مصبحين ولا يطعمون مسكيناً.
قال قتادة: كان أَبُوهُم تتصدق، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة وكان يمسك قوت سنة، وينفق وتصدق بالفضل، فلما مات أبوهم، غدوا عليها وقالوا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
[وقال] ابن عباس: كانوا (أهل) كتاب.(12/7634)
والصَّرْم في اللغة: القطع، وهو الجَذَاذ.
- ثم قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ}.
أي: فطرق جنتهم ليلاً أمر من الله فأصبحت الجنة كالليل المظلم. قاله ابن عباس.
وروي أن الله أرسل عليها ناراً فأحرقت الزرع.
وقيل: الصريم أرض باليمن يقال [لها] [ضروان] من صنعاء، على ستة أميال.(12/7635)
وقيل: (كالصريم) كالزرع الذي حُصِد.
ويقال: لِلَّيْلِ صَرِيمٌ، وللنهار صريم، لأن كل واحد ينصرم عن الآخر.
- ثم قال: {فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ}.
(أي): فنادى بعضهم بعضاً بعد الصباح أن اغدوا الحصاد زرعكم إن كنتم حاصدين له.
{فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}.
أي: فمضوا إلى حرثهم وهم يَتَسَارُّون بينهم في الخفاء، يقول بعضهم لبعض: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
- ثم قال تعالى: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ}.(12/7636)
أي: وغدوا إلى جنتهم على قدرة في أنفسهم [وَجِدٍ]. قاله مجاهد.
قال قتادة: غدا القوم وهم محردون إلى جنتهم قادرين عليها في أنفسهم.
قال ابن زيد: " على جد قادرين في أنفسهم ".
وقل: المعنى: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} [على] أمر أسَّسوه بينهم.
وقال الحسن: {على حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي: حاجة وفاقة.
وقال سفيان {على حَرْدٍ} " على حَنَقٍ ".
وقال أبو عبيدة: {على حَرْدٍ}: على منع. وقيل " على قصد ".(12/7637)
ومعنى " قادرين " عند الفراء: أي: قد قدَّروا هاذ [وبنوا] عليه.
وقيل: قادرين عند أنفسهم على ما دبروا من حصادها ومنع المساكين منها.
- ثم قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ}.
(أي): فلما رأوا جنتهم محترقاً حرثها أنكروها وظنوا أنهم غلطوا، فقال بعضهم لبعض: إنا لضالون الطريق إلى جنتنا، فقال من علم أنها جنتهم: بل نحن أيها القوم محرومون.
قال قتادة: {إِنَّا لَضَآلُّونَ} قد أخطأنا الطريق، ما هذه/ جنتنا، فقال بعضهم ممن عرفها: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: قد حرمنا نفعها.
- ثم قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ}.
أي: قال لهم [أعدلهم] ألم أقل لكم، هلا تستثنون إذا قلتم لنصر(12/7638)
منها مصبحين، فتقولون إن شاء الله؟!
قال مجاهد: لولا تسبحون، أي: تستثنون، وكان التسبيح فيهم الاستثناء.
وأصل التسبيح في اللغة: التنزيه، فجعل قولهم " إن شاء الله " معناه تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وظاهر [الآية] [يدل] على التسبيح بعينه، إذ بعده {قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
أي: (ظالمين) في منعنا المساكين أن يأخذوا ما يجب علينا.
- ثم قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ}.(12/7639)
أي: فأقبل بعضهم ليوم بعضاً على تفريطهم في الاستثناء وإطعام المساكين.
- {قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}.
قالوا: [تعالى] يا ويل إلينا، فهذا وقت حضورك. وهذا شيء تقوله العرب عن الأمر العظيم: احضر يا ويل، فهذا من إبَّانك ووقتك.
- {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}.
أي معتدين مخالفين أمر الله. فندموا على ما فعلوا فأبدلهم الله خيراً منها.
(يقال): إن التي أبدلوا الطائف اقتلعها جبريل عليه السلام من الأردن، وطاف بها حول البيت، ثم أنزلها في وادي ثقيف.
- ثم قال {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ. . .}.(12/7640)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
أي: عسى (ربنا) أن يعطينا بتوبتنا خيراً من جنتنا.
- {إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}. في ذلك.
- قال تعالى: {كَذَلِكَ العذاب. .}.
أي: كفعلنا بجنة هؤلاء فعلنا بمن كفر وخالف أمرنا في عاجل الدنيا.
- {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ. . .}.
عقوبة لمن عصى الله.
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
(أي لو لكانوا يعلمون) أن عقوبة الآخرة أعظم من عقوبة الدنيا.
- قوله تعالى: {إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم} إلى قوله: {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين}؟
(أي): إن للذين اتقوا عقوبة ربهم [فأطاعوه] بساتين (النعيم) الدائم في(12/7641)
الآخرة.
- ثم قال: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين}.
أي: أفنجعل - أيها الناس - كرامتي في الآخرة للذين أطاعوني كالذين عصوني؟!
{مَا لَكُمْ. . .} أيها الناس {كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
إذ تجعلون المطيع كالعاصي؟!
- ثم قال تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}.
أي: ألكم - أيها القوم - بتسويتكم الطائع كالعاصي - كتاب نزل من عند الله أتاكم به رسول أن الطائع كالعاصي فيه تقرؤون؟!
وقيل: المعنى: تدرسون أن لكم فيه لما تَخَيَّرون. (فتدرسون) عاملٌ في المعنى في {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}، [لكن] منعت اللام في " لما " من فتح " إن " (بتدرسون]. ومثله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}. والتقدير: أن لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة، فإن لكم لما تحكمون. وهذا كله منقطع عند البصريين غير متصل بما قبله، ولا يجوز(12/7642)
عندهم تعلق " تدرسون "، إنما تعلق أفعال الشك لاغير.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}.
أي: إن لكم في ذلك لما تخيرونه، وهذا توبيخ وتقريع لهم لما كانوا يتقولون من الكذب.
- ثم قال تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة}.
أي: هل لكم ذلك، أي: ليس لكم أيمان على الله تنتهي بكم إلى يوم القيامة بأن لكم حكمكم في ما تتولون. وكسرت الألف من " إنّ " لدخول اللام في " لمَا ".
وقيل: " بالغة " [وثيقة]، أي: بالغة النهاية في التأكيد.
- ثم قال تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ [زَعِيمٌ]}.
أي: سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين (المتحكمين) على الله، أيهم كفيل بأن(12/7643)
لهم علينا أيماناً بالغة إلى يوم القيامة؟
وقيل: " زعيم " معناه: ضمين. والزعيم أيضاً المتكلم عن القوم.
- ثم قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ. . .}.
أي: ألهم شركاء (بعيونهم) ويشهدون لهم بذلك ويحتجون عنهم فيما يدعون فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في قولهم فتكون الحجة على جميعهم أبين و [آكد].
- ثم قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ (عَن سَاقٍ) وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}.
أي: اذكر يا محمد يوم يبدو [أمر] عظيم، وذلك يوم القيامة.(12/7644)
قال ابن عباس: يوم يكشف [عن ساق]، هو يوم كرب وشدة وأمر عظيم.
وقرأ ابن عباس: " يوم نَكشِف " بالنون.
وقرأ ابن مسعود: " يوم يَكشِف " بفتح الياء وكسر الشين.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ " يوم تَكشِف " بالتاء، يريد القيامة تكشف عن أهوالها.
وروى مجاهد عن ابن عباس: " عن ساق " قال: هي أول ساعة من القيامة، وهي [أفظعها] و [شدها].
وقال ابن جبير: " عن ساق ": عن شدة الأمر ".(12/7645)
وقال قتادة {عَن سَاقٍ} عن أمر فظيع/ لهم جليل.
وعن ابن مسعود أنه قال: " يتمثل للخلق، يعني يوم القيامة، حتى يمر المسلمون فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئاً، [فينتهرهم] مرتين أو ثلاثاً، فيقولون: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه، إذا اعترف لنا عرفناه. (قال): فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر لله ساجداً، ويبقى المنافقون ظهروهم طبق كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا! فيقول: قد كنتم تَدْعُوْنَ إلى السجود وأنتم سالمون.
قال أبو محمد: فمعنى يكشف لهم عن ساق، أي: عن أمر عظيم وقدرة لا يقدر عليها إلا الله. فيعرفونه تعالى [أظهر] من قدرته إليهم. ولا يحل لأحد(12/7646)
أن [يتأول] في هذا وما شابهه جارحة، إذ ليست صفات الله كصفات الخلق، كما أنه ليس كمثله شيء، فاحْذَرْ أن يتمثل في قلبك شيء من تشبيه الله بخلقه، [فغير] جائز في الحكمة والقدرة أن يكون المخلوق يشبه الخالق في شيء من الصفات، ومن شبه الخالق بالمخلوق فقد أوجب على الخلق الحدث، وكفر وأبطل التوحيد، إذ في ذلك نفي القدم عن الخالق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرً.
وقال ابن مسعود: ينادي مناد يوم القيامة: أليس عدلاً منكم أن ربكم خلقكم ثم صوركم ثم رزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد (منكم ما تولى؟! فيقولون: بلى، قال: فيمثل لكل قوم آلهتهم التي كانوا) يعبدونها، فيتبعونها حتى توردهم النار، ويبقى أهل [الدعوة]، فيقول بعضهم لبعض: ماذا تنتظرون؟ (ذهب الناس)! فيقولون: ننتظر أن ينادى [بنا]. قال: فيجيء في صورة، فذكر منها ما(12/7647)
شاء الله، فيكشف عما شاء الله أن يكشف، فيخرون سجدا إلا المنافقين، فإ نه يصير فَقَارُ أصلابِهِمْ عَظْماً واحداً مثل [صياصي] البقر، فيقال لهم: ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم. ثم ذكر قصرة طويلة.
وذكر أبو سعيد الخدري: عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك وأطول.
والعرب تقول: انكشف الأمر عن ساق، أي: عن هول وأمر غليظ شديد. وأصل هذا أن الرجل إذا جد في أمر فيه صعوبة وشدة تشمر وكشف عن ساقه، فجعل الساق في موضع الشدة.(12/7648)
وقوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}.
أي: [ويدعى] أهل النفاق إلى السجود لله عند ظهور الأمر الشديد فلا يستطيعون السجود.
ودل على على أن الاستطاعة قبل الفعل، لأن الكلام على أنهم كانوا قبل ذلك يستطيعون السجود فتركوه. ودعاؤهم إلى السجود إنما هو على طريق التوبيخ لهم ليوقفوا على فعلهم في الدنيا إذا دعوا إلى السجود وهم سالمون لينتفعوا به فلم يفعلوا.
روي أن أصلابهم تجف عقوبة فلا يطيقون السجود.
ثم قال: {خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ (ذِلَّةٌ). . .}.
أي: خاضعة ذليلة أبصارهم [تغشاهم] ذلة من عذاب الله.
والعامل في " يوم يكشف " قوله: {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} أي: فليأتوا بالشركاء يوم يكشف، أي يوم القيامة.
لم يرد الإتيان بها في الدنيا لأنهم يقدرون على ذلك في الدنيا، ولا يقدرون عليه في الآخرة، " فيأتوا " هو العامل في " يوم يكشف ". ويجوز أن يعمل فيه فعل(12/7649)
[مضمر] أي: اذكر يوم يكشف.
ثم قال تعالى: {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سالمون. . .}؟
(أي): وقد كانوا في الدنيا يدعون (إلى) أن يسجدوا لله وهم سالمون الجوارح، لا يمنعهم من ذكل مانع فلم يفعلوا.
وقيل: السجود (الذي) (كانوا) يدعون إليه في الدنيا هو الصلاة المكتوبة. قال الشعبي.
وقال ابن جبير: كانوا يسمعون النداء للصلاة فلا يجيبون.
قال ابن عباس: هم الكفار، كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا وهم آمنون، فاليوم يدعون وهم خائفون.
وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يُؤْذَنُ للمؤمنين يَومَ القيامةِ في السّجودِ(12/7650)
فَيَسْجُدُ المُؤمِنُونَ، وَبَيْنَ كُلِّ مُؤمنين مُنَافِقُ فَيَقْسُو ظَهْرُ المُنَافِقِ عَنِ السُّجُوجِ، ويجْعَلُ اللهُ سُجُودَ المؤمنين على المنافقينَ تَوْبِيخاً وَصَغَاراً وَذُلاًّ وَنَدَامَةً وَحَسْرَةً ".
- ثم قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث. . .}.
هذا تهديد ووعيد من الله للمكذبين بكتابه، كما يقول الرجل للرجل يتوعده: دعني وإياك، وخلني وإياه.
وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}.
أي: سنكيدهم من حيث لا يعلمون، وذلك أن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم إنّما مُتِّعُوا به الخير لهم عند الله فيتمادون في طغيانهم، ثم [يأخذهم] بغتة [وهم] لا يشعرون.
فيكون معنى: " سنستدرجهم ": سنمتعهم ونوسع عليهم في الدنيا حتى يتوهموا أن لهم خيراً ويغتروا بالنعم.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يُمْهِل الظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْهُ، وقرأ:(12/7651)
{وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} وحقيقة الاستدراج أن يأخذه ببأسه قليلاً ولا يُجَاهِرُه، وهو من الدرج الذي يُصعَد وَيُنْزَل منه قليلاً قليلاً.
- ثم قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
أي أنْسِئُ لهم في آجالهم ملاوة من الزمان، وذلك [برهة] / من الدهر على كفرهم وتمردهم على الله [لتتكامل] حجج الله عليهم.
- وقوله: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
أي: إن كيدي بأهل الكفر قوي شديد.
- ثم قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ}.
أي: أم تسألهم يا محمد على إنذارك لهم ونصحك إياهم جُعلاً [فهم](12/7652)
مثقلون [مما] يعطونك من الجُعْل؟ أي: لست تسألهم ذلك، فما بالهم لا يقبلون نصحك.
- ثم قال تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ}.
أي: أعندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيوب كلها فهم يكتبون منه [ما يجادلونك] به، ويزعمون أنهم على كفرهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به.
- قال تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت. . .}.
يعني: يونس، أي فاصبر يا محمد على أداء (الرسالة) لقضاء ربك [فيك وفي هؤلاء] المشركين، ولا تستعجل لهم العذاب فتكن كصاحب الحوت، يعني يونس إذ خرج عن قومه حين تأخر العذاب عنهم.
- واذكر {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.(12/7653)
أي: إذ نادى ربه من بطن الحوت وهو مغموم لا يجد من يتفرج إليه.
قال قتادة: ولا تكن كصاحب الحوت في العجلة والغضب، أي: لا تعجل كما عجل ولا تغضب كما غضب.
- ثم قال تعالى: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ. . .}.
(أي رحمة - فرحمه) {لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ}.
(أي: لولا أن الله رحمه وسمع دعاءه من بطن الحوت فأجابه لطُرِحَ بالفضاء من الأرض وهو مذموم) قال ابن عباس: مذموم " مليم ".
وقيل مذموم: " مذنب ".
- ثم قال تعالى: {فاجتباه رَبُّهُ. . .}.
أي: فاختاره واصطفاه.
- {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين}.
أي: اختاره للنبوّة فجعله صالحاً، أي: رفعه للعمل الصالح.(12/7654)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
وقيل: معناه: فوصفه من الصالحين.
حكى سيبويه: " جعل بمعنى " وصف ".
- قوله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ. . .} إلى آخرة السورة.
قال الفراء: هذا من إصابة العين. والتقدير: وإن يكاد الذين كفروا مما عاينوك يا محمد بأبصارهم ليأخذونك بالعين فَيَرْمونَكَ ويصرعونك كما ينصرع الذي يَزْلِق في الطين ونحوه، لأنهم كانوا يقولون: ما رأينا [مثل] حججه ولا مثله.
وقيل: المعنى: أنهم كانوا من شدة نظرهم إليه [وتغيظهم] عيه أن يزلقوه من مكانه.
يقال: أَزْلَقَ الحَجّام الشَّعرَ وَزَلَقَهُ: إِذا حَلَقَه.(12/7655)
- ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}.
أي: ويقول الكفار: إن محمداً لمجنون.
قال ابن عباس: ليزلقونك بأبصارهم: أي ينفدونك من شدة نظرهم، من قولهم: زلق السهمر وزهق إذا نفذ.
وقال ابن مسعود: ليزلقونك: لَيُزْهِقُونَكَ.
وقال مجاهد: " لينفِذونَك بأبصارهم ".
وقال قتادة: ليصدونك.(12/7656)
- وقوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر. . .}.
أي: لما سمعوا كتاب الله يتلى.
- ثم قال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}.
أي: ليس لاذي جاء به محمد جنوناً بل هو ذكر للعالمين، أي: للجن والإنس. وقيل: المعنى: " بل محمد ذكر للعالمين ".(12/7657)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحاقة
مكية
قوله تعالى: {الحاقة * مَا الحآقة} إلى قوله: {فِي الجارية}.
كأن الأصل: الحاقة، ما هي؟ لتقدم ذكرها، إلا أن إعادة الاسم بلفظه أفخم إذا لم يُشْكِل المعنى.
و" الحاقة " ابتداء، و " ما " ابتداء ثان، و " الحاقة ": حبر " ما "، و " ما " وخبرها خبر عن " الحاقة " الأولى، ومثله: {القارعة * مَا القارعة}. ومعنى الكلام أنه على التعظيم، والتقدير: الساعة الحاقة: أي: شيء هي!، ما أعظمها وأجلها وأشدها.
ومعنى الحاقة: التي تحق فيها الأمور ويجب فيها الجزاء على الأعمال.(12/7659)
قال ابن عباس: " الحاقة اسم من أسماء القيامة، عظمه الله وحذره عباده ".
وقال قتادة: الحاقة: القيامة حقت لكل عامل ما عمله.
- ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة}.
أي: واي شيء يدرك ويعرفك أي شيء الحاقة؟! [وهذا] كله تعظيم ليوم القيامة.
- ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة}.
أي: كذبت ثمود قوم صالح، وعاد قوم هود بالساعة التي تقرع قلوب العباد بهجومها عليهم.
قال ابن عباس: {بالقارعة}: بيوم القيامة.
وقال قتادة: بالساعة.
- ثم قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية}.(12/7660)
أي: بطغيانهم وكفرهم بالله وباليوم الآخر.
قال مجاهد: {بالطاغية} بالذنوب.
قال ابن زيد: {بالطاغية} بطغيانهم، واستدل على ذلك بقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] بالصيحة، كأنها صيحة تجاوزت مقادير الصياح فطغت عليهم. وهو اختيار الطبري؛ لأن الله إنما أخبر عن يموج بالمعنى الذي أهلكوا به لا الذي أهلكوا من أجله (ودليل ذلك/ إخباره تعالى عن عاد بالمعنى الذي أهلكوا به وهو الريح ولم يخبر بالذي هلكوا من أجله).
وقيل: المعنى: بالفئة الطاغية.
(وقيل): بالفعلة الطاغية.(12/7661)
وقيل: بالجماعة الطاغية.
وقيل: المعنى: بالأخذة الطاغية. وسميت الآخذة طاغية لأنها جاوزت القدر في الشدّة. فالمعنى: فأهلكوا بالأخذة التي جاوزت القدر [فطغت عليهم]. دليله: قوله في عاد: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، فذكر الشيء [الذي] أهلكوا من أجله، فإنما وصف العذاب الذي أُهْلِكَ به الطائفتان، فهو ظاهر اللفظ وكُلُّ قَدْ قِيل.
- وقوله: {عَاتِيَةٍ}.
ليس (هو) من العتو الذي هو العصيان، إنما هو من العتو الذي هو بلوغ(12/7662)
الشيء وانتهاؤه في قوته وقدره، ومن قولهم: عتا: إذا بلغ منتهاه، ومنه قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8].
ثم قال تعالى: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} إلى قوله: {فِي الجارية}.
أي: بريح شديدة العصوف مع شدة بردها.
قال ابن عباس: {عَاتِيَةٍ}: أي: " مهلكة باردة عنت عليهم بغير رحمة ولا بركة (دائمة) لا تفتر ".
قال قتادة: " الصرصر: " الباردة، عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم.
قال ابن عباس: ما أرسل الله من ريح قط إلا بمكيل، ولا أنزل قطرة إلا بمثقال إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خَزّنه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية}، قال: وإن الريح عتت على خَزّانها فلم يكن [لهم](12/7663)
[عليها] من سبيل، وقرأ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}.
وقال علي بن أبي طالب: لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي مَلك، فلما كان يوم نوح أذِنَ للماء دون الخزَّان، فطغى الماء على الجبال فخرج، فذلك قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} إلى قوله: {فِي الجارية}، ولم ينزل شيء من الريح إلا بمكيال على يَدَيْ مَلَك إِلاَّ يومَ عاد، فإنه أُذِنَ لَهَا دون الخُزَّان، فخرجت فذلك قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} عتت على الخزان.
قال ابن زيد: " الصرصر [الشديدة]، والعاتية: القاهرة التي عتت عليهم فقهرتهم ".
قال الضحاك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} يعني: باردة، {عَاتِيَةٍ} يعني: عتت عليهم بغ ير رحمة ولا بركة.
- ثم قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. . .}.(12/7664)
أي: سخر تلك الريح على عاد {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً}.
قال ابن عباس: {حُسُوماً}: " تباعاً ".
وقال مجاهد: متتابعة، [وقاله] عكرمة وقتادة.
(وعن قتادة)؛ متتابعات. وهو قول سفيان.
وقال ابن زيد: {حُسُوماً}: تحسم كل شيء فلا تُبْقِي من عاد أحداً.
وذكر ابن زيد عن عاد أنه كان فيهم ثمانية رجال لهم خلق عظيم، فلما جاءتهم الريح قال بعضهم: قوموا بنا نرد على هذا العذاب عن قومنا.
قال: فقاموا وَصَفُّوا في الوادي، فأوحى الله إلى تلك الريح أن تقلع كل يوم(12/7665)
منهم واحداً وقرأ: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} حتى بلغ {خَاوِيَةٍ}.
قال ابن زيد: وإن كانت الريح لتمر بالظعينة فتستدبر بها وبحمولتها ثم [تذهب] بهم في السماء ثم تكبهم على الرؤوس، ثم قرأ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24].
قال: وكان قد أمسك عنهم المطر، فقرأ حتى بلغ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] الآية.
قال: وما كانت الريح تقلغ كل يوم من الثمانية إلا واحداً.
[قال]: لفما عذب الله قوم [هود] أبقى واحداً ينذر الناس.(12/7666)
والعرب تقول: حسمت الداء أي: قطعته (بمتابعة) العلاج (عليه)، وسيفٌ حسامٌ: أي: قاطعٌ.
وقيل: {حُسُوماً} جمع حاسم، كجالس وجلوس.
وقيل: هو مصدر [أي: ذات] حسوم.
- ثم قال تعالى: {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى. . .}.
أي: فترى يا محمد قوم هود في تلك السبع الليالي والثمانية الأيام الحسوم صرعى قد أهلكوا.
- {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.
أي: كأنهم أصول نخل قد خَوت وتآكَلَتْ.(12/7667)
- ثم قال تعالى: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ}.
أي: فهل ترى - يا محمد - لهم من جماعمة باقية.
وقيل: من بقاء.
وقيل: (من) بقية.
- ثم قال تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ}.
أي وجاء فرعون ومن قبله من الأمم الماضية المذكبة بالفعلة الخاطئة.
ومن قرأ بكسر القاف وفتح الباء فمعناه: ومن معه من القِبْطِ.
وقد رد أبو عبيد هذه القراءة لأنه قد كان فيه مؤمنون.
وهذا لا يلزم، لأنه لفظ/ عام معناه الخصوص، أي: ومَن قِبَلَهُ من أهل دينه.(12/7668)
- وقوله {والمؤتفكات} يعني قوم لوط الذين ائتفكت عليهم مدائِنُهم إذْ أُهْلِكُوا أي: انقلبت عليهم.
قال مجاهد: {بِالْخَاطِئَةِ}: " بالخطايا ".
- ثم قال تعالى: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً}.
أي: فعصى فرعون وقوم لوط رسول ربهم إليهم، والمعنى: فعصى كل قوم رسول ربهم إليهم.
وقيل: " رسول " هنا بمعنى " رسالة ".
قال ابن عباس: {أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي: " شديدة ".
قال ابن زيد: رابية في الشر أي زائدة. ومنه الربا، ومنه: أربى فلان عَليك إذا خذ أكثر من حقه.
- ثم قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية}.(12/7669)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
أي: لما طغى الماء على الخزنة - بإذن الله له فخرج أكثر مما تقدر عليه الخزنة وتجاوز حده. والطغيان مجاوزة الحد. فقيل: إنه طغى على خزنته فلم يعرفوا له قدراً، وذلك بأمر الله له. حملنا آباءكم في السفينة الجارية.
روي أنه زاد [فَعَلاَ كلّ شي] بقدر خمس عشرة [ذراعاً] قاله قتادة.
قال ابن جبير: طغى الماء وزاد غضباً لغضب الله.
[قوله] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً. . .} إلى [قوله] {على طَعَامِ المسكين}.
أي: فعلنا ذلك لنجعل السفينة لكم عبرة وعظة وآية.
قال قتادة: أبقى الله السفينة تذكرة وعظة وآية حتى نظر إليها أول هذه(12/7670)
[الأُمة]، وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رِمْدداً.
- قال {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ..
[أي]: [ولتعي] هذه التذكرة أذن حافظة عقلت عن الله ما سمعت.
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى عَلِيِّ رضي الله عنهـ فقال: سَاَلْتُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ. قال عَليٌّ: فَمَا سَمِعْتُ شَيْئاً مِنْ رَسُولِ اللهِ قَطّ فَنَسِيتُهُ. "
وقال [بريدة]: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: [يا علي]، إِنَّ اللهَ(12/7671)
أَمَرَني أَنْ [أُدْنِيْكَ] ولاَ أُقْصِيَكَ، [وَأنْ أُعَلِّمكَ] وَأَنْ تَعِيَ. وَحَق عَلَى الله أن [تَعِي]. قال: ونزلت: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ".
وقال أبو عمران الجَوْنِي: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [يعني]: أذن عقلت عن الله.
- ثم قال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}.
(أي: فإذا نفخ إسرافيل في الصور نفخة واحدة)، هي النفخة الأولى.
- {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}.(12/7672)
أي [زلزلتا] زلزلة واحدة.
قال ابن زيد: دكتا دكة واحدة: " صارت غباراً ".
- ثم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة}.
أي: قامت القيامة.
- ثم قال تعالى: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}.
أي: وانصدعت السماء فهي متشققة يومئذ.
قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة أمر الله جل ثناؤه السماء بأهلها ونزول من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم [الثالثة] إلى السابعة، فصفوا صفاً بين يدي صف ثم نزل الملِك الأعلى على مجنبته جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نَدّثوا فلا يأتون قُطُراً من أقطار الأرض، إلا وَجدوا سعبة صفوف من الملائكة مفيه، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 32 - 33].(12/7673)
وذلك قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22].
- وهو قوله: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم [أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ] إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] (أي] بحجة، وهو قوله: {وانشقت السمآء}. إلى {على أَرْجَآئِهَآ. . .}.
أي: على نواحيها وأطرافها حين تشقق.
قال ابن عباس: على حافاتها، وذلك حين تشقق.
وعن ابن جبير: {على أَرْجَآئِهَآ}: على حافات الدنيا.(12/7674)
وواحد الأرجاء [رجا] مقصور، وهو الناحية، يثني بالواو.
والرجاء: الأملُ مَمْدُودُ.
- ثم قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}.
قال ابن عباس هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله، وهو قول الضحاك وعكرمة.
وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه قال): " يحمِلهُ اليَوْمَ أَرْبَعْةٌ، وَيَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَمَانِيَةٌ "، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَقْدَامَهُمْ لَفِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ،(12/7675)
وإِنَّ مَنَاكِبَهُمْ لَخَارِجَةٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ عَلَيْهَا العَرِشُ "، قال ابن زيد: يريد الأربعة. قال ابن زيد: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لمَّا خَلَقَهُمُ الله قال: تَدرون لِمَ خلقتكم؟ قالوا: خلقتنا ربنا لما شاء، قال لهم: تحملون عرشي، ثم قال: سَلوني من القوة ما شئتم أَجْعَلُهَا فِيكُم، فقال أحدهم: قد كان/ عرش ربنا على الماء فاجعلني في قوة الماء، قال: قد جعلت فيك قوة الماء، وقال آخر: اجعل في قوة السموات، (قل: قد جعلت فيك قوة السماوات. وقال الآخر: اجعل في قوة الأرض والجبال، قال: قد جعلت فيك قوة الأرض والجبال. وقال آخر: في قوة الرياح)، قال: قد جعلت فيك قوة الرياح.
(ثم) قال: احملوا. قال: فوضعوا العرش على كواهلهم فلم يزولوا. قال: فجاء عِلْمٌ آخرِ، وإنما كان عِلْمُهُم الذي [سألوه] القوة. فقال لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم]. فقالوها، وجعل فيهم من الحول والقوة ما لم(12/7676)
يبغلوه بعلمهم فحملوا ".
وروى ابن وهب عن أبيه أنه قال: أربعة من الملائكة يحملون العرش على أكتافهم، لكل واحد منهم أربعة أوجه: وجه ثور، ووجه [أسد]، ووجه نسر، ووجه إنسان. ولكل واحد منهم أربعة أجنحة: جناحان على وجهه من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وحناحان يقف [بهما]. ليس لهم كلام إلا (أن) يقولوا: قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات والأرض.
وقال عطاء عن مَيْسَرَة [في قوله] {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}، قال: " أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور ".
قال أبو محمد [مؤلفه رضي الله عنهـ]: ما جاء في القرآن وهذه الأحاديث من النزول(12/7677)
والمجيء وشِبْهِ ذلك مضافاً إلى الله جل ذكره [فلا يجب] أن يُتَأَوَّلَ فيه انتقال " ولا حركة " على الله، إذ لا يجوز عليه ذلك، إذا الحركةُ والنقلةُ إنما هما من صفات المخلوقين. وكل ما جاء من هذا فإنما هو صفة من صفات الله لا كما هي من المخلوقين، فأجرها على ما أتت ولا تعتقد ولا تتوهم في ذلك أمراً مما شَهِدْتَهُ في الخلق، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقد قال جماعة من العلماء في وصف الله جل ذكره بالمجيء والإتيان والتنزيل: إنها أفعال يحدثها الله متى شاء، سماها بذلك، فلا تَتَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ تُكَيِّفْ وَلاَ تُشَبِّهْ، وَتَقُولُ كَمَا قَالَ وَتنْفِي (عنه) - جل ذكره - التَّشْبِيهَ، ولا تَعْتَرِضْ في شيء مما أَتَى في كتابه من ذلك وما روي عن نبيه (منه) صلى الله عليه وسلم.
- ثم قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}.
[أي]: ذلك اليوم تعرضون أيها الناس على ربكم فلا يخفى عنه من أعمالكم شيء.(12/7678)
وروي أنهم [يعرضون] ثلاث عرضات: قاله أبو موسى الأشعري وابن مسعود، قالا: فعرضتان فيه الخصومات والمقادير، والثالثة [تطاير] الصحف. قال أبو موسى: " فأخذ بيمينه، وأخذ بشماله ".
وروى مثل ذلك قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرءوا كتابيه}.(12/7679)
أي: فأما من أعطي كتاب عمله بيمينه فيقول: تعالوا: {اقرءوا كتابيه}.
وقال بعض [أهل اللغة]: أصل " هَاؤُمْ " " هاكم "، ثم أبدل من الكاف واو.
- ثم قال تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ}.
هذا من الظن الذي هو يقين، قوم ظنوا ظناً: فازوا به، وقوم ظنوا ظناً: شقوا [به]، وهو الظن الذي بمعنى الشك.
والمعنى أن المؤمن يقول يوم القيامة حين أَخْذِ كتابه (بيمينه: أيقنت في الدنيا أني ملاق ما عملت إذا وردت يوم القيامة) على ربي.
قال ابن عباس: ظننت: " أيقنت ".
قال قتادة: ظَنَّ ظَنّاً يَقِيناً فنفعه الله به، وقال: " ما كان من ظن الآخرة فهو(12/7680)
علم " [يريد] من المؤمنين.
- ثم قال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}.
أي: عيش مرضي، وهو عيش الجنة.
وجعلت " مرضية " نعتاً [للمعيشة]؛ لأن ذلك مدح [للعيشة]، كما يقال: " ليل نائم " " وسرٌّ كاتم " و " ماء دافق "، بمعنى " مفعول "؛ لأنه فيه بمعنى المدح، فكان نقله من بناء إلى بناء يدل على المدح أو [الذم]، ولو قلت: " رجل ضارب " بمعنى " مضروب " لم يجز؛ لأنه لا مدح فيه ولا [ذم]، فلا يقع بناء في موقع بناء إلا لمعنى زائد.
- ثم قال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}.
أي: رفيعة المقدار والمكان.
- ثم قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}.(12/7681)
أي: ما يقطف من ثمارها دان، أي: قريب من قاطفه (يقطفه)، فكيف شاء - في حال قيام أو قعود أو اضطجاع - لا يمنعه منه بُعْدٌ، ولا يحول بينه [وبينه] [شوك].
- ثم قال تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية}.
أي: كلوا/ من ثمرات الجنات غير مُكَدَّرٍ ولا منقص عليكم بما تقدم (لكم) من الأعمال الصالحات في الأيام الماضية في الدنيا لأخراكم. قال قتادة: هذه الأيام الخالية فانية تؤدي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام وقَدِّما فيها خيراً إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. ويقال: من عمل في الزمان الذي لا بقاء فيه أَوْصَلَهُ إلى نَعِيمِ الزمان الذي لا زَوَالَ لَهُ.
ويقال: إنه صيام في أيام الدنيا. روي أنه يوضع يوم القيامة للصوام في(12/7682)
الدنيا مائدة يأكلون عليها الناس في الحساب، فيقولون يا رب: نحن في الحساب وهؤلاء يأكلون؟ فيقول: إنهم طالما صاموا في الدنيا وأكلتم، وقاموا ونمتم.
- ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِشِمَالِهِ. . .}.
أي: كمتاب عمله، {فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كتابيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}.
أي: ولم أدر أي شيء حسبي؟!
- ثم قال: {ياليتها كَانَتِ القاضية}.
أي: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها ولم يكن بعد ذلك حياة.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء أكره إليه من الموت.
- ثم قال: {مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ}.
أي: لم ينفعني [مالي] ولا دفع عني من العذاب شيئاً، فتكون " ما " نافية. ويجوز أن تكون استفهاماً في موضع نصب والتقدير، أي بشيء أغنى عني مالي.(12/7683)
- ثم قال تعالى: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}.
قال [ابن عباس]: ضلت عني كل [بينة] لي (فلم) تغن عني شيئاً. قال عكرمة ومجاهد: سلطاني: حجتي. وقال ابن زيد: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي: " سلطان الدنيا " وملكها.
- ثم قال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ}.
هذا أمر من الله لِخُزَّانِ جهنم من الملائكة، أي: خذوا هذا الكافر فغلوا يده إلى عنقه، ثم الجحيم فألقوه وأوردوه (فيها).
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}.
أي: اسلكوه في سلسلة طولها سبعون ذراعاً. وذلك أن تدخل في دبره وتخرج من منخريه. وقيل: تدخل في فِيهِ وتخرج من دبره. وقال محمد بن المنكدر: لو جمع حديدُ الدنيا ما مضى منها ما بقي ما عَدَلَ حلقة من حلق(12/7684)
السلسلة.
قال نوف البكالي: الذراع سبعون ذراعاً أبعد ما بينك وبين مكة وهو يومئذ بالكوفة. قال ابن عباس: {سَبْعُونَ ذِرَاعاً} " بذراع الملك {فَاسْلُكُوهُ} تسلك في دُبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه ".
وروى عبد الله بن عمر وابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لَوْ أَنَّ رَصَاصَة مثل هذا - وأشار إلى مثل جمجمة - أُرْسِلَتْ من السماء إلى الأرض -(12/7685)
وهي مسيرةُ خَمْسِ مِائَةِ سنة - لبلغت الأرضَ قبل الليل. ولو أنها أُرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً - الليلَ والنهارَ - قبل أن [تبلغ أصلها أو قعرها ".
وقيل: فاسلكوه، وإنما تسلك السلسلة فيه لأن المعنى مفهوم، مثل قولهم: أدخلت رأسي في القلنسوة، وإنما تدخل [القلنسوة] في الرأس، وشبهه كثير في الكلام.
وقال الفراء: التقدير: فاسلكوه فيها.
وروى نعيم بن حماد عن كعب أنه قال: ينظر الله إلى عبده يوم القيامة فيقول: " خذوه " فيأخذه مائة ألف ملك حتى يتفتت في أيديهم، فيقول: أما(12/7686)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
ترحموننا؟! فيقولون: وكيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين؟!.
- ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم}.
أي: لا يصدق بتوحيد بالله.
{وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين}.
ولا يرغب هو ولا يُرَغَّبُ غيرهُ في إطعام أهل المسكنة والحاجة.
- قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ} إلى آخرة السورة.
أي: فليس لهذا الكافر - يوم القيامة - قريب ولا صديق ينجيه من عذاب الله. وقيل: المعنى: ليس في جهنم ماء حار ولا طعام ينتفع به، قال قطرب.
وقيل: معناه: ليس له في جهنم طعام إلا من غسلين، أي: من صديد أهل النار، وذلك ما يسيل من صديدهم. وقال بعض أهل اللغة: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، وهو " فعلين " من الغسل. قال ابن عباس: غسلين "(12/7687)
صديد أهل النار ". وقال قتادة: غسلين " شر الطعام وأخبه وأبشعه ". وقال ابن زيد: " الغسلين والزقوم لا يعلم أحد ما هو ".
فأما، قوله تعالى في موضع آخر: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] فقد قيل: إن الغسلين من الضريع كما تقول: ما لي طعام إلا الرطب، ما لي طعام (إلا) النخل.
- ثم قال {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون}.
أي: لا يأكل الطعام الذي من غسلين إلا الخاطئون (أي): المذنبون [الذين] ذنوبهم كفر بالله.
- ثم قال: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * [وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ]}.(12/7688)
أي: أقسم [بذلك]، (و " لا " زائدة. وقيل: " لا " رَدُّ لكلامهم. وَالمعنى: مَا الأمر كما تقولون مشعرَ أهل التكذيب بكتاب الله ورسوله، ثم ابتدأ فقال: أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، أي: أقسم بالأشياء كلها - أي بربها - إن القرآن {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}.
أي: كريم على ربه وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقرأه ويتلوه عليكم. وقيل: هو جبريل عليه السلام.
- ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ}.
أي: وما القرآن بقول شاعر، لأن محمداً لا يحسن قول الشعر فتقولون هو شاعر، قليلاً إيمانكم، أي إيماناً قليلاً إيمانكم أو وقتاً قليلاً. وهذا كله خطاب من الله(12/7689)
جل ذكره لمشركي قريش.
- ثم قال: {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}.
أي: وليس هذا القرآن بقول كاهن فيقولون هو من سجع الكهان، قليلاً ما يَعتبرون ويَذكرون] به.
- ثم قال: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين}.
أي: هو تنزيل من رب العالمين تنزل به جبريل على محمد عليه السلام. وقيل: التقدير: لكنه تنزيل من رب العالمين.
- ثم قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل}.
أي: لو قال محمد من عند نفسه بعض ما جاءكم به وتَخَرَّصَ علينا.
{لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين}.
قال ابن عباس: باليمين: بالقوة. (وقيل باليمين): باليد اليمنى، أي: كنا(12/7690)
نذله [ونهينه] كما يقول الملك لمن يريد إِذلاَلَهُ: " خذوا بيده " فاليد هنا في مضع الإهانة.
قال إبراهيم بن عرفة: معناه: لأخذنا بيمينه، أي لقبضناها، فمعناه: التصرف. بالمعنى لأخذنا بيمينه ولقطعنا [وتينه]، وهو نياط القلب، لا حياة بعد انقطاعه.
- ثم قال تعالى: {(ثُمَّ) لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين}.
قال ابن عباس: " الوتين: نياط القلب "، وعنه: " عرق القلب ". وقال مجاهد: هو " حبل القلب الذي في الظهر "، وهو قول قتادة. وقال الضحاك: هو " عرق(12/7691)
يكون في القلب، فإذا قطع مات الإنسان ". وقال ابن زيد: (هو) " نياط القلب الذي القلب متعلق به "، وهو قول ابن جبير.
والمعنى في الآية: لو كذب علينا ما لم نقل لأهكلناه، فكان بمنزلة من قطع وتينه فلم يعش.
- ثم قال تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.
أي: فما منكم - أيها الناس - أحد عن محمد صلى الله عليه وسلم يحجزنا إذا أردنا هلاكه وعقوبته. وجمع " حَاجِزِينَ " على معنى " أحد ".
- ثم قال: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}.
أي: وَإِنَّ هذا القرآن لتذكرة وعظة [يتعظ] بها المتقون، وهم الذين اتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب محارمه.
- ثم قال: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ}.
أي (مكذبين) بهذا القرآن.
- ثم قال: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين}.(12/7692)
أي: وإن التكذيب لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة.
- ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين}.
(أي): وإن هذا القرآن لمحض اليقين [و] خالصه، أنه من عند الله لم يتقوله (محمد) من عند نفسه وهذا من إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين، وأصله عندهم: " الحق اليقين " على النعت، ثم أضيف (المنعوت) إلى نعته، والنعت هو المنعوت في المعنى، فقد صار من إضافة الشيء إلى نفسه.
- ثم قال تعالى: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم}.
أي: فسبح بذكر ربك - (يا محمد) -، {العظيم} (أي) الذي كل شيء في عظمته صغير.(12/7693)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المعارج
مكية
- قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، إلى قوله: {وَنَرَاهُ قَرِيباً}.
أكثر المفسرين على أنه من السؤال، ونزلت في (النضر بن الحارث) حين قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. وأصله الهمز.
قال ابن عباس: ذلك سؤال الكفار عن عن عذاب الله وهو واقع [بهم]. قال مجاهد: {سَأَلَ سَآئِلٌ} أي: دعا داع بعذاب الله وهو واقع بهم في الآخرة، قال: وهو قولهم {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} الآية.(12/7695)
قال ابن عباس: [هو قول] النضر بن الحارث/ بن كلدة.
وقال قتادة: (سأل عذاب الله أقوام، فبين الله على من يقع)، على الكفارين.
(وروى عروة بن ثابت أنه من السيلان وأنه وا حد من أودية جهنم يقال له: سائل. فتكون الهمزة بدلاً من " يا " في سائل.
وقوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} معناه بعذاب للكافرين واجب لهم يوم القيامة واقع بهم. وقيل (الكافرين).
معناه: على الكافرين، قاله الضحاك، وكذلك هي في قراءة أبي: " على(12/7696)
الكافرين ").
وقال الفراء: التقدير: بعذاب للكافرين واقع، ولا يجوز عندهم تعلق.
" للكافرين " بـ " واقع ". وقال الحسن: أنزل الله جل وعز {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} فقالوا: لمن هو؟ وعلى من يقع؟ فأنزل الله: {لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}، فهذا يدل (على) تعلق اللام بـ " واقع ".
فأما الباء في {بِعَذَابٍ} فإن المبرد يقول: هي متعلقة بالمصدر الذي دَلَّ عليه الفعل. وقال غيره: هي زائدة بمنزلة قوله {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25]. والباء - في قول من جعله من السؤال - بمعنى " عن "، وهو قول الحسن، وقاله من أهل اللغة ابن السّكّيت.(12/7697)
- وقوله {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}.
أي: ليس للعذاب الواقع على الكافرين من الله رادٌّ يرده عنهم.
- وقوله {ذِي المعارج}:
أي: ذو العلو والدرجات والفواضل والنعم، قاله ابن عباس وقتادة.
وعن ابن عباس: {ذِي المعارج} ذي الدرجات. وقيل: إن الملائكة تعرج إليه، فنسب (ذلك إلى نفسه).
- ثم قال تعالى: {تَعْرُجُ الملائكة والروح}.
أي: تصعد الملائكة والروح - وهو جبريل عليه السلام إلى اله.
{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.
أي: كان مقدار صعودهم ذلك - لغيرهم من الخلق - خمسين ألف سنة، وهم يصعدون يوم يقدره الله، وذلك أنها تصعد من منتهى أمر الله جل ذكره من أسفل(12/7698)
الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع، هذا معنى قول مجاهد. قال مجاهد: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني بذلك نزول الوحي من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة.
وقال عكرمة: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: في يوم واحد من القضاء كعدل خمسين ألف سنة. وروى عكرمة عن ابن عباس: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو يوم القيامة. وهو قول [مجاهد] وقتادة. وقيل: المعنى: لو حكم في ذلك اليوم أعقل الناس وأعدلهم لأقام خسمين ألف سنة قبل أن يحكم بين اثنين.
والروح: جبريل عليه السلام. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: سأل سائل(12/7699)
بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة للكافرين. أي: ذلك اليوم على الكافرين في صعوبته كقدر صعوبة خمسين ألف سنة.
- ثم قال {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ. . .}.
قال ابن عباس: جعل الله يوم القيامة على الكفارين مقدار خمسين ألف سنة، أي: محاسبة الله الخلق [فيه] وإثباتهم أو معاقبتهم مقدار خمسين ألف سنة لو كان غير الله المحاسب والمجازي. ودل على هذا المعنى ما وروى أبو سعيد الخدري " أنه قيل للنبي عليه السلام: ما أطول هذا اليوم! فقال: " إنه على المؤمن أخف من صلاة مكتوبة يصليها ".(12/7700)
وروى ابن نجيح عن مجاهد أنه قال: الدنيا كلها من أولها إلى آخرها خمسونَ ألف سنة، لا يدري أَحَدٌ كَمْ مضى منها، ولا كَمْ بقي. وروى (عن) ابن عباس توقف عن تفسيره.
(وقد قل مجاهد (في قوله) تعالى): {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} قال الروح خلق الله مع الملائكة لا تراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة.
- ثم قال: {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً}.
أي: فاصبر يا محمد على أذاء هؤلاء المشركين لك، ولا يمنعك ما تلقى(12/7701)
منهم من المكروه من تبليغ ما أمرك الله (به) من الرسالة (إليهم).
ومعنى {جَمِيلاً}: أي: لا حرج فيه، قال ابن زيد: هذا منسوخ، إنما كان قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بالقتال والغلظة (عليهم) والشدة، وقيل: هو محكم؛ لأن النبي عليه السلام لم يزل صابراً عليهم محتملاً. ويقال: الصبر الجميل في المصائب ألا يُعرَف صاحبُ المصيبة بن جماعته [لتجلده] في صبره/ [واحتسابه].
- ثم قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً}.
(أي): إن هؤلاء [المشركين]- الذين سألوا العذاب الواقع عليهم -(12/7702)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
يرون وقوع العذاب عليهم بعيداً إذ لا يصدوقون به، ونحن نراه قريباً؛ لأنه كائن لا بد منه وكل ما هو كائن فهو ريب.
- قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل}، إلى قوله: {غَيْرُ مَأْمُونٍ}.
أي: ونرى العذاب قريباً (في) يوم تكون (فيه) السماء كالمهل. وقيل: التقدير: يبصرونهم يوم [تكون]. وقيل: التقدير: أحذروا يوم تكون السماء كالمهل، قال مجاهد: " كعكر الزيت ". وقال قتادة: تحول لوناً آخر إلى الخضرة، وقد تقدم ذكر " المهل " بأشبع من هذا.
ثم قال: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن}.(12/7703)
قال مجاهد: كالصوف. وهو جمع " عنهة "، وأهل اللغة على أنه لا يقال (للصوف) " عهن " حتى يكون مصبوغاً.
- ثم قال: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} ..
أي: ولا يسأل قريب ولا صديق عن قريبه ولا عن صديقه لشغله بنفسه.
ومعنى {يُبَصَّرُونَهُمْ. . .}.
أي: يُبَصَّرُ كُلُّ إنسان قَرِينَهُ فيعرفونه. قال ابن عباس: يعرف بعضهم بعضاً، ويتعارفون، ثم يفر بعضهم [من] بعضهم، بعد ذلك، يقول الله: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]، وهو قول قتادة. فالهاء والميم - على هذا - للأقرباء، والضمير في [يُبَصَّرُونَ] للكفار، فالهاء والميم للأقرباء، أي: يبصر الله الكفار أقرباءهم في القيامة ويعرفهم بهم، فهو تأويل موافق لصدر الآية؛ لأنه قد ذكر(12/7704)
القريب وقريبهه، وهذا مثل قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34 - 35] الآية. وقال مجاهد: معناه: يبصر الله المؤمنين الكفار في القيامة. فيكون الضمير في " يُبَصَّرونَ " للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. وقال ابن زيد: معناه: يبصر الله الكفار الذين أضلوهم في الدنيا في النار. فيكون الضمير في {يُبَصَّرُونَهُمْ} للكفار التابعين، والهاء الميم للمتبوعين.
وقد روي عن ابن كثير وأبي جعفر يزيد وشيبة: أنهم قرأوا: " وَلاَ يُسأَلُ(12/7705)
حَمِيمٌ " على ما لم يسم فاعله. ومعناه: لا يقال لقريب: أين قريبك؟، (أي): لا يطلب بعضهم بِبَعْضٍ. ويجوز أن يكون معناه: ولا يسأل إنسان عن ذنب قريبه، مثل قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164].
- ثم قال {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}.
(أي: يتمنى الكفار يوم القيامة لو يفتدي من العذاب ببنيه).
{وَصَاحِبَتِهِ. . .} وهي زوجته، {(وَأَخِيهِ)} {وَفَصِيلَتِهِ. . .}: عشريته، {التي تُؤْوِيهِ} أي: التي تضمه إلى رحلها ومنزلها لقرابة ما بينها وبينه.
- ثم قال: {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ}.(12/7706)
أي: ويود لو يفتدي بمن في الأرض جميعاً ثم ينجيه ذلك من عذاب الله، أي: لو لوجد إلى ذلك سبيلاً من عظيم ما نزل به لفعله.
وجواب " لَوْ " قوله: {ثُمَّ يُنجِيهِ}، وقيل: " ثُمَّ " بمعنى الفاء أي: فَيُنَجِّيه ذلك، فهو مثل قوله {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] الفاء جواب " لَوْ ".
قال قتادة: {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} " الأحب فاللأحب، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته.
. . ". قال الخليل: الفصيلة فخذ الرجل من قو مه. وقال مجاهد: فصيلته: " قبيلته ". وقال ابن زيد: " عشريته ". وفاعل " يُنْجِيهِ " محذوف، والتقدير: ثم ينجيه ذلك الافتداء، ودل " يفتدي " على الافتداء.(12/7707)
قالت سودة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس حفاةً عراةً غُرلاً حتى ألجمهم العرق وبلغ شحم الآذان. قالت: (قلت): واسوءتان يا رسول الله، أينظر بعضنا إلى بعض؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شُغِلَ النَّاسُ {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ".
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى}.
أي: ليس الأمر على يتمنون، ولا يفيدهم (من عذاب الله شيء. ثم ابتدأ بالإخبار عما أَعدَّ لهم من العذاب فقال: {إِنَّهَا) لظى}، و " لضى " اسم من أسماء(12/7708)
جهنم، ولذلك لم تَنْصَرِفْ. ومعنى: " نزاعة للشوى ": تنزع جلدة الرأس وأطراف البدن.
والشوى جمع: شواة، وهي الأطراف. قال ابن عباس: {نَزَّا (عَةً) للشوى} أي: " تنزع أم الرأس ". وعنه: يعني " الجلود والهام ". وقال مجاهد: " [الجلود] الرأس ". وعنه: تنزع اللحم دون العظم. وقال أبو صالح: {للشوى}: " للحم الساقين ". [قاله] مجاهد أيضاً. وقال الحسن: {للشوى}: " للهام/ تحرق كل(12/7709)
شيء منه ويبقى فؤاده نضيجاً ". وقال الضحاك: {للشوى}: " تبدي اللحم والجلد على العظم حتى لا تترك منه شيئاً ". وقال ابن زيد: الشوى: " الأراب العظام، قال: تقطع عظامهم كما ترى ثم تحرق خلقهم وتبدل جلودهمه ". قال ابن جبير: {للشوى} " للعصب والعقب ". وعن مجاهد أيضاً: {للشوى}: للجلد. وعنه للأطراف. وقال ثابت البناني: للشوى: لِمَكَارِمِ وجه ابن آدم.
- ثم قال تعالى: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى}.
أي: تدعو لظى إلى نفسها من أدبر عن طاعة الله وتولى عن الإيمان بالله وبكتبه وَرُسُلِه، هذا معنى قول قتادة. قال ابن زيد: ليس لها سلطان (إلا على من(12/7710)
أدبر وتولى [وكفر وتولى]، فأما من آمن بالله وروسله فلي سله عليه سلطان).
قال الخليل بن أحمد " ليس دعاؤها كالدعاء: " تعالوا " و " هلم ". ولكن دعوتها [إيّاهم] ما تفعل بهم من الأفاعيل، يعنى نار جهنم نعوذ بالله منها.
وقيل: معنى " تدعو " تريد وتطلب، كما قال: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي: يريدون ويطلبون، فهو " يفتعل " من الدعاء.
ويقال: " تداعت الحيطان إذا انقاضت. وتداعى عليه العدو: إذا أتى من كل جانب. وتداعت القبائل على بني فلان، إذا أقبلوا لحربهم. [ودواعي] الدهر: صروفه.
- وقوله: {وَجَمَعَ فأوعى}.(12/7711)
أي: وتدعو من جمع مالاً فجعله في وعائه ومنع حق الله منه. ومعنى " أوعى ": أحاط بِمَنْعِ المَالِ وحِفْظِه، ومنه: وَعيْت العلم، وأذنٌ واعيةٌ.
- ثم قال: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً}.
الهلوع - عند أهل اللغة -: الجزوع، وهو هنا الذي يستعمل في حال الفقر من الجزع ما لا يجب أن يستعمله، وفي الغنى ما لا ينبغي أن يستعمله من منع الحق الواجب فيه وقلة الشكر. وقيل: الهلع شدة الجزع من شدة الحرص والضجر. وقد فسر الله جل ذكره لنا الهَلوع من هو فقال: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً}.
وعن ابن عباس: الهلوع الجزوع: الحريص، وهذا كله في الكفار. وقال الضحاك {إِنَّ الإنسان} يعني الكافر {خُلِقَ هَلُوعاً} أي: بخيلاً فهو منوع للخير جزوع إذا نزل به البلاء. قال ابن جبير: {هَلُوعاً} " شحيحاً، جزوعاً ". وقال(12/7712)
عكرمة: ضجوراً. وقال قتادة وابن زيد: الهلوع: الجزوع.
- وقوله {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً} أي: إذا قل ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك لا صبر له عليه.
{وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أي: إذا كثر ماله فهو بخيل بما في يديه لا ينفقه في طاعة الله ولا يؤدي منه حق الهل.
- ثم قال تعالى ذكره: {إِلاَّ المصلين}.
(أي): إلا الذين يطيعونن الله بأداء فرائضه، [فليسوا] بداخلين في عدد من خلق هلوعاً وهو [كافر] بربه. وذكر بعض العلماء أن المصلين هنا الذين كانوا مع رسول الله، وهو قول ابن زيد.(12/7713)
وقال غيره: هي في كل من صلى الخمس: قال النخعي {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} عني به الصلوات الخمس. وقال [عقبة بن عامر] {دَآئِمُونَ} لا يلتفتون في صلاتهم خلفهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم.
- ثم قال: {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ}.
أي: موقت، وهو الزكاة {لِّلسَّآئِلِ} [أي] للذي يسأل {والمحروم} الذي حرم الغنى وهو فقير لا يسأل. قال قتادة: الحق المعلوم: " الزكاة المفروضة ". وعن(12/7714)
ابن عباس أنه حقٌّ آخَر الزكاة. وسئل انب عمر عن الحق المعلوم أهو الزكاة؟ فقال: " إن عليك حقوقاً سوى ذلك ". وقال الشعبي: " إن في المال حقاً سوى الزكاة "، وهو قول مجاهد. وهذا إنما هو على الندب والترغيب لا على الفرض؛ لأن المسلمين قد أجمعوا (على) ألا فرض في المال سوى الزكاة المعلومة، وقد تقدم (ذكر) اختلافهم في المحرم في " والذّارِيَاتِ " وأضفنا الأقوال إلى أصحابها، ونحن نذكره هنا مجملاً:
قيلأ: هو المحارف الذي لا سهم له في الإسلام له في الإسلام. وقيل: هو الذي لا سهم له (في) الغنيمة.(12/7715)
وقيل: هو الذي لا ينمى له مال. وقيل: هو الذي اجتيح ماله.
وقيل: هو المصاب بزرعه.
وقيل: هو " المتعفف ".
- ثم قال: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين}.
أي: يؤمنون بالبعث والجزاء والجنة والنار.
{والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}:
أي: هم وَجِلُونَ في الدنيا خوفاً (أن) يعذبهم ربُّهم في الآخرة، فهم من [خوفه] لا يضيعون فرائضه ولا يتعدون إلى ما حرمن عليهم.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}:
أي: لا يُؤمَن منه من عصى ربه. والوقف على " لَظَى " جائز حسن في قراءة(12/7716)
من رفع " نَزَّاعَةٌ "، على تقدير: هي نزاعة.
ومن جعل {لظى * (نَزَّاعَةً)} بدلاً من اسم " إن " وجعل " نَزَّاعَةٌ " " خبر " إن لم يقل على " لَظَى ".
وكذلك إن رفع {نَزَّاعَةً} على البدل من {لظى} أَوْ على أنها خبر بعد خبر، وكذلك إن جعل الضمير في " إِنَّهَا " للقصة لم يقف على " لظى "، / لأن " نزاعة " خبر " لظى ".
فإن نصبت " نَزَّاعَةً " فعلى الحال من " لظى "؛ لأنها معرفة. [ولا] يوقف أيضا - على هذا القول - على " لَظَى ".
وقد رد المبرد النصب ومنع جوازه، [قال]: لأنه لا يجوز أن تكون لظى إلا(12/7717)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
نزاعة للشوى، وليس كذا سبيل الحال.
- قوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى آخر السورة.
أي: وإلا الذين [يحفظون] فروجهم فلا يطئون إلا أزواجهم أو مملوكاتهم فلا لوم عليهم في ذلك.
- ثم قال تعالى: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ. . .}.
أي: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته ومملوكته فهو متعد إلى ما حرم الله عليه، ملوم على فعله.
- ثم قال {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}.
أي: وإلا الذين يحافظون على أداء أمانتهم من فروضهم - التي ألزمهم الله إياها - وأَمَاناتِ عباده التي ائتمنوهم عليها، والوفاء بعهودهم التي أخذها الله(12/7718)
عليهم، وعهود عباده عندهم.
- ثم قال {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ}.
أي: وإلا الذي هم لا يكتمون ما أشهدوا عليه، ولكن يؤدونه حيث يلزمهم أداؤه غير مبدلين ولا مغيرين.
- ثم قال: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
أي: وإلا الذين يحافظون على أداء صلواتهم بفروضها في أوقاتها، بحدودها لا يضيعون شيئاً من ذلك ثم أخبر عن مصير هؤلاء الذين تقدمت صفتهم في الاستثناء من الإنسان الهلوع فقال:
{أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}.
أي: الذين تقدمت صفتهم - من قوله: " إِلاَّ المُصَلِّينَ " - في بساتين يكرمهم الله بكرامته.
ثم قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}.
أي: فما شأن الذين كفروا نحوك عامدين: قال قتادة: {مُهْطِعِينَ} " عامدين ". وقال: ابن زيد: المهطع " الذي [لا يطرف "]. وقال الحسن:(12/7719)
{مُهْطِعِينَ}: " منطلقين ". وقال أبو عبيدة: مسرعين. فالمعنى: فما شأن الذين كفروا مسرعين بالتكذيب لك. وقيل: بالاستماع منك، لِيَعِيبُوكَ.
- ثم قال {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ}.
روي عن ابن عباس (أنه قال): [العزون]: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين عن محمد يستهزئون به. وقال مجاهد (عزين: مجالس مجالس). قل قتادة: {مُهْطِعِينَ} عامدين، {عِزِينَ} فرق حول رسول اله لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. وقال الضحاك: عزين: (حلقاً) وفرقاً. قال ابن زيد: عزين: مجالس.
ومعنى {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} أي: عن يمينك وشمالك جماعات متفرقة(12/7720)
في أديانهم مخالفين للإسلام. وقال الطبري: {عِزِينَ} متفرقين حلقاً حلقاً ومجالس مجالس، [جماعة جماعة] متفرقين عنك وعن كتاب الله.
- ثم قال {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ. . .}.
[أي]: أيطمع كل إنسان منهم أن ينجو من عذاب الله فيدخل الجنة التي ينعم مَن دخلها؟! لا يكون ذلك.
- ثم قال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ}.
أي: مِن مَني حقير لا يستوجب (به) دخول الجنة، إنما يستوجب دخولها بالطاعة لله. قال قتادة: {مِّمَّا يَعْلَمُونَ} من مني قذر، فَاتَّقِ الله يا ابن آدم.
وقيل: هو إشارة إلى إعلامهم أنهم كسائر الخلق ليس لهم فضل بأن يؤتى كل أحد منهم ما يريد من دخول الله، بل حكم جميع الخلق ألا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، وأنتم أيها المخاطبون مثل جميع خلقتم من نطفة.(12/7721)
- ثم قال تعالى {فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ}.
" لا " زائدة، والتقدير: [أقسم برب: مشارق الشمس] وهي ثلاثمائة وستون، وبرب مغاربها، وهي ثلاثمائة وستون.
- {إِنَّا لقادرون}.
على أن نخلق خيراً منه هؤلاء المشركين ونهلكهم.
- {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}:
أي ما يفوتنا أحد نريد هلاكه ولا أمر نريد إتمامه.
قال ابن عباس: " (إن) الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كُوَّة، تطلع كل يوم في كوة لا ترجع إلى تلك الكوة إلى ذلك اليوم من العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، [تقول]: يا رب، لا تطلعني على عبادك، فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك ". وعن ابن عباس أيضاً في قوله: {فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق(12/7722)
والمغارب} أنه قال: " هو مطلب الشمس ومغربها ومطلع القمر ومغربه ".
- ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ (يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ) حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ}.
هذا تهديد ووعيد لكفار قريش ومن كان على دينهم. أي: دع يا محمد هؤلاء المشركين - المهطعين/ عن اليمين وعن الشمال عزين - يخوضوا في [باطلهم] ويلعبوا في هذه الدنيا حتى يلاقوا يوم القيامة الذي وعدوا به.
ثم بَيَّنَ [يومهم] الذي يوعدون فقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً. . .}، فهو يم بدلٌ من " يوم " الأول. فالمعنى [فَذَرْهُمْ] يا محمد حتى يلاقوا يوم يخرجون من القبور مسرعين إلى الداعي.
- {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}.
أي: كأنهم إلى عَلَم قد نصب لهم يستبقون، [و " نَصْب " مصدر: نَصَبتُ الشيء] نَصْباً فتأويله كأنهم إلى صنم منصوب (لهم) يسرعون ذليلين. وروي(12/7723)
عن عاصم أنه [قرأ: {نُصُبٍ}] بضم النون والصاد، جعله [واحداً لأنصاب]، وَهي آلهتهم التي كانوا يعبدون، كطُنُب وأطناب. وقيل: هو جمع نَصْبٍ، والنَّصْبُ: الصنم الذي ينصب لهم فيكون كرَهْن ورُهُن، وهو قول أبي عبيدة. وقيلأ: هو جمع نصاب، والنصاب الحجر أو الضم ينصب فيذبح عنده. وقرأ قتادة: {نُصُبٍ} بضم النون وإسكان الصاد فهو مخفف من " نُصُب ".
وقد قيل: إن نَصْباً ونُصْباً ثلاث لغات بمعنىً، كما يقال عَمْرٌو وعُمْرٌو وعُمُرٌو. فأما قوله تعالى {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] فهو جمع نصاب عند كل العلماء، وهو(12/7724)
الذي ينصب ليذبحوا الآلهتهم عنده وقد مضى ذكره. قال: أبو العالية {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: كأنهم إلى غايات يستبقون. وقال ابن عباس: إلى غايات يسعون. وقال الضحاك: إلى (" علم ينطلقون "). وقال ابن زيد: [{إلى نُصُبٍ}]: النَّصْبُ حجارة طوال يعبدونها يسمونها نَصْباً، قال: و {يُوفِضُونَ}: يسرعون إليه.
وقال الحسن: {(كَأَنَّهُمْ) إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: يبْتَدِرون نصبهم أيهم يسْتلمه أول، قال: وذلك إذا طلعت الشمس لا يلوي أولهم على آخرهم.
- وقوله: {خاشعة أبصارهم. . .}.
أي: خاضعة ذليلة لما نزل بهم من الخزي والهوان.(12/7725)
- {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. . .}.
أي: تغشاهم ذلة. والعامل في " خاشعةً " " يخرجون " أو " ترهقهم "،
- ثم قال تعالى: {ذَلِكَ اليوم (الذي) كَانُواْ يُوعَدُونَ}.
أي: هذا اليوم الذي تقدمت صفته هو اليوم الذين كانوا يوعدون به في الدنيا فلا يصدقون به.(12/7726)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نوح - عليه السلام -
مكية
- قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً (إلى قَوْمِهِ)}، إلى قوله: {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي: أرسلنا نوحاً منذراً قومه عذاب الله الأليم.
قيل: هو الطوفان.
وقيل: هو عذاب جهنم.
ويروى أن نوحاً عليه السلام أرسل إلى قومه وهو ابن مائتي سنة وخمسين سنة، فلبث فيهم يدعوهم إلى الله وإلى عبادته ألف سنة إلا خمسين سنة كما أعملنا الله عنه، ثم دعا(12/7727)
قومه فبلغه الله أمله (فيهم) فغرق بهم كما أعلنما عنه. ثم عاش بعد الغرق مائتي سنة وخمسين سنة فكان عمره ألف سنة وأربع مائة سنة وخمسين سنة، فلما احتضر قال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمراً وأكثرهم عملاً، كيف وجدت الدنيا؟ قال: كَبيْتٍ له بابان، دخلت من باب وخرجت من باب.
- ثم قال تعالى {[قَالَ] ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
أي: " نَذِيرٌ " أنذركم عقاب الله فاحذروه أن ينزل بكم على كفركم، " مبِينٌ ": أي قد بينت لكم إنذاري إياكم.
- ثم قال: {أَنِ اعبدوا الله واتقوه. . .}.
(أي: مبين بأن اعبدوا الله، لا تعبدوا غيره،) واتقوه فيما أمركم به.
- {وَأَطِيعُونِ}.
أي: انتهوا إلى ما أمركم به، واقبلوا نصيحتي لكم.
قال قتادة: " أرسل الله عز وجل المرسلين بأن [يعبد] الله وحده وأن [تتقى](12/7728)
محارمه، وأن يطاع أمره ".
- ثم قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ}.
أي: يسترها عليكم، فلا يعاقبكم بها إن أطعتموني.
و" مِنْ " بمعنى " عَنْ " أي: يغفر لكم (عن) ذنوبكم، كما تقول: وجع بطني من الطعام، أي: عن الطعامم. وإذا كانت [" مِنْ "] بمعنى " عن " لم تدل على [على] التبعيض، وقيل: " من " للتبعيض والمعنى: يغفر لكم منها ما وعدكم العقوبة عليه وهو معظمها، وهو الشرك به، ولا يحسن أن تكون " من " زائدة؛ لأنها لا تزاد في الإيجاب.
ولا يجوز أن تكون لبيان الجنس؛ لأنه لم يتقدم جنس فتبينه بما بعده.
- ثم قال تعالى: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى. . .}.(12/7729)
أي: ويؤخركم فلا يعذبكم في الدنيا إلى أن تبلغوا آجالكم المكتوبة لكم في أم الكتاب.
قال مجاهد: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى. . .}.
أي: ويؤخركم فلا يعذبكم في الدنيا إلى أن تبلغوا آجالكم} إلى ما قد خط من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخر عن ميقاته، وهو قوله.
- {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
(أي): لو كنتم تعلمون لأَنَبْتُم.
وقال الفراء: إلى أجل مسمى [عندكم] فلا يلحقكم فيه غرق ولا عذاب.
وقيل: إنهم كان لهم أجلان: أجل للعذاب إن تمادوا على كفرهم/ وأجل لقبض أرواحهم (إن آمنوا)، فقال لهم نوح: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو الآخر من الأجلين إن آمنوا. ثم قال: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} أي: إن الأجل الأول إذا جاء وأنتم كفار لا يؤخر، وهو الغرق، وإن حضر الثاني وأنتم مؤمنون لم يؤخر.(12/7730)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
- قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي (لَيْلاً وَنَهَاراً). . .}، إلى قوله: {إِلاَّ ضَلاَلاً}.
أي: قال نوح لما بلغ رسالكة ربه قومه فعصوه: يا رب إني دعوت قومي إلى توحيدك ليلاً ونهاراً وحذرتهم عقابك على كفرهم بك فلم يزدهم دعائي (لهم) إلا إدباراً عن قبول ما جئتهم به. قال قتادة: بلغنا أنهم كانوا يذهب الرجل منهم بابنه إلى نوح فيقول لابنه: احذر هذا [لا يغويك] فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك.
من رواية ابن شعبان عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث أن(12/7731)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يَجمَع اللهُ الأوَّلين، والآخِرين، ويَنزِل اللهُ في ظُلَلٍ منَ الغَمَام فَيَكون أَوَّلَ من يَقْضي لَه نوحٌ وَقَومُه، يَقولُ اللهُ لِقومِ نوحٍ: ماذا أجبتم المُرْسَلين؟ قال: فَيقولُ نوحٌ: أيْ رَبِّ، بَلَّغتُهم رسالتَك ودَعَوتُهم لَيلاً ونَهاراً فكذَّبوني واتَّهَموني، فَيقولُ اللهُ لِقَوْم نوحٍ: ماذا تقولون؟ فيقولون: ربَّنا ما بَلَّغَنا الرّسالة، وقَد كان فينا حتى خَلَت قرونٌ (بعد قرون)، وَقَد كَتَمَ الرِّسالةَ فلم يَدْعُنا وَلَمْ يُنذِرْنا، فيقول الله لنوحٍ: مذا تقول؟ فيقول: رَبِّ، لي بَيِّنَة، فيقول الله: إِيتِ بِبَيِّنَتِكَ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيأتي نوح فيقول: يا مُحمدُ، أَسأَلُكَ الشَّهادةَ، فإِنَّ قَومي قَدْ كذَّبوني عِندَ رَبّي وَجَحَدوا، قال النبي عليه السلام: فَأَبْعَثُ معه رهطاً مِن أمتي يَشْهدَون له. قال: فيَنطلِق الرَّهط حتى يَقِفوا على الرّب، فيقول الله لهم: بِمَ تَشْهَدون؟ فيقولون: نَشهَدُ أن نوحاً قد بَلَّغَ قَومَه وَدَعاهُم لَيْلاً وَنَهَاراً وسِرّاً وعَلانِية فَكذبُّوه واسْتَغْشَوْا ثِيابَهُم وأَصَرّوا وَاسْتَكْبَروا.
فيقول اللهُ لقوم نوح: ما تقولون؟ (فيقولون): رَبّنا، كيف يقبلون علينا وَنَحْن أولُ الأُمَمِ وهُمْ آخِر الأُمَمِ؟ فيقول الله للرَّهطِ: أجيبوهم، فيقول(12/7732)
(الرهط): ربَّنا، بَعَثْتَ إِليْنا رسولاً من أَنفسِنا فآمَنّا به وصَدّقنا ما أَنْزَلتَ عَليْه مِنَ الكِتابِ، فَكان فيما أَنزَلتَ عَلَيْه أَنَّك أَرْسَلتَ نوحاً إِلى قَومهِ فَبلَّغهم الرسالةَ وَدَعاهم لَيلاً ونَهاراً وسِرّاً وعلانيةً فكذَّبوه، قال: فيقرأون سورة " نوح "، فيقول قوم نوح: خصمنا فقوموا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما من نبيٍّ يُكذِّبه قومُهم إِلاَّ يَأْتينا، فَأَبْعَثُ مَعهُ رَهطاً مِن أُمَّتي يَشْهَدون لَه وَانا عَلَيهم [شيهدٌ] ".
- ثم قال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ. . .}.
أي: وإني كلما دعوتهم إلى طاعتك والعمل بمرضاتك لتغفر لهم إذا فعلوا ذلك، أدخلوا أصابعهم في آذانهم لِئَلاَّ يسمعوا دعائي (أياهم إلى ذلك، واستغشوا،(12/7733)
أي تغطَّوا بها لِئَلاَّ يُسْمَعَ دعائي).
- ثم قال {وَأَصَرُّواْ واستكبروا (استكبارا)}:
أي: أَصروا على كفرهم، أي: تمادوا عليه، واستكبروا عن قبول ما جتئهم به من الحق وقبول الإيمان.
- ثم قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}.
أي: ثم إن دعوتهم إلى ما أمرتني به من عبادتك دعاءً ظاهراً غيرَ خَفِيّ.
قال مجاهد: الجِهار: الكلام المعلن (به) ".
{ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ} أي صرخت وصِحْتُ بالذي أمرتني به من الإنذار.
قال مجاهد: أَعْلَنْتُ: " صِحْتُ بِهِم "، وَأَسْرَرْتُ لَهُمُ (اي): قلت لهم ذلك فيما بيني وبينهم.
- {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ. . .}.(12/7734)
أي: سلوا ربكم المغفرة عن ذنوبكم وتوبوا إليه من كفركم يغفر لكم ذنوبكم.
- {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}.
أي: لم يزل عفاراً لمن تاب إليه واستغفروه.
- ثم قال: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً}.
