وأجاز الفراء وأبو عبيد أن ينتصب على إعمال " لأملأن "، كأنه قال: لأملأن جهنم حقا. ومنعه غيرهما لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها، ولا يجوز عند أحد: زَيْداً لأَضْرِبَنَّ. ومن رفع " فالحقُ " فعلى الابتداء، والخبر محذوف، أي: فالحق مني. أو على إضمار مبتدأ، أي: فأنا الحق. ويجوز أن يكون خبره " لأملأن ".
وأجاز الفراء " فالحقُّ " بالخفض على حذف القسم كما تقول: الله لأفعلن، وأجازه سيبويه، وقيل: الفاء بدل من حرف القسم، قال مجاهد: معناه: أنا الحق والحق أقول.
وقال ابن جريج: الحق مني والحق أقول.(10/6290)
وقال السدي: " هو قسم أقسم الله به ".
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ}، أي: من نفسك ومن ذريتك، وممن تبعك من بني آدم كلهم.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: قل يا محمد لمشركي قومك: ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن ثواباً وجزاءً.
{وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين}، أي: ممن يتكلف القول من عند نفسه ويتخرصه.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}، أي: ما هذا القرآن الذي جئتكم به من عند الله إلا ذكر من الله يتذكر به جميع الخلق من الجن والإنس.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ}، أي: ولتعلمن يا قريش وغيرهم من المشركين خبر هذا القرآن وحقيقته وما فيه من الوعد والوعيد يوم القيامة.
قال ابن زيد: نَبَأَهُ، أي: صِدقَ ما جئتكم به من القرآن والنبوة.
قال قتادة: بعد حين: " بعد الموت ".
قال الحسن:: ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين "، وعن السدي: بعد حين: يوم بدر، قال ابن زيد: بعد حين: " يوم القيامة ".(10/6291)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة إذ المدينة، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يطيق أن ينظر إليه فتوهم أن الله، - عز وجل - لم يقبل إيمانه، الله تعالى فيه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر الثلاث الآيات.
قوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} - إلى قوله - {بِذَاتِ الصدور}.(10/6293)
" تنزيل " رفع بالابتداء، والخبر " من الله ".
ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، أي هذا تنزيل الكتاب.
وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه مفعول به، أي: اقرؤوا تنزيل واتبعوا كتاب الله تنزيل. وعلى الإغراء مثل: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، أي الزموا كتاب الله.
والمعنى: الكتاب الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو: من الله العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبيره.
ثم قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق}، أي: أنزلنا إليك القرآن بالعدل.
روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: فصل القرآن من الذكر، يعني اللوح المحفوظ. قال: فوضع في بيت العزة في سما الدنيا، فجعل جبريل ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم تنزيلاً.
قال سفيان: خمس آيات ونحوها، ولذلك قال تعالى:(10/6294)
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] (يعني نجوم) القرآن.
قال أبو قلابة: نزل القرآن لأربع وعشرين ليلة من شهر رمضان، والتوراة / لست، والإنجيل لاثنتي عشرة.
ثم قال: {فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي: فاخشع لله بالطاعة وأخلص له العبادة ولا ترائي بها غير الله.
روي أنه يؤتى بالرجل يوم اليامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات، فيقول رب العزة تبارك وتعالى: أَصَلَيْتَ يوم كذا وكذا ليقال: صلى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص.
أتصدقت يوم كذا وكذا ليُقال تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص. فما يزال يمحو بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء فيقول ملكاه:(10/6295)
يا فلان: الغير الله كنت تعمل؟.
قال السدي: الدين هنا التوحيد.
وروى أبو هريرة " أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء الذي أريد به وجه الله وثناء الناس (!) فقال النبي: " وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَقْبَلُ الله تَعَالى شَيْئاً شُورِك فِيه، ثُمَّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} ".
قال قتادة: إلا لله الدين الخالص: شهادة إلا إله إلا الله.
ثم قال: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}، أي: من دون الله آلهة يتولونهم ويعبدونهم من دون الله يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} أي: قُرْبَة شفاعتهم لنا.
وفي قراءة أبيِّ: " ما نعبدكم ". وفي قراءة ابن مسعود: " قالوا ما نعبدهم ".(10/6296)
قال مجاهد: قريش تقوله للأوثان. قال قتادة: قالت قريش: ما نعبدهم إلا ليشفعوا لنا عند الله، وهو قول ابن زيد.
ثم قال: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، أي: يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من عبادة الأوثان.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، أي: لا يهدي إلى الحق من هو مفتر على الله الكذب كافر لنعمته.
ثم قال: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}، أي لو أراد الله اتخاذ ولد - ولا ينبغي له ذلك - لاختار من خلقه ما يشاء.
{سُبْحَانَهُ}، أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد.
{هُوَ الله الواحد}، أي: المنفرد بالألوهية، لا شريك له في ملكه. {القهار} لخلقه بقدرته.
ثم قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق}، أي ابتدع ذلك بالعدل.
{يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} قال ابن عباس: يحمل هذا على هذا (وهذا على هذا).
وقال قتادة: يغشي هذا على هذا.(10/6297)
وقال السدي: يذهب هذا بهذا وهذا بهذا، هو قول ابن زيد.
وقال أبو عبيدة: هو مثل: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} [الحج: 61].
وأصل التكوير في اللغة: اللف والجمع.
ثم قال تعالى ذكره: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر}، أي: سخر ذلك لعباده ليعلموا عدد السنين والحساب، ويتصرفوا في النهار لمعايشهم ومصالح أمورهم، ويسكنون في الليل.
ثم قال: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى قيام الساعة فتكور الشمس وتنكدر النجوم.
وقيل: المعنى: إن لكل واحد منازل لا يعدوها في جريه ولا يقصر دونها.
ثم قال تعالى: {أَلا هُوَ العزيز الغفار}: أي: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه بهذه النعم هو العزيز في انتقامه مما عاداه، الغفار لذنوب التائبين من عباده.
ثم قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، أي: من آدم عليه السلام وخلق حواء من ضلعه.(10/6298)
وإنما ذكر الخلق قبل حواء وهي قبلهم في الخلق، لأن العرب ربما أخبرت عن رجل بفعلين. فترد الأول منهما على المعنى " بثم " إذا كان من خبر المتكلم يقال: قد بلني ما كان منك اليوم ثم بما كان منك أمس أعجب.
وقيل معناه: " ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جل ذكره لما خلق آدم مسح ظهره وأخرج كل نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة ثم أسكنه بعد ذلك الجنة، (فخلق بعد ذلك) حواء من ضلع من أضلاعه ".
وقيل المعنى: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها. ثم قال(10/6299)
تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهي المفسرة في سورة الأنعام: الإبل والضأن والمعز والبقر كل زوجين ذكر وأنثى.
وإنما أخبر عنها بالنزول، لأنها إنما نشأت وتكونت بالنبات، والنبات إنما نشأ وتكوّن بالمطر، فالمطر هو المُنْزَلُ، فأخبر عما اندرج وتكوّن منه بالإنزال. وهذا من التدريج وله نظائر كثيرة، ومنه قوله: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً}
[الأعراف: 26] فاللباس لم ينزل لكنه تكوّن عما نبت بالمطر الذي هو مُنْزَلٌ، فسمي ما تكوَن عن المطر: منزل.
ثم قال {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ}، / أي: يبتدئ خلقكم في بطون أمهاتكم نطفه ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، هذا قول جماعة المفسرين إى ابن زيد فإنه قال: معناه: يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد الخلق الأول في الأصلاب.
وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ}، يعني به ظُلْمَةُ البطن وظلمة الرحم وظلمة(10/6300)
المَشِيمَةِ، هذا قول جميع المفسرين إلا أبا عبيدة فإنه قال: هي ظلمة الصلب ثم ظلمة الرحم ثم ظلمة البطن.
ثم قال: {ذلكم الله رَبُّكُمْ} ذا: إشارة إلى اسم الله جلّ ذكره، والكاف والميم للمخاطبة.
والمعنى: الذي فعل هذه الأشياء الله ربكم لا الأوثان التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع.
{لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ}، أي: لا ينبغي أن يكون معبوداً سواه، له ملك كل شيء.
{فأنى تُصْرَفُونَ}، أي: كيف تُصْرَف عقولكم عن هذا ومن أين تعدلون عن الحق بعد هذا البيان.
ثم قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ}.
قال ابن عباس: هو خاص (عنى به الكفار الذين) لم يرد الله أن(10/6301)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
يطهر قلوبهم.
وقوله: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر}، أي: لعباده الذين أخلصهم لطاعته وحبّب إليهم الإيمان.
وقيل: هو عام للجميع وهو الاختيار، إذ ليس يرضى الله الكفر لأحد من خلقه.
فإن جعلت " يرضى " بمعنى: يريد حسن القول الأول، وفيه نظر.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}، أي: إن تطيعوه يرضه لكم.
ثم قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}، أي: لا يحمل أحد ذنباً عن أحب، ولا يؤخذ أحد بذنب أحد.
ثم قال تعالى {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ}، أي: مصيركم إليه في الآخرة فيخبركم بما كنتم تعلمون في الدنيا من خير وشر فيجازيكم عليه، ولا يخفي عليه من أمركم شيء.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}، أي: عليم بما أضمرتم في الصدور وغير ذلك مما ظهر وبطن، فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم بل يجازيكم بها: المحسن بالإحسان، والمسيء بما يستحقه ويجب عليه.
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} - إلى قوله - {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.(10/6302)
أي: إذا مس الإنسان ضرّ في بدنه أو شدة أو ضيق استغاث بربه الذي خلقه في كَشْفِ ما نَزَلَ به، تائباً إليه مما كان عليه قبل ذلك من الكفر والشرك. قال قتادة: منيباً إليه: مخلصاً.
وقوله {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ}، أي: أعطاه عافية وفرجاً مما نزل به.
يقال لمن أعطي غيره عطية: قد خوّله كذا وكذا.
وقوله: {نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ}، أي: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به، و " ما " والفعل مصدر، والمعنى: ترك كون الدعاء منه إلى الله عز وجل. ومن جعلها بمعنى " الذي " جعل " ما " لمن يعقل فيكون لله سبحانه.
والمعنى: ترك ما كان يدعو الله من قَبْلِ كَشْفِ الضُّر عنه.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً}، أي: شركاء. قال السدي: هذا كله في الكافر خاصة.(10/6303)
قال السدي: الأنداد هنا من الرجال يطيعونهم في معاصي الله جلّ ذكره. وقيل: الأنداد: الأوثان.
ثم قال: {لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} من ضم الياء، فمعناه: فعل ذلك ليزيل الناس عن توحيد الله سبحانه والإقرار به والدخول في دينه، ومن فتح الياء، فمعناه: ليَضِلَّ في نفسه عن دين الله سبحانه.
والتقدير: إنه لما كان أمره لعبادة الأوثان يؤول إلى الضلال كان كأنه إنما فعل ذلك ليصير ضالاً. وقد تقدم شرح هذا بأبين من هذا.
ثم قال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار}، أي: قل يا محمد لهذا الكافر (لنعم الله) تمتع بكفرك إلى أن تستوفيَ أجلك إنك في الآخرة ما الماكثين في النار.
وهذا لفظ معناه التهدد والوعيد، مثل قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ(10/6304)
وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29].
ثم قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً} من خفف " من " جعله نداء أو رفعه بالإبتداء، ويكون الخبر محذوفاً. والتقدير: أهذا أفضل (أومن) جعل لله أنداداً.
ومن شدد ف " من " في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف على ما قدمنا في التخفيف.
وقيل: التقدير: أهذا المذكور أفضل أم من هو قانت لأنه ذكر من جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله.
ثم قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}، أي: أهذا المذكور أفضل أم من هو قانت؟ ودل على(10/6305)
ذلك قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وقيل: " أم " بمعنى / الألف، كأنه قال: أمن هو قانت، ويكون الجواب مضمراً بعده كأنه قال: أم من هو قانت كمن مضت صفته من الكفار. قال ابن عباس: القنوت هنا: قراءة القرآن.
وآناء الليل: ساعاته، واحدة، أني كمعي وفيه وجوه قد تقدم ذكرها.
وقيل القنوت: الطاعة، وهو أصله.
وروى الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل ".(10/6306)
وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: " أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. فتأوله جماعة من أهل العلم أنه طول القيام ".
وسئل ابن عمر عن القنوت، فقال:: " ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن.
وقال مجاهد: من القنوت: طول الركوع، وغض الطرف.
ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ.
وعن ابن عمر: إنها نزلت في عثمان رضي الله عنهـ.
وكانوا يستحبون حسن الملبس في الصلاة.(10/6307)
روى نافع أن ابن عمر قال له: قم فصل. قال نافع: فقمت أصلي - وكان عليّ ثوب خلق - فدعاني ابن عمر فقال لي: أرأيتك لو وجهتك في حاجة وراء الجدار، أكنت تمضي هكذا؟! قال: فقلت: كنت أتزين! قال: فالله جل وعز أجل أن يتزين له!!.
قوله: {سَاجِداً وَقَآئِماً}، أي: يقنت ساجداً أحياناً وقائماً أحياناً {يَحْذَرُ الآخرة}.
أي: عذاب الآخرة.
{وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ}، أي: يرجو أن يرحمه ربه فيدخله الجنة.
ثم قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذي يعلمون ما لهم في طاعة الله عز وجل من الثواب وما عليهم في معصيته من العقاب، والذين لا يعلمون ذلك.
يعني: من يؤمن بالبعث والحساب والجزاء والذين لا يؤمنون بذلك. فالمعنى: لا يستوي المطيع والعاصي.
وقيل: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم، والذين لا يعلمون هو من لا ينفع بعلمه، ومن لا علم عنده.
ثم قال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب}، أي: إنما يعتبر حجج الله عز وجل فيتعظ بها(10/6308)
ويتدبرها أصحاب العقول والبصائر.
ويقف القارئ على " رحمة ربه " إن شدّد الميم، لأن الخبر المحذف مقدر قبل " قل هل ".
ومن خفف وجعل " من " مرفوعة بالابتداء وقف أيضاً على " ربه " ويقدر الخبر أيضاً محذوفاً قبل " قل هل ".
ومن جعله نداء لم يقف على " ربه "، لأن " قل هل " متصل بالمنادي.
والمعنى: يا من قانت قل هل، فإن قدرت محذوفاً تتم به فائدة النداء، وقفت على " ربه ".
والتقدير: " يا من هو قانت أبشر، ثم تبتدئ قل هل ".
ثم قال تعالى: {قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ}.
روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر: " يا عبادي " بياء مفتوحة.(10/6309)
والمعنى: قل يا محمد لعبادي المؤمنين: يا عباد الذين آمنوا، أي: صدقوا بالله ورسوله.
{اتقوا رَبَّكُمْ}، أي: اتقوه بطاعته واجتناب معاصيه.
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب (الطيّار في الجنة) وأصحابه من المؤمنين لما قيل لهم: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ}، خرجوا مهاجرين من مكة إلى أرض الحبشة، وقيل لهم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، يعني: الصابرين على دينهم يفرّون به من بلد إلى بلد.
ثم قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ}، أي: للذين أطاعوا الله في الدنيا، حسنة في الدنيا وهي العافية والصحة، قاله السدي.
وقيل: الحسنة التي لهم في الدنيا: موالاة الله إياهم وثناؤه عليهم.
وقيل: المعنى: للذين أطاعوا الله فيالدنيا حسنة في الآخرة، وهي الجنة.
وقوله: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ}، يعني: أرض الجنة.(10/6310)
وقيل: المعنى: أرض الدنيا واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى أرض السلام.
قال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] أي: أرض الدنيا واسعة فهاجروا واعتزلوا الأوثان.
وقيل: المعنى: أرض الجنة واسعة لمن طلبها وعمل لها.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: إنما يعطي الله أهل الصبر على طاعته أجرهم في الآخرة بغير حساب.
قال قتادة: ما هناكم مكيال ولا ميزان، وقال السدي: ذلك في الجنة.
قال مالك، " هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها، وقد بلغني أن الصبر من / الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ".
" وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: لما نزلت {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ(10/6311)
فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رب زد أمتي. فنزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب زد أمتي، فنزلت: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ".
وقيل: " بغير حساب ": بغير تقدير.
وقيل: المعنى، يزاد في أجره بغير مطالبة على ما أعطي كما يطالب بالشكر على نعيم الدنيا.
ويقال: (فلان صابر): إذا صبر عن المعاصي، فإن أردت أنه صابر على المصيبة، قلت: صابر على كذا.
ثم قال تعالى: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين}، أي قل يا محمد لقومك: إن الله أمرني أن أخلص له العبادة والطاعة، ولا نشرك في عبادته أحداً من أوثانكم وآلهتكم ولا من غيرها.
{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين}، أي: وأمرني الله لأن أكون أول من أسلم(10/6312)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
منكم، وأخضع له بالتوحيد، وأخلص له العبادة.
واللام في " لأن " تدل على محذوف تقديره: وأمرت بذلك لأن أكون أول من أسلم.
ثم قال تعالى: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، يعني: يوم القيامة - أي، إن عصيته فيما أمرني به عذبني.
قوله تعالى ذكره: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} - إلى قوله - {لأُوْلِي الألباب}، أي: قل يا محمد لقومك: أعبد الله مخلصاً له عبادتي لا أشرك في عبادتي له، بل أفرده بالعبادة من الأنداد والشركاء.
ثم قال: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ}، هذا تهدد أيضاً ووعيد.
والمعنى: اعبدوا ما أحببتم ستعلمون وبال عاقبة عبادتكم إذا لقيتم ربكم وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة}، (أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الخاسرين في الحقيقة هم الذين خسروا) أنفسهم(10/6313)
بإيرادهم إياها في العذاب الجائم، وخسروا أهليهم، فليس لهم أهل.
قال ابن عباس: هم الكفار، خلقهم الله للنار وخلق النار لهم، فخسروا الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس أنه قال: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجه في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله، وكذلك قال قتادة.
ثم قال تعالى ذكره: {لْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين}، أي: ألا إن خسارة هؤلاء المشركين (لأنفسهم وأهلهم) يوم القيامة، هو الخسران الظاهر.
ثم قال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي: لهؤلاء في جهنم ما يعلوهم مثل الطفل، وما يسفل عنهم مثل الظل، وهو مثل قوله: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41].
وقيل: هو توسع، أصل الظلة: ما كان من فوق دون ما كان من أسفل.(10/6314)
وقيل: إنما سمى ما تحتهم: ظلل لأنها ظلل لمن تحتها ففوقهم ظلل لهم، وهي ظلل لمن فوقهم أيضاً سمين لمن هو فوقهم ظلل لأنها ظلل لمن تحتهم.
وقيل: إنما سمي الأسفل باسم الأعلى، على نحو قوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] سمي المجازي به باسم الأول، كذلك سمى الأسفل باسم الأعلى على طريق المجازاة لما كان الأسفل ناراً مثل الأعلى سمي باسمه لأنه كله نار يحادي الأخرى.
ثم قال: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ}، أي: هذا الذي أخبرتم به أيها الناس يخوّف الله به عباده ويحذرهم به.
{ياعباد فاتقون}.
روى عصمة أن أبا عمرو أثبت الياء في " يا عبادي " ساكنة، وروى(10/6315)
عياش بفتح الياء.
والمعنى: يا عباد فاتقون بأداء الفرائض واجتناب المحارم.
ثم قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا}، أي: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله.
وقيل: هو إبليس اللعين.
قال الأخفش: " الطاغوت جمع. ويجوز أن يكون واحدة مؤنثة وقال الزجاج: الطاغوت: الشياطين.
ويروى أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف(10/6316)
وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم لما آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّقه أتاه هؤلاء فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا وصدقوا، فنزل فيهم: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} الآية.
/ ونزل فيهم:
{فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.
قال مالك: الطاغوت: (ما يعبد) من دون الله.(10/6317)
ثم قال تعالى: {وأنابوا إِلَى الله}، أي: تابوا ورجعوا عن معاصيه وأجابوا داعيه.
لهم البشرى: قال السدي: لهم البشرى ف الدنيا بالجنة في الآخرة.
ثم قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.
روى أبو عبد الرحمن وأبو حمدون عن اليزيدي " عباديَ " بياء مفتوحة في الوصل، وبغير ياء في الوقف اتباعاً للخط، وحكى ذلك أيضاً ابن واصل عن اليزيدي، (وكذلك حكى إبراهيم بن اليزيدي (وابن(10/6318)
سعدان) كلاهما عن اليزيدي).
ولم يذكر ابن سعدان الوقف ولا إبراهيم.
وأنكر أبو عبد الرحمن الوقف بغير ياء، وقال: لا بد من الوقف بالياء لتحركها.
وقد روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر " عباديَ " بياء مفتوحة.
ومعنى الآية: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أرشده وأهداه إلى الحق وأدله على توحيد الله عز وجل والعمل بطاعته.
وقال السدي: معناه: فيتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعلمون به.
وقال الضحاك: القول هنا: القرآن.(10/6319)
ومعنى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، أي: يتبعون ما أمر الله به الأنبياء من طاعته فيعملون به أي: يستمعون العفو عن الظالم والعقوبة، فيتبعون العفو ويتركون العقوبة وإن كانت لهم. وإنما نزل ذلك فيما وقع في القرآن في الإباحة فيفعلون الأفضل مما أبيح لهم فيختارون العفو على القصاص والصبر على الانتقام اقتداء بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
وقيل: المعنى: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
ثم قال: {أولئك الذين هَدَاهُمُ الله}، أي: وفقهم الله للرشاد وإصابة الحق {ائك هُمْ أُوْلُواْ الألباب}، أي: العقول. وَلَبَّ كل شيء: خالصه.
وروي أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحدّوا الله وتبروا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم فيما روى زيد بن أسلم: زيد بن عمرو بن(10/6320)
نفيل وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله.
فيكون المعنى: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم وأنابوا إلى الله سبحانه، أي: رجعوا إلى توحيد الله عز وجل.
وقوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، هو: لا إله إلا الله.
{أولئك الذين هَدَاهُمُ الله}، أي: أرشدهم بغير كتاب ولا نبي.
وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} تمام عند أبي حاتم وغيره، لأنه رأس آية.
ورفع " الذين " بإضمار رافع، أو بنصبهم على إضمار ناصب.
ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} أي: أفأنت(10/6321)
تنقذه.
ودخلت الألف في الخبر للتأكيد.
وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب يتخلص أو ينجو، أي: أفمن سبق في علم الله أنه يدخل النار ينجوا أو يتخلص.
قال قتادة معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب بكفره أفأنت يا محمد تنقذه من العذاب.
وقيل: هو جواب لقصة محذوفة، كان النبي صلى الله عليه وسلم، دعا لقوم من الكفار أن يرزقوا الإيمان. فقيل له: أفتدعو لمن حق عليه العذاب، أفأنت تنقذ من في النار.
ثم قال: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ}، أي: اتقوه بأداء فرائضه واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف {فَوْقِهَا غُرَفٌ}.
قال الزجاج: معناه: لهم في الجنة منازل رفيعة فوقها منازل أرفع منها.
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}، أي: من تحت أشجارها.
ثم قال تعالى: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد}، أي: وعد الله ذلك وعداً.
وسيبوية يسميه مصدراً مؤكداً بمنزلة: صنع الله وكتاب الله.(10/6322)
وأجاز أبو حاتم الوقف على " الأنهار " وهو غير جائز على مذهب سيبويه لأن ما قبل " وعد " يعمل فيه لقيامه مقام العامل.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض}، أي: أنزل من السماء مطراً فأجراه عيوناً.
قال الحسن: هو العيون، وقال الشعبي: كل عين في الأرض من السماء نزل ماؤها.
وقيل، المعنى: أنزل من السماء مطراً فأدخله في الأرض فجعله البنابيع، أي: عيوناً.
والمعنى / كالأول سواء، وواحد الينابيع ينبوع.
ثم قال {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ}، أي: يخرج بالماء أنواعاً من الزرع من بين شعير وحنطة وسمسم وأرز ونحو ذلك من الأنواع، هذا قول الطبري واختياره.
وقال غيره: معنى مختلفاً ألوانه: أخضر وأسود وأصفر وأبيض.(10/6323)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ}، أي: يجف عند تمامه.
قال الأصمعي: يقال للنبات إذ تمّ، قد هاج يهيج هيجاً.
وحكى المبرد عنه: هاجت الأرض تهيج إذا إدبر نبتها وولّى.
وقوله: {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً}، أي: قد يبس فصار أصفر بعد خضرته ورطوبته ..
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً}، أي: فتاتاً، يعني: تبن الزرع والحشيش.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب}، أي: إن في فعل ذلك والقدرة عليه لتذكرة وموعظة لأصحاب العقول فيعلمون أن من قدر على ذلك لا يتعذر عليه ما شاء من إحياء الموتى وغير ذلك.
قوله تعالى ذكره: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} - إلى قوله - {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
في هذه الآية حذف واختصار لدلالة الكلام عليه على مذاهب العرب.
والتقدير: أفمن شرح الله صدره فاهتدى، كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته. ثم بيّن ذلك بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله}، أي: عن ذكر الله عز وجل فلا يثبت ذكر الله سبحانه فيها.
وقيل: الجواب والخبر: {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
وقوله: {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} معناه: على بصيرة ويقين من توحيد ربه.(10/6324)
ويروى أن قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} نزلت في حمزة وعليّ رضي الله عنهـ.
وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} نزلت في أبي لهب وولده قال قتادة: {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}، يعني به: كتاب الله عز وجل، المؤمن به يأخذ وإليه ينتهي.
" وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالو له: " أَوَ يَنْشَرِحُ القَلْبُ "!؟
قال: نَعَمْ. إذاَ أَدْخَلَ الله فِيهِ النُّورَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ.
قالوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مشنْ عَلاَمَةٍ تُعْرَف؟
قال: نَعَمْ، التَّجَافي عَنْ دَارِ الغُروُرِ، وَالإِنَابَةِ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ المَوْتِ ".
قال المبرد، يقال: (قسا وعتا) إذا صلب، وقلب قاس لا يلين ولا يرق.
فالمعنى: فويل للذين جَفَتْ قلوبهم عن قبول ذكر الله عز وجل وهو القرآن فلم(10/6325)
يؤمنوا به ولا صدّقوه.
قال الطبري: " مِنْ " هنا، بمعنى: " عن "، أي: عن ذكر الله.
فيكون المعنى: غلظت قلوبهم وصلبت عن قبول ذكر الله.
وقيل: " من " على بابها.
والمعنى: كلما تلي عليهم من ذكر الله قست قلوبهم.
ثم بين حالهم فقال: {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: في ضلال عن الحق ظاهر.
ومن جعل جواب: {أَفَمَن شَرَحَ} محذوفاً وقف على {نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}.
ومن جعل الجواب: {أولئك فِي ضَلاَلٍ} لم يقف عليه.
ثم قال: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ}، أي: يشبه بعضه بعضاً لا اختلاف فيه ولا تضاد، هذا قول قتادة والسدي.
وقال ابن جبير: يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً ويدل بعضه على بعض.(10/6326)
وقوله: {مَّثَانِيَ} معناه: ثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام والحجج.
وقال الحسن وعكرمة: " ثنى الله عز وجل فيه القضاء ".
وقال قتادة: ثنى الله فيه ذكر الفرائض والقضاء والحدود.
وقال ابن عباس: ثنى الله عز وجل ( الأمر فيه) مراراً.
وقيل: مثاني: ثنى فيه ذكر العقاب والثواب والقصص.
وقيل: المثاني، كل سورة فيها أقل من مائة آية أي: ثنى في الصلاة.
ثم قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}، أي: تقشعر من سماعه إذا تلي وذكر فيه العذاب والعقاب خوفاً وحذراً.
وقوله: {رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله}، أي: إلى العمل بما في كتاب الله عز وجل والتصديق به.
وقيل: تلين إلى ذكر الثواب والرحمة والمغفرة، وتقشعر إلى ذكر (العقاب والعذاب).(10/6327)
روى ابن عباس أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا. فنزلت: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} الآية.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى الله}، أي: ما يصيب هؤلاء القوم من اقشعرار جلودهم عند سماع العقاب ولينها عند سماع الثواي هو هدى الله / وفقهم لذلك.
{يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ}، أي: يهدي بالقرآن من يشاء.
وقيل: ذلك هدى الله إشارة إلى القرآن، فيكون المعنى: ذلك القرآن بيان الله يوفق به من يشاء.
ثم قال تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، أي: من يخذل الله عن التوفيق فما له من موفق.
وقوله: (مثاني) وقف إن قطعت " تقشعر " مما قبله.
وإن جعلته نعتاً " للكتاب " لم يجز الوقف على " مثاني ".
ثم قال تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} " من " بمعنى " الذي مرفوعة بالابتداء والخبر محذوف.
والتقدير عند الأخفش: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل، أم من يتقيه.(10/6328)
وقيل: التقدير: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب خير أم من ينعم في الجنان.
وقيل: التقدير: كمن يدخل الجنة، وقيل: التقدير: كمن هداه الله فأدخله الجنة، وقيل: التقدير: كمن لا يصيبه العذاب.
وهذه المعاني كلها قريب بعضها من بعض وإن اختلفت الألفاظ.
(وقيل معنى) الآية: أفمن يرمي به مكبوباً على وجهه في جهنم.
قال مجاهد: " يجر على وجهه النار ".
وقيل: المعنى: إنه ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمي به فيها. فأول ما تمس النار وجهه، روى ذلك عن ابن عباس.
وقيل: يرمي بالكافر في النار مغلولاً فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه.
وقيل: الإتقاء في هذا بمعنى الاستقبال كرهاً.(10/6329)
وخصّ الوجه لأنه أعز ما في الإنسان على الإنسان وفيه الحواس الخمس.
تقول العرب: اتقيت فلاناً بحقه، أي: استقبلته به.
وقد كان الإنسان في الدنيا يتقي عن وجهه السوء بجميع جوارحه لشرفع وعزته عليه. فأعلمنا الله عز وجل أن الوجه هو أعز الجوارح به يتقي الكافر سوء العذاب يوم القيامة، فما ظنك بجميع الجوارح التي هي دون الوجه، أعاذنا الله من ذلك ونجّانا منه.
ثم قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، أي: وقيل للظالمين أنفسهم ذوفوا عذاب عقاب كسبكم في الدنيا معاصي الله سبحانه. وهذا فعل ماض عُطِفَ، وليس قبله ما يُعْطَفُ عليه، لكنه محمول على المعنى والحكاية. والتقدير: ويقال ذلك يوم القيامة.
ثم قال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: كذبت الأمم رسلهم من قبل هؤلاء المشركين فجاءهم عذاب الله من حيث لا يعلمون بمجيئه.
{فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا}، أي: عجّل لهم الهوان والعذاب في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله إياهم في الآخرة أكبر من العذاب الذي نالهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ذلك.
والخزي، أصله: المكروه، وهو أشد الهوان وأبلغه.
قال المبرد: " يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،(10/6330)
أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما ".
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ}، أي: ولقد مثلنا للناس، يعني: المشركين في هذا القرآن من كل مثل من مثال القرون الخالية تخويفاً وتحذيرا {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيرجعون عمّا هم عليه من الكفر والشرك.
ثم قال: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}.
نصب " قرآناً " عند الأخفش على الحال.
وقال علي بن سليمان: " عربياً " هو الحال، " وقرءاناً " توطئة للحال (كما تقول مررت بزيد رجلاً صالحاً، " فصالح " هو المنصوب على الحال ورجلاً توطئة للحال).(10/6331)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قال الزجاج: " عربياً ". منصوب على الحال، " وقرآناً " توكيد.
وقوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}. قال مجاهد: معناه، " غير ذي لبس "
وقال الضحاك غير مختلف.
وقال ابن عباس: غير مخلوق.
ثم قال: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يتّقون ما حذّرهم الله عز وجل من بأسه وعذابه.
قوله (تعالى ذكره): {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ} - إلى قوله - {بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
هذا مثل للمؤمن والكافر، فالكافر يعبد أرباباً كثيرة مختلفين من الشياطين والأصنام. فهو بينهم مقسم وجميعهم مشتركون فيه.
والمؤمن يعبد الله وحده لا شرك لأحد فيه، قد تسلم له عبادته فهو سالم من الإشراك.(10/6332)
قال الفراء: متشاكسون: مختلفون: هذا معنى قول قتادة وهو قول ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك هو مثل للحق والباطل، والشركاء: الأوثان.
قال الزجاج: ضرب هذا المثل لمن وحد الله عز وجل ( ولم يجعل معه شريكاً).
فالذي وحّد الله / مثله مثل السالم لرجل لا يشركه فيه غيره.
ومثل الذي عبد غير الله مثل صاحب الشركاء المتشاكسين، أي: المختلفون العسرون.
وحكى المبرد: متشاكسون: متعاسرون، من شكس يشكُسُ وهو شَكِسٌ، مثل عَسُرَ يَعْسُرُ فهو عَسِرٌ. يقال: رجل شَكِسُ أي: عسير لا يرضى بالإنصاف.
وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}، أي: هل يستوي من يخدم جماعة هم فيه شركاء قد اختلفت مراداتهم فيلقى من (التعب والنصب ما لا قوام) له به من غير أن يبلغ(10/6333)
ضى الجميع، أو الذي يخدم واحداً لا ينازعه فيه منازع، إذا أطاع عرف موضع طاعته فأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه.
فالمعنى: أي هذين أحسن حالاً وأروح جسماً.
قال ابن عباس: هل يستويان مثلاً، أي: هل يستوي من اختلف فيه ومن لم يختلف فيه.
ثم قال {الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: الشكر لله كله والحمد كله له دون من سِواه، بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الفرق بين من فيه أرباب مشتركون ومن ليس له إلا رب واحد. فلجهلهم يعبدون آلهة شتى.
ومعنى: ضرب الله مثلا " (مَثَّلَ الله مثلاً).
وقال " مثلاً " ولم يقل " مثلين " لأنهما كليهما ضرباً مثلاً واحداً فجرى المثل فيهما بالتوحيد لذلك كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50].
ولم يقل آيتين إذ كان معناهما واحداً في الآية.(10/6334)
ثم قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ}، أي: إنك يا محمد ستموت عن قليل، وإن هؤلاء المكذبين من قومك والمؤمنين منهم سيموتون.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، (قال ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال).
وقال ابن زيد وابن جبير: يختصم أهل الإسلام وأهل الكفر.
وقال ابن عباس: بلغ من الخصومة يوم القيامة حتى إن الروح ليخاصم الجسد. فيقول الروح: رب، هذا الذي عمل العمل فخلد عليه العذاب.
فيقول الجسد: رب، وما كنت أنا، به كنت أبسط، وبه كنت أقبض، وبه كنت أعمل، وبه كنت أقوم وأقعد، فخلد عليه العذاب.
فيقال لهما: أرأيتما لو أنّ اعمى وصحيحاً دخلا حائطاً مثمراً، فقال البصير: لا أَنَالُهُ. فقال الأعمى: أنا أحملك على عنقي (حتى تناله فتأخذ): فحمله حتى أخذ من التمر، فأكلا جميعاً، على من يكون العذاب؟ فيقول: عليهما جميعاً!.(10/6335)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ ".
وقيل: هو اختصام أهل الإسلام فيما بينهم.
وروي عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية (وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وقال النخعي: لما نزلت هذه الآية) قالوا ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان؟
قال: فلما قتل عثمان رضي الله عنهـ قالوا: هذه خصومتنا بيننا.(10/6336)
قال: أبو العالية: هم أهل القبلة يختصمون يوم القيامة في مظالم بينهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: " يَخْتَصِمُونَ في الدِّمَاءِ في الدِّمَاءِ " قاله مرتين).
" وروي عن الزبير أنه قال: يا رسول الله، أنختصم يوم القيامة بعدما كان بيننا؟ قال: " نعم، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ". قال الزبير: إن الأمر إذن لشديد ".
وفي الحديث المسند: " أول ما تقع فيه الخصومات الدماء ".
وقوله: " مثلاً " تمام عند أبي حاتم وغيره.(10/6337)
وليس ذلك بمختار لأن الممثل به لم يذكر بعد فهو متصل بما قبله.
وقيل: إن " مثلاً " تقديره أن يكون مؤخراً بعد " سلما لرجل "، أي: ضرب الله هذا مثلاً وفي الكلام حذف، والتقدير: ضرب الله مثلاً لمن أشرك به غيره.
وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}: المثل في هذا بمعنى الصفة كما قال: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35]، أي: صفة الجنة.
ثم قال تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله}، أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له ولداً وصاحبة.
و" من " استفهام، معناه: الجحد، أي: لا أحد أظلم منه.
{وَكَذَّبَ بالصدق}، أي: بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم إذ جاء رسولاً.
ثم قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}، أي: أليس فها مأوى ومسكن لمن كفر بالله عز وجل ورسله صلوات الله عليهم، ومتبه بل فيها مأوى ومسكن لهم.
ثم قال تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} " الذي " هنا واحد يدل على الجمع.
وقيل: كان أصله: " الذين "، فحذفت النون لطول الاسم.
وقيل: " الذي " للواحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، جاء بـ " لا إله إلا الله " وصدق(10/6338)
بذلك: هذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد: جاء محمد بالقرآن وصدّق به، وقال الشعبي.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّق به أبو بكر رضي الله عنهـ.
وقال قتادة: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن والإسلام وصدّق به يعني المؤمنين، وكذلك قال ابن زيد وقال السدي: الذي) جاء بالصدق: جبريل صلى الله عليه وسلم، جاء بالقرآن من عند الله وصدّق به، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} هم: المؤمنون يجيئون بالقرآن يوم القيامة، يقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه ".
وعن مجاهد أيضاً: (والذي جاء بالصدق) يعني صلى الله عليه وسلم " وصدق به "(10/6339)
يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، وقيل: هو أبو بكر رضي الله وأصحابه.
فمن جعله لجماعة استدل بقوله: {أولئك هُمُ المتقون}.
ومن جعله لواحد حسن عنده (أولئك) بعد الواحد، لأن الجليل القدر يخير عنه بلفظ الجماعة.
وقرأ أبو صالح: (وصدق به) بالتخفيف، (يعني به النبي صلى الله عليه وسلم.
والباء بمعنى: في. والمعنى: جاء بالقرآن وصدق فيه.
واختار الطبري أن يحمل على العموم، فيكون معنى: والذي جاء بالصدق كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل والعمل بطاعته، ويكون الصدق: القرآن والتوحيد(10/6340)
والشرائع، والمصدق: المؤمنون والأنبياء وغيرهم من جميع من صدق به.
ودل على هذا العموم ما قبله من العموم في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق} فهذا عام في جميع المكذبين بالقرآن والتوحيد والشرائع، وفي جميع الكاذبين على الله سبحانه فكذلك يجب أن يكون التصديق عقيبه عاما في جميع المصدقين والصادقين فيترتب الشيء وضده على نظام واحد لأن الذين كانوا عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم قوم مكذبون لما أتاهم به كاذبون على الله سبحانه، ثم أعقبهم ممن آمن قوم مصدقون بما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم صادقون في قولهم.
وفي قراءة ابن مسعود: " والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به بالجمع.
ثم قال تعالى {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} يعني، يوم القيامة لهم ما تشتهيه أنفسهم.
ثم قال: {ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين}، ذلك: إشارة إلى قوله: لهم ما يشاءون.
والكاف في " ذلك " للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: هذا الذي لهم عند ربهم جزاء كل محسن في الدنيا بطاعة الله عز وجل.
ثم قال: {لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ}، أي: فعل بهم ذلك لكي يكفر عنهم أسوأ ما عملوا في الدنيا مما بينهم وبين ربهم {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ}، أي: في الآخرة.
{بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا (لا بأسوئه).(10/6341)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
قوله تعالى ذكره: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} - إلى قوله - {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي أليس الله بكاف محمداً صلى الله عليه وسلم أمر أعداء المشركين.
قال مجاهد: بكافيه الأوثان.
وروي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لئن لم تنته عن سب آلهتنا لنأمرنها فتخبلك.
فالمعنى: يخوفك يا محمد هؤلاء المشركون بالأوثان أن تصيبك بسوء، ألي الله بكافيك؟! أي: هو كافيك ذلك.
ومن قرأ " عباده " بالجمع أدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الأنبياء صلوات الله عليهم الذين توعدتهم أممهم بمثل ما توعدت به أمة محمد محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية حيثن قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة " والنجم " عند باب الكعبة.
ثم قال تعالى {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ}، أي: من(10/6342)
يخذل الله فيضله عن طريق الحق فما له سواه من مرشد، ومن يوفقه الله إلى طريق الحق فماله من مضل.
ثم قال تعالى {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام}، أي: أليس الله يا محمد يعزيز في انتقامه ممن / كفر به، ذي انتقام منهم.
ثم قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله}، (أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين منْ خلق السماوات والأرض ليقولن الله) خلقهن، فإذا أقروا بذلك فقل لهم يا محمد: أفرأيتم هذه الألهة التي تدعون من دون الله إن أرادني الله بضرّ، أي: سقم أو شدة في معيشتي هل هن كاشفات عني ما أصابني، وإن أرادني الله عز وجل برحمة، أي بصحة وَسَعَةٍ في الرزق هل هن ممسكات عني ما أعطاني.
والجواب في هذا محذوف لعلم السامع بالمعنى.
والتقدير: فإنهم سيقولون لا نقدر على شيء من ذلك، فإذا قالوا ذلك فقل يا محمد حسبي الله، أي: كافيِي الله مما سواه من الأشياء.
{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون}، أي: من هو متوكل فليتوكل عليه لا بغيره.
وقال قتادة: ولئن سألتهم من خلق السماوات، يعني:(10/6343)
الأصنام فيكون المسؤول في هذا القول: الأصنام. والقول الأول عليه أكثر المفسرين.
ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} معنى الكلام التهدد والوعيد، أي: اعلملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه مثل قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وقال مجاهد: معناه اعملوا على ناحيتكم، (أي: على) ناحيتكم التي اخترتموها وتمكنت عندكم، إني عامل على ناحيتي.
وقيل: المعنى إنى عامل على عمل من سلف من الأنبياء عليهم السلام قبلي.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون من يهان ويذل ممن يكرم وينعم إذا جاءكم بأس الله عز وجل فيظهر لكم المحق منا من المبطل وهو معنى قوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}.
ثم قال تعالى {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق}، أي: أنزلناه تبياناً بالحق.
{فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ}، أي من آمن به واتبعه فلنفسه عمل، لأنه أكسب نفسه باتباعه الحق وإيمانه الفوز والرضى من الله عز وجل والخلود في النعيم المقيم.(10/6344)
ثم قال: {وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، أي: ومن جار على ما أنزل إليك فإنما يجُورُ على نفسه، لأنه أكسبها بكفره وجوره عن الحق العطب والخزي الدائم، والخلود في نار جهنم.
ثم قال: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، أي: ما أنت يا محمد على من أرسلناك إليهم برقيب ترقب أعمالهم وتحفظ أفعالهم، إنما أنت رسول وما عليك غير البلاغ المبين وحسابهم علينا، قال قتادة، والسدي: بوكيل: بحفيظ.
ثم قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (أي يقبض الأرواح عند فناء آجالها وانقضاء مدة حياتها ويقبض أيضاً التي لم تمت في منامها) كما يتوفى التي ماتت عند مماتها فيرسل نفس النائم ويمسك نفس الميت، فإذا جاء وقت أجل النائم قبض نفسه ولم يردها إليه.
قال ابن جبير: يقبض الله عز وجل أرواح الأحياء النائمين وأرواح الموتى فتلتقي أرواح الأحياء وأرواح الموتى، ثم يرسل الله الأحياء النائمين، ويمسك أرواح الموتى.(10/6345)
وعن ابن عباس أنه قال: يلتقي أرواح الموتى وأرواح النائمين فيتساءلون بينهم، ثم يمسك الله عز وجل أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى أجل مسمى، وهو الموت.
قال الفراء: المعنى: ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها، قال: وقد يكون توفيها نومها، فالتقدير عنده: والتي لم تمت، نومها: وفاتها.
وقال ابن جبير: معناه أن الله جل ذكره يجمع بين أرواح الأحياء والموتى، فيتعارف منهما ما شاء الله أن يتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها.
وقال السدي: يقبض الله عز وجل روح النائم في منامه الأرواح بعضها بعضاً أرواح الموتى وأرواح النيام (فتلتقي فتسأل).(10/6346)
قال فيخلي الله عز وجل عن أرواح الأحياء فترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى - أي: إلى بقية آجالها - وتريد الأخرى أن ترجع فيحبس التي قضى عليها الموت، وهو قول ابن زيد.
وقال بعض أهل اللغة: النفس على معنيين: نفس التمييز، ونفس الحياة. ونفس التمييز هي من نفس الحياة وليس / نفس الحياة هي نفس التمييز لوجدنا النائم معه نفس الحياة ولا تمييز له.
فنفس التمييز ترتبط بنفس الحياة في حال وتفارقها في حال.
فتنفرد نفس الحياة، وليس تنفرد التمييز بالبقاء البتة في الجسد، وتنفرد نفس الحياة بالبقاء في البدن. فالتي تقبض عند النون هي نفس التمييز لا نفس الحياة، والتي تقبض عند الموت هي نفس الحياة، (فذهاب نفس الحياة) لا عودة بعده في الدنيا، وذهاب نفس التمييز له رجعة في الدنيا.
ونفس الحياة بها يكون التمييز والحركة والنفس، ونفس التمييز لا تكون إلا تابعة لنفس الحياة فهي جزء منها. ألا ترى أن التمييز يذهب والحياة والنفس والحركة(10/6347)
باقية، ولو ذهبت نفس الحياة لم يبق (تمييز ولا نفس) ولا حركة. فالجملة نفس واحدة إلا أنها تنقسم في المنافع.
فصاحب هذا القول ينحو إلى أن النفس التي هي التمييز هي العقل، كأن التمييز هو العقل الذي تميز به الأشياء فهو مرتبط بالحياة، فسمي نفساً لارتباطه بالنفس والحياة.
وقيل: إن المعنى على هذا التأويل: الله يتوفى الأنفس حين موتها بإزاله أرواحها وتمييزها ويتوفى التي لم تمت في منامها بإزالة تمييزها دون حياتها، وهذا هو القول الذي قبله مختصراً.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: في قبض الله عز وجل نفس النائم وردّها عليه، وقبضه نفس الميت ومنها من الرد عليه، لَعِبَراً وعظات لمن تفكر وتدبر، وبياناً أن من فعل هذا يقدر على أن يحيى الموت إذا شاء.
ثم قال تعالى ذكره وجل ثناءه: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ}، أي اتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهتهم التي يعبدون (شفعاء) تشفع لهم عند الله.(10/6348)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
ثم قال: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ}، أي: قل لهم يا محمد: أتتخذونهم آلهة وإن كانوا لا يملكون لكم ضراً ولا نفعاً ولا يعقلون عنكم شيئاً.
ثم قال تعالى: {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: قل يا محمد: لله الشفاعة جميعاً فاعبدوه ولا تعبدوا ما لا يملك لكم شفاعة ولا غيرها.
{لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: له سلطان ذلك وملكه، فما تعبدون أيها المشركون داخل في ملكه وسلطانه فاعبدوا المالك دون المملوك، فإليه ترجعون بعد موتكم فيجازيكم على أعمالهم.
قال قتادة: أم اتخذوا من دون الله شفعاء، يعني: الآلهة. قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً يعني: لا يملكون الشفاعة.
قال مجاهد: قل لله الشفاعة جميعاً، أي: " لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ".
قوله تعالى ذكره: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} - إلى قوله - {وَكُنتَ مِنَ الكافرين}، أي: إذا أفرد الله عز وجل بالعبادة والذكر فقيل: لا إله إلا الله نفرت وانقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث.
{وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ}، يعني: الأصنام.
{إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، أي: يفرحون.(10/6349)
عنى بذلك ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في سورة " والنجم " إذ قرأ: تلك الغرانيق العلى ووإن شفاعتهم لترتجى.
قال قتادة: " اشمأزت، أي: كفرت واسكتبرت ".
وقال مجاهد: اشمأزت انقبضت وهو قول المبرد.
وقال مجاهد: وذلك يوم قرأ عليهم " والنجم " عند باب الكعبة.
وقال السدي: اشمأزت: نفرت، وهو قول أبي عبيدة.
ثم قال تعالى: {قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة}، أي: قل يا محمد: يالله، يا خالق السماوات والأرض، يا عالم ما غاب وما ظهر.(10/6350)
{أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ}، أي: تفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من تقبضهم عند توحيدك، واستبشارهم عند ذكر الأوثان وفي غير ذلك.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}، أي: كفروا بالله عز وجل، { مَا فِي الأرض جَمِيعاً} يعني: يوم القيامة.
{وَمِثْلَهُ مَعَهُ} لفدو به أنفسهم لو قُبِل ذلك منهم، فكيف وهم لا يكون لهم شيء من ذلك يوم القيامة، ولو كان لهم لم يقبل منهم.
ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}، (أي: وظهر لهؤلاء الكفار يوم القيامة من عذاب الله لم يكونوا يحتسبون) انه أعده لهم.
وقال مجاهد: معناه: أنهم علموا / أعمالاً توهموا (أنها حسنات، فإذا هي سيئات.
وقيل: معناه: أنهم " علموا أعمالاً توهموا) أنهم يتوبون قبل الموت منها فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة ".
وقيل: معناه أنهم توهموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم من الله دخول النار على ما قدموا.
وقيل: معناه أنهم عملوا أعمالاً توهموا أنها تنفعهم فأحبطها الشرك.(10/6351)
قال محمد بن المنكدر: وعملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها تنجيهم (فإذا بها) قد أهلكتهم وأوبقتهم.
ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ}، أي: وبدا لهم عقاب سيئات أعمالهم.
وقيل: المعنى: وظهر سيئات عملهم في كتبهم إذا أُعْطَوْهَا بشمائلهم.
ثم قال تعالى: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: وجب عليهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزءون به إذا ذكر لهم، وخوفوا به تكذيباً له وإنكاراً.
ثم قال: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا}، أي: إذا أصابه بؤس وشدة دعا الله مستغيثاً به، فإذا خوّله نعمة منه وفرج عنه {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ}، أي: قال: إنما الرخاء والسعة في المعيشة والصحة في البدن على علم من الله بأني له أهل ومستحق لشرفي، ورضاه بعملي.
وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي بالتجارة والطلب وغير ذلك.
وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي، أي: إذا أوتيت هذا في الدنيا إن لي عند الله منزلة. فرد الله تعالى عليه ذلك فقال تعالى:(10/6352)
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} [القصص: 78] وقد مضى ذكر هذا في القصص ".
وقوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}، معناه: بل أعطينا إياهم تلك النعمة ابتلاء ابتليناهم بها واختباراً.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: لا يعلمون أنه ابتلاء واختبار لسوء رأيهم وجهلهم.
ثم قال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي قد قال في نعم الله عز وجل عليه، أي: إنما أوتيته على علم الذين كانوا من قبل هؤلاء من القرون الخالية لرسلهم تكذيباً لهم واستهزاءً، فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله عز وجل ما كانوا يكسبون من الأعمال، يعني: عبادتهم الأوثان لم تغن عنهم شيئاً، ولم تشفع لهم كما يقول هؤلاء أنها تشفع لهم عند الله سبحانه، ولكنها أسلمتهم لما أتاهم من العذاب.
ثم قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ}، أي: فأصاب الأمم الخالية الذين قالوا مثل مقالة هؤلاء وبال عملهم فعذبوا في الدنيا، يعني: قارون وشبهه حين قال: إنما أوتيته على علم فخسف به وبداره الأرض.
ثم قال تعالى: {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}، أي: والذين(10/6353)
كفروا من قومك يا محمد سيصيبهم أيضاً وبال عملهم السيء كما أصاب أولئك.
{وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}، أي: بفائتين ربهم هرباً في الأرض من عذابه إذا نزل بهم فأحلَّ الله عز وجل عليهم عذابه فقتلوا بالسيف يوم بدر.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ}، أي: أَوَلَمْ يعلم هؤلاء الذين قالوا إنما أوتينا المال والصحة وغير ذلك على علم أن الله يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيّق على من يشاء.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي: إن في توسيع الله عز وجل على خلق، وتقتيره على خلق لحججاً ودلالات لقوم يؤمنون، أي: يصدقون بالحق.
ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}.
قال ابن عباس: قال بعض أهل مكة: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهاً آخرن وقتل النفس لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك، فأنزل الله عز وجل { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} الآية.
وقيل: إنها نزلت في نفر من المشركين خلا الإيمان في قلوبهم فقالوا في أنفسهم: ما نظن أن الله عز وجل يقبل توبتنا وإيماننا وقد صنعنا بمحمد صلى الله عليه وسلم كل شر: أخرجناه، وقتلنا أصحابه، وقاتلناه.
فأباح الله تعالى لهم التوبة ونهاهم أن يقنطوا(10/6354)
من رحمته.
/ قال مجاهد: الذين أسرفوا على أنفسهم هو قتل النفس في الجاهلية. وقال عطاء بن يسار: نزلت هذه الثلاث الآيات في وحشي وأصحابه، وروى ذلك عن ابن عباس، قال: فكان النبي لا يطيق أن ينظر لأنه قتل حمزة فظن وحشي أن الله عز وجل لم يقبل إسلامه فنزلت هذه الآيات.
وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة وخلفوا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقاموا بمكة يفتنهم المشركون عن دينهم فافتتنوا، فكان بعضهم يقول: إن رجعت إلى الإسلام لم يقبلني محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقبل الله توبتي فأنزل الله عز وجل هذه الآيات فيهم.
فمعنى أسرفوا على أنفسهم على هذا القول، أي: أسرفوا على أنفسهم بإقامتهم مع الكفار بمكة، وظنهم أن الله عز وجل لا يقبل توبتهم ورجوعهم عن دينهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن قوماً أصابوا عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام(10/6355)
أشفقوا إن لم يتب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية.
قال السدي: هي في المشركين، كقول ابن عباس: وهو قول ابن زيد.
وكان ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجاً في القرآن: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} الآية.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنها نزلت في أهل الإسلام. قال: كنا نقول: لمن افتن من توبة. وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئاً، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} الثلاث الآيات.
قال عمر: فكتبتها بيدي وبعثتها إلى هشام بن العاصي. قال هشام: فجعلت أقرؤها ولا أفهمها فوقع في نفسي أنها نزلت فينا لِمَا كُنَّا نقول، قال: فجلست(10/6356)
على بعيري ثم لحقت بالمدينة.
وروي عن ابن عمر: أن هذه الآيات نزلن في عياش بن أبي ربيعة، والوليد ابن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به! فنزلت هذه الآيات.
وقال ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. فرد عليه ابن عباس وقال: بل أرجى(10/6357)
آية في القرآن. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6].
وروى شهر عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في هذه الآية: " إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، إنه هو الغفور الرحيم ".
وقال القرظي هي للناس أجمع.
وقيل: المعنى: يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب.(10/6358)
(وهذا لجماع) من تاب من كفره أو من ذنوبه فالله يغفر له ما تقدم من ذنوبه كلها.
وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93] الآية، وبقوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و 116].
والصواب أن الآية خبر لا يجوز نسخه فهي محكمة على ما بينَا من المعنى الذي ذكرنا.
وقوله: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} يدل على أن الآية نزلت فيمن هو على غير الإسلام، وإن بالإسلام تغفر الذنوب كلها التي اكتسبت في الكفر.
وروى ثوبان مولى رسول صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية. فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم(10/6359)
قال: ألا ومن أشرك (ألا ومن أشرك) - ثلاث مرات ".
وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: إنه ليس من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش. قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها، قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} و {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 و 116].(10/6360)
فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحد أصاب منها شيئاً خِفْنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له.
وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: القنوط من رحمة الله من الكبائر. واختار الطبري أن / تكون الآية عامة في أهل الإيمان وأهل الشرك لأن الله عز وجل عَمَّ المُسرفين ولم يُخصِصّ به أحداً، فالشرك أعظم الذنوب وهو مغفور مع التوبة منه والرجوع عنه.
وكان ابن عباس يقرأ: " يغفر الذنوب لمن شاء ".
وقد قيل: إن قوله: {يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} منسوخ بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93]، وقيل: بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و 116].
والصواب أنها محكمة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، والله يغفر كل الذنوب لمن يشاء من المؤمنين، فلا نسخ فيه.
ومعنى " لا تقنطوا ": لا تيئسوا.(10/6361)
{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}، أي: يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها إذا تابوا منها.
{جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور}، أي: الساتر لذنوب التائبيبن.
{الرحيم} بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
ثم قال تعالى: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ}، أي: ارجعوا إلى طاعة ربكم، وأقبلوا على عبادته، واخضعوا له، وأجيبوا داعيه.
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب} على كفرهم.
{ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، أي: لا ينصركم ناصر فينقذكم من عذاب الله عز وجل.
والإنابة هنا: الإيمان والتوبة من الكفر.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الإيمان إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح. فقيل له: يا رسول الله، فهل لذلك من آية يعرف بها؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
ثم قال: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}، أي: اعملوا بما في كتاب الله.
وقيل: معناه: إن الله أباح الانتصار بعد الظلم وأعلمنا أن العفو أحسن.
وقيل: المعنى: إن الله عز وجل قد أخبر عن قوم أنهم عصوا، وعن قوم أنهم(10/6362)
أطاعوا فأمر أن تتبع الطاعة دون المعصية.
وقيل: المعنى: إن الله عز جل قد نسخ أحكاماً بما شاء فأمرنا أن تنبع الناسخ دون المنسوخ.
وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً}، أي: فجأة.
{وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}، أي: لا تعلمون، وهذا ما توعد من الله جل ذكره لمن لم يَتُبْ.
ثم قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} " أن " مفعول من أجله. والأصل في " حسرتا ": يا حسرتي، ثم أبدل من الياء ألف.
والفائدة في نداء الحسرة أن حرف النداء يدل علة تمكن القصة من صاحلها وملازمتها له. فذلك أبلغ في الخبر.
وأجاز الفراء في الوصل: " يا حسرتاه " بضم الهاء وكسرها.
ولا يجيز النحويون إثبات الهاء في الوصل وقد جاء ذلك في الشعر. والمعنى: اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تصيروا إلى حال الندامة غداً.(10/6363)
ومعنى {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله}، أي: على ما ضيّعته من العمل بما أمرني الله به، وقصّرت فيه في الدنيا.
قال مجاهد والسدي " في جنب الله "، أي: في أمر الله.
وقال الضحاك: " في ذكر الله، قال: يعني القرآن والعمل به ".
وقال أهل اللغة: المعنى: في جنب الله.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما جلس رجل مجلساً ولا مشى ممشىً ولا جَلَسَ اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه إلا كانت عليه ترة يوم القيامة، أي: حسرة ".(10/6364)
وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله عز وجل يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه وعمل فيه بالحق كان له أجره وعلى الآخر وِزْرُه. ومن الحسرات أن يرى الرجل عنده الذي خوله الله في الدنيا (أقرب منه) منزلة من الله جل ذكره، أو يرى رجلاً يعرفه في الدنيا أعمى قد أبصر يوم القيامة وعمي هو.
وأصل الحسرة الندامة التي تلحق الإنسان حتى يصير معها حسيراً، أي: معيباً.
وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما تفرق قوم قط من مجلسهم، ولم يذكروا الله فهي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما جلس رجل ولا قوم مجلساً، ولا مشىً رجل ممشى، ولا اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه يوم القيامة(10/6365)
حسرة ".
وقوله: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين}، أي: وما كنت إلا من الساخرين، أي: كنت من المستهزئين بأمر الله سبحانه وكتابه.
قال قتادة: (لم يكفه) أن ضيع طاعة الله عز وجل حتى جعل بأهل طاعة الله سبحانه.
قال قتادة: هذا قول صنف منهم /، فقال صنف آخر: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي. . .} الآية، وقال صنف آخر: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} الآية، أي: رجعة.
قال ابن عباس: أخبر الله جل ذكره ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وما هم عاملون قبل أن يعملوا (فقال {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] وقال: {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَلَوْ رُدُّواْ} [الأنعام: 28]. وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
ومعنى: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي}، أي: وفقني للرشاد.(10/6366)
ثم قال: {بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} دخلت (هنا " بلى ") لأن معنى لو أن الله هداني (ما هداني). ودخلت جواباً للنفي حملاً على المعنى: (بلى هداني).
ومعنى الآية أنها تكذيب من الله جل ذكره للقائل: " لو أن الله هداني "، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً}، فأعلمهم أن كتابه وحججه قد أتاهم فكذبوا واستكبروا عن الإيمان به وكانوا من الكافرين به.
وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت} بكسر الكاف والتاء على مخاطبة النفس. وبذلك قرأ الجحدري.(10/6367)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وقرأ الأعمش: " بلى قد جاءته " بالهاء.
وقيل: يلزم من كَسَرَ التاء والكاف (أن يُقْرَأَ وكنت) من الكوافر والكافرات. وهذا لا يلزم لأنه يحمل على المعنى.
قوله تعالى ذكره: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ} - إلى قوله - {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
أي: يوم القيامة يا محمد ترى الذين زعموا أن لله سبحانه ولداً وأن له شريكاً.
{وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}: يقال: مسودة ومسوادة، لغتان، وأسْوادَّ وجهه وأسَوَدَّ وأحْمَرَّ وأحْمَارَّ.
ثم قال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}، أي: أليس في جهنم مأوَىَ ومسكنَ لمن تكبر على الله تعالى، وامتنع من طاعته جلت عظمته.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن في جهنم ".(10/6368)
وقال صلى الله عليه وسلم في تفسير الكبر: " هو سفه الحق وغمط الناس "، اي: احتقارهم.
قال عطاء بن يسار: يقال: إن في جهنم سجناً يقال له بولس يحشر فيه المتكبرون يوم القيامة ويأتون يوم القيامة على صور الذر.
ومن رواية ابن وهب يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المتكبرون في الدنيا يحشرون يوم القيامة أِباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار، ثم يساقون حتى يدخلوا سجناً يقال له بولس في نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال "، يعني: من صديد أهل النار وما يخرج منهم
. ثم قال تعالى: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ}، أي بفوزهم.
قال السدي: بمفازتهم، بفضيلتهم.(10/6369)
وقال ابن زيد: " بأعمالهم ".
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحشر الله عز وجل مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المومن معه في أحسن صورة وأطيب ريح. فكلما كان من رعب أو خوف قال له: لا تُرَعْ، فما أنت (بالمراد ولا أنت بالمعني به). فإذا كثر عليه قال له: ما أحسنك! فمن أنت؟! فيقول: أما تعرفني؟! أنا عملك الصالح! حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك اليوم ولأدفعن عنك " فهي التي قال سبحانه. {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} الآية.
ثم قال تعالى ذكره: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، أي: الذي له الألوهية والتفرد هو خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، أي قيم بالحفظ والكلأة.
ثم قال تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض}.
قال ابن عباس وقتادة: مقاليد: مفاتيح.(10/6370)
والمعنى: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض، يمسك ما يشاء ويفتح ما يشاء، وقال السدي: " المقاليد: الخزائن "، واحدها مقليد، وقيل: مقلد، وقال أبو عبيدة: (واحد المقاليد مقليد)، وواحد الأقاليد إقليد.
ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون}، أي: هم المغبونون حظوظهم من خيرات خزائن الله التي بيده مفاتيحها.
ثم قال (تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون}.
" غير " نصب " بأعبد ".
قال الأخفش: " تأمروني " ملغى، كقولك: ذلك زيد بلغني.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أعبد غير الله فما تأمروني أيها الجاهلون؟!
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}،(10/6371)
(أي: ولقد أوحي إليك يا محمد وإلى الرسل من قبلك لئن اشركت بالله ليحبطن عملك)، أي: يبطل عملك ويفسد.
يقال: حبط بطنه من داء إذا فسد منه.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير /: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وأوحي إلي الرسل من قبلك مثل ذلك.
ومعنى {مِنَ الخاسرين}: من المغبونين حظوظهم الهالكين.
ثم قال تعالى: {بَلِ الله فاعبد}، الفاء زائدة واسم الله نصب بأعبد.
وقال الفراء: هو نصب بإضمار فعل.(10/6372)
والفاء عند أبي إسحاق غير زائدة دخلت لمعنى المجازات.
والمعنى على القول الأول: بل اعبد الله ولا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون {وَكُن مِّنَ الشاكرين}، أي: كن شاكراً لله على نعمه عليك إذا هداك للإيمان وبرَّأك من عبادة الأوثان.
ثم قال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}، أي: ما عظموه حق عظمته.
قال ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عز وجل عليهم، ومن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك لم يقدر الله حق قدره.
قال أبو عبيدة: معناه: ما عرفوا الله حق معرفته.
وقيل التقدير: ما قدروا نعم الله حق قدر نعمه.
وأكثر المفسرين على أن المعنى: ما عظّموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته: إذ عبدوا غيره معه، فهو خالق جميع الأشياء ومالكها، والأرض جميعاً كلها قبضته يوم القيامة.(10/6373)
(قال ابن عباس وغيره: الأرض والسماوات جميعا في يمينه يوم القيامة).
قال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله جلّ ذكره إلا كخردلة في يد أحدكم.
قال الحسن: والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، قال: كأنها جوزة بقضها وقضيضها.
قال الضحاك: السماوات والأرض مطويات بيمينه جميعاً.
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر يخطب:
" يأخذ الله عز وجل السماوات والأرض السبع فيجعلها في كفيه، ثم يقول بهما كما يقول الغلام بالكرة: أنا الله، أنا الواحد، أنا العزيز " حتى لقد رأيت المنبر وإنه ليكاد يسقط به.(10/6374)
" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودياً جاءه فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده، ثم قال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً ".
" وروي أن رهطاً من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد: هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟!. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم شاورهم غضباً لربه عز وجل فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم يسكنه. وجاءه من الله تعالى جواب ما سألوه عنه، فقال: يقول الله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} السورة فلما تلا عليهم النبي عليه السلام، قالوا: صف لنا ربك، كيف هو خلقه، وكيف هو عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ثم شاورهم. فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه:(10/6375)
{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} - إلى - {يُشْرِكُونَ} ".
وقيل: معنى {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة}، أي: يملكها، لا مدعي لملكها ذلك اليوم غيره، كما تقول: هذا في قبضتي.
وقال المبرد: بيمينه: بقوته. وهذا القول هو قول علماء أهل السنة.
" وذكر ابن وهب أن ناساً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، هاتان القبضتان، فأخبرنا عن سائر العظمة.
قال: فكروا في خلق ممن خلق الله عز وجل: إسرافيل، رجلاه في التخوم السابعة، والعرش على جمجمته. ما بين قدميه إلى ركبته مسيرة خمسين ألف سنة. وما بين عاتقه إلى رأسه مسيرة خمسين ألف سنة ".
ويروى أن إسرافيل مؤذن أهل السماء، يؤذن لاثني عشرة ساعة من النهار(10/6376)
ولاثنتي عشرة ساعة من الليل، لكل ساعة تأذين يسمع تأذينه من في السماوات السبع، ومن في الأرضين السبع إلا الثقلان: الجن والإنس. ثم يتقدم بهم عظيم الملائكة فيصي بهم. /
وذكر أن ميكائيل يوم الملائكة في البيت المعمور. هذا كله من حديث ابن وهب عن الليث عن رجاله.
" وروى ابن عباس عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} قالت له: فأين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط ".
وقال أبو أيوب الأنصاري: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم حَبْرٌ من أحبار اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عز وجل في كتابه:(10/6377)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فأين الخلق عند ذلك؟ قال: " هم كرقم في الكتاب ".
وروى ابن الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: إن السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما في يد الله تبارك وتعالى كخردلة في يد أحدكم.
قال أبو محمد مؤلفه ( رحمه الله) : ويجب على أهل الدين والفضل والفهم أن يجروا هذه الأحاديث التي فيها ذكر اليد والإصبع ونحوه على ما أتت، وألا يعتقد في ذلك جارحة (ولا تشبيه، فليس كمثل ربنا) شيء. ومن توهم في ذلك جارحة فقد شبه الله سبحانه وعدل عن الحق
ثم قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي: تنزيهاً له وتبرية من السوء والشرك.
قوله تعالى ذكره {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ} - إلى قوله - {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}، أي: ونفخ إسرافيل في القرن فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. وهذه هي النفخة الثانية.(10/6378)
وقيل: الصور جمع صورة.
فالمعنى: ونفخ إسرافيل في صورة بني آدم فماتوا. والأول أكثر.
وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ الله}. قال السدي وغيره: هو جبريل وميكائيل وملك الموت.
وكذلك روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يموتون في هذه النفخة (صلوات الله عليهم) ثم يموتون بعد ذلك، فلا يبقى إلا الله الحيّ القيوم، ثم يحيي الله تعالى إسرافيل عليه السلام ويأمره أن ينفخ في القرن لإحياء الخلق بإذن الله عز وجل. والله المميت للخلق بالنفخة التي هي نفخة الصعق وهو المحيي للخلق بالنفخة التي هي نفخة الأحياء ".(10/6379)
قال ابن جبير: عنى بذلك (شهداءهم) حول العرش (متقلدو السيوف).
وقيل: استثناء الشهداء، إنما هو في [نفخة الفزع. وهي الأولى.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينفخ في الصور ثلاث نفخات]: النفخة الأولى، نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله جل ذكره إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله، فقال أبو هريرة: يا رسول الله، فمن استثنى حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله}؟
قال: أولئك الشهداء. (وإن ما يصير) الفزع إلى الأحياء. أولئك أحياء عند(10/6380)
ربهم يرزقون (ووقاهم الله) فزع ذلك اليوم وأمنهم.
ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل بنفخة الصعق فيقول: نفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شئت، فيقول له وهو أعلم: من بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل.
(وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!).
فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتاب الموت على من كان تحت عرشي.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله عز وجل وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل.
(وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!).
فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله عز وجل وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي (لا تموت وبقي) حملة عرشك وبقيت أنا، فيقول له: فليمت حملة عرشي، فيموتون، ويأمر الله عز وجل العرش فيقبض الصور.
ثم يأتي ملك الموت، فيقول: يا رب، قد مات حملة عرشك، فيقول: ومن بقي؟ - وهو أعلم - فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي خُلِقْتَ لما رأيت فمَتْ، فيموت ".(10/6381)
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني ملك الموت فقال: يا محمد، اختر: نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً. فأومأ إليَّ جبريل أن تواضع.
قال: فقلت: نبياً عبداً. فأعطيت خصلتين: جعلت أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، فأرفع رأسي فأجد (موسى آخذاً) بالعرش فالله أعلم، بعد الصعقة الأولى أم لا ".
وفي حديث آخر: " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من يرفع رأسه. فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع / رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل ".(10/6382)
وفي حديث آخر: " فلا أرى أحداً إلا موسى متعلقاً بالعرش، فلا [أدري، أممن استثنى] الله جل ثناؤه ألا تصيبه النفخة أو بعث قبلي ".
وقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى}، يعني: نفخة البعث.
{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بين النفختين [أربعون]، ثم ينزل الله جل ذكره من السماء ماء فينبتون كما يُنْبَتُ البقْلُ. قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عَظْم واحد وهو عَجْبُ الذَّنْب ومنه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة ".(10/6383)
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتأولون الأربعين أربعين سنة.
وقال الحسن: لا أدري، أهي أربعون سنة، أم أربعون شهراً، أم أربعون ليلة، أم أربعون ساعة.
قال قتادة: ذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مَطَر يُقَالُ له مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نبات البقل، ثم ينفخ فيه الثالثة فإذا هم قيام ينظرون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يبعث الله المؤمنين يوم القيامة جُرْداً مُرْداً بنو ثلاثين سنة ".(10/6384)
وقال أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، فلا يبقى الله بين السماوات والأرض - إلا من شاء الله - إلا مات. ثم يرسل الله من تحت العرش مَنَيَّا كمني الرجال جسمانهم ولحمانهم من ذلك كما تنبت الأرض، ثم قرأ عبد الله {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9]- إلى قوله - {كَذَلِكَ النشور} [فاطر: 9] قال: ويكون بين النفختين ما شاء الله ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها.
ثم قال تعالى ذكره: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا}، أي: أضاءت.
يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وَصَفَت، وَشَرَقَت إذا طلعت.
وذلك حين يجيء الرحمان لفصل القضاء بين خلقه.
وروي أن الأرض يومئذ أرض من فضة تضيء وتشرق بنور ربها لا بشمس ولا بقمر.
والمعنى: أضاءت الأرض بنور (خلقه الله).
فإضافة النور إليه تعالى على طريق خلقه له مثل قوله: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] تبارك وتعالى.
وقيل: معناه: أشرقت بعد الله عز وجل وحُكمه الحق تبارك وتعالى لأن له نوراً(10/6385)
كنور الشمس والضياء، وهو أعظم وأجل من ذلك، ليس كمثله شيء. وهذا كقوله عز وجل: { الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35]، أي: بِهُدَاه يهتدي أهل السماوات والأرض. لم يُرِدِ النُّور الذي هو الضياء، ولو كان ذلك، لم يوجد ظلام لأنه باق في الليل والنهار.
وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تنظرون إلى الله سبحانه لا تضامون في رؤيته ".
وقد اختلف في هذه اللفظة على أربعة أوجه:
- لا تُضامُون - مُخَفَّفاً -، أي: لا يلحقكم ضيم كما يلحق في الدنيا في النظر إلى الملوك.
- والوجه الثاني: لا تُضامُّون - مشدداً -، أي: لا ينضم بعضكم لبعض ليسأله أن يريه إياه.
- والوجه الثالث: (لا تُضارُون) - مخففاً -، أي: لا يلحقكم ضير في رؤيته من ضارَه يضيرُه.
- والوجه الرابع: (لا تُضارُّون) - مشدداً، أي: لا يخالف بعضكم(10/6386)
بعضاً في صحة رؤيته. يقال: ضاررته مضارة، أي: خالفته.
ثم قال تعالى ذكره: {وَوُضِعَ الكتاب}، يعني: كتاب أعمال العباد وحسابهم.
وقيل: هو اللوح المحفوظ.
{وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء}، أي: جيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابت به] أممهم وردت عليهم في الدنيا.
والشهداء، يعني: الذين يشهدون على الأمم. وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، أي: عدلاً {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143].
وقيل: عنى بالشهداء هنا: الذين قتلوا في سبيل الله. والأول (أولى وأبين).
وقال السدي: الشهداء: الذين استشهدوا في طاعة الله عز وجل.
وقال ابن زيد: هم الحفظة يشهدون على الناس بأعمالهم.(10/6387)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق}، أي: قضى / بين النبيين وأممهم بالحق؛ فلا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يظلم أحد فينقص من عمله. ثم قال تعالى:
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ}، أي: جزاء عملها من خير وشر.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا من طاعة له أو معصية. فيثيب المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولا تظلم نفس شيئاً.
قوله تعالى ذكره: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} - إلى آخر السورة.
أي: وحشر الذين كفروا بالله عز وجل إلى ناره يوم القيامة.
{زُمَراً}، أي جماعة جماعة. حتى إذا جاءوا جهنم فتحت أبوابها لهم ليدخلوها.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ}، أي خزنة جهنم.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}، أي: بشر مثلكم.
{يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ}، أي: كتب الله سبحانه.
{وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا}، أي: مصيركم إلى هذا اليوم (وما تلقون فيه.
{قَالُواْ بلى}، أي: بلى قد جاءتنا الرسل وأنذرتنا لقاءنا هذا اليوم).(10/6388)
{ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين}، أي: كلمة الله أن عذابه لاحق بمن كفر به. بكتبه ورسله.
ثم قال تعالى {قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: قالت لهم الخزنة ادخلوا أبواب جهنم) السبعة على قدر منازلكم فيها ماكثين فيها لا تنقلون عنها إلى غيرها.
{فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}، أي: فبيس مسكن المتكبرين على الله سبحانه جهنم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً}، أي: حشروا إلى دخول الجنة جماعة جماعة.
{حتى إِذَا جَآءُوهَا}، أي: جاؤا الجنة.
{وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}. قال الكوفيون: " فتحت " جواب " إذا " والواو زائدة.
وقال بعضهم: الجواب: قال لهم خزنتها، والواو في " وقال " زائدة.
وقال المبرد: الجواب محذوف، والتقدير: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها(10/6389)
سَعِدُوا.
وقال الزجاج: تقدير الجواب المحذوف: " طبتم فادخلوها خالدين، دخولها.
ودلت الواو في " وفتحت " أن الجنة كانت مفتحة لهم الأبواب منها قبل أن يجيؤها.
(ودل حذف الواو في قصة أهل النار من " فتحت " أنها مغلقة قبل أن يجيؤها) ففتحت عند مجيئهم.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، (أي: قال للذين اتقوا ربهم خزنة الجنة سلام عليكم)، أي: أمنة من الله لكم.
وقوله {طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ}، أي: طابت أعمالكم في الدنيا فطاب اليوم مثواكم.(10/6390)
وقال مجاهد: معناه: " كنتم طيبين (بطاعة) الله عز وجل ". فادخلوا أبواب الجنة خالدين، أي: ماكثين أبداً لا انتقال لكم عنها.
ويروى أن حشر المتقين في الآخرة يكون على نجائب من نجائب الجنة.
وحشر الكفار يكون بالدفع والعنف. قاله ابن زيد وغيره.
وقرأ ابن زيد في الكفار: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]. وقرأ في المتقين {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} [مريم: 85]. ويروى عن علي رضي الله عنهـ أنه قال في المتقين: يساقون إلى الجنة فيجدون عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان تجريان، فيعمدون إلى إحداهما فيغتسلون فيها، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبداً، ولن تغير جلودهم بعدها أبداً كأنما دهنوا بالدهان.
ويعمدون إلى الأخرى فيشربون منها فيذهب ما في بطونهم من قذى وأدى، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون فيفتح لهم فتتلقاهم خزنة الجنة فتقول: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.
قال: وتتلقاهم الولدان المخلدون يطوفون بهم كما يطوف ولدان أهل الدنيا(10/6391)
بالحميم إذا جاء من الغيبة، أبشر، أعد الله لك كذا وأعدلك كذا. فينطلق أحدهم إلى زوجته فيبشرها به، فيقول قدم فلان - باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا - قال: فَيَسْتَحِفُّها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها، فتقول: أنت رأيته، (أنت رأيته) قال: فيقول: نعم، فيجيء حتى يأتي منزله. قال: أصوله من جندل اللؤلؤ بين أصفر وأخضر وأحمر. . . قال الله جل ذكره: {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 14 - 16]. قال: ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين، فلولا أن الله أعدّها له لا ليمتع بصره من نورها وحسنها. فاتكأ عبد الله ويقول: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43]. فتنازيهم الملائكة أن تلكم الجنة وأورثتموها بعلمكم.
وقال السدي: لهو أهدى إلى منزلة في الجنة منه إلى منزله في الدنيا. ثم قرأ السدي: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6].
ثم قال تعالى ذكره: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}، أي: له الحمد خالصاً إذ صدقنا ما كان وعدنا في الدنيا على طاعته. {وَأَوْرَثَنَا الأرض}، أي: أرض الجنة.(10/6392)
وقيل: أورثوا الأرض التي لأهل النار لو كانوا مؤمنين.
وقوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ}، أي: نسكن منها حيث نحب. فنعم أجر العملين، أي فنعم ثواب المطيعين العاملين له في الدنيا: الجنة في الآخرة.
ثم قال تعالى ذكره: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش}، أي: وترى يا محمد يوم القيامة الملائكة محدقين من حول العرش.
والعرش: السرير. وواحد حافين: حاف، قاله الأخفش.
وقال الفراء: لا يفرد.
ودخلت " من " في قوله: {مِنْ حَوْلِ العرش} لأنه ظرف، والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. ومثله قوله: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} [الزمر: 65، والشورى: 3].
وقال بعض البصريين: دخلت " من " في الموضعين توكيداً.
ثم قال: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}، أي: يصلون حول عرش ربهم شكراً لَهُ.(10/6393)
والعرب تدخل الباء مع التسبيح وتحذفها. تقول: سبح بحمد ربك وسبح حمد ربك. كما قال: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] وقال: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74 و 96].
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق}، أي: وقضى الله بين النبيين والأمم والشهداء بالعدل.
{وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}، أي: وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر الذي ابتدأ خلقهم ووفقهم للعمل بطاعته.
قال قتادة: فتح أول الخلق بالحمد لله فقال: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] وختم بالحمد فقال: {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}.(10/6394)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
سورة (المؤمن) مكية.
قوله (تعالى ذكره): {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} - إلى قوله - {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ}.
من رواية ابن وهب روى أن ابن عباس كان يقول: " لكل شيء لباب وأن لباب القرآن الحواميم ".(10/6395)
ويقال: من ديباج القرآن.
وعن ابن مسعود أنه قال: من أراد رياضاً فليقرأ الحواميم. من رواية ابن وهب.
قرأ عيسى بن عمر: حاميم بفتح الميم. نصبه بإضمار فعل.
والتقدير: اقرأ حاميم. ولكن لا ينصرف لأنه اسم لمؤنث، إذ هو اسم السورة.
وقيل لم ينصرف لأنه بمنزلة أبنية بعض الأسماء الأعجمية (كهابيل)(10/6396)
وقابيل.
ويجوز أن تكون فتحة الميم بناء (لالتقاء) الساكنين.
قال ابن عباس (الّر وحمَ ونون) مقطعة من الرحمن. وعنه أيضاً أن حَم: اسم من أسماء الله عز وجل وهو قسم.
وعنه أن حّم اسم الله الأعظم.
وقال قتادة: حَم اسم من أسماء القرآن.
وقال الضحاك: حَم: قضى هذا القرآن.(10/6397)
جعله مأخوذاً من حَم الامر إذا وجب.
والمعنى: حَم تنزيل هذا الكتاب من عند الله عز وجل.
{ العزيز} في انتقامه من أعدائه.
{العليم}، أي: العالم بما يعمل خلقه وبغير ذلك.
ثم قال تعالى: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب}.
{غَافِرِ} خُفِضَ على البدل ولا يحسن أن يكون نعتاً لأنه نكرة إذ هو لما يستقبل ومثله: {وَقَابِلِ التوب}. فإن جعلتهما. لما مضى حَسُنَ، لأنه تعالى ذكره لم يزل غفاراً لذنوب عباده قابلاً للتوبة ممن تاب منهم. فيحسن على هذا أن يكونا نعتين لله جل ذكره، ويحسن أن يكونا بدلاً.
والتوب: جمع توبة كدومة ودوم. ويجوز أن يكون التوب مصدراً كتوبة يقال: تاب توبة وتوباً.(10/6398)
فأما قوله {شَدِيدِ العقاب} فهو نكرة، فلا يجوز أن يكون إلاّ بدلاً.
فأما قوله: {ذِي الطول} فيحسن أن يكون معرفة لأنه لم يزل كذلك، فيجوز (على ذلك أن يكون) نعتاً وبدلاً.
وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملة في موضع النعت.
ومعنى {شَدِيدِ العقاب}، أي: لمن عاقبه من أهل العصيان.
ومعنى {ذِي الطول}: ذي الفضل المبسوط على من يشاء من خلقه.
قال ابن عباس: ذِي الطَّوْلِ: " ذِي السَّعَة والغنى ".
وقيل: معناه: ذي الطول على أوليائه يضاعف لهم الحسنات ويعفو عن السيئات. وقيل: معناه: ذي الغناء عمن لا يقول: " لا إله إلا الله " ودل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: لا إله إلا هو.
وقال قتادة: " ذي الطول: ذي النعم ".(10/6399)
وقال ابن زيد: الطول: القدرة.
ومعنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير}، أي: لا معبود غيره، إليه المرجع.
ثم قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ}، أي: ما يجادل في حجج الله وأدلته وينكرها إلا الذين جحدوا توحديه (ورسالتك).
{فَلاَ يَغْرُرْكَ} يا محمد {تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد} في البلاد، أي: لا يغررك يا محمد تصرفهم وبقاؤهم مع كفرهم فتحسب أنهم على شيء من الحق، إنما أمهلهم ليبلغ الكتاب أجله.
قال قتادة: {تَقَلُّبُهُمْ} في البلاد تصرفهم في أسفارهم.
ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}، أي: كذّبت قبل قومك يا محمد قوم نوح.(10/6400)
{والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ}، يعني عاداً وثموداً وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون. كذبوا كلهم بعد نوح وغيرهم. فكما كان عاقبة أولئك الذين كذبوا الهلاك، كذلك يكون عاقبة هؤلاء على تكذيبهم لك.
ثم قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}. قال قتادة: ليقتلوه.
ثم قال تعالى: {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}، أي: وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم الحق الذي جاء به من عند الله.
وأصل الدحض، الزلق.
ثم قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، أي فأخذهم عقاب الله. فجعلهم عبرة وعظة لمن بعدهم.
ثم قال تعالى ذكره: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا}، أي: وجبت وهو قوله جل ذكره: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119، السجدة: 13].
والمعنى: كما وجب العذاب على الأمم السالفة بتكذيبهم الرسل، كذلك وجب على من كذبك يا محمد.
ثم أخبر تعالى ذكره أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين: {الذين(10/6401)
يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}، أي: يحملون عرش الله جل ذكره، وعز وجهه.
والذين حول العرش من ملائكته يصلون بحمده وشكره.
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، أي: يقرون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقروا بمثل إقرارهم.
وقال قتادة: ويستغفرون للذين آمنوا: أهل لا إله إلا الله.
ثم قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، أي: ويقولون: ربنا، وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك فعلمت كل شيء لا يخفى عليك شيء، ورحمت خلقك فوسعتهم رحمتك، فرزقتهم على كفر من كفر منهم بك برحمتك، برزقك قد وَسِعْتَ الكافر والمؤمن، ووسعت المؤمنين في الآخرة فأنقذتهم من النار وأدخلتهم الجنة.(10/6402)
ثم قال عنهم أنهم قالوا: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ}: أي: تابوا من الشرك.
{واتبعوا سَبِيلَكَ}، أي: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام. قال قتادة: اتبعوا سبيلك، أي طاعتك ".
{وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم}، أي: اصرف عنهم عذاب النار يوم القيامة.
وسؤال الملائكة الله عز وجل في المغفرة للمؤمنين وإدخالهم الجنة هو قوله تعالى
{كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} [الفرقان: 16]، أي: إدخال المؤمنين الجنة والمغفرة لهم هو وعد من الله للملائكة فيهم إذ (سألوه) ذلك، وهو سؤالهم الله في هذه السورة. قال جميع ذلك القرطبي.
وجاز أن يسألوا الله عز وجل ما قد وعد به سبحانه وتعالى على طريق التعجيل بذلك لهم على طريق الوفاء لهم بما وعدهم، فالله لا يخلف الميعاد، فلا يُسأل في وفاء(10/6403)
وعده إنما هو سؤال أن يعجل لهم ذلك.
ثم قال تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ}، أي: ويقولون يا ربنا وأدخل هؤلاء الذين تابوا عن الشرك جنات إقامة.
قال كعب: جنات عدن: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيئون والصديقون والشهداء. وأئمة العدل.
ثم قال تعالى: {وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ}، أي: وأدخل جنات عدن من صلح من آباء هؤلاء التائبين وأزواجهم وذرياتهم.
قال قتادة: يدخل الرجل الجنة فيقول أين أبي؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي فيقال: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم! فيقال: أدخلوهم الجنة، ثم قرأ: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} الآية.
وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}، أي: العزيز في انتقامك من أعدائك، الحكيم في تدبير خلقك.
ثم قال تعالى: {وَقِهِمُ السيئات وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي: ويقولون يا(10/6404)
ربنا وقهم عذاب السيئات التي عملوها في الدنيا، ومن تقه عقاب السيئات يوم القيامة فقد دحمته.
{وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}، أي: النجاة من النار.
وقال نِفْطَوَيْه: معنى السيئات، أنها ما يسوء صاحبها.
فمعنى: {وَقِهِمُ السيئات}: وقهم ما يسوءهم من عقابك وغضبك، ومنه قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى} [الأعراف: 130]، أي: إن يصبهم ما يسوءهم يطيَّروا بموسى: وكذلك قوله: {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78]، معناه: ما أصابك من سوء فبذنبك.
قال مطرف: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد(10/6405)
للشياطين، ثم تلا الآية {الذين يَحْمِلُونَ العرش}.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ}.
قال الحسن، يعطون كتابهم، فإذا نظروا في سيئاتهم مقتوا أنفسهم فيقال لهم: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسهم اليوم.
فمن الآية تقديم وتأخير على قوله.
قال مجاهد: إذا عاينوا أعمالهم مقتوا أنفسهم فنودوا: لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم.
قال قتادة: معناه: لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم إذا عاينتم النار - مثل قول الحسن - وهو الكسائي وغيره.
وقيل: معناه: (كبر مقتكم أنفسكم) أكبر من مقت بعضكم بعضاً(10/6406)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يوم القيامة، لأن بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة.
وقيل: الآية فيها تقديم وتأخير لأن النداء بالمقت لهم يكون في الاخرة ووقت دعائهم للإيمان هو في الدنيا.
والتقدير: ينادون (يوم القيامة)، لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان في الدنيا فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم عند الحساب.
وفي هذا التقدير تفريق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء وهو " أكبر " وما اتصل به، فلا يحسن ذلك عند النحويين.
قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين} - إلى قوله - {السميع البصير}.
قال ابن عباس والضحاك: هذا مثل قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] الآية.
وقال قتادة: كانوا أمواتاً في أصلاب أبائهم فأحياهم الله عز وجل في الدنيا، ثم أمهاتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث، فهاتان حياتان وموتتان.(10/6407)
وقال السدي: اُميتوا في الدنيا، ثم أُحيوا في قبورهم فسئلوا وخوطبوا ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحبوا في الآخرة.
وقال ابن زيد: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وأمهاتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أمهاتهم في الدنيا، ثم أحياهم في الآخرة.
وقوله تعالى: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}، أي: فأقررنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من النار لنا سبيل، فهل إلى كرة فنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ}. في الكلام حذف؛ والتقدير: فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج، ذلكم العذاب بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، أي: إذا وحده كفرتم، أي: إذا وحده موحد أشركتم وإن أشرك به مشرك صدقتموه.
وذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات، يكلمهم الله في الاربعة فإذا كانت الخامسة سكتوا:(10/6408)
{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}. قال: فيراجعهم بهذه الآية: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} الآية.
ثم يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] قال: فيرد عليهم: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]- إلى - {أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
ثم يقولون: {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} [إبراهيم: 44]. قال: فيراجعهم بهذه الآية: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44].
قال: ثم يقولون: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فيراجعهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير} [فاطر: 37].
قال: ثم يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]، قال:(10/6409)
فيراجعهم: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].
قال: فكان آخر كلامهم ذلك.
قال أبو محمد: وفي بعض رواية هذا الحديث تقديم وتأخير فيما ذكرنا.
ثم قال تعالى: {فالحكم للَّهِ العلي الكبير}. فالقضاء لله، لا لما تعبدونه، العلي على كل شيء، الخبير الذي كل شيء دونه متصاغر له.
ثم قال تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، أي: الله هو الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته.
{وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً}، يعني: الغيث، يخرج به أقواتكم وأقوات أنعامكم.
{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ}، أي: ما يتذكر حجج الله عز وجل وأدلته على قدرته ووحدانيته فيتعظ ويعتبر إلا من يرجع إلى توحيد الله سبحانه وطاعته جلت عظمته.
ثم قال: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، أي: ادعوا الله أيها المؤمنون مخلصين له الطاعة ولو كره ذلك منكم الكافرون.(10/6410)
ثم قال تعالى: {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش}، أي: هو رفيع الصفات ذو السرير المحيط بما دونه.
{يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: ينزل الوحي على من يشاء، يختص بذلك من يشاء من خلقه. وقيل: " من " بمعنى الباء. والمعنى: يلقي الروح بأمره أي: يلقي الوحي بأمره على من يشاء.
وقيل: معنى {رَفِيعُ الدرجات} (هي الدرجات) التي يعطيها الله عز وجل للأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين في الجنة.
فالمعنى: رفيع الثواب والمجازاة للأنبياء والمؤمنين.
وسمي الوحي روحا لأن الناس يحيون من الضلالة، والمهتدي حي، والصال (ميت في) التمثيل.
قال مجاهد: الروح هنا: الوحي، وقال قتادة: هو الوحي والرحمة.(10/6411)
وقال ابن عباس: الروح: النبوة.
وقال: الضحاك: الكتاب الذي ينزله على من يشاء ومثله قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، يعني: القرآن في قول جميع المفسرين.
والروح: جبريل أيضاً، وهو قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] سمي روحاً لأنه ينزل من عند الله تعالى بما يجيء به من أنزل عليه.
فأما قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} فقال ابن زيد: الروح هنا القرآن. وفيه اختلاف سيذكر إن شاء الله.
والضمير في " لينذر " يعود على الله جل ذكره، وقيل: يعود على الروح وهو الوحي، وقيل: يعود على النبي.
وقد قرأ الحسن " لتنذر " بالتاء على المخاطبة.(10/6412)
وقوله: {يَوْمَ التلاق}، أي: يوم يلتقي أهل السماوات وأهل الأرض، والأولون والآخرون. ثم قال: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} " يوم " بدل من " يوم " الأول ".
وقيل العامل فيه: " لا يخفى على الله منهم شيء {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ}.
وقيل: معناه: بارزون من قبورهم.
ثم قال تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم}، أي: يقول الله جل ذكره: لمن الملك اليوم؟.
فيجيب نفسه: {لِلَّهِ الواحد}، أي: المنفرد / بالوحدانية والقدرة. {القهار} لكل شيء سواه.
وروى أبو وائل عن ابن مسعود (أنه قال): يحشر الناس على أرض(10/6413)
بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عز وجل عليها. فيؤمر منادى أن ينادي: لمن الملك اليوم؟ فيقول العباد: لله الواحد القهار المؤمن منهم والكافر.
ثم أول ما ينظر من الخصومات في الدماء بمحضر القاتل والمقتول. فيقول: سل هذا: لم قتلني؟ فإن قال: قتلته لتكون العزة لفلان، قيل للمقتول: اقتله كما قتلك، وكذلك إن قتل جماعة أذيق القتل كما أذاقهم في الدنيا وهو قوله تعالى:
{اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية.
أي: تثاب بما علمت في الدنيا لا يظلم أحد فيعاقب بما لم يفعل ولا يضيع ظلمه (عند من ظلمه).
{إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}، أي: ذو سرعة في محاسبته عبادة يومئذ على أعمالهم.