أي: إن تبتم واستغفرتم من ذنوبكم أرسل السماء عليكم المطر متتابعاً.
وكان عمر رضي الله عنهـ إذا [استسقى] ما يزيد على الاستغفار، وسئل عن ذلك فقرأ هذه الآية، وقرأ الآية في هود في قصة هود: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 52] الآية.
- ثم قال: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}.
(أي: ما لكم لا ترون لله عظمة، ذكر ذلك عن ابن عباس، وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته ".
وقال قتادة: معناه: " {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ} عاقبة ".(12/7735)
وقال ابن زيد: معناه: ما لكم لا ترون لله طاعة.
وقال الحسن: معناه ما لكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة. و " ترجون " هنا - في أكثر الأقوال -/ بمعنى: تخافون.
- ثم قال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}.
أي: خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ثم، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك، إلا أنهم اختلفوا في الترتيب، فمنهم من بدأ بالتراب ثم النطفة حتى بلغ (تمام الخلق. منهم من بدأ بالنطفة حتى بلغ) نبات الشعر حتى بلغ اللحم.
وقيل: معنه: وقد خلقكم مختلفين المناظر والألوان والكلام والصور(12/7736)
[والعمر] والهمم وغير ذلك.
وقيل: هو الصحة والسقم، من قولهم: جاز فلان طوره، أي: خالف ما يجب أن يستعمله.
والطور في اللغة: المرة.
فالمعنى: وقد خلقكم مراراً، أي خلقكم تراباً، ثم نقلكم إلى النطفة [ثم إلى العلقة] ثم إلى المضغة، ثم عظاماً، ثم يكسو العظام اللحم، ثم أنبت الشعر، ثم أخرجه طفلاً، ثم صبياً، ثم بالغاً، ثم حدثاً، ثم رجلاً، ثم كهلاً، ثم شيخاً.
- ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً}.
أي: وقال نوح لقومه: ألم تروا كيف خلق الله فوقكم سبع سماوات طباً فوق طبق، فيدلكم ذلك من قدرته على وحدانيته وتعتبروا وتزدجروا عن كفركم.
والطباق مصدر من قولهم: [طابقه] (مطابقة) وطباقاً.(12/7737)
فالمعنى: ألم تروا كيف خلق الله سماء فوق سماء مطابقة؟!. ويجوز أن يكون " طباقاً " [نعتاً] ل " سبع "، جمع طبق.
ومعنى ألم ترو كيف [خَلَقَ اللهُ]: [اعملوا] أن الله خلق ذلك. ولو كان على غير الأمر، معناه لقالوا ما نرى إلا واحدة، ولكن معناه الأمر كما تقول: غفر الله لك، اللهم اغفر له، لأنك لست تخبره عن أمره [علمته]، إنما هو دعاء يتمنى كونه له.
ومن هذا قول الرجل [للرجل] أَلَمْ تَرَ أَنِّي لقيت زيداً فقلت له كذا وقال لي كذا؟. معناه: اعلم أني لقيت زيداً فكان من أمره وأمري كذا وكذا.
ومثله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1].
وقيل: معناه: ألم يبلغكم كيف خلق الله سبع (سماوات) طباقاً فتتعظوا وتزدرجوا؟ وكذلك معنى الآية الأخرى: ألم يبلغك يا محمد كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولم أُوحِ إليك كيف فعلت بهم؟(12/7738)
- ثم قال {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً. . .}.
أي: في السماوات، قال المفسرون: بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. فقال السائل: نحن نرى الغيم يكون دون القمر فلا نرى نوراً، فكيف تضيء السماوات كلها بالقمر على تفاوت ما بينها، وستر بعضها بعضاً؟، فقيل في ذلك: إن هذا الكلام [مجاز]، إنما قال: " فيهن "، [يريد]: في بعضهن، كما تقول العرب: أتيت بن يميم، وإنما أتى بعضهم، [وتقول]: في هذه الدور وليمة، وإنما هي في واحدة منهن.
وتقول: قدم فلان في شهر كذا، وإنما قدم في يوم منه. فلذلك أخبر بالقمر أنه في سبع سماوات وأنما هو في واحدة.
وقيل: معناه: وجعل القمر معهن نوراً، أي: خلقه نوراً مع خلقه للسماوات فيكون مثل: {ادخلوا في أُمَمٍ} [الأعراف: 38].
وقال ابن كيسان: إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن، كما تقول: أَعطِني(12/7739)
من الثياب [المعلمة]، وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وقد قال ابن عمر: إن الشمس والقمر وجوههما في السماء وأقفاؤها في الأرض.
وقال عبد الله بن عرمون بن العص: إن ضوء الشمس والقمر ونورهما في السماء، وقرأ: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ. . .} الآية.
وقيل: التقدير: وجعل القمر نوراً، ثم قال: " فيهن " بعدما مضى الكلام. وسأل عبد الله بن عمرو رجل فقال له: ما بال الشمس تَصْلاَنا أحياناً وتبرد أحياناً؟ فقال: أما في الشتاء فهي في السماء السابعة تحت عرش الرحمن، وأما في الصيف فهي في السماء الخامسة، قيل له: ما كنا نظن إلا أنها في هذه السماء، قال: لو كان ذلك ما قام لها شيء إلا أحرقته.(12/7740)
- ثم قال: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً}.
أي: أنبتكم من تراب فخلقكم منه فنبتم نباتاً، يعني آدمَ أَبَا الخلقِ خَلَقَهُ من تراب الأرض.
- {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا.
. .}.
أي: في الأرض فتصيرون تراباً.
- {[وَيُخْرِجُكُمْ [. . .}.
منها إلى البعث.
- ثم قال: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً}.
[هذا] كله [أخبار] من الله جل ذكره لنا عن قول نوح لقومه ووعظه لهم وتنبيهه لهم لى آيات الله ونعمه عندهم.
فالمعنى: جعل لكم الأرض بساطاً لتستقروا عليها، {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}.
أي: طرقاً واسعة.
وقال ابن عباس: {سُبُلاً فِجَاجاً}، أي: " طرقاً مختلفة ".(12/7741)
- ثم (قال تعالى): {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً}.
أي: قال نوح لمّا عصاه قومه: يا رب، إنهم عصوني فيما بَلَّغتُهم عنك فلم يقبلوه واتبعوا أمر من لم يزد ماله وولده إلا خساراً، أي: ابتعوا في معصيتهم إياي من كثير ماله وولده فلم يزده ذلك إلا بعداً منك - يا رب -[وذهاباً] عن سبيلك.
ومن قرأ " وُلده " بالضم احتمل أن يكون/ جمع " وَلَد "، ك " وُثُن " جمع " وَثَنْ "، ويجوز أن يكون واحداً يراد به (غير) الولد: (وقد قال مجاهد: وُلده:(12/7742)
زوجه وأهله)، وقال أبو عمرو: وُلده: عشيرته وقومه.
وقال أكثر (أهل) اللغة: الوَلد الوُلد بمعنى واحد.
- ثم قال: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً}.
أي: كبيراً، يقال كُبَّارٌ وكُبَّارٌ بمعنى كبير، كما يقال: " أمر عجيب "، وعُجاب بمعنى واحد. ورجل حُسَانٌ وحُسَّان بمعنى. وجَمَأل وجُمَّال بمعنى جميل.
قال مجاهد: {كُبَّاراً} " عظيماً ".
- ثم قال: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ. .}.(12/7743)
أي: وقال بعضهم لبعض: لا تذرن عبادة آلهتكم [لقول] نوح {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}.
[" هذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها: أما وُدّ، فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يَغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف (بالجرف) عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحِمْيَر، لآل ذي الكلاع "].(12/7744)
قال محمد بن قيس: [هذه الأسماء] أسماء قوم صالحين بين آدم ونوح وكان لهم تباع يقتدون بهم، فماتوا، فقال تباعهم: لو صورناهم كان أشرف لنا نتذكرهم [فنفعل] مثل ما كانوا يفعلون، فصوروهم ثم ماتوا، وجاء آخرون فدب فيهم الشيطان، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم، فكان قوم نوح يحض بعضهم بعضاً على عبادتهم وترك قبول [قول] نوح.
وقيل: بل [كانوا أصناماً] يعبدونها (من دون الله) قاله ابن(12/7745)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
عباس وغيره.
- ثم قال {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً. . .}.
هذا إخبار عن قول نوح، أي وقد أضلت هذه الأصنام كثيراً من الخلق، أي ضل بعبادتها كثير.
- ثم قال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً}.
أي: لا توفقهم حتى يموتوا على ضلالتهم فكلما عاشوا ازدادوا إثماً وضلالاً.
- قوله: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ}.
أي: من عقوبة خطيئاتهم أَغرقَهُم الله ثم أَدخَلهم النار، يعني قوم نوح.
- {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً}.
أي: فلم يجدوا لأنفسهم ناصرين ينصرونهم من عذاب الله إذ جاءهم. و " ما " زائدة للتوكيد.
وقال الفراء: {مِّمَّا خطيائاتهم} معناه: من أجل خطيئاتهم، ف " ما " أفادت(12/7746)
هذا المعنى، قال: و " ما " تدل على المجازاة، ومنه قوله: حيث ما تكن أكن. وقد قرأ أبو عمرو: " خطاياهم "، جعله جمعاً مكسراً، واختاره لأنه مبني للتكثير، والمسلم الذي بالتاء: الأغلب في كلام العرب أن يكون للقليل، وليس خطايا قوم كفروا وألفَ سنةٍ بقليلة.
وعلة من قرأ بالجمع المسلم بالتاء أنه يقع للكثير كمَا يقع للقليل، وتختص الكثرة إذا عُلم المعنى. وقد قال الله: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] وقال {لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109]، فهل هذ جمع قليل في قول أحد؟ بل هو كثير، إذ قد علم المعنى،(12/7747)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
فكان ذاك، وقد قيل: إن الخطيئات جمع [خطايا] أيضاً، فهو جمع الجمع، وجمع الجمع بابه الكثير.
- ثم قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً}: أي: لا تدع على الأ {ض من يدور فيها ويحيى منهم فيها، والمعنى: من الكافرين أحداً، يعني قومه وغيرهم، دعا عليهم لما أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن} [هود: 36]، قاله قتادة وغيره.
- ثم قال: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ. . .}.(12/7748)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
أي: إنك يا رب إن تَدَع الكافرين على الأرض ولا تهلكهم/ بعذاب من عندك يضلوا المؤمنين من عبادك فيصدونهم عن سبيلك.
ثم قال: {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}.
أي: وليس يلدون إلا فاجراً في دينك، كفاراً لنعمتك.
والفاجر في اللغة: المائل عن الحق.
- ثم قال: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً. .}.
أي: اعف عن واستر علي ذنوبي وعلى والدي وعلى من دخل بيتي.
- أي: مسجدي - {مُؤْمِناً}: أي: مصدقاً بك.
قال الضحاك: {بَيْتِيَ} " مسجدي ".
[وقرأ] ابن جبير: (والدي): يعني أباه.(12/7749)
وقرأ يحيى بن يعمر (ولوالدي) يعني ابنيه.
وقوله (وللمؤمنين والمؤمنات) أي: وللمصدقين بتوحيدك ورسلك وكتبك المصدقات. روى عكرمة أن ابن عباس قال: إني لأرجو أن يكون من استجاب لنوح فأغرق بدعوته أهل الأرض جميعاً أن يستجيب له في كل مؤمن ومؤمننة إلى يوم القيامة، يعني بدعائه هذا الذي حكاه الله لنا عنه في هذه السورة.
- ثم قال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً}.
أي: ولا تزد الظالين أنفسهم بكفرهم بك إلا تباراً. قال مجاهد: تباراً: خساراً.
وقال الفراء: تباراً: ضلالاً.
وقيل: هلاكاً.(12/7750)
ويروي عن سفيان بن عيينة أنه قال لرجل: طب نفساً فقد دعت لك الملائكة نوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم [ ثم قرأ] {والملائكة يُسَبِّحُونَ (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: 5] يعني نم المؤمنين.
قال أبو محمد [مؤلفه رضي الله عنهـ]، وقد فسر الله هذا في آية أخرى، فأخبر عن الملائكة أنهم يقولون: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7].
قال سفيان: وقال ابراهيم: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] وقال الله جل ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19]. قال أبو محمد: ولا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمره الله به من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، فهذا دعاء لا منشك إن شاء الله - أن الله قد أجابه لنوح وإبراهيم ومحمد والملائكة، فمن مات على الإيمان فهو داخل تحت الدعوات المذكورات (إن شاء الله)، أماتنا الله على الإيمان وختم لنا بخير.(12/7751)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجن
مكية
- قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع}، إلى قوله: {شَطَطاً}.
أي: قل يا محمد (لأمتك) أوحى الله إليّ أنه استمع نفر من الجن القرآن ومضوا إلى قومهم.
- {فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد}.
أي: إلي ما فيه الرشد لمن قبله {فَآمَنَّا بِهِ. .} أي: فصدقنا به.
{وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً}.
أي: ولا نجعل لربنا شريكاً في عبادتنا إياه بل نعبده وحده.
قال ابن عباس: كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِحَرَاء يتلو القُرآن فَمَرّ بِهِ نَفَرٌ منَ الجِنِّ فاستمعوا إلى قِراءَته وآمَنوا بِهِ وَمَضوا إلى قومِهم مُنذرين، فَقَالوا ما حَكى الله عنهم.(12/7753)
وروى جابر بن عبد الله، وابن عمر " أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم سُورة الرّحمن، [فَكُلّما] قَرَأ عليهم {فَبِأَيِّ [آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ]} قالت الجِنّ: لا بِشيءٍ من إنعامك نكذب ربّنا. ولمّا قرأها النبيّ على أصحابه، قالَ: ما لي أراكم سُكُوتاً، [للجن] كانوا أحْسَنَ مِنكُم رَدًا ".
ومن فتح " أن " في {وَأَنَّهُ} وما بعدها عَطَفَه على الهاء في " به " فصدقنا به وصدقنا أنه تعالى وكذلك ما بعده.
وما لم يحسن فيه " صدقنا " " وآمنا " اضْمر له فعل يليق بالمعنى نحو قوله:(12/7754)
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى}، {وَأَنَّا ظَنَنَّآ}، {وَأَنَّهُ كَانَ (رِجَالٌ)}، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} وشبهه، كأنه أضمر " شهدنا "، لأن التصديق شهادة، وأضمر [أُلهِمنا] ونحوه، فإن في جميع ذلك في موضع نصب لأنه عطف على المعنى في: {فَآمَنَّا بِهِ} فأما من كسر، فإنه ابتداء " إن " بعد القول في قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا} ثم عطف (ما) بعدها عليها لأنه كله من قول الجن.
ومما يدل على قراءة الفتح دخول " أنّ " في قوله {وَأَلَّوِ استقاموا}، لأن " أنّ " لا [تدخل] مع " لو " في الحكاية فلما دخلت أن مع " لو " عُلِم أن ما قبلها وما بعدها لم يجعل على الحكاية أيضاً، وإذا لم يحمل على الحكاية لم يجب فيه الكسر، وإذا لم يُكسر وجب فتحه.(12/7755)
ولا يحسن أن يَعطِف من فتح على {أَنَّهُ (استمع} لأنه ليس كلّه يحسن فيه ذلك المعنى. لو قلت " وأوحى إليّ أنا ظننا " وأوحي إلي) أنه كان (يقول سفيهنا) لم يحسن شيء من ذلك لأنه مما حكى الله جل ذكره لنا من قول الجن، لا يجوز أن يعطف كلام الجن على ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لي منه. وعلة من كسر الجميع وفتح {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} وهو [أبو عمرو] وابن كثير، لأ، هـ ليس من قول الجن فيحمل على الحكاية، فَحَمَلَهُ على العطف على قوله: {أَنَّهُ استمع}، فهو في موضع رفع عَطْفٌ على المفعول الذي لم يسم فاعله وهو {أَنَّهُ استمع}.
فأما علة (من) فتح " أن " في قوله {وَأَلَّوِ استقاموا} وأجماعهم على ذلك فلأنها بعد يمين مقدرة فانقطعت عن النسق، والتقدير: والله أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً.
وكان سبب استماع الجن للقرآن (ما) قال ابن عباس، قال: " اِنْطَلَقَ(12/7756)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ (سُوقَ) عُكَاضٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَأُرْسِلَتْ عَلَيهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجِعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَّاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، فَقَالُوا: مَا حالَ بَيْنكُمْ وَبَيْنَ خَيبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا تَبْتَغُونَ مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. (فَانْصَرَفَ) أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ [تهَامَةَ] إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلَةٍ عَامِداً إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهَ صَلاَةَ الفَجْرِ، / فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، وَقَالُوا: هَذَا وَالله الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَهُنَاكَ حِينَ رَجِعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً(12/7757)
عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا (أَحَداً)، فأنزل الله جل ذكره ذلك على نبيه ".
قال زِرُّ ": قدم رهط [زوبعة] وأصحابه إلى مكة على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعوا قراءته ثم انصرفوا فهو قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ [القرآن}. قال]: وكانوا تسعةً، مِنْهُمْ [زوبعةُ].
قال الضحاك: قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} (هو قوله:(12/7758)
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن} ثم ذكر من الخبر (نحو) ما تقدم.
والنَّفَرُ في اللغة ثلاثة فأكثر.
- ثم قال: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا (مَا اتخذ). . .}.
أي: (وآمنا أنه تعالى، على قراءة من فتح.
وعلى قراءة من كسر، فتقديره: وقالوا إنه {تعالى جَدُّ رَبِّنَا}: أي) أَمْرُ ربنا وسلطانُه وقدرتُه.
قال ابن عباس: {جَدُّ رَبِّنَا}: " فعله وأمره وقدرته ". وهو قول قتادة والسدي وابن زيد. وقال عكرمة ومجاهد: {جَدُّ رَبِّنَا} جلاله وعظمته. وقال الحسن {جَدُّ رَبِّنَا} " غنى ربنا ".(12/7759)
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال: جَهِلَ الجِنُّ فيما قالو: والجَدّ [أبو] الأَبِ.
وعن مجاهد أيضاً {جَدُّ رَبِّنَا} " ذكره ". وعنه وعن عكرمة وقتادة: {جَدُّ رَبِّنَا} عظمته.
والجد في اللغة على وجوه، منها: الجَدّ أبو الأب وأبو الأم والجَدّ: الحظّ، وهو [البَخْتُ] بالفارسية والجَدّ: العَظَمَةُ. (والجَدّ مصدر [جَدَدْتُ] الشيء جَدّا، ولا يليق بهذا الموضع من كتاب الله من هذه الوجوه إلا العظمة.
- ثم قال: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً}.
أي: وشهدنا أنه (كان على قراءة من فتح " أن "، ومن كسر كان تقديره:(12/7760)
" وقالوا إنه كان يقول ". وكذلك التقدير في جميعها في الفتح أو الكسر. تقدر بالفتح: صدقنا أو آمنا أو شهدنا أو أُلْهِمنا ونحوه. وتقدر في الكسر " القول " لأنه معطوف على {إِنَّا سَمِعْنَا}.
والمعنى أن الله أخبرنا عن [قول] النَّفَرِ واعترافهم الخطأ الذي كانوا عليه.
من قبول قول إبليس اللعين فالمعنى: وإن إبليس كان يقول على الله شططاً والشطط: الغلو في الكذب.
قال قتادة ومجاهد وابن جريج: السفيه هنا إبليس ورواه أبو بُرْدَة عن(12/7761)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان: سمعت أن الرجل إذا سجد جلس (إبليس) يبكي يا ويله، أمرت بالسجود فعصيت [فلي] النار وأمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة.
والسفه [رقة] الحلم.
قال ابن زيد: {شَطَطاً} ظلماً كبيراً.
وقيل: الشطط: البعد [ومنه]: شط المِزار أي: بعد.
- قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله: {لِبَداً}.(12/7762)
أي: وإنّا حسبنا وتوهمنا أن أحداً لا يقول على الله الكذب. وذلك أنهم كانوا يحسبون أَ (نّ) إبليس كان صادقاً فيما [يدعوهم] إليه من صنوف الكفر. فما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في كل ذلك وسَمّوه سفيها.
[ثم قال]: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}.
هذا أيضاً من قول النفر من الجن.
ذكروا أن رجالاً من الإنس [كانوا] [يستجيرون] برجال من الجن في أسفارهم إذا نزلوا، فزاد الجنّ باستجارتهم (لهم) جرأة عليهم وأزداد الإنس إِثْماً.
قال ابن عباس: " فزادهم] إثماً وهو قول قتادة. فازداد الإنس بفعلهم ذلك إثماً، وازداد الجن على الإنس جرأة.(12/7763)
وقال مجاهد: أزداد الإنس بذلك طغياناً.
وقال الربيع ابن أنس: فازداد الإنس لذلك فَرقاً من الجن.
وهو قول ابن زيد.
وقال أبو عبيدة: رهقاً: سفهاً وظلماً.
والرهق في كلام العرب: الإثم والعيب وإتيان المحارم. ومنه: فلان يرهق بكذا، أي: يعاب به. فيكون التقدير: فزاد الجنّ الإنس إِثماً لمّا [استعاذوا] بهم. وكان ذلك من فعل المشركين. قال ابن عباس وغيره: كان رجال من الإنس يَبِيتُ أحدهم في الوادي في الجاهلية، فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثماً.
وقال الحسن: كان الرجل إذا نزل في الوادي يقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي من(12/7764)
سفهاء قومه.
وقال النخعي: كان الرجل إذا نزل [الوادي] يقول: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر (ما) فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً.
وقال مجاهد: كانوا يقولون إذا هبطوا وادياً: نعوذ بعظماء هذا الوادي وهو قول قتادة وغيره.
- ثم قال: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً}.
أي: وإن الرجال من الجن ظنوا كما ظن الرجال من الإنس أن الله لا يبعث أحداً، أي: رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده. قاله الكلبي.(12/7765)
وقال غيره: معناه: وأن الجن ظنوا كما ظن الكفار من الإنس أن الله لا يبعث أحداً يوم القيامة.
- ثم قال: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً/}.
[وقال النفر من الجن إنا طلبنا خبر السماء فوجدناها قد ملئت حفظاً مانعاً] [وشبهاً] نُرْجَم بها إذا أردنا الاستماع. والشُّهب: النُّجُوم.
وقال ابن جبير: كانت الجن [تستمع]، فلما رُجموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء إنما هو لشيء حدث في الأرض. قال: فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً من سوق عُكَاظٍ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، إلى أصحابهم منذرين.
- ثم قال: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ .... }(12/7766)
أي: وقالوا: إنا كنا نقعد من السماء في مقاعد نستمع الأخبار.
- {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً}.
أي: من أتي يستمع الساعة يرمي بشهاب يرمد به إذا دنا فَيُرمى به، قال قتادة: لما بعث الله نبيه مُنِعُوا الاستماع [فَتَفَقَّدَتِ] الجن ذلك من أنفسها، قال: وذُكشرَ لنا أن أشراف الجن كانوا [بنصيبين] (فطلبوا ذلك] وضربوا إليه حتى سقطوا على نبي الله وهو يصلي بأصحابه عامداً إلى عكاظ.
قال ابن زيد: قالوا كنا نستمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً، فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس، فقالوا مُنِع (منَّا) السمع. فقال: إن السماء لم تحرس إلا على [أمرين]: إما العذاب] يريد الله عز وجل أن ينزله بغتة على أهل(12/7767)
الأرض، وإما نبي مرسل مرشد فذلك قول الله تعالى حكاية عن قولهم {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ (رَبُّهُمْ) رَشَداً}.
(أي) قال إبليس لا ندري أعذاب ينزل على من في الأرض بغتة، فمُنِعْتُم من أجله الاستماع؟ أم نبي أرسله الله ليرشد من في الأرض إلى الطريق المستقيم؟ هذا معنى قول ابن زيد.
وقال الكلبي: معناه: أنهم قالوا: لا ندري أهذا المنع الذي منعنا، أراد بهم ربهم أن يطيعوا الرسول فَيَرْشُدُوا أم يعصوه فيهلكهم وهذا كله من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
- ثم قال: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ. . .}.
أي: قال النفر: وإنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا من هو دون ذلك في الصلاح والعمل.(12/7768)
- {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً}.
أي: كنا أهواء مختلفة وفرقاً شتى، الصّالِح والذي هُوَ دُونَه، والكافِرِ.
قال ابن عباس: {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} (أي) أهواء شتى مِنّا المُسلم ومن المُشرك.
وقال عكرمة: " أهواء مختلفة ".
وقال قتادة: " أهواء شتى ".
وقال مجاهد: " مسلمين وكافرين " وهو قول سفيان.
والقِدَد جمع قدة، وهي الضُّروبُ والأَجناس المختلفة. والطرائق جمع طريقة الرجل أي مذهبه.
- ثم قال {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض. . .}.
أي: وإنّا علمنا وأَيْقَنّا أن لن نفوت الله بالهروب في الأرض ولا بغيره، وَصَفوهُ - جل ذِكره - بالقدرة عليهم.(12/7769)
- ثم قال: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى آمَنَّا بِهِ. . .}.
أي: لما سمعنا القرآن [يؤدي] من آمن به إلى الهدى صدقنا به.
- {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً}.
[أي: ومن يصدق بربه فلا خاف بخساً) أي: أن ينقص من حسناته وثوابه].
- {وَلاَ رَهَقاً}.
(أي): لا يُحمل من سيئات غيره عليه.
قال ابن عباس: {بَخْساً وَلاَ رَهَقاً}، أي: " لا يخاف نقصاً من حسناته، ولا زيادة في سيئاته ".
قال قتادة: {بَخْساً}: ظلما، {وَلاَ رَهَقاً}: أن يعمل عليه ذنب غيره.
- ثم قال: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون. . .}.
أي: الجائرون عن الهدى.(12/7770)
- {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً}.
أي: [تعمدوا الرشد] وأصابوه.
- ثم قال: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً}.
أي: وأما العادلون الجائرون عن الهدى فكانوا حطباً يوم القيامة لجهنم.
- ثم قال: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. . .}.
كل ما تقدم من إخبار الله هو من قول الجن إلا هذا، فإنه من قول الله، أي: لو استقام القاسطون [على] طريقة الحق [أي]: طريقة الإسلام وهي [الطاعمة] لله، لَوَسّعْنا عليهم في الرزق لنختبرهم فيه فننظر عملهم وشكرهم. قاله ابن جبير وقتادة ومجاهد [قاله مجاهد: الطريقة: الإسلام، والماء: المال، والغدق: الكثير].
والغَدَق: الماء الظاهر، والرَّغَد: الكَثِير، والماء يُراد به العيش والرزق.(12/7771)
وقيل: معناه: لو استقاموا على طريقة الضلال لَوَسَّعنا عليهم في الرزق استدراجاً، ذكر الضحاك وقاله الفراء.
(و) القول الأول أصح كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرىءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بركات. . .} [الأعراف: 96] الآية.
- ثم قال: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ. . .}.
أي: عن القرآن [وقبوله].
{يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}.(12/7772)
أي: ندخله عذاباً شديداً قال ابن عباس {عَذَاباً صَعَداً}، أي: مشقة من العذاب وقال قتادة {صَعَداً} أي: صعوداً من عذاب الله/ لا راحة فيه وقال أبو سعيد الخدري: {عَذَاباً صَعَداً}: هو جبل في النار، كلما جعلوا أيديهم [عليه] ذابت، وإذا رفعوها عادت ويقال: تَصَعّدني الشّيء أي: شقّ عَلَيّ.
وقرأ مسلم بن جندب: نُسلِكه، جعله رباعياً. يقال: سَلَكه وأَسلَكه. ويقال: سَلَكَ، وهو وَسَلَكْتُهُ مثل رَجَعَ ورَجَعْتُهُ.
- ثم قال: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً}.
أي: وأوحي إلى أن المساجد لله {فَلاَ تَدْعُواْ} أيها الناس {مَعَ الله أَحَداً} أي: لا(12/7773)
تشركوا به قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كناسئهم وبِيَعَهُم اشركوا، فأمر الله نبيه أن يوحدوا الله وحده إذا دخلوا المساجد. قال ابن جبير: قالت الجن للنبي: كيف لنا أن نأتي المساجد ونحن [ناءون] عنك، وكيف نشهد الصلاة، فنزلت {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} الآية والمساجد جمع مسجد. ومسجد يعني السجود، فكأنه قال: وأن السجود لله لا لغيره. ويجوز أن يكون جمع مسجد هو موضع السجود.
وقال الفراء (يقال) {[وَ] أَنَّ المساجد لِلَّهِ}، يراد به مساجد الرجل، ما يسجد عليه من جبهته ويديه وركبتيه وصدور قدميه.(12/7774)
وأنكر ذلك النحاس وغيره.
وقوله: {فَلاَ تَدْعُواْ} خطاب للجماعة والنون حذفت للنهي.
- ثم قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}.
أي: لما قام (محمد يدعو الله) يقول: لا إله إلا الله، كاد الجن يكونون على محمد لبداً، أي جماعات بعضها فوق بعض.
وواحد لِبَد: لِبْدة. ويقال: لُبد - بضم اللام - واحدها لُبْدة.
فمن كسر [{وَأَنَّهُ}] جعله من قول الجن إخباراً من الله لنا عن قولهم ذلك، ويكون المعنى على ما قال ابن جبير أن الجن رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فعجبوا من طوعهم له فقالوا لقومهم: وإنه لما قام عبد الله يدعو الله كاد أصحابه يكونون عليه لِبَداً.(12/7775)
ويجوز الكسر، وهو من كلام الله، لا حكاية عن الجن ويكون المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام يدعو إلى الله كاد الجن يكونون عليه لِبَداً.
فأما من فتح فهو من كلام الله أيضاً على هذا المعنى، أي: كاد الجن [يركبون محمد من الحرص] لما سمعوه يتلو القرآن فدنوا منه حتى كادوا يركبونه، هذا معنى قول ابن عباس والضحاك، فيكون الضميران في (كادوا يكونون) للجن.
وعن ابن عباس أيضاً أن معناه (أن) الجن قالوا لقومهم، إن محمد لمّا قام يدعو الله كاد أصحابه يركبونه لتقربهم منه وطوعهم له، فيكون الضّميرانِ لأصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن جبير.
[وعن ابن عباس {لِبَداً}: أعواناً].
وقال قتادة: معناه أن الله أعلم نبيه أن الجن والإنس يتظاهرون عليه ليبطلوا ما جاءهم (به) لمّا دَعا إلى الله، والله ناصِرُه عليهم.(12/7776)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
وقيل: إن ذلك للعرب خاصة أرادوا أن يطفئوا النور الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار الطبري.
- قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي. . .} إلى آخر السورة.
أي: " قال محمد صلى الله عليه وسلم، لما تظاهرت على إنكار ما جاء به العرب، إنما أدعو ربي وأوحده ولا أشرك به " وهذا يدل على أن معنى {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تراكبت العرب (عليه).
وتظافرت ليردوا قوله ويُطفئو النور الذي جاء فقال لهم: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}. من قرأ (قل) جعله على الأمر من الله لنبيه، أي: قل: لهؤلاء الذين تظاهروا عليك لما دعوتهم إلى التوحيد: إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا.(12/7777)
- (ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}.
أي: قل يا محمد لمشركي العرب الذين ردوا عليك أني لا أملك [لكم] ضراً في دينكم ولا دنياكم، ولا أملك لكم رشدكم، إنما ذلك إلى الله).
- ثم قال: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ. . .}.
أي: لن يمنعني من الله أحد إن أرادني بأمر.
وروي أن بعض الجن قال: أنا أجيره، فنزلت هذه الآية ونزلت {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي: لا ملجأ ولا ناصراً ألجأ إليه.
- ثم قال: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ/. . .}.
أي: لا أملك لكم ضراً ولا رشداً {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ} أي: أملك إلا أن أبلغكم عن الله رسالاته التي أرسلني بها إليكم فأما الرشد والخذلا ن فبيد الله.
وقيل [إلا] بمعنى " لم " و " إن " منفصلة، والتقدير: قل إني لن يجيرني من الله(12/7778)
أحد [إن] لم أبلغ رسالاته إليكم بلاغاً، فَيَنْتَصب بلاغاً بإضمار (فعل من الجزاء وتكون للجزاء كما تقول: إلا قياماً) فقعوداً، وإلا عطاءً فرداً جميلاً.
- ثم قال: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً}.
أي: من يعصهما فيما أمَرا به فإن له نار جهنم في الآخرة ماكثين فيها أبداً لا يخرجون ولا يموتون.
- ثم قال: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ. . .}.
أي: إذا عاينوا ما يعدهم ربهم من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ} هنالك {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}.
- ثم قال: {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ. . .}.
أي: قل للمشركين يا محمد -: ما أدري أقريب قيام الساعة التي وعدكم [الله] بالجزاء فيها على أعمالكم.
{أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً}.(12/7779)
(أي): أم هو غير قريب قد جعل له ربي وقتا وغاية تطول مدتها.
- ثم قال: {عالم الغيب. . .}.
أي: ما غاب عن العيون والأسماع.
{فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً}.
أي: يعلم غيب كل شيء ولا يعلم غيبه أحد.
- {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ. . .}.
أي: فإنه يطلعه من غيبه على ما شاء وقيل: الغيب الذي يطلع الرسل عليه كتبه التي أنزلها عليهم.
وقال الضحاك: كان صلى الله عليه وسلم، إذا بعث إليه الملك بُعِث ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه لئلا يشتبه عليه الشيطان في صورة الملك فهو معنى قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}، وقاله النخعي. وقال ابن عباس: هي(12/7780)
معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشياطين حتى يتبين له الذين أرسل به إليه.
- ثم قال: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ. . .}.
أي: ليعلم أهل الشرك أن الرسل بلغوا إليهم رسالة ربهم.
وقيل: المعنى: ليعلم [الرسول] وهو محمد أن الرسل قبله قد بلغوا رسالات ربهم لقومهم ولم يكن للشيطان إليهم سبيل، وهو قول قتادة، وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغ الرسل رسالة ربهم.
وقال: معمر: معناه: ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغت عن الله وأن الله حَفِظها ودفع عنها. وهو مثل قول قتادة. وقال ابن جبير: معناه: ليعلم محمد أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم. قال: وما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة حفظة(12/7781)
من الملائكة. ودل على ذلك قوله قبل ذلك {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} قال ابن جبير: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل عليه السلام.
وقيل معنى الآية: ليعلم الله ذلك علماً مشاهداً تجب عليه المُجازاة فأما الغيب فقد علمه، كقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} [آل عمران: 140].
- وقوله: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ. . .}.
أي: وعلم كل ما عندهم يعني الرسل قبل محمد، قال ابن جبير معناه ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بهم فيبلغوا رسالات ربهم.
- ثم قال: {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.
أي: وعلم عدد كل شيء، [و {عَدَداً}] منصوب على التمييز.(12/7782)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المزمل
مكيةإلا آيتين من آخرها [نزلتا] بالمدينة قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... ) إلى آخرها.
قوله: {يا أيها المزمل * قُمِ اليل} إلى قوله: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً}.(12/7783)
معناه: يا أيها الملتف بثيابه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصله: المتزمل ثم أدغمت التاء في [الزاي].
قال قتادة: إنما قيل له: {يا أيها المزمل}؛ لأنه كان متزملاً في ثيابه، كأنه متأهب للصلاة؛ ودل على ذلك قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً}.
قال ابن عباس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَفْرقَ من جبريل فيتزمل بالثياب في أول ما جاءه حتى أنس به.
وقال عكرمة: زمل هذا الأمر، يعني: النبوة والرسالة.
قال: الزهري: التف النبي - صلى الله عليه وسلم - بثيابه من [فزع] أصابه أول ما رأى الملك فنودي بصفة فعله.
وقيل: كان يتزمل بالثياب، من شدة ما يلقى من قريش من تكذيبهم له(12/7784)
[وتخويفهم] وأَذَاهُم.
قال [النخعي] كان متزملاً في قطيفة.
- قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً/}.
أي: قم الليل كله للصلاة إلا قليلاً ثم أبدل من الليل بدل البعض من الكل فقال:
- {نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً}.
أي: قم نصفه أو أقل من النصف.
- {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ. . .}.
[أي]: أو زد على النصف.
فهذا كله تخيير من الله لرسوله بين أن يفعل ما شاء من هذه الثلاث المنازل: يقوم النصف أو أقل أو أكثر.
وكان هذا فرضاً عليه وعلى المؤمنين فكانوا يقومون ثم خففه عنهم الآيتين(12/7785)
في آخر السورة فَفَسَخَتَا هَذَا، وهو قول أكثر العلماء.
وقيل: إن ذلك كان ندباً ولم يكن فَرِْضاً.
وقيل: بل كان فرضاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده.
قال ابن عباس: كان بين أولها وآخرها سنة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما نزل {يا أيها المزمل} كان الرجل يربط الحبل ويتعلق به فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله مايبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.
وقال ابن جبير: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل كما أمره (الله) عشر سنين ثم(12/7786)
خفف عنهم بعد ذلك.
قال عكرمة: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً. . .} الآية نسختها الآية التي في آخرها {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20].
وقال قتادة: قاموا حولاً أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم، فأنزل الله تخفيفها في آخر السورة.
قال الحسن: لما نزلت: {يا أيها المزمل} " قام المسلمون حولاً، فمنهم من أطاقه ومنهم من لم يطقه، حتى نزلت الرخصة ".
قال ابن زيد: أول ما افترض الله على رسوله والمؤمنين صلاة الليل وقراً أول هذه السورة.
- قوله: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً. . .}.
أي: وبيّن القرآن إذا قرأته في صلاتك تبييناً (وترسل فيه ترسلاً)، قاله(12/7787)
قتادة.
قال الحسن: معناه (اقرأه) قراءة بينة).
وقال مجاهد: " قرأه بعضه على إثر بعض على تؤده ".
والرتل في اللغة: الضعف واللين، فالمعنى: لين القراءة، ولا تستعجل بانكماش.
والرتل في [الأسنان] أن يكون بينها الفرج ولا يركب بعضها بعضاً، يقال: " ثغر ورتل " إذا كان كذلك.
- ثم قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}.(12/7788)
أي: ثقيلاً العمل به وبحدود (هـ) فرائضه أي: صعباً.
قال الحسن: إن الرجل ليعد السورة، ولكن العمل بها ثقيل.
وقال قتادة: " ثقيل والله فرائض القرآن وحدوده ".
وقيل: معناه: إن القوْل بعيّنِه ثقيل.
وروى عروة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[ كان] إذا أُوحِيَ إليه وهو على ناقته وَضَعَتْ جِرَانَهَا - يعني صدرها - فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه ".
وقال ابن زيد: " هو - والله - ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين(12/7789)
يوم القيامة ".
- ثم قال: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً. . .}.
قال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين، ناشئة الليل: ما بين المغرب والعشاء.
وقال الحسن والحكم: ناشئة الليل من العشاء والآخرة إلى الصبح، وقال ابن عباس و (ابن) الزبير: الليل كله ناشئة. وهو قول ابن جبير ومجاهد. وأصله من نشأ إذا ابتدأ. فعلى هذا بناه من قال إنه من المغرب إلى العشاء الآخرة.
وقد قال الكسائي: ناشئة الليل أوله.(12/7790)
- قوله: {أَشَدُّ وَطْأً. . .}.
معناه: أثبت قياماً.
قال المفسرون: هي أثبت في الخير وأحفظ للقلب، لأن النهار يضطرب فيه الناس لمعاشهم، والليل أخلى وأثبته في القيام.
وقيل: معناه: إن صلاة ناشئة الليل هي أشد (وطئاً) على المصلى من صلاة النهار لأن الليل للنوم، فهي وإن كانت أصعب [فهي] أقوم قيلاً [أي]: أصوب قولا لأن القارئ لا يشغله عن قراءته في الليل شيء ويشغله في النهار ما يرى من التصرف وما [يعرض] له من الأمور.
وقيل: معنى {أَشَدُّ وَطْأً}: أشد أمراً وأشد [مكابدة] واحتمالاً ومنه قول(12/7791)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم اشد وطأتك على مضر "، وَطِئْتَ وَطْأً، مثل شَرِبت شُرْباً ولَقِيمْتُ لَقْماً.
فأما من قرأ " وِطَاءَ " فإنه جعله مصدر مواطأة ووطاء.
ومعناه: أشد مواطأة للسمع والقلب، أي: يواطئ فيه السمع القلب فلا يشتغل القلب بشيء عنم فهم ما يقرأ وسماعه. وقيل: معناه: أشد علاجاً.(12/7792)
قال ابن عباس: {أَشَدُّ وَطْأً} أي: أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليهم من القيام. قال: وكانت صلاتهم أول الليل.
وقال الضحاك: معناه: قراءة القرآن بالليل أثبت منها في النهار.
وقال مجاهد: {أَشَدُّ وَطْأً} أي يتواطأ قلبك وسمعك وبصرك بعضه بعضا.
- وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلاً}.
أي: وأصوب قراءة.
قال/ مجاهد: وأثبت قراءة.
وقال ابن عباس: معناه: يقول: أدنى أن يفقهوا في القول.(12/7793)
وقال قتادة: " [أحفظ] للقراءة ".
وقال ابن زيد: " وقوم قراءة لفراغه من الدنيا ".
- ثم قال: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً}.
أي: فراغاً طويلاً، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال ابن زيد: (سبحاً لحوائجك) فَأَفْرِغْ أذنك بالليل.
وقرأ يحيى بن يعمر: " سَبْخاً " بالخاء المعجمة، ومعناه راحة [نوماً].
- ثم قال {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}.
أي: واذكر ربك يا محمد فادعه وانقطع إليه انقطاعاً لحوائجك وعبادتك(12/7794)
دون سائر الأشياء غيره. يقال: بتلت هذا الأمر قطعته.
ومنه قيل لمريم البتول لانقطاعها إلى الله جل ذكره.
قال ابن عباس: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي: أُخْلِص له إخلاصاً " وهو قول مجاهد والضحاك.
وقال الحسن: أَبْتِلْ إليه نفسك واجتهد.
وقال قتادة: " أخلص له العبادة والدعوة ".
وقال ابن زيد: تفرغ لعبادته، [تَعَبّدْ] بالتبتل] إلى الله.
- ثم قال: {رَّبُّ المشرق والمغرب}.(12/7795)
أي: هو رب ذلك لا معبود تصلح له العبادة غيره.
- {فاتخذه وَكِيلاً}.
أي: فرض (إليه أسبابك) والمعنى: اتخذه كافياً لك.
وقيل: معناه: اتخده كفيلاً لك بأمورك كلها.
وقيل: المعنى: اتخده رباً.
فالوكيل يكون بمعنى الكافي وبمعنى الكافل وبمعنى الرب.
- ثم قال: {واصبر على مَا يَقُولُونَ. . .}.
أي: واصبر على ما يقول هؤلاء المشركون من قومك واحتمل أذاهم.
- {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً}.
(أي: اهجرهم في الله هجراً جميلاً).
قال قتادة: كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم أُمِرَ بقتالهم (وقتلهم) فنَسخت(12/7796)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
آيةٌ القتال ما كان قبلها من الترك.
ثم قال: {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة. . .}.
هذا وعيد وتَهَدُّدٌ من الله جل ذكره للمشركين أي: ودعني يا محمد والمكذبين بآياتي أصحاب التنعم في الدنيا.
- {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً}.
أي: أمهلهم بالعذاب حتى يبلغ الكتاب أجله.
وكان بين نزول هذه الآية وَبَدْرٍ يسير [قالته] عائشة رضي الله عنها.
- قوله: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً. . .} إلى آخر السورة.
أي: عندنا لهؤلاء المكذبين قيوداً [وناراً] تسعر وطعاماً يُغَصُّ آكِلُهُ به،(12/7797)
فلا هو نازل من حلقه ولا هو خارج منه.
- {وَعَذَاباً أَلِيماً}.
ي: وصنوفاً من العذاب [مؤلمة] موجعة.
وواحد الأنكال نِكل. قال حماد {أَنكَالاً} قيوداً سوداً من نار جهنم ".
قال ابن عباس: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قال: " هو شوك يَأْخُذُ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج ".
وقال مجاهد: هو " شجرة الزقوم ".
وروى حمزة [الزيات] أن [حُمْرَانَ بن أَعْيَنَ] قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذة(12/7798)
الآية فصعق - صلى الله عليه وسلم -؟
- ثم قال تعالى: {يَوْمَ (تَرْجُفُ) الأرض (والجبال). . .}.
أي: أعتدنا هذا العذاب في يوم تضطرب فيه الأرض والجبال، وذلك يوم القيامة.
- ثم قال: {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً}.
أي: وصارت الجبال ذلك اليوم رملاً سائلاً. (متناثراً). يقال: هِلْتُ التراب إذا [حركت أسفله] (فسقط أعلاه). قاله الفراء.
وقال أبو عبيدة: يقال لكل شيء [أرسلته] إرسالاً من رمل أو تراب أو(12/7799)
طعام أو نحو ذلك قد هلته [أهيله] هيلا فهو مهيل.
قال ابن عباس: {كَثِيباً مَّهِيلاً}: رملاً سائلاً.
والأصل في مهيل [مهيول] فألقيت حركت الياء [على الهاء وبقيت] الياء ساكنة وبعدها الواو ساكنة.
فمذهب الخليل وسيبويه أن الواو حذفت لأنها زائدة وكسرت الهاء لمجاورتها الياء فصار مَهِيلاً.
ومذهب الكسائي والفراء والأخفش أن الياء هي المحذوفة لأن الواو جاءت لمعنى فلا تحذف، ولكن الهاء لما جاورت الياء كسرت، فلما حذفت الياء لالتقاء الساكنين انقلبت الواو (ياء) [لانكسار] ما قبلها وسكونها.(12/7800)
وكلهم يجيز أن يأتي على الأصل فيقال: مهيول. ولا يجيز البصريون ذلك في ذوات الواو ولا يجيزون: " كلام مقول " لثقل ذلك.
وكلهم أجاز: " رجل مهول " و " ثوب مبوع " على لغة من قال: بوع الثوب.
- ثم قال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ/ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ}.
يعمي محمداً، والخطاب لجميع الخلق أي يشهد لمن آمن به وعلى من كذبه في الآخرة.
- ثم قال: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.
أي: أرسلنا محمداً [إرسالاً (كما) أي]: مثلما أرسلنا موسى إلى فرعون.
- {فعصى فِرْعَوْنُ. . .} موسى {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}.
أي: شديداً، فغرَّقناه ومن معه في البحر وأقررناه في عذاب مستقر حتى يصير إلى النار يوم القيامة، فكذلك يأخذكم بالعذاب أيها الخلق إن عصيتم رسولكم.
ودخلت الألف واللام في لفظ " رسول " الثاني لتقدم ذكره، وعلى هذا يختار في أول الكتب: " سَلاَمٌ عَلَيْكَ " وفي آخرها: والسْلاَمُ عَلَيْكَ. وعلى هذا اختار بعض(12/7801)
العلماء (في التسليم)، في التسليمة الأولى: سْلاَمٌ عَلَيْكَم، وفي الثانية: السْلاَمُ عَلَيْكَم.
فأَعْلَمَ الله قريشاً أنه أرسل إليهم محمداً رسولاً كما أرسل موسى إلى فرعون رسولاً. وقد كان أمرُ موسى ورسالاته مشهورة عندهم ولذلك قال الشاعر في النبي - صلى الله عليه وسلم -.
شَهِدْتُ بِإذْنِ اللهِ أَنَّ مُحَمَداً ... رَسُولٌ كَمُوسَى (أُوتِيَ) الصُحْفَ والْكُتْبَا
لَهُ دَعْوَةٌ مَيْمُونَةٌ رِيحُها الصِّبَا ... بِهَا يُنْبِتُ اللهً [الحَصِيدَةَ] وَالأبَّا(12/7802)
- ثم قال: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً}.
أي: كيف (لا) تخافون أيها الناس يوماً يجعل الولدان الصغار أصحاب شيب من هَوْلِهِ وصعوبته إن كفرتم بالله ولم تصدقوا رسولكم؟!.
قال قتادة: معناه: كيف تتقون يوما هذه صعوبته وأنتم قد كفرتم به.
- {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ. . .}.
قال ابن عباس تشقق السماء حين ينزل الرحمن ذكره.
وقال مجاهد: السماء مثقلة به أي بيوم القيامة.
وقال الحسن: مثقلة. أي: محزونة بيوم القيامة.(12/7803)
وقال عكرمة: ممتلئة [به].
وقيل: (به) بمعنى " فيه "، (أي): السماء منفطرة في يوم القيامة، والضمير في (يجعل) ليوم القيامة، ويجوز أن يكون لله جل ذكره.
- ثم قال: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}.
أي: ليس لوعده خُلْفٌ.
قال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة دعا ربُّنَا المَلِكُ آدمَ عليه السلام فيقول: يا آدم، قم فابعث (بعث) النار، فيقول: (أي) رب! لا علم لي إلا ما علمتني، فيقول الله جل ذكره: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين: فيساقون إلى النار سوداً مقرنين زُرْقاً فيشيب هنالك كل وليد.(12/7804)
قال بان زيد: يشيب الصغار من كرب ذلك اليوم.
- ثم قال: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ. . .}.
أي: هذه الآيات - في ذكر هول القيامة - عبرة وعظة لمن اتعظ.
- {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً. . .}.
هذا تهدد، والمعنى: فمن شاء اتخذ إلى (رحمة) ربه طريقا بتركه العصيان وقبوله للإيمان، ومن لم يشاء ذلك فالله له بالمرصاد.
- ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ. . .}.
هذا حين فرض الله عليهم قيام الليل بقوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}.(12/7805)
فالمعنى: على قراءة من خفض {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم للصلاة أحياناً أدنى من ثلثي الليل [وأحياناً أدنى] من نصفه وأحياناً أدنى من ثلثه، فأَعْلَمَهُ أنه [لا] علم له بالمقدار وأن الله هو العالم بمقدار الوقت الذي يقوم فيه. ودل على ذلك {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي: علم الله أنك لا تعرف مقدار قيامك.
فأما من قرأ بنصب (نصفه وثلثه) فمعناه: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم للصلاة أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفَه وتقوم ثلثَه، فيكون المعنى أن النبي قد أصاب المقدار في قيامه النصِّفَ: (و) الثُّلَثَ، ويكون قوله {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} هو أدنى من الثلثين، {نِّصْفَهُ} هو النصف المذكور هنا، {أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} هو الثلث(12/7806)
المذكور هنا، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} هو أدنى من الثلثين أيضا المذكور هنا.
ويكون على هذا التأويل معنى {أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي تطيقوه. وعلى القول الأول معناه: [أن] لن تعرفوا مقداره.
- وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ. . .}.
أي تاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم وضعفتم عنه أي: رجع لكم إلى التخفيف عنكم. هذا كله ناسخ لفرض القيام في أول السورة.
- ثم قال: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن. . .}.
أي: ما خف عليكم مما هو دون الثلث.
- ثم قال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى. . .}.
أي: أنه سيكون منكم مرضى (فلا يقدرون) على القيام فخفف عنكم ذلك.
ثم قال/: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله. . .}.(12/7807)
أي: وعلم أنه سيكون منكم مسافرون للتجارة فيَشِقَّ عليهم القيام [لشغلهم] مع تعبهم من سفرهم، وعلم أنه سيكون منكم آخرون يجاهدون العدو فيشق عليهم القيامة لشغلهم مع عدوهم فخفف عنهم القيام لذلك.
- ثم قال: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. . .}.
أي: من القرآن، أي ما خف عليكم.
قال الحسن وابن سيرين: صلاة الليل فرض على كل مسلم لو قَدْرَ حَلْبَ شاةٍ بقوله {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال الحسن: ولو خمسين آية.
وسئل الحسن عن رجل استظهر القرآن ولا يقوم به فقال: يتوسد القرآن، لعن الله ذلك.
وقال السدي {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}: " مائة آية ".
وقال الحسن: (من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن).(12/7808)
قال كعب: من قرأ مائة في ليلة كتب من القانتين.
وقيل: الآية منسوخة لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا فرض إلا خمس صلوات، وعلى ذلك أجمع المسلمون وهو الصواب إن شاء الله.
- ثم قال: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}.(12/7809)
يعني الفرض من ذلك، أي: أقيموا ذلك بحدوده وفروضه في أوقاته.
- ثم قال: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً. . .}.
أي: أنفقوا في سبيله من أموالكم.
قال ابن زيد: القرض هنا: النواف سوى الزكاة.
- ثم قال: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله. . .}.
أي: ما تقدموا في الدنيا من صدقة أو نفقة في سبيل الله أو غير ذلك من فعل الخير لطلب ما عند الله تجدوه في [معادكم] يجازيكم به الله.
- ثم قال: {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}.
أي: هو [خير] مما علتم في الدنيا للدنيا، وأعظم ثوابا عند الله.(12/7810)
- ثم قال: {واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أي: واسألوا الله المغفرة، إنه (غفور)، أي: ذو غفران لذنوب المؤمنين وستر عليهم (رحيم) بم أن يعذبهم [على ذنوبهم] بعد توبتهم منها وغفرانه لهم.(12/7811)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثر
مكية
- قوله تعالى: {يا أيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ}.
أي: يا أيها المدثر بثيابه عند نومه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم [ قيل له ذلك] وهو متدثر بقطيفة. ذكره النخعي.
وروي أن هذا أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم.
رواه جابر بن عبد الله قال: " حَدَّثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: جَاوَرْتُ فِي حِرَاءَ، فَلَمَّا(12/7813)
قَضَيْتُ [جِوَارِي] هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ [الوَادِيَ]، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَخَلْفِي (وَقُدَّامِي) فَلَمْ أَرَ شَيْئاً، فَنَظَرْتُ فَوْقَ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ - يَعْنِي المَلَكَ - جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ [فَجُثِثْتُ] مِنْهُ. فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، (دَثِّرُونِي)، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً. وَأُنْزِلَ عَلَيَّ {يا أيها المدثر} ".(12/7814)
وقال الزهري: كان أول شيء أنزل عليه: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} حتى بلغ {(عَلَّمَ الإنسان) مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].
قال ابن عباس: {يا أيها المدثر}: " يأ أيها النائم ".
وقال قتادة: المدثر في ثيابه.
وقال عكرمة: معناه: " دُثر هذا الأمر فقم به "، يعني النبوة.
- وقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ}.
أي: قم من نومك فأنذر قومك عذاب الله على شركهم بالله.
- {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.
أي: فعظم.
- {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.
أي: لا تلبسها على معصية ولا [غدرة]. قاله ابن عباس.(12/7815)
وعنه أيضاً: فطَهِّرْها من الإثم.
وقال النخعي: فطهرها من الذنوب.
والعرب تقول لرجل إذا نكث ولم يف بعده: إنه لدنس الثياب، وإذا أوفى بعهده، وأصلح: إن لمُطَهَّر الثياب.
وقال الضحاك: معناه: " لا تلبس ثيابك على معصية ".
وقال ابن زيد: معناه: " وعملك فأصلحه "، قال: والعرب تقول للرجل الخبيث العمل: فلان خبيث الثياب. وإذا كان حسن العمل (قالوا: فلان طاهر الثياب.(12/7816)
وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " لا تلبس ثيابك) من [مكسب] غير طيب.
وعن مجاهد أن معناه: " لست بكاهن ولا ساحر، فأَعْرِض عما قالوا ". (وقال) ابن سرين: معناه: اغسل ثيابك من النجاسة. وهو قول ابن زيد، وبهذا احتج الشافعي في وجوب طهارة الثوب (وأنه فرض.
مذهب مالك أن طهارة الثوب ليس بفرض، وهو قول هل المدينة وإنما طهارة الثوب) سنة. ولذلك، من صلى بثوب نجس ولا يعلم أعاد في(12/7817)
الوقت. ولو كانت طهارة الثوب/ فرضاً لأعاد أبداً. وكذكك البدن تقع فيه النجاسة ليست طهارته فرضاً. يدل على ذلك إجماع المسلمين على أن صلاة من استجمر بالحجارة من الغائط جائزة، مع أن موضع خروج الأذى لم يغسل بالماء.
- ثم قال: {والرجز فاهجر}.
أي: والأَوْثَانَ فاهجر عبادتها.
والضم والكسر في الراء لغتان عند الفراء.
وقيل: الكسر معناه العَذاب. فتكون الأوثان سميت بالعذاب. لأنها سببه. والضم معناه الأوثان. وأول من(12/7818)
فرق بينهما الكسائي.
وأكثر الناس على أنه لا فرق بينهما وأنه يراد به الأوثان، [ضَمَمْتَ] الراءَ أو كَسَرْتَها.
قال ابن عباس: الرجز: " السخط، وهو الأصنام ".
وقال مجاهد وعكرمة: الرجز: " الأوثان. وقاله الزهري.
وقال قتادة: " الرجز: صنمان كانا عند البيت: [إساف ونائلة]، يَمْسَحُ وُجُوهَهُمَا من أتى عليهما، فأمر الله نبيه أن [يجتنبها] ويعتزلهما ".
قال ابن زيد: " الرجز آلهتهم التي كانوا يعبدون، (أمره الله) أن يهجرها [فلا يأتيها ولا يقربها] ".(12/7819)
وقال النَّخعي: المعنى: والمعصية [فاهجر].
- ثم قال تعالى {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}.
قال ابن عباس: معناه: ولا تعط يا محمد عطية لتعطى أكثر منها. وهو (معنى) قول أكثر [المفسرين].
وهذا خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو مباح لأمته إلا أنه لا أجر [لهم] في ذلك. وهو قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} [الروم: 39] وقد قال الضحاك: هو الربا (في) الحلال [قال]: وهما ربوان: حرام(12/7820)
وحلال. فأما الحلال فالهدايا. وأما الحرام فالربا بعينه.
وقال الحسن: معناه: لا تستكثر عملك الصالح. وهو اختيار الطبري.
وقال الربيع بن أنس: معناه: " لاَ يَكْثُرَنْ عملُك في عينك، فإنه فيما أنعم الله [عليك] وأعطاك قليل ".
وعن مجاهد أن معناه: لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم: " حبل منين " إذا كان ضعيفاً.
وفي قراءة ابن مسعود: " وَلاَ تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ ".
قال الكسائي: فإذا حذف " أن " رفع، وهو حال (عند) البصريين.(12/7821)
وقال ابن زيد: معناه: لا تمنن بالقرآن والنبوة فتستكثرهم به، تأخذ على ذلك عوضاً من الدنيا.
- ثم قال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فاصبر}.
أي: اصبر على ما تَلْقَى من قومك لربك [واحتمل] أذاهم.
وقال ابن زيد: معناه، اصبر على محاربة العرب والعجم، قال: " حُمِّلَ أمراً عظيماً، مُحَارَبَةَ العرب ثم العجم من بعد العرب في الله ".
وقال النخعي: معناه: ولربك فاصبر على عطيتك، ولا تعطها لتأخذ أكثر منها، بل احتسبها الله.
- ثم قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}.(12/7822)
يقال: [عَسُرَ] الأمرُ إذا صَعُبَ فهو عَسِيرٌ، و [عَسِرَ] فهو عَسِرٌِ. والمعنى: فإذا نفخ في الصور فذلك [يوم] شديد صعب غير سهل على الكافرين.
روى ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنُ [وَحَتَى] جَبْهَتَهُ لِيَسْتَمِعَ مَتَى يُؤْمِرُ، يَنْفُخُ فِيهِ. قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89].(12/7823)
قال عكرمة: الناقور: الصور. قال مجاهد: (هو) شَيْءٌ كَهَيْئَةِ [البُوقِ].
- ثم قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
أي: كِلْ - يا محمد - أَمْرَ هذا الذي خلقته في بطن أمه وحيداً لا شيء له من مال ولا ولد، يعني بذلك الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن عباس: " أَنْزَلَ اللهُ فِي الوَليدِ بِنْ المُغِيرَةِ {ذَرْنِي} {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}. [وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. . .} [الحجر: 92] إلى آخرها.
وقيل: معناه: دعني يا محمد ومجازاة من خلقته وحده، فيكون " وحيداً](12/7824)
على القول الأول حالاً من الهاء المحذوفة في " خلقته ". وعلى (هذا) القول الآخر حالاً من التاء في " خلقته ". وفي هذا الكلام تهدد عظيم ووعيد. والعرب تقول: ذرني وزيداً، أي: كِلْ عقوبته ومُطالَبَتَهُ إلي.
فالمعنى: كِلْ - يا محمد - عقوبة هؤلاء إلي، فلست أحتاج [في ذلك] إلى معين ولا ظهير. ويُرْوى أنه كان يقول: أنا الواحد بن الوحيد، ليس لي من العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير.
- ثم قال تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً}.
قال مجاهد وابن جبير: هو ألف دينار. وقال سفيان: (بلغني) أنه أربعة آلاف دينار. وقيلأ: هو الأرض يزرع فيها. قاله النعمان بن سالم. وقال عمر بن(12/7825)
الخطاب رضي الله عنهـ: هو غَلَّةٌ شهر [بشهر].
- ثم قال تعالى: {وَبَنِينَ شُهُوداً}.
أي: وجعلت له بنين شهوداً، أي: [حضوراً]. روي أنه كان له عشرة من الولد. وقد قاله/ مجاهد وغيره.
وروي أنه ما زاد بعد نزول هذه الآية إلا [ارتكاساً] في ماله وولده ونفسه.
- ثم قال: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً}.
أي: بسطت له في العيش بسطاً. قاله سفيان. وقال مجاهد: " من المال والولد ".
- ثم قال: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ. . .}.
ثم يَأْمِلُ أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته {كَلاَّ}: أي: ليس الأمر(12/7826)
على ما يُؤَمِّلُ، أي: لا يكون ذلك].
- ثم قال: {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً}.
أي: إنه كان لرد حجتنا وآياتنا معانداً، مجانباً. يقال: عَنُدَ البَعيرُ [يَعْنِدُ عُنُوداً]، و [بَعِيرٌ عَنُودُ]: إذَا مشى مجانباً للإبل لا يمشي معها. قال ابن عباس: {عَنِيداً} " جحوداً ". وهو قول قتادة. وقال مجاهد: " معانداً للحق، مجانباً له ". وقال سفيان: {عَنِيداً} " مشاقاً لنا ".
- ثم قال: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً}.
أي: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة منها. وقيل: الصعود جبل من نار (يكلفون) أن يصعدوه، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع(12/7827)
رجله كذلك. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصُّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ سَبْعينَ خَرِيفاً ثُمَّ يَهْوِي كَذلِكَ أَبَدَاً ".
قال مجاهد: {صَعُوداً}: " غذاباً لا راحة منه ".
وقال قتادة: " مشقة من العذاب ".
- ثم قال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
أي: فكر فيما أنزل الله على نبيه من القرآن، وَقَدَّرَ فيما يقول فيه، فَلُعِنَ كيف قدَّر ما هو قائل، ثم لعن كيف قَدَّرَ القولَ فيه.(12/7828)
{ثُمَّ نَظَرَ}. أي: ثم تَأَتّى في ذلك.
{ثُمَّ عَبَسَ. . .}.
أي: قبض ما بين عينيه.
{وَبَسَرَ}.
أي: كلح وكَرَّهَ وجهه.
قال عكرمة: جَاءَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عليه النبي القرآنَ، فكأنه رَقَّ لَهُ، فبلغَ ذلك أبا جهل. فأتاه فقال: أيْ عَمِّ، إِنَّ قومَكَ يُريدون أن يَجْمَعُوا لَكَ مَالاً. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: يُعْطُونَكَ! فإنك أتيت محمداً تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يَعْلَمُ أَنَّكَ مُنْكِرٌ " [لِمَا قَالَ]، وَأَنَّكَ كَارِهٌ له، قال: فماذا أقول فيه؟ فَوالله مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ مِنِّي بِالأَشْعَارِ ولاَ أَعْلَمُ(12/7829)
بِرَجَزِهِ وَلاَ بِقَصدِهِ، وَلاَ بِأَشْعَارِ الجِنِّ، وَ (اللهِ) لاَ يُشْبِهُ الذِي يَقُولُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الذِي يَقُولُ لَحَلاَوَةً! وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ! وَإِنَّهُ لَيَعْلُوا وَمَا يُعْلَى! قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لاَ يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ. (فَلَمَّا فَكَّرَ فِيهِ) قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يَأْثُرُهُ [عن] غيره، فنزلت {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
قال ابن عباس: دَخَلأَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسُأَلُهُ عَنِ القُرآن، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا عَحَبَاً لِمَا يقول ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ! فَوَاللهِ، ما هُوَ بِشِعْرٍ وَلاَ بِسِحْرٍ وَلاَ [بِهَذْيٍ] مِنْ جُنُونٍ، وَإِنهُ لَمِنْ كَلاَمِ اللهِ - جَلَّ وَعَز - فَلَمَّا سَمِعَ بِذلِكَ(12/7830)
النَّفَرُ (مِنْ قُرَيْشٍ) [ائْتَمَرُوا] بَيْنَهُمْ، وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ صَبَأَ الوَلِيْدُ لَتَصْبُؤَنَّ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذلِكَ أَبُو جَهْلٍ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَنَا أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ. فَانْطَلَقَ حَتَى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: [أَلَمْ تَرَ] قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ؟! قَالَ: أَلَسْتُ أَكْثَرَهُمْ مَالاً وَوَلَداً؟! فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ! قَالَ الوَلِيدُ: [أَقَدْ] تَحَدَّثَتْ بِذَلِك عَشِيرَتِي؟! فَلاَ وَأَيْمُ جَابِرٍ بْنُ قُصَيَّ، لاَ أَقْرَبُ أَبَا بَكْرٍ (وَلاَ عُمَرَ) وَلاَ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، [وَمَا قَوْلُهُ إِلاَّ سِحْرٌ] يُؤْثَرُ. فَأَنْزَلَ اللهُ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إلى {لاَ تُبْقِي (وَلاَ) تَذَرُ}.(12/7831)
قال قتادة: ذكر أنه قال: والله، لقد نظرت [فيما قال هذا الرجل]، [فإذ] هو ليس بشعر، وإن له لحَلاَوَةً، وإن عليه لَطُلاَوَةً، وإنه لَيَعْلُو وما يُعْلَى، ومَا أَشُكُّ أَنَّهُ سِحْرٌ. وقال الضحاك: دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: حتى أنظر! فَفَكَّرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَ أَدْبَرَ واسْتَكبر، فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر، فجعل الله له سقر.
قال أبو رزين (سحر) (أي): يَأْثُرُهُ من غيره.
- {إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر}.
أي: ما هذا الذي يتلوه محمد إلا قول بني آدم وما هو بكلام الله. [فهذا أول من قال: القرآن مخلوق، قاله الوليد بن المغيرة فأدخله الله سقر. قال بعض العلماء: فكذا يُفْعَلُ بكل من قال: القرآن مخلوقٌ، قاله أحمد بن زيد].
- ثم قال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.(12/7832)
أي: [سأورده] سقر، وهو باب من أبواب جهنم. يروى أنه الباب السادس منها، نعوذ بالله منها.
- {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}.
أي: وأي شيء أدراك ما سقر؟، ثم بَيَّنَهُ وَأَدْرَاهُ به [فقال] في صفة سقر.
- {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ}.
أي: هي نارٌ لا تُبْقي من فيها حياً، ولا تَذَرُ من فيها ميتاً، لكنها تحرقهم، كلما احترقوا جُدِّدَ خَلْقُهُمْ. قال مجاهد: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} أي: لا تُحْيِي وَلاَ تُميتُ وقيل: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ}: لا تبقي الكافر حتى يصير فحمة ثم يُعاد خلقاً جديداً ثم لا تذره حتى يعود/ عليه العذاب بِأَشَدِّ مِمَّا كان هكذا أبداً، نعوذ بالله من ذلكز
- ثم قال تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}.(12/7833)
أي: مغيرة لبشرة من فيها. قال مجاهد: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}، أي: مُغَيِّرَةٌ للجلد. وقال قتادة: " خَرَّاقَةٌ للجلد ". وقيل: معناه: تَلُوحُ لأَهْلِها من مسيرة خمسمائة عام. وعلى القول الأول أكثر الناس أنها تُغَيِّرُ البَشَرَةَ. قال [أبو رزين]: تلفح الجلد لفحة تَدَعُهُ أَشَدَّ سواداً من الليل.
وقال ابن عباس: " تحرق بَشَرَةَ الإنسان ".
- ثم قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}.
أي: من الخزنة. ذكر ابن عباس أَنَّ هَذَا لما نَزَلَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! أَسْمَعُ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ.(12/7834)
وَأَنْتُمْ [الدَّهْمُ] أَفَتَعْجَزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ تَبْطِشَ بِرَجُلٍ مِنْ [خَزَنَةِ] جَهَنَّمَ؟! فَأَوْحَى اللهُ إلى نَبِيِّهِ أَنْ يَأْتِيَ أَبَا جَهْلٍ فَيْأْخُذَ بِيَدِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ فَيقُولَ {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34 - 35]. فَلَمَّا فَعَلَ بِهِ ذَلكَ رَسُولُ اللهِ قَِالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ، لاَ تَفْعَلُ أَنْتَ وَرَبُّكَ شَيْئا. فَأَخْزَاهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ - يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ.
قال كعب الأحبار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}: ما منهم ملك إلا ومعه عمود ذو شعبتين يدفع به الدفعة فيلقى في النار تسعين ألفاً.
- ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَآ أصحاب النار إِلاَّ ملائكة. . .}.
أي: لم نجعل أصحاب النار رجالاً مثلكم فتطمعوا بالتغلب عليهم كما قال أبو جهل لقريش: أفلا يستطيع كل عشرة منكم أن يغبلوا منهم واحداً؟!. فإذا(12/7835)
كانت الخزنة ملائكة، فمن ذا يطيق الملائكة؟!.
- ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}.
أي: لم نجعلهم تسعة عشر فقط لقلة الملائكة؛ ولكن جعلناهم كذلك ليفتتن الذين كفروا ويستقلوا عدتهم ويُحدثوا أنفسهم بالتغلب على الخزنة حتى قال [أبو الأشد الجمحي]: أنا [أُجْهِضُهُمْ] [عن] النار. وقيل: كَلَدَةَ بن أسيد بن خلف قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني اثنين.(12/7836)
- ثم قال تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب}.
أي: فعلنا ذلك ليفتتن الذين كفروا [وليتقين] الذين أُوتوا التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدة خزنة جهنم، لأنه كذلك دتهم في التوراة (والإنجيل). هذا معنى قول ابن عباس وغيره. وهو قول مجاهد.
قال قتادة: يُصَدِّقُ القرآنُ الكُتُبَ التي كانت قبله، فيها كُلِّها خَزَنَةُ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ. وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب. . .} " أنك رسول الله ".
ثم قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الذين ءامنوا إيمانا. . .}.
أي: تصديقاً إلى تصديقهم بعدة خزنة جنهم.
- ثم قال: {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون}.(12/7837)
أي: ولا يشك أهل الكتاب [و] المؤمنون في حقيقة ذلك.
- ثم قال: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ. . .}.
أي: نفاق.
{والكافرون. . .}.
يعني: مشركي قريش.
- {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}.
أي: ماذا أراد الله بهذا حسين يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر.
- قال الله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}.
أي: كما أضل هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين: أي شيء أراد الله بهذا مثلاً؟! كذلك يضل الله من يشاء] من خلقه فَيَخْذُلُهُ عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء فيوفقه للحق.
- ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ. . .}.(12/7838)
أي: لا يعلم (مقدار) كثرة جنود ربك يا محمد إلا رَبُّكَ. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّ مَلاَئِكَةٌ تَرْعَدُ فَرَائِصَهُمْ مَخَافَةً مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لا َتَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دَمْعَةً إِلاَّ وَقَعَتْ مَلَكاً يُسَبِّحُ، وَمَلاَئِكَةٌ سُجُودٌ مِنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ لَمْ يَرْفَعُوا رُؤوسَهِمْ وَلاَ يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمِنْهُمْ [مَلاَئِكَةٌ] وُقُوفٌ لم يَنْصَرِفُوا وَلاَ يَنْصَرِفُونَ إلى يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة، تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ - فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ!؟ ".
وقال كعب: إن لله عز وجل ملائكة من يوم خلقهم قياماً، [ما] ثنوا أصلابهم، وآخرين ركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين [سجوداً] ما رفعوا رؤوسهم حتى(12/7839)
يُنْفَخَ في الصور النفخةَ الآخرة فيقولون جميعاً: سبحانك! ما عبدناك كما ينبغي أن تُعْبَدَ. ثم قال كعب: والله، لو أن رجلاً عَمِلَ عَمَلَ سبعين نبيّاً، [لاسْتَقَلَ] عمله يوم القيامة من شدة مايرى يومئذ. والله، لو دلي من [غسلين] دلو واحد من مطلع الشمس، لغلت/ منه جماجم قوم من مغربها. والله، [لَتَزْفَرَنَّ] جهننم زَفْرَةً لا يبقى ملك مقرب إلا خَرَّ جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيهِ.
وروى ابن المبارك حديثاً - رفعه - أن ملكاً سجدا لما استوى الرب [تعالى] على عرشه، فلم يرفع رأسه [و] لا يرفعه إلى يوم القيامة، فيقول يوم القيامة: لم أعبدك حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً.
وقد وصفهم الله في كتابه فقال: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].(12/7840)
قال كعب: التسبيح للملائكة بمنزلة النَّفَسِ لبَنِي آدم، أُلْهِمُوا التسبيح كما ألهمتهم الطَّرْفَ والنَّفَسَ.
- ثم قال تعالى: {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ}.
يعني النار التي وصفها. يقول: ليس ما وصفتها به من تغييرها للبشر وعدة خزنتها إلا عظةً وعبرة للناس يتعظون بها.
- ثم قال: {كَلاَّ والقمر}.