روي أن ذلك اليوم لا ينتصف حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قد فرغ الله عز وجل من حسابهم والفصل بينهم.
فالمعنى: إنه تعالى لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة أحد.(10/6414)
وقد روي أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم في مقدار حلب شاة، وإنما هو تعالى يريد حساب كل نفس ويحدثه فيحدث لكل واحد منهم محاسبة في الحال التي يحدث فيها المحاسبة والمساءلة لأن بعض كلامه لا يشغله عن بعض، وكذلك بعض خلقه لا يشغله عن بعض، وهذه هي الصفات التي لا يشاركه فيها أحد، ليس كمثله شيء. ولا يجوز لأحد أن يتأول أو يتخايل إليه في محاسبة الله سبحانه خلقه أنه يحاسبهم بكلام أو لسان. تعالى الله عن الجوارح وعن مشابهة المخلوقين، إنما يحدث لكل إنسان محاسبة في الحال التي يريد محاسبته فيها. فافهم هذا ونزه الله عن التشبيه بالمخلوقين.
ثم قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة}، أي: وأنذر يا محمد مشركي الهعرب وحذرهم من يوم الآزفة، يعني: يوم القيامة. وسميت آزفة لقربها. يقال أزف الشيء إذا قرب.
ثم قال: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ}.
قال قتادة: ارتفعت القلوب في الحناجر من المخافة.(10/6415)
فلا هي تخرج ولا تعود في أمكنتها.
و {لَدَى}، بمعنى: عند.
{كَاظِمِينَ}: مفتاظين لا شيء يزيل غيظهم.
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ}، أي: من قريب (ولا صديق) يحتج عنهم فيزيل عظيم ما نزل بهم.
{وَلاَ شَفِيعٍ} يشفع لهم عند ربهم عز وجل فيما يشفع فيه.
قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإذا الرجل منهم يشفع في صديقه وقريبه، فإذا رأى الكافر ذلك قال: ما لنا من شافعين ولا صديق حميم.
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}، أي: يعلم الله جل ذكره خائنة أعين عباده وما أخفته صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى يتحدث به في نفسه ويضمره في قلبه.
ومعنى " خائنة الأعين " هو أن الله تعالى يعلم ما أراد بنظره إذا نظر وما ينوي بذلك في قلبه.(10/6416)
قال ابن عباس: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}: يعلم إذا نظرت إلى المرأة أتريد بذلك الخيانة أم لا. " وما تخفي الصدور "، أي: إذا قدرت عليها أتزني أم لا.
وقوله: {والله يَقْضِي بالحق}، أي: يقدر أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة.
وروى ابن وهب عن رجاله عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل تمر به المرأة فيُرَى القوم أنه يغض بصره، فإذا أغفلوا نظر إليها: ويريهم (أنه يغض) بصره ويود لو أنه يطلع على عورتها ويقدر عليها.
وعن ابن عباس أنه قال في " خائنة الأعين ": إنه الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر أصحابه إليه غض بصره، (وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها، فإذا رأى منهم غفلة تدسس النظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره).
قال مجاهد: خائنة الأعين: نظر العين إلى ما نهى الله عز وجل عنه.(10/6417)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وقال قتادة: يعلم همزه بعينه، وإغماضه فيما لا يحب الله جل ذكره ولا يرضى به.
قال الفراء: " خائنة الأعين ": النظرة الثانية و {وَمَا تُخْفِي الصدور} النظرة الأولى " {والله يَقْضِي بالحق}، أي: يجازي من غض بصره عن محارمه حذر الموقف بين يديه، ومن ردد النظر وعزم قلبه على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها.
قال الزجاج: " خائنة الأعين " نظر ونيّته الخيانة.
ثم قال: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ}، أي: والأوثان التي يدعو هؤلاء (المشركون) من قومك من دون الله.
{لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}، أي لا تقدر على شيء ولا تعلم شيئاً، فاعبدوا الله الذي هو {السميع} لما تنطق به ألسنتكم {البصير} بما تعملون من الأفعال، المحيط بكل ذلك.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض} - إلى قوله - {إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد}،(10/6418)
أو لم يسر هؤلاء المشركون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم فيحذروا أن يصيبهم بتكذيبهم لك يا محمد مثل ما أصاب من كان قبلهم من الأمم / الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة وأعظم أجساماً وأكثر آثاراً في الأرض من البناء والحرث.
{فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} فأهلكهم، ولم تنفعهم شدة قوتهم، ولا كثرة آثارهم، ولا وقاهم أحد عذاب الله إذ جاءهم، بل حل بهم ذلك. فهؤلاء الذين أضعف أجساماً وأقل آثاراً أحرى أن يأتيهم عذاب الله إذ جاءهم، بل حل بهم ذلك. فهؤلاء الذين أضعف أجساماً وأقل آثاراً أحرى أن يأتيهم عذاب الله إن تمادوا على كفرهم.
ثم قال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}: هذه الآية تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله عز وجل أن موسى قد لقي من فرعون وقومه أمراً عظيماً مثل ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قومه، وأنه صبر على ذلك. فواجب أن تصبر أنت على ما نالك يا محمد فإنك العالي عليهم ولك العاقبة الحسنى كما كان ذلك لموسى على فرعون.
والسلطان (هنا: الحجة)، أي: حجة بينة لمن رآها.
أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون وهامان وقارون بالآيات الواضحة فما كان جوابهم إلا أن قالوا هو ساحر كذاب.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ}، أي: فلما جاء موسى الذي أرسل إليهم بالحق من عند الله عز وجل، أي: بالحجة والبرهان على توحيد الله عز وجل وطاعته وإقامة الحجة عليهم قالو: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، أي:(10/6419)
اقتلوا أبناء بني إسرائيل الذين آمنوا معه.
{واستحيوا نِسَآءَهُمْ}، أي: استبقوهم لخدمتهم لكم. وهذا أمر من فرعون بعد أمره الأول، لأنه كان قد أمر بقتل الولدان من بني إسرائيل خوفا من مولود يولد منهم يكون هلاكه على يديه، وكان ذلك قبل ولادة موسى عليه السلام - وقد تقدم ذكر ذلك - ثم إن موسى لما دعاه إلى الله وأتاه بالآيات الظاهرات، ورأى أن بني اسرائيل آمنوا بموسى وصدقوه، أمر بأن يقتل أبناء من آمن بموسى ليعيد عليهم العذاب وينكل بهم إذ آمنوا بموسى.
قال قتادة: " هذا قتل غير القتل الأول الذي كان ".
وقوله: {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}، أي: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله عز وجل إلا في جور عن الحق.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، أي: خلوا بيني وبين قتله، وليدع ربه أن ينجيه مني.
{إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} بما أتاكم به.
{أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد}، أي: أخاف هذين الأمرين.
ومن قرأه " أو "، فمعناه: أخاف أحد هذين الأمرين.(10/6420)
وقيل: إنَّ " أو " بمعنى الواو.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب}: وقال موسى لفرعون وقومه لما تواعدوه بالقتل: إني استجرت بربي وربكم {مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ}، أي: عن توحيد الله عز وجل وطاعته سبحانه لا يؤمن بالبعث والجزاء.
وإنما خص موسى الاستجارة بالله سبحانه من هذا الصنف إنما خاطب فرعون وقومه لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله سبحانه ولا بالبعث.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}.
قيل إنه رجل من بني عم فرعون ولكنه آمن بموسى وكتم إيمانه خوفا من فرعون. قاله السدي.
وقيل: بل كان الرجل (إسرائيليا، ولكنه) كان يكتم إيمانه من آل فرعون خوفا على نفسه، فيكون في الكلام تقديم وتأخير على هذا القول.
والتقدير: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه فرعون.
" فمن " متعلقة بـ " يكتم " في موضع مفعول ثان " ليكتم "، فهو في موضع نصب.(10/6421)
وعلى القول الأول " من " متعلقة بمحذوف في موضع رفع وهي صفة لرجل كما تقول: مررت برجل من بني تميم.
والتقدير في المحذوف - على القول الأول -: وقال رجل مؤمن منسوب إلى آل فرعون، ونحو ذلك.
والأول هو اختيار الطبري لأن فرعون، أصغى إلى قوله وقبل منه، ولم يقل موسى وقال له: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد}، ولو كان إسرائيلياً لعاجله بالعقوبة كما فعل (في قتل) أبنائهم حين آمنوا بموسى.
وقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله}، أي: أتقتلون موسى من أجل قوله: الله ربي.
{وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ}، أي: بالحجج الظاهرات على صحة ما يقول لكم من توحيد الله عز وجل وطاعته سبحانه وذلك: عصاه ويده.
ثم قال: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}، أي: إن يك موسى كاذباً في قوله إن(10/6422)
الله أرسله إليكم فإثم كذبه عليه.
{وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ}، أي: وإن يكُ موسى صادقاً في قوله أصابكم بعض الذي يعدكم من العقوبة - إن قتلتموه -، فلا حاجة لكم إن قتله فتزدادوا غضباً من ربكم على غضبه عليكم لكفركم.
و" بعض " عند أبي عبيدة في موضع " كل "، لأن كل ما واعدوا به كائن لا / بعضه.
وقيل: المعنى فيه: إنه قال لهم: إن، أصابكم ما يدعدكم / موسى هلكتم فضلاً عن الكل.
وهذا تأكيد لإلزام الحجة عليهم والتخويف، لأن البعض إذا كان فيه هلاكهم فالكل أعظم ضرراً، وأشد هلاكاً.
وقيل: معناه إن موسى توعدهم بعذاب الدنيا معجلاً وعذاب الآخرة مؤخداً، فقال لهم المؤمن: يصيبكم بعض الذي يعدكم أي: عذاب الدنيا معجلاً.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}، أي: لا يوفق للحق من هو معتد إلى(10/6423)
ما ليس له فعله، كذاب (فيما يقول).
قال قتادة: المسرف هنا: المشرك، أسرف على نفسه بالشرك.
وقال السدي: المسرف هنا: القتال بغير حق.
ثم قال لهم المؤمن: {ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض} قوله: " يا قوم " يدل على أنه من آل فرعون. يعني بذلك أرض مصر، أي: لكم السلطان فيها غالبين على أهلها من بني إسرائيل وغيرهم فوعظهم وقال:
{فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا}، أي: لا أحد يرفع عنا عذاب الله إن جاءنا. فقال فرعون مجيباً له:
{مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى}، أي: ما أريكم أيها الناس من الرأي الا ما أرى لنفسي.
{وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد}، أي: وما أدعوكم إلا إلى الحق في أمر موسى وقتله.
وقرأ معاذ بن جبل: " سبيل الرشاد " بالتشديد. يعني أن فرعون قال(10/6424)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
لقومه: ما أهديكم إلا إلى طريق الله جل ذكره.
وهذه القراءة بعيدة في اللغة لأن " فعالاً " لا يكون من " أفعل " وإنما يكون من الثلاثي للتكثير. فإن أردت لتكثير من الرباعي جئت " بمفعال ".
وقد أجاز قوم أن يكون الرشاد بالتشديد بمعنى المرشد، (لا على أنه) جار على أرشد ولكنه مثل لال من اللؤلؤ في معناه وليس منه في الاشتقاق.
وقد أجاز قوم أن يكون من رشد، فيكون معناه: {وَمَآ أَهْدِيكُمْ} إلا سبيل صاحب رشاد كما قال: كليني لهم يا أميمة ناصب.
قوله تعالى: {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ} - إلى قوله - {إِلاَّ فِي تَبَابٍ}.(10/6425)
أي: وقال الرجل الذي آمن من آل فرعون وكتم إيمانه: يا قوم إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى ولم تؤمنوا بما جاءكم به.
{مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب}، يعني: الذين تحزبوا على رسلهم.
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}، أي: مثل عادة الله فيهم وانتقامه منهم حين كفروا برسلهم.
قال ابن عباس: مثل دأب قوم نوح: مثل حالهم، وقال ابن زيد: معناه، مثل ما أصابهم.
وقوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ}، يعني به: قوم إبراهيم وقوم لوط، وهم أيضاً من الأحزاب.
وقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ}، أي: ليس الله جل ذكره بمعذب قوماً بغير جرم.
ثم قال تعالى ذكره حكاية عن قول المؤمن لقومه: {وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}، أي: إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى ولم تؤمنوا بما جاءكم به عقاب الله يوم التنادي، أي: يوم القيامة، أي: يوم(10/6426)
يتنادى أصحاب الجنة والنار كما ذكر في سورة الأعراف وغيرها فقال: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44]، {ونادى أَصْحَابُ الأعراف} [الأعراف: 48]، {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] قاله قتادة وابن زيد.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يأمُر الله عز وجل إسرافيل عليه السلام بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيديمها ويطولها فلا تفتر - وهي التي يقول الله عز وجل: " { وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} - فيسيِّر الله عز وجل الجبال فتكون سراباً، وترتج الأرض بأهلها رجاً - وهي التي يقول الله عز وجل { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} - فتكون (الأرض كالسفينة) المزنقة في البحر تمر بها الأمواج تكفأُ بأهلها، وكالقنديل (المعلق(10/6427)
بالعرش) ترجحه (الأرواح فيميل الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل (وتشيب الولدان) وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو اليوم الذي يقول الله عز وجل: { يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} ".
فعلى هذا الحديث يكون التنادي في النفخة الأولى في الدنيا.
وقرأ الضحاك: يوم التنادي بتشديد الدال، جعله من نَدّ البعير إذا مر على وجهه هارباً. فهذا يراد به ما يكون يوم القيامة من حال الناس.
ويسعد هذه القراءة ويقويها ما روى عبد الله بن خالد قال:(10/6428)
يظهر للناس يوم القيامة عنق (من النار فيتولون) هاربين منها حتى تحيط بهم، فإذا أحاطت بهم قالوا: أين المفر؟
ثم أخذوا في البكاء حت تنفد الدموع فيكون دماً، ثم يشخص الكفار فذلك قوله:
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] ".
ويقويها أيضاً / ما وراء الضحاك، قال: " إذا كان يوم القيامة أمر الله عز وجل السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فنزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفاً دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فاذا رآها أهل الأرض نجوا، (فلا يوافقون) قطراً من أقطار الأرض إذا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه - فذلك قوله: " {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}. وذلك قوله {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} [الفجر: 22 - 23](10/6429)
وقوله: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] وذلك قوله: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 16 - 17].
وقال قتادة: يوم تولون مدبرين، أي: منطلقاً بكم إلى النار.
وقال مجاهد: يوم تولون " فارين غير معجزين ".
{مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ}، أي: ما لكم من عذاب الله سبحانه من مانع يمنعكم منه وينصركم.
ثم قال تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، أي: من يخذله الله فلا يوفقه للرشاد، فما له من موفق يوفقه له.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات}، أي: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالآيات الواضحات من حجج الله عز وجل.
قال وهب بن منبه: فرعون موسى هو فرعون يوسف.(10/6430)
(قال مالك): عمَّر (أربعمائة سنة).
وقال غيره: هو غيره.
قيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. والله أعلم بذلك.
روي أنه أقام فيهم عشرين سنة يدعوهم إلى الإيمان ثم مات.
وقيل: إن هذا من قول موسى، وقيل: هو من قول (مؤمن آل) فرعون.
ثم قال تعالى: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ}، أي: فلم تزالوا مُرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم {حتى إِذَا هَلَكَ}، (أي: مات يوسف).
{قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً}، أي: قلتم لن يأتينا من بعد يوسف(10/6431)
رسول يدعونا إلى الحق.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}، أي: هكذا يصد الله عز وجل عن إصابة الحق من هو كافر شاك في الحق.
ثم قال تعالى: {الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} (أي: كذلك يضل الله الذين يجادلون في حجج الله وآياته بغير حجة أتتهم) من عند الله عز وجل.
ثم قال: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ} أي: كبر جدالهم مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع الله على قلوب المسرفين المجادلين في آيات الله بالباطل، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله سبحانه أن يوحده.
{جَبَّارٍ}، أي: متعظم عن اتباع الحق. {آتِيهِمْ} [هود: 76]: وقف عند الجماعة.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب}، (أي: وقال فرعون - لما وعظه المؤمن وزجره عن قتل موسى - لزيره هامان: ابن لي بناء لعلي أطلع عليه فأبلغ (أبواب السماء) وطرقها، وكان أول من بنى بهذا الأَجُرّ.(10/6432)
قال ابن عباس: أسباب السماوات منازل السماوات.
والأسباب في اللغة: كلما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب.
وقيل: لعلي أبلغ من أسباب السماوات أسباباً أتسبب بها إلى (رؤية إله) موسى.
{وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}، أي: أظن موسى فيما يدعى كاذباً.
أشهب عن مالك قال: سمعت أن فرعون عاش (أربعمائة سنة) وأنه أقام (بعدما) أتاه موسى بالآيات وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] أربعين سنة.
قال مالك قال الله عز وجل: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178].
وقال: لم يكن فرعون من بني إسرائيل.
ويروى أن فرعون مكث أربع مائة سنة لم يصدع له رأس، يغدو عليه الشباب ويروح.(10/6433)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
قال ابن لهيعة: كان فرعون من أبناء مصر واسمه، الوليد بن مصعب بن معان.
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ}، أي: هكذا زين الله عز وجل لفرعون قبيح عمله لما كفر حتى سولت له نفسه بلوغ أسباب السماوات والتطلع إلى (رب العزة).
ثم قال: {وَصُدَّ عَنِ السبيل}، أي: مُنع من الاهتداء إلى الحق، أي: منعه الله عز وجل من ذلك لكفره وعتوه.
ثم قال: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ}، أي: وما احتيال فرعون ومكرره إلا في خسارة وذهاب وضلال وباطل لا ينتفع بحيلته ومكره.
قوله تعالى: {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون} - إلى قوله - {نَصِيباً مِّنَ النار}.
أي: وقال لفرعون / المؤمن من قومهم: اتبعون فقولوا مثل قولي تهتدوا إلى(10/6434)
الحق والرشاد والصواب.
وقال لهم: {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} تستمتعون به إلى أجل ثم تفارقونه بالموت.
{وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار}، أي: هي الدار التي تستقرون فيها وتخلدون ولا تموتون فيها، فاعملوا لها.
ثم قال تعالى حكاية عن قول المؤمن: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: من عمل بمعصية الله سبحانه في هذه الدنيا، جوزي بذلك في الآخرة، ومن عمل بطاعة الله عز وجل وهو مؤمن بالله سبحانه فأولئك يدخلون الجنة في الآخرة يرزقهم الله عز وجل فيها بغير حساب.
قال قتادة: لا، والله ما هنالك مكيال ولا ميزان.
قال قتادة: من عمل سيئة شركاً بالله عز وجل، ومن عمل صالحاً: خيراً.
وقال بعض أهل التأويل: إن المؤمن في هذه الآية هو موسى، قال لهم:(10/6435)
{ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد}، إلى أخر الآيات.
وأكثر المفسرين على أنه مؤمن آل فرعون. والله أعلم.
ثم قال تعالى حكاية عن المؤمن أنه قال لهم:
{وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار}، أي: إذا آمنتم به وصدقتم رسوله، وأنتم تدعونني إلى عمل أهل النار وهو الكفر بالله عز وجل وبرسوله.
قال مجاهد: إلى النجاة إلى " الإيمان بالله ".
ثم قال تعالى: {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}، أي: تدعونني للكفر والشرك في عبادة الله سبحانه فأعبد أوثاناً لم يأمرني بعبادتها من له الملك والقدرة.
{وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار}، أي: أدعوكم إلى عبادة العزيز، أي: العزيز في انتقامه ممن كفر به، الغفار لمن تاب إليه من الشرك وعمل بطاعته.
ثم قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة}، أي: لا محالة أن الذي تدعونني إلى عبادته - وهم الأصنام والأوثان والشياطين - ليس له دعوة (في الدنيا) ولا في الآخرة، أي: لا ينفذ له أمر ولا نهي ولا شفاعة(10/6436)
في الدارين.
{وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله} أي: في الآخرة، منقلباً ومرجعنا إليه.
{وَأَنَّ المسرفين} يعني: من أسرف فكفر بخالقه سبحانه وعبد معه غيره هو من أصحاب النار.
" وأن " في الثلاثة المواضع في موضع نصب بإسقاط الباء.
وذكر سيبويه أنه سأل الخليل عن لا جرم فقال: لا رد لكلام.
والمعنى: وجب أن لهم النار وحق أن لهم النار.
فالمعنى على هذا: وجب بطلان دعوة ما تدعونني إلى عبادته.
قال مجاهد (وابن جبير والشعبي وغيرهم): المسرفون هم السافكون الدماء بغير حق.(10/6437)
وقال قتادة (وابن سيرين) وغيرهما: " المسرفون: المشركون ".
ثم قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ}، هذه حكاية من الله ( عز وجل) عن مؤمن آل فرعون أنه قال ذلك لفرعون وقومه.
والمعنى: فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب الله عز وجل وحل بكم، صدق ما أقول لكم من أن المسرفين هم أصحاب النار.
ثم قال {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله}.
قيل: إنهم تواعدوه بالقتل فقال: أفوض أمري إلى الله، أي: أسلمه إليه وأتوكل عليه.
{إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد}، أي: عالم بأمور عباده، بالمطيع منهم والعاصي فيجازي كلا على ما يجب له.
ثم قال تعالى: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ}، أي: فوقى الله المؤمن عقاب(10/6438)
سيئات، كفرهم في الآخرة.
{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب}، أي: حل بهم ذلك ونزل بهم.
وقيل: الهاء في " فوقاه الله " تعود على موسى.
ورجوعهما على مؤمن آل فرعون عليه أكثر المفسرين واسم المؤمن حزقيل بن جبال.
رُوي أنه لما خاطبهم بذلك خاف منهم فهرب إلى الجبل فقصده رجلان ليوقعا به المكروه فلم يقدرا عليه.
ثم بيّن تعالى سوء العذاب ما هو فقال: النار {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}، أي: في قبورهم.
قال قتادة: كان قبطياً من قوم فرعون فآمن. قال: وذكر لنا أنه كان بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول أين أمرت يا نبي الله؟(10/6439)
(فيقول: أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر؟! فيقول له موسى): أما والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة (ثم يقول) مثل ذلك ويجاوبه موسى بمثل جوابه الأول حتى انتهى إلى البحر فضربه موسى فانفلق اثنى عشر طريقاً، لكل سبط طريق.
وقوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} يدل على أن فرعون في أشد ما في العذاب لأن من كان على دينه إذا حل به أشد العذاب فهو أحرى أن يحل عليه أشد من ذلك.
قال السدي: بلغني أن أراوح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدواً وعشيا حتى تقوم الساعة.
{غُدُوّاً} مصدر جعل ظرفاً.(10/6440)
وقال حماد بن محمد الفزاري وسأله رجل فقال: رحمك الله، رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب - بيضاً - فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله، / فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً؟!
قال: وفطنتم إلى ذلك! قال: نعم.
قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداً، فتنبت عليها من الليل رياشٌ بيضاء، وتتناثر السود، ثم تغدو " يعرضون على النار غدواً وعشياً " ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبها في الدنيا.
فإن كان يوم القيامة قال الله: " ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ".
وكانوا يقولون: كانوا ست مائة ألف مقاتل.
قال قتادة: يعرضون على النار صباحاً ومساءً. يقال: هذه منازلكم، توبيخاً ونقمةً وصغاراً لهم، قال مجاهد: غُدوا وعشياً ما كانت الدنيا.(10/6441)
ويدل على أن هذا العرض يكون في الدنيا قوله بعد ذلك: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب}.
فمن وصل الألف نصب " آل فرعون " على النداء المضاف.
ومن قطعها نصبهم " بأدخلوا ".
وقوله: {سواء العذاب} وقف حسن إن رفعت " النار " على إضمار مبتدأ أو على الابتداء.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " وعشياً "، وهو بعيد، لأن " ويوم تقوم الساعة " منصوب بيعرضون، أي: يعرضون على النار في الدنيا، يوم تقوم الساعة. ومن نصبه " بأدخلوا " حسن أن يقف على " وعشياً "(10/6442)
وهو حسن. " والعذاب " وقف إن نصبت " وإذ يتحاجون " على معنى: واذكر إذ يتحاجون. وعليه التفسير وهو حسن جيد.
وإن نصبته على العطف على {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} [غافر: 18] لم تقف دونه، وهو بعيد لبعد ما بينهما. وقد قال به قوم.
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار}، أي: واذكر يا محمد إذ يتخاصم في النار الضعفاء من الكفار - وهم التابعون - مع المستكبرينَ هم المتَّبَعُون على الشرك فيقول التابعون للمتبوعين: إنا كنا لكم في الدنيا تبعاً على الضلالة والكفر بالله سبحانه، فهل أنتم دافعون عنا حظاً من النار، فقد كنا نسارع في محبتكم وطاعتكم في الدنيا، ولولا أنتم لكنا مؤمنين فنسلم من هذا العذاب.
فأجابهم المتبعون: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ}، أي: في النار، فلا نقدر أن ندفع عن أنفسنا شيئاً منها ولا عنكم.
{إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد}، أي: أسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. فلا(10/6443)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
نحن - مما نحن فيه من البلاء - خارجون ولا هم مما هم فيه من النعيم - منتقلون.
قوله: {وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ} - إلى قوله - {هُوَ السميع البصير}، أي: وقال أهل جهنم لخزنتها: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب)، أي: قدر يوم من أيام الدنيا.
فأجابتهم الخزنة: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}، أي: بالحجج الظاهرات الدالات على توحيد الله عز وجل.
{ قَالُواْ بلى} قد أتتنا بذلك.
قالت لهم الخزنة: {فادعوا}، أي: فادعوا ربكم الذي أتتكم الرسل (من عنده) بالدعاء إلى الإيمان به.
{وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}، أي: في خسران، لأنهم لا ينتفعون به ولا يُجابون، بل يقال لهم: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].(10/6444)
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، ويستغيثون فيغاثون بالضريع {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} فيأكلونه فلا يغني عنهم شيئاً، ويستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم. ويستغيثون بالملائكة فيقولون: {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} فيجيبونهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}. إلى آخر الآية ".
ثم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد}، أي: إنا لنعلي كلمة الرسل والمؤمنين وحجتهم على من خالفهم من دينهم بإهلاك من(10/6445)
خالفهم والانتقام منهم في الدنيا.
قال السدي: كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا فلا تذهب تلك الأمة الظالمة حتى يبعث الله عز وجل قوماً فينتصر بهم لأولئك المقتولين.
وقيل: معنى الآية الخصوص ولفظها عام.
والمعنى: إنه تعالى ينصر من أراد من الأنبياء والمؤمنين ويعطيهم الظفر في الدنيا على من خالفهم.
وامتنعت الآية من العموم لوجودنا أمماً قد قتلت المؤمنين والأنبياء.
قال أبو العالية: " ينصرهم بالحجة ".
(وعن أبي الدرداء) يرفعه: " من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية. {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ}.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حمى مؤمناً من منافق(10/6446)
يغتابه بعث الله تعالى ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من النار. ومن ذكر مسلماً بشيء يشينُه به وقفه الله جل وعز على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ".
ومعنى /: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد}. أي: وينصرهم يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين (على الأمم) المكذبة بأن الرسل قد بلغتهم وأن الأمم كذبتهم، هذا قول قتادة، وقال مجاهد: الأشهاد الملائكة.
ثم قال تعالى: مفسراً يوم " يقوم الأشهاد " ما هو فقال: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ}، أي: لا ينفع الكفار اعتذارهم إذ لا يعتذرون إلا بباطل لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا بالرسل والكتب والحجج. فلا حجة لهم إلا الكذب وقولهم والله {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ".
ثم قال: {وَلَهُمُ اللعنة}، أي: وللكافرين اللعنة من الله عز وجل وهي البُعد من رحمته سبحانه. ولهم مع اللعنة {سواء الدار}، أي: عذاب الآخرة.
وأجاز أبو حاتم الوقف على: " في الحياة الدنيا " على أن تنصب " ويوم يقوم الأشهاد " بإضمار فعل. فإن جعلته بدلاً أو عطفاً لم تقف دونه.(10/6447)
وقال غيره الوقف: " الأشهاد ".
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى}، أي: البيان للحق الذي بعثناه به.
{وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب}، أي: التوراة، أي: علمناهم إياها وأنزلناها عليهم.
{هُدًى وذكرى}، أي: بياناً وتذكيراً، {لأُوْلِي الألباب} أي: لأصحاب العقول.
ثم قال تعالى {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}، أي فاصبر يا محمد لأمر ربك وأنفذ ما أرسلت به.
{إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}، أي: إن الذي وعدك الله من النصر والتأييد لدينك حق لا بد منه، فربك منجز لك ما وعدك. وقد فعل به ذلك.
ثم قال تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ}، أي: واسأل ربك أن يستر عليك ذنبك بعفوه ورحمته.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار}، أي: وصل بالشكر منك لربك بالعشي وذلك من زوال من زوال الشمس إلى الليل. والإبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.
وقيل: الإبكار هنا: من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى. والأول(10/6448)
أعرف عند العرب.
والعشي والإبكار مصدران جعلا ظرفين على السعة، وواحد الإبكار: بكر. والتقدير: في العشي وفي الإبكار.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، أي: يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة أتتهم في مخاصمتك.
{مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}، أي: ما في صدورهم إلا كبر يتكبرون من أجله عن اتباعك وقبول ما جئتهم به حسداً وتكبراً.
{فاستعذ بالله}، أي: ليس ببالغين الفضل الذي أتاك الله عز وجل فحدسوك عليه.
وقيل: المعنى: ما في صدورهم إلا عظمة، ما هم ببالغين تلك العظمة، لأن الله عز وجل مذلهم ومخزيهم، قاله مجاهد.
وقال الزجاج: معناه: ما هم ببالغين إرادتهم في محمد صلى الله عليه وسلم. مثل رسل(10/6449)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
القرية.
وقيل: المعنى: ما هم ببالغين الكبر.
فالمعنى: إنهم قوم رأوا أن اتباعهم لمحمد صلى الله عليه وسلم نقص لجاههم ومختلفته رفعة لهم، فأعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم لا يبلغون الإرتفاع الذي قصدوه بالتكذيب.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فاستعذ بالله}، أي: تعوذ يا محمد بالله من شرهم وبغيهم وحسدهم، وذلك أنها نزلت في اليهود.
قال قتادة: معناه: فاستجر بالله يا محمد من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، ومن كبرهم.
{إِنَّهُ هُوَ السميع البصير}، أي: السميع لما يقولون، البصير بأعمالهم.
قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} - إلى قوله - {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لا بتداعُ خلق السماوات والأرض أعظم(10/6450)
عندكم من خلق الناس (إن كنتم تستعظمون خلق الناس).
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله عز وجل، وفي هذا تنبيه من الله عز وجل لمن كذب بالبعث فنبههم أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس بعد موتهم وإعادتههم.
فمن قدر على إحداث السماوات والأرض، ورفع السماوات بغير عمد، وتسخير شمسها وقمرها ونجومها واختلاف ليلها ونهارها وتسخير سحابها وإنزال غيثها وتصريف رياحها، فكيف لا يقدر على خلق الناس وبعثهم بعد موتهم، فذلك أهون على الله وأصغر!.
قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء}، أي وما يستوى الكافر الذي لا يؤمن، والمؤمن في التدبر في آيات الله عز وجل، والإعتبار في وحدانتيه وقدرته، ولا يستوي المؤمن الذي يعمل الصالحات والمسيء، وهو الكافر الذي يعمل بما لا يرضى الله عز وجل به.
{قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ}، أي: قليلاً تذكرهم حجج الله سبحانه وآياته وقيل: المعنى: لا يستوي العالم المستدل بآيات الله سبحانه وقدرته على بعث الأموات، والجاهل الذي قد عمي عن الاستدال بذلك / وجهل معرفة الاستدلال والبرهان على قدرة الله سبحانه، كما لا يستوي الأعمى والبصير.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا}، أي: لا شك فيها، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: لا يصدقون بقيام الساعة.