أجاز الطبري الوقف على " كَلاَّ "، [جعله] رَدَّاً لِمَا قبلها.
والمعنى عنده: ليس القول كما يقال من زعم أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم التسعة عشر حتى يجهضهم عنها. وقال الفرء: تقديره: " أي والقمر، وقيل: تقديره: " حقاً " (وقيل): " أَلاَ ".(12/7841)
- {والقمر. .}.
أي: ورب القمر ورب الليل إذا أدبر، اي: ولى.
- {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ}.
أي: أضاءَ وأقبل. يقال: أسفر الصبح إذا أضاء وانكشف. ومنه: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته. ومنه قيل: " سفر " للكتاب الذي فيه العلم، لأنه يبين ويكشف. ومنه سفرت الريح الغمام: كشفته. ومنه: سفرت البيت: أي كنسته ومنه قيل: " سفير " للذي يسعى في الصلح، لأنه يكشف المكروه وزيله.
وحكى بعض البصريين: دبرني إذا جاء خلفي. وأدبر إذا ولى. واختار [أبو عبيد] [إِذَا اَدْبَرَ]، لأن بعده: {إِذَآ أَسْفَرَ}. وحكي: دبر وأدبر: لغتان بمعنى،(12/7842)
يقال: دبر النهار وأدبر. ودبر الصيف وأدبر، وكذلك قبل وأقبل. فإذا قالوا: أقبل الراكب و " أدبر " لم يُقَلْ إلا بالألف.
وقيل: معنى {إِذْ أَدْبَرَ} أي: إذا أدبر النهار، وكان في آخره. وسأل رجل ابن عباس عن قوله: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} فقال: امكث، فلما سمع الأذان [الأول] قال: هذا حين دبر الليل.
- ثم قال: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر}.
يعني جنهم، أي: وهي إحدى الأمور العظام. و (إحدى): فُعْلَى، نَعْتٌ، وهو قليل، إنما تأتي هذه النعوت غير المصادر بضم الأول أو بفتحه.(12/7843)
- ثم قال: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ}.
قال أبو رزين: يقول الله جل ذكره: أنا نذير للبشر.
وقال [ابن زيد]: معناه: محمد نذير للبشر. ونصبها على الحال من المضمر في " إنها " [أَوْمِنْ] " إِحْدَى ".
وهذا القولان يدلان على أن النار هي النذير، وهو قول الحسن. ويجوز أن تكون حالاً من " هو " في قوله: {إِلاَّ هُوَ}، أو على إضمار فعل تقديره: صَيَّرَهَا {نَذِيراً}، هذا على قول أبي رزين. وقال الكسائي: هي حال من المضمر في {قُمْ} أي: قم نذيراً، من أول السورة. وهو يرجع إلى قول ابن زيد. وقيل:(12/7844)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{نَذِيراً} بمعنى إنذار، فنصبه على المصدر. (وقيل: نصبه على المصدر) [وقيل: نصبه على أعني]. ومن جعله للنار حذف [الياء] من " نذير " لأنه بمعنى النسب.
- قوله: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}، إلى آخر السورة.
أي: نذيراً للبشر لما شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله {أَوْ يَتَأَخَّرَ} في معصيته. قاله قتادة. وهو معنى قول ابن عباس.
- ثم قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
أي: كل نفس بما عملت من معصية الله في الدنيا رهينة في جهنم.
- {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين}.
فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين}.
قال ابن عباس: {رَهِينَةٌ} أي: " مأخوذة [بعملها] ". وقاله قتادة. قال(12/7845)
مجاهد: {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} " لا يحاسبون ". [وقال] ابن زيد: أصحاب اليمين لا يرتهنون بذنوبهم، ولكن يغفرها الله عز وجل. وقال الضحاك: (معناه): كل فنس سبقت لها كلمة العذاب يرتبهنها الله عز وجل في النار، ولا يرتهن أحدا من أهل الجنة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين}: هم " أطفال المسلمين ". وقال ابن عباس: " [هم] الملائكة ".
فمن قال: هم الأطفال [أو هم الملائكة] استدل بقولهم للمجرمين {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}، وذلك أنهم لم يقترفوا ذنوباً في الدنيا. ولو اقترفوها ما سألوا عن ذكل، وكل من دخل الجنة غير الأطفال فقد كانت لهم ذنوب. وقال الضحاك:(12/7846)
هم {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101].
ومعنى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}: [ما] أدخلكم في سقر؟!
وقرأ ابن الزبير: " يتساءلون عن المجرمين، يا فلان: مَا سَلَكَكم في سقر ". [وهذه] قراءة على التفسير. وقيل: معناه/ أن المؤمنين يسألون الملائكة عن قراباتهم من المشركين، (فتسأل الملائكة المشركين) تقول لهم: ما سلككم في سقر؟! فيقول [المشركون] ما حكى الله من قولهم، وإقرارهم على أنفسهم بالجحود والكفر.
ومعنى: {مِنَ المصلين}: من الموحدين.
- ثم قال تعالى حكاية عن جواب المشركين: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين}.
أي: لم نكن - في الدنيا - من المصلين لله.(12/7847)
- {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين}.
أي: نخوض في الباطل مع كل من يخوض فيه.
قال قتادة: نخوض مع الخائضين، أي: (كلما غوى غاو غووا معه).
- {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين}.
أي: نقول: لا بعث ولا جزاء ولا جنة ولا نار.
- {حتى أَتَانَا اليقين}؟
أي: الموت.
- {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين}.
أي: فما يشفع لهم الذين يشفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد فتنفعهم شفاعتهم. ففي هذا دليل بين أن الله يشفع بعض خلقه في بعض. قال ابن مسعود في قصة طويلة في الشفاعة (قال): ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء الصالحون المؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا أرحم الراحمين.
قال ابن مسعود: لا يبقى في النار إلا أربعة. ثم يلتو: {[لَمْ] نَكُ مِنَ المصلين} إلى: {. . . الدين}.(12/7848)
قال أنس بن مالك: " إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة [والرجل] ". وقال: أبو قلابة: " يدخل الله بشفاعة رجل من هذه الأمة (الجنة) مثل بني تميم - أو قال: أكثر من بني تميم - ". وقال الحسن: " مثل ربيعة ومضر ".
- ثم قال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ}.
فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين لا يستعمون ولا يتعظون؟!
- ثم قال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ}.
أي: كأنهم في نفارهم عن القرآن حُمُرٌ مذعورة خائفة من الرماة [قد] نفرت. ومن قرأ {مُّسْتَنفِرَةٌ} - بالكسر - فمعناه نافرة، ومن فتح(12/7849)
[فمعناه]: مذعورة خائفة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: القسورة: الرماة. وقال معمر: هي [النبل]. وقال ابن جبير: هي رجال القنص. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس. [وعنه] أيضاً: هي جماعة الرجال، وعنه أيضاً: هي أصوات الرجال. وقال أبو هريرة: هي الأسد، روي ذلك أيضاً عن ابن عباس.
والقسورة مشتقة من القسر، وهي الغلبة.
- ثم قال: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}.(12/7850)
أي: ما بهم في إعراضهم عن الإيمان والقرآن إلا أن يُعْطَى كل إنسان منهم كتاباً من السماء ينزل عليه.
- {كَلاَّ}، أي: لا يكون ذلك.
قال قتادة: قال قائلون من الناس: يا محمد، إن سَرَّكَ أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان (يؤمر) فيه باتباعك.
وقال مجاهد: يريدون أن ينزل عليهم كتاباً إلى فلان من رب العالمين. وقيل: المعنى: بل يريد كل إنسان منهم أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف في موضع الذكر على المجاز.
وقيل: قالوا: إن كان الإنسان إذا أذنب كتب عليه، فما بالنا لا نؤتى ذلك؟!.
- ثم قال: {بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة}.
أي: لكنهم لا يخافون عقاب الله، ولا يرجون ثوابه، فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، وهَوَّنَ عليهم ترك الأستماع لوحي الله وتنزيله. قال قتادة: " إنما أفسدهمه أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافونها ".(12/7851)
- ثم قال: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}.
أي: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في القرآن: إنه سحر يؤثر وإنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله خلقه.
- ثم قال: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ}.
أي: فمن شاء من عباد الله - الذين ذكرهم بهذا القرآن - ذكره فاتعظ به [واستعمل] ما فيه. (ويحسن أن يكون {كَلاَّ} في هذين الموضعين بمعنى " أَلاَ " فيبتدأ بها)، ويحسن أن يكونا بمعنى " حقاً ".
- ثم قال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله هُوَ.
. .}.
أي: وما تذكرون هذا القرآن فتتعظون به [وتستعملون] ما فيه إلا أن يشاء الله ذلك، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بمشيئة الله وبقدرته. والتاء في(12/7852)
{يَذْكُرُونَ} للخطاب. الياء على لفظ الغيبة.
- ثم قال: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة}.
أي: الله أهل أن يَتَّقِي عبادُه عقوبتَه/ على معصيته إياه فيسارعوا إلى طاعته واجتناب معصيته، والله أهل أن يغفر لمن تاب من ذنوبه وسارع إلى طاعته (ونزع) عن معصيته.
روى أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة}، قال: " يَقُولُ رَبُكُمْ. أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى أَنْ يُجْعَلَ مَعِي إِلَهٌ غَيْرِي، وَمَنْ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهاً (غَيْرِي) فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ ".(12/7853)
قال قتادة: معناه: " هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب ".
وسئل طلق من حبيب عن التقوى فقال: أعمل بطاعة الله ابتغاء وجه الكله على نور من الله، وتجنب معصيته الله مخافة عذاب الله على نور من الله.
وروى أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} فقل: " إِنَّ اللهَ يقول: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلاَ يُجْعَلَ مَعِي شَرِيكٌ. وَأَنَا أَهْلُ المَغْفِرَةُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعِي شَرِيكاً ".
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا الحديث خير من الدنيا وما فيها، [وهو] من رواية ابن عباس، حديث صحيح.(12/7854)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القيامة
مكية
- قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة}، إلى آخرها.
من النحويين من قال: " لا " زائدة كزيادتها في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]. ولم يمتنع أن تزاد في أول الكلام، لأن القرآن كله كسورة واحدة. وقد صح عن ابن عباس وغيره أنه قال: إن الله جل ذكره أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر. ثم نزل متفرقاً من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال الفراء:(12/7855)
" لا " لا تزاد (" لا " في النفي)، وخالفه غيره فأجاز زيادتها في غير النفي. وقيل: [إن] " لا " من قوله: {لاَ [أُقْسِمُ]}: جواب، ثم استأنف فقال: أقسم بيوم القيامة. وكذلك هي زائدة [بلا] اختلاف في قوله: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس}، لانها متوسطة بلا اختلاف، ولأنها بعد نفي. هذا على قول من جعله أيضاً قسماً ثانياً. ومن جعله غير قسم جعل " لا " نافية. وهو قول الحسن. وقد قرأ قُنْبُل عن ابن كثير: " لأُقْسِمُ " بغير ألف بعد اللام، وهو غلط عند الخليل وسيبويه، لأنها لام عند(12/7856)
قسم تلزمها النون المشددة.
قال ابن جُبير: " {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} معناه: أقسم بيوم القيامة ". وقال أبو بكر ابن عياش: {لاَ} تأكيد للقسم، بقولك: لا، والله.
وحكي عن بعض الكوفيين أن {لاَ} رد لكلام قد مضى من المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار. ثم ابتدأ القسم فقال: {أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة}. وكان يقول: كل يمين قبلها رد لكلام فلا بد من تقدم " لا " ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحداً واليمين التي تستأنف. قال: ألا ترى أنك تقول مبتدءاً: والله إن الرسول لحق؟ فإذا قلت: لا، والله إن الرسول لحق، فكأنك كذبت قوماً أنكروه. وقيل: " لا " تنبيه بمعنى " ألا ". كما قال امرؤ القيس:
لاَ وَأَبيكِ ابْنَةَ العامِر [يِّ] ... لا يدّعي القومُ أَنِّي [أَفِرّ](12/7857)
يريد: ألا.
قال ابن عباس: قوله: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس} (هو أيضاً) قسم. أَقْسَمَ ربنا بما شاء من خلقه. وهو قول قتادة. وهو اختيار الطبري، فتكون " لا " الأولى رداً لكلام ت قدم، و " لا " الثانية زائدة. وقال الحسن: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس} ليس بقسم. والمعنى: ولست أقسم بالنفس اللوامة. فتكون " لا " الأولى [رداً] لكلام تقدم أو زائدة، و " لا " الثانية نافية غير زائدة.
وتأويل الكلام عند الطبري: لا، ما الأمر. كما تقولون: أيها الناس. كأنه (يقدرُ) جواب القسم محذوفاً. كأنه قال: (لا)، ما الأمر، كما تقولون: إن الله لا يبعث أحداً، أقسم بيوم القيامة ما الأمر كما تقولون.
ودل على ذلك قوله: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}، وقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن [نَّجْمَعَ] عِظَامَهُ}، أي:(12/7858)
أيحسب أن لن يبعث بعد موته؟! {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى}، (على خلاف) ظنهم أنهم لا يبعثون. فالمعنى: ما الأمر كما تقولون أيها الناس من أن الله لا يبعث عباده بعد مماتهم، أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة. قال: والمعروف في كلام الناس: إذا قال الرجل: " لا، والله ما فعلت " أن قولهم " لا " رضدُّ الكلام. وقولهم: " والله ": ابتداءُ يمينٍ فكذلك {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة}.
- وقوله: {بالنفس اللوامة}.
أي: بالنفس التي " تلوم على الخير والشر ". قاله ابن جبير. وقال مجاهد: معناه بالنفس التي تندم وتلوم على ما فات. يروى أنه ما من نفسي إلا تلوم نفسها يوم القيامة. يلوم المحسن نفسه: أَلاَ ازْدَادَ خيراً؟! ويلوم المسيء نفسه (على إساءته/ وعلى ما فاته من التوبة. قال الحسن: المؤمن يلوم نفسه ويعاتبها ويقول): [لِمَ] أَكلت؟!(12/7859)
[لم شربت]؟! لم تحدثت؟! لم تكلمت؟! - يعني: يفعل ذلك في الدنيا - قال: والكافر لا يعاتب نفسه، يَمُرُّ قدماً قدماً في الذنوب. وعن الحسن [أيضاً] أنه قال: هو المؤمن، إن تلقاه إلا يعاتب نفسه: [ما أردت بكذا]؟! [ما أردت] بنظرك ما أردت بكلمتك؟! وقال قتادة: اللوامة: " الفاجرة ". وعن ابن عباس: هي " المذمومة ".
- ثم قال: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}.
أي: أيظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟! يعني: أيحسب الكافر أنه لا يبعث بعد تفرق عظامه؟! بلى نقدر على أعظم من ذلك، وهو أن نسوي أصابع يديه ورجليه فنجعلها شيئاً واحداً [كَخُفِّ] البعير، وحَافِرِ الحمار، فلا يقدر أن يأكل بيديه ويرجع إلى الأكل بفمه كالبهائم، ولكن (الله) فرق أصابع(12/7860)
يديه ورجليه ليتناول بها ويُفْضِيَ إذا شاء، هذا معنى قول ابن عباس وغيره من المفسرين. ونصب {قَادِرِينَ} على الحال، أي: نجمعها في حال قدرة على تسوية بنانه. هذا قول سيبويه.
وقيل: التقدير: بل نقدر، فلما وقع {[قَادِرِينَ]} في موضع " نقدر "، نصب على الحال.
وهذا غلط، لأنه يلزم أن يقول: " قائماً زيد " [بنصب] " قائم " إذا رفع " زيداً " بفعله، لأنه في موض " يقوم ". وقال الفراء: تقديره: بلى، نقوى على ذلك(12/7861)
قادرين.
- ثم قال: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}.
أي: ليس يجهل الإنسان أن ربه يقدر على جمع عظامه وإحيائه بعد موته، ولكن يريد أن يمضي أمامه قدماً لا يُثْنَى عن ذنوبه ولا يتوب من كفره، ويُسَوِّفُ بالتوبة.
قال بان جبير: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}، يعني الأمل، يقول: أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة. قال مجاهد: يمضي ابن آدم {أَمَامَهُ} راكباً رأسه. وقال الحسن: لا تلقى ابن آدم إلا تَنْزَعُ نَفْسُهُ إلى معصية الله قُدُوماً قُدُماً إلاَّ من عصم الله. وقال عكرمة:. . . " لا ينزع عن فجوره ". وقال الضحاك: يركب رأسه في طلب الدنيا دائماً، لا يذكر الموت، يقول: أصيبُ من الدنيا كذا، وأصيب من الدنيا كذا، ولا يذكر الموت.(12/7862)
وعن ابن عباس أن معناه أن الإنسان هُنَا " الكافر، يكذب بالبعث والحساب "، وهو قول ابن زيد. فالهاء في {أَمَامَهُ} للإنسان [في جميع هذه] الأقوال.
وقيل: الهاء ليوم القيامة، والمعنى: بلى يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة.
وقيل: المعنى: يقدم الذنب ويؤخر التوبة.
- ثم قال: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة}.
أي: يسأل الإنسان الدائم في معصية الله: متى يوم القيامة؟! تسويفاً منه بالتوبة. قال قتادة: [يقول]: " متى يوم القيامة ". قال عمر بن الخطاب: " من(12/7863)
سأل عن يوم القيامة فليقرأ هذه السورة ". قال ابن عباس: معناه: يقول الإنسان: سوف أتوب. ق ال: فبين له، فقيل له: {فَإِذَا بَرِقَ البصر * وَخَسَفَ القمر. . .}.
- {فَإِذَا بَرِقَ البصر}.
من فتح الراء فمعناه: [لمع] عند الموت، ومن كسر فمعناه: حَارَ وفَزعَ [عند الموت]. قال قتادة: {بَرِقَ (البصر)}: شخص، يعني: عند الموت. وقيل: ذلك يوم القيامة عند المبعث.(12/7864)
وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن بعده: {وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر * يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر}، فهذا كله يوم القيامة يكون فكذلك {بَرِقَ البصر}. وقيل: الفتحُ في الراءِ والكسرُ لغتان، بمعنى: لَمعَ وشَخَصَ. ويدل على [صحة] ذلك قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ [طَرْفُهُمْ]} [إبراهيم: 43]، فهذا هو الشخوص، [لا تُطْرَفُ] أَعينُهُم، وذلك من شدة هول يوم القيامة.
- ثم قال: {وَخَسَفَ القمر}.
أي: ذهب ضوءه.
- {وَجُمِعَ الشمس والقمر}.
أي: جمع بينهما في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منها.
وفي قراءة عبد الله: وجمع بين الشمس والقمر. روي أنهما يجمعان فيكوران(12/7865)
كما قال تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] (قال مجاهد: كورتا يوم القيامة. وقال بان زيد: جمعتا فرُميَ بهما في الأرض. وتأويل {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] أن معناه: كورت في الأرض، [أي] [رمي] بها. فيكون معنى الجمع بينهما هنا: أن يُرْمَى بهما في الأرض. وقال عطاء: يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر [فيكونان] نار الله الكبرى.
وقيل: {وَجُمِعَ}، ولم يقل: " وجمعت "، لأن معناه: وجمع بين الشمس والقمر.
فحمل على تذكيرين. وقيل: لما كان الكلام لا يتم إلا بالقمر، غلب(12/7866)
المذكر - وهو القمر -. وقال الكسائي: حمل على المعنى. والتقدير: وجمع/ النوران الضياءان. قوال المبرد: ذُكِرَ {وَجُمِعَ} لأنه تأنيث غير حقيقي، [إذ] لم تؤنث الشمس للفرق بين شيء وشيء. فلذلك، تذكيره على معنى: " شَخْص " وِ " شَيْء ".
- ثم قال: {يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر}.
أي: يقول الإنسان - مما يرى من الأهوال يوم القيامة -: أين الفرار؟!، " والمَفَرُّ " مصدرٌ. عن ابن عباس: " أَيْنَ المَفِرُّ " بكسر الفاء، وروي عن عيسى بن عمر(12/7867)
وابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر، فهو على هذا: اسم مكان، أي المكان الذي يفر إليه. وأجاز في المصدر الكسر.
- ثم قال: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ}.
أي: لا، ليس هنالك يا ابن آدم فرار، ولا مكان يلجأ إليه ويفر إليه، ولا جبل ولا معقل. قال ابن عباس: {لاَ وَزَرَ}: " لا حصن (ولا ملجأ ". وقال(12/7868)
مطرف بن الشخير: {لاَ وَزَرَ}: لا جبل، إن الناس إذا فروا قالوا: عليك بالوزر. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة. وقال الضحاك: {لاَ وَزَرَ}: " لا حصن) وهو قول أبي قلابة. وقال ابن جبير: لا محيص. وقال عكرمة: لا منعمة. وأصل هذا أنهمه كانوا إذا ضُيِقَ عليهم في الحروب والهزائم الشداد لجؤوا إلى الجبال والمعاقل، فأعلموا أنه لا ملجأ من عذاب الله في القيامة إلى جبل ولا إلى غيره.
- ثم قال: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر}.
قال ابن زيد: " استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار " وقال قتادة: معناه: إلى ربك يومئذ المنتهى.
- ثم قال: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.
أي: يُخْبر الإنسان يوم يجمع الشمس والقمر بما قدم من عمله وما أخر بعده مما(12/7869)
يعمل به من أجله. قال ابن عباس: " يخبر الإنسان يوم القيامة بما عمل قبل موته وبما سَنَّ فَعُمِلَ به بعد موته ". وقاله ابن مسعود. وقيل: المعنى: بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة. روي ذلك أيضاً عن ابن عباس. وقال مجاهد: معناه: بخير الإنسان يوم القيامة بأول عمله وآخره.
وقال قتادة: يخبر بما قدم من طاعة الله وبما أخر، أي: ما ضيع من حق الله. وقال ابن زيد: {وَأَخَّرَ} معناه: بما ترك من العمل بطاعة الله. و {بِمَا قَدَّمَ} [معناه]: ما قدم من عمل من خير أو شر. وقيل: ما أخر: ما أوصى به بعد موته، وما أبقى من أثر عمله بعده.
- ثم قال تعالى: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.(12/7870)
أي: هو شاهد على نفسه. قال ابن عباس: " يشهد عليه سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه "، فيكون {الإنسان} ابتداء، و {بَصِيرَةٌ} ابتداءٌ ثانٍ، و {على نَفْسِهِ} خبرٌ، والجملة خبرُ [عن] الإنسان.
وقال ابن جبير وقتادة: معناه: أن الإنسان عراف بيبه، فهو عارف بعيب غيره، متغافل عن عيبه. فيكون {الإنسان} على هذا التأويل ابتداء، و {بَصِيرَةٌ} خبره. ودخلت الهاء في " بصيرة " للمبالغة. وقيل: دخلت حملا على المعنى، [لأن] المعنى: بل الإنسان حجة على نفسه. وقيل: معنى {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}: يعني الكاتبين يكتبان خيره وشره. ودل على ذلك قوله: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ}، أي: ولو سدل ستوره ليخفي(12/7871)
صنعه لم ينفعه شيء.
- ثم قال تعالى: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ}.
أي: بل الإنسان شاهد على نفسه ولو اعتذر مما أتى من المآثم وجادل بالباطل [لا ينفعه] ذلك شيئاً. قال ابن عباس: " {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} يعني الاعتذار. ألم تسمع إلى قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] يعني قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} [النحل: 28]، وقولهم: {رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؟! قال ابن زيد: " قوم يؤذن لهم فيعتذرون فلا ينفعهم العذر، وقوم لا يؤذن لهم فيعتذروا ".
وقال مجاهد: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ}: " ولو جادل عنها فهو بصيرة عليها ".(12/7872)
وقال السدي: " معناه: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب ".
وقال الحسن و [قتادة]: " (معناه): ولو ألقى معاذيره لم تقبل منه "، إذ هي باطل.
- ثم قال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}.
أي: لا تحرك يا محمد بالقرآن - إذا نزل عليك - (لسانك) لتعجل به.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه شيء من القرآن عجل به يريد حفظه [لحبه] إياه، فقيل: لا تعجل به، فإنا سنحفظه عليك.
قال ابن عباس: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَلْقَى مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، يُحَرّكُ شَفَتَيْهِ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، أَيْ: جَمْعَهُ في صَدْرِكَ، وَأَنْ تَقْرَأَهُ.
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع (قُرْآنَهُ)}، أَيْ: فَأَنْصِتْ وَاسْتَمِعْ.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.(12/7873)
(أَيْ): (إِنَّ) عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ/، قَالَ: فَكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا أََتَاهُ جِبْرِيلُ [اسْتَمَعَ]، فَإِذَا انْطَلَقَ قَرَأَهُ (كَمَا قَرَأَهُ). قال الشعبي: " كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوحيُ عَجِلَ يَتَكَلَّم بِهِ مِنْ حُبِهِ إِيَّاهُ، فَنَزَلَ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}.
وقال ابن زيد: " (معناه): لا تكلم بالذي أوحينا إليك حتى نقضي إليك وحيه، فإذا قضينا إليك وحيه فتكلم به ". وقال الضحاك: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن حرك به لسانه مخافة أن ينساه، فقيل له: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: حفظه في [قلبك].
وأن تقرأه بعد حفظه. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. [وقال قتادة]: معنى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي:(12/7874)
جمعه في قلبك حتى تحفظه {وَقُرْآنَهُ} أي: [تأليفه].
يقال: قرأت هذه الفاتحة في بطنها جنيناً إذا ضمت رحمها على ذلك.
- وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ}.
معناه عند ابن عباس: (" فإذا أنزلناه إليك فاستمع قرآنه ". وعنه أيضاً أن [معناه]: " فإذا تلي عليك فاتبع ما فيه ". وقال قتادة: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} " فاتبع) حلاله، واجتنب حرامه ". وقال الضحاك: " فاتبع مافيه ".
وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: فإذا بيناه فابتع قرآن، أي: اعمل به.
- وقوله {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.(12/7875)
أي: علينا بيان ما فيه من حلال وحرام [وأحكام]، فأعلم الله - جل ذكره - أنه المتولي لحفظ كتابه علينا، ولم [يكل] ذلك إلينا، فَسَلِمَ من التغير. [ولو وكله] (إلينا) لم نأمن أن يغيره ويبدله زنادقة هذه الأمة، فالحمد لله على ذلك، وقد وكل الله حفظ التوراة والإنجيل إلى اليهود والنصارى فغيروةا وبدلوا. وقد سئل سفيان بن عيينة فقيل له: كيف غيرت التوراة والإنجيل وهما من عند الله؟! فقال: إن الله جل ثناؤه وكل حفظهما إليهما، فقال جل ذكره: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44]، ولم [يكل] حفظ القرآن إلى أحد، فقال جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فما حفظه الله علينا لم يغير. وقيل: معنى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي [أن] نبينه بلسانك.(12/7876)
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة}.
أي: ليس الأمر أيها الناس على قولكم: إنكم لا تبعثون ولا تجازون بأعمالكم. ولكن الذي دعاكم إلى ذلك [حبكم] الدنيا وزينتها، وإيثاركم ولا تجازون على آجل الآخرة، ونعيمها الدائم. فأنتم لذلك تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة.
(ويجوز أن تكون " كلا " بمعنى " حقاً " أو بمعنى " ألا ". قال قتادة: اختار الناس العاجلة إلا من عصم الله).
- ثم قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ}.(12/7877)
أي: حسنة ناعمة جميلة من السرور والغبطة. هذا قول جميع أهل التفسير.
- ثم قال: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
أي: تنظر إلى ربها. قال عكرمة: " تنظر إلى ربها نظراً ".
قال الحسن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ}: " أي حسنة: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: قال: تنظر إلى الخالق، وحق (لها) أن [تنضر] وهي [تنظر] إلى الخالق ".
وقل عطية العوفي: هي تنظر إلى الله - جل وعز - لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ويحيط بهم، {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103].(12/7878)
[وقد] قال بعض أهل البدع: إنه بمعنى منتظرة إلى ثواب ربها، وهذا خطأ في العربية، [(لا) يقال]: " نظرت إليه " بمعنى انتظرته، وإنما يقال: " نظرته " بمعنى انتظرته.
أيضاً فإنه لا يجوز " أنتظرت زيداً " بمعنى [انتظرت] عطاءه أو غلامه أو ثوابه أو نحوه، لأن فيه تغيير المعاني وإبطال الخطاب. وأيضاً، فإن النظر إنما يضاف إلى الوجوه، والانتظار (إنما) يضاف إلى القلوب، فلا يجوز أن(12/7879)
يقال: " [وجهي] منتظر لك ".
فلما أتى النص بإضافة النظر إلى الوجوه، لم يَجُزْ أَنْ يَتَأَوَّلَ فيه معنى الانتظار، ولو قال: " قلوب يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة "، لحسن كونه بمعنى الانتظار لإضافته إلى القلوب. وقال الحسن في الآية: نَظَرت إلى الكله [فنضرت] من نوره، أي: نعمة من نوره.
وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنِّي حَدّثْتُكُمْ عَنِ المَسِيحِ الدَّجَالِ، إِنَّهُ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ [مَطْمُوسُ] عَيْنِ اليُسْرَى، لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ(12/7880)
وَلاَ حَجْرَاءَ، فَإِنَّ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنْ رَبَِّكُمْ - عز وجل -/ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ - حَتَّى تَمُونُوا ".
وقد (استدل) من أنكر النظر بإضافة النظر إلى الوجه، قال: والعين لا تسمى وجها. وقد [أضاف] النظر إلى الوجه. وهذا غلط ظاهر، لأن العرب من لغتها أن تسمي الشيء (باسم} الشيء إذا قرب منه وجاوره، وقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية: 8 - 9]، والسعي للأقدام، وقد أضاف السعي [للوجوه]، وهو أبعد من الأقدام من العين إلى الوجه، فإذا جاز أن يضاف سعي(12/7881)
الأبدان والأقدام إلى [الوجوه]- لالتباس الوجوه بها - كان (إضافة) النظر إلى [الوجه]- يراد به العين - أَجْوَزَ وَأَحْسَنَ، لأن العين في الوجه، وهي من جملة الوجه. وهذا سائغ جائز في اللغة وفي كثير من القرآن. [وأحَادِيثُ] تصحيح النظر إلى الالله جل ذكره في الآخرة كثيرة أشهر من أن تذكر ها هنا. ويدل على تصحيح جواز ذلك - من القرآن والنظر - قوله تعالى - حكاية عن موسى عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]. ففي سؤاله النظر دليل على جوازه، لأن موسى لا يمكن أن يسأل ما لا يجوز وما يستحيل، فأعلمه الله أنه لا يراه في الدنيا أحد.
فأما قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103]، فمعناه: لا تحيط به. ومن قال: إن(12/7882)
معناه: لا تراه، فقد [غلط]: لأنه يلزم أن يكون (معنى): {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90]: إذا رآه، وذلك محال! إنما معناه: إذا أحاط به. وكذلك يلزمه أن يكون معنى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]: إنا [المرئيون]، ولم يخافوا أن يراهم قوم فرعون، إنما خافوا أن يحيطوا بهم، فالمعنى: إنا لمحاط بنا، وكذلك يلزمهم أن يكون معنى:
{لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} [طه: 77]: (لا تخاف) رؤية، وهذا محال، لم يؤمنه الله من رؤية آل فرعون له، إنما أَمَّنَهُ من إحادتهم به وبمن معه واستعلائهم عليهم، فالمعنى في الآية: لا تحيط به الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة.(12/7883)
ومعنى {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] أي: لن تراني في الدنيا. فالإحاطة به منفية، والرؤية له في الآخرة غير منفية. كما أن قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، لا يكون نفياً عن أن يعلموه، فكما كانت الإحاطة تدل على نفي العلم، كذلك بقي الإدراك لا يدل على نفي الرؤية.
وكما جاز أن يعلم الخلق أشياء ولا يحيطون بها علماً، كذلك جاز أن يروا ربّهم ولا تحيط به أبصارهم، فمعنى الرؤية غير معنى الإدراك. فلذلك، لا يجوز أن يكون معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} لا تراه.
و [قد] قيل: معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} أي: في الدنيا، على أن يكون {لاَّ تُدْرِكُهُ}(12/7884)
بمعنى، تراه، وتدركه في الآخرة أي: تراه، بدلالة قوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وبدلالة قوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. وهذا من أدل ما يكون من النص على جواز الرؤية، لأن المؤمنين لا بد أن يكونوا في الآخرة إما محجوبين [عن الرؤية] أو غير محجوبين، [فإن كانوا محجوبين] فلا فرق بينهم وبين الكفار الذين حكى الله عنهم أنهم محجوبون في الآخرة، ولا فائدة في إعلام الله لنا أن الكفار محجوبون عنه، إذ الكل محجوبون، فلا بد أن يكون المؤمنون غير محجوبين عن رؤيته، بخلاف حال الكفار. وقيل: معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} أي: بالنهاية والإحاطة. فأما الرؤية فنعم. وقيل: معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} كإداركه خلقه، لأن أبصارهم ضعيفة. وقيل: المعنى:(12/7885)
لا تدركه في الدنيا ولا في الآخرة، أي: أبصار الخلق التي خلقها الله [فيهم] لا يرونه بها، ولكن يحدث لهم تعالى في الآخر [حاسة] سادسة يرونه بها. وهذه دعوى لا دليل يصحبها من أثر ولا نظر، والله قادر على كل شيء.
وقد روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَأ تَرَوْنَ هَذَا - يَعْنِي القَمَرَ - لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ " وفي بعض الرواية: " لاَ تُضَارُونَ فِي رُؤيَتِهِ " وفي بعضها: " كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي غَيْرِ(12/7886)
سَحَابٍ "، وفي بعضها: " كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ نِصْفَ النَّهَارِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ سَحَابَةٌ "، وفي بعضها: " كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ سَحَابَةٌ ".
وقد ذكر النحاس في " تضارون " و " تضامون " واختلاف ألفاظهما ومعانيهما ثمانية أوجه.
" تُضَارَونَ " / و " تُضَامُّون " مضموم الأول مخففاً، قال: ويجوز " تُضَارُّونَ " (و) " تُضَامُّونَ " مضموم الأول مشدداً، قال: ويجوز " تَضَامُّونَ " مفتوح الأول مشدداً، وأصله: " تَتَضامُّونَ "، (ثم حذفت إحدى التاءين ك
{تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103] و {تَسَآءَلُونَ} [النساء: 1] قال: ويجوز " تَضَّامُّونَ " مفتوح الأول مشدد) الضاد والميم على أن(12/7887)
تدغم التاء الثانية [في الضاد]، كما قال: {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85]، وكذلكك يجوز " تُضَّامُّونَ " و " تُضَّارُّونَ " على ذلك، التقدير في الحذف والإدغام.
والرواية فيها بالتخفيف، ومعناه: لا ينالكم عند رؤيتكم ضير ولا ضيم.
ومن رواه مشدداً مضموم الأول فمعناه: لا يُضَّارَّ بعضكم بعضاً في الرؤية، ولا يُضَّامَّ بعضكم بعضاً كما تفعلون في رؤية الهلال في الدنيا إذا [أزدحمتم] لرؤيته.(12/7888)
- ثم قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}.
أي: متغيرة الألوان كالحة مسودة. وقال مجاهد: {بَاسِرَةٌ} " كاشرة ".
وقال قتادة: " كالحة عابسة ".
- ثم قال تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}.
أي: تعلم وتوقن أنه يفعل بها داهية. قال مجاهد: {فَاقِرَةٌ}: " داهية ". وقال قتادة: " تيقن أنها ستدخل النار "، كأن الفاقرة هي التي إذا حلت بالإنسان كسرت فقاره، أي: ظهره.
- ثم قال: {كَلاَّ. . .}.
أي: ليس الأمر على ما يظن هؤلاء المشركون ألا يعاقبوا على شركهم. فيوقف عليها هذا التأويل، ويجوز أن تكون بمعنى " حقاً "، أو بمعنى " إلا ".(12/7889)
فيبتدأ (بها).
- ومعنى {إِذَا بَلَغَتِ التراقي}.
يعني النفس عند الموت وحشرج بها.
- {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}.
أي: وقال أهله ومن حوله: (من) يرقيه فيشفيه [لِمَا بِهِ]، وطلبوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من أمر الله شيئاً. هذا معنى قول عكرمة وابن زيد. وقال أبو قلابة: {مَنْ رَاقٍ}: " من طبيب وشاف "، وهو قول الضحاك(12/7890)
وقتادة. وعن ابن عباس أن معناه: وقالت الملائكة - يعني أعوان ملك الموت -: من يرقى بنفسه فيصعدها؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
يقال: رَقَى يَرْقِي من الرُّقْيَةِ. وَرَقَى يَرْقَى من الصُّعُودِ. واسم الفاعل فيهما رَاقٍ.
- ثم قال تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق}.
أي: أيقن: بالموت فليس أحد يدفعه عنه.
- ثم قال تعالى: {والتفت الساق بالساق}.
أي: اختلطت شدة كرب الدنيا وكرب الآخرة، هذا معنى قول ابن عباس. وعنه أيضاً أنه يقول: " آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة ". وقال الضحاك: معناه: " أهل الدنيا يجهزون الجسد، وأهل الآخرة(12/7891)
يجهزون الروح ". وقال قتادة: {والتفت الساق بالساق}: " [الشدة] بالشدة، ساق الدنيا بساق الآخرة ". وقيل: " عمل الدنيا بعمل الآخرة ".
وذكر ابن زيد قولين في ذلك، أحدهما: " ساق الآخرة بساق الدنيا "، والآخر أنه حكي عن بعض العلماء أنهم قالوا: " قل ميت يموت إلا التفت إحدى ساقيه بالأخرى.
و (هو) قول مروي عن قتادة وأبي مالك والسدي. واختار(12/7892)
القول (الأول) لقوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق}. وقال الحسن: هو لف ساقيك في الكفن. وعن مجاهد في معناه: [التف] " بلاء ببلاء ".
- ثم قال تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق}.
أي: إلى ربك مساقه إذا اشتد كربه وحَشرَجَتْ نفسه.
- ثم قال تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى}.
أي: لم يصدق ولم يصل، ف " لا " نفي وليست بعاطفة، لأنها لو كانت عاطفة لأشبه [الثاني] الدعاء، والمعنى: فلم يصدق بكتاب الله، ولم يصل لله صلاة.
ولكنه {كَذَّبَ وتولى}.
أي: كذب بكتاب الله وبنبيه، وأعرض عن القبول والطاعة.(12/7893)
- {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى}.
أي: [مضى] [منصرفاً] [متبختراً] في مشيته. قال قتادة: {يتمطى}: " يتبختر ". قال زيد بن أسلم: {يتمطى}: يتبختر، وهي مشية بني مخزوم. وهو مشتق ن المطا، وهوالظهر. كأنه يلوي ظهره متبختراً. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مَشَتْ أُمَّتِي المُطَيْطَاءَ " ويجوز أن يكون من مططت، ثم(12/7894)
[أبدل] من إحدى الطاءين ياء، كما قالوا: " تَظَنَّيْتُ " في " تَظَنَّنْتُ "، فيكون المعنى: يمد يديه ورجليه في الخطا [متبختراً]. قال مجاهد وابن زيد: نزلت هذه الآية في أبي جهل.
- ثم قال تعالى: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى}.
هذا وعيد وتهدد لأبي جهل. قال قتادة: " ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ الله عليه السلام أَخَذَ بِمَجَامِعِ [ثِيِابِ] أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: {أولى لَكَ فأولى * (ثُمَّ أولى لَكَ فأولى)}، فَقَالَ عَدُوُّ الله: [أَيُوعِدُنِي] مُحَمَّدٌ؟! وَالله، مَا تَسْتَطِيعَ لِي أَنْتَ وَلاَ رَبُّكَ شَيْئاً، وَالله، لأَنَا أَعَزُّ مَنْ مَشَى بَيْنَ جَبَلَيْهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَشْرَفَ عَدُوُّ الله عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: لاَ يُعْبَدُ/ اللهُ(12/7895)
بَعْدَ اليَوْمِ أَبَداً، فَضَرَبَ اللهُ عُنُقُهُ وَقَتَلَهُ شَرَّ قَتْلَةٍ " والعرب تقول: " أولى (لك: كدت تهلك ثم (أفلت) ". وتقديره، أولى لك فأولى لك الهلكة، (ثم أولى لك فأولى لك الهلكة)، فهو وعيد بعد وعيد. وقال بعض أهل المعاني: {أولى لَكَ} هو " أفعل " الذي للتفضيل بمنزلة " أخرى لك " و " أقبح لوجهك "، وهو مشتق من الويل. وفيه قلب، قدمت [اللام] وهي لام الفعل قبل الياء، وهي عين الفعل، قال: وإنما فعلوا ذلك لئلا يلزمهمه من الإدغام ما [تتغير] به الكلمة. فلو أتوا به على الأصل للزمهم أن يوقولوا: " أيل "، لأن الواو تدغم فيها [الياء] إذا تقدمت(12/7896)
ساكنة، بمنزلة: [ميت] وهين.
- ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى}.
أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، يعني بذلك الكافر. قال ابن عباس: {سُدًى} مهملاً. قال ابن زيد: " لا يفترض عليه عمل ولا يعمل ". يقال: " أسديت الشيء " بمعنى: أعلمته.
- ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى}.
أي: (ألم) يك - هذا المنكر قُدرةَ الله على أحيائه بعد موته - ماءً قليلاً في صلب الرجال (مِن مَنِيٍّ)؟!(12/7897)
- {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً}. ثم دماً.
- {فَخَلَقَ فسوى}.
أي: فخلقه الله إنساناً من بعدما كان نطفة وعلقة ثم [سواه] بشراً ناطقاً سميعاً بصيراً.
- {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى}.
أي: فجعل من هذا الإنسان بعد ما سوّاه بشراً أولاداً، ذكرواً وإناثاً.
- {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى}.
أي: [أليس] الذي قدر على ذلك واخترعه من غير مثال [قادراً على أن يحيي الموتى بعد مماتهمه؟! وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر (هذه) السورة يقول: بلى.(12/7898)
قال قتادة: " كان يقول: سبحانك، وبلى ".
وأجاز الفراء الإدغام في {يُحْيِيَ}، وهو غلط عن الخليل وسيبويه، لئلا يلتقي ساكنان.(12/7899)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان
مكية
- قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}، إلى قوله: {سَمِيعاً بَصِيراً}.
" هل " [في هذا] الموضع خبر لا جحد. وفي الكلام معنى [التقرير]، كأنه قال: قد أتى على الإنسان [ز] من طويل لم يكن شيئاً مذكوراً.(12/7901)
وهذا كما تقول للرجل -[تقرير -]: هل أكرمتك؟ قد [أكرمه]، هل أحسنت إليك؟ وقد أحسن إليه. وتكون " هل " جحوداً في غير هذا الموضع، نحو قول الرجل الآخر: هل يفعل هذا أحد؟! بمعنى: لا يفعل هذا أحد، وتكون استفهاماً، وهو بابها.
وقد أجاز ابن كيسان أن تكون " هل " في الآية استفهاما على بابها، كما تقول: هل بقيت في أمرك؟.
والإنسان في الآية: آدم عليه السلام، قاله قتادة وغيره. قال قتادة: إنما [خلق] الإنسان حديثاً، وما نعلم من خليقة الله عز وجل كانت بعد الإنسان، يقول: خَلْقُ الإنسان آخر سائر ما خلق الله من الخلق.(12/7902)
والحين (هاهنا) يراد به طول مكث آدم وهو طينة. وذلك أربعون سنة في ما روي. فكان في ذلك الوقت شيئاً غير مذكور.
وقيل: الجن هنا غير معلوم، [الله يعمله]. وقيل: الإنسان هنا يراد به الجنس فأما الإنسان الثاني فهو للجنس [بلا خلاف]، وقال مالك: الحسن هنا: ما مضى قبل ذلك من أمر الدهر كله ومن قبل أن يخلق آدم.
- ثم قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ}.
أي: خلقنا ذرية آدم من نطفة، أي: من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة كل ماء قليل في وعاء. و (أمشاج): أخلاط.(12/7903)
يقال: مَشَجْتُ هذا بهذا، أي: خلطته. وواحد الأمشاج: مشيج، مثل شريف وأشراف. وقيل: مَشْجٌ مثل عدل وأعدال.
وقال ابن عباس: المشجان: ماء الرجل وماء المرأة. وهو معنى قول مجاهد والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين.
وعن ابن عباس أيضاً أن معنى (أمشاج) هو انتقاله من تراب ثم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك. وقاله أيضاً عكرمة وقتادة.
وقيل: (أمشاج) هي العروق التي تكون في النطفة. روي ذلك عن ابن مسعود.(12/7904)
وقاله أسامة بن زيد عن أبيه.
وقيل: الأمشاج هي ألوان النطفة، (نطفة الرجل تكون بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة تكون خضراء وحمراء) /، [روي ذلك عن] مجاهد وقاله ابن أبي نُجَيْح.
فمن قال: إن الأمشاج انتقال النطفة إلى علقة، ثم مضغة، ثم غير ذلك، فتقديره: من نطفة ذات أمشاج.(12/7905)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
ومعنى {نَّبْتَلِيهِ} نختبره.
{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
أي: ذا سمع وذا بصر لِتَقُوم عليه الحجة. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير عنده: إنا خلقنا الإنسان سميعاً بصيراً من نطفة أمشاج لنختبره. وقد رُدَّ [عليه] هذا التقدير، لأن الفاء لا يقع معها التقديم والتأخير. ولأن الكلام تام بغير تقديم وتأخير، فلا يخرج عن ظاهر لغير علة.
- قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل}، إلى قوله: {وَلاَ زَمْهَرِيراً}.
أي: إنا بينا له طريق لاحق وعرَّفناه. قال مجاهد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل}: الشقاوة والسعادة. وقال قتادة: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً} لنعم الله {وَإِمَّا كَفُوراً} لها. وقال ابن زيد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} قال: [ننتظر] أي شيء يصنع وأي الطريقين يسلك. ومعنى " إما " في هذا الموضع كمعنى: [" أو " إلا أنها] تدل على(12/7906)
المعنى في أول الكلام. ودليل ذلك قول المفسرين: إن معناه: إما شقياً وإما سعيداً. والشقاوة والسعادة يفرغ منهما وهو في بطن أمه. وقيل: {شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}: حالان مقدران.
وأجاز الفراء أن [تكون] " ما " زائدة [و " إن "] للشرط.
والمعنى على هذا: " إنا هديناه السبيل إن شكر وإن كفر ". وفيه بعد لأن " إن " التي للشرط لا تقع على الأسماء إلا بإضمار فعل، ولا يحسن ذلك هنا. وقيل: تقديره على قول الفراء: " إن كان شاكراً أو كان كفوراً ".
- ثم قال تعالى: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً}.
أي: إنا أعتدنا لمن كفر (وأعرض عن الإيمان) وجحد النعم [{سَلاَسِلاَ}] يوثقون بها في الجحيم {وَأَغْلاَلاً} تغل بها أيديهم إلى أعناقهم(12/7907)
{وَسَعِيراً} أي: وناراً تسعر عليهم فتوقد.
فمن لم ينون [{سَلاَسِلاَ}] أتى به على منع الصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، وهو نهاية الجمع، فثقل فمنع الصرف. ومن وقف عليه بألف مع منعه لصرفه فعلى لغة مسموعة عن العرب.
حكى الرؤاسي والكسائي أن العرب تقف على ما لا يتصرف في حال الفتح بألف [لبيان] الفتحة. وله حجة أخرى: وذلك أنه في بعض المصاحف(12/7908)
بألف. فاتَّبَعَ السَّوَادَ في الوقف، واتبع أصل الإعراب في الوصل.
فأما من نونه، فعلى لغة مسموعة من بعض العرب. حكى الكسائي وغيره من الكوفيين أن بعض [العرب يصرف كل ما] لا ينصرف إلا " أفعل منك ". وقال بعض أهل النظر: كل ما يجوز في الشعر يجوز في القرآن، لأن الشعر أصل كلام العرب، والعرب تصرف هذا ونحوه في الشعر. وقيل: إنما صرف لأن أُتْبِعَ بما بعده، وهو [{وَأَغْلاَلاً}].
وكذلك الحجة في {قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15 - 16]، عند من منع صرفه ووقف بالألف. أو بغير ألف أو صرفه.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}.
أي: إن الذين بروا ربهم بطاعتهم في أداء فرائضه واجتناب(12/7909)
محارمه يشربون في الآخرة {مِن كَأْسٍ}، وهو كل إناء فيه شراب كان مزاج ما فيها من الشراب {كَافُوراً} يعني أن [طيب] رائحة الشراب كالكافور.
وقيل: الكافور هنا اسم لعين ماء في الجنة. فعلى هذا، تكون {عَيْناً} بدلاً من " كافور ". ومن جعل الكافور صفة للشرب بنصب {عَيْناً} على الحال من المضمر في {مِزَاجُهَا}. وقيل: انتصب عين على إضمار أعني، [وقيل: هي مفعول بها بمعنى: يشربون عيناً يشرب بها عباد الله. وقيل: هي نصب(12/7910)
على المدح] وقيل: التقدير: " من عين "، قلما حذف الحرف نصب.
وقال الحسن: " الأبرار: الذين لا يؤذون الذر [ولا يرضون الشر] ".
وقال محارب بن دثار: إنما سمو أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء. فكما أن لوالديك [عليك] حقاً، كذلك لولدك عليك حق.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنْ أَبَرَّ الْبِرِ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أبيه ".(12/7911)
قال مجاهد: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} تمزج (به). قال قتادة: " قوم تمزج لهم بالكافور وتختم (لهم) بالمسك ".
- (وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله. . .}.
أي: يشربها. وقل: التقدير: يروي بها عباد الله الذين يدخلهم جنته. وقيل: يعني بعباد الله: الأبرار خاصة الذين تقدم ذكرهم. دليله قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطفيين: 28]، وهو الأبرار تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك).
- ثم قال: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}.(12/7912)
أي: [يفجرون] تلك العين كيف شاؤوا حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم. والتفجير: الإسالة للماء والإجراء له. قال مجاهد: يعدلون بها/ حيث شاءوا ويعيدونها حيث شاءوا. ويروى أن أحدهم إذا أراد أ، يتفجر [له] الماء شق ذلك الوضع بعود فجرى فيه الماء.
- قال تعالى: {يُوفُونَ بالنذر}.
أي: يوفون بكل ما يجب عليهم، نذروه أو لم ينذروه.
وقال الفراء: التقدير كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. وكانوا {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}، أي: فاشياً ظاهراً منتشراً ممتداً.
قال قتادة: {يُوفُونَ بالنذر}: " بطاعة الله وبالصلاة وبالحج والعمرة ".(12/7913)
وقال سفيان: {يُوفُونَ بالنذر}: " في غير معصية "، ويخافون عذاب الله في تركهم الوفاء في يوم كان شره ممتداً.
(قال قتادة) " استصار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض ".
وقال الفراء: {مُسْتَطِيراً} أي: [مستطيلاً].
يقال: استطار الشيء إذا انتشر.
- ثم قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ. . .}.
أي: على حبهم إياه وشهوتهم له، {مِسْكِيناً. . . ً} أي: ذا حاجة، {وَيَتِيماً}، وقوله {وَأَسِيرا} قال قتادة: هو المَأْسُورُ عندك المُشْرِك، قال:(12/7914)
وأخوك المسلم أحق منه. وقال عكرمة: الأسير - في ذلك الزمان - المشرك. قال الحسن: " ما كان أسراؤهم [إلا] المشركين ". وقال مالك: يعني أسرى المشركين. وقال مجاهد: الأسير - هنا - المسجون من المسلمين. وهو قول ابن جبير وعطاء. وهذا كله من صفة الأبرار.
- ثم قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله. . .}.
أي: يقولون إذا هم أطعموهم: إنما نطعمكم طلب رضاء الله والتقرب إليه.
- {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ. . .} منكم أيها الناس على إطعامنا لكم.(12/7915)
- {جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}.
و {شُكُوراً} يحتمل أن يكون جمع " شُكْرٍ " وأن يكون مصدراً.
قال مجاهد: " أَمَا إنَّهُمْ (ما) تكلموا به، ولكنّ الله عَلِمَه من قلوبهم فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ ". ومثلَ ذلك قال ابن جبير.
وكذلك روى [الفِرْيَابِي] عن سالم الأفطس عن ابن عمر.
- ثم قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً}.(12/7916)
أي: إنما نطعمكم رجاء أن [يؤمننا] الله عقوبته في يوم شديد تعيس فيه الوجوه من شدة هوله وطول بلائه، فهو نعت لليوم بمعنى النسب، كما قال: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] والقمطرير: الشديد، ومثله [القماطر]، وقد اقمطر اليوم [يقمطر اقمطراراً]: إذا اشتد بلاؤه، ومثله يوم عصيب وعصبصب.
قال ابن عباس في قوله: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} قال: " يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من [بين] عينيه عرق مثل القطران ". وقال قتادة: " عبست فيه الوجوه وقبضت ما بين أعينها كراهية لذلك اليوم "، وهو قول مجاهد. وعن ابن(12/7917)
عباس أن العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل.
وقال ابن زيد: " العبوس: الشر ".
- ثم قال تعالى: {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم}.
أي: وقاهم ما كانوا يحذرون في الدنيا من شر ذلك اليوم بما كانوا يعملون في الدنيا.
- ثم قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}.
قال الحسنن: " [نضرة] في الوجوه وسروراً في القلوب "
وكذلك قال قتادة. وقال ابن زيد: نعمة وفرحاً.
وروي أن هذا كله نزل في علي بن أبي طالب. رضي الله عنهـ.(12/7918)
ثم هو عام في من كان على [منهاجه في فعله].
- ثم قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً}.
أي: وأثابهم بصبرهم في الدنيا على طاعة الله واجتناب محارمه دخول جنته. واستعمال الحرير في اللباس والفرش.
- {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك}.
نصب {مُّتَّكِئِينَ} على الحال من الهاء والميم في {وَجَزَاهُمْ}.
" وجزى " هو العامل في الحال. ولا [يحسن] أن يعمل فيه {صَبَرُواْ} لأن الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. ويجوز أن ينتصب على النعب للجنَّة " لأنه(12/7919)
قد عاد [عليها] من نعتها عائد (وهو) {فِيهَا}. وقوله: {على الأرائك}، واحد الأرائك: أريكة وهي [السرر] في الحجال.
- وقوله {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}.
" شمساً] في موضع الحال من الهاء والميم، (أو) في موضع النعت لجنةً، أي: غير رائين في الجنة شمساً تؤذيهم بحرها، ولا برداً شديداً يؤذيهم [بشدته].
قال مجاهد: الزمهرير: البرد المُقَطِّعُ.(12/7920)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
وقال قتادة: " علم الله جل ذكره أن شدة البرد [مؤذ]. وشدة الحر مؤذ. فوقاهم إياهما ".
والزمهرير: لون من عذاب جهنم.
-[قوله تعالى]: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} إلى قوله: {مَّشْكُوراً}.
أي: وقربت منهم ظلالها. وانتصب {دَانِيَةً} على العطف على {جَنَّةً}.
والتقدير: وجزاهم جنة دانية.
ويجوز أن يكون [حالاً عطفاً] على {مُّتَّكِئِينَ} أو على {(لاَ) يَرَوْنَ}، ويجوز أن يكون صفة للجنة.(12/7921)
ويجوز أن يكون على المدح مثل: {والمقيمي الصلاة} [الحج: 35] فهو -[م] إن كان نكرة - فإه يشبه المعرفة، إذ قال طال الكلام به.
وقرأ ابن مسعود: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ}، حَمَلَهُ على تذكير الجمع وهو ظلالها.
وفير قراءة أُبَيّ (ودانٍ)، على أنه [في] موضع رفع مثل: قَاضٍ المرفوع. حمله [على] أنه خبر {ظِلاَلُهَا} مقدم.
- ثم قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.
قال مجاهد: معناه: إن قام ارتفعت بقدرة (الله)، (فإن) قعد تذللت(12/7922)
حتى ينالها، وإن [اضطجع] تذللت حتى ينالها.
وقال قتادة: معناه " لا يَرُدُّ أيديهم عنها [بعد] ولا شوك ".
قال سفيان: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} قال: " يتناوله كيف شاء، جالساً ومتكئاً ". قال مجاهد: أرض الجنة وَرِقً، وتُرْبُهَا مسك، وأصول شجرها ذهب، ووَرَق أفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والثمر تحته.
- ثم قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.(12/7923)
" ويقال: " المذلل الذي قد ذلله الماء أي أوراه ".
" ويقال: المذلل الذي [يُفَيِّئُهُ] [أدنى] ريح ".
" يقال: المذلل: المسوى ". وأهل الحجاز يقولون: [ذللل] نَخْلَكَ.
أي: سوه. ويقال: المُذَلَّلُ: القريب المُتَنَاوَل. من قولهم: [دابة] ذليلُ(12/7924)
" أي: قصيرة. هذه أقول أهل اللغة.
- ثم قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ}.
أي: ويطاف على هؤلاء الأبرار في الجنة بآنية في بياض الفضة وصفاء القوارير. قال مجاهد: فيها رقة القوارير في بياض الفضة. وهو قول قتادة.
- وقوله: {وَأَكْوابٍ}.
أي: " ويطاف عليهم مع الأواني بجرار ضخام فيه الشراب. وكل جرة ضخمة لا عروة لها [فهي] كوب ".
وقال مجاهد: الكوب: [الكوز] الذي لا عورة له. وهو قول أكثر(12/7925)
المفسرين. وقال قتادة: هو القِدْحُ.
- وقوله: {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ}.
[أي]: كانت هذه الأواني والأكواب قوارير فحولها الله فضة. وقيل: إن قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} يدل على أن أرض الجنة من فضة. لأن المعلوم في الدنيا المتعارف أن كل آنية (تتخذ) فإنما تتخذ من تربة الأرض التي [هي] فيها، فدل على أن أرض الجنة من فضة بقوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ}.
قال أبو صالح: كان تراب هذه الأواني فضة.
- وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}.
أي: قدروا تلك الأواني على قدر [رِيِّهم]، لا تزيد ولا تنقص في ذلك،(12/7926)
يعني: [قدرها] الملائكة [الطائفون] بالآنية والأكواب. قال الحسن: " قُدِّرت [لِريِّ] القوم.
وهو قول قتادة وابن زيد ومجاهد.
وعن ابن عباس أن معناه (وقدروها) على قدر الكف. والمعنى: [قدرها] لهم السقاة الذين يطوفون عليهم بها، فلذلك نسب إليهم. وقيل: معناه: وجدوها كذا، فنسب الفعل إليهم لمناولتهم: إياها لهم.
وقرأ الشعبي وعبيد بن عمير وابن أبزى: " قُدِّرُوهَا تَقْدِيراً " - بضم(12/7927)
القاف - أي: قدرت (عليهم) لا تزيد ولا تنقص.
- وقوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً}.
أي: ويسقى هؤلاء الأبرار في الجنة شراب (كأس).
والكأس: كل إناء فيه شراب. فإذا كان فارغاً من الخمر لم يُقَلْ له كأس، ويقال له قدح. كذلك لا يقال للخِوان: مائدة حتى يكون [عليه] الطعام.
- قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً}.(12/7928)
أي: كان مزاج شراب الكأس زنجبيلاً. قال قتادة: " تمزج بالزنجبيل ".
وقال (قتادة في رواية ابن جبير عنه): الزنجبيل: اسم للعين يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة. والعرب تضرب المثل بالخمر إذا مزجته بالزنجبيل، وكانوا يستطيبون ذلك. فخوطبوا على ما يعرفون. هذا يدل على قول قتادة الأول.
- وقوله: {عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً}.
{عَيْناً} منتصبة على ما انتصب {عَيْناً} (الأول). (قال) قتادة: معنى {سَلْسَبِيلاً}. " سلسة يصرفونها حيث شاءوا ".(12/7929)
وقال مجاهد: {سَلْسَبِيلاً} أي " [سلسة] الجرية ".
وقيل: هو اسم للعين، ويلزم من قال هذا ألا يصرفه.
قال النحاس: هي فعلليل من [السلاسة].
وهذا غلط، لأنه كان يجب أن يقال: [سلسليل]، ولا يكون فيه [باء].
[و] حكى سيبويه أن نظيره قفشليل.(12/7930)
- ثم قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ}.
" أي: لا يموتون ". وقيل: معناه مسورون. وقيل: مقطرون، وذلك بلغة حِمْيَر. يعني بذلك أنهم شباب لا يتغيرون عن ذلك السِن. تقول العرب للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره إنه لَمُخْلِدٌ، وكذلك إذا كَبِرَ [وثبتت] أضراسه، يراد به أنه [لثابت] الحال.
- ثم قال تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ/ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً}.
أي: إذا رأيت - محمد - هؤلاء الولدان، ظننتهم في حسنهم ونقاء بياض(12/7931)
وجوههم [وكثرتهم] لؤلؤاً منثوراً ومجتمعاً.
قال قتادة: {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} يعني من [كثرتهمه] وحسنهم.
قال [ابن عمرو]: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام، وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه.
قال سفيان: {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} قال: " في كثرة اللؤلؤ وفي بياض اللؤلؤ ".
وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَلاَ يَبُولُونَ وَلاَ [يَتَغَوَّطُونَ] وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، [يَصِيرُ] طَعَامُهُم وشَرَابُهُم(12/7932)
[جُشَاءً]، وَرَشْحَ مِسِكٍ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والحَمْدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفْسَ ".
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً}.
أي: وإذا رأيت - يا محمد - ما ثم رأيت نعيماً.
وأكثر البصريين على أن {ثَمَّ} نصبه على الظرف، ولم يُعَدَّ {رَأَيْتَ}، كما تقول: ظننت في الدار " فلا تعدي " ظننت ".(12/7933)
وقال الأخفش: {ثَمَّ} مفعول بها، و {رَأَيْتَ} بمعنى نظرت، و {ثَمَّ} إشارة إلى الجنة.
- وقوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً}.
أي: (و) رأيت مع النعيم ملكاً عظيماً. روي: أَنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ في مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ.
وقيل: الملك الكبير هنا عني به تسليم الملائكة عليهم واستئذانهم عليهم. قاله مجاهد وسفيان.
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ عَامٍ، يَنْظُرُ أَزْوَاجشهِ وَسُرُرَهُ وَخَدَمَهُ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَيَنْزظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ".(12/7934)
قال أحمد بن ثعلبة عن أبيه أنه (قال) في قوله تعالى: {وَمُلْكاً كَبِيراً} هو أ [ن] (رسول) رب العزة يأتيه بالتُّكف واللُطْفِ فلا يصل إليه إلا بحجاب، ومن داره إلى دار السلام باب يدخل منه على ربه إذا شاء بلا إذن، فذلك (الملك) الكبير.
وقال الفزاري: لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب، باب يدخل عليه منه زواره من الملائكة، وباب تدخل عليه (منه) أزواجه الحور، وباب مقفل بينه(12/7935)
وبين أهل النار بفتحه إذا شاء ينظر إليهم فتعظم النعمة عليه، وباب بينه وبين دار السلام يدخل على ربه إذا شاء.
قال كعب: من الجنة إلى النار كِوَاءٌ يتطلع منها رجال من (أهل) الجنة إلى رجال من أهل النار ينظرون إلى عذابهمه.
ثم قرأ كعب: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] أي: في وسطها.
- ثم قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}.
من أسكن الياء في {عَالِيَهُمْ} جعله مرفوعاً بالابتداء، وما بعده خَبَرُه، وشَاهِدُهُ أن في قراءة ابن مسعود " عَالِيَتُهُمْ ثياب ".(12/7936)
ومن فتح الياء جعله ظرفاً خبرَ (ابتداءٍ) مُقَدَّمٍ، وهو " ثِيَابٌ ". وشَاهِدُهُ أن [مجاهداً] قرأ " عَلَيْهِمْ ثِيَابُ ".
والسندس: رقيق الديباج، والاستبرق: غليظة.
فالمعنى: أن الثياب الخضر علو ثياب أهل الجنة. هذا على قراءة من رفع الحضر وخفض السندس.
وقيل: معناه أن الثياب الخضر فوق حجالهم لا عليهم.(12/7937)
قال الطبري: {عَالِيَهُمْ} أي: " فوقهم، يعني: فوق هؤلاء الأبرار ثياب سندس ". هذا كله على قراءة من فتح الياء.
ومن أسكنها فمعناه: ظاهرهم ثياب سندس.
وقرأ ابن محيصن: " وَاسْتَبْرَقَ " بوصل الألف وفتح القاف. وهو لحن عند النحويين، لأنه لا يمتنع مثل هذا من الصرف في النكرة. ولأنه لا توصل ألف(12/7938)
مثل هذا (في التسمية به)، لو سميت بِ " اسْتَكْبَرَ " لقطعت الألف، لانتقاله من الأفعال إلى الأسماء.
هذا قول الخليل وسيبويه.
- ثم قال تعالى: {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ}.
أي: وحلاهم ربهم أساور من فضة، وهو جمع أسورة.
- ثم قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}.
أي: شراباً يصير رشْحاً في أبدانهم (كرشح المسك)، لا يصير بولاً نجساً كشراب الدنيا. قال النخعي: " إن الرجل من أهل الجنة (يُقْسَمُ له شهوة مائة رجل(12/7939)
من أهل الدنيا) وأكلهم ونعمتهم، فإذا أكل سقي شراباً طهوراً فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيب من المسك الأذفر، ثم تعود شهوته ".
- ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً}.
أي: يقال لهم: إن هذا الذي ذكر في الجنة كان لكم جزاء على أعمالكم في الدنيا وطاعتكم. وإن عملكم متقبلاً. قال قتادة: " غفر لهم الذنوب، وشكر لهم الحسن ". وقال مرة أخرى: " لقد شكر سعياً قليلاً ".(12/7940)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
- قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن}، إلى آخر السورة.
أي: إنا/ نحن - يا محمد - نزلنا عليك القرآن مع جبريل تنزيلاً ابتلاءً واختباراً فاصبر لما امتحنك به ربك من فرائضه وتبليغ رسالاته.
- ثم قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً}.
قال الفراء: " أو " بمعنى الواو. والمعنى: ولا تطمع منهم من أثم وكفر. [قال]: ويجوز أن يكون المعنى (و) لا تطيعن من أثم أو كفر بوجه فيكون مثل الواو في المعنى.
والمعنى: (و) لا تطع منهم في معصية الله {ءَاثِماً} يريد بركوبه معاصيه {أَوْ كَفُوراً} أي: جحوداً لربه ولنعمه عنده.(12/7941)
قال قتادة: نزلت في عدو الله أبي جهل قال: بلغنا أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل الله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً}.
قال ابن زيد: الآثم (و) الظالم والكفور كله واحد.
- ثم قال تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
أي: غدوة، يعني: صلاة الصبح {وَأَصِيلاً} يعني: وعَشياً، يعني صلاة الظهر والعصر.
ثم قال: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}.
قال ابن زيد: " كان هذا - أول شيء - فريضة، نحو قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ. . .} [المزمل: 2 - 4]، فخفف الله هذا عن رسوله وعن الناس بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} [المزمل: 20] الآية، فجعل ذلك نافلة فقال: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ(12/7942)
نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] وتقدير الكلام: واسجد له من الليل وسبحه ليلاً طويلاً، فهو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل كما ذكرنا وقيل: هو (على) الندب.
وقيلأ: هو خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم.
( وقد) قال ابن حبيب: إن قوله تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً} يعني الصبح: وقوله: {وَأَصِيلاً} يعني: الظهر والعصر. وقوله: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} يعني به المغرب والعشاء. فالآية محكمة جمعت الأمر بفرض الصلوات الخمس.(12/7943)
- وقوله: {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}. يعني قيام الليل والمنسوخ فرضه. وكذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] فالطرف الأول صلاة الصبح، والطرف الآخر [صلاة] الظهر العصر.
- وقوله: {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] يعني المغرب والعشاء فهذه [الآية] أيضاً جمعت فرض الصلوات الخمس وأوقاتها.
ومثل ذلك: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] يعني: ميلها. وهو الظهر والعصر.(12/7944)
وقوله: {إلى غَسَقِ اليل} [الإسراء: 78]: (يعني المغرب والعشاء.
- وقوله {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] يعني صلاة الصبح، فهذا أيضاً جمعت) فرض الصلوات الخمس وأوقاتها.
وكذلك قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130] يعني: صلاة الصبح، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] يعني: العصر.
- وقوله: {وَمِنْ [آنَآءِ] الليل فَسَبِّحْ}
[طه: 130] يعني: المغرب والعشاء.
- وقوله: {وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] يعني: الظهر، لأن وقتها [يجمع] طرفي النهار.(12/7945)
- وأما قوله: {وَسَبِّحْ} [غافر: 55] و {بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار} [غافر: 55]، فإن ذلك نزل قبل فرض الصلوات الخمس، وكانت الصلاة ركعتين غدوة وركعتين عشية، فرضاً بهذا الآية، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس.
وأول صلاة صليت من الصلوات الخمس: الظهر، وبهذا بدأ جبريل، ولذلك سميت الأولى.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}.
أي: إن المشركين بالله - يا محمد - يحبون الدنيا والبقاء فيها، ويدعون خلف ظهورهم العمل للآخرة وما ينجيهم من عذاب الله. وقيل: معنى " وَرَاءَ " هنا: قدام. وقيل: التقدير: ويذرون عمل يوم ثقيل وراء ظهورهم.
- ثم قال تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ}.(12/7946)
أي: " خلقهم ". قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقال أبو هريرة: الأسر: المفاصل وقال ابن زيد: هو القوة. وقد قيل: هو مضع خروج الحدث.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً}.
أي: وإذا شئنا أهلكنا هؤلاء وجئنا بآخرين سواهم من جنسهم في الخلق، مخالفين لهم في العمل. هذا معنى قول ابن زيد.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ}.
أي: إن هذه السورة والعظة والأمثال والقصص تذكرة وعظة لمن تذكر بها واتعظ.
- {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}.
هذا تهديد ووعيد. أي: من شاء عمل [عملاً] صالحاً يوصله إلى رحمة ربه.(12/7947)
ومن شاء فليترك ذلك، فسيرى عقابه في الآخرة.
- ثم قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}.
أي: وما تشاءون اتخاذ الطريق إلى رضا الله ورحمته إلا بأن يشاء الله ذلك لكم لأن الأمر إليه لا إليكم. ف " إن " في موضع نصب بحذف الجار.
وقيل: هي في موضع خفض على إضماره. وجاز ذلك مع " أن " خاصة [لكثرة حذف] الجار معها.
وفي حرف عبد الله: " وَمَاتِشَاءُونَ إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ".(12/7948)
- ثم قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
أي: عليماً بمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، حكيماً في تدبيره، لا يقدر أحد أن يخرج عن مراده ومشيئته.
- ثم قال: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ}.
أي: يوفق من يشاء إلى التوبة فيدخله بذلك في رحمته.
- ثم قال تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
أي: والذين ظلموا أنفسهم فلم يتوبوا من كفرهم حتى ماتوا عليه أَعَدَّ لَهمْ في الآخرة عذاباً مؤلماً، أي: موجعاً، وهو عذاب النار.
فالمعنى أن الله جل ذكره (أعلمنا في) هذه الآية [أنه يشاء أن] يعذب الكفار(12/7949)
وأن يرحم أهل طاعته. وانتصب (الظالمين) على إظمار فعل (في) معنى " (أ) عد "، كأنه قال: ويعذب الظالمين، [ولا يُضْمَرُ] " أَعَدَّ "، لأنه [لا يتعدى] إلا بحرف، فلا بد من إضمار فعل يتعدى بغيكر حرف يدل على " أعد "، وهو " يعذب " أو شبهه.(12/7950)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المرسلات
مكية
- قوله: {والمرسلات عُرْفاً}، إلى قوله: {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وأبو صالح وقتادة: {(و) المرسلات}: الرياح، {عُرْفاً}: يتبغ بعضها بعضاً.(12/7951)
وقال مسروق: {والمرسلات}: " الملائكة " {عُرْفاً} أي: ترسل بالعرف.
عن أبي صالح أيضاً أنها " الرسل، ترسل بالمعروف ". وقيل: {عُرْفاً} أي: متتابعة كتتابع عرف الفرس.
والتقدير على قول مسروق: ورب الملائكة التي أرسلت إلى الأنبياء بأمر الله ونهيه (وذلك هو المعروف.
وعلى قول أبي صالح: ورب الرسل التي أرسلت إلى الناس بأمر الله ونهيه).
ومن قال {عُرْفاً} متتابعة (فتقديره: ورب الملائكة التي أرسلت إلى الأنبياء متتابعة) ورب الرسل الذين أرسلوا إلى الخلق متتابعين. وكذلك التقدير على قول ابن عباس ومن تبعه: هي الرياح.(12/7952)
ويدل (على أنها ليست) الريح أن يسعدها ذكر الرياح [بلا اختلاف] في قوله: {فالعاصفات عَصْفاً}.
- (ثم قال تعالى: {فالعاصفات عَصْفاً}).
أي: (ورب الرياح العاصفات) أي: الشديدات الهبوب السريعات المر. وهذا قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس، وغيرهم.
- ثم قال تعالى: {والناشرات نَشْراً}.
قال ابن مسعود ومجاهد [وقتادة]: هي الرياح لأنها تنشر السحاب.
وقال أبو صالح: هي " المطر "، لأنه ينشر الأرض، أي: [يحييها].(12/7953)
وروى (السدي) عن أبي صالح أنها الملائكة، (قال): [تنشر] [الكتب]. - ثم قال تعالى: {فالفارقات فَرْقاً}.
قال ابن عباس وأبو صالح وسفيان: هي الملائكة، فرق بالوحي بين الحق الباطل. وقال قتادة: هو القرآن، فرق الله به بين الحق والباطل، كأنه قال: والآيات الفارقات فرقاً.
- ثم قال تعالى: {فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً}.
كلهم قال: هي الملائكة التي تلقي وحي الله إلى رسله، والذكر: القرآن.
ثم قال تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً}.(12/7954)
أي: تلقي الوحي إلى الرسل إعذاراً من الله لخلقه [وإنذاراً] منه لهم. قاله قتادة وغيره.
- ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع}.
يعني أن البعث والجزاء وجميع ما أخبر الله، كائن واقع [وحادث] لا محالة. و {إِنَّمَا} هو جواب القسم المتقدم.
- ثم قال تعالى: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ}.
أي: ذهب ضوءها فلم يكن لها نور.
{وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ}. أي: شققت وصدعت.
{وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ}. أي: نسفت من أصلها.(12/7955)
{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 6]. أي: غباراً متفرقاً.
{وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ}.
أي: أجلت الاجتماع لوقتها يوم القيامة.
قال ابن عباس: {أُقِّتَتْ} " جمعت ". وقال مجاهد {أُقِّتَتْ} " أجلت ".
وهو من الوقت، فمعناه: [حان] وقتها الذي وعدته به، وذلك يوم القيامة.
وقرأ عيسى بن [عمر] " أُقِتَتْ " بالتخفيف والهمز، وقرأ الحسن. " وُقِتَتْ " بالواو والتخفيف.(12/7956)
وكله من الوقت، والواو هي الأصل، والهمزة بدل منها.
والتخفيف والتشديد لغتان، إلا أن في التشديد معنى التكرير والمبالغة.
- ثم قال تعالى: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ}.
أي: ما أعظمه وأكثر هوله. ففي الكلام معنى التعظيم لليوم والتعجب منه. ومعنى التعجب في هذا أنه تعالى ذكره يعجب العباد من هوله [وفظاعته]، ثم بينه فقال:
- {لِيَوْمِ الفصل}.
أي: أجلت الرسل ليوم يفصل الله (فيه) بين خلقه، فيأخذ للمظلوم من الظالم ويجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساته.(12/7957)
- ثم قال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل}.
أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما يوم الفصل؟ فمعناه التعظيم لذلك اليوم لشدته وهوله.
- ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
أي: [الوادي] الذي [يسيل] في جهنم من صديد أهلها للمكذبين/ بذلك اليوم.
وقيل: معناه قبوح لهم ذلك اليوم.
فقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} هو جواب (إذا) في ما تقدم من الكلام.
- قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين}.(12/7958)
يعني قوم نوح وعاد وثمود وشبههم.
- {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين}.
يعني: قوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم فرعون، فيكون {نُتْبِعُهُمُ} على هذا مجزوماً. والتقدير: " وَأَلَمْ نُتْبِعْهُمُ الآخِرِينَ ". وبه قرأ الأعرج.
- وقوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين}.
يعني كفار قريش ومن سلك طريقهم من العرب وغيرها.
ورد الجزام وأبو حاتم لأنه تأول أن {نُتْبِعُهُمُ} يراد به قريش ومن سلك في التكذيب طريقهم. فلا سبيل إلى الجزم على هذا المعنى لأنه منتظر في المعنى.
ولم لا تدخل على فعل معناه الاستقبال، بل ترده إلى الماضي أبداً.(12/7959)
(وقيل): إن {نُتْبِعُهُمُ} عطف على المعنى، لأن المعنى {أَلَمْ نُهْلِكِ}: قد أهلكنا.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين}.
أي: كذلك نهلك من أجرم فاكتسب مخالفة الله ورسوله.
[ثم قال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
وقد تقدم ذكره، وكذلك معنى كل ما في السورة وغيرها منه].
- ثم قال: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ [مَّهِينٍ]}.
أي: من نطفة ضيعفة. قال ابن عباس: " المهين: الضعيف ".
- ثم قال: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}.(12/7960)
أي: في رحم استقر فيه فتمكن.
{إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ}.
أي: إلى وقت خروجه من الرحم.
- ثم قال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون}.
قال الضحاك: معناه " فملكناهم فنعم المالكون ". وهذا التقدير على قراءة من خفف.
وعلة من شدد أنه أراد به التذكير، لأنه تعالى قدر الإنسان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم، [ثم]. . .، [فدل] التشديد على تكرير [الأحوال].(12/7961)
ومن خفف أجراه على لفظ " القادرين " إذ فعله: " قدر مخففاً، فالتخفيف بمعنى الملك والقدرة على ذلك.
والتشديد بمعنى التقدير. فمن شدد {فَقَدَرْنَا} جمع بين معنيين: التقدير [بقدرنا]، والملك " بالقادرين ".
ومن خفف جعله كله بمعنى الملك والقدرة.
وقد يستعمل التشديد، وهو بمعنى القدرة أيضاً يقال: قَدَرَ الله كذَا وقدَّره، لغتان.
فيكون من شدد {فَقَدَرْنَا} جمع بين اللغتين، بقوله: {القادرون}، كما قال: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17]، وقد قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] مشدداً.
- ثم قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * (أَحْيَآءً). . .}.
أي: ألم نجعل أيها الناس الأرض لكم وعاءً، أنتم على ظهرها في مساكنكم(12/7962)
مجتمعون أحياءً وفي بطنها أمواتاً؟!
[يذكرهم] بنعمه عليهم.
يقال: كَفَتُّ الشيء إذا جَمَعْتَهُ وأَحْرَزْتَهُ.
روي عن ابن مسعود أنه " وجد قملة في ثوبه فدفنها في المسجد، ثم قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وأمواتا}.
وقال مجاهد - في الرجل يرى القلمة في ثوبه وهو في المسجد - قال: " إن شئت فألقها، وأن شئت [فوارها]. ثم قرأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً. . .}.
قال الشعبي: {كِفَاتاً}: " بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم ".
وقال مجاهد: {كِفَاتاً}: تكفت أذاهم وما يخرج منهم أحياءً وأمواتاً، أي: تضم(12/7963)
ذلك.
ونصب {أَحْيَآءً وأمواتا} " بفكات "، أي: تضم أحياءً وأمواتاً. وقيل: التقدير: كفات أحياء وأموات، أي: ضمهم، [فلما] نون نصب ما بعده، كما تقول: رأيت ضرب زيد. فإن نونت " ضرباً "، نصبت " زيداً " أو رفعته.
- ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ}.
أي: جبالاً شاهقات، أي: طولاً مشرفات.
- ثم قال تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً}.
أي: عذباً قال ابن عباس: وذلك من أربعة أنهار: سيحان وجيحان والنيل(12/7964)
والفرات. فكل ما شربه ابن آدم (فهو) من هذه الأنهر، وهي (تخرج من) تحت صخرة عند بيت المقدس. فأما سيحان فهو نهر بلخ، وأما جيحان فهو دجلة بغداد، وأما الفرات فبالكوفة، وأما النيل (فنهر مصر).
- ثم قال تعالى: {انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
أي: يقال لهؤلاء المكذبين بآيات الله ونعمه: انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون به في الدنيا من عقاب الله لأهل الكفر.
- {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ}.
أي: إلى ظل دخان ثلاث شعب. وذلك أنه يرفع وقودها الدخان، فإذا تصعد تفرق على ثلاث شعب، وهو " دخان جهنم ".
[وهو قوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43]، اليحموم: الدخان.(12/7965)
وقد قيل في قوله " {ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} إنه [ظل] الصليب الذي يعبده النصارى. وهوقول شاذ يوجب أن يكون المأمور بهذا، النصارى خاصة. ولست الآية إلا عامة في جميع الكفار، وليس كلهم عبد المطلب، فإنما أمروا إلى ظل دخان جهنم، دخان قد أنفرق على ثلاث شعب]. قال قتادة: هو كقوله: {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29].
- ثم قال تعالى: {لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب}.
هذا نعت للظل أي: إلى غير [غانٍ] من اللهب. أي: [لا يظلهم/ ولا يمنعهم] من لهب جهنم، فلا يمنع عنهم ذلك الظل حرها ولا لهبها.(12/7966)
وهذا الوصف مطابق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " نَّ الشَّمْسَ تَدْنُوا مِنْ رُؤُوسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ لِبَاسٌ وَلآَ لَهُمْ مَا يَسْتَتِرُونَ بِهِ مِنْهَا، فَيُنْجِي اللهُ المُؤْمِنِينَ إلى ظِلٍّ مِنْ ظِلِّهِ، وَيُقَالُ لِلْكُفَّارِ: انْطَلِقُوا إلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَعِقَابِهِ {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} فَيَنْطَلِقُونَ إلى دُخَانِ جَهَنَّمَ " أفهذا للكفار، لأنه روي: أَنَّ الخَلاَئِقَ إِذَا اشْتَدَّ عليهم حرُّ الشمس وَدَنَتْ مِنْ رُؤُسِهِمْ وأَخَذَتْ بِأَنفاسهِم وأشتد ذلك عليهم وكَثُرَ العَرَقُ، واشتد القَلَقُ، نَجَّى اللهُ المؤمنين برحمته إلى ظل من ظله، فهناك يقولون: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم}. ويقال للكفار المكذبين: انطلقوا إلى ما كنتم تُكَذِّبُونَ من عذاب الله وعقابه، انطلقوا إلى ظِلٍّ من دخان جهنم قد سَطَعَ وافترق ثلاثَ فِرَقٍ، فينطلقون ويكونون فيه، وهو أشد من حر الشمس الذي كانوا قد قَلِقُوا فيه. فيُقِيمُونَ في ظل ذلك الدخان حتى يُفْرَغَ من الحساب، كذلك أولياء الله في ظل عرش الرحمن، وحيث شاء الله حتى يفرغ من الحساب، ثم يؤمر بكل فريق إلى مُسْتَقَرِّهِ من الجنة أو من النار ".(12/7967)
- ثم قال تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر}.
أي: [إن]: جهنم ترمي ذلك اليوم بشرر كالقصر [المبني]. وقال ابن عباس: " كالقصر العظيم ".
قال الحسن: هو واحد القصور.
وروى حجاج عن هارون {كالقصر} أي: كالخشب الجزل، وهو جمع قَصْرَة، كجَمْرة وجَمْر، وثَمْرَة وثَمَر.
وقرأ ابن عباس: " كَالْقَصَرِ " بفتح الصاد.(12/7968)
وقرأ ابن جبير والحسن: " كَالْقِصَرِ " بكسر القاف وفتح الصاد.
وعن ابن جبير: كقراءة ابن عباس، القصرة: الخشبة تكون [ثلاث] أذرع أو أكثر، فهو على قراءته جمع قصرة كشخبة وخشب.
وقال مجاهد وقتادة: القَصَر - بالفتح - هو [أصول] النخل. ومن كسر القاف جعله جمع قِصَرَة وقصر، وهي الخشبة أيضاً.
وقال المبرد: قيل: القَصْرُ: الجزل من الحطب الغليظ، واحدته قَصْرَةٌ، كَجَمْرَة وجمر.
والقَصْرُ في هذا الموضع إذا جعلته أحد القُصُورِ فهو واحد يدل [على(12/7969)
الجمع]، وذلك جعل نعتاً لِ " شَرَرٍ " وهي جماعة.
فإن جعلته جمع قَصْرَةٍ جئت به في النعت بالجمع كالمنعوت، وقد [قال]: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]، فَوَحَّدَ (و) لم يقل: " الأدبار "؟ لأن الدبر بمعنى الجمع، وفعل ذلك توفيقاً بين رؤوس [الآي] ومقاطع الكلام، إذ كان ذلك شأن العرب، والقرآنُ بلسانها نزل فَجَرَتْ [ألفاظه] على عادتها في لغتها وكلامها [وسجعها]، وقد قال تعالى: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19]، ولم يقل: " كعيون الذين ". وهو المعنى لأن المراد في التشبيه الفعل لا العين.
- ثم قال تعالى: {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ}.(12/7970)
أي: كأن ذلك الشرر الذي هو كالقصر: نُوقٌ سُودٌ. فالصفرة هنا بمعنى السواد، وإنما وقعت الصفرة في مضع السواد لأن ألوان الإبل السود تضرف إلى الصفرة، كما سميت [الظباء] " أُدْماً " لِمَا يَعْلُوهَا في بياضها من الظلمة.
قال الحسن: {جمالت صُفْرٌ} [أَيْنُقُ] سود، وهو قول قتادة ومجاهد.
وقال ابن عباس: عنى بذلك قلوس السفن، يعني حبال السفن.
شبهت الشرر بحبال السفينة. والقَلْسُ. الحبلُ.
وعن ابن عباس أيضاً: {جمالت صُفْرٌ}: " قِطَعُ النّحَاسِ " وهو جمع جِمَالَةٍ(12/7971)
[وجِمَالَةٌ]: حمع جمل.
(ومن قرأ (جِمَالَةٌ) جعله جمع جَمَل).
وقد قرأ (أبو) أيوب: " جُمَالاَت " - بضالم الجيم - كأنه جمع جَمَلاً (على(12/7972)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
جُمَالٍ) كما يجمع رَخِلٌ على رُخَالٍ. ثم جمع " جُمَالاً " على جُمَالاَت، لأن باب " فَعَل " و " فُعَل " واحد.
ويجوز (أن) يكون من الشيء المجمل.
- قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
وقد تقدم ذكره.
- قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ}، إلى آخر السورة.
أي: هذا يوم لا ينطق فيه أهل التكذيب بثواب الله وعقابه، وذلك في موطن دون موطن. ودليله: قوله - حكاية عنهم - {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا(12/7973)
(مِنْهَا)} [المؤمنون: 107] {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين} [غافر: 11].
وشبهه.
- ثم قال تعالى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}.
أي: مما كسبوا في الدنيا من المعاصي.
وقال ابن عباس: يوم القيامة أوقات، فوقت لا ينطقون فيه، وذلك عند (أول) نفخة، يريد: كل هول. وقيل: المعنى لا ينطقون فيه بحجة لهم. تقول العرب لمن أحتج بما/ لا حجة فيه: ما جئت بشيء، ولا نطقت بشيء، أي: هم بمنزلة من لا ينطق، إذ لا ينتفعون بمنطقهم. ومثله في هذا المعنى قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، أي: هم بمنزلة من هو هكذا.(12/7974)
وقد استدل بعض أهل النظر على أنه يراد به بعض أوقات اليوم دون بعض [بإضافة] اليوم إلى الفعل.
قال: والعرب لا تضيف اليوم إلى " فعل " و " يفعل " (إلا) إذا [أرادت] الساعة من اليوم، تقول: آتيك يوم يقدم فلان، وأراك يوم يقدم.
والمعنى: ساعة يقدم، لأنه لا يتمكن أن يكون إتيانه اليوم كله.
- ثم قال تعالى: {هذا يَوْمُ الفصل جمعناكم والأولين}.
أي: يقال [لهؤلاء المكذبين بالله ورسله. هذا يوم يفصل الله فيه بن خلقه بالحق، [جعلناكم فيه] لموعدكم الذي كنا نعدكموه في الدنيا، وجمعنا الأولين معكم ممن كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون العافية.(12/7975)
- {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}.
أي: فإن كان لكم كلكم اليوم حيلة تحتالون بها في التخلص من العقاب، فاحتالوا بها ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً.
- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
أي: للمكذبين بهذا الخبر.
- ثم قال: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ}.
أي: إن الذين اتقوا الله بأداء فرائضه وطاعته في الدنيا {فِي ظِلاَلٍ}، لا يصيبهم حر ولا قُرٌّ {وَعُيُونٍ}، أي: وأنهار تجري في خلال أشجار جناتهم.
- {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ}.
أي: يأكلون منها متى اشتهوا لا يخافون ضرها ولا عاقبة مكروهها.
- {كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أي: يقال لم ذلك، أي كلوا من الفواكه، واشربوا [من] العيون هنيئاً [بما(12/7976)
كنتم تعملون].
لا تكدير عليكم، ولا تنغيص في ذلك جزاء لكم بأعمالكم الصالحات في الدنيا وطاعتكم.
وقيلأ: معناه: هنيئاً لكم، لا تموتون.
- ثم قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}.
أي: كما جزينا هؤلاء المتقين بما ذكرنا، كذلك نجزي من أحسن إلى نفسه فأطاع الله واجتنب معاصيه [وأدى] فرائضه.
- ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
أي: للمكذبين بما أخبر الله منه جزائه المتقين في الآخرة.
ثم قال تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ}.(12/7977)
هذا وعيد وتهديد للمشركين المكذبين بما ذكره الله في هذه السورة وغيرها من مجازاته للمتقين وانتقامه من المذكبين، أي: كلوا في بقية آجالكم أيها المذكبون، وتمتعوا بقية أعماركم.
{إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أي: مكتسبون لما فيه عطبكم وهلاككم كما فعل من كان قبلكم من الأمم المكذبة. ق ل ابن زيد: عنى بذلك أهل الكفر. وقيل: إن {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ} [يرجع] إلى أول الكلام في قوله: {جمعناكم والأولين * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} {كُلُواْ}.
- ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
(أي للمكذبين) [بخبر} الله عن البعث والجزاء.
- ثم قال تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ}.
قال ابن عباس: " هذا يوم القيامة، يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا ".(12/7978)
وقال قتادة: ذلك في الدنيا، كانوا يمتنعون من السجود (لله).
ورأى ابن مسعود رجلاً يصلي ولا يركع، وآخر يجر إزاره، فضحك، فقالو: ما أضحكك؟! قال: أضحكني رجلان، أما أحدهما فلا تقبل له صلاة، وأما الآخر فلا ينظر الله إليه.
وقيل: عني بالركوع هنا الصلاة، قاله مجاهد.
- ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
أي: الذين كذبوا رسل الله فردوا عليهم فيما بلغوهم عن الله.
- ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
أي: بعد القرآن إذ كذبوا به، فبأي شيء يؤمنون بعده إيماناً ينتفعون به؟!(12/7979)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عم يتسألون
مكية
- قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم}. إلى قوله: {(مَآءً) ثَجَّاجاً}.
أي: عن أي شيء يتساءل هؤلاء [المشركون] يا محمد؟، عن أي شيء يختصمون؟
ف {عَمَّ} تحتاج إلى جواب، وجوابه {عَنِ النبإ العظيم}، وكان حقه أن يأتي(12/7981)
الجواب من المسؤول، وكلن دل عليه/ {عَنِ النبإ العظيم} وقام مقامه، وهو جواب لجوابهم، كأنهم قالوا: عم نتساءل؟ سألوا الجواب من السائل لهم، فقيل لهم: {عَنِ النبإ العظيم}.
ذكر أن قريشاً كانت تختصم فيما بينهم [وتتجادل] في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان بكتاب الله، فنزل هذا في اختاصمهم. ثم بين - جل ذكره - ما الذي هم يختصمون، فقال: {عَنِ النبإ العظيم} (أي: يتساءلون عن النبأ)، ثم حذف لدلالة الأول [عليه]، فتقف على هذا على {يَتَسَآءَلُونَ}. وقيل: [إن " عن "] متعلقة بهذا الفعل.
والمعنى: لأي شيء يتساءل هؤلاء عن النبأ العظيم.(12/7982)
فلا تقف على هذا على {يَتَسَآءَلُونَ}.
فأما النبأ، فقال مجاهد: " هو القرآن ". وقال: قتادة: " هو البعث بعد الموت ".
وقال ابن زيد: " هو " يوم القيامة ".
- ثم قال: {الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
أي: منهم مصدق و [منهم] مكذب، إما بالقرآن وإما بالعبث.
قال قتادة: [صار] الناس [فرقتين] في البعث بعد الموت، (فمنهم مكذب)، ومنهم مصدق.
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}.
أي: ما الأمر كما يزعم هؤلاء أنه لا بعث. ثم قال: {سَيَعْلَمُونَ} على(12/7983)
الوعيد والتهديد، أي: سيعلم (هؤلاء) المنكرون للبعث [وعيد] الله لهم أحق هو أم باطل.
ثم أكد الوعيد فقال: {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}.
أي: ثم ليس الأمر على ما [قالوا] إنه لا بعث، سيعلمون وعيد الله لهم أحق هو أم باطل.
ويجوز أن يكون " كلا " بمعنى " حَقّاً " في الموضعين، وبمعنى " أَلاَ ".
وهذا التفسير إنما هو على قول من قال: إن [النبأ] العظيم: البعث ويوم القيامة.
فأما من قال هو القرآن فيكون معناه: كلا سيعلمون (عاقبة تكذيبهم لهذا(12/7984)
القرآن ثم كلا سيعلمون) ذلك على التأكيد والوعيد وتكون " كلا " بمعنى (حقاً) أو بمعنى " ألا "، ويجوز أن تكون [بمعنى " لا "]، أي: [لا، لا اختلاف] (في) القرآن، وهو قول نصير ولم يجزه أبو حاتم.
وقال الضحاك تقديره: كلا سيعلم الكافرون ثم كلا سيعلم المؤمنون. فالوقف [على {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}] الأول وعلى {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} الثاني.(12/7985)
والوقف عند أكثرهم على سيعلمون الثاني.
- ثم قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا * والجبال أَوْتَاداً}.
أي: ألم أنعم عليكم أيها الخلق فجعلت لكم الأرض فراشاً تفترشونها، وجعلت الجبال أوتاداً للأرض أن تميد بكم؟!
- {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}.
- (أي) ذكراناً وإناثاً، وطوالاً وقصاراً؟!
- {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً}.
أي: راحة (لكم ودعة تسكنون كأنكم أموات لا تشعرون؟! والسبات السكون)، وبذلك سمي السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة.(12/7986)
- ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً}.
أي: غشاء لكم يتغشاكم سواده وتغطيكم ظلمته كما يغطي الثوب لابسه.
قال قتادة ": {اليل لِبَاساً} أي: " سكناً.
- ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً}.
(سمي النهار معاشاَ لما كان يطلب المعاش فيه. وتقديره: وجعلنا النهار ذا معاش.
قال مجاهد: {مَعَاشاً} أي: " تبتغون فيه من فضل الله ".
- ثم قال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً}.
يعني السبع سماوات. وسمي بناء على عادة العرب، لأنهم يقولون لسقف البيت سماء، ويقولون له بناْ.
ومعنى " شداد " أي: وثاقاً محكمة الخلق، لا صدوع فيهن ولا(12/7987)
فطور، ولا يبليهن [مر] الليالي والأيام عليهن.
- ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}.
(أي): شمساً وقادة مضيئة منيرة.
- قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً}.
أي: من السحائب ماء منصباً يتبع بعضه بعضاً كثج [دماء].
البدن كذا قال ابن عباس ومجاهد والربيع: الثجاج المنصب.
وقال ابن زيد: الثجاج: الكثير.
وأكثرهم على أنه المُنْصَبُّ. وهو اختيار الطبري. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(12/7988)
" أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ والْثَّجُّ ".
[فالعج] رفع الصوت بالتلبية، والثَّجُّ [صَبُّ] دماء الهدايا والبدنِ، قال ابن عباس: المعصرات " السحاب ".
وهو قول سفيان والربيع. وقال الحسن وسعيد/ بن جبير وقتادة: المعصرات: السماء.(12/7989)
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: المعصرات: الرياح، لأنها تعصر في هبوبها. و (هو) قول ابن زيد.
ويلزم قائل هذا أن تكون القراءة: " وأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ "، وبذلك قرأه عكرمة.
والمُعْصِرُ: المرأة التي قددنا [حيضها] وإن لم تحض، فشبهت السحاب بها [للمطر] الذي فيها.(12/7990)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
- قوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} إلى قوله: {عَطَآءً حِسَاباً}.
أي: أنزلنا الماء لنخرج به من الأرض لكم حباً، يعني القمح والشعير وسائر القطنية، {وَنَبَاتاً} يعني ما ترعى البهائم.
- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}.
أي: وثمر جنات ملتفة مجتمعة قال ابن عباس: " التف بعضها ببعض ". وهو قول مجاهد وقتادة وغيرهما. وقال الأخفش وأبو عبيدة: واحد الألفاف لِفٌّ. وقيل: لَفِيفٌ وحكى الكسائي أنه جمع الجمع، وواحده " لَفَّاءُ " كحمراء،(12/7991)
ثم جمعت لَفَّاءُ على (لِفّ [كحمر] ثم جمعت " لِفٌّ " على) ألفاف، [كخف] وأخفاف.
قال ابن مسعود: يرسل الله جل وعز الرياح فتأخذ الماء من السماء فتجريه في السحاب [فتذريه] كما تذر اللقحة.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً}.
أي: يوم يفصل الله فيه بين خلقه كان ميقاتاً لما أعد الله للمكذبين بالبعث ولنظرائهم من الخلق.
قال قتادة: هو يوم عظمه الله يفصل فيه بين الأولين والآخرين.(12/7992)
- ثم أبدل من {يَوْمَ} للبيان فقال:
- {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً}.
أي: يوم الفصل بين الخلق يوم ينفخ إسرافيل في الصور فتأتون من قبوركم إلى المحشر {أَفْوَاجاً} [أي]: زُمَراً زُمَراً.
روي أن كل أمة تأتي مع رسولها [يوم القيامة]، وهو قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71].
- ثم قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً}.
[أي]: وشققت السماء وصدعت (فكانت) طرقاً.
وقيل: تصير قطعاً كقطع الخشب المشققة لأبواب الدور والمساكن.
والمعنى: وفتحت السماء فكانت قطعاً كالأبواب، (فلما سقطت الكاف صارت الأبواب) خبرا.(12/7993)
وكذلك قوله: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً}.
أي: صارت لا شيء، كما أن السراب لا شيء، وذلك أنها تنسف فَتُجْتَثُّ من أصولهها فتصير هباء منبثاً لعين الناظر كالسراب الذي يظنه (الناظر) ماء وهو في الحقيقة ليس بماء إنما هو هباء.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}.
أي: إن جهنم كانت ذات ارتقاب ترتقب من يجتاز بها وترصدهم، ولم يقل " مرصادة "، لأنه غير جار على الفعل. فالمعنى ترصد من عصى الله. وفي " مرصاد " معنى التكثير. ولذلك لم يقل: " راصدة "، ففي وصفها لما لم يجر على الفعل معنى التكثير، ولو قال [راصدة] لثبتت الهاء، لأنه جار على الفعل، ولم يكن فيه (معن) تكثير، ففي " مرصاد " معنى النسب (كأنه قال: " ذات إرصاد "، وكل ما حمل على معنى النسب) من الأخبار والصفات ففيه معنى التكثير واللزوم، فالمعنى أنها(12/7994)
مركاد لمن كان يكذب بها في الدنيا.
وكان الحسن يقول - إذا قرأ هذه الآية -: أَلاَ إن على النار المَرْصَد، فمن جاء بجواز جاز ومن لم يجئ احتبس.
وروي عنه أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز على النار.
وقال قتادة: [تعلمن] أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار.
وقال سفيان: على جهنم ثلاث قناطير.
- ثم قال تعالى: {لِّلطَّاغِينَ مَآباً}.
أي: هي لمن طغى في الدنيا فتعدى حدود الله [مرجع] يرجعون إليها ويصبرون إليها.(12/7995)
- ثم قال تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً}.
قال قتادة: لا بثين في جهنم أحقاباً (لا انقطاع لها.
وقيل: معناه: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً) * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً}، ثم بعد ذلك يعذبون بغير هذ العذاب مما شاء الله، كما قال: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58].
وقيل: الضمير في {فِيهَا} يعود على الأرض، لأنه قد تقدم ذكرها، والضمير في {يَذُوقُونَ فِيهَا} لجهنم لتقدم ذكرها.
فعلى [القول] الأول، يكون {لاَّ يَذُوقُونَ} حالاً من {لِّلطَّاغِينَ} أو ل {جَهَنَّمَ} / أو نعتاً للأحقاب.(12/7996)
وعلى هذا القول الآخر، يكون {لاَّ يَذُوقُونَ} حالاً من {جَهَنَّمَ} أو من الطاغين.
وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة ".
وهو جمع الجمع، واحده: حقبة، جمعت على حقب، وجمعت حقب على أحقاب.
ويجوز أن يكون أحقاب جمع حُقْب والحُقْبُ ثلاثمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا. قاله [بشير] بن كعب.(12/7997)
وقال علي بن أبي طالب: الحقب: ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا، وهو قول ابن جبير، وقاله الربيع بن أنس.
[وقال] أبو هريرة: الحقب ستون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا.
وقال قتادة: " الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة ". وقال: هي أحقاب لا انقطاع لها، كلما مضى حقب جاء حقب بعده.
وقال الحسن: أما الأحقاب، فليس لها عدة إلا الخلود في النار، ولكن ذكر أن الحقب سبعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما نعده.(12/7998)
قال خالد بن مَعَدَّان: هي في أهل التوحيد من أهل القبلة مثل قوله {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هود: 108]، وهذا التأويل يرده قوله بعد ذلك.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}.
وليس هذه صفة الموحدين.
وقد روي عن مقاتل أنه قال: إنها منسوخة، نسختها قوله: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ (إِلاَّ) عَذَاباً}.
وهذا لا يكون فيه نسخ، لأنه خبر من الأخبار لا تنسخ.(12/7999)
والحقب عند أهل اللغة مبهم كالحين والزمان. البرد: النوم.
وقيل: [الهدوء]. وقيل: برد [الشراب] المستلذ. قال ابن عباس: هو برد الشراب وقيل: البرد: الراحة.
- ثم قال: {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً}.(12/8000)
قال الربيع: " استثنى من الشراب الحميم، ومن البرد الغساق ".
[والحميم الذي قد انتهى [حره] كالمهل [يشوي] الوجوه.
وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، يجمع في حياض ثم يسقونه. والغساق]: الصديد الذي يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، يجمع في حياض النار فيُسْقَوْنَهُ.
وأصل الحميم الماء الحار، ومنه اشتق الحًَمَّامُ، ومنه الحُمَّى، ومنه [اليَحْمُومُ].(12/8001)
قال قتادة: الغساق ما يسيل [من] جلده ولحمه.
وقال سفيان: هو ما يسيل من دموعهم.
وقال النخعي: هو " ما يسيل من صديدهم من البرد ".
وعن ابن عباس أن الغساق: " الزمهرير ".
وقال مجاهد: " الغساق: الذ لا يستطيعون أن يذوقوه (من برده).
وقال عبد الله بن [بريدة]: " هو المُنْتِنُ ".
وروى الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لَوْ أَنَّ دَلْواً مِن غَسَّاقٍ يُهْرَاقُ فِي(12/8002)
الدُّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا ".
وقال عبد الله بن [عمرو]: " أتدرون أي شيء الغساق؟ قالوا: الله أعلم، قال: هو القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب لأنتنت أهل [المشرق]. ولو تهرق [بالمشرق] لأنتنت أهل المغرب.
- وقوله: {جَزَآءً وِفَاقاً}.
أي: هذا العذاب الذي وصف جزاء للكفار على أفعالهم في الدنيا وافق أعمالهم وفاقاً، قاله ابن عباس. قال قتادة: " وافق الجزاء أعمال القوم. . . ". وقال(12/8003)
الربيع: " ثواباً وافق أعمالهم ". قال ابن زيد: " عملو شراً فجوزوا شراً، [وعملوا] حسناً فجوزوا حسناً ".
- ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً}.
أي: لا يخافون محاسبة الله (لهم على أعمالهم في الآخرة.
قال قتادة: كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة).
وقال ابن زيد: كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب فكيف يخافون الحساب وهم لا يوقنون بالبعث بعد الموت؟!
- ثم قال تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}.
أي: حجوا بها جحوداً.
- ثم قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً}.
أي: وأحصينا كل شيء من أعمالهم وغير ذلك فكتبناه كتاباً، [ف {كِتَاباً}] مصدر عمل فيه فعل مضمر.(12/8004)
وقيل: العامل فيه (احصينا) [لأنه] يعني: كتبنا.
- ثم قال تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}.
أي: ثقال لهم - إذا شربوا الحميم والغساق - ذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا، فلن نزيدكم على العذاب الذي أنتم فيه إلا عذاباً زائداً.
قال عبد الله بن عمرو: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه، فهم في مزيد أبداً.
وقد روي مثل ذلك علن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي أنه لا يأتي على أهل الجنة ساعة إلا ويزدادون صنفاً من النعيم لم(12/8005)
يكونوا يعرفونه، ولا يأتي على أهل لنار ساعة إلا وهم مستنكرون لشيء من العذاب لم يكونوا يعرفونه.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً}.
أي: منجى من النار إلى الجنة ينجون به، وهي حدائق وأعناب.
وقال ابن عباس: {مَفَازاً}، " متنزهاً ". وقيل: المفاز: الظفر بما يحبه الإنسان. يقال: فاز فلان بكذا إذا ظفر به.
والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان من النخيل والأعناب والأشجار التي قد حوط عليها الحيطان فأحدقت (بها)، فَلإِحْدَاقِ الحيطان بها سميت حديقة،(12/8006)
ولو لم/ تكن الحيطان بها محدقة لم تسم حديقة.
قال ابن عباس: الحدائق: [الشجر] الملتف. وقال الضحاك: الحدائق التي عليها الحيطان.
- وقوله: {وَأَعْنَاباً}.
معناه: وكروم وأعناب، ثم حذف.
- وقوله: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً}.
(أي): وحورا نواهد في سن واحدة. قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.(12/8007)
- ثم قال: {وَكَأْساً دِهَاقاً}.
مَلأَى من الخمر مترعة، وأصله من الدهق، وهو متابعة الضغط على الشيء بشدة وعنف. قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: الدهاق: الملأى. وهو قول ابن زيد. وقال عكرمة: الدهاق: الصافية. وقال ابن جبير: هي " المتابعة ". وقد روي مثل ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد.(12/8008)
- ثم قال: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً}.
أي: باطلاً [من القول]. {وَلاَ كِذَّاباً}، أي: ولا يكذب بعضهم بعضاً.
وقال قتادة: {وَلاَ كِذَّاباً}، أي: مأثماً. و {لَغْواً}: باطلاً.
- ثم قال تعالى: {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}.
أي: هذا لهم جزاء لأعمالهم في الدنيا، أعطاهمه الله ذلك عطاءً كافياً.
يقال: أحسبني الشيء، أي: كفاني. وقيل: {حِسَاباً} بمعنى: محاسبة لهم بأعمالهم لله في الدنيا، يعطون على قدر أعمالهم.(12/8009)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وقال قتادة: {عَطَآءً حِسَاباً}، أي: " عطاءً كثيراً، جزاهم الله بالعمل اليسير الخير الجسيم الذي لا انقطاع له ".
- قوله تعالى: {رَّبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا (الرحمن)}. إلى آخر السورة.
[من] رفع {رَّبِّ} فعلى الابتداء، أو على إضمار مبتدأ.
ومن خفضه فعل البدل من قوله: من ربك أو على النعت.
والمعنى: هو مالك السماوات والأرض ما بينهما من الخلق.
- {الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}.
(أي): لا يقدر أحد من خلقه على خطابه يوم القيامة إلا من أذن له منهم.(12/8010)
قال مجاهد وقتادة: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}، أي: " كلاماً ".
- ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً}.
أي: يجازيهم في يوم يقوم الروح. قال ابن مسعود: " الروح ملك السماء الرابعة، هو أعظم من السماوات والجبال ومن الملائكة، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسيبحة، [يخلق] الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة فيجيء يوم القيامة صفاً [واحداً] ".
وقال ابن عباس: (هو) ملك من أعظم الملائكة خلقاً.
وقال الضحاك والشعبي: الروح هنا: جبريل عليه السلام.(12/8011)
وقال مجاهد: [الروح خلق من صورة] بني آدم يأكلون ويشربون وليسوا (بملائكة).
وقالوا أبو صالح: " يشبهون الناس وليسوا بالناس ".
وقال قتادة: الروح (بنو آدم. وهو قول الحسن.
وعن ابن عباس أيضاً [أنه] أرواح) بني آدم تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن يردها الله إلى الأجسام.
وقال ابن زيد: هو القرآن. وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، فلا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الكلام فيتكلم.
روي أنهم يؤذن لهم في الكلام حين يُمَرُّ بأهل النار إلى النار، وبأهل الجنة إلى(12/8012)
الجنة.
وقال عكرمة: يمر بأناس من أهل النار على ملائكة فيقولون: أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقال: إلى النار. فتقول: بما كسبت أيديهم، وما ظلمهم (الله). ويمر بأناس من أهل الجنة على ملائكة فيقولون: أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: برحمة الله دخلتم الجنة.
وعن ابن عباس أنه قال: إلا من أذن لهم الرب بشهادة أن لا إله إلا الله. وهو منتهى الصواب.
وقال مجاهد: {وَقَالَ صَوَاباً}.
(أي: " وقال حقاً في الدنيا عمل به ".(12/8013)
وقال أبو صالح: {وَقَالَ صَوَاباً}.
أي): قال لا إله إلا الله وهو قول عكرمة.
- ثم قال تعالى: {ذَلِكَ اليوم الحق}.
أي: يوم يقوم فيه الروح والملائكة صفاً يوم حَقٌّ إتيانه لا شك فيه.
- ثم قال تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً}.
أي: فمن شاء في الدنيا اتخذ بالعمل الصالح والإيمان إلى ربه في ذلك اليوم مرجعاً ومنجى وسبيلاً (وطريقاً إلى رحمته. وفي الكلام معنى التهدد والوعيد، أي: من لم يفعل ذلك فسيرى ما يحل به) غداً.(12/8014)
- ثم قال تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً}.
أي: حذرناكم عذاباً قد دنا منكم فقرب، وذلك.
{يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}.
في الدنيا من خير وشر فيجازى عليه. ف {مَا} بمعنى " الذي "، أي: ينظر العمل الذي عمل في الدنيا من خير (وشر).
ويجوز أن/ تكون {مَا} استفهاماً، أي: ينظر أي شيء قدمت يداه في الدنيا من العمل، أخير هو أم شر؟ فيجازى عليه.
قال الحسن: " (المرء) هنا: المؤمن يحذر الصغيرة ويخاف الكبيرة ".
- ثم قال: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً}.(12/8015)
أي: ويتمنى الكافر في ذلك اليوم أن يكون تراباً لما يرى من عذاب الله.
قال أبو هريرة: إن الله يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم [يقتص] لبعض البهائم من بعض، حتى يقتص [للجماء] من ذات القرن، ثم يقول للبهائم والطير والدواب: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً.
وقال عبد الله بن عمرو: إذا كان يوم القيامة، مد الله عز وجل الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء نَطَحَتْهَا، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب قال لها: كوني(12/8016)
تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يا لتني كنت تراباً.(12/8017)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والنازعات
مكية
- قوله تعالى: {والنازعات [غَرْقاً]} إلى قوله: {فَإِذَا هُم بالساهرة}.
قال ابن عباس: {والنازعات غَرْقاً}، هي الملائكة تنزع الأنفس.
وقال ابن جبير: هي أرواح الكفارن نزعت أرواحهم ثم غرقت ثم حرقت ثم قذف بها في النار. وقال مجاهد: {والنازعات} الموت ينزع النفوس.
وقال الحسن: هي النجوم تنزع من أفق (إلى أفق). وهو قول قتادة. وقال(12/8019)
عطاء: هي القسي تنزع بالسهم. [وقال] السدي: هي النفوس حين تغرق في الصدر.
والتقدير على هذا كله: ورب النازعات. والله جل ذكره يقسم بما شاء. والتقدير في {غَرْقاً}: إغراقا، كما يغرق النازع في [القوس].
وعن ابن عباس قال: يعني نفس الكافر ينتزعها مالك الموت من جسده من تحت كل شعرة، ومن تحت كل [ظفر]، ثم يغرقها، أي: يرددها في جسده وينزعها.
- ثم قال تعالى: {والناشطات نَشْطاً}.(12/8020)
قال ابن عباس: هي " الملائكة "، (أي): تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال (من يد البعير إذا [حل] عنها كأنها [تقبض] الأرواح بسرعة. ومنه رجل نشط)، ويقال: نَشَطَهُ إذا أخذه بسرعة.
قال الفراء: يقال: نَشَطَه: إذا ربطه، وأنْشَطَهُ: [إذا حله]، وحكى عن العرب: " كأنما أنشط من عقال ".
وهما عند غيره لغتان، يقال: نَشَطه: إذا حَلَّهُ وأنشطَهُ.
وقال مجاهد: {والناشطات نَشْطاً} هي " الموت "، ينشط نفس المؤمن. ومثله عن ابن عباس أيضاً، (وعنه أيضاً) أنه قال: يعني نفس الكافر والمنافق، ينشط كما(12/8021)
ينشط العَقَبُ [الذي يعقب] (به) السَّرجُ.
وقال السدي: " نَشْطُهَا - يعني النفس - حين تُنْشَطٌ من القدمين. وقال قتادة: " هي النجوم "، ينشط [أفقا إلى أفق].
وقال عطاء: (هي الأ) وهاق) "
- ثم قال تعالى: {والسابحات سَبْحاً}.
قال مجاهد: هي " الموت " يسبح في نفس ابن آدم.
وعنه أيضاً أنها الملائكة [تسبح] في صعودها وهبوطها بأمر الله جل ذكره،(12/8022)
شبه [سيرها] بالسباحة، كما يقال [للفرس الجوادِ]: " سابح ".
وقال قتادة ومعمر: هي " النجوم ".
وقال عطاء: هي " السفن ".
وقيل: هي نفس المؤمن تسبح شوقاً إلى الله وشوقاً إلى [رحمته]، فهي تسبح إلى ما [عاينت من السرور].
- ثم ق ل تعالى: {فالسابقات سَبْقاً}.
قال مجاهد: هو " الموت ". وعنه أنها الملائكة تأتي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء.(12/8023)
وقال عطاء: هي الخيل السابقة.
وقال قتادة ومعمر: هي " النجوم "، يسبق (بضعها) بعضاً في السير.
وقيل: [يعني] نفس المؤمن تسبق إلى ملك الموت فتبادر الخروج (إليه) لحسنه وطيب رائحته شوقاً إلى كرامة الله جل ذكره.
- ثم قال تعالى: {فالمدبرات أَمْراً}.
قال ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد: هي الملائكة تدبر الأمر من عند الله بإذن الله وتدبيره.
وعن ابن عباس: أن هذا كله في الملائكة.(12/8024)
وعن الحسن أنه كله في النجوم إلاّ {فالمدبرات أَمْراً}، فإنه في الملائكة [تنزل] بالحلال والحرام والأمطار وغير ذلك من الأمر المدبر [المحكم] من عند الله جل ذكره.
وجوب القسم محذوف، والتقدير: ورب هذه الأشياء لتبعثن. ودل على ذلك قوله حكاية عن إنكار المشركين للبعث: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ/ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}.
وقيل: الجواب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 26].
وقيل: الجواب: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة}، على حذفل اللام، أي: لَيوم ترجف الراجفة.(12/8025)
وقيل: المعنى: فإذا هم بالساهرة والنازعات.
والقول الأول أصحها إن شاء الله.
- ثم قال تعالى جل ذكره: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة}.
أي: لتبعثن يوم ترجف الأرض والجبال للفنخة الأولى، تتبعها أخرى بعدها، وهي النفخة الثانية [ردفت] الأولى، فقيل لها رادفة، بينهما أربعون سنة، [بالأولى يهلك من في الأرض]، وبالثانية يبعث من في الأرض.
قال ابن عباس: هما النفختان، الأولى والثانية.
قال الحسن: هما النخفتان، أما الأولى فتميتُ الأحياء، (وأما) الثانية فتحيي الموتى. وتلا الحسن: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].(12/8026)
" وروي أن أبا هريرة سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصور، فقال: هو قَرنٌ، قَالَ: وكَيْف هو؟ قَالَ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفْخاتٍ، الأولى نفخةُ الفَزَع، الثانيةُ نفخةُ الصّعْقِ، والثالثة نَفْخةُ القِيامِ [لِرَبِّ] العالمين، يَأْمُرُ اللهُ إسرافيلَ بالنفخة الأولى، فيقولُ: انفُخ نفخة الفَزع، فيفزَعُ من في السماوات ومن في الأرض إلا من شَاء اللهُ. [ويأمره] الله - جل ذكره - فَيُديمُها ويُطّولها فلا [تفتُرُ]، وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}، فيُسيّرُ الله - جل وعز - الجِبال، فتكونُ سراباً، فَترتَجُّ الأرضُ بأهلها رجّاً، وهي التي يقول الله عز وجل: { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة} ".(12/8027)
قال قتادة: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة}: هما الصيحتان، أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " بينهما أربعون [عاماً]. قال أصحابه: والله ما زادنا على ذلك " قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله عليه السلام [كان] يقول: " يبعث الله في تلك الأربعين مطراً يقال له الحياة حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نَباتَ البقل، ثم ينفخ الثانية فإذا هم قيام ينظرون ".
قال الضحاك: الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: الثانية.
وقال مجاهد: {الراجفة} [ترجف الأرض بمن فيها، و] هو رجف الأرض والجبال، وهي الزلزلة والرادفة، وهو قوله:
{وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14].
وقال ابن زيد ": {الراجفة} ترجف الأرض بمن فيها، والرادفة: قيام الساعة.(12/8028)
- ثم قال تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}.
أي: قلوب خلق من خلق الله يومئذ خائفة وجلة.
يقال: وجف القلب إذا [خفق].
- ثم قال تعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}.
(أي: أبصار أصحاب) القلُوب ذليلة من الخوف والرعب من هول ذلك اليوم.
- ثم قال تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}.
{يَقُولُونَ} ليس بمتصل بما قبله، لأن (ما) قبله من صفة حالهم يوم القيامة. وما بعدها القول من قولهم في الدنيا في إنكار البعث.
ولو [أضمرت] " كان " قبل {يَقُولُونَ} كان متصلاً بما قبله، تخبر عما كانوا يقولون في الدنيا.(12/8029)
أي: يقول هؤلاء [المكذبون] بالبعث في الدنيا: أنُردّ إلى حالنا الأولى بعد الممات فنرجع أحياء بعد أن نصير عظاماً [تصوت] فيها الريح.
يقال: رجع [على] حافرته: إذا رجع من حيث أتى. والعرب تقول: " النقد عند الحافرة ". أي: عند أول كلمة. قال ابن عباس: {لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} أي: (في) " الحياة "؟! وقال السدي {(فِي) الحافرة}: " في الحياة. وقيل: الحافرة - هنا -(12/8030)
بمعنى المحفُورة، بمنزلة قوله: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] بمعنى: مدفوق. فالمعنى: أنرد في قبورها أمواتاً؟!
قال مجاهد: {الحافرة}: الأرض، (أي): أنبعث خلقاً جديداً؟!
وقال ابن زيد: {الحافرة}: النار وقال: هي النار، وهي الجحيم، وهي سقر، وهي جهنم، وهي الهاوية، وهي الحافرة، (وهي) لظى، وهي الحطمة.
- وقوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}.
قال ابن عباس: النخرة: الذاهبة البالية. يقال: نخرة وناخرة، (لغتان) بمعنى.(12/8031)
وقد قيل: النخرة [المؤتكلة]، (والناخرة) البالية. وقيل: النخرة: البالية. والناخرة: العظم المجوف تمر فيه الريح فتنخر. قال أبو عبيدة.
- ثم قال تعالى: {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}.
هذا إخبار من الله لنبيه عن قول المنكرين للبعث أنهم قالوا: تلك/ الرجعة - إن كانت رجعة - خاسرة، (أي): [نخسر] فيها، لأنا وعدنا فيه بالنار.
- ثم قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة}.
أي: إنما هي صيحة واحدة، وهي النفخة، ينفخ في الصور فإذا هؤلاء المكذبون بالبعث بظهر الأرض أحياء.(12/8032)
والعرب تسمي الفلا ة وظهر الأرض " ساهرة "، لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، فسميت بما يكون فيها.
قال ابن عباس: ({بالساهرة} " على الأرض ". وهو قول الحسن وعكر مة.
وقال قتادة): {بالساهرة}: بأعلى الأرض، بعدما كانوا في بطنها. وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد.
وقال سفيان: الساهرة: " أرض بالشام ".
وقال وهب بن منبه: " الساهرة: جبل إلى جنب بيت المقدس ".(12/8033)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وقال قتادة: الساهرة: جهنم.
وقال: الساهرة: أرض من فضة لم يعص الله عليها، وهو قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبرهيم: 48].
قال قتادة: لما تباعد البعث في أعيُنِ القوم، قال الله جل ذكره، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}، فإذا هم بأعلى الأرض.
- قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى}، إلى آخر السورة.
أي: هل سمعت يا محمد حديث موسى بن عمران وخبره؟
- {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس}.
أي: المطهر المبارك.
- وقوله: {طُوًى}.
قال مجاهد: (هو) اسم الوادي. وقاله ابن زيد.(12/8034)
فمن صرفه على هذا جعله (اسما لمُذكّر)، اسماً لمكان. ومن لم يصرفه جعله اسماً للبقعة.
وقال قتادة: " {طُوًى}: كنا نحدث أنه قدس مرتين ". قال: " واسم الوادي: طُوى ".
وقال ابن جريج عن مجاهد: {طُوًى} أي طاء الأرض حافياً.
- وقوله: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}.
أي: ناداه ربه، فقال له: اذهب إلى فرعون، إنه تجاوز حده في العدوان والتكبر على ربه وعتا، فقل له. {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى}.(12/8035)
أي: هل لك يا فرعون في أن تتطهر من دنس (الكفر) وتؤمن بربك؟
قال ابن زيد: ([تز] كى): تسلم. قال: والتزكي في القرآن كله: الإسلام.
وقال عكرمة: {إلى أَن تزكى}، أي: تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
- ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى}.
أي: وهل لك إلى أن أرشدك إلى ما يرضى به ربك عنك، فتخشى عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب معاصيه؟
- ثم قال تعالى: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى}.
أي: فأرى موسى فرعون الآية العظيمة الكبيرة، وهي في قول الحسن ومجاهد وقتادة: يده وعصاه. أخرج يده بيضاء للناظرين، وحَوّل عصاه ثعباناً مبيناً.
وقال ابن زيد: هي العصا.(12/8036)
- ثم قال تعالى: {فَكَذَّبَ وعصى}.
أي: فكذب فرعو موسى فيما أتى به من الآيات المعجزات، وعصاه فيما أمره به من طاعة الله والإيمان به.
- وقوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ (يسعى)}.
أي: ثم ولى معرضاً عما [دعا إليه] موسى. قال مجاهد: {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى}، أي: " يعمل الفساد ". وقيل: [معناه] أدبر هارباً من الحية.
- وقوله: {فَحَشَرَ فنادى}.
أي: فجحمع قومه فنادى فيهم فقال لهم: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى}، تمرداً على الله وطغياناً.
- ثم قال تعالى: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى}.
قال ابن عباس ومجاهد والشعبي: الأولى، قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]،(12/8037)
والآخرة: قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى}. وكان بين الكلمتين أربعون سنة. وقاله ابن زيد.
وقال أيضاً: معناه: عذاب الدنيا والآخرة، عجل له الغرق مع ما أعدّ له في الآخرة من العذاب.
وعن الحسن أنه قال: معناه: عذاب الدنيا والآخرة. وهو قول قتادة.
وقال أبو رزين: الأولى عصيانه ربّه وكفْرُه، والآخرة: قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى}.
وعن مجاهد أيضاً أن معناه: أخذه الله [بأول عمله] وآخره. " ونكالاً " مصدر من معنى " أخذه "، [لأن معنى " أخذه "] نكّل به.(12/8038)
- ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى}.
أي: إن في العقاب الذي عاقب الله به فرعون في عاجل الدنيا والآخرة عظةً (و) مُعتَبَراً لمن يخاف الله ويخشى عقابه.
- ثم قال تعالى: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء. . .}.
هذا تقرير وتوبيخ للمكذبين للبعث، القائلين: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}. يقول لهم: أأنتم أعظم خلقاً أم السماء [التي] بناها ربكم فرفعها سقفاً للأرض؟! (بل) أنتم أهون خلقاً وأيسر، فمن فعل ذلك فهو قادر على خلق ما هو أهو منه وأيسر، فليس خلقكم بعد مماتكم بأصعب من خلق السماء! ومعنى {بَنَاهَا}: رفعها فجعلها للأرض سقفاً.
- ثم قال تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}.(12/8039)
(أي: رفع السماء في الهواء {فَسَوَّاهَا})، أي: جعلها مستوية لا شيء منها/ أرفع من شيء ولا شيء منها أخفض من شيء.
قال مجاهد: " رفع بناءها بغير عمد ".
- ثم قال تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}.
أي: وأظلم ليلها، أي ليل السماء. فأضاف الليل إلى السماء، لأنه [يأتي بغروب] الشمس ويذهب بطلوعها، والشمس في السماء. كما [قيل]: نجوم الليل. فأضاف النجوم إلى الليل إذ كان فيه طلوعها وغروبها.
- وقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}.
أي: ضوء النهار.
- ثم قال تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}.
قال ابن عباس: خلق الله - جل ذكره - الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها،(12/8040)
ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ثم دحا الأرض بعد ذلك.
وقال عكرمة عنه: وضع الله البيت على الماء على [أربعة] أركان قبل أن [يخلق] السماء بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
وقال مجاهد: معناه: والأرض مع ذلك دحاها، بمنزلة قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، أي: مع ذلك. وروي مثل ذلك عن السدي.
والدحو في كلام العرب: البسط والمد.
قال قتادة والسدي: {دَحَاهَا} " بسطها ".(12/8041)
وقيل: معناه: والأرض قبل ذلك دحاها، أي: قبل خلق السماوات، لأنه قال في موضع آخر: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ}، (ثم قال): {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا [وَقَدَّرَ فِيهَآ] أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ}، ثم قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ. . .} [فصلت: 9 - 11].
- وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا}.
أي: فجّر فيها الأنهار وأنبت نباتها.
- ثم قال تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا}.
- ثم أثبتها في الأرض. والتقدير: والجبال أرساها (فيها، وحذف فيها لدلالة الكلام عليه.(12/8042)
قال قتادة: {أَرْسَاهَا}): أثبتها لئلاّ تميل بأهلها.
وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن عنلي بن أبي طالب رضي الله عنهـ أنه قال: لما خلق الله الأرض فَمَضَت وقَالت: أتخلق آدم وذرياته يُلقُون عَلَيّ نَتْنَهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا؟! فأرساها الله بالجبال، فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون، وكان أول قرار الأرض كحلم والجزور إذا نُحِرت يختلج لحمها.
- ثم قال تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}.
أي: منفعة لكم ومتعة إلى حين. وتقديره: متعكم الله به متاعاً.
- ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى}.(12/8043)
يعني: قيام الساعة. والطامة: اسمٌ من أسماء يوم القيامة، يقال: طَمَّ الأمرُ: إذا ارتفع وعظم. ويقال: طمت الطامة وصخت الصاخة: للداهية.
- ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى}.
أي: فإذا قامت القيامة في يوم يتذكر الإنسان فيه ما عمل في الدنيا من خير وشر، وذلك [إذا قرأ كتابه].
- ثم قال: {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى}.
أي: أظهرت لمن يراها.
- ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى}.
أي: عتا على ربه، واستكبر وآثر (مُتَعَ) الحياة الدنيا على الآخرة، فعمل(12/8044)
للدنيا وترك العمل للآخر.
- {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى}.
أي: هي مصيره، والتقدير: هي المأوى له. وقيل: التقدير: هي مأواه.
- ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}.
أي: خاف مسألة ربه إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه فاتقاه بأداء فرائضه وطاعته واجتناب محارمه، ونهى نفسه [عن] هواها، فإن الجنة هي مأواه.
- ثم قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها}.
أي: يسألك - يا محمد هؤلاء [المكذبون بالبعث] عن الساعة متى قيمها، فرسُّو الساعة قيامها، وليس قيامها كقيام القائم، إنما هو بمنزلة قولهم: قد قام العدل، وقد قام الحق.(12/8045)
- ثم قال تعالى: لنبيه: {فِيمَ أَنتَ مِن ذكراها}.
أي: في أي شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عنها؟!
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " لَمْ يَزَلِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ ذِكرَ السّاعةِ [السّؤالَ] عَنْها حتّى نَزَلت هذه الآية ".
- وقوله: {إلى رَبِّكَ منتهاهآ}.
أي: منتهى علمها، أي: لا يعلم وقت قيامها غيره.
- ثم قال تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها}.
أي: إنما أنت - يا محمد - رسولٌ مبعوث تنذر بالساعة من يخاف عقاب الله، ولم [تكلّف] علم وقت قيامها.
- ثم قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ/ ضحاها}.(12/8046)
أي: كأن هؤلاء المكذبين بالساعة يوم يرون الساعة قد قامت لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية يوم أو ضُحى تلك العشية. والعرب تقول: " أتيتك العشية أو غداتها "، أو " آتيك الغداة أو عشيتها "، أي: كأن هؤلاء القوم المكذبين إذا رأوا قيام الساعة وهولها وعظيم أمرها لم يلبثوا إلا عشية يوم أو غداة يوم. روي أنهم يخفتون في قبورهم [خفتة] قبل بعثهم، [فعلى] هذا [يقولون]: لبثنا يوماً أو بعض يوم، ويظنون أنهم لم يلبثوا إلا عشية (يوم) أو ضحى يوم.(12/8047)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبس
مكية
- قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى}، إلى قوله: {وَلأَنْعَامِكُمْ}.
هذا عتاب من الله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنُ أمّ مكتوم وعند النبي عظماء قريش، فجعل (ابن) أم مكتوم [يقول]: أرشدني، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعُرِض عنه [ويُقبِل] على الآخرين يقول لهم: أترون بما أقول(12/8049)
بأساً؟ فأزنل الله {عَبَسَ وتولى} في ذلك.
قال (ابن عباس): " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة من ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطلب، وكان يتصدّاهم كثيراً رَجاء أن يؤموا، فأقبل إليه رجلٌ أعمى يقال له: ابنُ أمّ مكتومٍ، (يمشي والنبي صلى الله عليه وسلم يناجيهم، فَجَعل ابن أم مكتوم) [يستقرئ] النبيّ صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن وهو يقول: يا رسول الله، علّمني مما علمك الله. فأَعرضَ عنه [رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، وعَبَس (في) وجهه وتولى عنه وأقبل على الآخرين، فما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَجْواهُ وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض(12/8050)
بصره [وخَفَقَ] برأسه، ثم أنزل الله: {عَبَسَ وتولى}. . [الآيات]. فلما نزل فيه ما [نزل]، أكرمه رسول الله [وكلّمه] وقال له: ما حاجتك؟ هل تريد من شيء "
قال قتادة: اسم ابن أم مكتوم: عبد الله بن زائدة، وقيل: اسمه [عمرو بن قيس]، واسم أمه: أم مكتوم عاتكة. قال مجاهد، هو من بني فهر.
وذكر قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه في المدينة على الصلاة في غزوتين من غزواته.
وروي أن الذي كان قد اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم [ به] (عن ابن أم مكتوم هو شيبة(12/8051)
ابن [ربيعة]، طمع النبي صلى الله عليه وسلم) بإسلامه.
وقيل: هو أبي بن خلف، كان النبي يُقْبل عليه ويكنيه، ويقول له: أبا فلان، هل ترى بما أقول بأساً؟ طمعاً أن يسلم، فيسلم بإسلامه خلق، فأجابه المشرك فقال له: [والدما]، ما أرى بِما تقول بأساً. فأقسم المشرك للنبي صلى الله عليه وسلم بالأصنام وترك أن يقسم بالله.
[والدما] جمع دمية، وهي الصورة من [صور الأصنام]. [فعذل] الله(12/8052)
نبيه على ذلك.
وقال ابن زيد: أقبل ابن أم مكتوم ومعه قائدُه، فلما بصر به النبي صلى الله عليه وسلم - وكان مقبلاً على رجل من عظماء قريش قد طمع في إسلامه - أشار إلى قائده (أن كُفَّهُ)، فدفعه ابن أم مكتوم، فعند ذلك عبس النبي في وجهه، فكان النبي عليه السلام يكرمه بعد ذلك.
وقال سفيان: " كان النبي صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك - إذا رآه بسط له رداءه، وقال مرحباً [بمن] عاتبني فيه ربي جل وعز ".
قال ابن زيد: كان [يقال]: لو أن رسول الله كتم من الوحي شيئاً لكتم هذا على نفسه.
- وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى}.(12/8053)
أي: وما يدريك - يا محمد - لعل هذا الأعمى الذي أعرضت عنه يتطهر من ذنوبه.
- {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى}.
(أي): [أو] يتعظ [فينفعه] الاتعاض.
- ثم قال تعالى: {أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى}.
(أي): أما من استغنى بماله، فأنت تتعرض له رجاء أن يسلم. قال سفيان: " نزلت في العباس ".
وقال مجاهد: " نزلت في عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ".
- ثم قال تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى}.
أي: وأي شيء عليك - يا محمد - ألا يتطهر من ذنوبه وكفره بالإسلام؟!(12/8054)
- ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى * وَهُوَ يخشى}.
أي: وأما الأعمى جاءك يسعى وهو يخشى الله [ويتقيه].
- {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى}.
(أي): تُعْرِض وتتشاغل بغيره.
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.
أي: ليس الأمر كما تفعل يا محمد. وقيل: المعنى: ألاّ إنها تذكرة. والوقف عند نافع ونصير على {كَلاَّ} على التأويل الأول.
- وقوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.(12/8055)
قال الفراء: المعنى أن السورة تذكرة. وقيل: المعنى (أن) الأنباء والقصص تذكرة.
(وقيل: المعنى أن القصة التي عوتبت فيها يا محمد تذكرة) وعظة.
- {فَمَن شَآءَ/ ذَكَرَهُ}.
أي: فمن شاء من عباد الله ذكر تنزيل الله ووحيه فاتعظ به.
فالهاء في {إِنَّهَا} للسورة أو للقصة، والهاء في [{ذْكِرَةٌ}] للتنزيل والوحي.
- ثم قال تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ}.
أي: هذه العظة والقصة في صحف قد كتبتها الملائكة في صحف مكرمة، أي: عزيزة.
- {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ}.(12/8056)
يعني: مرفوعة في اللوح المحفوظ عند الله.
- وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}.
يعني: الملائكة. وواحد السفرة: سافر. قال ابن عباس وقتادة: سفرة: " كتبة ".
وعن قتادة أن السفرة هم القراء. وعن ابن عباس.
أيضاً هي " الملائكة ". قال ابن زيد: هم " الذين يحصون(12/8057)
الأعمال ". وسفير القوم: الذي يسعى بينهم بالصلح، فكان السفرة هم الملائكة الذين يَسفِرون بين الله وبين رسله بالوحي. وهذا (هو) اختيار الطبري.
- وقوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
قال وهب بن منبه: السفرة الكرامُ البررةُ: أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم و {بَرَرَةٍ} جمع بار، ككافر، وساحر وسحرة.
والمستعمل في كلام العرب أن يقولو: " رجل بَرّ "، و " امرأة برّة "، فإذا جمعوا ردوه إلى جمع (بار، فقالوا: رجال بررة. وقال النحاس: الأبرار جمع) بَرٍّ، والبَرَرَة جمع بَارٍّ.(12/8058)
- ثم قال تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ}.
أي: لعن الكافر [و] أهلك، ما الذي أكفره مع ظهور الآيات وبيا (ن الحق)؟! ف {مَآ}: استفهام على طريق التوبيخ والتقرير.
وقيل: إنها نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت سورة: (والنجم)، ارتد، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله الأسد في قصة طويلة.
وقيل: {مَآ}: تعجُّب، أي: هو ممن يقال فيه: ما أكفره إذا تمادى على كفره مع ظهور الآيات والحجج.
قال مجاهد: كل شيء في القرآن " قتل الإنسان " أو " فعل الإنسان " فإنما عنى(12/8059)
به الكافر، وكل " قُتِل " في القرآن [فمعناه]: لعن.
- ثم قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ}.
أي: أعجبوا (له)! من أي شيء خلق الله الكافر حتى يتكبر عن طاعة الله. ثم بين الشيء الذي خلقه منه فقال:
- {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ}.
أي: (من) ماء حقير خلقه فكيف يتكبر مَن أصلُه هذا.
- وقوله: {فَقَدَّرَهُ}.
أي: قدره أحوالاً: نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم، ثم. ..
وقيل: معناه: قدرة حسناً أو قبيحاً، ذكراً وأنثى.
- وقوله: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ}.
قال ابن عباس: يعني يسره لطريق الخروج من بطن أمه.
وهو قول السدي وقتادة وأبي صالح، وهو اختيار الطبري، لأن قبله ذكر(12/8060)
خلقَهُ من نطفة وانقتالَه من (حال إلى) حال في الرحم، فوجب أن يُتْبِعه بذكر خروجه من الرحم ليكون الكلام كله في معنى واحد.
وقال مجاهد: هو طريق الخير والشر كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]. وعنه أيضاً أنه سبيل الشقاء والسعادة. وقال الحسن: سبيل الخير يسره له.
وقال ابن زيد: هداه إلى الإسلام ويسره له.
- ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}.
أي: أماته بعد إحيائه له عند انقضاء أجله وجعل له قبراً ولم يجعله ممن يُلْقى على وجه الأرض، فهذا كله من نعم الله على ابن آدم.
يقال: " قَبَرْت الرجل ": [إذا] أدخلته في القبر، و " أَقْبَرْتُهُ ": إذا جعلت له قبراً. والمعنى: فصيره ذا قبر.(12/8061)
- ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ}.
أي: أحياه بعد موته. يقال: أحيا الله الميت وأنشره بمعنى. ونَشَر الميّتُ: حَيي هو نفسُهُ.
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}.
أي: ليس الأمر ما يقول هذا الإنسان من [أنه قد أدى] حق الله في نفسه وما له، لم (يقض) ذلك، ولا يقدر عليه.
قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض الله عليه.
- ثم قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً}.
هذا كله تنبيه من الله لعباده على نعمه عليهم. ومن قرأ (أنّا) بالفتح،(12/8062)
فقال أبو حاتم: هو بدل من الطعام.
وهو قول الفراء و [أبي] عبيد. وتقديره: فلينظر الإنسان إلى صبنا الماء. وهو قول فيه بعد، لأن الثاني [ليس هو الأول] ولا [بعضه] ولا مشتملاً عليه.
(وقيل: إنما فتحت على أنها رفع بالابتداء. ولا يُحسّن سيبويه الابتداء " بأنّ " المفتوحة، وأيضاً فإنه لا خبر لها).(12/8063)
وقيل: (إن) التقدير: لأنّا صببنا. وقيل: {أَنَّا} في موضع رفع [على] إضمار مبتدأ، والتقدير: إلى طعامه، طعامه: صبّ الماء. . . ز
وقيل: {أَنَّا} بدل الاشتمال من طعامه. والمعنى: فليعتبر الإنسان ويعلم قدر نِعَم الله علي وكيف سبب له [كمال طعامه] الذي به قوامه، [بأن أنزل] الغيث من السماء فصبه على الأرض صباً، ثم شق للغَيْثِ الأرض شقاً/ فأنبت فيها حباص، يعين الزرع وسائر الحبوب.
- {وَعِنَباً}.(12/8064)
يعني: الكوم، أي: وكُروم عِنَب.
- {وَقَضْباً}.
يعني: القت. وأهل مكة يسمون القت الصغير القضب، كأنه قطع مرة بعد مرة. يقال: قضبه: إذا قطعه.
وحكى أبو عبيدة أنه الرطبة وقاله الضحاك.
وقال الحسن: " القضب: العلف ".
- {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً}.
يعني البساتين التي قد حوِّط حلها بالبنيان. والغلب: الغلاظ، يعني:(12/8065)
وأشجار حدائق غلاظ. [يقال]: رجل أغلب للغليظ الرقبة.
قال ابن عباس: الحدائق الغلب: ما التف من الشجر واجتمع.
وقاله مجاهد.
وعن ابن عباس أيضاً: الغلب: الطول.
(وقال قتادة: هي النخل، الكرام)، وقاله ابن زيد.
- ثم قال تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}.
يعني بالفاكهة: ما يأكله الناس، والأب: ما تأكله الأنعام من المرعى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة. وعن ابن عباس أيضاً(12/8066)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
أنه " الثمار الرطبة ".
- ثم قال تعالى: {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}.
(أي: متعة لكم، يعني الفاكهة ما قبلها، ولأنعامكم). يعني: الأبّ.
- قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة}، إلى آخر السورة.
أي: فإذا قامت القيامة، والصاخة: اسم من أسماء يوم القيامة.
قال ابن عباس: الصاخة: القيامة.
وقال عكرمة: هي النفخة الأولى.
والطامة الكبرى: النفخة الثانية. فالأولى يموت بها كل حيّ. والثانية يحيى بها كل ميت.
وقال الحسن: (يصيخ) لها كل شيء، أي: يصمت لها كل شيء.(12/8067)
والصاخة في الأصل الداهية.
قال الطبري: وأحسبها مأخوذة من قولهم: صخّ فلان فلاناً: إذا أصمه. ولعل الصوت هو الصاخ. قال: فإن يكن ذلك كذلك، فينبغي أن يكون ذلك لنفخة الصور.
- ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ}.
(أي: فإذا جاءت الصاخة في يوم يفر المرء من أخيه) وأمه وأبيه، وفراره منهم حذر من مطالتبهم إياه بمظالم لهم عليه. وقيل: معنى فراره عنه لئلا يرى ما ينزل به.
- ثم قال تعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
(يعني: لكل واحد من هؤلاء المذكورين ذلك اليوم شأن يغنيه).(12/8068)
عن شأن غيره.
قال قتادة: " أفضى إلى كل إنسان ما يشغله عن الناس ". " وسألتْ عائشة رضي الله عنها رسُول الله صلى الله عليه وسلم: كيفَ يُحْشرُ الرّجال؟ فقال: حُفةً عُراةً، ثمّ سألتْهُ: كيفَ يُحشَرُ [النساء]؟ فقال: كَذَلِكَ حُفاةً عُراةً، فقالت: واسَوْأَتَاه من يوم القيامة!!
فقال: عن أيّ شيء تَسأليني؟ إنّهُ قدْ نَزَلت عليَّ آيةٌ لا يضرّك كَانت عليكِ ثِيابٌ (أمّ لا، قَالَت): أيّ آيةٍ [هِيَ يا نبيّ الله]؟
قال: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. قال قد شغله عن صاحبه ".(12/8069)
يقال: غَنيْتُ بالمكان. أي: أقمت به فيكون معنى {يُغْنِيهِ} أي: يقيم عليه.
- ثم قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}.
أي: وجوه قوم يومئذ مشرقة مضيئة {ضَاحِكَةٌ} من السرور بما أعطاها الله من النعيم، {مُّسْتَبْشِرَةٌ} [لم] ترجوه من الزيادة وهي وجوه المؤمنين الذين قد رضي الله عنهم.
يقال: أسفر وجه فلان: إذا حَسُن، وأسفر الصبح: إذا أضاء. وكل مضيء (فهو مسفرٌ. ويقال للمرأة إذا ألقت خمارها أو نقابها أو [برقعها] قد سفرت) عن وجهها.
- ثم قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}.
وهي وجوه الكفار. روي أن البهائم التي يصيرها الله تراباً يومئذ بعد القصاص يحول ذلك التراب غبرة في وجوه أهل الكفر.(12/8070)
- وقوله: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}.
أي): تغشى [تلك] الوجوه {قَتَرَةٌ} أي: ذلة.
ثم بين تعالى من هو، فقال:
- {أولئك هُمُ الكفرة الفجرة}.
أي: الكفرة بالله ورسله وكتبه، الفجرة في دينه لا يبالون ما أتوا من معاصي الله ومحارمه.(12/8071)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة كورت
مكية
- قوله تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} إلى آخرها.
معنى كورت: ذهب ضوءها.
وقال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش.
قال أبو العالية: حدثني أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينا(12/8073)
الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس وبينا هم كذلك إذ تناثرت النجوم، وبينا هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختطلت الدواب والطير والوحوش وماج بعضهم في بعض.
وقل: {كُوِّرَتْ}: جمع بعضها إلى بعض، ورمي بها كما تجمع العمامة إذا كورت على الرأس ولفت.
- وقوله: {وَإِذَا النجوم [انكدرت]}.
أي: تناثرت وتساقطت من السماء من أيدي الملائكة، لأنهم يموتون.
يروى أنها معلقة بين السماء والأرض، مثل القناديل، بسلاسل من نور، وتلك [السلاسل] بأيدي ملائكة من نور، فإذا كانت النفخة الأولى مات من في(12/8074)
السماوات (ومن في) الأرض إلا من شاء الله، فَتَنَاثَر الكواكب عند صوت الملائكة كيف شاء الله. وأصل الانكدار: الانصباب.
قال قتادة ومجاهد والربيع: {انكدرت}: تناثرت وتساقطت. وقال ابن زيد: {انكدرت}: رمي بها من السماء إلى الأرض.
وقال ابن عباس: " {انكدرت}: تغيرت "، من قولهم: " ماءٌ كَدِرٌ "، أي: متغير اللون.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ}.
أي: سيَّرها الله، فكانت سراباً وهباءً منبثاً.
قال مجاهد: {سُيِّرَتْ} أي: ذهبت.(12/8075)
وقيل: {سُيِّرَتْ}: قلعت من أصلها فصارت بين المشرق والمغرب فصارت كالهباء المنبث.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ}.
أي: وإذا الحوامل من الإبل التي قد بلغت في الحمل عشرة أشهر، وذلك أعز ما تكون عند أهلها لقرب نفعها من الولد واللبن، قط عطلها أهلها وأهلموها فلا يسألون عنها لهول ما فَجِئَهُم. والعشار: جمع عُشَرَاء، يقال: " ناقةٌ عُشَرَاءٌ ": إذا أتى على حملها عَشَرَةُ أشهر.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ}.
قال ابن عباس: حَشْرُ البهائِمِ موتُها.