ثم قال تعالى ذكره {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، أي: اعبدوني وأخلصوا العبادة لي أجب دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.(10/6451)
قال ابن عباس: ادعوني استجب لكم ووحدوني أغفر لكم.
وروى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدعاء هو العبادة وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني} " الآية.
ويدل على أن الدعاء العبادة قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}، ومعناه: إن الذين يتعظون عن إفرادي بالعبادة والإخلاص لي.
{سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، أي صاغرين، قاله السدي وأبو عبدة.
وقال السدي: يستكبرون على عبادتي، أي: عن دعائي.
ثم قال تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً}. هذا تذكير(10/6452)
من الله عز وجل لخلقه على نعمه أنه جعل لهم الليل لتسكن فيه جوارحهم وتهدأ حركاتهم، وجعل النهار مبصراً ليتصرفوا في معايشهم ومنافعهم.
ولم يجعل الليل دائماً فيمتنعوا من التصرف (في منافعهم) فيضيعوا، ولا جعل النهار دائماً فيمتنعوا من السكون والراحة، بل دبر أحسن تدبير وأتقن أحسن غتقان.
فلا تصلح الألوهية والعبادة (إلا له) لا إله إلا هو.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}، أي: لذو تفضل عليهم وإحسان بما أمتعهم به من المنافع وحسن التدبير.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ}، أي لا يشكرونه بالطاعة وإخلاص العبادة والشكر على نعمه.
ثم قال تعالى: {ذلكم الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ}، (أي: الذي) فعل هذه النصالح لكم وأحسن إليكم هو الله ربكم خالقكم وخالق كل شيء.
{لاَّ إله إِلاَّ هُوَ}، أي: لا معبود غيره تصلح له العبادة.(10/6453)
{فأنى تُؤْفَكُونَ}، أي: فمن أي وجه تقلبون عن الحق، وإلى أي وجه تذهبون عنه فتعبدون سواه.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}، أي كذهابكم عن محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وانصرافكم عنه إلى الباطل، ذهاب الذين كانوا من قبلكم يكذبون بحجج الله فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم في الضلال.
{يُؤْفَكُ}، بمعنى: أفك، لأنه أمر قد مضى، ودل على ذلك قوله: {كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}.
ومعنى " يوفك ": يُغلب ويصرف عن الحق.
ثم قال: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَآءً}، أي جعل لكم الأرض قراراً تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، وجعل لكم السماء بناءً فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم.
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، أي: وخلقكم فأحسن خلقكم.
{وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات}، أي: من حلال الرزق وطيبه ولذيذه، هو الله(10/6454)
ربكم الذي لا تصلح (الألوهية إلا له ولا تحسن) العبادة لغيره.
ثم قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ}، أي الذي خلق هذه الأشياء لكم وأحسن إليكم، هو الله ربكم لا تصلح الربوبية (إلا له).
{فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}، أي: مالك جميع الخلق.
ثم قال تعالى {هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، أي: لا معبود غيره يستحق العبادة.
{فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، أي: مفردين له (العبادة والألوهية).
{الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}، أي: الشكر العام لله مالك جميع الخلق. وكان جماعة من المفسرين يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبع ذلك الحمد (لله رب العالمين)، امتثالاً بهذه الآية لأنها أمر من الله جل ذكره أن يقال ذلك.
قال ابن عباس: " من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها الحمد لله رب(10/6455)
العالمين " وكذلك قال ابن جبير.
{فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}: قولوا الحمد لله رب العالمين.
وقرأ أبو رزين: " صوركم " بكسر الصاد، وأصلها الضم. وعلة ذلك عند سيبويه أن جميع فُعْلة وفِعْلة قد اشتركا في الإسكان للعين.
في الجمع المسلم. قالوا: ركبة وركبات، فاسكنوا، وأصل الكاف الضم، وقالو: هند وهندات، فأسكنوا، وأصل النون الكسر. فلما اشتركا في ذلك اشتركا في التكسير في الضم والكسر فقالوا: صُورة وصوَرٌ وصِور ورشوة ورشا فأدخلوا فعلة في الضم وهو(10/6456)
(الفعلة وكذلك) (أدخلوا فعلة) في الكسر وهو الفعلة.
ثم قال تعالى {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}، أي: قل يا محمد إني نهيت أن أعبد الأوثان والأصنام التي تعبدونها أنتم من دون الله سبحانه.
{لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي}، إني نهيت عن ذلك لما آتتني آيات الكتاب الذي نزل علي من عند ربي.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} أي: أمرت في الكتاب (الذي أنزل) أن أخلص العبادة والخضوع بالطاعة لرب الخلق ومالكهم وخالقهم ورازقهم.
ثم قال تعالى {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ}، يعني آدم.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} - إلى آخر الآية، يعني به ذرية آدم وقوله: {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} هذا جمع للعدد الكثير وحكم القليل فيه " أشيخ " كفلس وأفلس. إلا أنهم استثقلوا الضمة على الياء. فشبهوا باب فعل بفعل. وحق فعل في(10/6457)
القليل أن يجمع على أفعال كجمل وأجمال فجمعوا فعلاً عند الاستثقال بضمة الياء على " أفعال " فقالوا: أشياخ ". والأصل (أشيخ، ومثله زيد) وأزياد، والأصل أزيد. فإن اضطر شاعر جاز أن يأتي به على أفعال فيقول أزيد وأشيخ كما قالوا: عين وأعين وإنما حسن في أعين في غير الشعر لأنها مؤنثة. والشيخ ما جاوز الأربعين.
وهذه الآية حجة على المشركين وتنبيه لهم على قدرة الله عز وجل.
وأن من قدر على هذه الأشياء قادر على إحياء الموتى، فضرب ذلك لهم ونبههم عليه لعلهم يعقلون ما دعوا إليه فيتوبون من الكفر.
وقوله: {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ} متعلق بمضمر إذ ليس بمتصل(10/6458)
بما قبله في اللفظ.
والتقدير: ثم من علقة، ثم يعمركم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً.
{وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ}، أي قبل هذا كله، وهو السقط وشبهه، نحو الإزلاق وهو ما سقط نطفة، ومثل الإجهاض وهو ما سقط مضغه، والإسقاط ما سقط تام الخلق.
وقد قال الخليل: (الإجهاض: التام) الخلق. وعلى الأول أكثر الناس.
وقوله: {أَجَلاً مُّسَمًّى}، يعني به أجل الموت للكل، أي: يعمركم لتبلغوا أجل الموت.
وقوله: {أَشُدَّكُمْ}، قيل: (ثمان عشرة) سنة. وقال ربيعة (ومالك: الأشد(10/6459)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
الخلق). وقيل: الأشد: ثلاثة وثلاثون سنة.
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً} - إلى قوله - {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}.
{فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ}، أي: فإذا أراد تكوين شيء وحدوثه فإنما يقول له كن، فيكون ما أراد تكوينه موجوداً بغير معاناة ولا كلفة. ولا مؤنة.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله أنى يُصْرَفُونَ}، (أي: ألم تر) يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين يخاصمونك في حجج الله عز وجل وأدلته من أي وجه يصرفون عن الحق، ويعدلون عن الرشد.
قال ابن سيرين: (إن لم) تكن هذه الآية نزلت في القدرية فإني لا(10/6460)
أدري فيمن نزلت.
وروى هذا المعنى عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد وغيره (من المفسرين): هم المشركون.
يدل على هذا قوله بعده: {الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فهذا من صفتهم وهو تهدد ووعيد للمكذبين بكتاب الله سبحانه وبما جاء به الرسل.
ثم قال تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم}، المعنى: فسوف يعلمون إذا ثبتت الأغلال في أعناقهم ماذا ينزل بهم بعد ذلك من العذاب.
وجاءت " إذ " وهي لما مضى مع " سيوف " وهي لما مضى مع " سوف " وهي لما يستقبل، لأن أفعال الله جل ذكره بعباده في معادهم كالكائنة الحالة بهم لصحة وقوع ذلك وكونه. فأخبر عنها وهي لم تكن بلفظ ما قد كان، لصحة وقوعها وثبات كونها، فهي كالكائنة، فلذلك(10/6461)
اجتمعت " إذ " و " سوف ".
ولا يجوز هذا المعنى إلا من الله جل ذكره لأنه يعلم ما يكون في غدٍ كعلمه بما كان في أمس.
قال الحسن: ما في جهنم وادٍ ولا صغارٌ ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا واسم صاحبه عليه مكتوب. ومن رفع السلاسل عطفها على الأغلال. ويتم الكلام على السلاسل. ويكون يسحبون مستأنفاً. فإن جعلته حالاً جاز، ولم تقف على السلاسل.
وقرأ ابن عباس: والسلاسل بالنصب. " يسحبون " بفتح الياء والتقدير أنه نصب السلاسل يسحبون.(10/6462)
قال ابن عباس: وذلك أشد عليهم، يكلفون أن يسحبوها ولا يطيقون.
وأجاز بعضهم والسلاسل بالخفض، عطف على الأعناق "، يحمله على المعنى. (لأن المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل، كما حمل على المعنى) قول الشاعر:
قد سالَمَ الحيّاتُ منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن ما سالمك فقد سالمته، فكذلك الأعناق في الأغلال والسلاسل هو مثل الأغلال والسلاسل في الأعناق.
وعلى هذا أجاز الكوفيون: قاتل زيد عمراً العاقلان والعاقلين، يرفع العاقلين على النعت لهما، وينصبهما لأنهما فعالان في المعنى مفعولان.
وأجازوا(10/6463)
أيضاً: قاتل زيد عمرو برفعهما. وفي كتاب الزجاج أن التقدير في جواز خفض السلاسل وفي السلاسل يسحبون والحميم على تقدير: يسحبون في الحميم والسلاسل. ثم يقدم المعطوف على المخفوض. وهو غلط لأن المعطوف على ما فيه حرف الجر لا يقدم. لم يجز أحدٌ مررت وزيدٍ بعمرو. إنما أجازوا هذا / في المرفوع، نحو: قام وزيدٌ عمرو. استقبحوه في المنصوب، نحو: رايت وزيداً عمراً، ولم يجيزوه في المخفوض البتة لأن الفعل غير دال عليه.
ثم قال تعالى {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ}، قال السدي: يسجرون، يحرقون. وقال ابن زيد: توقد عليهم.
وأصله من الملء، يقال: سجرت الشيء إذا ملأته ومنه {والبحر المسجور} [الطور: 6].(10/6464)
فيكون المعنى على هذا. ثم تملأ بهم النار، ومعناه، ثم تملأ بهم النار كما يملأ التنور بالحطب.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ الله}، أي: يقال لهم أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياهم من دون الله ينقذونكم مما أنتم فيه من العذاب؟! يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً على ما سلف منهم في الدنيا من عبادة غير الله سبحانه.
فأجاب المشركون عند ذلك {ضَلُّواْ عَنَّا}، أي: عدلوا عنه فأخذوا غير طريقنا وتركونا في العذاب.
ثم استدركوا فقالوا: {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً}، أي: لم نكن نعبد في الدنيا شيئاً.
قال الله جل ذكره: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين}، أي: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في الآخرة ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه وعن طاعته.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}، أي: ذلكم الذي حل بكم من العذاب بفرحكم في الدنيا بغير ما أمر الله عز وجل به من المعاصي وبرمحكم فيها، والمرح: الأشر والبطر.(10/6465)
قال ابن عباس: الفرح هنا والمرح: الفخر والخيلاء والعمل في الأرض بالخطيئة وكان ذلك في الشرك، وهو مثل قوله في قارون: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76].
ثم قال: {ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: أبواب جهنم السبعة ماكثين فيها إلى غير نهاية.
{فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}، أي: فجهنم بئس مثوى من تكبر في الدنيا عن عبادة الله عز وجل وطاعته.
ثم قال تعالى: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}، أي: فاصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك ومجادلتهم لك بغير الحق وتكذيبهم، إن الله منجز لك ما وعدك به من الظفر والنصر عليهم، وإحلال العذاب بهم.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يا محمد في حياتك، {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن يحل بهم ذلك، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}، أي: إلينا مصيرهم، فنحكم بينك وبينهم بالحق فنخلدهم في النار ونخلدك ومن اتبعك ومن آمن بك في (النعيم المقيم. وهذا كله وعيد من الله عز وجل لقريش وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتصبير له.(10/6466)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} - إلى آخر السورة: أي: ولقد أرسلنا (يا محمد من قبلك) رسلاً إلى أممهم، منهم من أنبأناك بخبره، ومنهم من لم ننبئك بخبره.
روي عن أنس أنه قال: عدة الرسل ثمانية آلاف، بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعدهم. منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل.
وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعث الله عز وجل أربعة آلاف نبي ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ في الآية: بعث الله عز وجل عبداً حبشياً وهو الذي لم يقصص خبره على نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، (أي: ليس لرسول ممن تقدمك يا محمد أن يأتي إلى قومه بآية فاصلة بينه وبينهم إلا بإذن الله له) بذلك فيأتيهم بها.(10/6467)
وهذا تنبيه من الله عز وجل لنبيه عليه السلام أنه ليس له أن يأتي قومه بما يسألونه من الآيات دون إذن الله عز وجل له بذلك.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق}، (أي: فإذا (جاء قضاء) الله بين الأنبياء والأمم قضي بينهم بالعدل، فينجي رسله والمؤمنين، ويهلك، هنالك، المبطلون، أي: الكاذبون على الله سبحانه.
ثم قال تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا} أي: خلق لكم الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير وغير ذلك من البهائم لتركبوا منها، يعني: الخيل والإبل والحمير والبغال.
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، يعني: الإبل (والغنم والبقر).
التقدير عند الطبري: لتركبوا منها بعضاً، ومنها بعضاً تأكلون ثم حذف ذلك استغناء بدلالة الكلام على ما حذف.
ثم قال {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، يعني: الأنعام، وذلك جعلهم من جلودها بيوتاً ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين.(10/6468)
وذكر الزجاج أن الأنعام هنا: الإبل، يركبونها ويأكلون لحومها ويستمتعون بجلودها وأوبارها. وهذه الآية. تدل على إباحة أكل لحوم الإبل عند من جعلها خصوصاً في الإبل.
وقد قال تعالى في غيرها مما لا يؤكل: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] ولم يذكر إباحة أكلها.
ثم قال تعالى {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}، أي: ولتبلغوا بالحمولة على بعضها - يعني: الإبل - حاجة في صدوركم لم تكونوا لتبلغوها لولا هي إلا بشق الأنفس، كما قال: {" وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس "} [النحل: 7].(10/6469)
ثم قال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ}، أي على الإبل.
وما شابهها من الأنعام في البر، وعلى السفن في البحر تحملون.
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، أي حججه / وأدلته على وحدانيته.
{فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ}، أي: فأي حجج الله التي يريكم أيها الناس في السماء والأرض - تنكرون صحتها فتكذبوا - من أجلها فسادها - بتوحيد الله سبحانه.
ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ}، أي: أفلم يسافر قومك - يا محمد - من قريش فينظروا آثار الأمم التي كذبت الرسل من قبلهم كيف بادوا وهلكوا، فيخافون أن ينزل بهم بتكذيبهم إياك فيما جئتهم به مثل ما نزل بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة لأنبيائها.
{كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً}، أي: كانت الأمم المهلكة قبلهم بالتكذيب أكثر من قريش.
{وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض}، أي: أكثر عدداً وأكثر آثاراً بالبناء والحرث(10/6470)
والعمل من قريش.
{فَمَآ أغنى عَنْهُم}، أي: عن الأمم الماضية.
{مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الأموال والأولاد والبناء والعمل بل أهلكوا ودمروا بتكذيبهم الرسل وكفرهم. (فماذا ينتظر) قومك يا محمد مع تكذيبهم بما جئتهم به، وهم دون أولئك في القوة والكثرة والآثار في الأرض من البناء (والتصرف والحرث) وغير ذلك. وهذا كله تنبيه وتهدد لقريش.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}، يعني: الأمم الماضية، جاءتهم رسلهم بالآيات الواضحات. {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} لجهالتهم.
{وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: وحل بهم عقاب استهزائهم بما جائتهم به الرسل واستعجالهم للعذاب.
والمعنى: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا، نحو قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7].(10/6471)
وقيل: الضمير في " فرحوا " للرسل، أي: فرح الرسل بما عندهم من العلم أن الله مهلك من كفر بهم وكذبهم، وناصر دينهم، فينجي الأنبياء ومن آمن بهم ويهلك الكفار.
وقيل: في الكلام حذف. والتقدير: فلما جاءت الرسل قومها كذبوهم فأوحى الله عز وجل إليهم أنه معذبهم، ففرحوا بما أوحى إليهم من هلاك من كذبهم، فالضمير للرسل في " فرحوا "، والضمير في " حاق بهم " للمكذبين للرسل.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ}، أي: لما رأت الأمم المكذبة للرسل عذاب الله عز وجل وانتقامه الذي وعد الرسل بإيقاعه على من كذبهم، قالوا أمنا بالله وحده، أي: أقررنا بتوحيد الله وكفرنا بما كنا به مشركين من الأصنام والأوثان).
قال الله جل ذكره: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي: لم ينفعهم التوحيد عند معاينتهم العذاب.
{سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}، أي: سن الله ذلك سنة فيمن تقدم من عباده أنه من آمن عند معاينة العذاب لم ينفعه ذلك.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون}، أي: وهلك عند معاينة العذاب من تمادى على كفره(10/6472)
حتى حل به العذاب، فلم ينفعهم إيمانهم عند المعاينة العذاب لأنهم مضطرون إلى ذلك حين عاينوا العذاب وإنما كان ينفعهم الإيمان لو آمنوا قبل معاينتهم ما يلجئهم إلى الإيمان ويضطرهم.
فكذلك فعل الله عز وجل فيمن خلا من عباده، لا يقبل إيمانهم عند معاينتهم العذاب واضطرارهم إلى الإيمان، فهو قوله تعالى {سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ} في عباده ".(10/6473)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلت
سورة حم السجدة مكية
قوله تعالى: {حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم} - إلى قوله - {ذَلِكَ رَبُّ العالمين}. قد تقدم القول في حم.
وقوله: {تَنزِيلٌ}، أي: هو تنزيل، يعني: هذا القرآن تنزيل من الله الرحمن الرحيم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، أي: هو كتاب فصلت آياته بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام. وهو قول قتادة.
(وقال الحسن): فصلت بالوعد والوعيد.(10/6475)
وقال مجاهد: فصلت: فسرت.
وقيل: " كتاب " ارتفع على أنه خبر لتنزيل.
وقيل: معنى فصلت آياته: أنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل إلى الدنيا مرة واحدة.
ثم قال تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً}، نصب " قرآناً على الحال، أي: فصلت آياته في حال جمعه، وقيل: نصبه على المدح، والمعنى أنه ليس بأعجمي بل هو عربي.
وهذا يدل على بطلام قول من قال: إن فيه من لغة العبريانية والنبطية ما لم تعرفه العرب. بل الذي فيه من ذلك قد أعربته العرب وغيرته بلسانها فصار من لغتها.(10/6476)
(فصار كل) القرآن عربياً.
ويدل أيضاً هذا على بطلان قول من قال: إن في معاني باطنة لا تعلمها العرب فكيف ينزل بلغتها وهي لا تفهمه.
ثم قال تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً}، أي: يبشرهم - إن آمنوا وعملوا بما أمروا - بالخلود في الجنة وينذرهم - إن عصوا أو كفروا - بالخلود في النار.
وقوله: {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، معناه: لقوم يعقلون ما يقال لهم.
وهذا يدل على أن الله جل ذكره إنما خاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من أمر دينه وجب عليه أن يسأل من يعلم.
ثم قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، أي: فأعرض كثير منهم عن الإيمان واستكبروا عن قبول ما جاءهم به محمد عليه السلام؛ فهم لا يصغون له فيسمعون ما فيه، استكباراً.
وقيل: معنى لا يسمعون، لا يقبلون ما جاءهم من عند الله عز وجل.
" ويروى أن قريشاً اجتمعت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم عتبة بن ربيعة - وكان مقدماً في قريش، قد قرأ الكتب وقال الشعر وعرف الكهانة والسحر - أنا أمضي إلى محمد فاستخبر أمره لكم. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المقام بمكة، فقال: يا محمد، إن كنت(10/6477)
فقيراً جمعنا لك من أموالنا ما نغنيك به، وإن أحببت الرياسة رأسناك علينا. . . وعدد عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت. فلما فرغ عتبة من كلامه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: " { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} - إلى - {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ} - حتى بلغ - {وَثَمُودَ}، فلما سمع عتبة ذلك وثب خائفاً فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم إلا سكت، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف عنه إلى منزله، وأبطأ على قريش.
فقالت قريش: صبأ عتبة إلى دين محمد! امضوا بنا إليه. فجاؤوا منزل عتبة فدخلوا وسلموا وسألوه. فقال: يا قوم، قد علمتم أني من أكثركم مالا وأوسطكم حسباً، وأني لم أترك شيئاً إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله يا قوم، لقد قرأ علي محمد كلاماً ليس بشعر (ولا رجز) ولا سحر ولا كهانة، ولولا ما ناشدته الرحم ووضعت يدي على فمه لخفت أن ينزل بكم العذاب ".(10/6478)
قال أبو محمد: وهذا يدل على إعجاز القرآن، فلو كانوا يقدرون على مثله أو على شيء منه لعارضوه به ولاحتجوا عليه بذلك.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}، أي: وقال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم قلوبنا في أوعية قد تغطت بها فلا تفهم عنك ما تقول لها كقول اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: قلوبنا لف وواحد الاكنة كنان.
{وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ}، أي: صمم، فلا تسمع منك ما تقول كراهة لقولك.
قال مجاهد: في أكنة: " كالجعبة للنبل "، وقال السدي: في أكنة: في أغطية.
ثم قال تعالى: حكاية عنهم: {" وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} "، أي: حاجز فلا نجامعك على شيء مما تقول، نحن نعبد الأصنام وأنت تعبد الله سبحانه. فهذا هو الحاجز الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قالوا له: {فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ}، أي: فاعمل يا محمد بدينك، إننا عاملون بديننا، ودع ما تدعونا إليه من دينك وندع دعاءك إلى ديننا.
وقيل: المعنى: فاعمل في هلاكنا وضرنا إنا عاملون في مثل ذلك منه.(10/6479)
ثم قال الله جل ذكره لنبيه عليه السلام: قل لهم يا محمد جواباً لهم على قولهم لك: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} "، أي: إنما أنا من ولد آدم مثلكم في الصورة والحال، أوحى الله إلي أن معبودكم الذي تجب له العبادة والخضوع واحد لا إله غيره.
{فاستقيموا إِلَيْهِ}، أي استقيموا على عبادته ولا تعبدوا غيره.
{واستغفروه} على ما سلف من فعلكم في عبادتكم الأصنام من دونه وتوبوا إليه من ذلك.
ثم قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة}، أي: (وقيوح) وصديد أهل النار لمن ادعى أن لله شريكاً لا إله إلا هو.
وقوله: {الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة}، (معناه: الذين لا يعطون لله طاعة تطهرهم من الذنوب وتزكي أعمالهم، وهذا معنى قول ابن عباس وروي عنه أنه قال: الذين لا يؤتون الزكاة، أي): لا يشهدون ألا إله إلا الله.(10/6480)
وقال عكرمة: معناه: الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
وقال قتادة: معناه: الذين لا يقون بفرض زكاة أموالهم ولا يؤمنون بفرض ذلك عليهم، وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ أهل الردة على منعهم الزكاة مع إقرارهم بالصلاة. وقال رضي الله عنهـ: والله لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
قال السدي: لو زكوا وهم مشركون لم تنفعهم.
وروى نافع عن ابن عمر: الذين لا يؤتون الزكاة: التوحيد.
وقال الربيع بن أنس: معناه، الذين لا يزكون أعمالهم فينتفعون بها.
قال الحسن: " عظم الله عز وجل شأن الزكاة فذكرها. فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون، والمسلمون يصلون والكفار لا يصلون ".(10/6481)
وقال الزجاج: معناه: لا يؤمنون بأن الزكاة حق واجب عليهم.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ}، أي: وهم مع تركهم لإخراج زكاة أموالهم وكفرهم بأن الزكاة واجبة لا يصدقون بالبعث والجزاء.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالم}، أي: إن الذين صدقوا، الله ورسوله وعلملوا بما أمرهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وانتهوا عما نهوا عنه لهم الجنة.
قال ابن عباس: غير ممنون: غير منقوص، وقال مجاهد: " غير محسوب ".
وقيل: غير مقطوع، بل نعيمهم أبداً لا ينقطع.
يقال: (مننت الحبل) إذا قطعته، (وقد منه السفر إذا) قطعه.
وقيل معناه: لهم أجر لا يمن عليهم به من أعطاهم إياه، لأنه قد وعدهم به، ووعده تعالى ذكره حق عليه إتمامه. فلا منة تلحقهم في إتمام ما وعدهم به.(10/6482)
ثم قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ}. هذا تقرير وتوبيخ للمشركين.
والمعنى: أتكفرون (بالله الذي) ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين.
{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً}، أي: أمثالاً تعبدونهم (من دون الله) {ذَلِكَ رَبُّ العالمين}، أي: الذي ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين مع غلظها وعظمها، وطولها وعرضها، وثبتها تحت أقدام الخلق حتى تصرفوا عليها، فهو خالق جميع الخلق ومالكهم، وله تصلح العبادة لا لغيره، واليومان هما: يوم الأحد والإثنين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود حين سألوه عن ذلك:
" خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين) وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب. فهذه أربعة أيام " وهو قوله " {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10] "، أي: لمن سأل عن ذلك. " وسواء " مصدر عند سيبويه، أي: استوت استواء.(10/6483)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
وقد (قرئ " سواء ") بالخفض على النعت لأربعة أيام، ورويت عن الحسن على معنى مستويات ومثله: رجل عدل، أي عادل.
وقرأ أبو جعفر بالرفع على معنى: هي سواء.
قوله تعالى: {" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} - إلى قوله - {طَآئِعِينَ "}.
أي: وجعل في الأرض جبالاً تثقلها أن تميل) بمن فوقها، وذلك يوم الثلاث على ما تقدم ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لليهود حين سألوه: " وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات (بقين) منه،(10/6484)
(فخلق في أول ساعة من الثلاث: الآجال حين يموت من مات)، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وخلق في الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة ".
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن اليهود قالت له بعدما أجابهم بهذه الجوابات، ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى (على) العرش قالوا (قد أصبت) لو أتممت فقلت: ثم استراح! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم غضباً شديداً وأنزل الله عز وجل عليه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [ق: 38 - 39].
وقال ابن عباس: خلق الله يوماً واحداً سماه الأحد، ثم خلق ثانياً سماه الأثنين، ثم خلق ثالثاً سماه الثلاثاء، ثم رابعاً (سماه الأربعاء)، ثم خامساً سماه(10/6485)
الخميس. قال: فخلق الله عز وجل الأرض في يومين الأحد والأثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء - فلذلك يقول الناس: هو يوم ثقيل - وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطيور والوحوش والهوام والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان - وهو آدم - يوم الجمعة ففرغ من خلق كل شيء يوم الجمعة.
وقال أبو هريرة: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: " خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه، يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة "، وعن ابن عباس(10/6486)
وعبد الله بن سلام أنهما قالا: ابتدأ الله جل ذكره خلق الأرض يوم الأحد، فخلق سبع أرضين في يوم الأحد ويوم الإثنين، ثم جعل في الأرض رواسي، وشق الأنهار، وخلق الشجار، وجعل المنافع في يومين: يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ثم استوى إلى السماء فجعلها سبع سماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة
. قال ابن عباس: ولذلك سميت يوم الجمعة لأنها اجتمع فيها الخلق.
قال ابن سلام: فقضاهن سبع سماوات وفي آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم خلق آدم فيها على عجل وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
قال مجاهد: كل يوم كألف سنة مما تعدون.
قال بعض العلماء: لو أراد الله تعالى ذكره لخلقها كلها في وقت واحد، ولكنه أراد ما فيه الصلاح، وذلك لتتبين ملائكته أثر الصنعة شيئاً بعد شيء فتزداد في(10/6487)
بصائرها.
وقوله تعالى / {وَبَارَكَ فِيهَا}، معناه: جعلها دائمة الخير لأهلها.
وقال السدي: بارك فيها، أي أنبت شجرها.
وقيل: معناه: زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبته فيها.
والبركة: الخير الثابت.
وقوله: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا}، أي قدر فيها أرزاق أهلها ومعايشهم قاله الحسن وابن زيد.
وقال قتادة: أقواتها: صلاحها.
وعن قتادة أيضاً: وقدر فيها أقواتها، أي: خلق فيها جبالها وبحارها وشجرها وساكنها من الدواب كلها.
وقال مجاحد: وقدر فيها أقواتها، يعني: من المطر (الذي به تنبت) الأقوات(10/6488)
لجميع الخلق.
وقال عكرمة: " وقدَّر فيها أقواتها "، معناه: قدر في كل بلد منها ما لم يجعله في الآخر منها ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، ينقل من بلد إلى بلد ما ليس في أحدهما من المتاع والطعام وغيره.
وروي مثل هذا عن مجاهد أيضاً، وهو قول الضحاك.
وقوله: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}، أي: خلق (ذا وذلك) في أربعة أيام؛ أي: خلق الأرض والجبال، وبارك في الأرض وقدر فيها أقواتها، كل ذلك خلقه في أربعة أياك، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الأربعاء.
وقد غلط قوم فأضافوا أربعة أيام كاملة إلى اليومين المتقدمين. وهذا(10/6489)
كقولك: بنيت الدار في يومين وأتمتها وفرغت من جميع إصلاحها في ثمانية أيام، فاليومان داخلان في الثمانية وبهما تمت الثمانية (لأنها) (كلها كشيء) واحد كما كانت الأرض وما فيها من مصالحا شيئاً واحداً. فدخلت العدة الأولى في الثمانية.
ولو قلت: اشتريت الدار في يومين، والعبيد والثياب في أربعة أيام، لم تدخل اليومان في الأربعة لاختلاف أنواع المشترى، ولا يكون ذلك إلا ستة أيام. فاعرف الفرق.
وقوله: {سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} "، أي: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض والجبال والشجر والأنهار والبحار وقدر الأقوات وغير ذلك من المنافع، قاله قتادة والسدي، وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: معناه: سواه لمن سأل ربه شيئاً مما به الحاجة إليه من الأرزاق، فإن الله(10/6490)
قدر له الأقوات في الأرض على ما قدر مسألته، وكذلك قدر لكل سائل؛ قاله ابن زيد.
وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. وإليه نزع ابن زيد في قوله. وهو اختيار الطبري.
فالمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم الحاجة إليه وما يصلحهم، وقد تقدم الكلام في إعراب " سواء " وقراءته.
ولو شاء رجل جل ذكره لخلق جميع ذلك وأضعافه في وقت واحد، وهو الوقت الذي لا وقت أسرع منه، ولا أقل تقضياً منه، فهو على ذلك قادر، وإنما خلق جميع ذلك شيئاً بعد شيء لتستدل ملائكته استدلالاً بعد استدلال على قدرته. والله أعلم بذلك.
ثم قال تعالى: {" ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ}، أي: ثم ارتفع إلى السماء ارتفاع قدرة لا ارتفاع نقلة.
" وهي دخان "، روي أن الدخان كان من تنفس السماء.(10/6491)
{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}، أي: قال لهما جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرضي فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات وتشقق عن الأنهار، فقالتا: أتينا طائعين بما أحدث فينا من خلقك، هذا معنى ما روى مجاهد عن ابن عباس.