وقال (أبي) بنُ كعب: {حُشِرَتْ}: " اختلطت ".(12/8076)
وقال قتادة: {حُشِرَتْ}: جمعت فأميتت بعد أن يقتص لبعضها من بعض. وهو اختيار الطبري لقوله: {[وَأَرْسِلْ] فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] أي: جامعين له الناس، ولقوله: {والطير مَحْشُورَةً} [ص: 19]، أي: مجموعة.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ}.
قال أبي بن كعب: {سُجِّرَتْ}: اشتعلت ناراً.
وقد سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ رجلاً من اليهود فقال له: أين جهنم؟ فقال: البحر، (فقال): ما أراه إلا [صادقاً]، وقرأ: {والبحر المسجور} [طه: 6]، {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ}. وقال ابن زيد: {سُجِّرَتْ}: أُوقِدَتْ فصارت نيرانا، وقاله سفيان. وقال(12/8077)
الربيع بن [خثيم]: {سُجِّرَتْ}: " فاضَتْ ".
وقال الضحاك: " فجرت ".
ودليله قوله في الانفطار: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3]، فكيف يخبر عنها في هذه السورة بأنها تسعر ناراً، [و] يخبر عنها في [السورة] الأخرى بأنها تفجر؟! بل الخبر في السورتين عن تفجيرها أولى.
وقال قتادة: {سُجِّرَتْ}: ذهب ماؤها وغار.
وقال الحسن: " يبست "، وهذا موافق لقول الضحاك وموافق لمعنى ما في السورة الآخرى من ذكر التفجير، لأنها إذا فجرت ذهب ماؤها، وإذا ذهب ماؤها يبست، فالمعنى متَّفِق في ذلك.
وقال ابن عباس: جهنم في البحر الأخضر [تكوَّر] الشمس والقمر فيه،(12/8078)
[وتتناثر] الكواكب ثم تسجر فتكون جهنم. وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم [وسط] الأرض، أسفله آبارٌ مطبقة بنحاس تسجر يوم القيامة.
وقال (أبو) عمران الجوني: بلغنا أن دون العرش بحاراً من نحاس تسجر يوم القيامة.(12/8079)
والمسجور [و] السَّاحر في اللغة: المَلآنُ، فمعنه - على قول من جعله جهنم - أنها تملأ ناراً.
وقيل: هي بحار في جهنم، إذا كان يوم القيامة سجرت بأنوا العذاب، أي: ملئت [بذلك]. [روي أن الأوزاعي وقف على بحر الشام، فقال: هذا بحر، وتحته نار، وتحت النار بحر، وتحت البحر نار، حتى أتى على سبعة أبحر وسبعة أنوار. ثم قال: ينصب عليه الماء يوم القيامة، تشتعل نيرانه فتصير جهنم].
وقوله: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ}.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: هو الرجلان (يعملان) بعمل أهل الجنة أو(12/8080)
بعمل أهل النار. فَيُقْرَنُ كل شكل بشكله. ودليله قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، أي: وأشكالهم في الشر.
وقال عكرمة: يقرن الرجل الصالح بقرينه الصالح - في الدنيا - في الجنة [ويقرن] الرجل الطالح بقرينه [الطالح] الذي كان يعينه في الدنيا على ذلك في النار، ومكذلك تزوج الأنفس.
وقيل: معناه أن نفوس المؤمنين تقرن/ بحور العين. وتقرن نفوس [الكفار] والمنافقين بأنفس الشياطين.
وقال الحسن: {زُوِّجَتْ} " ألحق كل امرئ بشيعته ".(12/8081)
(وقاله قتادة)، (قال): يلحق اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى.
وقال عكرمة: معناه: وإذا النفوس ردت إلى الأجساد، فتقرن كل نفس بجسدها. وهو قول الشعبي.
-[ثم قال تعالى]: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ}. {بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}.
أي: طلب منها من قتلها؟ توبيخاً له، أي: وقيل لها: من قتلك؟ ولأي شيء قتلت بغير 1ذنب؟ توبيخاً لقاتلها. وأصل الوأد في اللغة: الثِّقْلُ. يقال: وَأَدَهُ [يَئِدُهُ] وَأْداً: إذا أثقله، فكأنه يُثْقِلُ المولودة بالتراب. ومنه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255](12/8082)
وكان أهل الجاهلية يقتلون بناتهم، فوبخهم الله بذلك. [وقرأ] ابن عباس وجابر ابن زيد: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}، أي: سألت قاتلها: بأي ذنب قتلها.
وقيل: معناه: سألت ربها عن ذلك على طريق التوبيخ والتقرير للقاتل.
روي أن الجاهلية لما زعمت أن الملائكةَ بناتُ الله، ألقى الله بغض البنات في قلوبهم، فكان بعضهم يكسو بنته جبة صوف [أو شعر] ويجعلها ترعى الغنم(12/8083)
بغضاً فيها.
وكان بعضهم يدفنها حية، وبعضهم يقتلها، وبعضهم يلقيها في بئر ويلقي التراب عليها.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ}.
أي: وإذا صحف أعمامل العباد نشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات.
قال قتادة: " صحيفتك يا ابن آدم تملى [ما] فيها، ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة ".
وقيل: (المعنى): نُشِرَ مَا فيها من أعمال بني آدم.
روي أن في السماء مَلَكاً (اسمه) " السِّجِلُّ "، تَرفع إليه الملائكةُ الحفظةُ [كل يوم] أعمال بن آدم، ما كتبوا بالليل والنهار، فينظر في تلك الكتب فيرى ما لهم وما عليهم، فيطرح منها قول الرجل: اخْرُجْ، كُلْ [اشْرَبْ]، ونحوه مما ليس فيه(12/8084)
ثواب ولا عقاب، ثم تطوى تلك الكتب ويطبع عليها كل يوم وليلة، فلا تفتح إلى يوم القيامة، فتنشر للحساب، وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]. أي: [نطوي] السماء (كما يطي) ذلك الملك الكتب التي فيها أعمال بني آدم.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ}.
قال الفراء: " نُزعت وطويت ". وفي قراءة عبد الله: " قُشِطَتْ "، بالقاف. وهما لغتان. والأصل الكاف. قال مجاهد {كُشِطَتْ}: " جذبت ".
وقيل: معناه: {كُشِطَتْ} عمن فيها (كما) يكشط الجلد عن الكبش.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ}.(12/8085)
أي: أُوقِد عليها فَأُحْمِيَتْ لأهلها.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ}.
أي: قربت [وأدنيت] من أهلها.
- ثم قال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}.
هذا جواب {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} وما بعده. وإلى هذا أَتَى بالقصة من أولها، أي: إذا وقع كل ما ذكر من الحوادث، علمت (كل) نفس ما أحضرت من خير أو شر، وما أخرت.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: " إلى هذا جرى الحديث ". والمعنى: ما وَجَدَته حَاضِراً، كما يقال: " أَحْمَدْتَ الرَّجل ": إذا وجدته محموداً.
- ثم قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس}.
(لا) زائدة مؤكدة، والمعنى: أقسم بالخنس، وهي النجوم الدراري الخمسة،(12/8086)
تَخْنَسْ في مجراها فترجع وتكنس [فتصير] في بيوتها كما تكنس [الضباء] في الغار وهي بهرام -[وهو] المريخ - وزحل وعطارد والزهرة والمشتري. قال علي: الخنس: " النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل ". وقال [بكر] بن عبد الله: " هي النجوم الدراري التي تجري تستقبل المشرق ". وهو قول الحسن ومجاهد.
وقال قتادة كقول الحسن، [قال]: هي النجوم تبدو بالليل وتكنس(12/8087)
بالنهار.
وقال عبد الله بن مسعود: هي بقر الوحش. وكذلك قال النخعي وجابر بن زيد.
وقال ابن عباس: هي الظباء، وهو قول ابن جبير والضحاك. وإنما يقال لبقر الوحش والضباء " خُنْسٌ "، لأن الواحد أخنسُ والأنثى خَنْسَاءُ، أي: قصيرات الأنوف.
وقيل للنجوم " خُنَّسٌ "، لأنها تخنس، أي: ترجع في مجراها، من قولهم: خَنَست(12/8088)
عن الرجل: إذا تَأَخَّرْت عنه.
ويقال: خَنَسْتَ عن الرجل: إذا استَتَرْتَ عنه، فلذلك قال الحسن: هي النجوم تخنس بالنهار أي: تستتر فيه، والكنس: المستقرة، والكِنَاسُ: أن تتخذ البقرة الوحشية من/ الشجرة القديمة بيتاً تأوي إليه.
وقيل: الكنس سبعة: الشمس والقمر [والمشتري] وعطارد والمريج وزحل والزهرة.
أقسم الله - جل ذكره - بها، والتقدير: فأُقْسِمُ [برب] الخنس، والله - جل ذكره - يقسم بما شاء من خلقه.
- ثم قال تعالى: {والليل إِذَا عَسْعَسَ}.(12/8089)
(قال ابن عباس رضي الله عنهـ: {عَسْعَسَ}: " أدبر ". وهو قول علي ومجاهد وقتادة.
وقال زيد بن أسلم {عَسْعَسَ}: ذهب.
وقال الحسن: {عَسْعَسَ}: إذا غشي الناس بظلامه. وهو قول الفراء.
والعرب تقول: عسعس الليل وسعسع: إذا أدبر فلم يبق منه إلا اليسير.
وقيل: هو من الأضداد.(12/8090)
وقال المبرد: ليس هو من الأضداد، لكن يقال: عسعس إذا لم يستحكم ظلمته، فهذا يصلح لأوله ولآخره.
- ثم قال تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ}.
ي: أقبل وتبين. والتقدير: وَضَوْءُ الصبح إذا أقبل.
- ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}.
هذا جواب القسم المتقدم.
[وأجاز] الكسائي " أنَّهُ " بالفتح على معنى: أقسم أنَّهُ.
والمعنى: إِنَّ هذا القرآن لقول رسولٍ كريمٍ عن الله بَلَِّغَهُ، يعني جبريل عليه السلام كريم عند مرسله.
وقيل: الرسول [الكريم: محمد] ونسب إليه القرآن فجعل من قوله لأنه(12/8091)
يعمل بما فيه، ويقول به وهو مذهبه، كما تقول: فلان يقول يقول مالك ويقول الشافعي، أي بمذهبه. فأضاف القول إليه لانتحاله إياه. كذلك من جعله جبريل، أضاف القول إليه؛ لأنه ينزل به من عند الله، فهذه إضافة لفظ دون معنى.
- وقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ}.
يعني جبريل، أي: صاحب قوة على ما كُلِّف من تبليغ الوحي، مكين عند رب العرش، أي: متمكن الحال والدرجة عند ربه.
- ثم قال تعالى: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}.
أي: مطاع في السماء، تطيعه الملائكة، [أمين] عند الله على وحيه إلى أنبيائه.
قال أبو صالح: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} قال: " جبريل أمين على أن يدخل سبعين سُرْادِقاً من نور بغير (إذن] ".
قال ابن عباس والضحاك: هو جبريل.(12/8092)
- ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}.
يعني [محمد] صلى الله عليه وسلم، أي: ليس (هو) بمجنون كما قال المبطلون.
- ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين}.
[أي]: ولقد رأى [محمد] جبريل عليه السلام في صورته في الناحية [التي] تتبين فيها الأشياء، فيرى من قبلها وذلك ناحية مطلع الشمس من قبل المشرق.
وقال قتادة: {بالأفق المبين}، كنا نُحَدِّثُ أن الأفق من حيث تطلع الشمس ويجيء النهار.
قال ابن عباس: رأى محمد جبريل على صورته عند الله.
قال ابن مسعود: رأى جبريل له خمسمائة جناح وقد سد الأفق.(12/8093)
- ثم قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ}.
من قرأه بالضاد غير مرفوعة فمعناه: وما محمد على القرآن ببخيل، بل [يبذله] ويدعو له ويغظ (به). ويذكر به ويعلمه. ومن قرأه بالظاء مرفوعة فمعنه: بمتهم.
أي: ليس هو بمتهم على القرآن، بل هو أمين عليه وعلى تبليغه كما أوحي إليه.
- ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}.
أي: وما القرآن الذي جاءكم به محمد {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}، أي]:(12/8094)
مرجوم، أي: ملعون، مطرود. ولكنه كلام الله ووحيه.
- ثم قال تعالى: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}.
أي: فأين تعدلون عن (هذا) القرآن وعن قبوله وتصديق من جاءكم به؟!
قال قتادة: معناه: فأين " تعدلون عن كتابي وطاعتي "!.
وقال: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}، ولم يقل (فإلى أين) تذهبون. كما تقول: ذهبت الشام، وذهبت إلى الشام. وذهبت المشرق وذهبت إلى المشرق.
وحكي عن العرب سماعاً: انطلق به [الغَوْرَ أي إلى الغَوْرِ].(12/8095)
ولا يجيزه سيبويه إلا في: " ذَهَبْتُ الشَّامَ "، سماعاً. لا يجوز عنده: " ذَهَبْتُ مِصْرً ".
- ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}.
أي: ما هذا القرآن إلا ذكر وعظة للعاملين من الجن والإنس.
ثم بين لمن هو ذكر وعظة، فأبدل من " العالمين " بدل البعض من الكل بإعادة الجار [فقال]:
- {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}.
أي: لمن شاء أن يتبع الحق.
(والمعنى: إنْ هذا القرآن إِلاَّ ذكر لمن شاء منكم أن يتبع الحق) [ويستقيم] عليه.
- ثم قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين}.
أي: وما تشاءون - أيها الناس -/، الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك لكم.(12/8096)
وقيل: (معناه) وما تشاءون شيئاً من الطاعة والمعصية، إلا أن يشاء الله رب العالمين ذلك منكم، ولو شاء الحال بينكم وبين ما تشاءون. وهذا قول أهل السنة: كل طاعة ومعصية بمشيئة الله كانتا.
وروي أنه لمَّا [نزل] قوله: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}، قال أبو جهل: ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين}. وفي الكلام معنى التهدد والوعيد.(12/8097)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطار
مكية
- قوله تعالى: {إِذَا السمآء انفطرت} إلى آخرها.
[إذا السماء انفطرت، بمنزلة قوله: {إِذَا السمآء انشقت} [الإنشقاق: 1].
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت}.
أي: تساقطت. قد تقدم ذكر هذا.(12/8099)
- ثم قال تعالى {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ}.
أي: فجر الله بعضها في بعض.
قال قتادة: " فَجّرَ عَذْبَهَا في مالحها، ومالحها في عذابها ".
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ}.
أي: [أثيرت] فاستخرج من فيها من الموتى أحياء.
يقال: بعثر فلان حوض فلان [وبحْثره]: إذا جعل أسفله أعلاه.
قال ابن عباس: {بُعْثِرَتْ}: " بُحِثَتْ ".
وقال الفراء: بُعْثِرَتْ فألْقَتْ فألْقَتْ ما فيها من الكنوز والموتى. ولا معنى للكنوز في هذا؛ لأنه يو القيامة، ولا كنز في القبور.(12/8100)
- ثم قال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.
هذا جواب {إِذَا السمآء انفطرت} وما بعده، أي: علمت كل نفس ما قدمت لذلك اليوم وما أخرت من عمل صال أو سيء.
وقيل: معنى (أخرت)، أي: ما سنت من عمل فيعمل به بعده. (قاله القرظي).
وقيل: معناه: ما قدمت من العمل المفروض فعملت به، وما تركت منه. وهو قول [ابن] عباس وعكرمة وقتادة وابن زيد. أي: [ما] عملت مما فرض عليها، وما تركت فلم تعمل (به).
- ثم قال تعالى: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم}.
أي: يا أيها الإنسان الكافر بربه، أي شيء غرك بربك الكريم حتى كفرت به وجحدت نعمه؟!
قال الطبري: غَرَّ الناس عدوُّهم المسلط عليهم. وقاله قتادة.(12/8101)
- وقوله: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}.
أي: اخترع خلقك [بعد] إن لم تكن شيئاً فسوى خلقك. {فَعَدَلَكَ} أي: فقومك، فجعل خلقك معتدلاً، (لا) تزيد رجل (على رجل)، ولا يد على يد. ودل على هذا قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. ومن خفف {فَعَدَلَكَ} فمعناه: صرفك إلى أي سورة شاء، إما حسنٌ وإما قبيحٌ، وإما طويل وإما قصير.
وقوله: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ}.
يدل على هذا المعنى. فقراءة (التشديد أولى [ليفيد] الكلام فائدتين مجددتين، لأن معنى التخفيف هو ما أفاد).(12/8102)
قوله: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ}. و {في} متعلقة بِ {رَكَّبَكَ}، ولا يحسن أن تتعلق بِ (عدلك) لأنك أنما تقول: عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلته في كذا.
وقد غلط الفراء فمنع قراءة التخفيف واستبعادها لإتيان {في} بعد (عدلك)، فظن أن {في} متعلقة بِ (عدلك)، وليست كما ظن.
وقد قيل: إن القراءة بالتشديد هي من هذا المعنى على التكثير، أي: صرفك مرة بعد مرة إلى أي صورة شاء.
وقيل: معنى التخفيف: (أمالك إلى) ما شاء من حسن وقبح وصحة(12/8103)
وسقم.
وقال مجاهد: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} معناه: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم شاء خلقك.
وقال أبو صالح: معناه: إن شاء في صورة كلب أو خنزير أو حمار. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، أما قرأت في {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ}؟! ".
والتقدير في الكلام: في أي صورة ما شاء أن يركبك {رَكَّبَكَ}.
وفي حديث آخر أنه قال: " إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَزَّ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ النَّسْمَةَ فَجَامَعَ(12/8104)
الرَّجُلُ المَرْأَةَ، طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عَرْقٍ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْضَرَ لَهُ آباءَه مِنْ لُدُنِ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرَهُ فِي صُورَةِ وَاحِدٍ [مِنْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ]: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ".
- ثم قال: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين}.
أي: ليس الأمر - أيها الكافرون - على ما تقولون من أنكم على الحق في عبادتكم غيرَ الله، لكنكم تكذبون بالجزاء والبعث والجنة والنار. ودل على ذلك قوله: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} (أي: ما غرك في عبادتك غير ربك الكريم) الذي خلقك فسواك فعدلك.
وقيل: {كَلاَّ} / بمعنى " حَقَّاً هَذَا "، أو بمعنى " أَلاَ ". ولذلك، لم ير أبو(12/8105)
حاتم الوقف (عليها)، وأجازه نصير.
وقيل: المعنى ليس كما غررت به، بل تكذب بالدين.
وقال مجاهد: {بالدين}: " بالحساب ".
وقال قتادة " {بالدين}: " يوم شدة، يوم يدين الله (العباد) بأعمالهم ".
- ثم قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}.
أي: وإن عليكم أيها الناس رقباء حافظين لأعمالكم حتى تدانوا بها يوم القيامة.
ثم وصف الحافظين فقال:
- {كِرَاماً كَاتِبِينَ}.
أي: كراماً على الله يكتبون أعمالكم.(12/8106)
قال مجاهد: يُوكِل بكل إنسان ملكين، ملكاً عن يمينه يكتب الخير، وملكاً عن شماله يكتب الشر.
- وقوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.
أي: يعلم هؤلاء الحفظة ما تفعلون من خير وشر [فيحصونه] عليكم.
قال أبو عبد الرحمن السلم]: إن الملك يأتي أحدكم كل غدوة بصيحفة بيضاء، فإذا صلى الغدوة [فليمل] فيها خيراً، فإذا طلعت الشمس فليقم لحاجته، فإذا صلى العصر فليمل فيها خيراً. فإنه أملى في أول [صحيفته] وآخرها(12/8107)
خيراً (كان) عسى أن يكفر ما بينهما.
- ثم قال تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ}.
أي: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب محارمه لفي نعيم الجنان يوم القيامة.
وقيل: إنما سموا أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء.
- ثم (قال) تعالى: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ (الدين)}.
أتى بلفظ التأنيث في {يَصْلَوْنَهَا} حملاً على تأنيث النار، أي: يَصْلَى الفجار(12/8108)
الجحيم يوماً يدان فيه العباد (بأعمالهم.
وقال ابن عباس: " {يَوْمَ الدين}) من أسماء يوم القيامة، [عظمه] الله وحذره عباده ".
- ثم قال تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ}.
أي: وما هؤلاء الفجار عن الجحيم بخارجين أبداً [فغائبين] عنها، [لكنهم] مخلدون فيها أبداً.
- ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ (مَا يَوْمُ الدين)}.
أي: وما أشعرك يا محمد، أي شيء يوم الدين!، ثم كرره معظماً له محذراً (منه) عباده.
وقيل: إن هذا ليس بتكرير. ومعناه: وما أدراك، يا محمد، ما في يوم الدين من(12/8109)
العذاب للفجار!، وما أدراك ما في يوم الدين من النعيم للأبرار!.
ثم فسر بعض شأن ذلك القيوم فقال:
- {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً. . .}.
أي: ذلك اليوم يوم لا تملك فيه نفس لنفس نفعاً ولا ضراً. ومن رفع {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} جعله بدلاً مما قبله، أي على إضمار مبتدأ، أي: [هو يوم لا تملك].
واختار الفراء والكسائي [الرفيع فيه] لأنه مضاف إلى مستقبل، ولو كان مضافاً إلى ماض لآثروا الفتح، فهو عندهم في الاختيار مُعَرَّبٌ إذا أضيف إلى(12/8110)
معرب، ومبني إذا أضيف إلى مبني.
ويجوز في المستقبل من البناء على الفتح مثل ما جاز في الماضي. ومن فتح {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} فعلى الظرف، أي: [الدين] في يوم تملك.
ولا يجوز عند الخليل وسيبويه: أن يكون مبنياً وهو [مضاف] إلى معربٍ، إنما يجوز ذلك إذا أضيف إلى ماضٍ.
وأجاز الفراء أن يكون مبنياً وإن كان مضافاً إلى معرب، وأن يكون منصوباً معربا، وأن يكون مبنياً - في موضع نصب على الظرف، وفي موضع رفع على إضمار مبتدأ.
- ثم قال تعالى: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
أي: والأمر كله - يوم الدين - لله (أي)، ليس لأحد من خلقه أمر ولا نهي يومئذ.(12/8111)
ومن رفع {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} على البدل من {يَوْمَ} مرفوع قبله أو فتحه - وهو في موضع رفع على البدل منه أيضاً - أو نصبه على البدل من {يَصْلَوْنَهَا (يَوْمَ الدين)}، لم يبتدئ به. ومن رفعه على إضمار مبتدأ أو نصبه على إضمار فعل بمعنى: اذكر يوم لا تملك، أو فَتَحَه وهو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أبتدأ به.(12/8112)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ويل للمطففين
مكية
- قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}، إلى قوله: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}.
أي: قبوح للمخسرين في كيلهم، الناقصين (الناس) إذا اكتالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقيل: {وَيْلٌ} معناه: الوادي [الذي] في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهلها للذين ينقصون الناس ويبخسونهم حقوقهم في كيلهم ووزنهم.(12/8113)
قال ابن مسعود: ويل: (واد) في جهنم.
والمطففون: الناقصون. وأصل ذلك في الشيء الطفيف وهو القليل، التَّزْرُ.
والمطفف في اللغة: المُقَلِّلُ حَقَّ صاحبِ الحقِّ عَمَّا لَهُ من الوفاء في كيل أو وزن.
وحكى القتبي: " إناء [طفان] إذا لم يكن ممتلأ ".
وطفف فلان صلاته: إذا لم يجودها.
ويقال للشيء المطرح: طفيف.(12/8114)
و [قيل]: معنى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] عند سيبويه أنه دعاء يجري بين الناس، فخوطب العباد بما يجري [بينهم]، وجاء القرآن على لغتهم، فكأنه تعالى قال: هؤلاء ممن يجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة. وروي عن ابن عباس أنه قال: لمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كَانَ أهلها من أخْبَثِ الناس كَيْلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل.
وهذا الخبر يدل على أن السورة نزلت بالمدينة.
- وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ}.
أي: إذا اكتالوا من الناس ما لهم عليهم من حق استوفوا لأنفسهم وافياً.(12/8115)
و {عَلَى} بمعنى " من " - في هذ - عند الطبري.
وقيل: إن معنى الكلام بِ " عَلَى " خلاف معناه بِ " مِنْ " يقال: اكتلت عليك، بمعنى: أخذت ما عليك من حق. واكتلت منك، بمعنى: استوفيت/ منك.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.
أي: وإذا [كالوا] للناس أو وزنوا لهم ينقصون، فَ " هم " في موضع نصب، على هذا يقال: كِلْتُكَ حَقَّكَ، وكِلْتُ لَكَ حَقَّكَ. وهو قول أكثر النحويين. ودل على ذلك أن الخط لا ألف فيه بين الضميرين. وقال عيسى بن عمر: الهاء والميم في موضع رفع فيهما، وتقديره عنده: وهم إذا كالوا أو وزنوا يخسرون.
وقيل: " هم " في موضع رفع تأكيد للمضمر [المرفوع] في(12/8116)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
" كالوا " أو " وزنوا ".
- ثم قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}.
أي: ألا يظن المطففون أنهم مبعوثون ليوم القيامة من قبورهم فيجازون على تطفيفهم وبخسِهم الناس حقوقهم.
روي أنها نزلت في رجل من قريش كان بالمدينة معه صاعان: واف يقبض به، وناقص يعطي به، ثم هي عامة في كل من نقس الكيل إذا دفع وأوفى إذا قبض.
- قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين}، إلى قوله: {كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
أي: يبعثون يوم يقوم.
ويجوز [أن يكون] بدلاً من {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} على الموضع.(12/8117)
وقال الفراء: هو مبني على الفتح، ولا يحسن عند البصريين بناؤه مع إضافته إلى معرب، إنما يناؤه إذا أضيف إلى مبني. المعنى: يوم يقوم الناس على أقدامهم لرب العالمين.
روي أن الناس يقومون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، فيقومون مقدار أربعين عاماً.
وقيل: مقدار ثلاثمائة عام.
وروى ابن عمر [عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: " يَقْدُمُ أَحَدُكُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصافِ أُذُنَيْهِ " وروى أبو هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير الغفاري: " كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ(12/8118)
فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِ العَالَمِينَ مِقْدَارَ ثَلاَثَمائة سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لاَ يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَأْمُرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ؟ فَقَالَ بَشِيرٌ: اللهُ المُسْتَعَانُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ كَرْبِ (يَوْمِ) القِيَامَةِ وَسُوءِ الحِسَابِ ".
وعن ابن عمر أنه قال: " يقومون مائة سنة ".
وقال ابن مسعود: يمكثون أربعين عاماً رافعي رؤوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كل بر وفاجر. قال: [فينادي] مناد: أليس عدلاً من ربكم أنه خلقكم ثم صوركم (ثم رزقكم) ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد(12/8119)
منكم ما تولى في الدنيا؟! فيقولون: بلى "، ثم ذلك الحديث.
وقال كعب: يقومون قدر ثلاثمائة سنة.
وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تَدْنُو الشَّمْسُ يَومَ القيامةِ من الأَرضِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرَقُ إلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عَجْزِهِ، وَمنهم مَنْ يَعْرَقُ إلى خَاصِرَتِهِ، وَمِنْهم مَنْ يَعْرَقُ إلى مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عُنُقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى نِصْفِ فَمِهِ مُلْحَماً بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بيَشْمَلُهُ] العَرَقُ " قال عمير [بن] هانئ: يحشر الناس يوم القيامة على أرض قد مدها [الله] تبارك وتعالى مد الأديم العُكَاظِي، فهم من ضيق مقامهم فيها كضيق سهام(12/8120)
اجتمعت في كنانتها. قال: فالسعيد يومئذ من وجد لقدمه مقاماً. قال: وأكثر الأقدام يومئذ بعضها على بعض. قال: فهم فيها مجتمعون ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي. فبينما هم كذلك، إذا سمعوا زفرة من زفير جهنم، فلا يبقى مالك مقرب، ولا نبيٌ مرسل إلا خَرَّ لركبيته، حتى إنَّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليقول: (نفسي)، (رب) نفسي، لا أسألك غيرها. فلا يبقى عند تلك الزفرة دمعة إلا جرت، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى دم في عين إلا جرى، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى قيح إلا(12/8121)
سال يتبع بعضه بعضاً، ويمد بعضه بعضاً حتى يسيل إلى واد يقال (له سائل، فيفرغ في جهنم، فذلك قوله):
{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1].
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ}.
من جعل {كَلاَّ} وقفا، كان تقديره: ليس الأمر كما يظن هؤلاء الكفار أنهم غير مبعوثين، إن كتابهم الذي كتبت فيه أعمالهم في الدنيا لفي سجين.
ومن لم يره وقفا، جعل {كَلاَّ} بمعنى " أَلاَ "، افتتاح كلام.
و {سِجِّينٍ}: الأرض السفلى، فيه أعمال الكفار وأرواحهم.
وروي أن إبليس موثق بالحديد والسلاسل في الأرض السفلى. (وسأل ابن عباس كعباً عن {سِجِّينٍ}، فقال/: هي الأرض السابعة السفلى)، فيها أرواح الكفار تحت خد إبليس.(12/8122)
وروي أنه قال (له): إن أرواح الكفار يُصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فيُهبط، فتدخل تحت سبع أرضين حتى يُنتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج [لها] من سجين من تحت خد إبليس [رق] فترقهم وتختم وتوضع تحت خد إبليس.
وقال ابن جبير: {لَفِي سِجِّينٍ}: " تحت خد إبليس ".
وقال ابن أبي نجيح: {سِجِّينٍ} صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب [فتجعل] تحتها.
وقال ابن عباس: " أعمالهم في كتاب في الأرض السفلى ".
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الْفَلَقُ جُبٌّ في جَهَنَّمَ مُغَطَّى. وأما {سِجِّينٍ}، فمفتوح ". يعني أنه جب مفتوح.(12/8123)
وقيل: {سِجِّينٍ} من السِّجِلِّ، والنون مبدلة من اللام.
وقال أبو عبيد: {لَفِي سِجِّينٍ}: لفي حبس. وهو فِعِّيلٌ من السجن.
وقيل: {سِجِّينٍ}: هي الصخرة التي تحت الأرض السفلى وهو صفة، وليس باسم الصخرة، ولو كان اسماً لها لم تنصرف.
وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ العَبْدَ (الكَافِرَ - أَوْ) الفاجِرَ - إِذَا مَاتَ صَعِدُوا بِروحِهِ إلى السماءِ، فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: اكْتُبُوا كِتَابَه في سَجِّينٍ. وَهِيَ الأَرْضُ السُّفْلَى ".(12/8124)
وعن كعب (أيضاً) أنه قال: في التوراة أن سجينا شجرة سوداء تحت الأرضين السبع، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تُلْقَى أنفس الكفار عندها.
- ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}.
أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما سجين؟! على التعظيم لأمره. ثم بَيَّنَ فقال: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}. أي: مكتوب فيه عمل الكفار.
قال قتادة: مرقوم: مكتوب رُقِمَ لهم فيه بِشَرٍّ.
- ثم (قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
قد تقدم تفسيره في مواضع).
- ثم قال: {الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين}.
أي: لا يؤمنون بالجزاء والبعث والنشور.
- {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ}.(12/8125)
أي: بالبعث، {إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ.
. .} أي: كل من تعدى حدود الله. {أَثِيمٍ} أي: مأثوم في فعله.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا. . .}. أي: حججنا وأدلتنا.
{قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين. . .}. أي: قال: هذه أخبار الأولين وأحاديثهم وما كتب عنهم وَسُطِّرَ.
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
{كَلاَّ} عند أبي حاتم لا يوقف عليها. وهي بمعنى " أَلاَ " [و] بمعنى " حَقاً ".
ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأَمْرُ على ما قال هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن آياتنا أساطير الأولين.
ثم ابتدأ فأخبر عَنْهُم ما نزل بهم حين كفروا بالبعث فقال: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا(12/8126)
كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي: (بل) ران على قلوبهم إِثْمُ ذُنُوبِهِمْ وكُفْرِهِمْ حتى غطاها، فلا يبصرون الصواب من الخطأ.
يقال: رانت الخمرُ على عقله: إذا غلبت (عليه). وغَانَتْ بمعناه.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَ (فِي) قَلبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإن (تاب) صُقِلَ مِنْهَا، فإن عَادَ عَادَتْ حتى تَعْظُم فِي قَلْبِهِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ".
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يَعْمَى القلب فيموت.(12/8127)
قال مجاهد: القلب مثل الكف. فإذا أذنب انقبض - وقَبَضَ مجاهد أُصبُعاً - قال: فإذا أذنب انقبض - وقبض مجاهدٌ أصبعاً آخر - ثم كذلك حتى ينقبض كله - وقبض مجاهد أصابعه على الكف - قال: ثم يطبع عليه. فكانوا يرون أن ذلك هو الرين. قال قتادة: هو " الذنب على الذنب حتى يرين على القلب فَيَسْوَدُ ".
قال ابن زيد: {بَلْ رَانَ}، أي: غلبت على قلوبهم ذنوبُهم، فلا يَخْلُصُ إليها معها خير.
- ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.
" كلا " عند أبي حاتم بمعنى " ألا ". ولا يوقف عليها.
ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن لهم عند الله زلفة يوم القيامة لكنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته.(12/8128)
وقول أبي حاتم أَبْيَنُ في [هذا الموضع] من " كلا "، لأن هذا التقدير ليس هو في ظاهر الكلام، ولا في الكلام ما يدل عليه. ففيه تعسف. [وَدَلَّ لالهُ المؤمنِينَ، بهذه الآية، أنهم لا يحجبون عن ربهم وعن النظر إليه.
قال مالك رحمه الله: في هذا دليل على أن ثم قوماً لا يحجبون عن الله وينظرون إليه/.
وبه استدل الشافعي على النظر إلى الله عز وجل يوم القيامة. وقد قدره منكرو النظر إلى الله على معنى أنهم عن كرامة ربهم لمحجوبون.(12/8129)
وهذا لا يجوز عند أحد من النحويين، ولو جاز هذا لجاز: " جاءني زيد "، تريد غلام زيد أو كرامة زيد.
وفي جواز هذا نقض كلام العرب كله. ولا يجوز إخراج الكلام عن ظاهره إلا لضرورة تدعو إلى ذلك مع امتناع جوازه على ظاهره. فإذا امتنعك جواز الكلام على ظاهره، جاز الإضمار الذي يسوغ معه جواز الكلام. ولا ضرورة تدعو إلى أضمارٍ هنا على مذهب أهل السنة.
قال الحسن: يكشف (الحجاب) فينظر إليه المؤمنون دون الكافرين، ثم يحجب الكافرون، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غُدْوَةً وَعَشِيَةً.(12/8130)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
- ثم قال تعالى: {(ثُمَّ) إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم}.
أي: لَوَارِدُهُ مع [حجبهم] عن النظر إلى الله.
- {ثُمَّ [يُقَالُ] هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
أي: يقال لهم: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا.
- قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار. . .}، إلى قوله: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون}.
أي: ألا إن كتاب الأبرار، أي: كتاب أعمالهم لفي عليين.
والأبرار: الذين بروا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه.
وقيل: هم المؤمنون الذي بَرَّوا الآباء والأبناء.
وقال الحسن: " [هم الذين] لا يؤذون شيئاً حتى الذر ". وسأل ابن(12/8131)
عباس كعباً عن {عِلِّيِّينَ} فقال: " هي السماء السابعة، وفيها أرواحُ المؤمنين ".
وروي (عنه أنه قال (له: إن) أرواح المؤمنين إذا قبضت صُعِدَ بها ففتحت لها أبواب السماء وتلقتها الملائكة بالبُشرى، ثم عَرَجُوا مَعَهَا حتى ينتهوا إلى العرش فيُخْرَحُ لها من عند العرش رَقٌّ [فَيُرْقَم] ويختم بمعرفتها النجاة يوم القيامة، ويشهدها الملائكة المقربون.
وقال قتادة ومجاعج: هي " السماء السابعة ".
وقيل: السماء الرابعة، اسمها عليون، وفيها أعمال المؤمنين وأرواحهم.(12/8132)
وقال الضحاك: {لَفِي عِلِّيِّينَ} أي: " لفي السماء عند الله ".
وقال قتادة أيضاً: {لَفِي عِلِّيِّينَ}: " فوق السماء السابعة [عند قائمة] العرش اليمنى ".
وعن ابن عباس: {لَفِي عِلِّيِّينَ} لفي " الجنة ".
وروى الأجلح عن الضحاك أنه قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عُرِج به إلى السماء الدنيا، فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية. قال الأجلح: (قلت): وما المقربون؟ قال: أقربهم إلى السماء [الثانية. قال: فينطلق معه (المقربون) إلى السماء] الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة حتى يُنْتَهى به إلى سدرة المنتهى. قال الأجلح: قلت للضحاك: لم سميت سدرة المنتهى؟. . . قال: لأَنَّه يَنتهي إليها كل شيء من أمر الله،(12/8133)
[لا يعدوها]. [قال]: فيقولون: [يا رب]، عند فلان. وهو أعلم به منهم، فيبعث الله جل ذكره إليه بصك مختوم بأمنه من العذاب، فذلك قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون}.
وعن ابن عباس: أيضاً: {لَفِي عِلِّيِّينَ} لفي السماء عند الله وهو قول الفراء {} وهي الرواية الأولى عن الضحاك.
وإنما أعرب {عِلِّيُّونَ} بإعراب الجمع (لأنه) لا واحد له، فأشبَهَ " عشرين ". ومعناه: من علو إلى علو، أي: من سماء إلى سماء، (إلى) السابعة.
وقيل: إن {عِلِّيِّينَ} (من صفة الملائكة)، فلذلك جمع بالواو والنون.(12/8134)
والتقدير عند الطبري: {لَفِي عِلِّيِّينَ} أي: في عُلُوٍّ وارتفاعٍ، في سَمَاء فوق سماء، وعلوٍ فوق علوٍ إلى السماء السابعة، أو إلى سدرة المنتهى أو إلى قائمة العرش، على الاختلاف المتقدم.
- وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}.
أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما عليون؟! يُعَجِّبُ نبيه صلى الله عليه وسلم من عليين، ثم بينه فقال:
- {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}.
أي: مكتوب [بأمان الله للأبرار من العذاب يوم القيامة والفوز بالجنة.
- وقوله: {يَشْهَدُهُ المقربون}.
أي: يشهدُ ذلِكَ الكتابَ المكتوبَ] بأمان الله للبَرِّ من عباده من النار(12/8135)
والفوز بالجنة المقربونَ من ملائكة كل سماء.
قال [ابن عباس]: المقربون. أهل كل سماء. وقاله الضحاك.
- ثم قال: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ}.
[أي]: يتمتعون في الجنان {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ}.
أي: [السرر] في الحجال من اللؤلؤ والياقوت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
رَوَى الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " (على الأرائك متكئون) [يَنْظُرُونَ] إلى أَعْدَائِهِمْ فِي النَّارِ ".(12/8136)
قال مجاهد: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ}: " من اللؤلؤ والياقوت/ ".
- ثم قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم}.
أي: حسن النعيم وبريقه.
- ثم قال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ}.
أي: من خمر [صرف لا] غش فيها.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الرحيق: الخمر. وهو قول الحسن، [و] قاله ابن مسعود.
وقال أهل اللغة: الرحيق [صَفْوُ] الخمر.
وقال أبو عبيدة: (الرحيق): الخالص من الشراب.
وقال ابن مسعود: مختوم: أي مخلوط.(12/8137)
- {خِتَامُهُ مِسْكٌ. . .}.
أي: خلطه مسك.
وقال علمقة: " طعمه وريحه مسك ".
وقال ابن عباس: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي: تختم الخمر بالمسك، آخر: شرابهم مسك.
قال ابن عباس: طيب الله عز وجل ( مُقَدَّمَ) شرابهم، كان آخر شيء جعل فيه مِسْكاً ختامه بالمسك.
وقال قتادة: آخره مسك، عاقبته مسك، قوم تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك.
قال الضحاك: " طيب الله لهم الخمر فوجدوا في آخر شيء منها ريح المسك ".(12/8138)
وقال أبو الدرداء: هو شراب مثل الفضة يختمون به شرابهم لو أن رجلا من أهل الجنة أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها إلى الدنيا لم يبق ذو روح إلا وجد طِيبَهَا؟
وعن مجاهد أن معناه أنه مختوم (مطين) بخاتم من مسك، وقال ابن زيد.
وهذا إنما يكون على قراءة الكسائي، لأنه قد قرأ: (خاتمه مسك).
والقراءة الأولى [معناها]: آخره مسك. وهو اختيار الطبري. قال:(12/8139)
لأنه لا وجه للختم إلا الطبع أو الفراغ، ولا معنى للطبع على شراب أهل الجنة، (إذ شرابهم) جارٍ جَرْيَ المياه في الأنهار ولم يكن مُعَتَّقاً في الدنان فيطبق عليه، فلا يصح معناه إلا في الفراغ. فالمعنى: آخره مسك، كما تقول ختمت القرآن، أي: بلغت آخره.
وقراءة الكسائي (تروى) عن علي بن أبي طالب رضي [الله] عنه. والخِتام: مصدر " خَتَمَ يَخْتِمُ خَتْمَاً وَخِتَامأً "، " والخَاتَمْ " الاسم.
- ثم قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون}.
أي: وفي ما تقدم وصفه من النعيم فلتنافس المتنافسون، مأخوذ من الشيء النفيس، وهو العالي الشريف الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه.(12/8140)
والمعنى: وفي ذلك فَلْيَجِدَّ في طلبه المُجِدُّونَ، ولتحرص عليه نفوسهم.
- ثم قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون}.
أي: ومزاج هذا الرحيق - وهو الخمر التي آخرها مسك - {مِن تَسْنِيمٍ} أي: من عُلُوٍّ ينزل عليهم.
تَسْنِيمٌ: تفعيل، من قول القائل: سَنَمْتُهُمْ العينَ تسنيماً، إذا أجريتها عليهم من فوقهم. ويقال: سمنتُ الماء أسنمه تسنيماً، إذا أخرجته من موضع عال.
وقبرٌ مُسَنَّمٌ، أي: مرتفع. ومنه سنام البعير، وَهُوَ اسْمٌ لمذكر وهو الماء. ولذلك انصرف.
وقال ابن زيد: بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش، فهي مزاج هذا(12/8141)
الخمر.
وقال الضحاك: " هو شراب اسمه تسنيم، وهو من أشرف الشراب ". وعنه أنه قال: {تَسْنِيمٍ}: عين تتسنم من أعلى الجنة، ليس في الجنة عين أشرف منها.
فأما انتصاب " عين "، ففيه أقوال:
قال الأخفش: هي منصوبة [بِ " يسقون "] عيناً، (أي): ما [عين].
وقال المبرد: نصبها على إضمار أعني.
وقال الفراء: تقديره: من تسنيم عين، فلما نونت " تسنيماً " [نصبت] عيناً، يقدر نصبه نصب المفعول بمنزلة {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15]. وقيل: نصبه على الحال، لأن(12/8142)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
" تَسْنِيماً " اسْمٌ لِلْمَاءِ، مَعْرِفَةٌ. و " عين ": نكرة. ومعنى " عَيْن ": جار، كأنه قال: من الماء العالي جارياً، فهي في موضع الحال.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ (مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ)} إلى آخر السورة.
أي: إن الذين اكتسبوا المآثم في الدنيا وكفروا بالله كانوا يضحكون في الدنيا من المؤمنين استهزاء بهم.
(قال قتادة: كانوا يقولون في الدنيا: والله إن هؤلاء لكذبة وما هم/ على شيء، استهزاءً بهم).
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}.
أي: وإذا مروا بالمؤمنين غمَز بعضهم بعضاً استهزاءً بالمؤمنين.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ}.(12/8143)
أي: (وإذا) انقلب المجرمون إلى أهلهم من مجالسهم انقلبوا ناعمين معجبين.
قال ابن عباس: {فَكِهِينَ}: " معجبين ".
وقال ابن زيد: انقلبوا ناعمين، ثم أعقبهم الله النار في الآخرة.
ويروى أن أبا جهل وأصحابه ضحكوا واستهزءوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهـ وأصحابه.
وحكى أبو عبيد عن أبي زيد أن العرب تقول: رجل فكهٌ أي: ضحوكٌ طيب النفس.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ}.(12/8144)
أي: وإذ رأى المجرمون المؤمنين قالوا: إن هؤلاء الضالونَ عن محجة الحق.
- ثم قال تعالى: {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.
أي: وما بعث هؤلاء المجرمون القائلون للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون حافظين عليهم أعمالهم رقباء عليهم: إنما كلفوا أنفسهم ليؤمنوا بالله [ورسوله] وكتابه [وليعلموا] بطاعة ربهم.
- ثم قال تعالى: {فاليوم الذين (آمَنُواْ) مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ}.
أي: فيوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار على سررهم في الحجال ينظرون.
(وقال ابن عباس: يفتح في السور الذي بين الجنة والنار أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون) كيف يعذبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعْيُنَهم كيف ينتقم الله منهم.(12/8145)
وروى قتادة عن كعب أنه قال: ذُكر لنا أن بين الجنة والنار كِواء، إذا أراد المؤمنون أن [ينظروا] إلى عَدُوٍّ لَهُمْ كانوا في الدنيا، [طلعوا] من بعض تلك الكواء [قال الله عز] {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55]، أي: في وسط النار، ذكر لنا أنه رأى جماجم القوم تغلي.
قال سفيان: [يجاء بالكفار] حتى [ينظروا] إلى أهل الجنة في الجنة على سرر، فحين ينظرون إليهم تغلق دونهم الأبواب (ويضحك) أهل الجنة منهم، فهو قول الله تعالى ذكره:
- {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ}.(12/8146)
- ثم قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
(أي: هل جوزي الكفار ثواب ما كانوا يفعلون) في الدنيا بالمؤمنين من سخريتهم بهم وضحكهم بهم.
قال مجاهد: الأرائك لؤلؤ وزبرجد؟
وقوله: {يَنظُرُونَ} تَمَامٌ، المعنى ينظرون إلى الكفار وليس ينظرون [{هَلْ ثُوِّبَ الكفار}] أو لم يجاوزوا. ومعنى {ثُوِّبَ}: جوزي.(12/8147)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إذا السماء انشقت
مكية
- قوله تعالى: {إِذَا السمآء انشقت} إلى قوله: {(إلى أَهْلِهِ) مَسْرُوراً}.
أي: إذا السماء تصدعت وتقطعت فكانت أبواباً.
قال الفراء: تنشق بالغمام.
- وقوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}.
أي: وسمعت السماء (في) تصديعها وتشققها لربها فأطاعت له. والعرب تقول: إذِنَت إلى هذا الأمر آذنُ، بمعنى: استمعت. ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه(12/8149)
قال: " ما أذِنَ الله لشيءٍ كأذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغنّى بالقرآن " يعني: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن.
وقال ابن عباس: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أي: " سمعت لربها ". وهو قول مجاهد وقتادة الضحاك وسفيان.(12/8150)
وقوله: {وَحُقَّتْ}، أي: وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق.
قال ابن عباس: {وَحُقَّتْ}، أي: وحقت بطاعة بها.
وقال ابن جبير: {وَحُقَّتْ} أي: ويحق لها أن تسمع وتطيع.
وقاله أبو عبيدة.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ}.
أي: بسطت فريد في سعتها.
وروى الزهري عن علي بن حسينٍ رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا كَانَ يَومُ(12/8151)
القِيَامَةِ مَدّ اللهُ - جَلّ ثَنَاءُهُ - الأرضَ مدَّ الأدِيمِ فلا يَكُونُ لِبَشَرٍ مِنَ بَنَي آدم فِيهَا إلاّ مَوضِعُ قَدَمِهِ. . . ".
- ثم قال تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا (وَتَخَلَّتْ)}.
أي: (وألقت الأرض) ما فيها من الموتى علقّ ظهرها وتخلت منهم (إلى الله جل) ذكره.
قال مجاهد: {(وَأَلْقَتْ) مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}، أي: أخرجت ما فيها من الموتى ".
وقال قتادة: " أخرجت (أثقالها) وما فيها ".(12/8152)
- ثم قال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}.
أي: وسمعت الأرض أمر بها في إلقائها ما في بطنها من الموتى على ظهرها وحققها الله للاستماع.
وقيل: معناه وحقّ لها أن تسمع أمره.
واختلف في جواب {إِذَا} والعامل فيها.
فقال الأخفش: التقدير: إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت. فيكون العامل في {إِذَا} على قوله فملاقيه.
وقيل: التقدير: اذكر يا محمد إذ السماء انشقت.
وقيل: الجواب: {يا أيها الإنسان}، على إضمار الفاء: كما تقول: إذا كان كذا وكذا، في أيها الإنسان ترى ما عملت من خير وشر.
وقيل: جواب {إِذَا} الأولى والثانية: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ}.
وقيل: التقدير: إنك كادح إلى ربك كَدَحاً إذا السماء انشقت. وهذا لا يجوز لأن الكدح: العملُ، فمحال أن يعمل في وقتِ انشقاق السماء/.(12/8153)
وقيل: الجواب: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}، و [الواو] زائدة، أي: إذا السماء انشقت، (أذنت لربها.
وقيل: الجواب محذوف. والتقدير: إذا السماء انشقت)، رأيت الثواب والعقاب.
وقال المبرد: التقدير: إذا السماء انقشت، فمأ من أوتي كتابه بيمينه.
- ثم قال تعالى: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}.
أي: إنك عامل إلى ربك عملاً في دنياك، فأنت ملاقيه خيراً كان أو شراً،(12/8154)
فليكن عملك ما ينجيك من عقابه ويوجب لك ثوابه.
قال قتادة: " إن كدحك لك يا ابن آدم [لضعيف]، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله ". [قال] ابن عباس وابن زيد وغيرهما: كادح: عامل.
والوقف في أول هذه السورة على مقدار ما تقدم من جواب {إِذَا} والعامل فيها، فلا تقف على ما قبل الجواب ولا ما قبل العامل. وقد ذكر الاختلاف في ذلك.
- قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}.
أي: من أعطي كتاب عمله [يومئذ] بيمينه ينظر في عمله فيغفر له(12/8155)
[سيئه]، ويجازى على حسنه.
قالت عائشة رضي الله عنها: سَمِعتُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهُمّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسيراً، فَقُلْت: يَا رسُولَ الله، مَا الحِسَابُ اليَسير؟ قال: (أن يُنظَرُ فِي سيّئاتِهِ فَيُتجاوَزُ عَنْهُ، إنّهُ من نُوقِشَ الحِسَابَ يَومَئذٍ هَلَكَ ".
وروى ابن (أبي) مليكة عن عائشة أيضاً أنها قالت: " قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [ إِنّهُ لَيْسَ أحدٌ يُحاسبُ يَومَ القِيامَةِ إلا معذّباً، قالت: يَا رسُول الله]، يقول الله جَلّ وعزّ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}. قال: ذَلِكَ العرض، إنّه من نُوقش الحِساب عذّب ".(12/8156)
قال ابن زيد: الحسابُ اليسيرُ: الذي تغفر ذنوبه وتتقبل حسناته وتيْسيرُ الحساب الذي يُعفى عنه، وقرأ: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21]، وقرأ: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16].
والمحاسبة بين العبد و (بين) ربه إنما هي إقرار العبد بما أحصاه كتاب عمله.
وروى ابن وهب " أن عائشة رضي الله عنها قالت: " يا نَبيّ (الله)، كَيْفَ {حِسَاباً يَسِيراً}؟ قال: يُعطى العَبْدُ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقرأ سَيّئاتِهِ ويَقرأ النّاس حَسَناتِهِ، ثُمّ تُحوّل صَحيفَُهُ فيحوّل اللهُ سَيّئاته حَسَناتٍ، فيقرأ حَسَناتِه ويَقرأ النّاسُ سَيّئاتِه حَسناتٍ، فَيَقُولُ الناسُ: مَا كان لِهَذا العَبْدِ سيّئةٌ. قال: فَيُعرّفُ بِعَمَلِهِ ويُغْفَرُ لَهُ،(12/8157)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
فَذَلِك قولُه تَعالَى: {يُبَدِّلُ الله [سَيِّئَاتِهِمْ] حَسَنَاتٍ} ".
- وقوله: {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}.
أي: وينصرف بعد محاسبته حساباً يسيراً إلى أهله في الجنة مسرورا بما أعد الله له وما نجاه منه.
وروي أن أول من يأخذ كتاب بيمينه أو بسلمة بن عبد [الأسد]، وهو ألو من يدخل الجنة من هذه الأمة، وهو أول من هاجر من مكة إلى المدينة.
- قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه وَرَآءَ ظَهْرِهِ}، إلى آخرة السورة.
(أي): وأما من أعطى كتاب عمله وراء ظهره. وذلك أن تغلّ يده اليمنى(12/8158)
إلى عنقه وتجعل الشمال من يديه وراء ظهره فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره. فلذلك وصفهم بأنهم يُؤتُون كتابهم بشمالهم وأنهم يؤتونها من وراء ظهورهم. قال مجاهد: " تجعل يده من وراء ظهره ".
روي أنه يعني بن الأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة هو أول من يأخذ كتابه بشماله.
روي أنه يمد يده ليأخذه بيمينه [فيجتذبه] ملك فيخلع يده فيأخذه بشماله من وراء ظهره. ثم هي عامة في أمثالها.
- ثم قال تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً}.(12/8159)
أي: ينادي بالهلاك (ويقول) (وا) ثبوراه، و " ياويلاه ". تقول لعرب دعا فلان لَهفَه: إذا إذا قال والهَفَاهُ.
قال الضحاك: {يَدْعُواْ ثُبُوراً}، أي: " يدعوا بالهلاك ".
- ثم قال تعالى: {ويصلى سَعِيراً}.
من شدده فمعناه [ويصليهم] الله النار تصلية بعد تصلية [وإنضاجه بعد إنضاجه] كما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56].
ومن خفف، فمعناه أنه صلونها ويَرِدُونها [فيحترقون] فيها.
- ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً}.(12/8160)
أي: إنه كان في الدنيا مسرورا بما هو فيه من خلافه أمرَ الله وكفره به.
- ثم قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن (يَحُورَ * بلى). . .}.
(أي): إنه ظن [أنه] لن يرجع بعد الموت ولا يبعث، فركب المعاصي وتمادى على الكفر إذ يرجو ثواباً لا يخاف عقاباً.
- ثم قال: {بلى} أي: بلى يبعث/ ويرجع إلى ربه [ويجازى] على عمله.
{إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}.
أي: إن ربه لم يزل بصيراً بما يأتي من أعماله قبل خلقه إياه وبعد خلقه.
يقال: حار فلان عن كذا، أي: رجع عنه ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ(12/8161)
يَقُول فِي دُعائِهِ: " اللهم إنّي أَعُوذّ بِكَ مِن الحَوْرِ بَعدَ الكَونِ " (اي): من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
وقيل: معناه: من النقصان بعد الزيادة.
- ثم قال: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق}.
لا زائدة مؤكدة. والمعنى فأقسم برب الشفق.
والشفق الحمرة في الأفق من ناحية المغرب من الشمس بعد غروب الشمس.(12/8162)
وقال مجاهد: " الشفق: النهار كله ".
وقيل: الشفق اسم للحمرة والبياض اللذين يكونان في السماء بعد غروب الشمس، وهو من الأضداد.
والشفق الذي تَحلّ بزواله صلاة العَتَمَةِ هو الحُمرةُ عند أكثر العلماء، وهو اختيار الطبري.
والعرب تقول: ثَوبٌ مُشفّقٌ: إذا (كان مصبوغاً) بحُمرةٍ. ثم عطف على القسم فقال:
{والليل وَمَا وَسَقَ}.
أكثر المفسرين على أن معنى {وَمَا وَسَقَ}: وما جَمَعَ وما آوى وما ستر.(12/8163)
ومن [يقال]: طعام مسوق: وهو المجموع في غرائر أو وعاء. ومنه الوَسْقُ وهو الطعام المجتمع الكثير مما يُكَالُ أو يوزن.
ويقال: هو ستون صاعاً، وبه (جاء الأثر) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد: {وَمَا وَسَقَ} " وَمَا لفّ ".
وعنه: " وَمًا جمع. . . ".
وعنه: " وما أظلم عليه، وما دخل فيه ".(12/8164)
وقال عكرمة: (وما وسق) " وما [ساق] من ظلمة ".
وهو قول الضحاك:
- ثم قال تعالى: {والقمر إِذَا اتسق}.
قال ابن عباس: {اتسق}: استوىى واجتمع. وقاله عكرمة.
وقال الحسن: {إِذَا اتسق} إذا كاجتمع وامتلأ.
وقال ابن جبير: {إِذَا اتسق} ذلك لثلاث عشرة.
وقال قتادة: {إِذَا اتسق}. إذا استدار.
- ثم قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ}.
هذا جواب القسم. والمعنى - على قراءة من ضم الباء - {لَتَرْكَبُنَّ} أيها(12/8165)
الناس حالاً بعد حال. والإنسان المتقدم ذكره بمعنى الناس، لأنه اسم للجنس، فعليه يعود الضمير في {لَتَرْكَبُنَّ} لأنه قد تقدم ذكرهم في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ} وشماله، وتأخر أيضاً ذكره في قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فلا يصرف الخبر عنهم في {لَتَرْكَبُنَّ} إلى غيرهمه إلا بدليل.
وقال ابن زيد: معناه: {لَتَرْكَبُنَّ} أيها الناس الآخرة بعد الأولى. فأما من فتح الباء، فإنه جعله مصروفاً إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعن: لتركبنّ - يا محمد - سماء بعد سماء، وهو قول الحسن وأبي العالية والشعبي.
وقيل: التقدير لتركبَن - يا محمد - الأمور بتغيرها حالاً بعد حال.(12/8166)
[وقيل: المعنى لَتَركبنّ الأمور حالاً بعد حال فتكون الأمورُ فاعلة، [والتاء لتأنيث] الجمع وهو قول مجاهد].
وقيل: المعنى: لتركبنّ السماء في تشققها وتلونها حالاً بعد [حال]، فيكون الفعل للسماء. وهو قول ابن مسعود. وقال: مرة كالدهان ومرة تشقق.
وكان ابن عباس يقرأ بفتح الباء (ويقول: يعني نبيّكم صلى الله عليه وسلم يقول: حالاً بد حال.
وقال ابن زيد: معنى ذلك: لتركبَنّ يا محمد الآخرة بعد الأولى. وقيل: القراءة بفتح الباء) على مخاطبة الإنسان على اللفظ، أي: لتركبنّ أيها الإنسان حالاً بعد حال، من مرض وصحة وشباب وهرم.
وقيل: ذلك في يوم القيامة.
فتكون على هذا القراءتان [ترجعان] إلى معنى، إلا أن إحداهما حملت على(12/8167)
المعنى فأتت بلفظ الجمع، والأخرى حملت على اللفظ فجاءت بلفظ التوحيد.
وحكى الفراء أنه يقال: وقع في بنات طبق، إذا وقع في أمر شديد. ويقال: مضى طبق من الناس ومضت طبقة وجاءت طبقة.
سُمّوا طبقاً لأنهم يطبقون الأرض.
وقد روي عن بعضهم [أنه] قرأ بالياء وضم الباء على الإخبار عن الناس أنهم سَيَرْكبونَ حالاً بعد حال من الشدائد الأهوال.
- ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ}.
أي: فما لهؤلاء المشركين لا يصدقون بالبعث بعد الموت؟!
وقد أقسم لهم ربهم أنهم راكبون حالاً بعد حال من شدائد القيامة وأهوالها.
{وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ}: لا يخضعون ولا يستكينون.
- ثم قال تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ}.
أي: يكذّبون بآيات (الله)، فلذلك ينكرون البعث.
- {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}.(12/8168)
أي: والله أعلم بما توعيه قلوب هؤلاء المشركين من التكذيب بآيات الله.
وقال مجاهد: {بِمَا يُوعُونَ} بما يكتمون في صدورهمه.
قال الرياشي: يقال أوعى الشيء: إذا كتمه.
وحكى أهل اللغة: أوعيت المتاع في الوعاء، أي: جمعته. فالمعنى على هذا: والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من التكذيب، والإثم.
- ثم قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
أي: الذي يقوم لهم مقام البشرى، عذاب أليم أي: موجع.
والبشارة تكون بالخير والشر. فإذا أفردت كان خيراً.
يقال: بشّرته وبشَرته خفيفاً.(12/8169)
وقيل: إن البشارة لا تكون إلا للخير/ فإن وقعت اللشرّ فهو مجاز، على معنى: الذي يقوم مقام البشارة كذا وكذا.
- ثم قال تعالى: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
أي: إلا الذين تابوا منهم وصدقوا بكتاب الله ورسوله وعلموا الأعمال الصحالة لهم عند الله ثواب منقوص.
قال ابن عباس: {غَيْرُ مَمْنُونٍ}، أي: " غير منقوص ".
وقال مجاهد: " غير محسوب ".
وقيل: معناه: لهم أجر لا يُمَنّ عليهم به فيكدر.(12/8170)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج
مكية
قوله تعالى: {والسمآء ذَاتِ البروج} إلى آخرها.
أي: ورب السماء ذات القصور. قاله ابن عباس.
قال الضحاك: البروج " [يزعمون] أنها قصور في السماء، ويقال: هي الكواكب ".
قال مجاهد: " البروج: النجوم ". وهو قول قتادة. وقيل: المعنى: ذات الرمل والماء. واختار الطبري أن يكون المعنى: ذات المنازل الشمس والقمر، على قول مجاهد أن البروج - وهي اثنا عشر برجاً - يسير القمر في كل برج (منها يومين وثلثاً، فذلك ثمان وعشرون منزلة، ثم يستقر ليلتين وثلثاً، وتسير الشمس في كل برج) [شهراً].(12/8171)
وجواب القسم محذوف.
وقيل: الجواب {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} على تقدير حذف اللام، أي: لقتل أصحاب الأخدود.
وقيل: الجواب: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} وهو قول قتادة.
وقيل: الجواب: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين}.
ثم قال تعالى: {واليوم الموعود} يعني يوم القيامة، وعد الله به عباده لفصل القضاء بينهم روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ وأبو هريرة وقتادة وغيرهم.
ثم قال تعالى ذكره: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال أبو هريرة: " الشاهد يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة ". وقاله الحسن، وروي (ذلك) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ(12/8172)
وابن عباس، وقاله قتادة وابن المسيب وابن زيد.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والمشهود ": يوم القيامة، لقوله تعالى: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] أي: يشهده الأولون والآخرون لفصل القضاء بينهم. وهو قول عكرمة، وقاله الحسن بن علي أيضاً.
وقال مجاهد: " الشاهد الإنسان، والمشهود: يوم القيامة ". فالإنسان لا بد أن يشهد يوم القيامة، ويوم القيامة مشهود لبني آدم، فتكون الشهادة على هذا القول [بمعنى] الحضور. وقد روي مثل ذلك عن الضحاك. وعن عكرمة أيضاً و (عن) ابن عباس أن الشاهد: الله جل ذكره، لقوله تعالى: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] والمشهود يوم القيامة لقوله تعالى: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103].(12/8173)
وقال إبراهيم: الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة. وعن ابن عباس أيضاً. رواه عنه مجاهد " أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة ".
وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال): " أكثر علي [الصلاة] يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة " وقيل: الشاهد: محمد، والمشهود: الذين يشهد عليهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود * النار ذَاتِ الوقود} أي: لعن أهلك أصحاب الأخدود، أخبرنا الله جل ذكره أنه أهلكهم ولعنهم.(12/8174)
ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أنهم كانوا أهل كتاب، وكانت الخمر أُحِلَّتْ لهم، فشربها ملك من ملوكهم حتى [ثَمِلَ]، فتناول أخته، [زاد عبد بن حميد: أو ابنته، وذكر القصة، وفيها: فإذا ذهب هذا في الناس بأسره خطبتهم فحرمته عليهم]، فوقع عليها، فلما زال عنه السكر ندم، فقال: لأخته: ويحك، ما المخرج مما ابتليت به؟ فقال: اخطب الناس فقل: يا أيها الناس، [إن الله] قد أحل نكاح الأخوات.
ففعل، [فتبرأ] الناس منه ومن قوله، وقالوا: ما جاءنا به نبي ولا وجدناه في كتاب!
فرجع إلى أخته نادماً فقال لها: ويحك! إن الناس قد أبو علي أن يقروا بذلك، فقالت [ابسط] عليه السياط، ففعل، فأبوا أن [يقروا] له، فرجع إليها فقالت: (اخطبهم، فإن أبو فجرد فيهم السيف، ففعل فأبوا)، فرجع إليها فقالت:(12/8175)
خُدَّ لهم الأخدود، ثم اعرض عليها أهل مملكتك، فمن أقر وإلا فقذفه في لنار. ففعل، فمن لم يُقِرُّوا [له] بتحليل الأخوات قذفه في النار، فلم يزالوا من ذلك الوقت يستحلون الأخوات والبنات والأمهات.
/وبقايا [أصحاب] الأخدود الآن مجوس يعبدون النار. ولذلك قال بعض العلماء فيه [أن يسن فيهم] سنة أهل الكتاب.
وقوله: {النار} خفض على البدل من الأخدود، وهو بدل الاشتمال.
وقيل: هو خفض على الجوار، وذلك بعيد.
وفيه تقديران إذا جعلته بدلاً.
أحدهما: أن التقدير: النار ذات الوقود نارها. والآخر: النار التي فيها.(12/8176)
والأخدود: حفير [مستطيل] كالخندق. يروى أنه كان بموضع يقال له [نجران]، أحرق فيه قوم مؤمنون، أحرقهم مالك من ملوك حمير مشرك، وكان ذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة.
وروى قتادة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ قال: هم ناس كانوا بمدارع اليمن اقتتل مؤمنوها وكافروها، فظهر مؤمنوها على [كافريها]، ثم اقتتلوا الثانية فظهر كافروها على مؤمنيها، ثم أخذ بعضهم على بعض عهوداً ومواثيق ألا يغدر بعضهم (بعضا)، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أَخْذاً، ثم إن رجلاً من المؤمنين قال لهم: هل لكم إلى خير؟ توقدون [ناراً]، (ثم) تعرضوننا عليها، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون، ومن لا، اقتحم النار [فاسترحتم] منه.(12/8177)
قال: [فأججوا] ناراً، وعرضوا عليها، فجعلوا يقتحمونها ضناً بدينهم حتى بقيت عجوز منهم كأنها تلكأت، فقال لها طفل في حجرها: يا أمه، امضي ولا تنافقي، فقص الله جل ذكره نبأهم وخبرهم.
وقال ابن عباس: هم ناس من بني إسرائيل، خدُّوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء ثم عرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال واصحابه وكذلك قال الضحاك، إلا أنه قال: فقالوا للرجال والنساء: تكفرون أو نقذفكم في النار (قال).
[ويزعمون] أنه دانيال وأصحابه.(12/8178)
وروى صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنه كان في من كان قبلكم ملكٌ، وكان له ساحرٌ، فأتى الساحل الملك فقال: قد كبرت سنّي ودنا أجلي، فادفع إلي غلاماً أعلمه السحر. فدفع إليه غلاماً يعلمه السحر، فكان الغلام يختلف إلى الساحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب.
قال: فكان الغلام إذا مر بالراهب قعد إليه فيسمع كلامه، فأعجب بكلامه، فكان إذا أتى الساحر ضربه الساحر وقال: ما حبسك؟.
وإذا أتى الغلام (إلى) أهله قعد عن الراهب يسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له الراهب: إذا قال لك الساحر ما حبسك؟ فقل: حبسني أهلي، وإذا قال لك أهلك: ما حبسك؟ فقل: حبسني الساحر.
فينما هو كذلك، إذ مر في طريق، وإذا دابة عظيمة في الطريق وقد حبست الناس لا تدعهم يجوزون، فقال الغلام: الآن أعلم، أمر الساحر أرضى عند الله أم أمر الراهب؟ قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر(12/8179)
الساحر فإني أرمي بهذا الحجر هذا ويمر الناس. قال: فرماها، فقلتها وجاز الناس فبلغ ذلك الراهب، وأتاه الغلام، فقال الراهب للغلام: إنك خير مني، وإن ابتليت فلا تدلن علي.
[قال]: وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء. (قال: وكان للملك جليس فعمي، قال: فقيل له: إن هاهنا غلاما يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الآذاء) فلو أتيته؟ قال: فاتخذ له هدايا، ثم أتاه فقال: يا غلام، إن أبرأتني فهذه الهدايا كلها ذلك.
فقال: ما أنا أشفيك، ولكن الله يشفي، فإن آمنت دعوت الله أن يشفيك، قال: فآمن الأعمى، فدعا الغلام الله - جل ذكره - فشفاه، فقعد إلى الملك [كما كان يقعد]، فقال له الملك: أليس كنت أعمى؟! فقال نعم، قال: فمن شفاك؟ مقال: ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال نعم، ربي وربك الله. قال: فأخذه بالعذاب. وقال: [لتدلني] على من علمك هذا.
قال: [فدل] على الغلام، قال: فدعا الغلام فقال: /ارجع عن دينك. فأبى الغلام، قال: فأخذه بالعذاب، قال: فدل على الراهب، فأخذ الراهب بالعذاب، وقال(12/8180)
له/ ارجع عن دينك. فأبى، قال: فوضع المنشار على هامته حتى بلغ (إلى الأرض، ثم قال للغلام: لترجعن أو لأقتلنك. فقال اذهبوا به حتى تبلغوه ذورة الجبل، فإن رجع عن دينه وإلا [دهدهوه]. فلبما بلغ ذورة الجبل قال الغلام: اللهم اكفينهم. فرجف بهم الجبل فوقعوا فماتوا كلهم. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: أين أصحابك؟! قال: كفانيهم الله جل ثناؤه. فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه. قال: فذهبوا، فلما توسطوا البحر قال الغلام: اللهم فاكفينهم. فانقلبت بهم السفينة فغرقوا، وجاء الغلام [يتلمس] حتى دخل على الملك، فقال الملك: أين أصحابك؟ قال: دعوت الله فكفانيهم. قال: لأقتلنك. قال: ما أنت بقاتلي حتى تصنع ما آمرك. قال: وما أصنع. قال: اجمع الناس في صعيد واحد ثم أصلُبْنِي، ثم خذ سهماً من كنانتي فارمني وقل: باسم رب الغلام، فإنك ستقتلني.
قال: فجمع الملك الناس في صعيد واحد، قال: وصلب الغلام وأخذ سهماً من كنانته فوضعه في كبد القوس ثم رمى به، وقال: باسم رب الغلام. [قال]: فوقع السهم في صدغ الغلام، فوضع الغلام يده على صدغه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: ما صنعت؟! الذي كنت تحذر قد وقع، قد آمن الناس(12/8181)
برب الغلام، فأمر الملك بأفواه الطرق والسكك فأخذت، وخد الأخدود وضرب فيه النيران وأخذهم وقال: [ارجعوا وإلا ألقيتكم] في النار. فكانوا يلقونهم في النار. قال: فجاءت امرأة معها صبي لها. قال: فلما ذهبت تقتحم وجدت حر النار فنكصت.
اقل: فقال لها صبيها: يا أمه، أمضِ، فإنك على الحق. فاقتحمت في النار ".
وقال الربيع بن أنس: كان أصحاب الأخدود قوماً مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، وإن جباراً من عبدة الأوثان أرسل إليهم يعرض عليهم الدخول في دينه أو يلقيهم في النار، فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم، فألقوا في النار، فنجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار من الحريق بأن قبض (الله) أرواحهم قبل أن تمسهم النار. قال: وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم، فذلك قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} أي: لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا، وهي (النار) التي خرجت إليهم من الأخدود فأحرتقهم.
وقوله: {ذَاتِ الوقود}.
أي: ذات الحطب الجزل، فإن [ضممت] الواو فمعناه ذات التوقد. والأخدود " الحفرة تحفر في الأرض.
وقوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}.
أي: [إذا الكفار] على النار قعود لحرق المؤمنين، يعني: على حافة الأخدود الذي فيه النار.
وقال قتادة: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}.
يعني بذلك المؤمنين.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ}.
يعني: الكفار. حضور يعرضون المؤمنين على الكفر فمن رجع إليه، وإلا(12/8182)
القوه في النار.
ثم قال تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد}.
أي: وما فعل هؤلاء الكفار بالمؤمنين ما فعلوا من حرقهم إياهم بالنار إلا من أجل أنهم آمنوا بالله الشديد في انتقامه من أعدائه، المحمود عند عباده بإحسانه إليهم.
{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
أي: سلطان ذلك كله.
{والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
أي: والله شهيد على ما فعل هؤلاء الكفار بالمؤمنين وعلى غير ذلك من أفعالهم وأفعال جميع الخلق، فمجازيهم على ما عملوا.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ}.
أي: حرقوهم بالنار وعذبوهم ثم لم يتوبوا من كفرهم وفعلهم، فلهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق(12/8183)
في الدنيا.
هذا قول الربيع بن أنس.(12/8184)
قال محمد بن إسحاق: احترقوا في الدنيا.
وكذلك قال أبو العالية.
{فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} يعني: في الآخرة، واحترقوا في الدنيا بعذاب الحريق.
ثم قال تعالى:
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير}.
أي: إن الذين أقروا بتوحيد الله وعملوا الأعمال الصالحات وهم الذين حرقهم أصحاب الأخدود وغيرهم من سائر أهل التوحيد لهم بساتين في الآخرة تجري من تحت أشجارها الأنهار من الماء/ والخمر، واللبن والعسل.(12/8185)
{ذَلِكَ الفوز الكبير} [أي]: ذلك الذي أعطي هؤلاء هو الظفر الكبير بما طلبوا بإيمانهم بالله في الدنيا وطاعتهم له.
ثم قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}.
أي: إن أخذ ربك يا محمد من أخذ من أعدائه وانتقامه منهم لتشديد. وهو تحذير من الله لعباده أن يحل بهم من نقمة على كفرهم وتعذبهم مثل الذي حل بأصحاب الأخدود.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ}.
أي: هو ابتدأ الخلق أول مرة، وهو يعيدهم بعد مماتهم للبث والجزاء. وهذا معنى قول الضحاك وابن زيد. وقال ابن عباس: معناه: إنه هو يبدئ العذاب ثم يعيده. (وهو اختيار الطبري)، أي: يبدئ العذاب لأهل الكفر في الدنيا، (وهو عذاب الحريق - ثم يعيده) عليهم في الآخرة - وهو عذاب جهنم.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ الغفور الودود}.
أي: وهو الغفور لمن تاب من كفره وذنوبه. {الودود} أي: ذو المحبة.(12/8186)
وعن ابن عباس أنه قال: {الودود}: " الحبيب ".
وقال ابن زيد: {الودود}: " الرحيم ".
ثم قال تعالى: {ذُو العرش المجيد}. وقال ابن عباس: {المجيد}: " الكريم ".
ثم قال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}.
أي: يفعل ما يشاء، فيوقف من شاء للتوبة فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بأن [يحول] بينه وبين التوفيق فيموت على كفره.
ثم قال تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}.
أي: هل جاءك يا محمد حديث الجنود الذين تجندوا على الله ورسوله بأذاهم ومكروهِهم؟ أي: قد أتاك ذلك وعلمته. فاصبر لأذى قومك كما صبر من كان قبلك من الرسل الذي تجند قومهم عليهم.
ثم بين الجنود من هم فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي: قوم فرعون وتباعه، وثمود.(12/8187)
ثم قال تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ}.
أي: بل الذين كفروا من قومك في تكذيب بوعيد الله ووحيه {والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} أي: محيط باعمالهم محصيا عليهم حتى يجازيهم عليها.
ثم قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}.
أي: بل ما يقول هؤلاء إنه شعر وسحر [وكهانة]، قرآن مجيد محفوظ من أن يغير، في لوح.
قال ابن جبير: مجيد " كريم " وقاله قتادة.
قال مجاهد: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قال: " في أم الكتاب ".
ومن رفع {مَّحْفُوظٍ}، جعله نعتاً للقرآن، بمعنى أنه محفوظ أن يغيره أحد بزيادة أو نقص. ودل على ذلك قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ومن خفض، جعله نعتاً(12/8188)
للوح، أي: القرآن في لوح عند الله محفوظ، وهو اللوح المحفوظ.
كما قال تعالى مجاهد: هو أم الكتاب.
وقال قتادة: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} " عند الله ".
وقال أنس بن مالك: " إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله في جبهة إسرافيل ".
وقرأ محمد اليماني: بل هو قرآن مجيد، بالإضافة على معنى: بل هو قرآ، رب مجيد.
قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ من درة بيضاء، دفتاه [ياقوتة](12/8189)
حمراء قلمه نور، وكتابه نور، ينظر إليه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يُحيي في كل نظرة ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، لا إلا اله إلا هو.(12/8190)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والسماء والطارق
مكية
قوله تعالى: {والسمآء والطارق} إلى آخرها.
هذا (قسم) أقسم ربنا تعالى بما شاء، وتقديره: ورب السماء والطارق. ثم بين الطارق فقال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق * النجم الثاقب} أي: النجم المضيء، يقال: طرقنا فلان: إذا أتى بليل.
قال ابن عباس: معناه: " والسماء وما يطرق فيها ".
قال قتادة: " يطرق بالليل ويخفى بالنهار ".(12/8191)
قال ابن زيد: العرب تسمي الثريا النجم.
وحكى الفراء: ثقب [النجم] إذا ارتفع. وقال: هو زحل. ويقال: ثقب الطائر إذا ارتفع وعلا.
قال مجاهد: {الثاقب}: الذي يتوهج.
ثم قال تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}.
من خفف [لما]، فتقديره: إن كل نفس لعليها حافظ، " فما " زائدة مؤكدة، " وإن " مخففة من [الثقيلة]. ومن شدد [لما] جعلها بمعنى " إلا " لغة في هذيل، و {إِن} بمعنى " ما ".
والمعنى: ما كل نفس نفس إلا عليها حافظ من ربها يحفظ عملها [و] يحصي(12/8192)
عليها ما تكسب من خير وشر.
قال ابن عبس: معناه: كل نفس عليها حفيظ من الملائكة.
وقال قتادة: " حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن آدم قُبضت إلى ربك.
وقال الفراء: كل نفس عليها حافظ يحفظها من الآفات حتى يسلمها إلى المقدور.
ثم قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ/ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ}.
أي: فلينظر الإنسان المكذب بالبعث بعد الموت، المنكر قدرة الله على ذلك من أي شيء خلق.
{خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق. فيعلم أن من خلقه من ماء فصوره وسواه [بشراً]، (وهو) قادر أن يعيده بشراً بعد موته، وذل أهون وأيسر فيما تعقلون بينكم. قال الكسائي والفراء: أهل الحجاز أفعل الناس لهذا: يأتون بفاعل بمعنى مفعول إذا كان نعتاً، يقولون: سر كاتم وماء دافق، أي: مكتوم ومدفوق. وهذا(12/8193)
عند البصريين لا يقاس عليه، وإنما يأتي في مالا يكشل. ولا يجوز رجل [ضارب] بمعنى مضروب، لأن فيه بطلان الكلام كله وفساد المعاني.
وقوله: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب}.
أي: يخرج الإنسان من بين صلب الرجل وترائب المرأة. وواحد الترائب: تريبة. ومعنى الكلام: [منهما].
وقرأ عيسى بن عمر: " (بين) الصلب " بضمتين.
وقال إبراهيم بن عرفة: الترائب في اللغة: ضلوع الصدر، واحدها تريبة.
قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة.
وسئل عكرمة عن الترائب فقال: " هذا ووضع يده على صدره بين ثدييه " وعن ابن عباس: أنها " بين ثديي المرأة ".(12/8194)
وقال ابن جبير: {والترآئب} [الصدر]. وقاله ابن زيد.
وقال مجاهد: {والترآئب}: " ما بين المنكبين والصدر ".
وعنه أيضاً: أن الترائب " أسفل من التراقي ".
وقال سفيان: الصلب: صلب الرجل، والترائب: ترائب المرأة فوق الثديين. فالضمير في {يَخْرُجُ} على هذا الأقوال للإنسان.
وعن قتادة أنه " يخرج من بين صلب الرجل ونحره ".
وعن ابن عباس أن الترائب أطراف الرجل: اليدان والرجلان والعينان. وقاله الضحاك.
وعن ابن جبير أيضاً أن الترائب أضلاع الرجل التي أسفل الصلب.
وقيل: الترائب عصارة القلب، ومنه يكون الولد.(12/8195)
فالضمير في {يَخْرُجُ} على هذه الأقوال الثانية يعود على الماء.
والمعروف في كلام العرب أن الترائب موضع القلادة من المرأة حيث تقع عليه من صدرها.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تبلى السرآئر} أي: إن الله [على] رده هذا الإنسان المنكر للبعث (بعد الموت) بعد موته لقادر في يوم تختبر السرائر.
فالهاء في {رَجْعِهِ} للإنسان. هذا قول قتادة، وهو اختيار الطبري: لأن بعده: {يَوْمَ تبلى السرآئر} أي: على رده حياً في هذا اليوم الذي تختبر فيه سرائر الخلق فيكشف المستور منها.
وهذا التأويل فيه بُعْدٌ في العربية، لأن العامل على هذا التقدير في {يَوْمَ} {رَجْعِهِ} فهو داخل في صلته.
وقد فرق بين الصلة والموصول بخبر (إن)، وهو {لَقَادِرٌ}. وذلك لا(12/8196)
يحسن. ولكن يكون المعنى على ما قال قتادة، ويكون العامل في {يَوْمَ تبلى} {نَاصِرٍ} أي: فما للإنسان من قورة يرد عن نفسه بها ولا ناصر ينصره في يوم تبلى السرائر.
وقال الضحاك: المعنى (أن الله) على رد الإنسان ماء كما خلقه من ماء لقادر فالهاء في {رَجْعِهِ} أيضاً للإنسان.
وقال مجاهد وعكرمة: المعنى أن الله على رد الماء في الإحليل لقادر.
فالهاء في {رَجْعِهِ} للماء، وهو معنى قول ابن زيد.
وعن الضحاك أيضاً أن معناه أن الله على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، ومن الصبا إلى النطفة، لقادر. فالهاء في {رَجْعِهِ} للإنسان.
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ائتمن الله خلقه على أربع: على الصلاة والزكاة والصيام والغسل من الجنابة، وهي السرائر التي يختبرها الله يوم القيامة ".(12/8197)
قال عطاء في قوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} قال: ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة. يقول في الدنيا إذا شاء: قد صمت، ولم يصم، وقد صليت، ولم يصل، وقد اغتسلت ولم يغتسل.
وقال قتادة: " إن هذه السرائر مختبرة، فأسروا خيراً وأعلنوه [إن استطعتم]، ولا قولاة إلا بالله ".
وقوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}.
أي: فما للإنسان الكافر بيوم تبلى السرائر من قوة يمتنع بها من عذاب الله، ولا ناصر ينصره (فيستنقذه من العذاب، وقد كان في الدنيا يرجع إلى قوة من عشيرة يمتنع بها ممن أراده بسوء، وناصر ينصره) مما ظلمه، هذا معنى قول قتادة ومعمر.
ثم قال تعالى: {والسمآء ذَاتِ الرجع}.
أي: ورب السماء ذات المطر، أي: ترجع بالغيوث وأرزاق العباد كل عام،(12/8198)
ورب الأرض ذات الصدع، أي: ذات الصدع بالنبات.
قال ابن عباس: {ذَاتِ الرجع}: " السحاب في المطر ".
وقال الحسن: " ترجع بأرزاق الناس كل عام ". وقاله قتادة.
وقال مجاهد: {ذَاتِ الرجع}: " السحاب يمطر ثم يرجع بالمطر ".
وقال ابن زيد: {ذَاتِ الرجع}: شمسها وقمرها ونجومها، يأتين من هاهنا. والرجع: تجمع على " رجعان " سماعاً على غير قياس، وقياسه [أرجع] (ورجوع).
قال ابن عباس: {ذَاتِ الصدع} أي: " ذات النبات ".
وقال قتادة: تنصدع عن النبات.
وقال ابن زيد: {ذَاتِ الصدع} أي: ذات الانشقاق للنبات.(12/8199)
ثم قرأ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 26] الآية. وقال أيضاً: صدعها: الحرق.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}.
هذا جواب القسم، أي: إن هذا القول أو الخبر الذي تقدم ذكره لقول ذو فصل، أي: يفصل بين الحق والباطل ببيانه.
وقيل: الجواب: {إِن كُلُّ نَفْسٍ}، لأن " إن " بمعنى " ماء "، وهو حسن، وهو أقرب من غيره إلى القسم، فهو أليق به.
وقيل: الجواب: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ}.
وقال ابن عباس: {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي: " لقول حق ".
وقال قتادة: {فَصْلٌ}: حكم.(12/8200)
ثم قال تعالى: {وَمَا هوَ بالهزل}.
أي: وما هو بالعبث ولا الباطل ولا اللعب.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}.
أي: إن هؤلاء المكذبين بالله ورسوله ووعده ووعيده يمكرون مكراً، وأمكر مكراً، أي: أجازيهم على مكرهم. فسمى الجزاء مكرا لأنه جزاء المكر، فسمي باسم ما هو مجازاة عنه وإن لم يكن مثله، كما قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، فسمي جاء السيئة سيئة إذ هي جزاء لها وإن لم يكن الجزاء سيئة، ومكره - تعالى ذكره - بهم: إملاؤه لهم واستدراجه إياهم. والمعنى: أنهم يكيدون النبي وأصحابه كيدا، وأجازيهم على كيدهم جزاء.
ثم قال تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}.
أي: فلا تعجل يا محمد على الكافرين بالعقاب، أمهلهم قليلا حتى يأتي وقت حلول النقمة بهم. قال ابن عباس: الرويد: القريب.
وقال قتادة: " الرويد: القليل ".
قال ابن زيد: معناه: أمهلهم ولا تعجل عليهم، تركهم حتى إذا أراد الانتصار منهم أمره بحربهم وقتالهم والغلظة عليهم فأهلكهم ببدر بالسيف.(12/8201)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى
مكية
قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} إلى آخرها.
أي: عظيم يا محمد اسم ربك. وقيل: معناه عظم ربك الأعلى. وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال: سبحان ربي الأعلى. وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك روى السدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وقيل معناه: نزه يا محمد اسم ربك أن تسمي به شيئا سواه كما فعل المشركون من تسميتهم آلهتهم باللات والعزى، جعلوا العزى مشتقة من العزيز واللات من الله.(12/8203)
وقيل: معناه: نزهه عما يقول فيه المشركون كما قال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وقيل: معناه: نزه - يا محمد - تسميتك ربك الأعلى، وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاضع متذلل. قالوا: فالاسم هنا موضوع في موضع التسمية، فوضع الاسم مكان المصدر.
وقيل: معناه: [صل] بذكر الأعلى، أي: صل [وأنت له ذاكر].
وقيل: معناه صل يا محمد لربك.
وقيل: معناه: عظم اسم ربك ونزّهه على أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون.(12/8204)
وهذا مما يدل على أن الاسم هو المسمى، لأن معناه: سبح الله. وليس يجوز " سبحان " اسم الله، ولا سبحان اسم الرب، فدل على أن معنى {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} سبح ربك.
وقوله: {الأعلى}.
أي: القاهر لك شيء، العالي عليهز
قال عقبة بن عامر: " لما نزلت: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في سجودكم ". ولما نزلت: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الحاقة: 52] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إجعلوها في ركوعكم ".
قال الفراء: " سبح اسم ربك " وسبح باسم ربك "، كل صواب. كأنه جعله مما يتعدى بحرف وبغير حرف، ككتلك وكلت لك. ولا يحسن أن تقدره مما يتعدى بحرف ثم حذفه، إذ لا يجوز: مررت زيداً (على مررت بزيد) إلا في شعر شاذ. وهذا مما يتسدل به على أن الاسم هو المسمى، لأنه تعالى لم يأمر نبيه أن يعبد (ويسبح) ويصلي لغيره.(12/8205)
فمعنى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ}: [سبح ربك]، فالاسم هو المسمى، ولو كان غيره لكانت العبادة لغير الرب [سبحانه]، والتسبيح لغيره -[جلت عظمته]- وليس يريد بالاسم هاهنا التسمية، لأنه لا اختلاف [في] أن التسمية غير/ المسمى، وهذا باب يحتاج إلى بيان وشرح.
ثم قال تعالى: {الذي خَلَقَ فسوى}.
أي: خلق الأشياء كلها، فسوّى خلقها وعدلها. والتسوية التعديل.
ثم قال: {والذي قَدَّرَ فهدى}.
أي: قدر خلقه فهدى الإنسان لسبيل الخير والشر، وهدى البهائم للمراعي.
قال مجاهد: " هدى الإنسان للشقوة والسعادة، وهدى الأنعام [لمراتعها].
وقيل: معناه: هدى الذكر لإتيان الأنثى.(12/8206)
وقيل: معناه: فهدى وأضل، ثم حذف لدلالة الكلام عليه، ومن شدد {قَدَّرَ}، جعله من التقدير، فمعناه: قدر خلقه كل مخلوق، [وهداه] إلى مصلحته. ودليله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]. فأما من خففه، فإنه جعله من القدرة والملك، (فمعناه): الذي أحاطت قدرته [بكل] شيء فهدى وأضل.
ويجوز أن يكون من التقدير مثل الأول، كما قال: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26].
ثم قال: {والذي أَخْرَجَ المرعى}.
أي: الذبات.
{فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى}.
أي: فجعله يبساً أسود بعد أن كان ناعماً أخضر. " فأحوى " بمعنى: (أسود)، وهو نعت للغثاء.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. " وأحوى " بمعنى: أخضر. والتقدير: أخرج(12/8207)
المرعى أحوى، أي: أخضر، فجعله غثاء، أي: يبساً. فيكون " أحوى " [بمعنى: أخضر، (وهو [حال] من المرعى. وفي هذا تكلف لغير ضرورة تدعو إليه).
قال ابن عباس: {غُثَآءً أحوى}، أي: " هشيماً متغيراً ".
وقيل: معناه: غثاءً، أي: يبساً تنسفه الرياح فيجري به السيل [فصار] غثاء للسيول بعد حضرته وغضارته، هذا معنى قول مجاهد وابن زيد.
وقال (أبو) عبيدة: {غُثَآءً أحوى}، أي: [هيجه] حتى يبس فجعله(12/8208)
أسود من احتراقه {غُثَآءً} أي: هشيماً.
ثم قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى}.
أي: سنقرئك - يا محمد - القرآن [فلست] تنساه إلا ما شاء الله أن تنساه.
قال مجاهد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأعلمه الله أنه ليس ينسى.
وقوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} هو ما أراد الله نسخه فينسيه نبيه فيرفع حكمه وتلاوته، وذلك ما أنزله تعالى على نبيه للصلاح في وقت، وتقدم في علمه [أنه] سينسيه إياه في وقت [آخر].
وقيل: معنى الآية: سنقرئك - يا محمد - فلا تترك العمل بشيء منه إلا ما شاء الله أن تترك العمل به (مما) ننسخه [فنأمرك] بتركه فتتركه. " ولا " في(12/8209)
القولين جميعاً [نفي] وليست للنهي.
وقال الفراء: فلست تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، ولا يشاء أن ينسى منه شيئاً. ومثله عنده: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107]، وليس يشاء غير الخلود لهم.
وقيل: معنى الآية: إلا ما شاء الله مما يلحق الآدميين.
وقيل: إلا ما شاء الله أن يرفع حكمه ولا يرفع تلاوته. وقيل: المعنى: فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله أن يناله بنو آدم والبهائم، وينتفعوا فإنه لا يصير غثاء أحوى.
ثم قال: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى}.
أي: إنه يعلم ما أظهرته من عملك وما أخفيته، أي: يعلم السر والعلانية. وهذا خطاب للنبي، وأمته داخلة في ما خوطب به.
ثم قال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى}.(12/8210)
أي: وسنسهلك (يا محمد) لعمل الخير، وهو اليسرى، والمعنى للحال اليسرى، وهو فعلى، من [اليسر].
ثم قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى}.
أي: ذكر إن نفعت ذكراك وإن لم تنفع، حذف لدلالة الكلام عليه، مثل: {قَدَّرَ فهدى} ومثله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم} [النحل: 81].
وقيل: المعنى أن الذكرى تنفع بكل حال. والتقدير: فذكر إن كنت تفعل ما أمرت به.
وقال الطبري: معناه: فذكر عباد الله - يا محمد - عظمته وعظهم، وحذرهم عقوبته، إن الذكرى لا تنفع الذين [آيستك] من إيمانهم.
ثم قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى}.
أي: سيذكر يا محمد من يخشى الله ويخاف عقابه.(12/8211)
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى}؟
أي: ويتجنب الذكرى (الأشقى) يعني أشقى الفريقين من المؤمين والمشركين ثم نعته، فقال:
{الذى يَصْلَى النار الكبرى}.
وهم الذين لم تنفعهم الذكرى وتجنبوها.
قال قتادة: قوله {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى}: إنه والله ما خشي عبد قط الله إلا ذكره. ولا والله لا يسكت عبد عند الذكرى زهداً فيها وبغضاً لأهلها إلا شقيّ بين الشقاء. والنار الكبرى: نار جهنم، هي كبرى عند نار الدنيا من شدة حرها وألمها.
وقال الفراء: النار الكبرى: " السفلى من أطباق النار ".
وقوله: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}.
روي أن نفس أحدهم تصير في حلقه فلا تخرج فتفارقه [فيموت] ولا/ ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.(12/8212)
وقيل: معناه: لا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه. وقيل: أريد به شدة الأمر. والعرب تقول [للرجل] يقع في شدة شديدة أو علة مثقلة: لا هو حي، ولا هو ميت. فخوطبوا على مجرى به كلامهم.
ثم قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى}.
أي: قد أدرك طلبته وظفر ببغيته من تظهر الكفر وعمل بطاعة الله.
قال ابن عباس: من تزكى - يعني - من الشرك. وعنه أنه جعله في زكاة الفطر.
وقال: أخرجوا زكاة الفطر قبل صلاة العيد.
وقال عكرمة: {مَن تزكى}: من قال: لا إله إلا الله.
قال عطاء: {مَن تزكى} من آمن.
وقال قتادة: من تزكى بالعمل الصالح والورع.(12/8213)
وقال ابن جريج: من تزكى بماله وعمله.
وقال عبد الله: إذا خرجت إلى الصلاة فتصدق بشيء إن استطعت، فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى}. والتزكي - في اللغة -: التطهر.
قال عمر بن عبد العزيز وابن المسيب وأبو العالية: هي زكاة الفطر، (ثم نسخها زكاة الأموال).
وقيل: هي سنة، وزكاة المال فرض. وعلى هذا أكثر العلماء.
قال ابن عباس: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} أي: " ووحد الله سبحانه ".(12/8214)
وقيل: معناه: ودعا إليه وصلى الصلوات الخمس.
وقيل: عني به صلاة العيد. وقيل: الصلاة هنا الدعاء.
(وقيل: معناه: وذكر اسم ربه في صلاته بالتحميد والتمجيد).
ثم قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا}.
أي: تؤثرون زينتها على الآخرة، والآخرة خير لكم وآدوم نعميا.
ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى}.
أي: إن هذه الآيات في {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} لقي صحف إبراهيم وموسى.
وقيل: معناه: إن قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} الآية، لفي {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى}.(12/8215)
وقيل: معناه إن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى لفي صحف إبراهيم وموسى.
واختار الطبري أن يكون معناه أن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} إلى قوله {وأبقى} لفي صحف إبراهيم وموسى، فتكون الإشارة إلى ما قرب من هذا.(12/8216)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
مكية
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} إلى آخرها.
أي: قد أتاك - يا محمد - حديث الغاشية، وهي القيامة تغشى الناس بقيامها وأهوالها.
وقال ابن جبير: الغاشية جهنم.
ثم قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}.
أي: ذليلة، وهي وجوه الكفار. قال قتادة: " خاشعة في النار ".
ثم قال: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ}.
أي: هي عاملة ناصبة بمعنى: تعمل وتنصب في الدنيا، وهي تصلى ناراً حامية في الآخرة.(12/8217)
وهذا قول يُروى عن عمر رضي الله عنهـ. ولا يتم الكلام [على] [ناصبة] أو (على) {خَاشِعَةٌ} ويجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير على هذا القول، والتقدير: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا يومئذ خاشعة.
وقيل: الآية نزلت في عبدة الأوثان والرهبان من أهل الكتاب، أنصبوا أنفسهم وأتعبوها بالعمل ولم يتقبل منهم، لأنهم على غير إسلام.
وقال عكرمة: (معناه): عاملة في الدنيا بمعاصي الله، ناصبة في الآخرة في النار. فيتم الكلام على هذا القول على " عاملة ".
وقال الحسن وقتادة: إن الوجوه في القيامة خاشعة عاملة ناصبة، وأنها (لما)(12/8218)
لم تعمل في الدنيا لله أعملها الله في النار وأنصبها. فلا يتم الكلام من أوله على {نَّاصِبَةٌ} على هذا القول.
قال ابن عباس: " تعمل وتنصب في النار ".
وقال قتادة: " تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار ".
وقال ابن زيد: " لا أحد أنصب ولا أشد من أهل النار ".
وكان عمر رضي الله عنهـ يتأولها في الدنيا في البرهان وشبههم. يعملون في الدنيا، ويجتهدون، وهم في النار. ويكون الكلام يتم على {خَاشِعَةٌ} لأنه آخر صفتهم في يوم القيامة، ثم ابتدأ بصفتهم في الدنيا.
وقيل: التقدير: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا {يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} يعني: في الآخرة.
وفي الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم ذكر القدرية فبكى، وقال: إن فيهم المجتهد ".(12/8219)
وقوله: {تصلى نَاراً حَامِيَةً} أي: ترد ناراً قد حميت واشتد حرها. والإخبار في جميع ذلك عن الوجوه، والمراد به أصحابها، لأن المعنى مفهوم.
ثم قال تعالى: {تصلى نَاراً حَامِيَةً}.
أي: [يسقى] يومئذ أصحاب هذه الوجوه (من عين قد) انتهى حرها فبلغ الغاية في شدة الحر.
وقال مجاهد: من عين قد (أنى/ نضجها) منذ خلق الله عز وجل الدنيا. وقال ابن زيد: {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: حاضرة.
وقال تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ}.
أي: (ليس) لأصحاب هذه (الوجوه) الخاشعة - وهم الكفار - طعام يطعمونه في النار إلا طعام من ضريع.(12/8220)
قال ابن عباس: " الضريع: شجر من نار ".
وقال ابن زيد: الضريع: الشوك من النار، والضريع عند العرب شوك يابس [ولا ورق فيه].
وقال عكرمة: الضريع: الحجارة.
وقال الحسن: الضريع: الزقوم وعنه أيضاً: الضريع: الذي يضرع ويذل من أكله لمرارته وخشونته.
وقال عطاء: الضريع: الشبرق. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وعلى هذا القول كثير من أهل اللغكة، والشبرق: [شجر] كثير الشوك(12/8221)
تعافه الإبل، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس، ويسميه غيرهم الشبرق.
وقيل: الضريع واد في جهنم. وقد أخبر الله في هذه الآية بأن لا طعام لهم إلا طعام من ضريع، فأثبت لهم طعاماً، وقال في موضع آخر {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35 - 36].
فظاهره أنه قد أوجب لهم طعاما من غسلين فهذاك خلاف ذلك في الظاهر. المعنى في ذلك التقدير: فليس له اليوم هاهنا شراب حميم إلا من غسلين ولا طعام يتنفع به.
(وقيل): الغسلين من الضريع.
وقيل: الغسلين لقوم والضريع لآخرين.
ثم وصف الله أهل الجنة ونعيمهم بعد وصفه لأهل النار وعذابهم.
فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ}.
أي: (غضرة) نضرة بنعمها الله، وهم أهل الإيمان بالله والعمل بطاعته.(12/8222)
ثم قال تعالى: {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}.
أي: لعملها الذي عملته في الدنيا من طاعة ربها راضية. وقيل: المعنى: [الثواب] عملها را ضية في الآخرة.
ثم قال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}.
أي: رفيعة القدر عالية المكان.
{لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} أي: لا يسمع أحد في الجنة كلمة لغو، واللغو: الباطل.
وقيل للكلمة التي هي لغة: لاغية، كما قيل لصاحب [الدرع: دارع]، ولصاحب الفرس فارس، " ولابن " " وثامر " لصاحب اللبن والثمر.
وقال الفراء: {لاَغِيَةً}، أي: [حالفاً] يحلف بكذب.
قال ابن عباس: معناه: لا تسمع فيها أذى ولا باطلاً.(12/8223)
وقال مجاهد: " شتماً ". وقال قتادة: باطلاً ولا مأثماً.
ثم قال تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي: تجري من غير أخدود، والعين تذكر وتؤنث [والتأنيث] أكثر، وقد قال الشاعر
والعين بالإثمد [الحاري] مكحول. ... فقال بعض النحويين: هذا على تذكير العين.
وقال المبرد: ذكره كما يذكر كل مؤنث غير حقيقي التأنيث لا علامة للتأنيث فيه، كما يقال: هذا دار وهذه دار.
وقال الأصمعي: مكحول للحاجب هو، لأنه قد تقدم ذكره، ولا يعرف(12/8224)
الأصمعي في العين إلا التأنيث.
ثم قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ}.
أي: عالية ليرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم، ويلحقه بصره. والسرر جمع سرير.
وقيل: مرفوعة: مضمونة. قاله ابن عباس، كقوله: {سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] أي: بعضها فوق بعض.
ثم قال تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ}.
أي: موضوعة على حافة العين الجارية كلما أراد الشرب وجدها ملأى من الشراب. الأكواب جمع: كوب، وهي الأباريق التي لا آذان لها، وقد تقدم ذكرها بالاختلاف فيها.
ثم قال تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}.
النمارق جمع: نمرقة، هي الوسادة والمرفقة. وحكي فيها ضم النون والراء وكسرهما، والضم (أكثر). ومعنى مصفوفة أي: بعضها إلى بعض.(12/8225)
وقد قال ابن عباس: " النمارق: المجالس "، وعنه: " المرافق ".
وقال قتادة: هي " الوسائد ".
ثم قال تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}.
قال أبو عبيدة: الزرابي البسط.
وقيل الزرابي: الطنافس التي لها خمل، و {مَبْثُوثَةٌ} كثيرة.
وقال قتادة: [زرابي] " مبثوثة " أي " مبسوطة ".
قال ابن عمر: (رأيت عمر) رضي الله عنهـ يصلى على عبقري، وهي الزرابي.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ}.(12/8226)
هذا كله توبيخ لمنكري القدرة، أي: أفلا ينظر من ينكر قدرة الله على كل ما يشاء مما وصف مما أعده الله للكافرين وللمؤمنين في هذه الآيات - إلى الإبل كيف خلقها الله وسخرها لهم (وذللها)، وإلى (السماء) كيف رفعها/ الله فوقهم لا خلل فيها ولا شقوق مولا اختلاف، رفعها بغير عمد ترونها، وإلى الجبال كيف نصبها الله على الأرض لئلا تميد بأهلها، [وأقامها] منتصبة لا تسقط على الأرض. وإلى الأرض كيف سطحها الله، أي بسطها فجعلها مستوية وطيئة ليتصرف عليها الخلق ولا يمتنعون من أسفارهم.
وقال قتادة: لما [نعت] الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله جل ذكره: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} إلى {سُطِحَتْ}.
قال: وكانت الإبل من عيش العرب. [فخوطبوا] ونبهوا على قدرته على أعظم ما في نفوسهم، فلذلك بدأ بالإبل، فكأنه قيل: لهم: من قدر على إحداث هذه(12/8227)
الأشياء وغيرها لكم وإحكم أمرها [كيف] لا يقدر على ما وصف من (أمر) الجنة والنار.
وقال ابن عباس: الإبل (ها) هنا هي الإبل بعينها، وليس شيء يحمل عليه وهو بارك إلا الإبل، وفي ذلك آية.
وقال المبرد: وقيل: الإبل: القطع العظام من السحاب.
ثم قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ}.
أي: ذكر - يا محمد - عبادي بآياتي، فإنما أرسلت مذكر لهمه.
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}.
أي: بمسلط ولا بجبار تجبرهم على الإيمان. ومصطيراً: أصله السين، وهو مأخوذ من السطر.(12/8228)
وقيل: الآية منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهو قول ابن زيد.
وقيل: هي محكمة، لأنهم إذا أسلموا تركوا على جملتهم، ولم يسلط عليهم.
قال جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أُمِرتَ أَنْ أقاتِلَ الناسَ حَتّى يَقولوا لا إِلَهَ إلاّ الله فَإذا قوالوا لا إِلَهَ إِلاّ الله عَصَمُوا مِنّي دِماءَهُم وَأَموالَهُم إِلاّ بِحقّها وَحِسابُهُم عَلى الله. ثم تلا {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} ".
قال ابن عباس: {بِمُصَيْطِرٍ} بجبار.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر}.
أي: فذكر يا محمد قومك إلا من يتولى عنك فأعرض عن الإيمان وكفر فيكون هذا استثناء من الذين كان التذكير فيهم، فيكون في موضع نصب.(12/8229)
وقيل: الاستثناء منقطع مما قبله. المعنى: ليست عليهم {بِمُصَيْطِرٍ} إلا من تولى وكفر بعد ذلك، فإنك ستسلط [عليه] إن أسلم أو السيف.
والاستثناء المنقطع [تعتبره] أبداً بأن [تحسن] " إن " معه، فإذا حسنت جاز أن يكون منقطعاً، وإذا لم تحسن كان متصلا صحيحا. يقول القاتل: " سار القوم إلا زيداً "، فلا يحسن دخول " إن " هنا، (لأنه) استثناء صحيح.
ثم قال تعالى: {فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر}.
وهو عذاب جهنم في الآخرة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} أي: رجوعهم في الآخرة.(12/8230)
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي: (علينا) حساب أعمالهم [فنجازيهم] (بها) فالله (هو) المحاسب المعاقب لهم وأنت - يا محمد - مذكر مبلغ عن ربك إليهم.(12/8231)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
مكية
قوله تعالى: {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع}. ألى قوله: {البلاد}.
قال ابن عباس: الفجر " النهار ". وعنه أن الفجر عنى به " صلاة الفجر ".
وقال عكرمة: هو " فجر الصبح ". وقيل: هو صبيحة يوم النحر. وهو قسم(12/8233)
والتقدير فيه: ورب الفجر.
وقوله: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} أكثر المفسرين على أنها [العشر] الأولى من ذي الحجة.
ورو ى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ}: عشر الأضحى.
وإنما جعلها عشر ليال، لأن ليلة يوم النحر دخلت فيها، لأن الله جعل ليلة يوم النحر ليوم عرفة فصار ليوم عرفة ليلتان رفقاً بعباده، فلذلك من لم يدرك الوقوف بعرفة يوم عرفة وقف ليلة يوم النحر وتم حجه، لأن ليلة يوم النحر ليلة (يوم عرفة أيضاً فصارت ليلة يوم النحر داخلة في حكم يوم) عرفة، يجزي فيها ما فات من الوقوف بعرفة يوم عرفة. ولا يجزئ الوقوف بعرفات - ليلة يوم عرفة - عن يوم عرفة، فصارت ليلة يوم النحر أخص بيوم عرفة من ليلة يوم عرفة (بيوم عرفة)،(12/8234)
فاعرفه، فلذلك جعل ليالي العشر عشر ليال وأقسم بها.
وقال مجاهد: ليس عمل في ليالي السنة أفضل منه في ليالي العشر، وهي عشر موسى التي أتمها الله جل وعز له.
وعن إبن عباس أيضاً أنها العشر الأواخر من رمضان. وحكى الطبري أن بعضهم قال: [هي] العشر الأول من المحرم.
ثم قال تعالى: {والشفع والوتر}.
قال ابن عباس: " الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة ". وقال عكرمة.
وقال الضحاك: {وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر}، أقسم الله بهن لما يعلم من(12/8235)
فضلهن على سائر الأيام: فالعشر ذي الحجة، والشفع يوم النحر، والتوتر يوم عرفة.
وقال عبد الله بن الزبير: الشفع: اليومان اللذان بعد يوم النحر، والوتر: (اليوم) الثالث/، وهو يوم النفر الآخر، قال الله {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
وعن ابن عباس أيضاً: أن الشفع الخلق كلهم، والوتر الله، وهو وتر واحد وخلقه شفع. وقيل: الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب.
وهو قول مجاهد ومسروق.(12/8236)
وعن مجاهد [أيضاً] أن الشفع والوتر: الخلق كلهم منهم [شفع] ([و] منهم) وتر. وهو قول الحسن.
وقال ابن زيد: كان أبي يقول: كل شيء خلا الله عز وجل شفع ووتر، فأسم - جل ذكره - بما خلق مما تبصرون وما لا تبصرون.
وقال قتادة عن عمران بن الحصين أنه كان يقول: الشفع والوتر: الصلاة منها شفع كالظهر والعصر، ومنها وتر كالمغرب.
وقال الربيع بين أنس: الشفع والوتر: صلاة المغرب، فالشفع منها(12/8237)
الركعتان الأوليان، والوتر الركعة الثالثة.
وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والشفع والوتر} " هي الصلاة منها شفع، ومنها وتر.
وروى قتادة أن الحسن كان يقول: الشفع والوتر هو العدد [منه] شفع ومنه وتر. [وقيل: الشفع آدم صلى الله عليه وسلم وحواء، والوتر: الله عز وجل، وتر كل شيء]. والفتح والكسر في الوتر لغتان: الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة بني تميم.
وقال الفراء: والكسر لغة قيس وأسد أيضاً. فأما الوتر الذي هو الترة،(12/8238)
ففيه أيضاً لغتان: الفتح والكسر. أهل الحجاز يفتحون، وغيرهم بكسره.
ثم قال تعالى: {واليل إِذَا يَسْرِ} أي: يسري أهله.
وقيل: معناه: والليل إذا سار وذهب. وهي ليلة جمع، ليلة المزدلفة.
قال ابن عباس: إذا يسري: إذا ذهب.
وقال أبو العالية: إذا سار.
وقال ابن زيد: إذا يسير. وقال عكرمة: إذا جمع.(12/8239)
ثم قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} أي: إن في هذا القسم لكفاية لذي عقل. عظم الله تعالى جل ذكره هذه الأزمنة التي أقسم بها، وهي عشر ذي الحجة ويوم عرفة ويوم النحر وليلة المزدلفة. وأعيد ذكر [يوم] عرفة، وقد دخل في العشر لشرفه. وقيل: أعيد لأنه أقسم أولاً بالليالي، وأعيد ذكر اليوم، لأنه لم يدخل في الليالي.
قال ابن عباس: {لِّذِى حِجْرٍ}: لصاحب نُهىً وعقلٍ.
وقال الحسن: " لذي حلم ".
قال قتادة: " لذي عقل ولب " وجواب القسم: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ}.
[وقال مقاتل: " هل " هاهنا في موضع " إن "، وتقدير الكلام: " في ذلك قسماً. ذكره المارودي. فعلى هذا التأويل، تكون " هل " جواب القسم. والله أعلم]. وقيل الجواب: إن ربك لبالمرصاد، وهو الصواب إن شاء الله، لأن " هل " ليست من أجوبة القسم.(12/8240)
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد}. من صرف عاداً جعله للحي أو للأب. وقد قرأ الضحاك بغير صرف، جعله اسماً للقبيلة. وقرأ الحسن: " بعاد إرم " بإضافة " عاد " إلى " إرم "، ولم يصرف {إِرَمَ}، جعل " إرم " اسم مدينة فلم يصرفها. قال محد بن كعب القرظي: إرم: " الإسكندرية ".
قال [المقبري]: إرم: دمشق، رواه عنه ابن وهب.
وقوله: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} [الأحقاف: 21]، يدل على خلاف هذين القولين، لأن الأحقاف جمع: حقف، والحقف ما التوى من الرمل، وليس كذلك(12/8241)
دمشق ولا الإسكندرية، وإنما يجوز هذا التأويل على أن يكون [عاد] [ها هنا] غير عاد أصحاب الأحقاف.
وقال مجاهد: إرم: " أمة ". وعنه أيضاً إرم معناه: " القديمة ".
وقال قتادة: كنا نحدث أن إرم قبيلة من عاد، مملكة عاد. وهذا قول يصح معه ترك صرف " إرم ".
وقال ابن إسحاق: إرم جد عاد، وإرم هو إرم بن عوص بن سام بن نوح. ويلزم على هذا أن يصرف لأنه يذكر.
وعن ابن عباس أن معناه: بعاد الهالك، ويلزم صرفه على هذا، لأنه وصف. وقال بعض أهل النسب: إرم هو سام بن نوح، ويلزم صرفه أيضاً لأنه مذكر.(12/8242)
وقيل: إن {إِرَمَ ذَاتِ العماد} كانت مدينة عظيمة موجودة في ذلك الوقت.
وقوله {ذَاتِ العماد} نعت " لعاد " إن جعلته (اسما) للقبيلة أو لإرم فمعناهك ذات الطول لأن العرب تقول للرجل الطويل: معمد، وكانت قبيلة عاد طوال الأجسام.
[قال] ابن عباس: " كان طولهم مثل العماد ".
[وقال] مجاهد: " كان لهم جسم في السماء ".
وقيل: إنما قيل: {ذَاتِ العماد}، لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون (إلى) الكلا حيث كان ويرجعون إلى منازلهم. هذا معنى قول مجاهد.
وقال ابن زيد: {ذَاتِ العماد}، قيل لهم ذلك البناء بناه بعضهم فشيد عمده.(12/8243)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ورفع بناءه حين كانوا في الأحقاف، وهو قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] الآية.
وقوله: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} أي: مثل تلك الأعماد. وقيل: إنما وصفوا [بذلك] لشدة أبدانهم وقوتهم. والهاء في {مِثْلُهَا} تعود على عاد، لأنها قبيلة أو على إرم لأنها مدينة.
قال قتادة: ذكر/ أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً، وهو قوله: {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً}.
قوله تعالى: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} إلى آخر السورة.
أي: وألم تر - يا محمد - كيف فعل ربك بثمود - وهم قوم صالح - الذين نقبوا الصخر وخرقوه واتخذوه بيوتا؟! وهو قوله: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 82].
والعرب تقول: " جاب فلارن [الفلاة] يجوبها جوْباً " إذا دخلها(12/8244)
وقطعها.
قال ابن عباس: {جَابُواْ الصخر بالواد}، أي: خرقوها، يعني: قوم صالح كانوا ينحتون من الجبال (بيوتا).
قال مجاهد: " جابوا الجبال فجعلوها بيوتاً ".
ثم قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} أي: أو لم تر، يا محمد، فعل ربك بفرعون ذي الأوتاد؟!
قال ابن عبس: الأوتد هنا " الجنود الذين يشدون له أمره ".
وقيل: معناه ذي الجنود الكثيرة الذين يحتاجون [لضرب] الأوتاد في أسفارهم.
وقال مجاهد: وصف بذلك، لأنه كان [يتد أوتاد] الحديد في أيدي الناس(12/8245)
وأرجلهم يقتلهم بها.
وقال قتادة: وصف بذلك، لأنه كانت [له مظال] وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد [وحبال].
وروى ثابت البناني عن أبي رافع أن فرعون " وتد لامرأته (أربعة) أوتاد، ثم جعل على ظهرا رحى عظيمة حتى ماتت ".
وقال ابن جبير: وصف بذلك: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد، قال: [فكان] يجعل رجلاً هاهنا ورجلاً هاهنا، ويداً هاهنا [ويدا] هاهنا بالأوتاد، وقاله مجاهد أيضاً.
وعن ابن جبير أيضاً أنه إنما وصف بذلك، لأنه كان له بنيان يعذب الناس(12/8246)
عليه، قال: كان له منارات يعذب الناس عليها.
وقوله: {الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} أي: تجاوزوا حدود الله عتوا على ربهم في البلاد التي كانوا بها فأكثوا في تلك البلاد الفساد بركوبهم المعاصي.
ثم قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي: فأنزل بهم ربك (يا محمد) عذابه نقمة منه لهم لكفرهم، يعني جميع من تقدم ذكره من الكفرة. والعرب تقول لكل عذاب شديد عذب به المعذب: سوط خزي.
فقوله: {سَوْطَ عَذَابٍ}، واقع على أنواع (من العذاب عذب الله بها هذه الأمم) المذكورة في الدنيا فأهلكهم بها. [وكذا حكى الماوردي: {سَوْطَ عَذَابٍ} اي: خلط عذاب لأنه أنواع].(12/8247)
قال مجاهد: {سَوْطَ عَذَابٍ} " ما عذبوا به ". وهوقول ابن زيد (وغيره).
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} أي: إن ربك يا محمد لهؤلاء الذين قصصت عليك قصصهم ولغيرهم من أمثالهم لبالمرصاد يرصدهم على قناطر جهنم فيكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة. وقيل: معناه: لا يفوته هارب.
وقال ابن عباس: {لبالمرصاد} أي: " يسمع ويروى ". وقال الضحاك: إذا كان يوم [القيامة] يأمر الله عز وجل بكرسيه فيوضع على النر فيستوي عليه ويقول: " وعزتي لا يجاوزني اليوم (ذو) مظلمة ".
فذلك قوله جل ثناؤه: {لبالمرصاد}.
وقال سفيان: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} يعني: جهنم عليها ثلاث [قناطر]:(12/8248)
قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها لأمانة، وقنطرة فيها الرب جل ثناؤه. قال [عمرو] بن قيس: بلغني أن على جهنم ثلاث [قناطر] فقنطرة عليها الأمانة إذا مروا بها تقول: (يا رب)، هذا (أمين، يا رب هذا خائن. وقنطرة عليها الرحم إذا مروا بها تقول: هذا) واصل، هذا قاطع. وقنطرة عليها الرب تعالى ذكره {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد}.
وقال الحسن: {لبالمرصاد} أي: " مرصاد عمل بني آدم ". قال ابن مسعود: والفجر إن ربك لبالمرصاد.
يعني أنه جواب القسم.
ويروى أن على جسر جهنم (سبع) [قناطر] محابس، بين كل قنطرتين(12/8249)
سبعون عاما، وعرض [الجسر] كحد السيف مدحضة مزلقة، في الرقة مثل الشعرة، فيسأل الناس [عند أول] قنطرة من الإيمان، فإن جاء به تاماً جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يسأل عن [الصلوات] الخمس، فإن جاء بها [تامة] جاز إلى (القنطرة) الثالثة، ثم يسأل عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابعة، ثم يسأل عن صيام رمضان فإن جاء به تاما جاز إلى الخامسة، ثم (يسأل) عن الحج، ثم (يسأل) عن صلة الرحم.
قال نافع (و) الرؤاسي: {إِرَمَ} وقف جيد. وهو بعيد لأن {ذَاتِ العماد} نعت لما قبلها أو بدل منه. والوقف عند الأخفش وغيره {أَهَانَنِ}. والاختيار(12/8250)
الوقف على " كلا " وهو قول نصير وأحمد بن موسى/. والمعنى: كلا، [لم أهنه بتقديري] عليه رزقه.
وقال الفراء: معناه: كلا، لم يكن ينبغي للإنسان أن يقول هذا، ولكن يجب عليه أن يحمد الله على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ}.
أي: فأ/االإنسان إذا امتحنه ربه بالنعم والسعة فرح بذلك، وقال: ربي أكرمني بهذه الكرامة.
وأما إذا ما امتحنه فضيق عليه رزقه وقَتَّره عليه غَمَّه [وقال]: ربي أهانني وأذلني بالفقر، فلم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه.
قال قتادة: {فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} " ما أسرع ما كفر ابن آدم ".
وقوله: {كَلاَّ}.
هو إنكار من الله أن يكون سبب كرامته من أكرم [كثرة] المال، وسبب(12/8251)
إهانته من أهان قلة المال.
قال قتادة معناه: لا أكرم من أكرمت بكثرة المال ولا أهين من أهنت بقلته، ولكن إنما أكرم من أكرمت بتوقيته إلى [طاعتي]، وأهين من أهنت بخلاذنه وارتكابه لمعصيتي.
(ودل على ذلك قوله: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} إلى {جَمّاً} أي: فبهذا أهين من أهنت، لأنه مرتكب لمعصيتي) مخذول ممنوع عن طاعتي.
وقيل: معناه: لم يكن الإنسان أن يحمد الله على النعم دون الفقر، ولكن ينبغي له أن يحمده على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر.
والوقف على {أَهَانَنِ} حسن، وتكون " كلا " في الابتداء بمعنى " حقاً "، أو بمعنى " ألا ". وهو قول الأخفش وأحمد بن موسى.(12/8252)
وأجاز أبو حاتم الوقف على (أهنن) وعلى (كلا).
والوقف عند نصير والفراء على " كلا " معناه: ليس يهان أحد بفقر ولا غنى. وقاله قتادة.
وقوله: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} أي: بل إنما أهنت، لأنه لا يكرم اليتيم ولا يحض الناس ولا نفسه على طعام المسكين.
ثم قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} أي: وأهنتكم لأنكم تأكلون الميراث أكلاً شديداً.
{وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي: كثيراً.
قال ابن عباس: {أَكْلاً لَّمّاً}، أي: سفاً، وجماً: شديداً.(12/8253)
وقال الحسن: معنى {لَّمّاً}، أي: يخلطون الحلال بالحرام.
وقال ابن زيد: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً}، أي: تأكلون كل شيء تجدونه من الميراث وغيره، لا تسألون عنه، يأكل الذي له والذي لصاحبه.
[قال]: كانوا [يورثون] النساء ولا [يورثون] الصغار، وقرأ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء}. . إلى قوله {عَلِيماً} [النساء: 127].
فقوله: {والمستضعفين مِنَ الولدان} [النساء: 127]، يعني: يستضعفوهم [فلا يؤتنهم].
قال: وقوله: {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً}
أي: وتحبون جمع المال واقتناءه حبا كثيرا.(12/8254)
والعرب تقول: " جم الماء في الحوض ": إذا اجتمع وكثر.
ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً}.
الوقف على " كلا " حسن، ومعناه: ليس هكذا ينبغي أن يكون الأمر أن تأكلوا الميراث أكلا شديدا، وتحبوا جمع المال حباً كثيراً. ولا تكرمون اليتيم بالصدقة، ولا تحضون على طعام المسكين.
وقيل: المعنى: لا يغني عنكم جمع المال شيئاً.
وقوله تعالى: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً}، أي: رجت ولزلزت مرة بعد مرة.
قال ابن عباس: هو " تحريكها ".(12/8255)
ثم قال تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} أي: والملائكة صفاً بعد صف.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قال: إذا كان يوم القيامة، مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد، جِهنَّم وإنسهم، فإذا كان [ذلك] اليوم قيضت السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، ولأهل هذه السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض، جهنم وإنسهم بضعف، [فإذا مروا] على جه الأرض فزعوا منهم، فيقولون: (أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولههم، فيقولون) سبحان ربنا، ليس فينا وهو آتٍ ثم تقاض السماء الثانية، فأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل سماء الدنيا ومن جمعي أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من كلامهم ويقولون: سبحان الله، ليس فينا، وهو آت ثم(12/8256)
تقاض السماوات سماءً (سماءً)، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت/ أكثر من أهل السماوات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض فيقولون، لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى [تقاض السماء] السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سماوات ومن جميع الأرض بضعف، فيجيء الله عز وجل فيهم وجميع الأمم جثيٌّ [صفوف]، وينادي مناد: ستعملون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال.
قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحا الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام(12/8257)
الصلاة وإتياء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ فيسرحون إلى الجنة، قال: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، عنق من النار فأشرف على الخلائق له عينان تبصران ولسان فصيح فيقول: إني كلت منكم بثلاثة: بكل جبار عنيد، [فيلتقطهم] من الصفوف لقط الطير حسب السمسم فيخنس بهم في جهنم، [ثم] [يخرج] ثانية [فيقول]: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله، [فيلتقطهم] [من الصفوف] لقط الطير حسب السمسم [فيخنس] بهم في جهنم. قال شهر ابن حوشب: وأحسب أنه ذكر في الثالثة أهل التصاوير [فيلتقطهم] كذلك.(12/8258)
قل: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، ومن هؤلاء ثلاثة، نشرت الصحف ووضعت الموازين ودعي الخلائق للحساب.
وقال الضحاك: إذا كان يوم القيامة، أمر الله جل ذكره السماء الدنيا بأهلها، فنزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، كذلك إلى السابعة، فصفوا صفادون صفن ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نادوا، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ذلك قوله عز وجل: { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32 - 33].
وقرئ بتشديد الدال من ند البعير: إذا فر.
قال: ذلك قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}. . وقوله:(12/8259)
{يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ} [الرحمن: 33] الآية.
وهو قوله: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 16 - 17].
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال): " توقفون موقفاً واحداً يوم القيامة مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دما وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم [الأذقان] ويلجمكم وتضجون ثم تقولون: [من] يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، قبل الله توبته وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه [قبلاً]، فيؤتى(12/8260)
آدم، فيطلب ذلك إليه فيأبى، ثم الأنبياء - نبياً - نبياً - كلما جاؤوا نبياً أبى.
قال رسو الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتونني فإذا جاءوني خرجت حتى أتى الفحص.
قال ابو هريرة: رضي الله عنهـ: يا رسول الله، وما الفحص؟ قال قدام العرش، قال: فأخر ساجداً، قال: فلا أزال ساجداً حتى يبعث الله إلي ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني، فيقول الله جل وعز [لي]: يا محمد، فأقول: نعم، وهو أعلم، فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك واقض بينهم، فيقول تعالى: قد شفعتك، أنا آتيهم وأقضي بينهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، سمعنا حسناً من السماء شديداً، فهالنا، فنزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الإنس والجن، حتى إذا دنو من الأرض، أشرقت الأرض لنورهم، وأخذوا [مصافهم] [فقلنا] (لهم): أفيكم ربنا؟ [فقالوا]: لا، وهو آت. ثم نزل(12/8261)
أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثل من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرَ، أشرقت الأرض لنورهم وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ فقالوا: لا، وهو آت، ثم ينزل أهل السماوات على قدر ذلك من التضعيف، حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة لهم زجل من تسبيحهم/ يقولون: سبحان الملك ذي الملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والسلطان والعظمة، سبحانه أبداً أبداً، فينزل تعالى جل ذكره يحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسماوات إلى حجزهم والعرشُ إلى مناكبهم. قال: فيضع الله جل ذكره كرسيه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي بنداء يسمع الخلائق فيقول: يا [معشر الجن] والإنس [إني] قد أنصت من يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليَّ، فإنما(12/8262)
هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا [يلم] إلا نفسه.
قال: ثم يأمر الله جل وعز جهنم فيخرج منها عنق ساطع [مظلم] يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} إلى قوله: {المجرمون} فيتميز الناس ويجثون، [وهي] التي يقول الله تعالى جل ذكره: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا} إلى {تَعْمَلُونَ}.
قال: فيقضي الله جل ثناؤه بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه [ليقيدُ] يومئذ للجماء من ذات القرن، حتى إذا لم تبق تبعة عند واحدة لأخرى، قال(12/8263)
الله تعالى: كوني تراباً. فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً! [قال]: ثم يقضي الله جل ذكره بين الجن والإنس ".
ووقع [التكرير] في (دكاً دكاً) و (صفاً صفاً) على معنى: دكاً (بعد دكاً) [وصفاً] بعد صف.
ثم قال تعالى: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}.
قال ابن مسعود: " جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودنها وقاله ابن وائل.
ثم قال تعالى: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى}.
أي: يتذكر تفريطه في الدنيا في طاعة الله، ومن أي وجه له الذكرى في ذلك اليوم وقد حيل بينه وبين العمل.
ثم قال تعالى: {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.(12/8264)
أي: يتلهف ويتندم فيقول: يا ليتني قدمت في الدنيا عملاً صالحاً لحياتي هذه التي لا موت بعدها فينجيني ذلك العمل من عذاب الله تعالى وسخطه ويقربني من رضوانه وجنته.
فالمعنى: قدمت لآخرتي (التي) هي الحياة الدائمة، دليله قوله: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} [العنكبوت: 64] أي: لهي الحياة.
وقيل: المعنى قدمت لأحيا،، لأن أهل النار ليسوا بأحياء ولا أموات، بدلالة قوله: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74].
قال قتادة: " هناكم والله الحياة الطويلة ".
وقال مجاهد: " لحياتي ": " للآخرة ".
وقيل: الكلام بمعنى في والتقدير: يا ليتني قدمت (في حياتي، أي قدمت(12/8265)
العمل الصالح) في حياتي في الدنيا، مثل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أي: في عدتهن.
ثم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}.
من كسر الذال والثاء من {يُعَذِّبُ} و {يُوثِقُ} فمعناه: فلا يعذب - ذلك اليوم - أحد مثل عذاب الله لهم ولا يوثق حد مثل وثاق الله لهم.
وقيل: (معناه: لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا كوثاقه يومئذ.
ومن فتح ذلك)، فمعناه: فلا يعذب أحد مثلما يعذب الكافر ولا يوثق مثلما يوثق.
وقال الحسن: قد علم الله أن في الدنيا عذاباً (و) وثاقاً، فقال: فيومئذ(12/8266)
لا يعذبه عذابه أحد (في الدنيا) ولا يوثق وثاقه في الدنيا.
ثم قال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}.
هذا خبر من الله - جل ذكره - عن قول الملائكة يوم القيامة لأولياء الله، والمعنى: تقول الملائكة لأولياء الله يوم القيامة، يا أيتها النفس التي اطمأنت إلى وعد الله [و] وعيده، فصدقت بذلك في الدنيا.
قال ابن عباس: المطمئنة: " المصدقة " (وقال قتادة: " هوالمؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله "، وعنه:): المصدقة بما وعد الله.
وقال مجاهد: المطمئنة: الموقنة إن الله ربها، وعنه أيضاً.
المطمئنة التي أيقنت بلقاء ربها.
وفي قراءة أبي: " يا أيتها النفس الآمنة ".
[قال الحسن: المطمئنة إذا أراد الله عز وجل قبضها اطمأنت إلى الله سبحانه واطمأن(12/8267)
الله سبحانه إليها ورضيت من الله تعالى ورضي عنها فأمر بقبضها وإدخالها الجنة وجعله من عباده الصالحين]، وروي أن ذلك قول [الملائكة] للعبد المؤمن عند خروج نفسه [تبشره] برضاء ربه عنه وإعداد ما أعد له من الكرامة عنده.
قال أبو صالح: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} هذا عند الموت {فادخلي فِي عِبَادِي} هذا يوم القيامة.
وقيل: إنه كله يوم القيامة. وإن [معنى] {ارجعي إلى رَبِّكِ}، أي: إلى صاحبك/. وهو قول ابن عباس.
وقال الضحاك: " يأمر الله الأرواح يوم القيامة أن ترجع إلى الأجساد فياتون الله كما خلقهم أول مرة " فهو على قوله أيضاً كله يوم القيامة، وهو اختيار الطبري.(12/8268)
قال عكرمة: {إلى رَبِّكِ} إلى جسد صاحبك. [وقاله] ابن جبير.
فيكون أيضاً كله يوم القيامة وتكون المخاطبة للنفس ودل على ذلك قوله: {وادخلي جَنَّتِي} ودخول الجنة لا يكون إلا في القيامة.
وقال الضحاك إن معنى [فادخلي في عبادي]، [أي: طاعتي]، {وادخلي جَنَّتِي} أي: رحمتي فالمخاطبة - على هذا - للإنسان، لا للنفس في المعنى. وإليه يذهب الفراء، ومعناه عنده أن الملائكة تقول لهم إذا أعطوا كتبهم بإيمانهم هذا، (أي): ارجعي إلى ثواب ربك.(12/8269)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلد
مكية
قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} إلى قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين}.
قال الأخفش: " لا " صلة، وأجاز أن تكون بمعنى " ألا ".
وقد قيل: إن " لا " رد لكلامهم.
ثم ابتداء: (أقسم) بهذا البلد، وهو قول مجاهد والمعنى: أقسم يا محمد بهذا البلد الحرام، وهو مكة، وهو قول أكثر المفسرين.(12/8271)
وقيل: " لا " غير زائدة - والمعنى أن الله جل ذكره يقول لنبيه: لا أقسم بهذا البلد بعد خروجك منه.
ثم قال تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}.
يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، ( أي): وأنت حلال يا محمد بهذا البلد تصنع فيه [ما شئت] من قتل من أردت قتله وأسر من أردت أسره، [ما شئت من ذلك مطلق لك]، يقال: حل وحلال بمعنى.
قال ابن عباس: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أحل (الله) (له) يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحقيي من شاء، فقتل ابن خطل يومئذ(12/8272)
صبراً وهو آخذ بأستار الكعبة. ولم يحل لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها (أحداً).
قال مجاهد: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}، أحل لنبيه أن يصنع ما شاء فيها.
[وقال] ابن زيد: لم يكن [بها أحد] حلالاً غير النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل من كان [بها]. حراماً، لم يحل لهم أن يقاتلوا فيها ولا يستحلوا حرمة فأحله الله جل وعز لرسوله، فقال المشركين (فيه).
وقال عطاء: إن الله حرم مكة لم تحل لنبي إلا لنبيكم ساعة من نهار.
ثم قال تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}.(12/8273)
قال مجاهد: الوالد: آدم عليه السلام، وما ولد: ولده. وهو قول قتادة وأبي ص لح والضحاك وسفيان.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " الوالد: الذي [يلد].
{وَمَا وَلَدَ}: العاقر الذي لا يولد له " فهو عام.
وقال أبو عمران الجوني: عنى بذلك إبراهيم عليه السلام وولده.
وعن ابن عباس أيضاً أن الوالد: من ولد له، و (ما ولد): ولده.
فهو عام أيضاً على هذا القول، كأنه قال: ووالد وولادته، وهذا اختيار الطبري.
ثم قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ}.(12/8274)
هذا جواب القسم والمعنى: لقد خلقنا ابن آدم من شدة [وعناء] ونصب.
قال قتادة: {فِي كَبَدٍ}: في مشقة لا تلقى ابن آدم إلا يكابد أمر الدنيا والآخرة.
قال الحسن: " لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وعن ابن عباس أيضاً: (في كبد): " في شدة معيشته وحمله وحياته ونبات أسنانه ".
وقال سفيان: {فِي كَبَدٍ}: خروج أسنانه.
وعن ابن عباس أيضاً: {فِي كَبَدٍ}: في انتصابه، خلق معتدل القامة منتصباً.
وعنه قال: خلق ابن آدم مستوياً، وخلق كل دابة على أربع.
وقال عبد الله بن شداد: {فِي كَبَدٍ}: معتدل القامة. وقال أبو صالح.
وقال الضحاك: {فِي كَبَدٍ}: " خلق منتصباً " على رجلين لم تخلق دابة على خلقه ".(12/8275)
وقال الحسن: {فِي كَبَدٍ}: يكابد [مضايق] الدنيا وشدائد الآخرة.
وقال مجاهد: {فِي كَبَدٍ}، يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم. . .، (فلا يزال) في مكابدة.
وقال ابن زيد: {فِي كَبَدٍ} في السماء خلق آدم في السماء.
ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}.
يروى أنها نزلت في رجل [بعينه] من بني جمح كان يدعى [أبا الأشدين]، وكان شديداً قوياً. يروى أنه كان يأخذ الأديم فيجعله تحت قدمه ويجذبه (عشرة) حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان معادياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(12/8276)
فالمعنى: أيحسب هذا القوي أن لن يقهره أحد؟! فالله غالبه.
ثم قال: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً}.
أي: يقول هذا القوي: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد، وهو كاذب في قوله.
واللبد " الكثير من التلبد، وهو الكثير بعضه على بعض.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: اللبد: المال الكثير.
وقرأ أبو جعفر: " لبداً " - ([بالتشديد]) - جعله جمع " لابد ".
فأما من خفف، فإنه جعله جمع " لبدة ". وقيل: هو واحد، " كحطم ". وقرأ/ مجاهد: " لُبُداً " - بضمتين - جعله جمع لبود.(12/8277)
ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ}.
أي: أيظن هذا القائل (إني) أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، أن لم يره أحد في حال إنفاقه ما يزعم أنه أنفقه؟! وإنما قال ذلك تندماً على أن أنفق. وقيل: قاله افتخاراً.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ}.
أي: ألم نجعل لهذا القائل: " أهلكت مالاً لبداً "، عينين يبصر بهما حجج الله عليه، ولساناً وشفتين نعمة من الله عليه؟!
قال قتادة: نعم الله متظاهرة عليك، يعرفك بها كيما تشكر.
ثم قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين}.
أي: الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، كقوله: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]. هذا قول ابن مسعود.
وقال ابن عباس: {النجدين}: الهدى والضلال. وهو معنى قول مجاهد(12/8278)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وعكرمة وابن زيد.
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس أيضاً: {النجدين}: الثديين، [سبيل] اللبن.
وقال الضحاك، وقاله علي ابن أبي طالب رضي الله عنهـ.
والنجد في اللغة الطريق المرتفع.
قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة} إلى آخر السورة.
أي: فلم يقتحم، أي: لم يركب هذا القوي الشديد العقبة فيقطعها ويجوزها بالإيمان والعمل الصالح، فهو خاص يراد به العموم.
قال ابن عباس: " العقبة جبل في جهنم ".(12/8279)
وقال الحسن: هي عقبة في جهنم.
وقال قتادة: [للنار] عقبة دون الجسرز
وقال كعب: العقبة " [سبعون] درجة في جهنم ".
وقيل: معناه أنه تمثيل يراد به، لم يفعل ما أمر به، ومثل ذللك بالعقبة لعصوبته وصعوبة جواز العقبة.
وقال ابن زيد: {فَلاَ اقتحم العقبة} [أي]: فلم يسلك الطريق الذي فيه النجاة.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة}.
أي: ما [اقتحام] العقبة؟! [أي]: وأي شيء أشعرك يا محمد ما اقتحام(12/8280)
العقبة؟! ثم بين ما هو فقال:
{فَكُّ رَقَبَةٍ} أي: اقتحامها والنجاة منها هو فك رقبة من الرق [وأسر] العبودية.
قال الحسن: " ذكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة إلا كانت فداءه من النار. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقاب أيها أعظم أجراً؟ فقال: " أكثرها ثمناً ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار ".
ثم خير أيضاً في اقتحام العقبة، [فقال]:(12/8281)
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ}.
أي: وهو أيضاً أن يعلم في يوم ذي مجاعة يتيماً لا أب له من قرابتك والمقربة والقرابة واحد. قال ابن زيد: {ذَا مَقْرَبَةٍ}. " ذا قرابة ".
ثم قال تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}.
أي: ذا [لصوق] بالتراب قال مجاهد: {ذَا مَقْرَبَةٍ}: " ليس له مأوى إلا التراب "، يعني: المسكين المطروح في التراب ليس له شيء يقيه من التراب.
وقيل: معنه: أو مسكيناً ذا فقر، من قولهم " ترب الرجل " إذ افتقر.
وعن ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ}: كثير الحاجة، وقاله ابن زيد.
وعن ابن عباس أيضاً: {ذَا مَتْرَبَةٍ}: ذا عيال وكبر سن ليس بينك وبينه قرابة وقاله ابن جبير.(12/8282)
وقال الضحاك: {ذَا مَقْرَبَةٍ} " ذا عيال لا صقين بالأرض من المسكنة ".
وعن ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ}: هو الرجل يخرج إلى حاجته ثم يرد وجهه منقلباً إلى بيته يستيقن أن ليس فيه إلا التراب.
وقال سفيان: هم المطروحون في ظهر الطريق، لا بيت لهم.
[يقال]: تربت يد الرجل: إذا افتقر، أي: ليس يحصل في يده إلا التراب.
وقوله: صلى الله عليه وسلم: " فعليك بذات الدين تربت يمينك "، معناه: افتقرت يمينك إن فاتتك، أي: لا يحصل في يمينك إلا التراب إن [فاتتك].(12/8283)
ونظيره: " [وللعاهر] الحجر "، أي: لا يحصل في يد الزاني بأمة على فراش غيره من الولد إلا التراب، أي: لا شيء (له) فيه.
ويقال: أترب الرجل إذا استغنى، أي: صار المال عنده ككثرة التراب.
ويقال: " فلان ترب فلان "، [أي: ولداً] في وقت واحد فربا على التراب في وقت. ومن هذا، قيل لضلوع الصدر: ترائب، والواحدة: تربية، لأنها مستوية ليست منحنية كغيرها.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}.(12/8284)
قيل: " ثم " بمعنى " الواو "، والمعنى: وكان من الذين آمنوا [بفعله] هذه الخصال.
وقيل: " ثم " على بابها والمعنى: ثم ضم الإيمان إلى هذا الفعل الذي يفعله المسلم غيره، لأن فك الرقاب وإطعام الطعام شيء يفعله المشرك كما يفعله المسلم، فإذا ضم الإيمان معه كان نافعاً [له]. وقيل: المعنى على هذا، و " ثم " بمعنى الواو.
وقيل: المعنى: ثم كان من الذين يؤمنون أن [هذا] نافعهم عند الله. [ففعله] إنما كان وهو مؤمن بالله، ولم يفعله وهو غير مؤمن ثم آمن، إنما فعله هو مؤمن ثم (آمن) بعد فعله أنه نافعه، " فثم " على بابها، فتقديره: ثم كان من الذين /آمنوا [بنفع] ما يفعلون من البر لهم عند الله. {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}، أي: وتواصوا بالدوام على ذلك الفعل (و) على أنه نافعهم عند الله.
وقيل: بالصبر على ما نالهم في ذات الله.(12/8285)
وقال (الفضيل): بالصبر عن معاصي الله، وقيل: معنى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ}: ثم أخبرهم بهذا.
(ومعنى) الكلام أنك تقول " أحسنت إلى فلان (وفعلت به) ثم هو يذمني "، فليس إخبارك بذمه لك كان بعد قولك الآن، إنماهو شيء كان قبل إخبارك الآن بما فعلت به من الإحسان، فذمه لك وقع بعد إحسانك إليه و [قبل: إخبارك الآن.
فالإيمان في الآية ثابت قبل فعله ما تقتحم به العقبة وإن كان الإخبار وقع عنه بعد ذكر الاقتحام. وقيل: معناه: ثم ثبت على الإيمان، ففعله كان أولاً وهو(12/8286)
مؤمن، ثم ثبت على الإيمان ولم يبدله.
وقوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة}.
قال ابن عباس: " بمرحمة الناس ".
ثم قال: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} أي: ذات اليمين في الجنة.
ثم قال تعالى: {أولئك أَصْحَابُ الميمنة}.
أي: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
ثم قال تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ}.
قال ابن عباس: {مُّؤْصَدَةٌ}: " مطبقة " وقاله مجاهد والضحاك وقتادة.
وقال قتادة: أطبقها الله عليهم، فلا ضوء فيها ولا فروج ولا خروج منها آخر الأبد.(12/8287)
والهمز وتركه في " موصدة " لغتان، يقال: آصدت (الباب) وأوصدته، بمعنى: [أطبقته].
وقوله: {بالوصيد} [الكهف: 18]، يدل على (معنى) أوصدت، ولو كان من آصدت لكان: " بالأصيد.(12/8288)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس وضحاها
مكية
قوله تعالى: {والشمس وَضُحَاهَا} إلى آخرها.
هذا قسم، يقسم ربنا بما شاء. والتقدير: ورب الشمس.
وقوله: {وَضُحَاهَا} يعني: ونهار الشمس. قاله قتادة والفراء.
وهو اختيار الطبري.
وكذلك قوله: {والضحى} [الضحى: 1]، عند الفراء: النهار كله.
وقال مجاهد: وضحاها: " وضوءها ".
والضحى عند العرب إذا طلعت الشمس بعد ذلك.
وهي مؤنثة مقصورة، فإذا ارتفع النهار قيل: الضحاء. فتح الضاد والمد مذكراً.(12/8289)
ثم قال تعالى: {والقمر إِذَا تَلاَهَا}.
أي: إذا اتبع الشمس. وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تبعها القمر طالعها. هذا قول مجاهد وغيره.
وقال قتادة: {إِذَا تَلاَهَا}، يعني " صبيحة " الهلال، فإذا سقطت الشمس رئي الهلال ".
وقال ابن زيد: (القمر) يتلو الشمس نصف الشهر الأول، وتتلوه النصف الآخر، فأما النصف (الأول فهو يتلوها وتكون أمامه وهو وراءها، فإذا كان النصف) الآخر كان هو أمامها يقدمها، وتليه الشمس
وقال الفراء: تلاها: أخذ منها. يذهب إلى أن القمر أخذ من ضوء الشمس.
ثم قال تعالى: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا}.
أي: جحلى الشمس بإضاءته.(12/8290)
وقال قتادة: " جلاها ": " إذا غشيها النهار ".
وقال الفراء: إذا جلى الظلمة، أي: أذهبها بضوء، فأضمر الظلمة في {جَلاَّهَا}، ولم يجر لها ذكر، وفيه بعد. وقيل: " جلاها "، أي: جلى الدنيا.
وقيل: جلى الأرض.
ثم قال تعالى: {والليل إِذَا يَغْشَاهَا}.
أي: والليل إذا يغشى الشمس. وذلك حين [تغيب] فتظلم الآفاق.
ثم قال: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا}.
قال الطبري: " ما " بمعنى " من "، كما قال تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3]، فأتت(12/8291)
(" ما:) في موضع " من "، أي: ومن ولد، لأنه أقسم بآدم وولده.
وروي عن مجاهد أنه قال: {وَمَا بَنَاهَا}: الله جل وعز [بنى] السماء.
وقال المبرد: " [ما] " والفعل: مصدر، أي: والسماء [وبنائها]، ومثله في الاختلاف والتقدير: {والأرض وَمَا طَحَاهَا}.
(ومعنى): {وَمَا طَحَاهَا}: بسطها يميناً وشمالاً ومن كل جانب. وقال ابن عباس): " وما خلق فيها "، " فما " - على هذا - على وجهها، ليست بمعنى " من "، ولا [هي]- مع الفعل - مصدر، بل بمعنى: " الذي ".
وقال مجاهد: {طَحَاهَا} " دحاها ".
وقال ابن زيد وأبو صالح: {طَحَاهَا} " بسطها ". وعن ابن عباس أيضاً:(12/8292)
{طَحَاهَا} " قسمها ".
ثم قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}.
أي: ومن سواها، يعني نفسه جل ذكره، لأنه سوى النفس فخلقها فعدل خلقها، ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدراً أي: ونفسي وتسويتها.
ثم قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.
[أي]: فبين لها ما ينبغي أن تأتي [وتذر] من خير أو شر.
وقال ابن عبس: " بين الخير والشر "، وعنه: " علمها الطاعة والمعصية ". قل مجاهد: {فَأَلْهَمَهَا}: " عرفها ".(12/8293)
وقال قتادة: / بين لها ذلك وقال الضحاك وسفيان: " بين لها الطاعة والمعصية ".
[وقال] ابن زيد: معناه: " جعل فيها فجورها وتقواها ".
(و) عن النبي عليه السلام: " من كان الله خلقه لإحدى المنزلين [يهيشه] (لها). يريد السعادة والشقاء، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وتصديق بذلك في كتاب الله جل وعز: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} " وهذا فيه أعظم حجة على القدرية أن كل امرئ ميسر لما قدر عليه قبل أن يخلق، فمن كان قد قضى الله له السعادة يسر إلى عمل أهل السعادة، ومن كان (قد) قضى (الله) له بالشقاء يسر إلى عمل أهل(12/8294)
الشقوة، ولا يكون [ذلك منه] ظلماً لخلقه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون قد علم قبل خلقهم ما هم عاملون، فخلقهم ما تقدم من علمه بهم فجاؤوا على مثل ذلك: مؤمن وكافر، وشقي وسعيد.