ومعنى إخباره تعالى عن السماء والأرض بالقول أنه جعل تبارك وتعالى فيهما ما يمزان به ويجيبان عما قيل لهما وذلك لا يعجزه تعالى إذا أراده.
وقال المبرد: هذا إخبار عن الهيئة، أي: صارتا في هيئة من قال ذلك بتكوينه تعالى لما أراد فيهما، كقول الشاعر: امتلأ الحوض، وقال: قطى، أي: صار في هيئة من يقول ذلك.(10/6492)
وقيل: معناه أنه أخبرنا الله ( عز وجل) بما نعرف من سرعة الإجابة طائعين فخبر عن السماوات والأرض بسرعة التكوين على ما أراد وأما قوله: {طَآئِعِينَ}، فقال الكسائي معناه: أتينا بمن فينا طائعين.
وقيل: إنما جاء ذلك بالياء والنون لأنه أخبر عنهما كما يخبر عمن يعقل من الذكور فجاء على لفظ الإخبار عمن يعقل.
قال ابن عباس: خلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فلذلك قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
قال وهب بن منبه: خلق الله تعالى الريح فسلطها على الماء فضربت الماء حتى صار أمواجاً وزبداً، فجعل يفور من الماء دخان ويصعد في الهواء، فأمر الله تبارك وتعالى الزبد فجمد فمنه الأرض، وأمر الأمواج فجمدت فجعلها جبالاً رواسي، {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ /(10/6493)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
فقضاهن سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ} ". وكانت السماء ملتصقة بالأرض فأرمها فارتفعت من الأرض على الهواء. {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12]. وقال للسماء الدنيا: كوني زمردة خضراء، وللثانية كوني فضة بيضاء، والثالثة كوني ذرة حمراء، وللرابعة كوني ذرة بيضاء وللخامسة: كوني ذهبة حمراء، وللسادسة: كوني ياقوتة صفراء، وللسابعة: كوني نوراً على نور يتلألأ، وفي كل سماء ملائكة قد طبقها بهم بين راكع وباك ومسبح قائم.
قوله تعالى: {فقضاهن سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ} - إلى قوله - {وَكَانُواْ يتَّقُونَ}، أي: فأحكمهن، وفرغ من خلقهن سبع سماوات في يومين، وذلك: يوم الخميس ويوم الجمعة.
قال السدي: ثم استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها، فجعلها سبع سماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيها خلق السماوات والأرض.
وقوله: {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا}، معناه: وألقى. في كل سماء ما أراد. من الخلق. قال مجاهد، معناه: وألقى في كل سماء ما أمر به وأراده.(10/6494)
وقال السدي: معناه: وخلق كل سماء من الملائكة والبحار والجبال ما أراد مما لا يعلم.
وقال قتادة: معناه: وخلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
وقيل: المعنى: وأوحى في كل سماء من الملائكة بما أراد من أمرها.
ثم قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح}، يعني: بالكواكب.
قال السدي: جعل النجوم زينة وحفظاً من الشياطين.
وانتصب " حفظاً " على المصدر. قال الأخفش: معناه: وحفظناه حفظاً. لأن جعله فيها الكواكب يدل على أنه حفظها، لأنه اسم عطف على فعل فلا بد من إضمار فعل لتعطفه على الفعل الذي قبله وتنصب به حفظاً.
وقيل: التقدير: وجعلنا المصابيح حفظاً من استراق السمع. وهذا كله مردود على أول الكلام في المعنى. والتقدير: قل ائنكم لتكفرون بمن هذه قدرته، وتجعلون له(10/6495)
أمثالاً وأشكالاً تعبدونها من دونه.
وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}، أي: جميع ما ذكر من الخلق والآيات من تدبير العزيز في نقمته من إعدائه العليم بسرائر خلقه وبكل شيء، لا إله إلا هو.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، أي: فإن أعرض قومك من قريش يا محمد عنك وعما جئتهم به، فلم يؤمنوا به، فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد (وثمود.
وقرأ أبو عبد الرحمن والنهعي: صعقة مثل صعقة عاد).
والصعقة: كل ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وكذلك الصاعقة.
قال قتادة: معناه: فقل (لهم يا محمد): أنذركم وقيعة مثل وقيعة عاد وثمود.
وقال السدي: معناه: أنذركم عذاباً مثل عذاب عاد وثمود.
{إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}.(10/6496)
العامل في " إذ: " الصاعقة.
والمعنى: حين جاءتهم الرسل من بين أيدي الرسل ومن خلف الرسل (يعني: جاءت الرسل أبناء الذين أهلكوا بالصاعقة ومن خلف الرسل) الذين بعثوا إلى آبائهم. وذلك أن الله جل ذكره بعث إلى عاد: هوداً، فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمت إلى آبائهم أيضاً فكذبوها فأهلكوا.
قال ابن عباس: معناه: أنه يريد الرسل التي كانت قبل هود، (والرسل التي كانت بعد هود)، بعث الله عز وجل قبله رسلاً، (وبعده رسلاً) بأن لا يعبدوا إلا الله فقالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة يدعوننا إلى الإيمان به ولم يرسلكم وأنت بشر مثلنا، ولكنه رضي بعبادتنا، فنحن بما أرسلتم به كافرون.
وقال الضحاك: الرسل الذين من بين أيديهم: من قبلهم، والذين من خلفهم، يعني: الذين بحضرتهم.(10/6497)
فيكون الضمير الذي في " خلفهم " يعود على الرسل، وهو مذهب الفراء.
وقيل: الذين بين أيديهم، يعني: الذين بحضرتهم، (والذين من خلفهم، يعني:) الذي من قبلهم.
وقيل: هذا على التكثير، والمعنى: جاءتهم الرسل من كل مكان بأن لا يعبدوا إلا الله.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} أي: استكبروا عن أمر ربهم وتجبروا وأعجبهم بطشهم وقوتهم، وما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش، ونسوا أن الذي خلق ذلك فيهم وأعطاهم إياه هو أشد منهم قوة، فجحدوا بآيات / الله عز وجل وكفروا بها.
فقوله: {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} معطوف على " فاستكبروا " " وقالوا " وما بينهما اعتراض.
قال الله جل ذكره: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً}.
قال مجاهد: أرسل ريحاً شديدة (السموم) عليهم.(10/6498)
وقال قتادة والسدي: ريحاً صرصراً: باردة)، وزاد السدي: ذات صوت. وقال أبو عبيدة: ريحاً شديدة الصوت عاصفة.
وأصل الصر في كلام العرب: البرد.
قال ابن القاسم: قال مالك: سئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها: هرطة: أي عذاب الله أشد؟ قالت: كل عذاب الله شديد، وسلامته ورحمته: ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير تحملها الريح فيما بين السماء والأرض.
ويقال: ما فتح عليهم إلا مثل حلقة الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكسبت الأرض.(10/6499)
وقوله: {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ}.
قال ابن عباس: نحسات: متتابعات. وقال مجاهد: نحسات: مشائم.
وقال قتادة: نحسات: (مشائم نكدات).
وقال ابن زيد: نحسات/ ذات شر، ليس فيها من الخير شيء.
وقال الضحاك: نحسات: شداد.
{لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا}، أي: عذاب الهوان في الدنيا.
{وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى}، أي: أشد (هواناً).
{وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ}، أي: لا ينصرهم ناصر من عذاب الله فينقذهم.
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى}، أي: وأما ثمود) فبينا لهم سبيل الحق وطريق الرشاد.
قال ابن عباس: فهديناهم: بينا لهم ".
(وقال قتادة: فهديناهم: بينا لهم سبيل الخير) والشر.(10/6500)
وقال ابن زيد: فهديناهم: أعلمناهم الهدى والضلالة ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى فاستحبوا الضلالة على الهدى واختاروها.
وقال الضحاك: فهديناهم: أخرجنا لهم الناقة تصديقاً لما دعاهم إليه صالح، فاستحبوا الكفر على الإيمان.
وقال السدي: فاختاروا الضلالة والعمى على الهدى، وهو قول ابن زيد وغيره.
والرفع في " ثمود " عند سيبويه مثل: زيد ضربته.
وقيل: إن النصب الإختيار، لأن " أما " فيها معنى الشرط.
والشرط بالفعل أولى، وبه يكون، فلا بد من إضماره، فيعمل في ثمود(10/6501)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
فينصبه.
وقرأ ابن أبي إسحاق بالنصب. ورويت أيضاً عن الأعمش وعاصم وذلك على إضمار فعل مثل: زيداً ضربته.
ثم قال: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون}، أي: فأخذهم العذاب (المذل المهين)، فأهلكهم بما كانوا يكسبون من الكفر.
ثم قال: {وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ}، أي: ونجينا المؤمنين من العذاب الذي نزل بالكفار من عاد وثمود.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار} - إلى قوله - {مِّنَ المعتبين}، أي: واذكر يا محمد نحشر هؤلاء المشركين وغيرهم من أعداء الله إلى نار جهنم.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أي: يحبس أولهم على آخرهم قاله السدي وقتادة وغيرهما.(10/6502)
قال أبو الأحوص: " فإذا تكاملت العدة بدئ بالأكابر فالأكابر جرماً ".
قال أبو عبيدة: يوزعون: يدفعون.
يقال: وزعه يزعه، ويزعه، إذا كفه وحبسه.
ثم قال تعالى: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم}. هذا الكلام فيه حذف مفهوم، واختصار بليغ، (وهذا أمر معجز) القرآن.
والتقدير: حتى إذا جاءوا النار سئلوا عن كفرهم وجحودهم، فأنكروا بعد أن شهد عليهم النبيئون والمؤمنون، فعند ذلك تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون في الدنيا.
وأكثر المفسرين على أن الجلود هنا: الفروج. كنى عنها كما كنى عن(10/6503)
النكاح بالمس.
وقيل عنى بها الجلود بعينها، وهو اختيار الطبري لأنه الأشهر المستعمل في كلام العرب، ولا يحسن نقل المعروف في كلامها إلى غيره إلا بحجة ودليل يجب له التسليم.
قال ابن مسعود (رضي الله عنهـ) يجادل المنافق عند الميزان ويدفع الحق ويدعي الباطل فيختم على فيه، ثم تستنطق جوارحه فتشهد عليه، ثم يطلق عنه فيقول: بعداً لكن وسحقاً، إنما كنت أجادل عنكن.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}، (أي: وقال المشركون(10/6504)
للجلود لما أنطقها الله بالشهادة عليهم لم شهدتم علينا) فأجابتهم.
{أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فنطقنا.
" روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك ذات يوم يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربه سبحانه يوم القيامة: قال: يقول: أي رب، أليس وعدتني ألا تظلمني؟! قال: (ذلك لك) قال: فإني لا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي. قال: أو ليس كفي بي شهيداً وبالملائكة الكرام الكاتبين! قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل. قال: فيقول لهم بعداً وسحقاً، عنكم، كنت أجادل ".
" وروى حكيم بن معاوية عن أبيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) قال: وأشار بيده إلى(10/6505)
الشام فقال: " من " ها هنا " يحشرون / ركباناً ومشاتاً وعلى وجوههم يوم القيامة، على أفواههم الفدام. توفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله، وإن أول (ما يعترف من أحدهم) فخذه ".
وعن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أول عظم يتكلم من الإنسان (يوم يختم على الأفواه " فخذه من رجل الشمال "، وفي حديث آخر) " فخذه وكفه ".(10/6506)
ثم قال: " {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي خلق الخلق الأول ولم يكونوا شيئاً.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: تردون بعد مماتكم.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ}.
قال السدي: معناه: وما كنتم تستخفون من جوارحكم.
وقال مجاهد: معناه: " وما كنتم تتقون "، وقال قتادة: معناه: وما كنتم تظنون.
قال قتادة: والله إن عليك يا ابن آدم لشهوداً غير متهمة من بدنك فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا تخفى عليه خافية، الظلمة عنده (ضوء، والسر) عنده علانية من استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي: ولكن حسبتم أيها العاصون حين ركبتم المعاصي في الدنيا أن الله لا يعلم أعمالكم فلذلك(10/6507)
فعلتموها).
قال ابن مسعود: كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر: ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي، كثير شحوم أبدانهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أفهمه. فقال أحدهم، أترون أن الله يسمع ما نقول. فقال الرجلان: إذا رفعنا أصواتنا سمع، وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمع. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ. . .} الآية.
ثم قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي: وذلك الذي جنيتم في الدنيا على أنفسكم من معاصي الله هو ظنكم الذي ظننتم أن الله لا يعلم ما تعملون، أهلككم ذلكم الظن فأصبح في الآخرة من الذين خسروا أنفسهم.(10/6508)
وقرأ الحسن هذه الآية ثم قال: قال الله جل ذكره: " عبدي، أنا عند ظنه بي، وأنا معه إذا دعاني ". ثم نظر الحسن فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بالله الظن وأحسن العمل، (وأما الكافر والمنافق فأساء الظن وأساء العمل).
وذكر معمر أنه بلغه أنه: " يؤمر برجل إلى النار فيلتفت فيقول: يا رب، ما كان هذا ظني بك. قال: (وما كان ظنك) قال: كان ظني بك أن تغفر لي ولا تعذبني قال: فإني عند ظن عبدي ".(10/6509)
وقال قتادة: الظن ظننان: ظنُّ مُرْدٍ، وظنُّ مُنْجٍ، فأما الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، ومن قال: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] فهذا الظن المنجي - ظن ظناً يقيناً - قال: وقال هاهنا: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} فهذا ظن مرد.
وقوله عن قول الكافرين: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} [الجاثية: 32] مثله.
قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله عليه وسلم كان يقول ويروي عن ربه عز وجل: " عبدي أنا عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني ".
فمعنى الآية: وهذا الظن الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيراً مما تعملون هو الذي أهلككم لأنكم من أجل هذا الظن الخبيث تجرأتم على محارم الله سبحانه، وركبتم ما نهاكم عنه فأهلككم ذلك وأصبحتم في القيامة من الذين خسروا أنفسهم فهلكوا.
وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من استطاع منكم ألا يموت إلا وهو يحسن الظن بالله فليفعل. ثم تلا " {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ " الآية.(10/6510)
واستحب العلماء للرجل المؤمن أن يكون الخوف عليه في حصته أغلب من الرجاء، فإذا مرض وحضرت وفاته استحبوا أن يكون الرجاء في عفو الله أغلب عليه من الخوف.
ثم قال تعالى: {فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ}، المعنى فإن يصبروا على النار أولا يصبروا فالنار مسكن ومأوى لهم.
{وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين}، أي: وإن يسألوا الرجعة إلى الدنيا والتخفيف من العذاب فما هم ممن يخفف عنهم ما هم فيه ولا يرجعون إلى الدنيا.
وقيل: المعنى: فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مسكن لهم في الآخرة كما قال: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175].
وقيل: المعنى: وإن يستعتبوا في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم فما هم من المعتبين.
والاستعتاب إنما يكون من الجزع. فهذا يدل على أنه في النار يكون ذلك.(10/6511)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
وقيل: المعنى: " فإن يصبروا فالنار أو يجزعوا فالنار مسكن لهم ". وقيل: المعنى: إن يصبروا في الدنيا على تكذيبك واتباع آلهتهم، فالنار مثوى لهم يوم القيامة.
ويقال: إن هذا جواب لقولهم: {أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ} فقال الله تعالى جل ذكره إن يصبروا على آلهتهم، أي: على عبادتها {فالنار مَثْوًى لَّهُمْ}، وإن يستعتبوا يوم القيامة / فلن يعتبوا.
قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} - إلى قوله - {مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}.
أي: ونصبنا لهم نظراء من الشياطين فجعلناهم لهم قرناء يزينون لهم قبائح أعمالهم.
قال ابن عباس: القرناء هنا: الشياطين.
وحقيقة قيضنا سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا.
وقوله: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}.
يعني: من أمر الدنيا فحسنوا ذلك، وحببوه لهم حتى آثروه على(10/6512)
أمر الآخرة.
وقوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} قال مجاهد: حسنوا لهم أيضاً ما بعد مماتهم فدعوهم إلى التكذيب بالمعاد، وأنه لا ثواب ولا عقاب، وهو أيضاً قول السدي.
وقيل: معنى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ}، يعني: في النار فزينوا لهم أعمالهم في الدنيا.
والمعنى: قدرنا عليهم ذلك أنه سيكون وحكمنا به عليهم.
وقيل: المعنى: أخرجناهم إلى الاقتران فأحوجنا الغني إلى الفقير ليستعين به، وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، فحاجة بعضهم إلى بعض تقيض من الله عز وجل لهم ليتعاونوا على طاعته فزين بعضهم لبعض المعاصي.
قال ابن عباس: ما بين أيديهم هو تكذيبهم بالآخرة والجزاء والجنة والنار،(10/6513)
وما خلفهم: الترغيب في الدنيا والتسويف بالمعاصي وقيل: المعنى إنهم زينوا لهم مثل ما تقدم لهم من المعاصي فهو من بين أيديهم، وما خلفهم: ما يعمل بعدهم أو بحضرتهم.
وقيل: ما بين أيديهم: ما هم فيه، وما خلفهم: ما عزموا أن يعملوه.
ثم قال تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول}، أي: وجب لهم العذاب بكفرهم وقبولهم ما زين لهم قرناؤهم من الشياطين.
وقوله: {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس}، معناه: ووجب عليهم القول في أمم قد مضت قبلهم.
(أي ووجب عليهم من العذاب مثل ما وجب على أمم مضت قبلهم) من الجن والإنس لكفرهم وعملهم مثل عملهم.
وقيل: " في " هنا، بمعنى " مع ".
فالمعنى: ووجب عليهم العذاب بكفرهم مع أمم مضت قبلهم بكفرهم(10/6514)
أيضاً، هم داخلون فيما دخل فيه من قبلهم من الأمم الكافرة. {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ}، أي: مغبونين ببيعهم رضاء الله عز وجل بسخطه، ورحمته بعذابه.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ}، أي: قال الملأ من قريش لأهل طاعتهم من العامة: لا تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه ولا تتبعوا ما فيه. وألغوا فيه بالباطل (من القول). إذا سمعتم قارئه يقرأه لا تسمعوا ولا تفقهوا) ما فيه. هذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد: اللغو هنا: المكاء والتصفيق والتخليط (في المنطق) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرأ القرآن أمروا سفهاءهم بذلك.
وقال قتادة: والغوا فيه، أي: اجحدوا وأنكروه وعادوه.
يقال: لغى يلغى، (ويلغو لغواً، ولغى ولغي يلغى لغى)(10/6515)
وبهذه جاء القرآن.
وقرأ ابن أبي إسحاق: " والغوا فيه " على لغا يلغو، واللغو في الكلام ما كان على غير وجهه مما يجب أن يطرح ولا يعرج عليه. واللغو أيضاً مما لا يفيد معنى من الكلام.
قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ رفع صوته فتطرد قريش عنه الناس ويقولون: لا تسمعوا والغوا فيه لعلكم تغلبون، وإذا خافت لم يسمع من يريد، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110].
وعن ابن عباس أيضاً أن أبا جهل هو الذي قال هذا: إذا رأيتم محمداً يصلي فصيحوا في وجهه وشدوا أصواتكم بما لا يفهم حتى لا يدري ما يقول.
وروي أنهم إنما فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن، ورأوا من (يكرهه) يؤمن به لإعجازه بفصاحته، وكثرة معانيه وحسنه ورصفه.(10/6516)
ومعنى قوله {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، أي: لعلكم تصدون من أراد استماعه عن فهمه فلا ينتفع به فتغلبون محمداً صلى الله عليه وسلم أي في الآخرة على فعلهم.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} "، أي ولنجازينهم على قبيح أعمالهم في الدنيا.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ}، أي: جزاء المشركين في الآخرة النار، لهم فيها دار المكث أبداً.
{جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}، أي: فعلنا بهم ذلك جزاء لهم بجحودهم في الدنيا بآياتنا، وكفرهم بها.
ثم قال تعالى: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس}، أي: وقال الكفار يوم القيامة بعد دخولهم النار: ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من جهنم وإنسهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار، لأن أبواب / جهنم بعضها تحت بعض فكل ما سفل كان أشد عذاباً مما علا، نعوذ بالله منها.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: هما إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل(10/6517)
أخاه. وهذا قول قتادة والسدي. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}، إن الذين وحدوا الله وعلموا أنه لا رب لهم غيره، ثم استقاموا على التوحيد والطاعة إلى الوفاة.
" روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} - الآية " فقال: " قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم. فمن مات عليه فهو ممن استقام ".
وقيل: معناه: ثم لم يشركوا به شيئاً. قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ.
وروي عنه أنه هذه الآية قرئت عنده فقال: هم الذين لم يشركوا به شيئاً، فقالوا: لم يعصوا الله؟ فقال أبو بكر: لقد ضيقتم الأمر، إنما هو: ثم استقاموا (على ألا(10/6518)
يشركوا به شيئاً).
وعنه أنه قال: ثم استقاموا: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان.
وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، ثم لم يشركوا حتى لقوه.
وروى الزهري أن عمر رضي الله عنهـ تلا هذه الآية فقال: استقاموا - والله - على طاعة الله ولم يروغوا روغان الثعلب.
وقال قتادة: استقاموا على طاعة الله عز وجل.
وكان الحسن إذا قرأها قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الإستقامة.
وقال ابن زيد: استقاموا على (عبادة الله وعلى طاعته).
وقيل: لم يحدثو بعد إيمانهم كفراً. لأن المشركين قالوا: ربنا الله وعبدوا الأصنام وقالوا: الملائكة بنات الله سبحانه، وقالت اليهود: ربنا الله، ثم كفروا فقالوا: عزير ابن الله سبحانه وكفروا بمحمد، (وقالت النصارى: ربنا الله ثم كفروا وقالوا(10/6519)
عيسى ابن الله، وقال بعضهم هو الله، وقال المسلمون: ربنا الله ولم يعبدوا معه غيره ولوآمنوا بمحمد وبجميع الأنبياء.
وقوله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة}، معناه: تتهبط عليهم الملائكة من عند الله عند نزول الموت بهم. قاله مجاهد والسدي.
يقولون لهم: لا تخافوا مما قدامكم، ولا تحزنوا على ما خلفكم، وأبشروا بالجنة التي وعدكموها الله عز وجل، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقرأ ابن مسعود: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} لا تخافوا، أي: قائلة لهم: لا تخافوا مما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم.
وقال السدي: معناه: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على ما بعدكم.
وقال مجاهد: معناه: ألا تخافوا مما تقجمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم من جنياكم من أهل، وولد، ودار فإنا نخلفكم في ذلك كله.
قال زيد بن أسلم: البشارة في ثلاثة مواطن: عند الموت، وعند القبر، وعند البعث.(10/6520)
وعن ابن عباس أن هذه البشرى في الآخرة تكون لهم من الملائكة.
فالمعنى: تقول لهم الملائكة: نحن كنا نتولاكم في الدنيا وهم الحفظة الكتبة، قاله السدي، قال: هم الحفظة وهم أولياء المؤمن في الآخرة كما كانوا أولياءه في الدنيا.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ}، أي: لكم ذلك في الجنة.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، أي ما تريدون، وتدعون ما شئتم يأتكم.
وقوله: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}، أي: أنزلهم الله عز وجل عز وجل ذلك نزلاً، فهو مصدر، وقيل: في موضع الحال. والمعنى: منزلين {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ} للذنوب لمن تاب منها، {رَّحِيمٍ} بمن آمن وتاب.
قال ثابت البناني: بلغنا أن المؤمن يتلقاه ملكاه - اللذان كانا معه في الدنيا(10/6521)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
- إذا بعث من القبر - فيقولانن له: لا تخف ولا تحزن {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} - إلى قوله - {مَا تَدَّعُونَ} فيؤمن الله خوفه، ويقرعينه.
قوله تعالى ذكره {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} - إلى قوله - {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} معناه: لا أحد أحسن قولاً ممن هذه صفته، أي: ممن قال: ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والقبول لأمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال به وما عمل. وقرأ الحسن يوماً هذه الآية فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي والله، هذا صفوة الله، هذا خير الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال إنني من المسلمين؛ فهو خليفة الله سبحانه.
فالآية عند الحسن لجميع المؤمنين.
وقال قتادة: هذا عبد صدق قوله عمله، ومولجة مخرجه، وسره علانيته وشاهد مغيبه، ثم قال: وإن المنافق عبد خالف قوله عمله ومولجه مخرجه، وسره(10/6522)
/ علانيته، وشاهده مغيبه.
قال السدي: عني بهذه نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الله جل ذكره، وعمل صالحاً، وقاله ابن زيد وابن سيرين).
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: نزلت في المؤذنين.
وقال عكرمة: قوله: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله}، يعني: المؤذنين. {وَعَمِلَ صَالِحاً}، قال: صلى وصام.
وذكر في حديث يرفعه: " أول من (يقضي) الله له بالرحمة يوم القيامة المؤذنون، وأول المؤذنين مؤذنو مكة. قال: والمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة. والمؤذنون إذا خرجوا من قبورهم أذنوا فنادوا بالآذان، والمؤذنون ولايدودون في قبورهم.(10/6523)
وعن عمر رضي الله عنهـ أنه قال: " قالت الملائكة: لو كنا نزولاً في الأرض ما سبقنا إلى الآذان أحد ".
وقال قيس بن أبي حازم: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله}، قال: هو المؤمن {وَعَمِلَ صَالِحاً}، قال: الصلاة بين الأذان إلى الأقامة.
وهذه الآية تدل على أنه جائز أن يقول المسلم: أنا مسلم بلا استثناء، أي: قد استسلمت لله عز وجل وخضعت له بالطاعة جلة عظمته.
ثم قال تعالى {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} " لا " الثانية زائدة للتأكيد.
والمعنى: لا يستوي الإيمان بالله عز وجل، والعمل بطاعته سبحانه، والشرك بالله عز وجل والعمل بمعصيته تعالى.
قال عطاء: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة الشرك.(10/6524)
ثم قال {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ}، أي: ادفع بالحالة التي هي أحسن السيئة. والمعنى: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك إساءة من أساء إليك، وبصبرك على مكروه من تعدى عليك.
وقال ابن عباس في الآية: أمر الله عز وجل المسلمين بالصبر عند الغضب والحلم والعفو عند الإساءة. فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم حتى يصير كأنه ولي حميم.
وقال مجاهد: معناه: ادفع بالسلام إساءة من أساء إليك، تقول له إذا لقيته السلام عليكم، وقاله عطاء.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هما الرجلان يسب أحدهما الآخر، فيقول المسبوب للساب: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، فيصير الساب كأنه صديق لك، قريب منك. والحميم: القريب.
قال المبرد: " الحميم: الخاص ".(10/6525)
ثم قال تعالى جل ذكره {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}، أي: وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا - لله - على المكاره والأمور الشاقة {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، أي: وما يعطى ذلك إلا ذو نصيب وافر من الخير.
وقيل: المعنى: ما يلقى شهادة ألا إله إلا الله إلا الذين صبروا على المكاره والأذى في الله عز وجل، وما يلقى ذلك إلا ذو حظ عظيم في الآخرة.
ونزل هذا كله بمكة والمؤمنون يؤذون على الإيمان، ويمتحنون ويعذبون حتى فروا إلى أرض الحبشة.
وقيل: إنها والتي قبلها نزلتا في أبي بكر رضي الله عنهـ. ثم هي عامة في كل من كان على طريقته ومنهاجه.
وقال قتادة: الحظ العظيم هنا: الجنة: وقاله ابن عباس أيضاً.
" وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهـ شتمه رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد فعفا عنه ساعة؛ ثم إن أبا بكر جاش به الغضب فرد عليه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه أبو بكر وقال: يا نبي الله شتمني الرجل فعفوت عنه وصفحت وأنت قاعد؛ فلما أخذت أنتصر(10/6526)
قمت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إنه كان يرد عليه ملك من الملائكة، فلما أخذت تنتصر ذهب الملك ورجاء الشيطان، فوالله ما كنت لأجالس الشيطان يا أبا بكر ".
ثم قال تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله}، أي: وإما يلقين الشيطان - يا محمد - في نفسك وسوسة من العزيمة على مجازاة المسيء بإساءته فاستجر بالله واعتصم به من عمل الشيطان.
{إِنَّهُ هُوَ السميع} لاستعاذتك واستجارتك به.
{العليم} بما ألقى الشيطان في نفسك من نزعاته هذا قول السدي وقال ابن زيد: هو الغضب.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر}، أي: ومن علاماته وأدلته التي تدل على وحدانيته وقدرته وحجته على خلقه وعظيم سلطانه اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كل واحد منهما الآخر. والشمس والقمر مسخرات لا يدرك أحدهما الآخر.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر}، فإنما هما خلق(10/6527)
مثلكم خلقا لمنافعكم بهما.
وقوله: {خَلَقَهُنَّ} جاء بلفظ التأنيث، والجمع رد على الليل والنهار والشمس والقمر وأنث، كما يؤنث جمع ما لا يعقل وإن كان مذكراً إذا كان من غير بني آدم.
وقيل: الضمير يعود على الشمس والقمر، وأتى الجمع في موضع التثنية لأن الاثنين جمع.
وقيل: الضمير يعود على معنى الآية.
وقوله: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، أي: أخلصوا لله وحده إن كنتم / إياه تعبدون، وهذا موضع السجدة عند مالك.(10/6528)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
وقد روي أن رجلاً من الأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استتر بشجرة يصلي من الليل فقرأ " ص " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً، وارزقني بها شكراً وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني كما تقبلها من عبدك داوود (عليه السلام). فذكر الرجل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " نحن أحق أن نقول ذلك ". فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في سجوده ".
ثم قال تعالى {فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ باليل والنهار}، أي: فإن استكبر هؤلاء الذين أنت - يا محمد - بين أظهرهم، عن السجود والخضوع لله الذي خلقهم وخلق الشمس، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك: على جلالة قدرهم، بل يسبحون له ويصلون ليلاً ونهاراً.
{وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ}، أي: لا يفترون ولا يملون.
ومعنى {عِندَ رَبِّكَ}، أي: في طاعته وعبادته، لم يعن القرب من مكانه لأن المكان على الله تعالى لا يجوز ولا يحتاج إلى مكان لأن المكان محدث وقد كان تعالى ذكره ولا مكان. فالمعنى: فالذين في طاعة ربك وعبادته يسبحون له.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} - إلى قوله - {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}.(10/6529)
أي: ومن علاماته وحججه وأدلته على توحيده وقدرته على نشر الأموات وبعثهم أنك - يا إنسان - ترى الأرض. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى خاشعة: دارسة غبراء لا نبات فيها ولا زرع.
{فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء}، يعني: المطر.
{اهتزت} يعني: بالنبات.
{وَرَبَتْ}، أي: انتفخت وارتفعت. قال قتادة: خاشعة، أي: غبراء متهشمة. وقال السدي: يابسة متهشمة. وأصل الاهتزاز: التحرك.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى}، أي: إن الذي أحيى الأرض الدراسة فأخرج منها النبات وجعلها تهتز بالزرع بعد يبسها، قادر على أن يحيي أموات بني آدم بالماء أيضاً بعد مماتهم.
قال السدي إنه كما يحيي الأرض بالمطر، كذلك يحيي الموتى بالمطر أيضاً وذلك مطر ينزله الله بين النفختين.(10/6530)
{إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: لا يعجزه شيء إذا أراده.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا}، أي: يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا ويعدلون عنه تكذيباً وجحوداً لا يخفون على الله سبحانه، بل هو عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.
قال مجاهد يلحدون في آياتنا يعني: المكاء والصفير واللغو عند القرآن، استهزاء منهم به، ومعارضة منهم للقرآن.
وقال قتادة: يلحدون: يكذبون.