ثم قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}.
أي: قد نجا وفاز من زكى نفسه فطهرها ونماها بالإيمان والعمل الصالح، والزكاة أصلها النماء والزيادة.
وهذا جواب القسم على تقدير حذف اللام، اي: لقد أفلح من زكاها، وهو قول الأخفس.
والتمام عنده على {زَكَّاهَا}.
وقيل: إنه لا تقدير حذف في هذا، وهو جواب القسم بغير لام على التقديم والتأخير، (والتقدير): قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها، كما تقول: " قد نام زيد، والله، قد خرج الأمير، والله، وهذا قول أبي(12/8295)
حاتم.
و (قد) قيل: معنى الآية: قد أفلح من زكى الله نفسه.
قاله ابن زيد وابن طلحة وفيه بعد في العربية، لأنه لا يعود على " منم " [شيء] لصلتها، لأن الضمير المرفوع في " زكى ": " الله "، والهاء للنفس، ويبعد أن تجعل " من " (للنفس، ولكن يجوز ذلك على حيلة، وهي أن تجعل " من ") للفرقة أو الطائفة ونحوها، فتكون الهاء في " زكاها " تعود على " من " على المعنى، [فيكون المعنى]: قد أفلح الفرقة التي [طهرها] الله للتوفيق لطاعته.(12/8296)
والأول هو قول عكرمة وقتادة، وهو حسن، لا يحتاج إلى حيلة، يكون الضمير في " زكى " يعود على " من "، والهاء تعود على النفس والتقدير: قد أفلح الإنسان الذي طهر نفسه بالعمل الصالح.
وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
أي: وقد خسر النجاء والفوز من دسى نفسه بالعمل الخبيث والكفر، فوضع منها وأوردها غضب الله.
وقيل: معناه وقد خسر من [دسى] الله نفسه فخذله حتى مات على كفره.
وتكون " من " (أيضاً) - على هذا القول - للفرقة أو الطائفة لتعود الهاء على " من ". وأصله: [دسها]، لأنه من دس [ودست]، ولكن أبدل من(12/8297)
إحدى السينين ياء، كما قالو: " قصَّيت أظفاري "، بمعنى: قصصت. وكما قالوا: [" تظنيت هذا الأمر " بمعنى: تظننته]. وكما قال العجاج:
تَقَضيِّ البازي إذا البازي كسر.
يريد: تَقَضُّضَ البازي، فأبدل من الضاد الثانية ياء، وكسر الأول لتصح.
وقال آخر: رأت رجلاً إيما إذا الشمس عارضت.
(يريد " أما "، فأبدل من الميم الأول ياء).
ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ}.
أي: كذبت ثمود - وهم قوم صالح - بطغيانهم، أي: بعذابهم الذي أوعدهم به صالح. وسمي العذاب طغياناً، لأنه(12/8298)
طغى عليهم وعتا فأهلكهم كما قال: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5].
[ي: بالعذاب الذي اسمه الطاغية]. ودل على ذلك قوله بعد ذلك: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6
ي، فذكر العذاب الذي عذب به [الإنسان]، وسماه.
قال ابن عباس: اسم العذاب إلى جاء ثمود: الطغوى، (فقال: كذبت ثمود بعذابها، وتقديره: بعذاب) طغواها.
وقال محمد بن كعب القرظي: معناه: كذبت ثمود بعصيتهم الله. فيكون " طغوى " بمعنى: طغيان، وهما مصدران، لكن أتى هنا على [فعلى]، لأنه أشبه برؤوس الآتي.
وعنه أيضاً: [أن] معناه: كذبت ثمود بأجمعها. رواه ابن وهب عنه.(12/8299)
ثم قال تعالى: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا}.
أي: إذ ثار أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف.
وحكى الفراء أن {أَشْقَاهَا} [لاثنين]، قدار وآخر، وشبهه بقول (الشاعر):
ألا بكر " النَّاعي "، [بخير] بن آسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
فقال " بخير "، ثم أتى باثنين، وشبهه (بقولهم): " هذان أفضل الناس، وهذان خيرُ الناس.
وفي هذا بعد/ لأن ظاهر الخطاب لا يخرج على حده إلا بدليل ولا دليل في(12/8300)
الآية (بدل) على أهما اثنان.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خبر صالح وناقته: " انتدب لها رجل " ولم يقل: رجلان.
وقال في خطبة (له) إذا ذكر الناقة والذي عقرها - قال: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا}، انبعث لها رجل عزيز عارم ممنع في رهطه مثل أبي زمعة.
قال قتادة: " إذا انبعث أشقاها " " احيمر ثمود ".(12/8301)
ثم قال تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا}.
أي: احذروا ناقة الله وسقياها، أي: [لا تؤذوها] ولا تحولوا بينها وبين شربها لكم يوم، ولها يوم.
وقال قتادة: " ناقة الله وسقياها " أي: " [قسم] الله الذي قسم لها من هذا الماء ".
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}.
أي: فكذبوا صالحاً في الخبر الذي أخبرهم عن الله أن للناقة شرب، يوم، ولهم شرب يوم (معلوم)، وأن الله ينزل بهم نقمته إن عقروها، وذلك أنهم كانوا سلما للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم، ثم بدا هلم فكذبوا صالحاً في ما قال لهم، وأجمعوا على عقرها ومنعها الشرب، وعن رضاء جميعهم عقرها من عقرها، فلذلك نسب العقر إلى جميعهم (وإن كان عاقرها واحد.، لأنهم لما رضوا بذلك كانوا كالفاعلين له فنسب التكذيب والعقر إلى جميعهم).
ثم قال تعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا}.(12/8302)
أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً فلم يفلت منهم أحد. ودل " دمدم " على الدمدمة.
وقال الفراء: {فَسَوَّاهَا} [أي]: فسوى بينهم العقوبة، فلم يبق منهم أحداً، ومعنى: " دمدم ": دمر. وقال الفراء: أرجف. وذنبهم: هو تكذيبهم لصالح وعقرهم للناقة، ووحدة، لأنه مصدر.
قال قتادة: ذكر (لنا) أن أحيمر (ثمود أبى) أن يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، فلما [اشترك] القوم في عقرها، دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها.
وقال الحسن: " لما عقروا الناقة طلبوا فصيلها، فصار في قارة(12/8303)
الجبال، فقطع الله عز وجل قلوبهم ".
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}.
أي: فلا يخاف الله تبعة دمدمته عليهم، قال ابن عباس: " لا يخاف الله من أحد تابعة ".
وقال الحسن: ذلك ربنا لا يخاف منهم تبعة فيما صنع بهم.
وهو قول مجاهد. [فالضمير] في " يخاف " لله جل ذكره.
وقال الضحاك: معناه: [فلم يخف الذي عقرها عقبى فعله.
وهو قول السدي. فالضمير في " يخاف " للعاقر.
وقال إبراهيم بن عرفة: من قرأ بالفاء: " فلا يخاف " فالضمير في " يخاف ": الله،(12/8304)
[لا غيرة]. ومن قرأ: " ولا يخاف "، بالواو، فالضمير للعاقر.
وقال غيره: يجوز أن يكون لله أيضاً على قراءة من [قرأ] بالواو، فإذا جعلته للعاقر لم تقف على {فَسَوَّاهَا}، وإذا جعلته لله، وقفت على {فَسَوَّاهَا}، وكذلك [يقف] على {فَسَوَّاهَا} من قرأ بالفاء، لأن الضمير لله جل ذكره.(12/8305)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والليل إذا يغشى
مكية
قوله تعالى: {والليل إِذَا يغشى} إلى آخرها.
معناه: ورب الليل إذا غشى النهار بظلمته فأذهب ضوءه.
وقيل: المعنى: يغشى كل شيء بظلمته فيصير له كالغشاء.
ثم قال تعالى: {والنهار إِذَا تجلى}.
أي: (إذا) أضاء وأظهر للأبصار ما أخفته ظلمة الليل.
وكان قتادة يذهب - فيما أقسم الله به من الأشياء - أنه أقسم به العظم حاله عنده.(12/8307)
(ثم قال تعالى): {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى}.
قيل: " ما " بمعنى " من "، يريد نفسه تعالى جل ذكره.
وقيل: " ما " والفعل مصدر، أي: وخلق الذكر والأنثى.
(وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: والذكر والأنثى) بالخفض بغير " ما ".
وأجاز الفراء: وما خلق الذكر والأنثى بالخفض على البدل من " ما ".
وقال الأخفش: " ما " بمعنى " الذي "، جعلها لمن يعقل.
وروي عن أبي [عمرو] أنه قال: أهل مكة يقولون للرعد: سبحان من سبحت له.
وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} هذا جواب القسم أي: إن عملكم لمختلف أيها الناس، لأن منكم الكافر والمؤمن، والعاصي والمطيع.(12/8308)
وقوله: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: من أعطى في سبيل الله ومرضاته، واتقى الله فاجتنب المعاصي، وصدق بالجنة. قاله مجاهد.
وقال ابن عباس: من أعطي ما عنده من الفضل واتقى ربه.
وقال قتادة: من أعطى حق الله واتقى محارمه.
وقال عباس: - وهو مروي عن مجاهعد أيضاً -.
{وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: وصدق بالخلف من الله جل وعز على نفقته في ذات الله.
وقال الضحاك: {بالحسنى} " بـ لا إله إلا الله " وروي ذلك (أيضاً) عن ابن عباس، وقاله [أبو] عبد الرحمن السلمي.(12/8309)
وقال قتادة: {وَصَدَّقَ بالحسنى} [أي]: بموعود الله جل وعز على نفقته، فعمل/ لذلك الموعود الذي وعده الله.
وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم غربت فيه شمسه إلا [وبجنبيها] ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين - الجن والإنس - يقولان: الله عجل لمنفق خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً وأنزل الله جل وعز في ذلك من القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} ".(12/8310)
(وروى الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من صباح يصبح إلا وصارخ يصرخ: أيكها الخلائق، سبحوا القدوس ".
وروى أبو ذر) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده. وما من الله على عبده بمثل أن يلهمه ذكره ".
وروي أنه ما من يوم إلا وهو ينادي: أنا يوم جديد، وأنا عليكم شهيد (ابن آدم)، إني لن [أمر بك] أبداً، فاتق الله واعمل في خيراً. فإذا هو أمسى قال: اللهم لا تردني إلى الدنيا أبداً.
وروي أن هذه الآية (نزلت) في أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ، روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: (كان) أبو بكر (الصديق رضي الله عنهـ) يعتق على الإسلام بمكة،(12/8311)
فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني، أراك تعتق أناساً ضعفاء، ولو أنك أعتقت رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟ فقال: إني أريد ما عند الله.
قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآية.
وروى محمد من إسحاق أن أبا بكر رضي الله عنهـ اشترى تسعة كانوا في أيدي المشركين، فأعتقهم لله جل وعز. فأنزل الله: فأما من [أعطى]. . . الآية.
و (معنى) {لليسرى}: للحال اليسرى، أو [الخلة] اليسرى، وهي العمل بما يرضاها الله.
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى}.
أي: بخل بالنفقة في سبيل الله، واستغنى عن ربه فلم يرغب [في العمل] بطاعته وما يوجب له رضاء ربه.(12/8312)
قال ابن عباس: هو " من أغناه الله [فبخل] بالزكاة.
وقال قتادة: من بخل عن الله واستغنى في نفسه عن ربه.
والاختلاف في {وَكَذَّبَ بالحسنى} على نحو الاختلاف في: {وَصَدَّقَ بالحسنى}.
وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي: [للخلة] العسرى في الدنيا، وذلك العمل بالمعاصي.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " كنا في جنازة في بقيع الغرقد، [فأتانا] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس رأسه، فجعل [ينكت] بمخصرته (في الأرض)، ثم قال: ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب(12/8313)
مكانها من الجنة أو النار [قيل]: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟! فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة (ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء)، فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة [فييسرون] إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء [فييسرون] إلى 'مل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآيتين ".
وقال الضحاك: للعسرى: للنار.
والتيسير إنما يكون في الخير، وإنما جاء هنا للشر على معنى: الذي يقوم لهم مقام (التيسير). العسرى: مثل: " فبشرهم بعذاب أليم ".(12/8314)
ومثله ما أنشد سيبويه:
تحيَّهُ بَيْنِهِم ضَرْبٌ وَجِيعُ.
وقال الفراء: لما وقع للخير تيسير جاز أن يقع في الشر مثله، ولا يكون ذلك إلا إذا اجتمع الخير والشر.
ثم قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} أي: وأي شيء يغني عنه مال الذي بخل به إذا هلك وتركه.
قال أبو صالح وقتادة: (إذا ترى)، (أي): إذا سقط في النار فهوى فيها.
وقال قتادة: إذا ترى: إذا مات.
ثم قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى}.
(أي): إن علينا بيان الحق من الباطل. قال قتادة: على الله بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.(12/8315)
بمعنى الآية - على قوله -: إن علينا للهدى والضلالة. ولكن ترك ذكر الضلالة [للدلالة] عليه، كما قال: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، وترك ذكر البرد لدلالة الحر عليه. ومثله ما أنشد سيبويه:
فما أدري إذا [يممت] / وجهاً ... (اريد) الخير أيهما يليني
فحذف الشر لدلالة الخير عليه. فالأشياء تدل على أضدادها وإن لم تذكر الأضداد، والتقدير: أريد الخير وأكره الشر.
وقيل معنى الآية: إن علينا سبيل من [سلك] (سبيل) الهدى.
أي: من أخذ سبيل فعلى الله سبيله، كما قال:
{إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] و {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41].(12/8316)
وكما قال: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9] أي: من أراد الله عز وجل فهو قاصد للسبيل هذا قول الفراء.
وقال في قوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى}، أي: (إن) لنا ثواب هذه وثواب هذه.
وقال غيره: معناه: وإن لنا ملك في الدنيا والآخرة، نعطي من نشاء ونحرم من نشاء.
والمعنى أنه يوفق من [يشاء] من خلقه إلى طاعته في الدنيا فيكرمه بذلك في الآخرة، [ويخذل] من [يشاء] من خلقه عن طاعته في الدنيا، فيهينه بذلك في الآخرة.(12/8317)
ثم قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} أي: أنذرتكم أيها الناس ناراً تتوقد وتتوهج، أعدت لمن عصى الله كفر به.
ثم قال تعالى: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} أي: لا يدخلها ويصلى سعيرها إلا الأشقى الذي كذب بآيات الله وأعرض عنها.
كان أبو هريرة يقول: لتدخلن الجنة إلا من أبى: قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟! فقال: الذي كذب وتولى.
والمرجئة الذين يقولون: " [الإيمان] قول بلا عمل "، يتعلقون بهذه الآية، وفي تقديرها أقوال، منها:
أن المعنى لا يصليها إلا الأشقى، (و) {الذي كَذَّبَ وتولى}.
فتكون الواو مضمرة.(12/8318)
حكى المبرد وغيره أن العرب تقول: أكلت خبزاً لحماً [تمراً]، فيحذفون حرف العطف.
وأنشد أبو زيد:
كيف أصبحت كيف أمسيت ... مما يثبت الود في فؤاد الكريم
وإضمار الواو قبيح ليس بكثير في كلام العرب، وفيه نقض للأصول وخروج عن الظاهر.
(وقيل: التقدير: لا يصلاها إلا) الأشقى من الكفار والفساق، ثم أعاد ذكر الكفار - خاصة - تنبيهاً عليهم، لأنهم أعظم ذنباً من الفساق.
وقيل: التقدير: فأنذرتكم نارا هذه صفتها.
وقيل: التقدير: لا يصلاها إلا) أشقى أهل النار، وأشقاهم: الكفار. فدل هذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم.
[وقيل: إن النار طبقات وصفوف مختلفة في شدة العذاب وهوله، فأعملنا الله في هذه الآية أن هذا الصنف من النار التي تتوهج وتتوقد ولا يدخله إلا الذين كذبوا وتولوا عن الإيمان، وثم أصناف من ذلك عذاب النار دون ذلك يدخلها غير هذا(12/8319)
الصنف.
وأقل عذاب النار عذاب أليم، أجارنا الله منها]. وقيل: المعنى: لا يخلد فيها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فهذا [للكفار] بإجماع خاصة. وهذا القول أحسن الأقوال عندي.
وقال الفراء: {الذي كَذَّبَ} معناه: [الذي] قصر عما أمر به، ليس معناه جحد، وهو مثل قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]، أي، تقصير ولا تخلف.
ثم قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} أي: وسيوقى دخول النار وصليها التقي. " فأفعل " في موضع " فعيل ".
ثم وصف التقي فقال: {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي: يعطي ماله في الدنيا يتطهر بذلك من ذنوبه.
ثم قالت: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي: وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يعطي ماله يتزكى به [عند الله] من نعمة يجازيه عليها.(12/8320)
أي: ليس يعطي ما يعطي مجازاة لأحد [على] يد له عنده، ولا مكافأة على نعمة سبقت قبله، لكن يعطي ابتغاء وجه ربه الأعلى و " إلا " في هذا المعنى " لكن ".
وقيل: المعنى: وماله عند أحد من أنفق من نعمة يلتمس ثوابها، فيكون على القلب. وهذا أحد قولي الفراء.
ومثله قول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... [على وعل من ذي المطارة عاقل]
يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ (على) مخافتي. وفيه بعد، لأن كتاب الله لا يحمل على القلب إلا إذا لم يكن حمله إلا عليه.
ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ.(12/8321)
قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما.
قال هشام بن عروة عن أبيه: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفاً فأنفقها، فأنزل الله جل ذكره فيه: {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى}. . . إلى قوله: {يرضى}.
قال ابن جبير: أعتق أبو بكر ناساً ستة أو سبعة لم يلتمس مِنهم جزاء ولا شكوراً. منهم: بلال وعامر بن فهيرة.
وقوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} أي: [ولسوف] يرضى في الآخرة هذا الذي يؤتي ماله يتزكى.(12/8322)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والضحى
مكية
قوله تعالى: {والضحى * والليل إِذَا سجى} إلى آخرها.
أقسم الله جل ذكره بالضحى، وهو النهار كله عند الفراء.
وعند غيره: هو أول (النهار)، قال قتادة: الضحى: " ساعة من ساعات النهار "، والمعنى: ورب الضحى، وخالق الضحى، ونحوه.
وقوله: {إِذَا سجى} قال ابن عباس: {سجى}: أقبل. وعنه أيضاً: " سجى ": ذهب.
وقال مجاهد: {سجى} استوى. وقال قتادة: {سجى}: " سكن بالخلق ".
وقال الضحاك: {سجى}: استقر وسكن. وهو قول ابن زيد.(12/8323)
ثم قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ/ وَمَا قلى}.
هذا جواب القسم، أي: ما تركك ربك يا محمد وما أبغضك.
فالمفعول من " قلى " محذوف.
وروي أن الوحي أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: قد ودع محمداً ربه وقلاه، فأنزل الله جل ذكره: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ/ وَمَا قلى}.
وروى هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له خديجة: أحسب ربك قد [قلاك]، فأنزل الله: {والضحى} إلى آخرها.
وقال ابن عباس: أري النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك، فأنزل الله {والضحى} إلى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} (قال) فأعطاه الله ألف قصر في الجنة، ترابها المسك في كل قصر ما ينبغي (له) من الأزواج والخدم.
ثم قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي: ولنعيم الآخرة خير لك من نكد (الدنيا).(12/8324)
(ثم) قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي: ولسوف يعطيط يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه حتى ترضى.
قال ابن عباس: عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعد، فسر بذلك، فانزل الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}، قال: فأعطاه (الله) ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك، وفيها ما يصلحها.
وعن ابن عباس أنه قال: ما رضي محمد صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أهل بيته النار.
وروى جابر من عبد الله " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بنته فاطمة وعليها كساء (من [جلة]) الإبل وهي تطحن بيدها، فلما رآها دمعت عيناه، قال: يا فاطمة، تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة، فأنزل الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} ".(12/8325)
[وروي عن بعض أن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال]: " ليس في القرآن أرجى من قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}]، ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمته النار ".
هذا معنى قوله المروي عنه.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى}.
أي: كنت يا محمد يتيماً في حجر عمك أبي طالب فجعل الله لك مأوى تأوي إليه، ومنزلاً تنزله.
وقيل: كنت يتيماً فآواك إلى عمك أبي طالب.
{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى}.
أي: ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم فهداك (للذي أنت عليه. وقيل: وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها. وقال الفراء: معناه ووجدك في قوم ضلال فهداك) للإيمان.(12/8326)
وقيل: ضالاً عن الشريعة.
وقيل: ضالاً، أي: منسوباً إلى الضلالة. وقيل: معنى فهدى: فبين أمرك بالبراهين.
ثم قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى}.
أي: فقيراً فأغناك، يقال: عال يعيل عيلة: إذا افتقر، وأعال يعيل: إذا كثر عياله.
وفي مصحف عبد الله: " ووجدك عديماً فأغنى ".
وهذه كلها نعم من الله على النبي صلى الله عليه وسلم يذكه بها وينبهه على شكرها ويعددها عليه ليذكرها.
ثم قال تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ}.
أي: لا تظلمه فتذهب بحقه استضعافاً منك له.
قال قتادة: {فَلاَ تَقْهَرْ}: فلا تظلم. وفي مصحف عبد الله: " فلا تكهر ". وقال الأخفش: هما لغتان بمعنى، وقال غيره: معنى [تكهر]: لا تشدد عليه.(12/8327)
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ}.
أي: وأما من سألك من ذوي الحاجة فلا تنهره، (ولكن أعطه، أو رده رداً جميلاً. قال مجاهد: " فلا تنهر ": فلا تغضبه.
[قال الحسن: ليس سائل الطعام والشراب، ولكنه سائل العلم إذا أتاك، فأنزل الله كيف، ليفهم عنك وتفهم عنه].
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
قال مجاهد: بنعمة ربك فحدث، أي: بالنبوة التي أعطاكها، فاذكره.
قال [أبو نضرة]: " كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها ".
وفي الحديث: " إن الله يجب أن يرى أثر نعمته على عبده ".(12/8328)
فالمعنى: وأما بنعمة ربك يا محمد فحدث الناس بها وأظهرها وأحمد الله عليها، فإن ذلك من الشكر، وهو لفظ خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، ( عام) في جميع أمته.(12/8329)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة أَلَمْ نَشْرَحْ
مكية
قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} إلى أخرها.
هذه ألف استفهام في اللفظ ومعناها التوقيف على النعم والآلاء، والمعنى: ألم نلين لك يا محمد صدرك ونوسعه لك للهدى ووعي الحكمة وقبول الإيمان؟
ومعنى: نشرح: [نفسح] ونوسع.(12/8331)
وروي أنها [لما] نزلت قيل: " يا رسول الله، أينشرح الصدر؟ قال: نعم/ [وينفسح]. قالوا: يا رسول الله، ألذلك علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزول الفوت ".
والصدر محل العلم والقرآن، بدليل قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} [العنكبوت: 49].
والمراد به القلب، لأنه وعاء الفهم (والعلم). ولكن ذكر الصدر لقربه من القلب وامتزاجه به.
ثم قال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}.
أي: وغفرنا لك ما سلف من ذنبك، فحططنا عنك ثقل آثام الجاهلية.(12/8332)
وفي قراءة عبد الله: وحللنا عنك ذنبك.
{الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي: [أثقل] ظهرك وأوهنه.
قال قتادة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ذنوب أثقلته، فغفرها الله عز وجل له، يعني بذلك: ما كان قبل أن ينبأ.
وهو قول ابن زيد.
ثم قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
أي: لا أذكر إلا ذكرت معي. وذلك قول المؤمنين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
قال مجاهد: (وهو) قول المؤذن: أشهد أن لا إله [إلا الله]، وأشهد(12/8333)
محمداً رسول الله.
وقال قتادة: ورفعنا لك ذكر في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني جبريل [عليه] السلام فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت (ذكرك)؟ قال: الله (أعلم، (قال): إذا ذكرت ذكرت معي ".
ثم قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}.
أي: فإن مع الشدة التي) أنت فيها من جهاد قومك رخاء وفرجاً بأن يظفرك الله بهم حتى ينقادوا إلى الحق أو السيف.(12/8334)
ولما نزلت هذه الآية، وبشر النبي صلى الله عليه وسلم ( بها) أصحابه وقال: لن يغب عسر يسرين.
قال الحسن: " قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أبشروا، أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين ".
قال ابن مسعود: " لو دخل العسر في جحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه "، ثم قرأ الآيةز
وإنما كان هذا، لأن العسر (الأول بالألف واللام، ثم كرر كذلك، فهو واليسر نكرة، فلما كرر كان الثاني غير الأول، فصار العسر) واحداً، واليسر يسرين.(12/8335)
وقد قيل: إن معنى التكرير التوكيد.
وقيل: الأول للحال، والثاني للاستقبال.
ثم قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب * وإلى رَبِّكَ فارغب}.
قال ابن عباس: معناه: فإذا فرغت من صلاتك فارغب إلى ربك في الدعاء، وانصب إليه.
وقال مجاهد: معناه: فإذا قمت إلى صلاتك فانصب في حاجتك إلى ربك.
وقال الضحاك: فإذا فرغت من صلاتك المكتوبة قبل أن تسلم فانصب.
[وقال] قتادة: أمره تعالى إذا فرغ من صلاته أن يبالغ في دعائه.
وقال الحسن: معناه: إن الله أمر نبيه إذا فرغ من جهاد عدوه أن يجتهد في(12/8336)
الدعاء والعبادة. وهو قول ابن زيد.
وعن مجاهد أن معناه: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عبادة ربك.
وقال ابن مسعود: فانصب في قيام الليل. فيكون هذا على قوله - منسوخاً بما نسخ قيام الليل.
وقوله: {وإلى رَبِّكَ فارغب} أي: واجعل رغبتك إلى ربك دون من سواه من خلقه.
وعن مجاهد: " وإلى ربك فارغب "، أي: " إذا قمت إلى الصلاة ".
وقيل: معنى الآية: إذا فرغت من فرائضك فانصب في النوافل " وارغب " إلى ربك دون غيره.(12/8337)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والتين
مكية
قوله تعالى: {والتين والزيتون}. . . إلى آخرها.
قال الحسن: هو تينكم هذا الذي يؤكل، وزيتونكم الذي يعصر.
وهو قول عكرمة ومجاهد، وهو اختيار الطبري.
وقال كعب الأحبار: التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس.
وهو قول ابن زيد.(12/8339)
وقال قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: [(الجبل) الذي عليه] بيت المقدس.
وعن ابن عباس أن " التين مسجد نوح، والزيتون مسجد (بيت المقدس ").
وعن عكرمة أنهما جبلان بالشام.
وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد) إيلياء.
والتقدير على جميع هذه الأقوال: ورب التين والزيتون.
وقوله: {وَطُورِ سِينِينَ}.
قال قتادة: طور سينين: مسجد عيسى عليه السلام.
وقال ابن عباس والحسن: هو الجبل، وهو الطور.
وقال عكرمة: الطور: الجبل، " سينين ": حسن في لغة الحبشة.(12/8340)
وقال مجاهد: هو جبل. وكذلك روي عن عمر رضي الله عنهـ.
وعن مجاهد أن " الطور " جبل، و " سينين ": مبارك حسن.
وقاله قتادة: وقال: هو " جبل بالشام، مبارك حسن ".
ويلزم على هذا التأويل/ أن ينوّن طور، [لأنه لا يضاف إلى نعته].
وقيل: {سِينِينَ} هو قوله: " طور سيناء " أتى بلغتين.
والعرب تغير الأسماء الأعجمية.
والطور في اللغة جبل نو النبات، فيكون قد أضيف إلى سنين للتعريف.
[وبعيد] أن يكون " سينين " نعتاً ل " طور ".(12/8341)
وكان الأخفش يقول: " طور ": الجبل، " وسينين ": شجر، [واحده: سينينة].
فكأنه قال: وجبل شجر.
ثم قال تعالى: {وهذا البلد الأمين}.
يعني: مكة، والأمين: بمعنى الأمن، أي: الأمن من أعدائه أن يحاربوا أهله (فيه) أو يغزوهم. وهوقوله:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67].
ثم قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
هذا جواب القسم، والمعنى: لقد خلقنا الإنسان في أعدل خلق وأحسن صورة.
وقيل: معناه: بلغنا به بعد خلقه استواء شبابه وقوته.
وذلك أحسن ما يكون، وأعدل ما يكون، وأقوى ما يكون.
وقال عكرمة: {في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هو " الشاب القوي الجلد ".(12/8342)
وقيل: يعني: بالإنسان (ها) هنا (آدم) في أحسن صورة.
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يعني: الكافر من ولده.
وعن ابن عباس أن معناه أنه خلق معتدلاً مقوماً، وليس شيء من الحيوان إلا خلق منكباً على وجهه إلا الإنسان. وتقدير الكلام: لقد خلقنا الإنسان في تقويم أحسن تقويم، ثم حذف الموصوف وقامت الصفة مقامه.
ثم قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: إلى ارذل العمر من الكبر. [قاله] قتادة والضحاك والنخعي.
وروي أنها نزلت في نفر (كبروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فسفهت عقولهم، فسئل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
أي: لهم أجرهم [الذي] عملوا قبل أن تذهب عقولهم، ومثله جار عليهم(12/8343)
بعد ذهاب عقولهم.
وقال أبو العالية: معناه: ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة، في صورة خنزير. وهو قول مجاهد: والحسن وابن زيد. ويكون الاستثناء على هذا القول معناه: إلا الذين آمنوا فلهم الجنة.
والإنسان: اسم للجنس، فلذلك وقع الاستثناء منه. ويدل على أنه بمعنى الجماعة قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ولو أريد به الواحد لقال: " أسفل سافل ". تقول: " هذا أفضل قائم "، ولا تقول: " أفضل قائمين "، لأن المشار إليه واحد. ولو قلت: " هؤلاء أفضل قائمين " حسن، لأن الأول جمع.
وقال عكرمة: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: أرذل العمر، لكنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. يريد إذا قرأه وهو كبير هرم، فلم يرد إلى أرذل العمر. واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70]. ومن قرأ القرآن فهو عالم بأشياء، فيكون قوله: " أسفل السافلين " على هذا القول الخاص من الناس. ولذلك، استثنى منهم(12/8344)
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم لا يردون إلى أرذل العمر وإن كبروا وهرموا.
وقيل: إن قوله: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ} استثناء منقطع، بدلالة حسن " أن " مع " إلا " وتقديره: إلا (أن) الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم أجر غير ممنون بعد أن [يردوا] (إلى) أرذل العمر، أي: أجرهم جار عليهم على مثال أعمالهم في صحتهم.
قال ابن عباس: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
هو إذا كان الرجل يعمل بطاعة الله جل وعز في شبابه كله ثم كبر حتى ذهب عقله، كتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمل في شيببته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله من أجل أنه مؤمن كان يطيع الله في صحته وشبيبته.(12/8345)
وقال إبراهيم: إذا بلغ المؤمن أرذل العمر، كتب له أحسن ما كان يعمل في شبابه وصحته، فهو قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
وقال ابن عباس أيضاً: معناه: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم تكتب لهم حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وقال: هم الذين أدركهم الكبر. لا يؤخذون بعمل عملوه في كبرهم وهم لا يعقلون.
وروي في معنى هذا الاستثناء أن العبد إذا كان في شبابه كثير فعل الخير، ثم كبر وضعف عما كان يعمل، أجرى الله أجر ذلك العمل عليه تفضلاً منه.
ومعنى: {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: غير منقطع.
وقيل: معناه لا يمن بذلك عليهم.
والأول أحسن.
وقال عكرمةك يوفيهم الله أجرهم ولا يؤاخذهم إذا ردوا إلى أرذل العمر.(12/8346)
وقال قتادة: معناه: أن من أدركه الكبر والهرم وكان يعمل عملاً صالحاً، كان له مثل أجره.
وقال ابن عباس: {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: غير منقوص.
وقال مجاهد وإبراهيم: " غير [محسوب] ". وقيل: غير مقطوع.
وقيل: لا يمن عليهم (به).
ثم قال تعالى: / {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين}.
قال الفراء والأخفش: " ما " بمعنى " من "، والتقدير: فمن يكذبك يا محمد بالجزاء والبعث بعد هذه الحجج والبراهين والآيات؟! وهو اختيار الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على تكذيبك - يا محمد -[بأن] الناس يدانون بأعمالهم ويجازون ويحاسبون.؟!(12/8347)
وقيل: " ما " على بابها. والمعنى: فما شيء يكذبك أيها المكذب؟!
أي: فأي شيء يحملك على التكذيب بالجزاء والبعث بعد ظهور الآيات والبراهين؟! فيكون " يكذب - على هذين القولين - لغير النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول مجاهد، وغيره.
وقال قتادة: عني به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معنى القول الأول أنه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: استيقن - مع جاءك من الله من البيان - أني الله أحكم الحاكمين.
قال ابن عباس: (معناه): أليس الله - يا محمد - بأحكم من حكم؟!
قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله عليه السلام كان إذا قرأ هذا قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ويقول: " بلى " في آخر القيامة، ويقول في آخر " والمرسلات ": آمنت بالله وبما أنزل.
وقال بن جبير: كان يقول: " سبحانك اللهم، وبلى " في آخر " والتين ".(12/8348)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق
مكية
قوله: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} إلى آخر السورة.
أي: اقرأ يا محمد بذكر ربك الذي خلق - ثم بين ما خلق، فقال: {خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ}.
أي: من الدم والمراد: من علقة: " وعلق " جمع " علقة "، فجمع: لأن الإنسان بمعنى الجماعة. ومعنى الباء اللزوم، أي: ألزم القرءاة بذكر ربك.(12/8349)
ثم قال: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} أي: الأكرم من كل شيء.
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا [الصادقة]، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بِحَراء يَتَحَنَّثُ فيه اللَّيَالي ذَواتِ العَدَدِ قبل أن يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ فَيَتَزَوَّدُ لمثلها حَتَّى [فَجِئَهُ] الحقَّ فَأَتَاه، فقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنتَ رسولُ الله. قالَ رسولُ الله: فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتَيَّ وأنا قائِمٌ ثُمَّ رَجِعْتُ يَرْجِفُ فُؤَدِي، ثُمَّ دَخَلْتُ - يريد على خديجة - فَقُلْتُ: زَمِّلُوني، زَمِّلُوني، حتى ذهب عني الروع ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. (قال): فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل،(12/8350)
فتبدى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد، أنا جبرئيل، وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ. قلت: ما أقرا؟
فأخذني [فغطني] ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} فقرأت، فأتيت خديدة فقلت: لقد أشفقت على نفسي، وأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يحزنك الله أبداً. والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتصبر على نوائب الحق. قال: ثم انطلقت بي خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد فقالت: امسع من ابن أخيك. فسألني، فأخبرته خبري. فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ابن عمران. ليتني أكون فيها [جذعاً]، ليتني أكون حياً [حين] يخرجك قومك.(12/8351)
قلت: [أمخرجي هم]؟! قال: نعم، إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عودي. ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن - بعد " أقرأ " - {[ن] والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 - 2]. حتى قرأ (إلى) {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم: 5]، (و) {يا أيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1 - 2].
{والضحى * والليل إِذَا سجى} [الضحى: 1 - 2].
قال مجاهد وعطاء بن يسار وعبيد بن عمير وأبو رجاء [العطاردي]: أول(12/8352)
ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ}، كقول عائشة رضي الله عنهـ.
والرواية أنه إنما عليه من {اقرأ باسم رَبِّكَ} إلى قوله {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}، ثم نزل باقيها بعد:
{يا أيها المدثر} [المدثر: 1] و {يا أيها المزمل} [المزمل: 1].
وقوله: {الذى عَلَّمَ بالقلم} أي: علم خلقه الكتاب والخط.
قال قتادة: القلم نعمة من الله جل وعز عظيمة، لولا ذلك لم يتم أمر ولم يصلح عيش.
ثم قال: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي: علمه الخط بالقلم وغيره، ولم يكن يعلمه.
ثم قال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى}.
قيل: " كلا " ردع ورد، ومعناها: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان! [ينعم] عليه ربه بتسويته خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم ثم يكفر به!
ثم بين كفره من أين أتاه، فقال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى}.(12/8353)
أي: إن الإنسان إذا أحس بالغنى طغى واستكبر وكفر. فيوقف على " كلا " [على] هذا التأويل.
قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا.
فأما طالب العلم فيزداد خيفة. قال الله/: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، وأما طالب الدنيا فيزداد طغيانا. قال الله: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى}.
ويجوز أن [يكون] " كلا " بمعنى: " ألا "، فيبتدأ بها لأن المعنى الذي يكون رداً لم يظهر لفظه في الآية، [فيبعد] أن [تكون] ردا لما (لم) ينص قبلها.(12/8354)
[" ورأى "] هاهنا من رؤية القلب، دل على ذلك [تعدي] [الضمير] إلى المضمر، ولو كان من رؤية العين لم يجز " رآه "، والفاعل هو المفعول.
وإنما كان يقال: " رأى نفسه "، " كضرب نفسه ". والمفعول الثاني [" الرأى "]: " استغنى ".
ثم قال تعالى: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى}.
أي: إن إلى ربك - يا محمد - مرجع هذا الإنسان، فذائق من أليم عقابه ما لا طاقة لا به.
ثم قال: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى}.
روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، وذلك أنه قال: لئن رأيت [محمداً] يصلي عند المقام لأَطَأَنَّ رقبته. وكان ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطي.
فالمعنى: أرأيت يا محمد أبا جهل الذي ينهاك عن الصلاة؟! يعجب نبيه من جهل أبي جهل وجرأته. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
قال قتادة: كان يقال: لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل.(12/8355)
والجواب محذوف (لعلم [السامع]. فالمعنى والتقدير: أرأيت، يا محمد، الذي ينهى عبدا إذا صلى، أمصيب هو، أم هو آمن من العقوبة؟!
والمعنى عند سيبويه: أخبروني عن هذا.
وقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى * أَوْ أَمَرَ بالتقوى}.
أي: أرأيت إن كان محمد على الهدى والرشاد في صلاته لربه، أليس الناهي هالكاً ملعوناً؟!
ثم قل تعالى: {أَوْ أَمَرَ بالتقوى}.
أي: أو أمر محمد هذا الذي ينهاه عن الصلاة [بالتقوى] فلم يقبل منه، أليس هو مالكاً معلوناً؟!
ثم قال تعالى: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى}.
أي: إن كذب أبو جهل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه وأدبر فلم يصدقه.
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى}.
[أي: ألم يعلم] أبو جهل بأن الله يراه فما صنع من نهيه عن الصلاة وتكذيبه وإعراضه عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيخاف أن تنزل به عقوبة من الله؟!(12/8356)
ثم قال تعالى: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ}.
قيل: " كلا " رد وردع، والمعنى: لا يتهيأ لأبي جهل أن يتم له نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاته وعبادته ربه.
وقال الطبري: المعنى: ليس الأمر كما يقول إنه يطأ عنق النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا يقدر على ذلك ولا يصل إلكيه، فيوقف على " كلا " على تقدير التقديرين.
ويجوز أن تكن " كلا " بمعنى " حقاً ". وبمعنى " ألا "، فبيتدأ بها، إذ ليس قبلها لفظ ظاهر تكون رداً له، وإنما يحسن الوقوف عليها إذا كان قبلها لفظ منصوص يحسن أن يكون رداً له. والوقف عند القتبي على " كلا "، وعند أبي(12/8357)
حاتم: " يرى "، وهو الوجه الظاهر.
وقوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} تهدد ووعيد، أي: لئن لم ينته أبو جهل عن أذى محمد {لَنَسْفَعاً بالناصية} أي: [لنأخذن] بمقدم رأسه فلنقهرنه (ولنذلنه).
يقال: سفعت بيده، إذا أخذت بها.
وقيل: معناه: لنسودن وجهه، فاكتفى بذكر الناصية من الوجه، إذا كانت الناصية في مقدم الوجه.
وقيل: معناه: لنأخذن بناصيته إلى النار، كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41].
[واللام] في " لئن ": لام توطئة للقسم، وهي من [لامات] التأكيد.(12/8358)
[واللام] في " لنسفعاً ": لام قسم.
ومعنى " توطئة " أنها تؤذن بإتيان القسم بعدها.
ثم قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي: كاذب صاحبها خاطئ، وهي بدل من الأول.
ثم قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}.
أي: فليدع أبو جهل أهل مجلسه وأنصاره وعشيرته لنصرته.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم [ انتهر أبا] جهل لما نهاه) عن الصلاة، فقال أبو جهل: علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟! فأنزل الله:(12/8359)
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أي: أهل ناديه، فإن دعاهم {سَنَدْعُ الزبانية} (لهم). قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته.
قال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته. قال: فما [فجئهم] منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه.
قال: [فقيل له: مالك]؟! قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار [وهؤلاء].
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا.
قال ابن عباس: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أي: " ناصره ".(12/8360)
وقال قتادة: عشيرته.
والنادي والندي: المجلس.
/والزبانية: ملائكة، وهم عند العرب الشرط، وهو مشتق من " زبنة " إذا دفعة، كأنهم يدفعون الكفار إلى النار. وواحد الزبانية عند أبي عبيدة: زبنية.
وقال عيسى بن عمر واحدهم: زابن.
وقال الأخفش: واحدهم: زباني.
وقال الكسائي: واحدهم: ربني.
قال عبد الله بن أبي الهذيل: " الزبانية أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء ".(12/8361)
ثم قال: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ}.
أي: ليس الأمر على ما يقول أبو جهل في نهيه إياك يا محمد عن الصلاة وطاعة ربك، لا تطعه فيما أمرك به واسجد لربك واقترب منه بالدعاء والعمل الصالح في السجود.
وفي الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، فأكثروا من الدعاء في السجود، فقمن أن يستجاب لكم.
قال مجاهد: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ألم تسمعوا إلى قوله: {واسجد واقترب}.(12/8362)
ويجوز أن تكون " كلاً " بمعنى: " حقا "، وبمعنى: " ألا " فيبتدأ بها. وروى ابن وهب عن رجاله أن أبا جهل كان يقول: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على رقبته، فأمر الله نبيه بالسجود، فقال: {واسجد}، وقال لأبي جهل: " واقترب "، على طريق التهدد، أي: اقترب من محمد إن كنت صادقا في قولك: فقيل لأبي جهل: هذا محمد يسجد، فاقترب منه! فقال: ما أستطيعه، إن بيني وبينه كالفحل، لو اقترتب منه لأهلكني.
هذه رواية ابن وهب، وفيها زيادة تفسير لما روي، وفيها بعض اختصار.(12/8363)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
مدنية
وقيل مكية
قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} إلى آخرها.
أي: إنا أنزلنا القرآن إلى السماء الدنيا جملة [واحدة] في ليلة القدر. فهذا إضمار لم يتقدم له ذكر في السورة، لأنه قد (عرف)، وقيل: إنما جاز ذلك، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة.(12/8365)
وقيل: الهاء تعود على المنزل، ودل " أنزلنا " على المنزل، والمنزل هو القرآن.
وليلة القدر [ليلة] الحكم التي يقضي الله جل وعز فيها قضاء (السنة)، والقدر: مصدر [قدر] الله خيرا فهو يقدره قدراً.
يقال: ليلة القدر والقدر، والتقى القوم على قدر وعلى قدر، وهذا قدر الله وقدَره. وسميت ليلة القدر لتقدير الله فيها ما شاء من أمره.
قال ابن عباس: نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان على السماء الدنيا، فكان الله - جل وعز - إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزل منه حتى جمعه، وقال الشعبي وابن جبير.
(قال مجاهد: {لَيْلَةِ القدر}: ليلة الحكم ".(12/8366)
قال ابن جبير: " يؤذن للحاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ".
قال رجل للحسن: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان؟ فقال: نعم، والذي لا إله إلا هو، إنها لفي كل رمضان، وإنها لللية يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقتضي الله عز وجل كل أجل وكل عمل ورزق وخلق إلى مثلها.
وقيل: إنما سميت " ليلة القدر " على معنى ليلة الجلالة والتعظيم، من قولهم: لفلان قدر.
وقد [تواترت] الأخبار أنها في العشر الأواخر من رمضان، أخفاها الله عز وجل في العشر [ولم يعينها النبي صلى الله عليه وسلم] لئلا يفرط الناس من العمل في غيرها والاجتهاد ويتكلوا على فضل العمل فيها. فهي أبداً في ليلة من العشر الأواخر من رمضان.(12/8367)
وهي تختلف، مرة في [ليلة] سبع، ومرة في ليلة غيرها.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر ".
(وعنه صلى الله عليه وسلم: " فالتموسها في العشر الأواخر)، وفي الوتر منها، أو في السبع البواقي " شك الراوي.
وروى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إلتَمِسُوها فِي العَشْرِ الأَوَاخِِرِ مِنْ رَمَضَانَ، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، أَوْ سَابِعَةٍ تَبْقَى، أَو خَامِسَةٍ تَبْقَى ".
وقال عبادة بن الصامت: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخبرنا(12/8368)
بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال رسول الله: " إني خرجت إليكم وأنا أريد أن أخبركم [بليلة] القدر، فكان بين فلان وفلان لحاء فرفعت، وعسى أن يكون خيرا، فالتموسها في العشر الأواخر في الخامسة والسابعة والتاسعة ".
وقال أبو سعيد الخدري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي التي يخرج فيها من اعتكافه، قال: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها. وقد [رأيتني] أسجد من صبيحتها في ماء/ وطين، فالتمسوها(12/8369)
في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر. قال أبو سعيد: فمطر السماء من تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف. قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين ". وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيساً أن يتوخاها ليلة ثلاث وعشرين ".
وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان متحريها [فليتحرها] في ليلة سبع وعشرين ".(12/8370)
وعن ابن عباس أنه استدل على أنها ليلة سبع وعشرين بقوله: {سَلاَمٌ هِيَ} فهي الكلمة السابعة والعشرون من أول السورة، فكذلك ليلة القدر سبع وعشرين من الشهر، وهذا استدلال فيه نظر إن صح عنه.
وقال كعب: والذي أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم أنها ليلة سبع وعشرين، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أخبر) [لها] بآية فقال: " إن الشمس تطلع غداً تئذ كأنها طست ليس لها شعاع ".
" وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة [أن] تدعوا إذا وافقت ليلة القدر فتقول: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ".(12/8371)
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} أي: وما أشعرك يا محمد أي شيء ليلة القدر، على التعظيم لها.
ثم قال تعالى: {لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
أي: العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر قاله مجاهد وغيره. وهو قول قتادة. وهو اختيار الطبري.
وقال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي. يفعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله في هذه الأمة ليلة القدر خير من ألف شهر، أي: قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل.
وقال الحسن بن علي بن أبي طالب: هي ألف شهر، وليت فيها بنو أمية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهم على المنابر [فهاله] ذلك، فأحصيت ولا يتهم بعد ذلك فكانت كذلك.(12/8372)
وقال بعض العلماء: معناه: خير من ألف شهر رمضان بصومه.
وقال: [قم] ليالي رمضان رجاء إصابة ليلة القدر، فإنها خير من ألف شهر رمضان تصومها.
ثم قال: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم}.
(الروح: جبرائيل عليه السلام، أي تتنزل الملائكة وجبرائيل معهم فيها بأمر بهم) من كل أمر، فيه الآجال [والأرزاق] والأعمال إلى السماء الدنيا. وهذا هو التمام عند كثؤر من النحويين. [وهو] قول الفراء. وقاله نافع.(12/8373)
وقال قتادة: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، قال: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها. فعلى هذا المعنى، / يكون التمام: " من كل أمر ".
وقال ابن عباس: معنى [ذلك]: تنزل الملائكة وجبرائيل معهم في ليلة القدر بإذن ربهم، أي: [نزولهم] بإذن ربهم.
قال ابن عباس: لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه.
وكان ابن عباس: (يقرأ " من) كل امرئ " فيكون معناه: إنهم يتنزلون في ليلة القدر بإذن ربهم من كل ملك لتسلم على المؤمنين والمؤمنات.
(وقال الشعبي: من كل امرئ من الملائكة سلام على المؤمنين والمؤمنات)،(12/8374)
على قراءة ابن عباس.
وقيل: " من " بمعنى الباء، أي: تنزل الملائكة والروح فيها بكل أمر بإذن ربهم.
ومعنى: {سَلاَمٌ هِيَ} - على قراءة الجماعة - سلام من الشر كله ليلة القدر إلى طلوع الشمس.
وقال قتادة: {سَلاَمٌ هِيَ} أي خير هي حتى مطلع الفجر.
قال ابن زيد: " ليس: فيها شر، هي خير كلها] حتى مطلع الفجر. وسلام - على قراءة الجماعة -: خير. هي، على معنى: هي ذات سلامة.
و" سلام " على قراءة ابن عباس مرفوع بالابتداء، وما قبله الخبر.
و" المطلع " بالفتح: المصدر، أي إلى طلوع الفجر.(12/8375)
وحكى الفراء كسر اللام عن العرب وهم يريدون المصدر، كما قالوا " أكرمتك كرامة " يريدون إكراماً، و " أعطيتك عطاء " يريدون إعطاء. ومثله " المشرق " بالكسر يريدون به المصدر، والعرب تقول: شرقت الشمس مشرقاً - بالكسر -، يريدون شروقاً، والأصل فيه الفتح، ومثله المغرب والمنبت [والمجزر] والمسكن والمنسك والمعشر والمسقط.
هذه الأحد عشر [تقال] بالفتح والكسر في المصدر، والفتح الأصل، [لأن ما] كان (على) " فعل يفعل " بالضم، فالمصدر منه واسم المكان " مفعل " (بالفتح).(12/8376)
وقد كان يجب أن يكون اسم المكان بالضم، / إلا أنه ليس في الكلام " مفعل " بالضم، فرد إلى الفتح، لأنه أخف من الكسر، فاستوى المصدر واسم المكان.
والدليل على أن أصل أسم المكان عنه الضم: أن اسم المكان من فعل يفعل بكسر العين مفعل بالكسر، نحو المجلس، إلا أن العرب قد قالت: " مطلع " بالكسر للمكان الذي تطلع فيه الشمس، سماعاً بغير قياس.
وقال بعضهم: " مطل " أيضاً في المصدر بالكسر، والأصل الفتح في ذلك.(12/8377)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة لم يكن
مكية
قوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى آخرها.
معناه: لم يكن الكفار من أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان منتهين عن كفرهم حتى يأتيهم القرآن.
قال مجاهد: معناه: لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق.
وقيل: معناه: لم يكونوا تاركين ما عندهم من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظهر، فلما(12/8379)
ظهر تفرقوا واختلفوا.
وقال عطاء: لم يكونوا زائلين عما هم عليه حتى [يجيئهم] الرسول (فبين لهم ضلالهم.
وقيل: معناه: لم يكونوا متفرقين إلا إذا جاءهم الرسول، لأنهم فارقوا ما كان عندهم من صفة الرسول) وكفروا بعد البيان، فيكون {مُنفَكِّينَ} على هذا من: انفك الشيء [من الشيء]، إذا فارقه، فلا [يحتاج] إلى خبر، وعلى القول الأول - وهو بمعنى زائلين -[فيحتاج] إلى خبر. وإنما عطف " المشركين " على " أهل " ولم يعطفوا على " الذين كفروا " فيرفعوا، لأن المعنى يتغير، فيصير الصنفان كلاهما من(12/8380)
أهل الكتاب الذين كفروا والمشركين، وليس كذلك هما، إنما هما صنفان: كفار من أهل الكتاب ومشركون من عبدة الأوثان، فلا بد من العطف على " أهل "، فبذلك يتم المعنى، ويكون الذين كفروا (من أهل الكتاب) غير المشركين من عبدة الأوثان. ولو رفعت " المشركين " لصار الجميع كلهم من أهل الكتاب، وليس المعنى على ذلك.
وقوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} أي: حتى يأتيهم محمد صلوات الله عليه. وقد بين البينة ما هي، فقال: {رَسُولٌ مِّنَ الله} " فرسول " بدل من " البينة ". وفي حرف أُبي: " رسول " بالنصب على الحال.
وقوله: {يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} هو من نعت " رسول "، أي: يقرأ صحفاً مطهرة من الباطل، [وهي] القرآن.
ثم قال: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: في الصحف كتب من الله عادلة مستقيمة لا خطأ فيها.(12/8381)
ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة}.
أن أمر محمد أنه نبي مرسل إلى [الخلق]، فلما بعثه الله نبياً تفرقوا فيه، فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم، وقد كانوا قبل أن يبعث غير متفرقين في أمره أنه نبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ}.
أي: وما أمر أهل الكتاب إلا ليعبدوا الله وحده مفردين له بالطاعة لا يخلطونها بشرك، فأشركت اليهود بربها فقالت: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30]، وأشركت النصارى [فقالت: {المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
وجحد جميعهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: " حنفاء ": مائلين عن كل دين إلى دين الإسلام. أي: وما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد فكذبوا به إلا من بعدما جاءهم ببيا.(12/8382)
قال ابن عباس: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ}، يقول: حجاجا مسلمين، (يقول): ليحجوا ويقيموا الصلاة [ويؤتوا] الزكاة.
قال قتادة: " [الحنيفية] الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، والمناسك ".
وقال الضحاك: هو الحج.
وأصل الحنف في اللغة: الميل، فقيل للمائل عن الأديان إلى دين الإسلام ميلاً لا خلل فيه: " حنيف " وقد تقدم ذكره.
وقال الفراء: اللام في " ليعبدوا " لام " أن "، وهي لام " كي " عند البصريين،(12/8383)
أي: أمروا بهذا كي يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء.
و" مخلصين " و " حنفاء " نصب على الحال.
ثم قال: {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة}.
أي: وأمروا بإقامة الصلاة المفروضة وإيتاء الزكاة المفروضة، يخلصون فعل ذلك لله لا يريدون به غير الله.
روى ابن وهب - (يرفعه) إلى أبي تمامة - قال: [قال] الحواريون لعيسى: أخبرنا من المخلص لله. قال: الذي يعمل (لله)، لا يحب أن يحمده الناس عليه، قالوا: فمن الناصح لله؟ قال: الذي يبدأ/ بحق الله قبل حق الناس، ويؤثر حق الله على حق الناس، وإذا عرض له (أمران) أمر الدنيا وأمر الآخرة بدأ بأمر(12/8384)
الآخرة، ثم تفرغ لأمر الدنيا.
ثم قال: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة}.
أي: وهذا الذي أمروا به هو دين المهلة المستقيمة ودين الجماعة المستقيمة لا يتم دين الإسلام إلا بذلك.
وهذا نص واضح على أن الإيمان قول وعمل بخلاف ما قاله المرجئة أن الإيمان قول لا غير، وقد قال تعالى: " {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] "، وبين هاهنا أن أقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإخلاص العمل لله هو الدين المستقيم العادل.
ثم قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ}
أي: إن الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ومن عبدة الأوثان كلهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً لا يخرجون ولا يموتون.
{أولئك هُمْ شَرُّ البرية}.
ي: هم شر من خلق الله.
ثم قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}.
[أي]: آمنوا بالله ورسوله من أهل الكتاب وغيرهم وعملوا (الأعمال)(12/8385)
الصالحات مخلصين لله حنفاء، أولئك خير من خلق الله.
قال أنس: " سمعت رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم " وقد تعلق من فضل بني آدم على الملائكة {خَيْرُ البرية}، وغلط في ذلك، إنما معناه: خير البرية ممن برأ الله في الأرض من الجن والإنس، فالملائكة غير داخلين في ذلك، دليله قوله تعالى حكاية عن إبليس إذا قال لآدم وحواء: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ}
[الأعراف: 20]: أتراه قال لهما: أن تكونا [دون] من حالكما؟! فلو كان ذلك ما رغبا في الأكل منها، وإنما أكلاها طمعاً أن يكونا أشرف من حالهما فيكونا ملكين.
وقد قال الله تعالى لنبيه محمد: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50].
أتراه أمره أن ينفي عن نفسه منزلة جليلة، أو منزلة دون منزلته؟! بل ما [نفى] عن نفسه إلا منزلة رفيعة.
وكذلك قال نوح لقومه: {ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، وهو كثير في(12/8386)
القرآن ظاهر في فضل الملائكة على بني آدم.
وقد قال (في قصة عيسى: {وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172]، فإنما ذكر الله أنه لا يستنكف عنه) أن يكون عبداً له المسيح ولا من هو أشرف منزلة منه وهم الملائكة المقربون.
وأيضاً فإن الملائكة صنف من خلق الله، وبنو آدم صنف، فلا يقع التفاضل بين صنفين مختلفين، وإنما يقع التفاضل بين بعض الصنف وبعض.
[ولعمري]، إن هذه المسألة من المسائل التي يكره للعلماء الكلام (فيها)، ولولا ما كثير الكلام فيها ما ذكرتها، ولكان السكوت عنها أحسن من الكلام، لأن الله لم يتعبدنا بذلك، أسأل الله التوفيق والعفو عن [الزلل] بمنه وفضله.
ثم قال: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار}.
أي: ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا [الصالحات] عند ربهم يوم القيامة(12/8387)
بساتين إقامة لا زوال منها ولا انتقال، تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها أبداً لا يخرجون عنها ولا يموتون، {رِّضِىَ الله عَنْهُمْ} [بطاعتهم له]، {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما أعطاهم من النعيم وبما نجاهم منه من العذاب.
ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
أي: هذا الجزاء الذي ذكر ووصف هو لمن خاف الله في الدنيا سراً وعلانية، واتقاه بأداء فرائضه واجتنابه محارمه.(12/8388)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
مكية
قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} إلى آخرها.
العامل في " إذا " قوله (زلزلت)، وهي للشرط، فلذلك عمل فيها ما بعدها. ولو لم تكن للشرط لكانت مضافة إلى الجملة التي بعدها، فلا يجوز حينئذ أن يعمل فيها ما أضيفت إليه، إذ لا يعمل المضاف في المضاف إليه، كما (لا) يعمل بعض الشيء في بعضه، وحسن كونها للجزاء، لأن بعدها فعلاً غير معرب، فصار الجزاء في المعنى دون العمل في اللفظ.
وقوله: {زِلْزَالَهَا} مصدر، (كما) تقول: " أكرمتك كرامتك "، / وأضيف(12/8389)
[المصدر] إلى ضمير لتتفق رؤوس الآي.
والكسائي والفراء يذهبان إلى أن الزلزال مصدر بالكسر، والزلزال بالفتح اسم.
وقد قرأ الجحدري {زِلْزَالَهَا} بالفتح، وكذلك: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11].
والمعنى: إذا زلزلت الأرض، أي: حركت ورجت لقيام الساعة.
ثم قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا}.
أي: ما في بطنها من الموتى فألقتهم أحياء على ظهرها. قال ذلك ابن عباس ومجاهد وابن جبير وغيرهم.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} اي: وقال الكافر: ما بالها؟ ما قصتها؟
وقال الطبري " الإنسان " هنا يراد به الناس، يقولون: ما قصتها إذا زلزلت؟(12/8390)
ثم قال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [أي]: يقول الله جل ذكره لها: قولي: فتقول: إن الله أمرني بهذا وأوحى إلي [ربي] فأخرجت ما في بطني من بني آدم. هذا معنى قول ابن مسعود أنها تتكلم فتقول ذلك.
وكان ابن جبير يقرأ: " يومئذ تبين أخبارها " [على معنى: تبين ما في بطنها فتجعله على ظهرها.
وكان الطبري يختار في معناها: يومئذ تبين أخباره] بالزلزلة والرجة وإخراج الموتى من بطنها إلى ظهرها [بوحي] الله إليها وإذنه لها في ذلك. وهو معنى قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا}.
وقيل: معناه: يومئذ تكون الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها [تحدث] الأرض(12/8391)
أخبار من كان عليها من أهل الطاعة وأهل المعصية وما عملوا على ظهرها في الدنيا من خير أو شر.
قال سفيان {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} " هو ما عمل عليها من خير أو شر ".
قال سفيان: " بأن [ربك] أوحى لها "، أي: أعلمها بذلك.
قال ابن زيد: {وحى}، أي: أوحى إليها.
قال ابن زيد: " تحدث أخبارها " هو " ما كان فيها وعلى ظهرها من أعمال العباد ".
وقال مجاهد: " تخبر الناس بما عملوا عليها ".
ومعنى: {وحى لَهَا}: أفهمها وألهمها.
(ثم قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ}.
(أي): إن ربك) أوحى (لها) ليروا أعمالهم، يرى المحسن جزاء(12/8392)
حسناته، والمسيء عقاب سيآته. يومئذ يصدر الناس من موقف الحساب متفرقين، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار.
فمعنى: {يَصْدُرُ}: يرجع. والعامل في " يومئذ " " يصدر "، والام في " ليروا " متعلقة " بأوحى " على هذا التقدير.
وقال عباد بن كثير: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: " ليروا " [بفتح] الياء، (أي) [ليرى] الناس جزاء أعمالهم.
ثم قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}.(12/8393)
[خيراً] منصوب على البيان أو على البدل من " مثقال ذرة ".
أي: فمن يعمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه في الآخرة.
ومن يعمل في الدنيا وزن ذرة من شر يرى جزاءه في الآخرة.
قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر يعمل خيراً ولا شراً في الدنيا إلا أراه الله إياه. فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته، فيغفر الله له سيئاته ويثيبه على حسناته. وأما الكافر فيرد حسناته ويعذبه على سيئاته.
وقال محمد بن كعب القرظي: من يعمل مثقال ذرة من خير يره، هذا في الدنيا. يعني أن كل كافر يرى الثواب عمله الحسن في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له (عند الله خير، {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}، هذا في الدنيا، يعني أن كل مؤمن يرى عقوبة سيئاته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس عليه) شيء.(12/8394)
وقال أيوب: قرأت في كتاب أبي قلابة قال: نزلت {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وأبو بكر رضي الله عنهـ يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، إني [لراء] ما عملت من خير وشر؟ فقال: أرأيت ما رأيت مما تكره؟ فهو من مثاقيل ذرة (الشر، ويدخر مثاقيل ذرة) الخير حتى يوم القيامة. وتصديق (ذلك) في كتاب الله: " وما أصابكم من مصيبة [بها] كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ".
وقال الشعبي: " قالت عائشة رضي الله عنهـ: يا رسول الله، إن عبد الله بن جدعان كان(12/8395)
في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، ويفعل. . . فهل ذلك نافعة؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
وروى قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن/ حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجازى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، [فإذا كان] يوم القيامة لم تكن له حسنة ".
وروى [سلمان] الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال): " دخل رجل(12/8396)
النار في ذباب، ودخل آخر الجنة في ذباب. قال: مر رجل بقوم ولهم آلهة: فقالوا: أقرب لألهتنا شيئاً. قرب ولو ذباباً، فقرب [ذباباً]، فدخل النار. ومر رجل آخر فقالوا: [ألا تقرب] لآهلتنا شيئا؟ ولو ذباباً؟! فقال: لا، فقتلوه فدخل الجنة ".
وروى نصير عن الكسائي: أنه كان يقرأ (خيراً يره وشراً يره) بضم.
وإنما قال تعالى ذكره: {فَمَن يَعْمَلْ} وهو خبر عما في الآخرة، لأن السامع قد فهم المعنى، ومعناه: فمن عمل. ودل على أن ذلك إنما هو في الآخرة قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ}.
وقيل: إنما جاء " يعمل " بلفظ المستقبل للحث لأهل الدنيا على العمل بطاعة الله [والزجر] عن معصيته.(12/8397)
وروي أن [سلمان] قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف ينفلت ابن آدم ممن ووزن الجبال، وكال المياه، وعد التراب؟!
وقال طاوس: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} من أهل الأديان غير الإسلام، ما عمل منهم أحد مثقال ذرة من خير إلا كوفئ بها في الدنيا في بدنه وماله وأهله حتى يموت وما بقي له مثقال ذرة من خير، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} قال: من المؤمنين [قوم] يكافأون في الدنيا بالمصيبة في أبدانهم وأموالهم وأهليهم حتى يموت أحدهم ما بقي عليه مثقال ذرة من شر، فهذا يجعل الآيتين في المجازاة في الدنيا.(12/8398)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والعاديات
مكية
في رواية مجاهد عن ابن عباس وعنه أنها مدنية.
قوله: {والعاديات ضَبْحاً} إلى آخر السورة.
قال ابن عباس ومجاهد: هي الخيل تعدو وهي [تحمعهم].
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: هي الإبل تغدو من عرفة إلى المزدلفة ومن مزدلفة إلى منى.
وقال محمد بن كعب القرظي: " العاديات ضبحاً " الدفع من عرفة، {فالموريات قَدْحاً} إلى المزدلفة، {فالمغيرات صُبْحاً} تغير حين تصبح، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} هي يوم منى.(12/8399)
[وممن] قال هي الإبل أيضاً: ابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن [عمير].
وقال عكرمة: " والعاديات ضبحاً " الفرس يصبح إذا جرى.
وقال عطاء الخراساني: " ليس شيء من الدواب يضبح غير الكلب والفرس ".
وقال قتادة ومجاهد: هي الخيل تضبح. وهو قول سالم والضحاك. وهو اختيار الطبري، قال: " لأن الإبل (لا) تضبح، إنما تضبح الخيل.
وقال أبو صالح: الضبح من الخيل [الحمحمة]، ومن الإبل التنفس.(12/8400)
قال قتادة: [تضبح] إذا عدت، أي: [تحمحم].
قال الفراء: الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية إلى بني كنانة، فأبطأ عليه خبرها، فنزلت: {والعاديات ضَبْحاً} بخبرها.
فهذا يدل على (أن) السورة مدنية.
وقيل: إن من قال هي الإبل، جعل [الحاء بدلاً] من عين، والأصل " ضبعاً " يقال: ضبعت الإبل.(12/8401)
وقوله تعالى: {فالموريات قَدْحاً}.
قال عكرمة: هي الخيل.
[قال الكلبي]: تقدح بحوافرها حتى يخرج من حوافرها النار.
وقال عطاء: " أورت النار بحوافرها ".
وقال ابن عباس: سألني علي عليه السلام عن " العاديات ضبحا فالموريات قدحا " فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصعنون طعامهم ويورون نارهم.
وعن ابن عباس أن قوله: {فالموريات قَدْحاً}، عنى بذلك مكر الرجال.
وقاله مجاهد، [جعلاه] مثلاً للمكر.
وقال عكرمة: " هي الألسنة ".(12/8402)
وقال عبد الله: هي الإبل تنسف بمناسمها الحصى فتضرب بعضه ببعض [فتخرج] منه النار.
ثم قال تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً}.
قال ابن عباس: هي " الخيل تغير في سبيل الله " وقاله مجاهد وعكرمة.
وقال قتادة: " أغار القوم بعدما أصبحوا على عدوهم ".
وقال إبراهيم: هي الإبل حين يقبضون من جمع.
وكان زيد بن أسلم يتوقف عن تفسير هذه الأحرف ويقول: هي قسم أقسم الله بها.
ثم قال تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}.
الهاء كناية عن الوادي وإن كان لم يتقدم لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وقيل:(12/8403)
عن المكان، والنقع؟ العبار، فقد علم أنه لا يكون إلا في مكان، فأظهر المكان لعلم السامع به. والضمير في " أثرن " للخيل في قول مجاهد وعكرمة. وقال علي عليه السلام: هي الإبل [تثير] الغبار حتى تطأ/ الأرض بأخفافها.
ثم قال تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}.
أي: فتوسطن بركبانهن جمع القوم، قال عكرمة: " جمع الكفار " قال ابن عباس: " (هو) جمع القوم " وقال عطاء: (هو) " جمع العدو ".
وقال مجاهد: " جمع هؤلاء وهؤلاء ".
وقال الضحاك: جمع الكتيبة.(12/8404)
وقال عبد الله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} " يعني مزدلفة ".
وانتصب " ضبحاً "، لأنه مصدر في موضع الحال، وانتصب " قدحاً " على المصدر، وانتصب " صبحاً " على الظرف.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: إن الكافر لنعم ربه لكفور. يقال: أرض كنود: التي لم تنبت شيئاً.
قال ابن عباس: ومجاهد، والحسن وقتادة: الكنود: الكفور.
وقال الحسن: هو الذي يعد المصائب وينسى نعم ربه.
وقال أبو أمامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما الكنود؟ قلنا: [لا]، يا(12/8405)
رسول الله، قال: الكنود: الكفور الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده ".
وعن الحسن أيضاً: الكنود: الأليم لربه، [يعد] المصائب، وينسى الحسنات.
وعنه أيضاً: الذي يذكر المصائب وينسى نعم ربه.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}.
أي: وإن الله على كفر الإنسان لربه لشهيد، أي: شاهد.(12/8406)
ثم قال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ}.
[أي]: وإن الإنسان لحب الدنيا والمال الشديد الحب. وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير فيه: إن الإنسان لربه لكنود، وإنه لحب الخير لشديد، وإنه على ذلك لشهيد.
قال قتادة: هذا من مقاديم الكلام.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور}.
أي: أفلا يعلم الإنسان الذي تقدم ذكره {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور}، أي: أخرج ما فيها من الموتى [وأثير].
يقال: بعثر وبحثر بمعنى، أي [أثير] وأخرج.
وفي مصحف عبد الله: " وبحث ".
قال ابن عباس: " بعثر ": " بحث ".
ثم قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور}.
أي: [بين] وميز.(12/8407)
وقال ابن عباس: " حصل "، (أي): أبرز.
وقال سفيان: " حصل " " ميز "، أي: بين وميز فيها من خير وشر.
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}.
[أي]: بأعمالهم وأسرارهم يومئذ لذو خبر، وعلم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على (جميع) ذلك يومئذ.(12/8408)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
مكية
قوله تعالى: {القارعة * مَا القارعة} إلى آخرها.
القارعة هي الساعة تقرع قلوب الناس من هولها وعظيم ما ينزل بهم من البلاء عندها، وذلك صبيحة ليلةٍ لا ليل بعدها. قال ابن عباس: القارعة: " " من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذره عباده ".
وقوله: {مَا القارعة}، " ما " استفهام فيه معنى التعظيم والتعجب من هولها، يعجب سبحانه عباده من عظم [هولها]. المعنى: أي شيء القارعة يا محمد؟! ما أعظمها وأفظعها وأهولها.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة}.
أي وما أشعرك يا محمد أي شيء القارعة؟! ثم بينها تعالى فقال: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث}.
فالعامل في " يوم " " القارعة "، أي القارعة يومض يكون (الناس) على هذا(12/8409)
الحال. و " القارعة " رفع بالابتداء، " وما " ابتداء ثان.
والقارعة خبر " ما "، والجملة خبر عن " القارعة " الأولى.
وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} " ما " ابتداء أيضاً، و " أدراك " فعل ماضي وضمير مفعول، " ما القارعة " ابتداء وخبر في موضع نصب مفعولاً ثانياً " لأدراك "، والجملة خبر " ما " الأولى.
والفَراش: (هو) ما تساقط في النار وفي السراج، ليس [بذباب] ولا بعوض.
وقال الفراء: هو غوغاء الجراد يركب بعضه بعضاص، [فكذلك] يوم القيامة يجول بعضهم في بعض.
والمبثوث: المنتشر المتفرق.
(وقيل): إنما شبههم بالفراش، لأن الفراش إذا ثار لم يأخذ جهة واحدة،(12/8410)
بل يدخل بعضه في بعض، فشبه الناس - إذا بعثوا وفزعوا واختلف مقاصدهم من الحيرة - بالفراش، فإذا سمعوا الدّاعي استقاموا نحوه، فهم في تلك الحال مشبهون بالجراد. التي تقصد إلى ناحية في طيرانها، وهو قوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7]، فهما صفتان للخلق يوم القيامة في موطنيْن: إحداهما عند. البعث، والأخرى. عند سماع النداء.
ثم قال تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش}.
أي: كالصوف المنفوش.
وفي حرف عبد الله: " كالصوف "، وبه قرا ابن جبير. العهن: جمع عهنة، كصوفة وصوف. وهو عند أهل اللغة: المصبوغ من الصوف.(12/8411)
ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}.
أي: فأما من [ثقل] وزنه وزن حسناته.
قال مجاهد/: ليس ثَمَّ ميزان، وإنما هو (مَثَل) ضُرِبَ. وأكثر الناس على أنّ ثَمَّ ميزاناً توزن به (أعمال) العباد كيف شاء الله وعلى ما شاء. [نقول] كما قال، ونوجب ما أَوْجَب، ونؤمن بما في كتاب الله، ولا نتقدم بين يدي الله، ولا نعترض، ولا نكيِّف ما لا علم (عندنا) منه، ولا نحدّه.
ثم قال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}.
أي: في عيش قد رضيه في الجنة. وتقديره في العربية: فهو في عيشة ذات رضىً، على النسب.
ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}.
أي: وزن حسناته.
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}.(12/8412)
أي: مأواه ومسكنه الهاوية، وهي جهنم. قيل لها الهاوية، لأنه يهوي فيها على رأسه.
قال قتادة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}: هي النار، وهي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد فقالوا: هو أمه.
ويروى أن الهاوية اسم للباب الأسفل من النار نعوذ بالله (منها - وهي) الدرك الأسفل، وأبوابُ جهنم سبعة، بعضها فوق بعض، أولها جهنم، والثاني: لظى، والثالث: الحطمة، والرابع: السعير، والخامس: الجحيم، والسادسُ: سقر، والسابع الهاوية. أعاذنا الله منها.
وروي أن المؤمن إذا مات ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيقولون: (روحوا أخاكم، فإنه كان في غم الدنيا، ويسألونه: ما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جاءكم؟ فيقولون): ذهبوا به إلى أمه الهاوية ".(12/8413)
وإنما جعلت النار أمه، لأنها صارت مأواه كما تؤوي المرأة (ابنها، فصارت) لهم كالأم، إذ لا مأوى لهم غيرها.
وقال الخفش (سعيد): {فَأُمُّهُ}: مستَقَرُّهُ. وقيل: أمه: أصله. وهاوية: بمعنى هالك، وأم الشيء: أصله [ومعظمه].
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}.
أي: وأي شيء أشعرك يا محمد ما الهاوية؟!، ثم بيَّن فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي: هي نار حامية.(12/8414)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكاثر
مكية
قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} إلى آخرها.
أي: ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد (عن طاعة الله حتى).
تعاددتم وتفاخرتم بأهل المقابر.
روي أن بني عبد مناف وسهماً تكاثروا (بالأحياء، فكثر بنو عبد مناف سهماً، ثم تكاثروا) بالأموات، (فكثرتهم سهم)، فأنزل الله جل ذكره: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} [أي]: حتى تعاددتم وتكاثرتم بالموتى.(12/8415)
قال قتادة: كانوا يقولون: (نحكن أكثر من بني فلان، ونحن أعز من بني فلان). وهمي كل يوم يتساقطون - أي: يموتون - قال: فوالله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبول كلهم. وفمعنى {[حتى] زُرْتُمُ المقابر} على هذا) القول: حتى صرتم من أهل المقابر ولم تقدموا عملاً صالحاً.
فالمعنى اشتغلتم بالدنيا والتكاثر من الأموالم فيها حتى متم ولم تقدموا لأنفسكم عملاً صالحاً.
وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر}: ابن آدم: ليس لك من مالك إلاَّ ما أكلت فأفنيْت، أو لبِست فأبليت، أو تصدقت فأمضيتَ.
وقال أبي بن كعب: كنا نرى أن هذا الحديث من القرآن " [لو أن] لابن آدم [واديين] من مال لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلاّ التُّراب، ويتوب الله على(12/8416)
من يشاء، حتى نزلت هذه السورة: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} إلى آخرها.
ثم قال تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
هذا وعيد وتهدد من الله لهم، وفيه دليل على صحة القول بعذاب القبر، لأنه الله أخبر عن هؤلاء القوم أنهم سيعلمون ما يحل بهم إذا زاروا المقابر، أي: إذا ماتوا.
قال علي ابن أبي طالب عليه السلام: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة.
وقوله: " كلا ": أجاز قوم الوقف عليها على معنى: ما هكذا ينبغي أن يلهيكم التكاثر عن الآخرة! والوقف عند أبي حاتم على " المقابر " ويبتدأ " بكلا " على المعنى: " حقاً "، أو بمعنى: " ألا ". والوقف عند محمد بن عيسى على " كلا "، والمعنى عنده: لا ينفعكم التكاثر، ثم يبتدأ: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: سوف تعلمون عاقبة اشتغالكم ولهوكُم في الدنيا عن طاعة الله.(12/8417)
ثم قال تعالى: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
هذا تكرير فيه تأكيد التهدد والوعيد [والتخويف]، وهو قول الفراء.
والقول في " كلا " - في هذا - كالقول الأول.
وقال الضحاك: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} للكفار، {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} للمؤمنين، [يعني] العصاة من المؤمنين.
ثم قال/ تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ.
. .}.
القول في " كلا " كالقول في الأول والاختلاف كالاختلاف. والمعنى: لو تعلمون أيها الناس علماً يقيناً أن الله باعثكم يوم القيامة ما ألهاكم التكاثر عن طاعة ربكم.(12/8418)
قال قتادة: " كنا نحدث أن علم اليقين أن نعلم أن الله باعثه بعد الموت ".
وجواب " لو " محذوف، والتقدير: لو تعلمون أنكم مبعوثون يوم القيامة [فمحاسبون]، لمات [تكاثرتم] في الدنيا بالأموال وغيرها.
قال الكسائي: جواب " لو " في أول (هذه) السورة: لو تعلمون علم اليقين أنكم مبعوثون لما ألهاكم التكاثر.
أي: لترون أيها المشركون نار جهنم يوم القيامة، واللام لام قَسَمٍ.
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين}.
أي: عياناً لا تغيبون عنها. قال ابن عباس: " يعني أهل الشرك ".
ثم قال تعالى ذكره: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم}.
أي: ثم ليسألنكم الله عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه؟ من أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أفنيتموه؟.
قال ابن مسعود ومجاهد والشعبي وسفيان: النعيم هو " الأمن " والصحة ".(12/8419)
وقال ابن عباس: " هو صحة البدن والأسماع والأبصار. قال: يسأل الله عز وجل العباد فيما [استعملوها] وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
[وقال] الحسن: النعيم: " السمع والبصر وصحة البدن ".
وقيل: هو العافية.
وقال [ابن جبير]: هو ما تلذذ به الإنسان من طعام وشراب.
وروي عنه أنه " [أتي] بشربة عسل فشربها وقال: هذا النعيم الذي تسألون عنه.
وقال جابر بن عبد الله: " أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم، فأطعمناهم رُطَباً وسقيناهم ماءً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من [النعيم] الذي تسألون عنه ".(12/8420)
وروى أبو هريرة " (أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم: انطلقوا بنا إلى أبي الهيثم بن [التيهان] الأنصاري، [فأتوه]، فانطلق بهم إلى ظل حديقة فبسط لهم بسطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء (بعِذْقٍ)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا [تنقيت] لنا من رطبه؟ فقال: [أردت أن تَخَيَّروا] من رطبه. [وبسره]. فأكلوا وشربوا من الماء، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده، [إن هذا] من النعيم الذي أنتم مسؤولون عنه يوم القيامة، هذا الظل البارد والرطب البارد عليه الماء البارد " وروي عنه صلى الله عليه وسلم " أنه أكل وهو وناس من أصحابه أكلة من خبز. شعير - يُنخل - بلحم(12/8421)
سمين، ثم شربوا من جدول، فقال: هذه أكلة من النعيم تسألون عنها يوم القيامة ".
وروى ثابت البناني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " النعيم المسؤول عنه يوم القيامة: (كسرة) تقوته، وماء يرويه، وثوب يواريه ".
وقال (أبو) أمامة " النعيم المسؤول عنه يوم القيامة خبز البُرِّ، والماء العذب ".
وقال مجاهد " هو كلّ شيء الْتَذَّ به الإنسان من لذة الدنيا.
وقال قتادة: إن الله جل ذكره (سائل) كل عبد عمّا استودعه من نعمته وحقه. فظاهر الآية العموم في كل ما تنعم به الإنسان.(12/8422)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والعصر
مكية
قوله تعالى: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} ألى آخرها.
قال ابن عباس: العصر: الدهر.
وقال قتادة: العمر ساعة من ساعات النهار، (يعني: العشي).
وقاله الحسن.
وقال الفراء: العَصْر [و] العَصَر: الدهر، وهو قسم. وتقديره: ورب العصر، وخالق العصر، ونحوه.(12/8423)
وقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} جواب القسم.
وقال أبو عبيدة: لفي هلكةٍ ونقصان. وقيل: الخسر: دخول النار، يعني به الكافر. والإنسان اسم للجنس، ولذلك وقع الاستثناء (منه، فقال):
{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}.
أي: وأوصى بعضهم بعضاً (بلزوم العمل بطاعة الله واجتناب معاصي الله. (قال قتادة: " الحق) كتاب الله ".
ثم قال تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}.
ي: وأوصى بعضهم بعضاً) بالصبر على العمل بطاع الله جل وعز.(12/8424)
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ يقرأ: " والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي (خسر)، وإنه فيه إلى آخر الدهر "، وهذه قراءة مخالفة/ للمُصْحف المجمع عليه، فلا يجوز لأحد أن يقرأ بها فيخالف الإجماع، وإنّمَا هي على معنى التفسير. وروى ابن أبي جماد عن أبي بكر عن عاصم: " لفي خُسُر "، بضم السين والخاء.
وروي عن أبي عمرو أنه كان (يقرأ " بالصبِر ")، بكسر الباء، وهذا إنّما يجوز في الوقف على نقل الحركة.
وكان سلام [أبو المنذر] يقرأ " والعصِر "، بكسر الصّاد، وهذا لا يجوز إلا في الوقف أيضاً. (وليس في هذه السورة) تمام إلى آخرها.(12/8425)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الهمزة
مكية
قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} إلى آخرها.
أي: قبوح لكل طغان (في الناس، عيّاب لهم).
وقل: ويل: واد في جهنم يسيل بصديد أهل النار، وقد تقدم [ذكر هذا].
والهمزة: الذي يغتاب الناس ويطغن فيهم.
وقال ابن عباس: هو المشّاء بالنمائم المفرّق بين الناس.
وقال مجاهد: الهمزة: الذي يأكل لحوم الناس، (يعني: يغتابهم). قال: واللمزة: الكافر.(12/8427)
وعنه أيضاً أنه قال: " بالهمزة الطعان، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس.
قال أبو العالية: " الهمزة يهمزه في وجهه، واللمز من خلفه " وقال قتادة ([يهمز] ويلمز بلسانه) وعينه، ويأكل لحوم الناس ويطعن عليهم.
وقال عبد الله بن أبي نجيح: الهمزة باليد والعين، واللمزة باللّسان.
وقال ابن زيد: الهمزة: الذي يهمز (الناس) بيده وقد يضربهم، واللمزة الذي يَلمِزُهُم بلسَانِه ويعيبهم.
وقيل: إنها نزلت في جميل بن عارم الجمحي.
وقيلك في الأخنس بن شريق.
قال ابن عباس: هو مشرك، كان يهمز الناس ويلمزهم.(12/8428)
وقال مجاهد: هي عامة.
ثم قال تعالى: {الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}.
أي: جمعه وأحصى عدده ولم ينفقه في سبيل الله ولا أدى حق الله منه.
وقرأ الحسن: " وعَدَدَه "، بالتخفيف، يريد: عَدَّه، ثم أظهر التضعيف، وهو بعيد، إنما يجوز في الشعر، كما قال:
أَنِي [أَجوَدُ] لأَقْوَامٍ وَإِنْ [ضَنِنُوا]. ... وقيل: إنما قرأ ذلك على معنى: الذي جمع مالاً (وجمع) عدده، [أي]: عشيرته، فيكون عطفاً على المال، وذلك حسن.(12/8429)
ثم قال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}.
أي: يظن هذا الجامع للمال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يخرج حق الله منه.
وقيل: {وَعَدَّدَهُ} من العدة، أي: [اعتد] به ودفعه ذخيرة، ومنه: {أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} [الكهف: 29].
وقيل: (إن) معنى (وعدده)، أي: كثره، يحسب أن ماله مخلده في الدنيا فلا يموت.
ووقع {أَخْلَدَهُ} في موضع " يخلده "، كما يقال للرجل يأتي الذنب الموبق: دخل، والله، فلان النار أي سيدخلها. ويقال للرجل يأتي المرء يهلك فيه: عطب، والله، فلان، أي: سيعطب.
وقيل: إن الفعلَ على حاله ماضياً، والمعنى: يحسب هذا الإنسان أن ماله أحياء في الدنيا فيما مضى من عمره. هذا معنى قول ابن كيسان.(12/8430)
ثم قال تعالى: {كَلاَّ. . .} أي: ليس الأمر ما ظن أن ماله يخلده في الدنيا، وهو التمام عند نافع وأبي حاتم ونصير.
والتمام عند الأخفش: {أَخْلَدَهُ}.
ثم قال تعالى: {لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة} أي: ليطرحن في النار، وهذا قسم.
والحطمة: اسم من أسماء النار، سميت بذلك لحطمها كل ما ألقى فيها، كما يقال للرجل الأكول: حُطَمةُ.
وقيل: الحطمة: اسم للباب الثالث من أبواب جهنم. وهي أبواب بعضها فوق بعضٍ تمضي سُفلاً سفلاً، أعاذنا الله منها.
وقرأ الحسن: " لَيُنْبَذَن] في الحطمة "، يعني به الهمزة اللمزة وماله.
وروي عنه: " لينبذُن "، بالضم، على [معنى] الجمع، يعني به الهمزة واللمزة والمال.(12/8431)
وقيل: يعني به الهمزة واللمزة والذي جمع مالاً.
وفيه بعد، لأن ذلك كله في ظاهر الخطاب يرجع إلى واحد.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة}.
أي: وأي شيء أشعرك يا محمد أي شيء الحطمة؟! ثم أخبر عنها ما هي فقال:
{نَارُ الله الموقدة}.
(أي: هي نار الله الموقدة)، ثم وصفها فقال:
{التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة}.
أي: التي تُبلِغَ ألمها ووجعها القلوبَ. والاطلاع والبلوغ/ قد يكونانن بمعنًى، حكي عن العرب سمَاعاً: متى اطَّلعتَ أرضنا (واطلعتُ أرضي)، بمعنى: بلغت.
قال محمد بن كعب القرظي: تحرقه كله حتى يبقى فؤاده نضيحاً.
ثم قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ}.
أي: إن الحطمة على الهمّازين اللّمازين - الذين جمعوا المال ومنعوا منه حقّ الله - مطقبة.
قال سعيد: بلغني أن في النار رجلاً في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام: يا حنّان يا منّان، فيقول ربّ العزّة تعالى ذكره: يا جبريل، أخرج عبدي من النار،(12/8432)
فيأتيها فيجدها مطقبة. قال: فيرجع فيقول: يارب، إنها عليهم مؤصدة. فيقول: يا جبريل فُكَّها وأخرج عبدي النار، قال: فيفكّها ويخرج مثل الجبل، فيطرح على ساحل الحنة حتى ينبت الله له شعراً ولحماً ودماً.
عَمَد جَمع عمود عند الفراء، ما قالوا: أَدِيمُ وأَدَمُ.
وقيل: هو اسم للجمع وليس يجمع على الحقيقة.
وقال أبو عبيدة: هو جمع عمادٍ.
وقال قطرب: هو جمع لا واحد له.
فأما من قرأ " عُمُد "، بضمتين، فهو جمع عمود على القياس، كعجوز وعُجُز، وكتاب وكُتب، ورغيف ورُغُفٌ. وفعل وفعال أخوا فَعُول.
والمعنى: إن جهنم عليهم مطبقة بعمد ممدة عليهم.(12/8433)
وفي قراءة عبد الله: " موصدة بِعَمَدٍ ممدةٍ، أي: مغلقةٍ مطبقبة بعمد ممدة.
وقال ابن عباس: (معناه) أنهم أدخلوها في عمد فمدت عليهم بعماد في أعناقهم السلاسل فشدت بها الأبواب.
وقال ابن زيد: (في عمد) [من] حديد مغلولين فيها، وتلك العمد (من) نار قد احترقت من النار، فهي نار ممدودة عليهم، وقال قتادة: كنا نحدث أنّها عمد يعذبون بها في النار وهو اختيار الطبري.
وقال أبو صالح: هي القيود.(12/8434)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفيل
مكية
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} إلى آخرها.
قوله: {أَلَمْ تَرَ}: تكون بمعنى التعجب، وتكون بمعنى التفخيم، وبمعنى التهويل والتعظيم.
والعنى: ألم تر يا محمد بعين قلبك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟! وهو مَلك اليمن [أبرهة] الحبشي، وكان تحت يد النجاشي، أتى مع جنده إلى بيت الله الحرام ليخربه، وكان سبب إتيانه ما ذكره ابن إسحاق وغيره في حكاية طويلة أنا أذكر معناها، على اختصار إن شاء الله.
وذلك أن أبرهة بنى [لملك الحبشة] كنيسة بصنعاء، وكان نصرانياً، وسمّاها القليس، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة، ووصفها(12/8435)
ومدحها (له) وقال: إني لست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب، فبلغ ذلك العرب من قول أبرهة، فغضب رجل من العرب لذلك، فذهب حتى أتى الكنيسة فأحدث فيها ثم رجع إلى قومه، فأخبره أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذ؟! فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي يحج إليه بمكة. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف [ليَسيرن] إلى البيت وليهدمنه.
ثم إن أبرهة وجه رجلاً من العرب يدعو العرب لحج الكنيسة التي بنى أبرهة، فقتلته [العرب]، فبلغ ذلك أبرهة فزاده غيظاً [وحنقاً] على البيت وعلى من قتل رسوله من العرب، فحلف ليغزون قاتلي رسوله، - قيل: هم بنو كنانة -، وحلف لَيَهدِمَنَّ البيت.
ثم تأهب (مع) الحبشان وخرج ([لهدم] البيت وغزو بني كنانة. وخرج) معهم بالفيل، فاجتمع عليه بعض العرب لتقاتله وترده عن مذهبه(12/8436)
ومراده فهزمهم أبرهة وأسَرَ رَئِسَهم - واسمه ذو نفر - فأراد قتله ثم تركه [وثقفه] معه، ثم خرج إلي نفيل بن حبيب [الختعمي] في قبيلتي ختعم، فقاتله فهزمه أبرهة وأسره وعفا عنه ولم يقتله.
فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن متعبٍ في رجال ثقيف وطلبوا منه السّلم، فأعطاهم السلام ووجهوا معه أبا رغال، [فخرج معه أبو رغال] حتى أنزله المغمس، ثم مات أبو رغال بالمغمس فدفن هناك، فالعرب ترتجم قبره من ذلك الوقت إلى الآن.(12/8437)
ثم إن أبرهة وجه بخيل إلى نحو مكة، [فاستاقت] له أموال أهل مكة. وكان لعبد المطلب (فيها) [مائتا] بعير، وكان سيد قريش (يومئذ).
فهمت قريش ومن يقرب منهم من العرب [بقتال] أبرهة، ثم علموا أنهم لا طاقة/ لهم به، فتركوا [ذلك].
ثم إن إبرهة وجه إلى مكة يقول [لرئيسها]: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه [لي] بحرب فلا حاجة لي بدمائكم. وأمره أن يأتيه [بالرئيس] إن كان لا يريد حَربه، (فأتى [الرئيس]، وسأل عن [رئيس] القوم فدل على عبد المطلب، فبلغه الرسالة، فقال عبد المطلب: والله، ما نريد حربه)، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله عليه السلام، فإن يمنعه(12/8438)
فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه، فهو الله ما عندنا من دفع عنه.
فقال الرسول لعبد المطلب: (انطلق إلى أبرهة، فإنه قد أمرني أن نأتي بك، فانطلق معه عبد المطلب) ومعه بعض بنيه، فلما أتى عبد المطلب (العسكر، سأل عن ذي نفر - وكان له صديقاً - فسأله عبد المطلب) عن [رأي]- أو أمر -[يشير به]، فما وجَدَ عنده فرجاً، واعتذر إليه بأنه مثقف محبوس، لكنه قال لعبد المطلب إن سائِس الفيل [لي] صديق، [فسأرسل إليه وأوصيه] بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه في ما تريد، ويشفع لك عنده إن قدر.
ثم بعث ذو نفر إلى سائِس الفيل فأوصاه بما وََعَدَ بِهِ عبد المطلب، ففعل(12/8439)
سائس الفيل ذلك، واستأذن له على أبرهة (وعظمه في عين أبرهة) ومدحه، فأذن له أبره - وكان عبد المطلب رجلاً وسيماً عظيماً -، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه، وكان أمر أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة [يجلسه] [معه] على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره وجلس على بساطه وأجسله معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له عبد المطلب: حاجتي أن يَرد علي مائتي بعير، فلما قالها الترجمان لأبرهة، قال أبرهة للترجمان: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدتُ فيك حين كلمتني. [أتكلمني] في مائتي بعير أخذتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وجئت لأهدمه فلا تكمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: (إني [أنا] رب الإبل، وإنّ للبيْت رباً سيمنعه، فقال أبرهة: ما كان ليمنع مني، قال له عبد المطلب: أنت وذاك، ارْدُدْ علي إبلي، فرد عليه إبله وانصرف عبد المطلب إلى قريش، فحذرهم وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعب الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من الحبش.(12/8440)
ثم قام عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يَارَبِّ أَرْجو لَهم سِواكَا ... فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا
إِنّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكاَ ... إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا
ثم ذهب عبد المطلب ومن معه من قريش إلى شعب الجبال يتحرزون فيها وينتظرون ما أبرهة فاعل.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة [وهيأ] فيله وعبر جيشه وهو مجمع على هدم البيت والانصراف إلى اليمن.
فلما وجهوا الفيل - واسمه: مَحْمود - أقبل نفيل بن حبيب [الختعمي] حتى قام إلى جنب الفيل (وأخذ بأذنه) قال: أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وهرب نُفَيل حتى اصعد(12/8441)
في الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى، ثم وجهوه راجعاً إلى اليمن فقام [يُهَرول]، ووجهوه إلى الشّام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فَبَرَك، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، قيل: (كانت) مثل الخطاطيف، أرسلها عليهم من البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار، حجَر في منقاره وحجران في رجليه، كل حجر مثل الحمص أو العدس، [لا تصيب أحداً منهم] إلا هلك.
ولم [تصبهم] كلهم، بل أصابت من شاء الله منهم، فخرجوا هاربين [بتدرون] الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نُفَيْل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أَيْنَ المَفَرُّ والإِلَهُ الغَالِبْ ... والأَشْرَمُ المَغْلوبْ غير الغَالِبْ
فهربوا يتساقطون ويهلكون في كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، فخرجوا به [معهم] [تسقط] أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت [منها] / أنملة أتبعتها مدة بقيح/، ودم حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن(12/8442)
قلبه. وأول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب من ذلك العام، وهو أول ما رئي (من) الشجر [المر] مثل الحنظل والحرمل والعُشَر، فذلك قوله تعالى:
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}، أي: [أدحضه] ومحقه.
ثم قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ}.
أي: متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى.
و {وَأَرْسَلَ} معطوف على معنى {أَلَمْ يَجْعَلْ}، لأن معناه: جعل كيدهم وأرْسَلَ.
قال ابن عباس: {أَبَابِيلَ}: " يتبع بعضها بعضاً ".
وقال الحسن: هي " الكثيرة]. وهو قول قتادة.
وقال غيره: هي المتفرقة.
وقال مجاهد: متتابعة مجتمعة.
وقال الضحاك: ممتابعة بعضها في أثر بعض.(12/8443)
وقال ابن زيد: " الأبابيل: المختلفة تأتي مِن [هاهنا وهاهنا]، أتتهم من كل مكان ".
وقيل: إنها (كانت) بيضاً.
وقيل: كانت سوداً.
وقيل: كانت خضراء لها خراطيم الطير وأكف الكلاب، وهذا قول ابن عباس.
وعنه [أنها] كانت خضراء خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السِّباع.(12/8444)
وقال عبيد بن عمير: هي طير [سود] بحرية في أظفارها [ومناقيرها] الحجارة.
وقال ابن جبير: " هي طير خضراء لها مناقير صفر تختلف عليهم ".
قال الكسائي: سمعت [بعض] النحويين يقولون: واحد الأبابيل: إبَّوْل، مثل عِجَّوْل وعَجَاجِيل.
وقال الرواسي: واحدها: أبالة.
وحكى الفراء (إبالة مخففاً).
وحكى أيضاً إيبالة مثل دينار ودنانير.(12/8445)
وقال المبرد: واحدها: إبّيل، [مثل] سكين.
وقال أبو عبيدة: لم نر أحداً يجعل لها واحداً.
- وقوله تعالى: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ}.
قال ابن عباس: " {مِّن سِجِّيلٍ}: من طين "، وكذا قال عكرمة، كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصابت أحدهم خرج به الجدري، (وكان أول يوم رُئي فيه الجدري).
قال أبو الكنود: " كانت دون الحِمَّصة وفوق العدسة ".
قال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب حجارة منها، فرأيتها(12/8446)
[سوداً] مخطّطَة بحمرة.
قال قتادة: كانت لا تصيب شيئاً إلاّ هشمته.
وقال ابن زيد: {مِّن سِجِّيلٍ} من الشقاء الدنيا، اسمها: سجيل، وهي التي أنزل الله على قوم لوط.
وأنكر الطبري (أن يكون) اسم السماء سجيلاً.
وقيل: سِجّيلٍ: (فعِّيل) من السِّجْلِ، وهو الدلو.
وقال أبو إسحاق: سجيل مما كتب عليهم أن يعذّبوا به، مشتق من السجل وهو الكتاب.(12/8447)
ثم قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}.
ي: فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدواب [فراثته] ويبس وتفرقت أجزاؤه، فَشبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي [حلت] (بهم) [بتفرق] أجزاء [الروث] الذي حدث من أكل الزرع.
وقال مجاهد: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} " كورق الحنطة ".
وقال قتادة: " هو التبن ".
وقال ابن زيد: هو [ورق] الزرع [وورق] البقل إذا أكلته البهائم وراثته.(12/8448)
قال ابن عباس: هو قشر البُر، يعني الغلاف الذي يكون فوق حبة القمح.
فمعنى {مَّأْكُولٍ}: قد أكل ما فيه من الحب.
وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في بطنه [فيبقى] كقشر الحبة إذا بقا بعد خروج الحبة منه، فالتقدير: مَأكول ما فيه، أو مأكول حَبّهُ.
ومن جعله الروث بعينه لم يقدر حذفاً، [لأن] المعنى: فجعلهم كورق قد أكلته الدواب وراثته.(12/8449)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قريش
مكية
قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ} إلى آخرها.
قال الأخفش: اللام متعلقة بمعنى سورة ألم تر يا محمد كيف فعل ربك بأصحاب الفيل لتألف قريش.
وقيل: التقدير: فعلنا بأصحاب الفيل هذا [منا] على أهل البيت وإحساناً إليهم إلى نعمتنا عليهم في رحلتهم الشتاء والصيف، (فتكون اللام في {لإِيلاَفِ} بمعنى " إلى ".
وقيل: التقدير: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف)، وتركهم عبادة رب هذا البيت. وهذا مذهب الفراء.(12/8451)
وقال الخليل بن أحمد: المعنى: لن يؤلف الله قريشاً [إيلافاً] {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} أي: لهذا فليعبدوه فلا تقدير، حذف في هذا القول.
وعن ابن عباس أنه قال في تفسير {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} معناه: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف.
وقوله: {إِيلاَفِهِمْ}، [بدل] من الأول.
وقرأ يزيد بن القعقاع/ " إلفهم " جعله مصدر " ألفه إلفاً ". وكذلك ذكرت أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ.
وعن أبي أنه قرأ: [" إلافهم "]، وهما مصدران للثلاثي على فِعْل وفِعال،(12/8452)
ومثله علم علماً، ولقيه لقاء، وصمت صياماً، وكتبت كتاباً.
وأجاز الفراء " إيلافَهم " بالنصب على المصدر.
وروي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ " لإئلفِ " بهمزتين مكسورة وساكنة، " إئْلفم " كذلك [أيضاً]، أتى بهما على الأصل، وهو بعيد لا يجوز عند كثير من النحويين، وهي لغة شاذة، وهما مصدران لاَلَفَ يُؤلِفُ.
وقد قرأ [ابن عامر] " لإلف "، جعله مصدر ألِفَ إلافاً، مثل: كتب كتاباً، وصام صياماً.
وقوله: {رِحْلَةَ الشتآء والصيف} منصوب " بإيلاف ".
وأجاز الفراء الخفض في {رِحْلَةَ} على البدل من {إِيلاَفِهِمْ}.
[وتقديره]: إيلافِهم إيلافَ رحلةِ.(12/8453)
قال مجاهد في معنى {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [معناه]: " إيلافهم ذلك، فلا تشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف ".
وقال ابن عباس {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}، أي: " نعمتي على قريش ". وقيل: معناه أن الله عجب نبيه من ذلك، فالمعنى: اعجَب - يا محمد - لنعم الله على قريش في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، ثم يتشاغلون بذلك عن الإيمان بالله واتباعك.
ودل على هذا المعنى قوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت}.
قال ابن زيد: معناه: صنعت بأصحاب الفيل ما صنعت لإلفة قريش، أي: لئلا أفرقها، وهذا (هو) قول الأخفش المتقدم. وقال ابن عباس: {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف}، أي: " لزومهم ". وعنه أيضاً (أنه قال): [نهاهم] الله عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيْت وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في(12/8454)
الشتاء والصيف. فلم تكن لهم رحلة (في) شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله جل وعز [بعد ذلك] من جوع وآمنهم من خوف، [فألفوا] الرحلة، فكانوا إذا شاؤوا [ارتحلوا] وإذا شاؤوا أقاموا.
فكان ذلك من نعمة الله عليهم.
قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن، يختلفون إلى هذا في الشتاء، وإلى هذه في الصيف، قال: فقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ} رب هذا البيت، أمرهم أن يقيموا [بمكة].
قال الضحاك: كانوا ألفوا الارتحال في الغيظ والشتاء: إلى الشام في الغيظ، وإلى اليمن في الشتا. وهذا قول ابن زيد أيضاً.
وقال ابن عباس: " كانوا يشتون بمكة، [ويصيفون] بالطائف ".(12/8455)
وقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت}.
قيل: معناه: فليقيموا بمواضعهم ووَطَنهم، فليعبدوا رب هذا البيت وهو الكعبة.
وقيل: معناه أنهم أمرو أن يألفوا عبادة رب مكة كإلفهم الرحتلين، وهو قول عكرمة.
وقوله: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} يعني قريش.
قال ابن عباس: أطعم قريشاً بدعوة إبراهيم عليه السلام (حيث قال): {وارزقهم مِّنَ الثمرات} [ابراهيم: 37].
وقوله: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: وآمنهم مما يخاف غيرهم من العرب من [الغارات] والحروب والقتال، فلا يخافون ذلك في الحرم.
وقال ابن عباس: آمنهم من خوف بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126].(12/8456)
قال مجاهد: " آمنهم من كل عدو في حرمهم ".
قال قتادة: كان أهل مكة تجاراً يعتادون ذلك شتاء وصيفاً آمنين من العرب، وكانت العرب يغير بعضهم على بعض لا يقدرون على التجارة ولا يستطيعونها من الخوف حتى إن كان الرجل من أهل الحرم ليُصاب في حي من أحياء العرب، فإذا قيل حَزمي خُلّيَ عنه وعن ماله تعظيماً لذلك.
قال: وكانوا يقولون: نحن من [حرم] الله، فلا يعرض لهم أحد في حرم الله جل وعز وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج إغير عليه، وهو معنى قول ابن زيد.
وقال الضحاك ومجاهد: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: من الجذام.
وقاله ابن عباس، ولذلك [لا ترى] بمكة ذا جُذَام البتّة.(12/8457)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة أرأيت
مكية
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} إلى آخرها.
يجوز، أن تكون " أرأيت " من رؤية العين، فلا يقدر في الكلام حذف. ويجوز أن يكون من رؤية القلب، فتُقَدّرُ لحذف للمفعول الثاني، والتقدير على ذلك: أرأيت الذي يكذب بالدين بعد/ ما ظهر له من البراهين، أليس مستحقاً عذاب الله؟. . . والمعنى: أرأيت - محمد - الذي يكذب بثواب الله وعقابه؟! فلا تطعه في أمره ونهيه. قال ابن عباس: {الذي يُكَذِّبُ بالدين} أي: بحكم الله جل ذكره. وقال ابن جريج {بالدين}: بالحساب.(12/8459)
[والدين] عند أهل اللغة في هذا وشبهه بمعنى الجزاء، كما قال {مالك يَوْمِ الدين} [الفتح: 4]، أي: يوم الجزاء، ومنه قولهم: كما تدين تدان، أي كما تجزي تجازى.
فالمعنى: أرأيت يا محمد هذا الذي يكذب بالجَزاء فلا يعمل خبراً ولا ينتهي عن شر، فهو الذي يدع اليتيم، أي: يدفعه، لأنه لا ينتظر عقاباً على عَمله ولا جزاء.
ثم قال تعالى: {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} أي: فهذا الذي يدفع اليتيم [عن] حقه ويظلمه.
[يقال]: دعَعْت فلاناً عن حقه، فأنا أدعهُ دعَّا.
قال ابن عباس: " {يَدُعُّ اليتيم}، أي: " يدفَعُ اليتيم.
وقال مجاهد: {يَدُعُّ اليتيم}، أي: يدفع اليتيم فلا يطعمه ".(12/8460)
وقال قتادة: " يقهره ويظلمه ". وقال إبراهيم بن عرفة: يدفع اليتيم عن حقه.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي: لا يحض غيره على طعام المحتاج إلى الطعام.
ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أي: فالوادي الذي يسيل من صديد أهل النار للسّاهين عن صلاتهم الذين يصلون ولا يريدون بصلاتهم وجه الله.
وقال ابن عباس: [هم] الذين يؤخرونها عن وقتها. وهذه رواية تخالف [قول] جميع المفسرين، وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهي من أشد أية نزلت في المصلين على هذا التأويل إن صح. وعن ابن عباس أيضا أنه قال: هم المنافقون، كانوا يراءون (الناس) بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعون(12/8461)
المؤمنين العارية من الماعون بُغْضاً لهم.
وقال مجاهد: {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} هو " الترك لها ". وعنه أنه قال: هم لاهون عنها.
وقال قتادة: هم غافلون لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل.
وقال ابن زيد: " يصلون وليس الصلاة من شأنهم ".
وقال [سعد] بن أبي وقاص: " [سألت] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} فقال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ".
ورَوى [أبو بزرة الأسلمي] " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - لما نزلت هذه(12/8462)
الآية: الله أكبر هذه خير لكم من [أن لو أعطي] رجل منكم مثل جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يخف ربه "
وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال: " عن صلاتهم ساهون " ولم يقل " في صلاتهم ساهون ".
ثم قال تعالى: {الذين هُمْ يُرَآءُونَ} الناس بصلاتهم إذا صلوا، لأنهم لا يصلون رغبة في ثواب، ولا [خوفاً] من عقاب، إنما يصونها ليكفوا الناس عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم، وهم المنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك أكثر أهل التفسير.
ثم قال تعالى {وَيَمْنَعُونَ الماعون}.(12/8463)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: الماعون " الزكاة " وقاله ابن عمر، وقال ابن مسعود: هو المتاع يتعاطاه الناس بينهم. وهو قول ابن الحنيفة وقتادة والحسن والضحاك وابن زيد، وذلك نحو الفأس والقدر والدلو. وقال ابن عباس: " هو متاع البيت. وروي ذلك (أيضا) عن علي رضي الله عنهـ. قال محمد بن كعب: " الماعُونَ: المعروف ". وقال ابن المسيّب: " المَاعُونَ " بلسان قريش: المال ". وحكى الفراء عن بعض العرب أنه قال: المَاعُونَ: الماء. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عمّا لا يحل أن يمنع فقال: " الماء والملح ".(12/8464)
والمَاعُونَ في اللغة من المعْن، وهو الشيء القليل.(12/8465)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكوثر
مكية
قوله تعالى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} إلى آخرها.
قال [ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما]: الكَوْثَرُ نهرْ في الجنة، حافتاه ذهب وفضة يجري على الدر والياقوت، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العَسَل/.
روى أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين عرج به إلى السماء: رأيت نهراً عجّاجاً مثل السَّهْمِ يطرد، أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، حافتاه قباب من در مجوف فقلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا الكَوْثَرُ الذي أعطاكه ربك، (قال): فضربت(12/8467)
[بيدي] إلى حمأته، فإذا هي مسكة ذفرة، ثم ضربت بيدي إلى [رضراضه فإذا هو] در " وقالت عائشة رضي الله عنها: الكَوْثَرُ نهر في بطنان الجنة، قيل لها: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسط الجنة، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه: اللؤلؤ والياقوت.
وعن أنس بن مالك أنه قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم مضى به جبريل عليه السلام في السماء الثانية فإذاهو بنهر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فذهب ليشم ترابه فإذا هو مسك. قال: يا جبريل، ما هذا النُهْر؟ قال: الكوثر الذي خبأ لك وربك. وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكَوْثَرُ: " [الخير الكثير] ".
وقال ابن جبير: النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه.(12/8468)
وعن ابن عباس أيضا أنه قال: الكوثر هو الخير الكثير والقرآن والحكمة.
وقال عطاء: الكَوْثَرُ " حوض في الجنة أُعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر، حافتاه قِباب اللؤلؤ المجوَّف، فقال الملك الذي معي: أتدري ما هذا؟ [هذا] الكوثؤ الذي أعطاك الله، وضرب بيده إلى أرضه فاستخرج من طينه المسك ".
ثم قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر}.
أي: [فحافظ] (على الصلوات المكتوبة) في أوقاتها.
وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلي ثم ينحر. وهو قول قتادة.
وقال محمد بن كعب القرظي: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأنزل الله هذه السورة. فالمعنى عنده: إنا أعطيناك الكوثر يا محمد، فلا تكن صلاتك ونحرك إلا لله.(12/8469)
وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية يوم الحديبية لما صد المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، أتاه جبريل وقال: صل وأنْحر وارجع، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ فخطب خطبة الفطر والنحر، ثم ركع كعتين، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، فذلك قوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر}.
وهذا القول يدل على أن السورة مدنية، وقال الضحاك: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}، أي: ادع ربك وأسأله.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: معنى {وانحر}، ضع اليمين على الشمال في الصلاة.
وروي عنه: ضع اليمنى على الساعد الأيسر على صدرك.
وعنه أيضاً وعن أبي هريرة: يجعل يديه تحت السُّرة. وهذا مذهب الكوفيين.(12/8470)
وقيل: معنى {وانحر} ارفع يديك إذا استفحت الصلاة إلى النحر.
وقال ابن جبير: معناه فصل لربك المكتوبة، وانحر البدن يمنى. وقاله ابن عباس.
وحكى الفراء {وانحر} استقبل القبلة بنحرك.
ثم قال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} أي: إن مُبغِضك يا محمد وعدوك هو الأبتر، أي هو الذي لا عقب له، عني بذلك العاصي بن وائل السهمي.
وقال قتادة: {هُوَ الأبتر} أي: هو الحقير الذليل. قال ابن زيد: قال رجل: إنما محمد أبتر ليس له - كما ترون - عقب، فأنزل الله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر}.(12/8471)
(وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، كان يقول: إنه لا يبقى لنبي صلى الله عليه وسلم ولد وهو أبتر فأنزل الله جل ذكره: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} وقال ابن عباس: " لما قدم كعب ابن الأشرف مكة أتوه - يعني قريشا - فقالوا له: نحن أهل السَّدانة والسقاية، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا [الصُّبُور] [المنبتر] من قومه، (يزعم أنه) [خير] منا، فقال: بل أنتم خير منه، ونزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} قال: وأنزلت عليه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} إلى قوله: {نَصِيراً} [النساء: 51 - 52].
وعن ابن عباس أنها نزلت في أبي جهل قال: والمعنى أن عدوك أبا جهل هو الأبتر.(12/8472)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرين
مكية
قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخرها.
روى المفسرون أن المشركين كانوا قد عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا الله عز وجل سنة/ على أن يعبد نبي الله آلهتهم سنة، فأنزل الله جل ذكره جوابهم {قُلْ يا أيها الكافرون} إلى آخرها.
والمعنى: قل - يا محمد - {قُلْ يا أيها الكافرون} بالله لاَ أعْبُدُ ما تعبُدُونَ من الأصنام والأوثان الآن، ولا أنتم عابدون الآن ما أعبد، ولا أنا عابد في ما [أستَقْبِلُ) ما عبدتم في ما مضى {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} في ما تستقبلون أبداً ما أعبُدُ أنا الآن (و) في ما أستقبل.(12/8473)
وروي أن ذلك نزل في أشخاً بأعيانهم قد علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً، فأمر الله نبيه أن يؤيسهم مما طلبوا وأن ذلك لا يكون منه بد ولا منهم، فلا هو يعبد ما يعبدون أبداً ولا هم يعبدونَ ما يعبد هو أبداً لما سبق في علمه من شقوتهم.
قال ابن عباس: وعد قريش نبي الله عليه الصلاة والسلام أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه من أراد من النّساء، [وقالوا]: هذا لك عندنا يا محمد، وكُفَّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فإنّا نعرض عليك خصلة واحدة [فهي] لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا اللات والعزى (سنة)، ونعبد إلهك سنة. قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: {قُلْ يا أيها الكافرون} إلى آخها وأنزل الله أيضا {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} إلى قوله: {وَكُن مِّنَ الشاكرين} [الزمر: 64 - 66].(12/8474)
قال المبرد: ليس في هذا تكرير، وإنما جهل من قال إنه يكون في اللغة، وإنما المعنى: {قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في هذا الوقف، وكذا {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} وانقضى الكلام، وهو التمام عند أبي حاتم على هذا المعنى.
ومن جعله تكرير للتأكيد كان التمام آخر السورة.
قال المبرد: ثم قال {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: فيما استقبل {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} مثله. وكان في هذا دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن كل من خاطبه بهذه الخطابة لم يسلم منهم أحد، وكذا الذين خَاطَبَهُم بقوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].
وروي أن الوليد بن المغيرة (و) العاصي بن وائل والأسود [بن المطلب، وأمية بن) خلف لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، [هلم]، فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ونشركك في [أمرنا] كله، فإن كان الذي جئت به خيراً(12/8475)
مما في أيدينا كنا قد (شركناك فيه، وأخذنا بحفظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت) قد شركتنا في [أمرنا] وأخذا بحظك منه، فأنزل الله جل ذكره: {قُلْ يا أيها الكافرون} إلى آخرها.
قوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي: لكم دينكم فلا تتركونه أبداً، لأن الله قد قضى (عليكم) ألا تنتقلوا منه وأنتم تموتون عليه، ولي دين لا أتركه أبداً لما (قد) قدر الله علي فيه، فعليه أموت.(12/8476)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
مدنية
قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} إلى آخرها.
العامل في {إِذَا جَآءَ} على ما تقدم في {إِذَا زُلْزِلَتِ}. والمعنى: إذا جاء - يا محمد - نصر الله إياك على قومك {والفتح} أي فتح مكة.
{وَرَأَيْتَ الناس. . .} في صنوف قبائل العرب {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً}، أي: الإسلام الذي بَعَثْتُكَ بِه {أَفْوَاجاً}، أي: زمراً زمراً.
قال ابن عباس: " بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمدِينة إذا قال: الله أكبر، الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، جاء أَهْلُ اليَمَنِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قال: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قلُوبُهُمْ، لَيّنَةٌ [طِبَاعُهُمْ]، الإيمان يَمَانٌ والحِكْمَة يَمَانِيه " [قالت عائشة رضي الله عنها:(12/8477)
" مَا صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صَلاةً بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} إِلاَّ يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ".
وروي عنها " أنه عليه السلام كان يقول ذلك في ركوعه وسجودة يَتَأَوَّلُ القرآن " وسئل عمر عن قوله {والفتح}، فقال: فتح المدائن والحصون، فقال لابن عباس: ما تقول؟ قال: أَجَلْ، هو مثل ضُرِبَ لمحمد، نُعِيَتْ له نفسه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: " كَان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول سبحان اكلله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه. قالت: فقلت: يا رسول الله، أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله واتوب إليه! فقال: خبرني ربي جل ثناؤه أني سألى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها، {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح}، (فتح) مكة {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ".(12/8478)
وقال ابن عباس: سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ عن قول الله {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح}، فقالوا: فتح المدائن والقصور/ قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: فقلت: هو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسهز
وروي عه أنه قال: هذه السورة علم وحد وحده (الله لنبيه) ونعى له نفسه، (أي) إنك لن تعيش بعد هذا إلا قليلاً.
قال قتادة: " والله، ما عاش بعد ذلك إلا قليلاً، سنتين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم ". وهو قول ابن مسعود ومجاهد والضحك ومعنى {واستغفره}: واسأله المغفرة.
{إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
(أي): إن الله لم يزل ذا رجوع لعبده المطيع إلى يجب، وقوله: {واستغفره} وقف كاف عند أبي حاتم.(12/8479)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة تبت
مكية
نزلت هذه السورة في أبي لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي زوجته أم جميل أخت أبي سفيان وعمة معاوية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوج ابنته أم كلثوم من عتيبة ابن أبي لهب، وزوج ابنته رقية من ابن عمه -أبي لهب- عتبة.
فلما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي) أمر أبو لهب وامرأته أم جميل ابنيهما عتيبة وعتبة بطلاق ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم ورقية فطلقاهما وأتى عتبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجفا عليه وشق قميصه، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بان يسلط الله عليه كلبه، فمضى إلى الشام فقتله الأسد فتزوج عثمان رقية وتوفيت عنده، ثم تزوج أم كلثوم فتوفيت عنده، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب، وكان لعبد المطلب عشرة من البنين منهم عبد الله والد(12/8481)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو لهب وامرأته من أشد قريش عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: عتيبة هو الذي أكله الأسد بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعتبة أسلم وأبلى.
قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها.
أي: خسرت يدا أبي لهب، وقد خسر. فالأول [دعاء] والثاني [خبر]، كما تقول: [أهلكه] الله وقد هلك وفي قراءة عبد الله: " وقد تب " ووقع الإخبار والدعاء عن اليدين على طريق المجاز، والمراد صاحبهما، يدل على ذلك قوله: {وَتَبَّ} ولم يقل: وتبتا.
وقيل: هو حقيقة، وذلك أن أبا لهب أراد أن [يرمي] رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله من ذلك، ونزلت: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، فالأولى على الحقيقة لليدين، والثانية لأبي لهب، لأنه إذا خسرت يداه فقد خس هو.(12/8482)
(قال ابن زيد: التب الخسران) قال ابن زيد: قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: وماذا أعطى - يا محمد - إن آمنت بربك؟ قال: ما يعطى المسلمون. قال [فمالي] عليكم فضل! قال: تبًّا وأي شيء [تبتغي]؟ قال: تبا لهذا من دين، (تباً) أن أكون أنا وهؤلاء سواءً، فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، فعلى هذا يكون مجازا، والمرد به عين أبي لهب لاَ يَدَاهُ.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خص عشيرته بالدعوة إذ نزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] فجمعهم ودعاهم وأنذرهم، فقال له أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا، فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
قال ابن عباس: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم [الصفا]، فقال: يا صاحباه، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتكم إن (أخبرتكم) أن العدو(12/8483)
[مصبحكم]) أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال [أبو] لهب: تباً لك: ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخر السورة ".
وكان اسم أبي لهب: عبد العزى، فذلك ذُكَِ بكنيته في القرآن.
وقوله: {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} إن جعلت ما أستفهاما كانت في موضع (نصب) بأغنى، وإن جعلتها نفيا كانت حرفا، وقدَّرْتَ مفعولاً محذوفاً، أي: ما أغنى عنه ماله شيئاً.
والمعنى: ما يغني عنه ماله في الآخرة وفي الدنيا إذا جاءه الموت.
وقوله: {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، يعني ما اقتنى من الموال والأغراض.(12/8484)
وقيل: {وَمَا كَسَبَ} عني به ولده، أي ما أغنى عنه ماله وما ولد. وروى أبو الطفيل أن أولاد أبي لهب جاؤوا يختصمون في البيت، فقام ابن عباس يحجز بينهم (وقد كفّ بصرُهُ)، [فدفعه] بعضهم حتّى وَقَع عَلَى الفِرَاشِ فغَضِبَ وَقَالَ: أَخْرِجُوا عنّي الكَسْبَ الخَبِيثَ.
قال مجاهد: " وَمَا كسَبَ ولده ". وقيل: معناه: وما كسب من مال وجاه.
ثم قال تعالى: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} روي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ " سَيُصْلَى " بضم الياء والمعنى: سَيُقَاسِي حرَّ نارٍ ذاتِ توقُّدٍ وتَلَهُّبٍ.(12/8485)
يقال: صلَيْتُ بالأمْرِ أَصْلَى: إذَا قاسَيْتَ حَرَّهُ وَشِدَّتَهُ، وَصَلَيْتُهُ: شَوَيْتُهُ وفي الحديث " شَاة مَصْلِيَّة أي: مَشْويَّة والمعنى: سيصلى أبو لهب ناراً ذات له وامراته، وجاز العطف على المضمر المرفوع، [لأنه قد فرق] بينهما فقام التفريق مقام التأكيد.
وقوله: {حَمَّالَةَ الحطب} نعت للمرأة وهي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب عَمَّةُ معاوية، نعتت بهذا لأنه قد كان له زوجات غيرها.
وقيل: نعتت به على طريق [التخسيس] [لها] عقوبة لأذَاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن تكون {وامرأته} [متبدأ] و {حَمَّالَةَ الحطب} نعت، وفي {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} ابتداء وخبر في موضع خبر (لامرأة، ويجوز أن يكون(12/8486)
{حَمَّالَةَ الحطب} خبراً " لامرأة " و {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} ابتداء وخبر في موضع خبر ثان، [أو في موضع] الحال.
ويجوز أن ترتفع " حَمَّالةُ الحطب " على البدل من [{وامرأته} وتكون (معنى) الخبر {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} الجملة إن جعلت {وامرأته} [مبتدا].
ويجوز أن يكون {حَمَّالَةَ الحطب} / نكرة [يراد] به الاستقبال على ما سنذكره من قول المفسرين في معناه. ويجوز أن يكون معرفة يراد به الماضي على ما سنذكره من قول المفسرين.
فإن جعلت " المرأة " عطفاً على المضمر في {سيصلى} كان {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} في موضع الحال من المرأة.
ومن [نصب] (حمَّالة) [نصبه] على الذم.(12/8487)
قال ابن عباس: كانت تحمل الشوك فتجره على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليعقره وأصحابه، فلذلك ننعتت " بحمالة الحطب ". وهو قول الضحاك وابن زيد. وقال عكرمة: " كانت تمشي بالنميمة ". وعن مجاهد مثله، وقاله قتادة.
[وقيل إن {حَمَّالَةَ الحطب} تمثيل لأذاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعرب تقول: فلان] يحطب على فلان، أي [يُغْري به] [وَيُؤذِيهِ] فشبه الحطب [بالعداوة].
وقيل: معنى {حَمَّالَةَ الحطب} أي: [الخطايا و] الذنوب والفواحش، كما(12/8488)
يقال: فلان يحطب على نفسه، إذا كان كثير الاكتساب الذنوب.
وقوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أي: في عنقها، والجيد: العُنُقُ.
قال الضحاك: " هو حبل من شجر، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به، [وقاله] ابن عباس. وقال ابن زيد: هي حبال من شجر [ينبت] باليمن يقال لها: مسد.
وقيل: {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}، أي: " حبل من نار في رقبتها ". وقال السدي: المسد: الليف.
وقال عروة: " هو سلسلة من حديد ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ". (وقال سفيان:(12/8489)
" حبل في عنقها من النار مثل طوق طوله سبعون ذراعاً " وعن مجاهد {مِّن مَّسَدٍ} " من حديد ".
وقال عكرمة: {مِّن مَّسَدٍ} هي: " [الحدِيدَةُ] التي في وسط البكرة " وروي ذلك أيضا عن مجاهد.
وقال قتادة: {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}: " [قِلاَدَة] " من ودع.
فمن جعل هذا إخبار عما يكون في النار من حالها كانت {حَمَّالَةَ الحطب} نكرة لأنه يراد به الاستقبال، فلا يحسن أن يكون صفة ل {امرأته}.
ومن جعله بمعنى قد مضى مثل [مشيها] بالنمائم وحَمْلِها الشوك لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ف {حَمَّالَةَ الحطب} معرفة يحسن أن [تكون] صفة ل {امرأته}. والوقف في هذه السورة على مقدار ما تَقَّدَّرَ مما تَقَدَّمَ ذكره من النعت والخبر.(12/8490)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإخلاص
مكية
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها.
والمعنى: الحَدِيثُ الَّذي هو الحقُّ: اللهُ أَحَدٌ، فهو رفع بالابتداء كِنَايَةً عن الحديث، و {الله} مبتدأ و {أَحَدٌ} خبره، والجملة خبر عن {هُوَ}.
ولا يجيز الفراء أن [يكون] {هُوَ} كناية عن الحديث إلا (إذا) تقَدَّمَهُ شيء، وهو عنده كناية عن مُفردٍ الله خَبَرُهُ،. وهو قول الأخفش.
وقال الأخفش: {أَحَدٌ} بدل من لفظ اسم الله. والمعنى: الله [إله](12/8491)
واحد، أي معبود واحد لا معبود غيره تجب له العبادة.
ثم قال تعالى: {الله الصمد}.
{الله} رفع بالابتداء، و {الصمد} نعته، وما بعد ذلك خبر. ويجوز أن يكون {الصمد} هو الخبر.
ويجوز أن يرفع على إضمار ابتداء و {الصمد} نعت، أي: هو الله الصمد، ويجوز على هذا أن يكون {الصمد} خبراً ثانياً، ويجوز أن يكون {الله} بدلا من {أَحَدٌ}.
ويجوز أن يكون {الله} بدلا من {الله} الأول، وفي التكرير معنى التعظيم.
وروي أن اليهود عليهم اللعنة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم ربه عز وجل و (ينسبه) فأنزل الله {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها.(12/8492)
وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بحذف التنوين من {أَحَدٌ}، حَذَفَهُ لالتقاءِ السَّاكنين. وروي عنه أنه إنما كان يفعل ذلك يريد السكوت عليه فإذا وَصَلَ نَوَّن، وَحَسُنَ الوَقْفُ عليه لأه رأس آية.
و {أَحَدٌ} بمعنى واحد.
وقيل: {أَحَدٌ} هنا على بابه، بمعنى: أول، كما يقال: الْيَوُمُ الأَحَدُ، أي اليوم الأول، أي: أول الأيام، وذلك مسموع من العرب.
وقال بعض العلماء: في " أحد " من [الفائدة] ما ليس في " واحد " وذلك إنك إذا قلت: فلان لا يقوم به واحد، جاز أم يقوم به اثنان فأكثر.
وإذا قلت: فلان لا يقوم به أحد، تَضَمَّنَ معنى " واحد " (فأكثر)، [وأَكْثَرُ] ما يقع " أحد " إذا كان للعموم بعد النفي، فذلك بَعُدَ أن يكون " أحد " [هنا] على بابه.(12/8493)
وجعله أكثرهم بمعنى " واحد "، لأن واحداً يقع في الإيجاب، [تقول] مرَّ بنا أحد، أي واحد.
وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي: لم يكن له ولد ولا يكون، ولم يكن هو من والد ولا يكون.
وقيل: معناه ليس بِفَانٍ، لأنه ليس شيء " يَلِدُ إلاَّ وهو فَانٍ {وَلَمْ يُولَدْ} ليس بمُحْدَثٍ، لم يكن فكان، فأن كل مولود فإنما وجد بعد أن لم يكن لكنه جل وعز قديم لا يَبِيدُ وَلا يَفْنَى ليس كمثله شيء.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: تَفَكَّرُوا في كل شيء، ولا تَفَكَّرُوا في ذات الله، فإن بين السماء السابعة [إلى الكرسي] سبعة آلاف نور، والله فوق ذلك.
وروي أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة رب العزة، فأنزل الله عليه هذه السورة جواباً لهم.
وقيل: إن اليهود قالوا اللنبي صلى الله عليه وسلم /: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق اللهَ جل(12/8494)
ثناؤه؟ فأُنْزِلَت هذه السورة جواباً لهم.
وقال عكرمة: إن المشركين قالوا: يا محمد، [أخبرنا عن ربك]، [صف] لنا ربك ما هو؟ ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله جل ذكره {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها.
وقال أبو العالية: [قال قَادَةُ الأحزاب] للنبي صلى الله عليه وسلم: انْسُبْ لنا ربَّك، فأتاه جبريل عليه السلام بهذه السورة.
[وقال] ابن عباس: " دَخلَتِ اليَهُودُ عَلَىَ نَبِيِّ (الله) صلى الله عليه وسلم فقالت: يا محمد، لنا ربَّك [وانْسُبْهُ لنا]، فقد وَصَفَ نفسَه في التوراة ونَسَبَها. فارْتَعَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، فقَال: كَيْفَ تَسْأَلُونِي عَنْ [صِفَةِ] رَبِّي ونَسَبِه؟! وَلَوْ سَأَلْتُمُونِي(12/8495)
أَنْ أَصِفَ لَكُمْ الشَّمْسَ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لَهُمْ: {الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، أي ليس بوالد ولا بمولود، و {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} "، أي: لم يكن (لَهُ) شبيه من خلقه فيوصف به أو ينسب إليه، فهذه صِفَةُ ربي ونَسَبُه.
وروى محمد بن إسحاق عن محمد [عن] سعيد " أن رهطاً من اليهود أَتَوْا إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، اللهُ خَالِقُ الْخَلأْقِ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟ فَغَضِبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم حَتَى [انْتَقَعَ] لَوْنُهُ غَضَباً لِرَبِّهِ، فَجَاءهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَسَكَّنَهُ، وَقَالَ: اخْفِضْ عَلَيْكِ(12/8496)
جَنَاحَكَ - يَا مُحَمَّدُ - وَجَاءَهُ مِنَ الله جَوَابُ مَا سَأَلُوهُ عَنْه، قَالَ: يَقولُ الله - جَلَّ ثَنَاؤهُ - {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها، فَلَمَّا تَلاَ عَلَيْهمُ النَّبيُّ - عليه السلام - السُّورَةَ. قَالُوا: صِفْ لَنَا رَبَّكَ، كَيْفَ خَلْقُهُ؟ وَكَيْفَ عَضُدُهُ؟ وكَيْفَ [ذِرَاعُهُ]؟، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ الأَوَّلِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام - فَقَالَ لهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، وأَتَاهُ بِجَوابِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ".
وقوله: {الصمد}. قال ابن عباس: {الصمد} الذي لا جوف له. وهو قول مجاهد والحسن. وابن جبير والضحاك.
وقال الشعبي: هو " الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ". وقال عكرمة: هو " الذي لم يخرج منه شيء {[لَمْ] يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.(12/8497)
وقال أبو العالية: {الصمد} الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يلد إلا سيورث ولا شيء يولد إلا سيموت، فأخبرهم جل عز أنه لا يورث ولا يموت، وهو قول أبي بن كعب.
وقال [شقيق]: {الصمد}: (السيد) الذي قد انتهى سؤدده.
وقال ابن عباس: {الصمد} السَّيّدُ الذِي قَدْ كَمُلَ [فِي] سُؤْددِهِ وَالشَّرِيفُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالعظِيمُ الذي [قد] كمل فِي عَظَمَتِهِ، والحَلِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي [حِلْمِهِ]، وَالغَنِيُّ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَالجَبَّارُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ، وَالعَالِمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالحَكِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدَدِ، وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ، هَذِهِ صِفَتُهُ،(12/8498)
[لاَ تَنْبغِي] لأَحَدٍ إلاَّ لَهُ.
وقال قتادة: {الصمد} البَاقي الذي لا يَفْنَى، وقال: هذه سورة خالصة ليس فيها شيء من أمر الدنيا والآخرة.
وقال [الحسن]: الصمد الدائم. والصمد عند العرب الذي يصمد إليه، الذي لا [أحد] فوقه.
{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
{كُفُواً} خبر " كان " و {أَحَدٌ} اسمها.
وكان سيبويه يختار أن يكون الظرف خبرا إذا قدَّمَهُ [فيختار] إنَّ فِي الدّارِ زَيْداً جَالِساً، فجعل الظرف خبرا لتقدمه وينصب " جالساً على الحال،(12/8499)
فَخَطَّأَهُ المُبَرِّدُ [بِهَذِهِ] الآية، لأنه (قد) قدم الظرف ولم يجعله خبراً. والجواب عن سيبويه أن [سيبويه] لم يمنع [إلغاء] الظرف إذا [تقدم، إنما اختار أن يكون خبراً ويجوز عنده ألا [يكون] خبراً، [وقد] أشهد شاهداً على [إلغائه] وهو ومقدم، وذلك قول الشاعر:
مَا دَامَ فِيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّا ... وأيضا فإنه (قد) يجوز أن يكون (كفؤاً) حالاً من النكرة [وهي] {أَحَدٌ} لمَّا تَقَدَّمَ نعتُها عليها نُصِبَ لِلْحَالِ، فيكون " [لهُ] " الخبر على مذهب سيبويه(12/8500)
واختياره، ولا يكون للمبرد على سيبويه حجة على هذا القول.
وقال أبو العالية في [معنى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}: ليس] له [مثل] شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء.
وقال كعب: إن الله جل ذكره [أسس] السماوات السبع والأرضين السبع على هذه السورة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} إلى آخرها، وإن الله جل ذكره لم يكافئه من خلقه أحد.
قال ابن عباس: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}: ليس كمثله شيء، فسبحانه هو الله الواحد/ القهار. وقال مجاهد: معناه: ولم تكن له صاحبة. والكفء - في(12/8501)
كلام العرب - الشبيه والمثل.
وقولهم: لا كفاء له، أي لا مثل له، وقولهم: فلان كفء لفلان معناه: نظير له وشبيه. ومنه: كافأت الرجل، أي فعلت به مثل [ما فعل]. ومنه كفأت [الإناء]، أي جعلت (في) موضع الماء [التفريغ]. وكفأت في [الشعر]: جعلت حرفا نظير حرف.
وقرأ سليمان بن علي الهاشمي: ولم يكن له [كفاء] أحد، وهو بمعنى {كُفُواً} "، يقال: كفء [وكفء] وكِفاء وكفء بمعنى [فيجمع] [كفء](12/8502)
[كفء] على أكفاء، ويحمع كفاء وكفئ على أكفيه.(12/8503)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلق
مدنية
قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} إلى آخر ها.
(قال زر: " سألت أُبي بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقاله ابن مسعود بمثله. ومعنى ذلك - والله أعلم - " أنهما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن إثبات " قل " في أولهما، فقال النبي عليه السلام: قيل: لي: " قُلْ أَعوذُ "، فقلت: [أي]: قيل لي: اقرأ {قُلْ أَعُوذُ} فقرأها، بإثبات " قل " على أنها أمر به. وكأنه كان يقال في غير هذه السور(12/8505)
الثلاث: " قل ألَم نشرَحْ "، " قُل إِنّا أنزَلناهُ ".
وقيل في هذه الثلاثة: اقرأ: {قُلْ أَعُوذُ}، اقرأ: {قُلْ هُوَ الله}، هذا بإثبات " قل " في ذلك، وقال أبي بن كعب وابن مسعود: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمعنى: اقرأ - يا محمد - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}.
قال ابن عباس: " الفلق: سجن في جهنم ". قال بعض الصحابة: الفلق بيت في جهنم، إذا فتح هرب أهل النار، [كذا في كتاب عبد بن حميد]. وذكر ابن وهب أن كعباً قال: الفلق بيت في جهنم إذا (فتح) صاح جميع أهل النار ن شدة حره أعاذنا الله منها.(12/8506)
وقال السدي: الفلق جب " في جهنم ". وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال): " الفلق جب في جهنم مغطى ".
وقال أبو عبد الرحمن [الحبلي]: هو جهنم.
وقال ابن عباس والحسن وابن جبير ومحمد بن كعب ومجاهد وقتادة وابن زيد: هو فقل النهار، يريدون فلق الصبح، وعن ابن جبير [أيضاً] أنه جب في النار.
والعرب تقول: هو أبين من فلق الصبح، ومن [فرق] الصبح يعنون الفجر، ويقولون لكل شيء أضاء من الأرض: فلق.
وعن ابن عباس أيضاً: الفلق: [الخلق].(12/8507)
وقوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}، أي: من شر كل ذي شر، أمر الله نبيه أن يتعوذ من شر (كل) ذي شر، لأن ما سواه - تعالى ذكره - مخلوق.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}.
قال ابن عباس والحسن: الغاسق [الليل إذا أظلم].
وقال محمد بن كعب {غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} " النهار إذا دخل [في الليل].
وقال مجاهد: هو الليل [: إذا أظلم، وقال أيضاً]: إذا دخل.
وقال أبو هريرة رضي الله عنهـ: هو " كوكب ".
وقال ابن زيد: كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطاعون يكثران عند سقوطهما ويرتفعان عند طلوعها.(12/8508)
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النجم هو الغاسق ".
وقالت عائشة رضي الله عنها: " أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة، تعوذي بالله من شر غاسق إذا وقب، (هذا غاسق إذا وقب) " وقال الزهري: الغاسق إذا وقب: " الشمس إذا غربت ".
والمعروف في كلام العرب: وَقَبَ بمعنى دخَلَ.
ويقال: غَسَقَ: إذا أظلمَ، فالليل إذا دخل في ظلامه غاسقٌ، وكذا القمرُ إذا دخلَ في المَغيبِ للكسوف وغيره، وكذا النجم، [فالاستعاذة] عامة من [كل] هذا، فهو الظاهر.
ويقال: غَسَقَ إذَا أظلَمَ.
وقال القتبي: {إِذَا وَقَبَ}: هو القمر إذا دخلَ في ساهُوِرِهِ، وهو كالغلاف له،(12/8509)
وذلك إذا خسف. وكلّ شيء أسْوَدُ فهو غَسَقَ.
قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة: الغاسق الليل.
قال الحسن: {إِذَا وَقَبَ}: إذا دخل على الناس.
قال عكرمة: تجلى فيه عفاريت الجنّ.
ثم قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد}.
أي: من شرّ السواحر [اللاتي] ينفثن في الخيط حين [يَرْقِينَ] عليها.
قال ابن عباس: هو (ما) خلط السحر من الرُّقَى.
قال مجاهد: هو " الرُّقى فِي عُقَدِ الخَيْطِ ".
وقال مجاهد: هو نَفْثُ " السواحرِ في العقد ".(12/8510)
ويقال: إنهنّ نساء كنّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سواحر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منهنّ، لأنهنّ يوهمن/ أنهم [ينفعن] أو [يضرّن]، فربما لحق الإنسانَ في دينه مأثم. ويروى أنّ النبيَّ لمّا سُحِرَ عُقِدَ لهُ إحدَى عشْرة عُقْدَةً، فأَنْزَلَ الله جلَّ ذكرُه إحدى [عَشْرَةَ] آيةً بِعَدَدِ العُقَدِ، وهي المَعُوذَتَانِ.
والنَّفْثُ يكونُ بالفَمِ [شَبيهٌ] بالنَّفْخِ، والتَّفْلُ لا يَكُونُ إلاّ معَ الرِّيقِ.
ثم قال: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
قال قتادة: معناه: " من شرِّ عَيْنِهِ وَنَفْسِهِ ".
وقال ابن زيد: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ [يَسْتَعِيذَ] مِنْ شَرِّ اليَهُودِ الّذينَ حَسَدُوهُ، لَمْ يَمْنَعُهُم أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ إلاَّ [حسَدُهُم].(12/8511)
وقيل: هو لَبيدُ بنُ الأَعْصَمِ وبَناتِهِ منَ السَّواحِرِ.(12/8512)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناس
مدنية
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} إلى آخرها.
(المعنى: أقرأ يا محمد: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} فأَثْبَتَ " قُلْ " فِي قَرَاءَتِهِ كما أُمِرَ، أي): قل [يا] محمد، استعيذ برب الناس، وهو الله جل ذكره، {مَلِكِ الناس}، هو الله.
وخص الناس بالذكر وهو تعالى جل ذكره رب جميع الخلق وملِكُهم، لأن بعض الناس كان يُعَظِّم بعض الناس تعظيم المؤمنين ربهم، فأَعْلَمَهُم [الله] أنه رب من [يعظمونه] وملكهم [يجري] عليهم [سلطانه] وقدرته.(12/8513)
ثم قال تعالى: {إله الناس} أي: معبود الناس، لا تجب العبادة لغيره.
ثم قال: {مِن شَرِّ الوسواس الخناس}. أي الشيطان الخناس، يعني الشيطان يخنص مرة ويوسوس (أخرى، فيخنس إذا ذكره العبد ربه، ويوسوس من صدور الرجل) إذا غفل عن ذكر ربه.
فقال ابن عباس: " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل [وسوس]، [وإذا] ذكر الله خنس، فذلك قوله: {الوسواس الخناس} وقال مجاهد: ينبسط الشيطان فإذا ذكر لله خنس وانقبض، فإذا غفل الإنسان انبسط، وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد: يوسوس مرة، (ويخنس مرة) من الجن والانس وكان يقول: شيطان الإنس أشد على الناس من شيطان الجن، لأن شيطان الجن يوسوس (ولا تراه، وشيطان [الانس] يعاينك معاينة).(12/8514)
وعن ابن عباس أن الشيطان يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور النانس حتى يستجاب له إلى ما دعا من طاعته، فإذا [استجيب] له إلى ذلك خنس.
يقال: خنس: إذا استتر، وخنست عنه: تأخرت، وأخنست عنه حقه سترته.
وقوله جل ذكره: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس} قيل: إن {الناس} المتأخر هنا يراد به الجن، وذلك أنهم سموا ناساً ما سموا رجالاً في وقوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن} [الجن: 6].
وحُكِيَ عن بعض العرب أنه قال: جاء قوم [من الجن]، وقد قال الله في مخاطبة الجن لأصحابهم: {ياقومنآ} [الأحقاف: 30] فسموا قوماً [كما يسمى الأنس].
والجنة جمع جنى كما يقال: إنسيّ وإنس، والهاء لتأنيث الجماعة مثل: حجار وحجارة.(12/8515)
وقال علي بن سليمان: قوله {والناس} (معطوف) على {الوسواس}، والتقدير: قل اعوذ برب الناس من الوسواس والناس، فيكون {الناس} على هذا القول يعني به الإنس.
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} (ثم) يمسح (بهما) ما استطاع (من جسده) يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. صلى الله عليه وسلم ( وشرف وكرم ومجد).(12/8516)
في فضل أسماء القرآن وصفاته
وهذه أسماء القرآن وصفاته:
القرآن: جامع جميع [كتب] الله جل وعز.
وهو الفرقان، سمي بذلك لتفريقه بين الحق والباطل، وقيل: لتفريقه في
نزوله. (وهو المثاني، سمي بذلك [لتكرر] القصص والأمر والنهي [فيه] [ليكون
أوعى لمن سمعه]، وأبلغ في [نقله] إذا نقل إلى [الآفاق].
وهو الكتاب كما قال: (الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ).(12/8517)
وهو الذكر كما قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)، وسمي بذلك، لأنه اذكار من الله لخلقه بما ينفع ويضر، وهو مصدر: ذكرته ذكراً. [وللقرآن] أسماء هي صفات، / وذلك الهدى والموعظة والرحمة [والبيان والتبيان، وهو البشير النذير]، وهو من صفته العزيز، لأنه لا يقدر أحد على أن يبطله ولا يأتي بمثله.
ومن صفته: الحكيم، لأنه يحكم، الناس، يردهم إلى الحق من قولهم: حكمت الدابة باللحام، إذا ردعتها عن أخذها غير القصد، ومنه حكمة الدابة.
ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المحكم.(12/8518)
ومن صفاته: المهيمن، سمي بذلك، لأنه شاهد على الكتب مصدق (لها)، يقال: هيمن يهيمن، إذا شهد
ومن صفاته: بلاغ، سمي بذلك، لأنه يكفي من غيره.
ومن صفاته: (الشفاء) لأنه يبرىء من الكفر.
ومن صفاته: المجيد، لشرفه على سائر الكلام.(12/8519)
خاتمة الكتاب
قال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي المقرىء - رضي الله عنه -: قد أتينا -بعون الله جل ذكره- في هذا الديوان على ما شرطناه على أنفسنا في أوله حسب الطاقة ومبلغ الجهد وغاية المقدرة وعلى قدر ما تذكرته في وقت تأليفنا له واهتدينا إلى مواضعه من كتب مَن تقدَّمنا، ولسنا ننكر أن يكون قد فاتنا الكثير من المنصوص عليه وغفلنا عن تذكر أشياء قد حفظناها عند تأليفنا فأنسيناها عند تصنيفه. والكمال (لله جل ذكره، وعلوم كتاب الله جل ذكره اعظم واجل من أن يحصيها محص ويبلغ) غايتها مدع أويتناها في علم ظاهرها وباطنها متناه.
وإنما ذكرنا في كتابنا هذا قدر ما فهمنا ووصل إلينا وعلمنا وروينا مما تذكرناه في وقت تأليفنا له واهتدينا إلى موضع نصه عند تصنيفنا له، ولسنا ننكر أن يغيب عنا من فهمه وعلمه كثير مما وصل إلى غيرنا وأن يكون قد غاب عن ذلك الغير كثير مما وصل(12/8521)
إلى فهمنا وعلمنا، ففوق كل ذي علم علم عليم، حتى يبلغ الغاية في العلم إلى العالم القدير عالم الخفيات، لا إله إلا هو العليم الحكيم. وقد تعمدنا الأختصار في ذلك الإعراب على ما شرطنا لئلا يطول الكتاب وكنا قد ألفنا كتاباً في شرح مشكل الإعراب، فلم نحتج إلى تكريره في هذا الكتاب إلا الشيء اليسير النادر لم يمكن إلا ذكره فذكرناه مختصراً.
فرحم الله عبداً ترحم علينا وعلى جميع المسلمين، ودعا لنا بالمغفرة. وأنا أرغب إلى الله ذي القدرة والعزة والجبروت والعظمة (أن ينفع بذلك) ويجزل عليه الأجر، وأن يجعله لوجهه خالصاً وأن يجيرنا ويعيذنا -فيما سعينا فيه- من الرياء والسمعة والتزين به عند الناس وأن يغفر لنا ما وقع من ذلك في أنفسنا، وأن لا يؤاخذنا بخطيئة قبح عندنا [فعلها] وكرهنا العودة إلى مثلها وأن لا يؤثمنا لما وقع منا من غلط أو سهو في هذا الكتاب، فهو القادر على ذلك لا إله إلا الله. ثم صلى الله جل ذكره أولاً وآخراً على محمد النبي وعلى أهله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة كلهم أجميعن، ثم إليه جل ذكره أرغب في المغفرة والعفو لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات.(12/8522)