وقال السدي: يلحدون " يعاندون ويشاقون ".
وقال ابن زيد: هم أهل الكفر والشرك بآيات الله سبحانه.
وقال ابن عباس: هم الذين يبدلون آيات الكتاب فيضعون الكلام في غير موضعه.
وأصل الإلحاد: الميل عن الحق، ومنه سمي اللحد لحداً لميله في جانب القبر.(10/6531)
ثم قال تعالى: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة}.
قال عكرمة: أفمن يلقى في النار: هو: أبو جهل: ومن يأتي آمناً، هو: عمار ابن ياسر).
وقيل: هو حمزة رضي الله عنهما. وقيل هو عام.
والمعنى: الكافر خير أم المؤمن؟ وخوطبوا بذلك على دعواهم. ولا يجوز أن يخاطب بهذا المؤمنون، لأنهم قد علموا أنه لا خير في الكافر.
والمعادلة " بأم " لا تكون إلا بين شيئين متقاربين في المدح أو في الذم، ولا قرب بين الكافر والمؤمن في مدح ولا ذم. الذم كله للكافر، والمدح كله للمؤمن. فإنما جاءت هذه الآية وما أشبهها خطاباً للكفار، لأنهم كانوا يدعون أن فيهم خيراً(10/6532)
وفضلاً. فخوطبوا على المناقضة لدعواهم.
ثم قال تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، هذا وعيد وتهدد وليس بإباحة لهم أن يعملوا ما يريدون، إنما هو تواعد وإعلام أن الله عز وجل ذو خبر وعلم بما يعملون لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ}، يعني القرآن.
وخبر " إنَّ " عند الكسائي قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل " إنَّ " وهو قوله: " أفمن يلقى في النار " ونحوه.
وقيل: الخبر: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}.
وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم خسروا وكفروا بمعجزه، ونحوه.
ودل على هذا اللفظ قوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (وهذا مذهب الفراء. وقيل: التقدير في المحذوف: أهلكوا.(10/6533)
ومعنى الآية: إن الذين جحدوا بهذا القرآن وكذبوا فيه خسروا أخراهم، وإن القرآن لكتاب عزيز) بإعزاز الله عز وجل إياه وحفظه له من كل من أراد به تبديلاً أو تحريفاً.
قال قتادة: وإنه لكتاب عزيز أعزه الله لأنه كلامه وحفظه من الباطل.
وقيل: معنى النفي في (هذه: التكثير). والمعنى " لا يأتيه الباطل البتة.
وقال الطبري: معناه: لا يقدر (ذو باطل بكيده بتغيير ولا تبديل، وذلك هو الإتيان من بين يديه. ومعنى: " ولا من خلفه "، أي: ولا يستطيع ذو باطل أن يلحق فيه) ما ليس فيه.
وقيل: المعنى: لم يتقدمه كتاب يبطله، ولن يأتي بعده كتاب يخالفه. وهذا قول حسن.
ثم قال تعالى {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، أي: من عند ذي حكمة بتدبيره عباده، محمود على نعمه على خلقه.
ثم قال تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}.(10/6534)
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما قابله به المشركون من قولهم: كذاب وساحر ومجنون ونحو ذلك. فأعلمه الله جل ذكره أن الذي قابلوه به من التكذيب والقول القبيح قد قابلت الأمم قبله رسلها بمثل ذلك فصبروا حتى جاء نصر الله فكذلك يجب عليك يا محمد أن تصبر.
وقيل: عزيز، أي قاهر لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.
وقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} قال / قتادة: الباطل الشيطان، لا يستطيع أن ينتقص منه حقاً، ولا يزيد فيه باطلاً ".
وقال السدي: الباطل: الشيطان، لا يستطيع أن ينتقص منه حقاً، ولا يزيد فيه باطلاً ".
وقال السدي: الباطل: الشيطانن لا يستطيع أن يزيد فيه حرفاً ولا ينقص.
وقال الضحاك وابن جبير: " معناه: لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده ".
فيكون الباطل على هذا القول بمعنى: (البطول). وفاعل يقع بمعنى المصدر مثل: عافاه الله عافية.(10/6535)
وقيل: المعنى: لا يأتيه الباطل من بين يديه، أي: من قبل أن يتم نزوله، ولا من خلفه، أي: ولا من بعد تمام نزوله.
وقيل: معنى " من بين يديه ": بعد نزوله كله " ولا من خلفه " قبل تمامه.
وقيل: المعنى: لا يأتيه الباطل من قبل أن ينزل، لأن الأنبياء قد بشرت به فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك.
ولا من خلفه بعد أن أنزل.
قال قتادة: في الآية: إن الله جل ذكره يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا. ومثله قوله: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52].
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ}، أي: لذو ستر على ذنوب التائبين من الكفر، العاملين بأمره، المطيعين له.
{وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لمن دام على كفره.
فالناس يلقون الله تبارك وتعالى على طبقات أربع: مطيع مؤمن، يدخله الجنة، وتائب مؤمن، يقبل توبته ويدخله الجنة؛ ومصر على المعاصي، وهو في مشيئة الله عز وجل إن شاء عاقبة، وإن شاء عفا عنه؛ وكافر يدخله النار حتماً، لقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48].(10/6536)
هذا مذهب أهل السنة والاستقامة فاعرفه واعتقده ولا تعرج عنه! فله لا إله إلا هو أن يفعل في أهل الذنوب ما شاء من مغفرة أو معاقبة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون كما كان له في الأزل أن يخلق خلقاً للنار وبعملها يعملون، وخلقاً للجنة ويعملها يعملون: قال جل ذكره: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179].
أي: خلقناهم لها.
ثم قال تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، أي: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً (لقال قومك: يا محمد هلا بينت آياته فنفهمهن أقرآ، أعجمي ونبي عربي. أي: لكانوا يقولون ذلك إنكاراً له.
قال ابن جبير: معناه: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: القرآن أعجمي ومحمد عربي).
وقال السدي: معناه: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: نحن قوم عرب، ما لنا وللعجمة.(10/6537)
وهذا كله على قراءة من قرأ بالاستفهام في " أعجمي ". فأما على قراءة من جعله خبراً " فمعناه: لو جعلنا القرآن أعجمياً لقالوا: هلا فصلت آياته، فجاء بعضها عربي وبعضها عجمي، (فنحن نعرف العربي) ويعرف العجم العجمي.
قال ابن جبير: قالت قريش: هلا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً فأنزل الله عز وجل " لقالوا {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}.
والأعجمي: المنسوب إلى اللسان الأعجمي، يقال: رجل أعجمي إذا كان لا يفصح - كان من العرب أو العجم، ويقال رجل عجمي إذا كان من الأعاجم فصيحاً كان أو غير فصيح.
ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ}، أي: قل يا محمد: هذا القرآن للذين آمنوا به وصدقوا بما فيه " هدى "، أي: بيان للحق " وشفاء "، (أي: دواء)(10/6538)
من الجهل.
ثم قال تعالى: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ}، أي: والذين لا يؤمنون به وبما في آذانهم صمم عن استماع لا ينتفعون به.
{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، أي: وهذا القرآن على قلوب المكذبين به عمى لا يبصرون حججه وما فيه من المواعظ.
قال قتادة: عموا وصموا عن القرآن، فلا ينتفعون به، ولا يرغبون فيه.
وقال السدي: عميت قلوبهم عنه.
قال ابن زيد: (العمى: الكفر).
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاص: وهو عليهم عم " على(10/6539)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
فعل.
ثم قال تعالى {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}.
هذا تشبيه لبعد قلوبهم عن قبول الحق والموعظة.
والعرب: تقول للرجل البعيد الفهم: " إنك لتنادي من بعد " ويقولون للفهيم: إنك لتأخذ الأمر من قريب.
قال مجاهد: معناه " بعيد من قلوبهم "، وقاله الثوري وقال ابن زيد: ضيعوا أن يقبلوا الأمر من قريب (ويتوبون ويؤمنون فيقبل) منهم فماتوا.
وقال الضحاك: هذا يوم القيامة، ينادون بأشنع أسمائهم ليفضحوا على رؤوس الخلائق / فيكون أعظم في توبيخهم.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} - إلى قوله -(10/6540)
{فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ}.
والمعنى: ولقد أعطينا موسى التوراة كما آتينا يا محمد القرآن فاختلف بنو إسرائيل في العمل بما في التوراة كما اختلف قومك في الإيمان بما جئتم به.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} يا محمد فيمن كفر (بك، وهو أنه تقدم في علمه وقضائه تأخير عذابهم إلى يوم القيامة.
{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لجاءهم العذاب فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه فيهلك المبطلين، وينجي المؤمنين.
قال السدي: أخروا إلى يوم القيامة.
قال الزجاج: " الكلمة: وعدهم بالساعة، قال (الله تعالى {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] ".
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}، أي: وإن الفريق المبطل منهم لفي (شك مما قالوا) فيه مريب يريبهم قولهم فيه، لأنهم قالوه بغير ثبت وإنما قالوه ظناً.
ثم قال تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}، أي: من عمل صالحاً في(10/6541)
هذه الدنيا فلنفسه عمل لأنه يستوجب من الله في الميعاد الجنة والنجاة من النار، ومن عمل بمعاصي الله (فعلى نفسه جنى) لأنه أكسبها بذلك سخط الله.
ثم قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لِّلْعَبِيدِ} أي: وما ربك يا محمد يحمل ذنب مذنب على غير مكتسب بل لا يعاقب أحداً إلا على جرمه.
ثم قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة}، (أي: إلى الله يرد العالمون به علم الساعة)، لأنه لا يعرف متى قيامها غيره.
ثم قال تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا}، أي: (وما يظهر) من ثمرة (الشجرة من الموضع) الذي هي مغيبة فيه إلا بعلمه.
قال السدي: من أكمامها: من طلعها.
قال المبرد: هو ما يغطيها. وواحد الأكمام. كم. ومن قال في الجمع أكمة قال في الواحد كمام.
ثم قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}، (أي: ما تحمل من ولد حين(10/6542)
تحمل، ولا تضع حملها حين تضع إلا بعلمه)، فلا شيء يخفى عليه من جميع أمور خلقه.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي}، أي: واذكر يا محمد يوم ينادي الله عز وجل هؤلاء المشركين فيقول لهم أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي؟
والمعنى: أين شركائي على قولكم.
ثم قال تعالى: {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ}، أي: أجابوه عن سؤالهم لهم، فقالوا: أعلمناك ما منا من شهيد أن لك شريكاً.
ثم قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ}، أي: وضل عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يدعونها في الدنيا فأخذ بها عن طريقتهم فلم تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله سبحانه.
ثم قال تعالى: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ}، أي: وأيقنوا أنه لا محيص لهم من عذاب الله عز وجل ولا ملجأ منه جلت عظمته.
قال أبو عبيدة: يقال: حاص يحيص إذا حاد.
وقيل: " المحيص: المذهب الذي ترجى فيه النجاة ".(10/6543)
وأجاز أبو حاتم الوقف على " وظنوا " يجعل الظن بمعنى الكذب، أي: قالوا: آنذاك ما منا من شهيد، وكذبوا في قولهم، بل كانوا يدعون له شريكاً. تعالى الله عن ذلك.
والوقف عند غيره على " محيص " لأن المعنى: أيقنوا أنه لا ينفعهم الفرار.
ثم قال تعالى {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير}، أي: لا يسأم الكافر من دعائه بالخير ومسألته إياه ربه عز وجل.
والخير هنا: المال وصحة الجسم، (فهو لا يمل) من طلب ذلك والاستزادة منه.
{وَإِن مَّسَّهُ الشر}، أي: ضر في نفسه أو جهد في معيشته.
{فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}، أي: فهو يئوس من روح الله عز وجل وفرجه، قنوط من رحمته، أي: لا يؤمل أن يكشف عنه ذلك.
ويقال: إن هذه الآية نزلتل في الوليد بن المغيرة.(10/6544)
وفيه نزلت {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا} - الآية إلى قوله - {للحسنى} وقيل نزل ذلك كله في عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف من كفار قريش.
وقال السدي وغيره: الإنسان هنا: الكافر.
وفي قراءة عبد الله " من دعاء بالخير ".
ثم قال تعالى جل ذكره: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي}، أي: ولئن كشفنا عنه الشر الذي نزل به ليقولن هذا لي عند الله لأن الله راض عني وعن عملي.(10/6545)
قال مجاهد: " ليقولن هذا لي، بعملي. فأنا محقوق بهذا ".
{وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً}: شك الكافر في قيام الساعة.
ثم قال: {وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى}، أي: إن كان ثم بعث وحشر - على طريق الشك - فلي الحسنى عند ربي، أي: لي عنده - إن حشرت بعد موتي - غنى ومال.
فالمعنى أنه قال: لست أؤمن بالبعث ولا أصدق به، فإن كان الأمر على خلاف ذلك وبعثت بعد موتي، فلي عند ربي مال وغنى أقدم عليه.
ثم قال تعالى {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ}، أي: فلنخبرهم بما قصوا / من (الأباطيل وما عملوا من المعاصي).
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} على فعلهم وهو النار، والخلود فيها، لا يموتون (ولا يحيون).
ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}، أي: وإذا كشفنا الضر(10/6546)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
والضيق عن الكافر أعرض عن ما جاءه من عند الله عز وجل ولم يؤمن به وبعد من الإجابة إلى ما دعي إليه.
ومعنى " بجانبه ": قال السدي: أعرض: صد بوجهه، ونأى بجانبه: تباعد عن القبول.
ثم قال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ}، أي: وإذا مسه الضر والفقر والجهد ونحوه فهو ذو دعاء (كثير إلى ربه. فأن الرجل إذا كان في نعمة تباعد عن ذكر الله ودعائه، فإذا مسه الشر فهو ذو دعاء) عريض، أي كثير.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} - إلى آخر السورة.
أي: قل يا محمد للمكذبين للقرآن، أرأيتم إن كان هذا القرآن الذي كذبتم به ولم تؤمنوا به من عند الله ثم كفرتم به ألستم في فراق للحق وبعد من الصواب. وهو معنى قوله: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} إلا أنه جعل الخبر في مكان التقدير وفي الكلام حذف، والتقدير: ثم كفرتم به أمصيبون أنتم أم ضالون.
ثم قال تعالى ذكره: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ}، أي: سنرى هؤلاء المكذبين بما أنزلنا آياتنا في الآفاق، يعني: وقائع النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين.(10/6547)
قال السدي: هي ما يفتح الله للنبي عليه السلام وقوله: {وفي أَنفُسِهِمْ}، يعني: ما يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم من مكة وهو اختيار الطبري.
وقال ابن زيد: آياتنا في الأفاق يعني: في السماوات ونجومها وشمسها وقمرها.
وقيل: معنى " وفي أنفسهم " هو: سبيل الغائط والبول وقيل المعنى: سيرون ما أخبرهم به (النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم فارس، وغير ذلك مما أخبرهم به) أنه سيكون لهم حتى يبين لهم أن كلما أخبرهم به أنه هو الحق.
وقيل: " المعنى: سنريهم آثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أن لها صانعاً حكيماً، وفي أنفسهم من أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن بلغوا وعلقوا حتى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدون من دونه ".(10/6548)
وعن ابن جبير أن معنى " في الآفاق " هو ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على الناس سوى قريش، وفي أنفسهم: ظهوره على قريش، وهو اختيار النحاس.
وقيل معنى الآية: سنريهم آثار من مضى من الأمم ممن كذب الرسل من قبلهم وآثار خلق الله عز وجل في البلاد، وفي أنفسهم، يعني: أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسيت لحماً، ثم نقلوا إلى التمييز والعقل. وذلك كله (يدل على) توحيد الله عز وجل وقدرته حتى يعلموا أن ما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم حق.
ثم قال تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، أي: أو لم يكف ربك أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه لا يعزب عنه علم شيء منه. و " إنه " في موضع رفع بدل من " ربك " على الموضع.
ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من " ربك " على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع " أن " نصباً على معنى الآية.(10/6549)
ومعنى الاية: أو لم يكف ما دل من قدرته وحكمته، ففي ذلك كفاية.
(وقيل: المعنى: أو لم يكف ربك في معاقبة الكفار وقيل: المعنى: أو لم (يكف ربك يا محمد) أنه شاهد على أعمال هؤلاء الكفار ففي ذلك كفاية لك.
ثم قال تعالى {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ}، أي: في شك من البعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال.
ثم قال تعالى {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيط}، أي: ألا إن الله محيط بعلمه بكل شيء خلقه، لا يعجزه علم شيء منه.(10/6550)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشورى
سورة عسق مكية
قوله تعالى: {حم* عسق * كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ} إلى قوله: {العزيز الحكيم}.
قد تقدم إعراب أوائل السور وتفسيرها.
وقد روى عطاء والضحاك كلاهما عن ابن عباس في تفسير {حم* عسق} أن معناه: قذف ومسخ وخسف وسنون، الله أعلم ما سيكون فيها.
وقوله: {كَذَلِكَ يوحي} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ولا موضع للكاف الثانية، واسم الله رفع " بيوحي ".(10/6551)
وقيل: معنى الآية: إنه لم ينزل كتاب من عند الله إلا وفيه حم عسق.
فالمعنى على هذا: كالذي أوحي إليك من هذه السورة، أوحي إلى الذين من قبلك من الرسل. وهذا مذهب الفراء.
وقرأ ابن كثير: {كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ} (على ما لم) يسم فاعله.
فيكون الوقف على هذه القراءة: {مِن قَبْلِكَ} ثم يبتدئ: {الله العزيز الحكيم} على الابتداء، والخبر، وإن شئت على الابتداء والصفة، أو يكون {لَهُ مَا فِي السماوات} [الشورى: 4] الخبر.
وروى الشموني عن أبي بكر: " نُوحي " بالنون. فتقف أيضاً على(10/6552)
{مِن قَبْلِكَ}، ثم يبتدئ " الله " على ما قدر ذكرنا.
وقد يجوز على قراءة ابن كثير أن يرتفع على فعل مضمر كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: يوحي الله كقول الشاعر: لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لِخُصُومَةٍ.
كأنه قال: ليبك يزيد. قيل: من يبكيه؟ / قيل: يبكيه ضارع لخصومة.
قال قتادة: حم عسق اسم من أسماء الله.
وروى حذيفة أنها نزلت في رجل يكون من بني هاشم من أهل بيت(10/6553)
ابن عباس يقال له عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا، فإذا أَذِنَ الله في زوال ملكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مدينة مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت فما هو إلا بياضُ يومها ذلك حتى يجمع الله فيها كل جبار منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً فذلك قوله: {حم* عسق}، يعني: عزيمة (من الله) وقضاء.
سين، يعني: سيكون. قاف، يعني: واقعاً بهاتين المدينتين.(10/6554)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
وروى عن ابن عباس أنه قرأ " حم سق " بغير سين، وكان يقول: إن السين كل فرقة كائنة، وأن القاف كل جماعة كائنة.
ويقول: إن علياً رضي الله عنهـ إنما كان يعلم الفتن بها.
وفي مصحف عبد الله: {حم* عسق} بغير عين كقراءة ابن عباس.
ومعنى {العزيز}، أي: العزيز في انتقامه من أعدائه {الحكيم}: في تدبيره خَلْقَه.
قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلي العظيم}، إلى قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: له ملك ما فيها من جميع الأشياء كلها.
{وَهُوَ العلي} أي: ذو علو وارتفاع على كل الأشياء، ارتفاع مُلْكٍ وقُدْرَةٍ وسُلطانٍ، لارتفاع انتقالٍ.(10/6555)
{العظيم}: وله العظمة والكبرياء.
ثم قال تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ}، أي: تكاد تشقق من فوق الأرضين من عظمة الرحمن وجلالته. هذا قول جميع المفسرين.
وقيل: المعنى: تكاد السموات يتشققن من أعلاهن من عظمة الله فيكون الضمير في {فَوْقِهِنَّ} (على القول) الأول يعود على الأرضين.
وعلى هذا القول الثاني يعود على السماوات.
وكان علي بن سليمان يقول: الضمير في فوقهن للكفار، أي: من فوق الكفار. وهذا قول بعيد، لا يجوز في المذكرين من بنى آدم: " رأيتهن ".
وقيل: المعنى: يكاد السماوات يتفطرن من فوق الأرضين من قول المشركين(10/6556)
وكفرهم.
{والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تعظيما لله سبحانه وتعجباً من مقالة المشركين وهم مع يستغفرون لمن في الأرض، يعني المؤمنين.
ثم قال تعالى: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: يُصَلُّونَ بطاعة ربهم شكراً له وجلالةً وهيبةً، هذا قول الطبري.
وقال الزجاج: معناه: والملائكة يُعظمون الله وينزهونه عن السوء.
ثم قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض}، أي: ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين. وهذا اللفظ ومعناه الخصوص قاله السدي وغيره.
ولا يجوز أن يكون (عاما فيدخل) في ذلك الكفار لأنه تعالى قد قال:(10/6557)
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] فغير جائز أن يستغفر لهم الملائكة.
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: هي منسوخة (نسختها الآية) التي في سورة المؤمن.
قوله تعالى جل ذكره: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7].
وهذا عند أهل النظر لا يجوز فيه نسخ لأنه خبر، ولكن تأويل قول وهب ابن منبه في هذا أنه أراد أن هذه الآية نزلت على نسخ تلك الآية.(10/6558)
ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم}، أي: الغفور لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعذبهم بعد توبتهم.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " من فوقهن ". وذلك جائز إن جعلت ما بعده منقطعاً منه. فإن جعلته في موضع الحال لم يجز الوقف دونه.
ثم قال تعالى: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ}، أي: والذين اتخذوا يا محمد من قومك آلهة يعبدونها من دون الله، الله حفيظ لأعمالهم، مُحْصِيهَا عليهم ومُجازيهم بها يوم القيامة.
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، أي: ولست يا محمد بالوكيل عليهم تحفظ أعمالهم، إنما أنت مُنْذِرٌ ومُبَلِّغٌ ما أُرسِلت به إليهم، فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا}، أي: أوحينا إليك يا محمد قرآناً بلسان العرب لتنذر عذاب الله أهل أم القرى، وهي مكة. سميت بذلك لان الأرض دحيت منها.(10/6559)
وقيل: سميت (أم القرى لأنها أول ما عُظِّمَ وِشُرِّفَ من القرى. وقيل: سميت) بذلك لأنها أول ما وُضِعَ. كما قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96].
وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، أي: ومن حول أم القرى من سائر الناس.
ثم قال تعالى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ}، أي: وتنذرهم عقاب الله الكائن في يوم الجمع لا شك فيه، وهو يوم القيامة. وهذا في الحذف مثل قوله تعالى / {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، أي: يخوفكم بأوليائه، فكذلك المعنى: وتنذرهم عقاب الله الكائن يوم الجمع، ثم حذف.
فيكون " يوم " على هذا نصباً على الظرف.
ويجوز أن يكون النصب على المفعول به كما قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} [مريم: 39] وكما قال: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} [إبراهيم: 44] فكل هذا انتصب على أنه مفعول به(10/6560)
وليس بظرف للإنذار، لأن الإنذار لا يكون يوم القيامة إنما الإنذار في الدنيا.
ثم قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير}، أي: منهم فريق في الجنة وهم المؤمنون، وفريق في السعير - وهي جهنم - وهم الكفار. وسميت جهنم بالسعير لأنها تسعر على أهلها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " خَرَجَ يَوْماً عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: هَلْ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: لاَ، إِلاَّ اَنْ (تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ الله). قَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وأَسْمَاءُ آبِائِهِمْ وَقَبَائِلِهِم، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِم وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ اَبَداً (وَهَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمِائِهِمْ وَأَسْمَاءِ أبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِم فَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُم أَبَداً) فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَفيمَ العُمُلُ إِذَا كَانَ هَذَا أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: بَلْ سَدَّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمضلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَنَبَذَهُمَا. فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الخَلْقِ، فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ، وَفَرِيقُ فِي السَّعِيرِ قَالُوا: سُبْحَانَ الله،(10/6561)
فَلِمَ نَعْمَلُ وَنَنْصَب؟! فَقَالَ رَسُولُ الله: العَمَلُ إِلَى خَوَاتِمِهِ ".
وكان ابن عمر يقول: " إن الله جل ثناؤه لما خلق آدم نفضه نفض المزود فأخرج منه كل ذرية، فخرج أمثال النَّغَفِ فقبضهم قبضتين، وقال: شقي وسعيد، ثم ألقاهما، ثم قبضهما فقال: فريق في الجنة وفريق في السعير ".
ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، أي: على دين واحد.
{ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ}، أي يوفقه إلى الإيمان والطاعة فيرحمه.
ثم قال: {والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}، أي: والكافرون ما لهم يوم القيامة من ولي يتولى معونتهم، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله سبحانه.(10/6562)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}، أي بل اتخذ هؤلاء المشركون من دونه أولياء يعبدونهم من دونه.
{فالله هُوَ الولي}، أي: هو الولي لأوليائه (لأنه يضر وينفع) {وَهُوَ يُحْيِي الموتى}: (بعد موتهم يوم القيامة.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: قادر على إحياء الموتى وعلى غير ذلك مما يريد.
قوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} إلى قوله: {مِّنْهُ مُرِيبٍ}، أي: وما تنازعتم أيها الناس فيه من شيء فحكمه إلى الله، أي: هو يقضي فيه بما يشاء إما بنص في كتابه، وإما بدليل على النص.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، أي: ذلكم الذي ذكرت لكم هو ربي وإلهي وإلهكم. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أموري.
{وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، أي: وإليه أرجع في أموري، وأتوب من ذنوبي.
ثم قال: {فَاطِرُ السماوات والأرض}، أي: هو (خالقهما ومبتدعهما).
{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}، أي: زوجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً،(10/6563)
يعني: خلق حواء من ضلع آدم.
ثم قال تعالى: {وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} يعني: من الضأن اثنين، ومن المَعْزِ اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين.
ثم قال: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (أي: بخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، وبعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام).
قال مجاهد: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (فيه، نسل بعد نسل من الناس والأنعام ".
وقال السدي: يذرؤكم: يخلقكم.
وقال ابن عباس: " جعل الله فيه معيشة تعيشون بها ".
قال قتادة: يذرؤكم فيه، قال: " عيش من الله جل ثناؤه يعيشكم فيه ".
وقال الزجاج: " يذرؤكم فيه أي: يكثركم فيه " (ف " في ") عنده في موضع الباء.(10/6564)
والمعنى على قوله: يكثركم، يخلقكم أزواجاً.
وقال القتبي: يذرؤكم فيه، أي: في الزوج.
(فالمعنى: يخلقكم في بطون الإناث.
وقال علي بن سليمان: " يذرؤكم: ينبتكم من حال إلى حال ".
وحكى أبو زيد) وغيره عن العرب، ذرأ الله الخلق يذرؤهم، أي: خلقهم.
ثم قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الكاف في " كمثله " زائدة للتوكيد لا موضع لها. وموضع " كمثله كله موضع نصب خبر " ليس ".
وقيل المعنى: ليس هو شيء، ولكن دخلت " المثل " في الكلام للتوكيد.
ثم قال: {وَهُوَ السميع البصير}، أي: السميع لما ينطق به من خلقه من قول،(10/6565)
البصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء.
ثم قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض}، أي: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض. وواحد المقاليد إقليد وجمع على مقاليد على غير قياس كمحاسن، والواحد حسن. وقيل: واحدها مقليد. فهذا على لفظ الجمع.
فتحقيق المعنى: بيده خزائن الخير والبشر. فما يفتح من رحمته فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده /.
قال مجاهد: مقاليد: مفاتيح بالفارسية.
وقوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ}، أي: يوسع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيق على من يشاء، يفعل ما يريد، ويعلم مصالح خلقه فيوسع على من لا تصلح حاله إلا (بالتوسيع) (ويضيق على من لا تصلح حاله إلا بالتضييق).
{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، أي عالم بأحوال خلقه وما يصلحهم.
ثم قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} (أي: بيَّن الله لكم أيها(10/6566)
الناس من الدين ما وصى به نوحاً) أن يعمله.
{والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد، أي: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد، وهو كتاب الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين}، أي: وشرع لكم من الدين أن أقيموا الدين.
" فأن " في موضع نصب على البدل من " ما " في قوله: {مَا وصى بِهِ نُوحاً}. فالتقدير: شرع لكم أن أقيموا الدين.
ويجوز أن يكون " أن " في موضع (رفع على معنى هو: أن أقيموا الدين.
ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من الهاء في " به ") قال أبو(10/6567)
العالية: الذي وصى به نوحاً لله عز وجل، وعبادته لا شريك له.
قال الحكيم: جاء نوح بالشريعة وتحريم الأمهات والبنات والأخوات.
وقال قتادة: جاء نوح بالشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام.
وقوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين}: معناه: اعملوا به على ما شرع لكم وفرض عليكم.
وقال السدي: اعملوا ولا تتفرقوا فيه (فتختلفوا فيه) كما اختلف الأحزاب من قبلكم.
فتحقيق المعنى في [الآية: {شَرَعَ لَكُم}] أن أقيموا [لله الدين] الذي(10/6568)
ارتضاه لأنبيائه، ولا تتفرقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض. وهذا الدين هو الإسلام.
ومذهب أكثر المفسرين أن نوحاً صلى الله عليه وسلم أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات.
ثم قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}، أي: عظم يا محمد على المشركين من قومك ما تدعوهم إليه من الإخلاص لعبادة الله عز وجل، والإقرار له بالألوهية، والبراءة مما سواه من الآلهة.
وقال قتادة: كبر على المشركين شهادة ألا إله إلا الله.
ثم قال تعالى: {الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ}، أي: يصطفي لدينه من يشاء من خلقه، ويختار لولايته ودينه من أحب، قال السدي: يستخلص من يشاء، وقال أبو العالية: يخلص من الشرك من يشاء.
والتقدير: الله يجتبي إليه من يشاء أن يجتبيَه.
ثم قال تعالى: {ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}، أي: ويوفق للعمل بطاعته من يتوب إليه من الشرك.
وقوله: {وعيسى} وقف إن جعلت " أن أقيموا " في موضع رفع على الابتداء،(10/6569)
فإن جعلت " أن " بدلاً مما قبله لم تقف إلا على {فِيهِ} أو على: {إِلَيْهِ}.
ثم قال تعالى: {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ}، أي: وما تفرق المشركون في أديانهم فصاروا أحزاباً إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: إن الذي جاءتهم به الأنبياء هو الدين الحق، فتفرقوا من أجل البغي (من بعدما جاءهم الحق.
وقيل: المعنى: ما تفرق قريش عن الإيمان بما جئتم به يا محمد إلا من أجل البغي عليك) من بعد ما جاءهم القرآن دلالة على صحة ما جئتهم به.
وقيل: معنى: بغياً بينهم، أي: بغياً من بعضهم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا.
وقيل: المعنى: ما تفرق مشركو قريش إلا من بعد ما جاءهم العلم وذلك أنهم كانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي. فلما بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به. وهو مثل قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم. .} [فاطر: 42] الآية.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ}، أي: لولا أن(10/6570)
الله عز وجل أخر عذابهم - في سابق علمه - إلى يوم القيامة لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فيهلك الكافر وينجي المؤمن.
قال الزجاج: الكلمة: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]. قال السدي: يوم القيامة.
وقال الطبري: معناه: لولا قول سبق: يا محمد من ربك إلا يعاجلهم بالعذاب لقضي بينهم، ولكنه أخر ذلك إلى يوم القيامة.
ثم قال: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ}، أي: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك منه، يعني: اليهود والنصارى.
والكتاب هنا: التوراة والإنجيل.
ومعنى: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي: لفي شك من الدين الذي وصى الله عز وجل به نوحاً وأوحاه إليك يا محمد وأمرك بإقامته مريب.(10/6571)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
وقيل، المعنى: إن اليهود والنصارى الذين أورثت قريش الكتاب من بعدهم، أي: من بعد اليهود والنصارى - لفي شك منه، أي: من القرآن.
وقيل: من محمد صلى الله عليه وسلم: فالشك على هذا لليهود والنصارى.
وقيل: هو لقريش، الذين أورثوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى وهم في شك من القرآن.
قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع واستقم} إلى قوله: {لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}، أي: فإلى ذلك الدين يا محمد فادع الناس واستقم.
فاللام في " فلذلك " / بمعنى " إلى " كما قال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5]، أي:(10/6572)
إليها.
{واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} أي: واستقم يا محمد على العمل بذلك الدين، واثبُت عليه كما أمرك ربك.
(وقيل: " ذلك " بمعنى: هذا. والتقدير: فلهذا القرآن فادع الناس يا محمد واستقم على العمل به كما أمرك ربك.
وقيل: اللام) على بابها، والمعنى: ومن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع إلى عبادة الله واستقم على (ما أمرك) ربك.
وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير فيه: كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع، أي فإلى ذلك (الدين فادع) عباد ابيه واستقم كما أمرت.
ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ}، أي: ولا تتبع أهواء المشركين في الحق الذي شرعه الله لكم من الدين.(10/6573)
{وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} أي: وقل يا محمد صَدَّقْتُ بما أنزل الله من كتاب، كائنا ذلك الكتاب ما كان لا أُكَذِّبُ بشيء منه، كما كذبتم أيها المشركون ببعضه، وصدقتم ببعضه.
ثم قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، أي: وأن أسير فيكم أجمعين بالحق الذي بعثني (الله به).
قال قتادة: " أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل، حتى مات صلى الله عليه وسلم. والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ المظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثَلاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَنْجَنَهُ: القَصْدُ فِي الْفَاقَةِ وَالغِنَى، والْعَدْلُ فِي الْرِّضَى والغَضَبِ، وَالخَشْيَةُ فِي الْسِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ.
وَثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَهْلَكْتُهُ: شُحٌّ مَطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ.
وَأَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهُنَّ فَقَدْ أُعطِي خَيْرَ الْدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: لِسَانٌ ذاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَبَدَنٌ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُوَافِقَةٌ ".(10/6574)
ثم قال تعالى: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}، أي: مَالِكُنَا ومَالِكُكُم. وهذا كله خطاب لجميع الأحزاب من أهل الكتابين.
{لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، أي: لنا ثواب ما اكتسبنا من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
{لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}، أي: " لا خصومة ": قاله مجاهد وابن زيد. وقيل: (المعنى: لا خصومة بيننا) لأن الحق قد تَبَيَّنَ لَكُمْ صوابه. فاحتجاجكم إنما هو عناد في أمر قد تبين لكم صوابه (فاحتجاجكم إنما هو في فيما قد علمنا أنكم) تعلمونه وتنكرونه بعد علمكم بصحته.
ثم قال تعالى: {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير}، أي: يجمع بيننا في موقف يوم يوم القيامة فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه، وإليه مصيرنا أجمعين.
ثم قال تعالى: {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ}، أي: والذين يخاصمون في دين الله عز وجل الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم، من بعد ما استجيب له الناس ودخلوا فيه.(10/6575)
{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي: خصومتهم باطلة ذاهبة عند ربهم.
{وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} من ربهم.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة، وهو عذاب النار.
وقيل المعنى: والذين يخاصمون الناس في دين الله، من بعد مت استجيب للنبي. فتكون " الهاء " للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا القول. وهي لله عز وجل في القول الأول.
ومعنى: استجيب له - في هذا القول - استجيب دعاؤه، لأنه دعا على أهل بدر فاستجيب له، ودعا على أهل مكة ومضر. بالقحط فاستجيب له، ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله من قريش فاستجيب له في أشباه لهذا.
وقال مجاهد: هم قوم من الكفار خاصموا المؤمنين في وحدانية الله سبحانه من بعدما استجيب له المؤمنون.(10/6576)
وذكر الطبري أن هذه الآية " نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في دينهم وطعموا أن يصدوهم عنه إلى الكفر "، وهو قول ابن عباس.
وقال قتادة: نزلت في اليهود والنصارى، قالوا: ديننا قبل دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم.
ثم قال: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان}، أي: الله الذي أنزل هذا الكتاب - يعني: القرآن - بالحق وأنزل الميزان.
قال مجاهد وقتادة: الميزان: العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف بحكم الله.
ثم قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ}، أي: وأي شيء يعلمك يا محمد لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب.
وفي الكلام معنى التهديد والتخويف لمن أنزل عليه القرآن - وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
وذكر " قريب " و " الساعة " مؤنثة على طريق النسب.(10/6577)
وقيل: ذكر ليفرق بينه إذا كان من المسافة والزمان، وبينه إذا كان من النسب والقرابة.
وقال الزجاج: " هو تأنيث ليس بحقيقي فحمل على المعنى. والتقدير لعل البعث قريب ".
وقيل التقدير لعمل مجيء الساعة قريب، ثم حُذف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
ثم قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي: يستعجلك بمجيئها يا محمد الذين لا يؤمنون بها ينكرون مجيئها، يظنون أنها غير جائية، وذلك قولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك: 25].
فهم يسألون عن حدوث كونها على جهة التكذيب لمجيئها.
والذين آمنوا بها، وعلموا أنها ستأتي مشفقون منها، أي: وجلون خائفون من مجيئها لصحة وقوع ذلك عندهم وكونه، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها.
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق}، أي: ويوقنون أن مجيئها حق يقين. ثم قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة}، أي: يجادلون الناس فيها أنها لا تقوم.(10/6578)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}، أي: لفي جور عن الصواب، بعيد عن الحق، لأنهم كفروا معاندة ودفعاً للحق.
قوله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} إلى قوله {غَفُورٌ شَكُورٌ}، أي: والله ذو لطف بعباده، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقتر على من يشاء. {وَهُوَ القوي} لا يغلبه غالب.
{العزيز} في انتقامه من أعدائه.
ثم قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}. الحرث هنا: العمل.
والمعنى: من كان يريد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ في حرثه، أي: نوفقه ونضاعف له الحسنات.
{وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا}، (أي: ومن كان يريد بعمله الدنيا نؤته منها ما يريد، مثل دفع الآفات ونحوها ومثله قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18].
وقيل: المعنى: من كان يريد بفعله الخير ثناء أهل الدنيا تركناه وذلك، ولم يكن له في الآخرة من عمله نصيب.(10/6579)
وقيل نزلت في الغزو، والجهاد. والتقدير: من كان يريد بغزوه وجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده، ومن كان يريد بذلك الغنيمة والكسب نزته منها، أي: نخلي بينه وبين ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع المنافقين من أخذ الغنيمة ومن أجلها غزوا معه لا لله سبحانه. ففيهم (وفي أشباههم نزلت الآية) فتكون الآية على هذا القول مخصوصة.
وقال طاوس: " من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه (ولم ينل من الدنيا إلا مَا كُتِبَ له)، ومن كان همه الآخرة (جعل الله غناه بين عينيه)، ونور قلبه، وآتاه من الدنيا ما كتب الله له ".(10/6580)
وقال الطبري في معناها: من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في عمله الحسنى، فنجعل بالواحد عشراً إلا ما شاء ربنا من الزيادة، ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى، نرته منها ما قسمنا له وما كتب له منها.
{وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ}، أي: ماله من عمله ذلك في الآخرة حظ.
وقال قتادة: معناه: من آثر آخرته على دنياه نزد له في أجره، ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة إلا النار، ولم نزده في الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه.
وروى الضحاك عن ابن عباس أن قوله: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا}: منسوخ في سورة " سبحان " بقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] وفيه(10/6581)
بُعْدٌ لأن الأخبار لا تُنسخ.
ثم قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}، أي: بل لهم شركاء اخترعوا لهم ديناً لم يأمر به الله سبحانه فعملوا به وقبلوه.
وأضيف " الشركاء " إليهم لأنهم هم أحدثوا عبادتهم من دون الله سبحانه، فأشركوا بينهم وبين والله سبحانه في العبادة، تعالى الله على ذلك عُلُوَّا كبيراً.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، أي: ولولا السابق من حكم الله عز وجل أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب، فَيَهْلَكُ الكافرون وينجو المؤمنون.
(ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: مؤلم والظالمون): الكافرون بالله.
ثم قال تعالى: {تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}، أي: ترى يا محمد الكافرين يوم القيامة خائفين من عقاب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الخبيثة أن يَحُلَّ بهم، وعقابه واقع بهم وَحَالٌ عليهم.
ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات}.(10/6582)
والروضة: المكان المونق الحسن، ولا تكون الروضة - عند بعض اللغويين - إلا في المكان المرتفع.
ثم قال تعالى: {لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}، أي: لهم عند ربهم - في الآخرة - كا تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم.
{ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}، أي: ذلك الذي أعطاهم الله من النعيم والكرامة هو الفضل الكبير علهيم من الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، أي: ذلك الذي أخبرتكم به من الكرامة هو الذي يبشر الله به عباده الذين / آمنوا في الدنيا، وعملوا الأعمال الصالحات.
ثم قال تعالى جل ذكره: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى}، أي: قل لهم يا محمد لا أسأل منكم جُعْلاً على ما جئتكم به من الهدى والقرآن والدعاء إلى الإيمان والنصيحة إلا أن (تُوَدُّونِي) لقرابتي منكم، وتصلوا رحمي بيني وبينكم.(10/6583)
قال ابن عباس: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: لما أبو (أن يتابعوه، قال يا قوم، إن أبيتم أن تتابعوني) فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصري منكم، وبهذا القول قال في الآية: عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي.
قال قتادة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يسأل الناس على هذا القرآن أجراً إلا أن يَصِلُوا ما بينه وبينهم من القرابة - وكل بطون قريش بينهم وبينه قرابة -.
فيكون المعنى: إلا أن تودوني لقرابتي منكم، (إني لا أسألكم من أموالكم شيئاً على ما جئتكم به، إنما أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم إن أبيتم) أن تؤمنوا بي.(10/6584)
وعن ابن عباس أنه قال: " قالت الأنصار: " فعلنا وفعلنا. . . فكأنهم فَخُرُوا. فقال بعض قرابة النبي صلى الله عليه وسلم: لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم، فقال: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمْ اللهُ بِي؟ قَالُول: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟ قَالُوا: بَلَي يَا رَسُولَ الله قَالَ: أَفَلاَ تُجِيِبُونِ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أَلاَ تَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ أَلَمْ يَخْذِلُوكَ فَنَصْرْنَاكَ. فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ. وَقَالُوا: أَمْوالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لله وَرَسُولِهِ قَالَ: " فَنَزَلَتْ: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} " الآية "
وبهذا القول قال عمرو بن شعيب.(10/6585)
وهذا يدل على أن الآية مدنية.
وعن ابن عباس أيضاً أن معنى الآية: قل يا محمد لقريش: لا أسألكم على ما جئتكم به أجراً إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالعمل الصالح.
وقال الحسن: معناه: إلا التقرب إلى الله عز وجل والتودد إليه بالعمل الصالح.
وقال الضحاك: الآية منسوخة نسخها قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47].
واختار الطبري قول من قال: معناه: إلا أن تودوني في قرابتي منكم.
و {إِلاَّ المودة} في هذا استثناء منقطع. فالمعنى: لا أسألكم عليه أجراً لكن أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم.
ثم قال: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}، أي: ومن يعمل حسنة نضاعفها إلى عشر حسنات فأكثر.(10/6586)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
{إِنَّ الله غَفُورٌ}، أي: غفور لذنوب عباده المؤمنين {شَكُورٌ} لحسناتهم يضاعفها لهم.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله {إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} أي: أيقولون افترى على الله الكذب، أي: اختلقه من عند نفسه.
{فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ}، أي: يطبع على قلبك فتنسى هذا القرآن يا محمد، قاله قتادة والسدي.
وقال الزجاج: معناه: فإن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم.
وقيل: المعنى: (إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم.
وقيل: المعنى: (إن يشأ الله - يا محمد - ختم على قلبك بالصدق واليقين والخير كله. وقد فعل بك ذلك وَمَحَا ضُرَّهُ من قلبك.
وقيل: المعنى) فإن يشأ الله يمنعك من التمييز.
ثم قال: {وَيَمْحُ الله الباطل}، أي: ويزيل الله الباطل على كل حال - وهو الشرك -(10/6587)
ولذلك رفعه، ولو عطفه على " ما يشاء " لم يجز لأنه يصير المعنى (ولو يشاء) الله يمح الباطل، وذلك لا يجوز لأنه تعالى يمحوه على كل حال. ويدل على رفعه أن بعده " ويحق الله الحق " بالرفع) وهذا احتجاج عليهم لنبوءة وصحة ما جاء به لا المعنى: إن الله يزيل الباطل ولا يثبته.
فلو كان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم باطلاً لمحاه الله عز وجل وأنزل كتاباً آخر على غيره.
وهكذا جرت العادة [في جميع المفترين أن الله سبحانه يمحو أباطلهم ويثبت الحق.
ومعنى {وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ}، أي: ويثبت ما أنزل من كتابه على لسان] نبيه عليه السلام.
وقيل: المعنى ويبين الحق.
وقيل: معناه: يثبت الحق في قلبك بكلماته، أي: بالقضاء الذي قضاه لك قبل خلقك.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}، أي: إنه ذو علم بما في صدور خلقه وما(10/6588)
تنطوي عليه ضمائرهم.
وقيل: إن معناه: لو حدثت نفسك يا محمد بأن تفتري علي كذباً لطبعت على قلبك، وأذهبت الذي أتيتك من وحيي، لأني أحق الحق وأمحو الباطل، فأخبر الله عز وجل الزاعمين أن محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه - أنه لو فعل ذلك أو حدث به نفسه - ما أخبر في هذه الآية.
وكان أبو عمرو بن العلاء يختار أن يقف القارئ على: " فإن يشأ الله يختم على قلبك "، لأن ما بعده مستأنف غير معطوف عليه ما ذكرنا، وهو اختيار الفراء.
ثم قال: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} أي: والله الذي يقبل مراجعة عباده إلى الإيمان بعد كفرهم ويعفو عن ما تقدم لهم من السيئات، ويعلم ما يفعل / خلقه من خير وشر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيجازيهم على كل ذلك.
ثم قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: ويجيب الذين آمنوا ربهم(10/6589)
فيما دعاهم إليه، كما قال: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة: 186].
قال المبرد: معناه: فليستدعوا الإجابة. فيكون " الذين " في موضع رفع على هذا التأويل.
وقيل: المعنى: ويستجيب الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم، بمعنى: يستجيب الذين آمنوا إذا سألوه ودعوا إليه، ويزيدهم من فضله، هي زيادة (لم يسألوها)، إحساناً منه.
وتكون اللام محذوفة من الذين، كما قال: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3].
أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم.
يقال: استجبت بمعنى: أجبته.(10/6590)
فيكون " الذين " في موضع نصب بـ " يستجيب " أنشد أهل اللغة.
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ.
أي: لم يجبه. واستجاب، بمعنى: أجاب، مشهور في كلام العرب.
وقيل: معنى الزيادة (أنه يزيدهم ما دعوه.
وقيل: الزيادة التي ضمن) الله تعالى هنا هي أن يشفعهم في إخوانهم إذا شفعوا فيهم.
وروى قتادة عن النخعي أنه قال في قوله: " ويستجيب الذين آمنوا " قال: يشفعون في إخوانهم. (وقال في قوله: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}: يشفعون في إخوان إخوانهم).
ثم قال تعالى: {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، يعني عذاب جهنم.(10/6591)
ثم قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض}. هذه الآية، روي أنها نزلت في قوم من أهل الصُّفَّةِ تمنوا سعة الدنيا والغناء، فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض}، أي: ولو وسع عليهم لجازوا الحد الذي حده الله عز وجل لهم.
{ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ}، أي: يسهل لهم رزقاً مقدراً يصلحهم وتصلح عليه أحوالهم.
{إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}، أي: ذو خبر بهم، وذو علم يعلم من يصلحه التضييق وتفسده السَّعَةُ (في الرزق، ومن يفسده التضييق وتصلحه السَّعَةُ) فيعطي كُلاًّ على قدر ما يصلحه.
قال قتادة: " كان يقال: خير الرزق ما لا يُطغيك ولا يلهيك.(10/6592)
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَهْرَة الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَثْرتهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَيَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الخَيْرُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بالخَيْرِ. . " في حديث طويل.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ}، أي: يُنَزَّلُ المطر من السماء ليُحيي به الأرض من بعد مت يئس الخلق من نزوله.
{وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}، اي: يَبُثُّهَا في عباده، يعني بالرحمة: الغيث الذي أنزله من السماء. ومع القنط يرجى الفرج.
وقيل: لعمر رضي الله عنهـ: " جدبت الارض وقنط الناس فقال: مطروا إذا ".(10/6593)
وقد قيل في قوله: {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}، أي: ظهور الشمس بعد المطر. وهو قول شاذ لم أره عن ثقة.
ثم قال: {وَهُوَ الولي الحميد}، أي: وهو الذي يليكم بإحسانه وفضله، الحميد بأياديه عندكم ونعمه عليكم.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ} أي: ومِنْ حُجَجِهِ (وعلامات أدلته) على وحدانيته وقدرته على إحيائكم بعد موتكم، خلقه واختراعه السماوات السبع والأرضين السبع وخلقه ما نشر فيها من حيوان.
{وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ}، أي: وهو يقدر أن يحييهم يوم القيامة فيجمعهم إذا شاء.
وقال الفراء: قوله: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا}، يريد به: ما بث في الأرض دون السماء؛ وزعم أن مثله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرجان من الملح دون الحلو. وهو قول ضعيف عند البصريين، لا يجوز أن يرجع ضمير اثنين إلى واحد، بل نقول:(10/6594)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
إن الله قد بث السماوات والأرض دواب وقد قال: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] وقال مجاهد: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ}، يعني: الناس والملائكة والعرب تقول لكل ما تحرك: دب فيه فهو داب والهاء دخلت للمبالغة، وقيل (لتأنيث) الصنعة.
قوله تعالى: {وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} إلى قوله: {هُمْ يَغْفِرُونَ}.
أي: والذي أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم.
وقيل: " ما " للشرط، والفاء مرادة، وحسن حذفها؛ لأن الفعل الأول لم يعمل فيه الشرط، إذ هو ماض. وفي كون " ما " بمعنى " الذي بعد "، لأنه يصير مخصوصاً للماضي.(10/6595)
فكأن ما أصابنا فيما مضى من مصيبة هو بما كسبت أيدينا وما يصيبنا فيما نستقبل يحتمل أن يكون مثل ذلك، وأن يكون على خلافه، لغير ما كسبت أيدينا.
وهذا (لا يجوز، بل هو عام فيما مضى وما يستقبل، ولا يصيبنا من مصيبة ماضية أو مستقبلة إلا بما كسبت أيدينا. وهذا المعنى لا يتضمنه) إلا الشرط لأنه العموم.
فمعنى الآية: إن الله جل ذكره أعلمنا أن ما يصيبنا من مصيبة في الدنيا في الأموال والأنفس والأهل فهو عقوبة منه لنا بما اكتسبنا من الآثام.
ثم قال / تعالى: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}، أي: مما اكتسبنا فلا يعاقبنا عليه في الدنيا بالمصائب.
قال قتادة: ذكر لنا نبي الله عليه السلام قال: " لا يُصيب ابنَ آدمَ خَدشُ عودٍ، ولا عَثْر قَدَمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلاَّ بِذَنبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَر ".(10/6596)
وقال ابن عباس: تعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم في الدنيا ولا يؤاخذون بها في الآخرة.
وقال الحسن: معنى الآية في الحدود، أن الله تعالى جعل الحدود على ما يعمل الإنسان من المعاصي. وهذا يعطي أن " ما " بمعنى " الذي ".
قال إبراهيم بن عرفة: الكثير الذي يعفو (الله عز وجل عنه) لا يحصى. وهذه من أرجى آية في القرآن.
وقال علي رضي الله عنهـ في هذه الآية: إذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فماذا يبقى من ذنوبي بين كفارته وعفوه.
وروي عن علي رضي الله أنه قال: ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله؟ قالوا: بلى،(10/6597)
فقرأ: " وما أصابكم من مصيبة " الآية.
ثم قال: فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي، وما عفا الله عز وجل عنه في الدنيا فلم يعاقب به في الدنيا فهو أجود وأمجد وأكرم أن (يعذب به) في القيامة.
وروي عنه رضي الله عنهـ أنه قال: ما أحب أن لي بها الدنيا وما فيها.
(وقال أبو وائل: ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة).
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض}، أي: وما أنتم أيها الناس بمُعْتِبِين ربكم بأنفسكم هرباً في الأرض حتى لا يقدر عليكم إذا أراد عقوبتكم على ذنوبكم، ولكنكم في سطانه حيث كنتم، وتحت قدرته أين حللتم، وفي مشيئته كيف تقلبتم.
ثم قال: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}، أي: (ليس لكم) أيها الناس وَلِيٌّ يليكم فيدفع عنكم عقاب الله، ولا نصير ينصركم إذا أراد عذابكم.(10/6598)
قال المبرد: بمعجزين: بسابقين، يقال: أعجز إذا عدا فسبق.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام}، أي: ومن علامات الله وأدلته، وحججه عليكم أيها الناس أنه قادر على تسيار السفن الجارية في البحر.
و {الجوار}، جمع جارية وهي: السائرة في البحر.
{كالأعلام}: كالجبال، واحدها علم.
ثم قال تعالى: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح}، أي: إن يشأ الله ألا تجري هذه السفن في البحر، يسكن الرياح التي (تجري بها).
{فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ}، أي: فيصرن سواكن ثوابت على ظهر البحر يجرين.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، أي: إن في جري هذه السفن في البحر وقدرة الله على إمساكها ألا تجري بإسكانه الرياح، لعظة وعبرة وحجة على أن الله قادر على ما يشاء لكل ذي صبر على طاعة الله شكورٍ نِعَمَ ربه.(10/6599)
ثم قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا}، أي: يغرق هذه السفن في البحر فيهلكن أي يهلك من فيهن بذنوبهم.
ثم قال: {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}، أي: ويصفح جل ثناؤه عن كثير من ذنوبكم لا يعاقب عليها.
ثم قال تعالى: {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ}، أي: ويعلم الذين يخاصمون محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات الله سبحانه [ما لهم من محيل عن عقاب الله إذا أتاهم على كفرهم، قال السدي] ما لهم من محيص: من ملجأ.
قال الزجاج: " ما لهم من معدل ولا ملجأ، يقال: حاص عنه إذا تنحى عنه ".
ثم قال تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا}، أي: فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا، ومن المال فهو متاع الحياة الدنيا تستمتعون به في حياتكم، وليس من دار الآخرة، ولا مما ينفعكم.
{وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أي: وما عند الله لأهل طاعته، والإيمان، والتوكل عليه في الآخرة، خير مما أوتيتم في الدنيا من متاعها.(10/6600)
" وأبقى "، أي: وأدوم، لأنه لا زوال عنه ولا انقطاع، ومتاع الدنيا (فان وزائل) عن قليل.
ثم قال: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش}، أي: وهو للذين يجتنبون كبائر الإثم.
" روي عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ قال: " أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ، قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قال أن نَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أن يَأْكُلَ مَعَكَ. قلت: ثم أَي: قَالَ: أن تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ؛ ثُمَّ ذَكَرَ أَكْلَ مَالِ اليَتِيمِ، وَقَذْفَ المُحْصَنَةِ، والغلُولَ، والسِّحْرَ وَأَكْلَ الرِّبَا ".
فهذا حديث مفسر في الكبائر.
وعن ابن مسعود أنه قال: الكبائر: من أول سورة " النساء " إلى رأس ثلاثين آية منها إلى قوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31].(10/6601)
وقال ابن عباس - وقد سئل عن الكبائر - هي كل ما نهى الله تعالى / عنه.
وروي عنه أنه قال: الكبائر: " (كل ما) ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ".
وقال الضحاك: هي كل موجبة أوجب الله عز وجل لأهلها العذاب (وكل ما) يقام عليه الحد فهو كبيرة.
وعن ابن عباس: " والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش "، قال: هو الشرك بالله عز وجل، واليأس من روح الله سبحانه، والأمن من مكر الله جلت عظمته، ومنها: عقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله سبحانه، وقذف المحصنات، وأكل (مال اليتيم)، والفرار من الزحف، وأكل الربا، والسحر، والزنا، واليمين الغموس واليمين الفاجرة، والغلول، ومنع الزكاة المفروضة، وشهادة الزور، وكتمان(10/6602)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
الشهادة، وشرب الخمر، وترك الصلاة عامداً، أو شيئاً مما افترض الله سبحانه، ونقض العهد، وقطيعة الرحم.
وقال السدي: الفواحش: الزنا.
وقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}، أي: إذا غضبوا على من أساء إليهم غفروا وصفحوا له.
قوله: {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} إلى قوله: {فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، أي: أجابوه حين دعاهم رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به والعمل بطاعته.
{وَأَقَامُواْ الصلاة} يعني: المفروضة أقاموها بحدودها في أوقاتها.
ثم قال: {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ}، أي: إذا عرض لهم أمر تشاوروا فيه بينهم.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، يعني: في الصدقات، وفعل الخير، وفي سبيل الله عز وجل، وإخراج الزكاة المفروضة عليهم.
وقال ابن زيد: نزلت {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} - الآية " في الأنصار.
ثم قال تعالى: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}، أي: والذين إذا بغى(10/6603)
عليهم باغ انتصروا لأنفسهم، يعني: من المشركين، قاله ابن زيد.
وقال السدي: هي في كل باغ أبيح الانتصار منه.
وقال النخعي: " كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق ".
وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَكَلَّفُ من البَلاَءِ (مَا لاَ يُطِيقُ) ".
ثم قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}، أي: وجزاء سيئة المسيء عقوبته على ما أوجبه الله عليه.
ولهذه الآية ونظيرها أجاز الشافعي وأهل الرأي أن يأخذ الرجل من مال من(10/6604)
خانه (مثل ما خانه به من) غير رأيه.
واستدلوا على صحة ذلك بقوله النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: " خذي من ماله ما يكفيك وولدك ".
وأجاز لها أن تأخذ من ماله ما يجب لها من غير رأيه.(10/6605)
ولم يجز ذلك مالك إلا بعلمه.
وسميت الثانية " سيئة " وليس الذي (يعملها مسيئاً) لأنها مجازاة على الأول. فسميت باسمها وليست بها.
وروي أن ذلك: أن يجاب القائل الكلمة القذعة بمثلها.
وقال ابن أبي نجيح: هو مثل أن يقول القائل: أخزاه الله، فيقول له المجيب مثل ذلك.
وقال السدي: إذا شتمك فاشتمه بمثل ما شتمك من غير أن تعدي.
قال ابن زيد: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}، يعني: من المشركين، ثم قال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} قال: معناه: ليس آمركم أن تعفوا عنهم لأني لا أحبهم، أي: لا أحب الظالمين، يعني: المشركين، فمن فعل فالله(10/6606)
يثيبه على ما آذاه به المشركون، قال: ثم نسخ هذا كله، وأمر بالجهاد.
والآية على القول الأول محكمة عامة، مثل قوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
والمعنى: فمن عفا عمن أساء إليه فغفر له ابتغاء وجه الله سبحانه وهو قادر على العقوبة فالله مثيبه.
ويكون معنى قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} على هذا القول، أي: إنه لا يحب من يتعدى على الناس فيسيء إليهم بغير إذن الله عز وجل له.
ثم قال تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ}، أي: ومن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه، فلا سبيل للمنتصر منه على المنتصر بعقوبة ولا أذى، لأنهم انتصروا بحق وجب لهم على من تعدى عليهم.
وقال قتادة: " فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما لو ظلمك رجل لم يحل لك أن تظلمه ".(10/6607)
وقال الحسن: هذا في الرجل يلقيك فتلقيه، ويسبك فتسبه، ما لم يكن حدا، أو كلمة لا تصلح.
وقال ابن زيد: عنى بذلك، الإنتصار من أهل الشرك. وقال: هو منسوخ. - يريد نسخ بالأمر بالجهاد - قال: ونزل في أهل الإسلام {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
والقول الأول هو أن الآية محكمة / غير منسوخة. عنى بها كل منتصر ممن ظلمه وعليه أكثر العلماء، لأن النسخ لا يحكم عليه إلا بدليل قاطع أو إجماع أو نص من سنة.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}، أي: إنما سبيل العقوبة على الذين يظلمون الناس ويتجاوزون في أرض الله عز وجل الحد الذي أباح لهم ربهم فيفسدون فيها بغير الحق.
{أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: مؤلم، يعني: في الآخرة بعد عقوبة الدنيا.
وقال ابن زيد عن أبيه: هي من المشركين وهي منسوخة بقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34].(10/6608)
وكان مالك لا يرى تحليل الظالم، ويرى تحليل من لك عليه دين ومات لا وفاء له به. وكان ابن المسيب لا يرى تحليله.
وقال عبيد الله بن عمير: ورب هذا البيت لا يعذب الله عز وجل إلا مشركاً أو ظالماً لعباده، ثم قرأ: " إنما السبيل، الآية ".
ثم قال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور}، أي: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيئ إليه جرمه فلم ينتصر منه وهو قادر على ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل وجزيل ثوابه، إن ذلك الفعل منه لمن عزم الأمور، لمن أعالي الأمور التي ندب الله إلى(10/6609)
فعلها عبادة ومن أجلها، وذلك فعل الوارعين.
ثم قال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}، أي: ومن يخذله الله فلا يوفقه إلى الهدى فليس من ولي يوليه فيهديه من بعد إضلال الله له.
ثم قال: {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، هذا مثل قوله:
{وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12] استعتبوا في غير حين استعتاب، وسألوا الرجوع إلى الدنيا حين لا يقبل منهم، وبادروا إلى التوبة حين لا تنفعهم.
" ومن " في قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} مبتدأ، والخبر: " إن ذلك لمن عزم الأمور. . . " الجملة. وثَمَّ محذوف، فيه ضمير يعود على المبتدأ والتقدير: إن ذلك منه لمن عزم الأمور. (ومثل هذا) قول العرب: " البُرَّقَفِيزَانِ بِدِرْهَمٍ "، أي: قفيزان منه(10/6610)
بدرهم. والتقدير: إن ذلك لمن عزم الأمور له.
ثم قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل}، أي وترى يا محمد الظالمين يوم القيامة يعرضون على النار خاضعين مما بهم من الذلة الخوف.
ثم قال: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}، أي: ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرفي خفي، أي: من طرف ذليل من كثرة الخوف والإشفاق لتبقيهم أنهم داخلون فيها.
قال ابن عباس ومجاهد: {مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}، أي: ذليل وهو اختيار الطبري، قال: " وصفه الله بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم حتى كادت أعينهم تغور فتذهب ". وقال ابن جبير، يسارقون النظر من الخوف، وقاله السدي وابن كعب.(10/6611)
وقال بعض أهل العربية: تقديره: من عين ضعيفة النظر والطرف عنده هنا العين.
وقال يونس " من " بمعنى الباء. والتقدير: بطرف خفي.
وقال: إنما قال من طرف خفي لأنه لا يفتح عينه، إنما ينظر ببعضها إشفاقاً. وقيل: " إنما قيل ذلك لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم لا بأعينهم لأنهم يحشرون عمياً ".
ووقف بعض العلماء على {خَاشِعِينَ}. ووقف أكثرهم على {خَفِيٍّ}. فتكون {مِنَ} في قوله: {مِنَ الذل} إن وقفت على {خَاشِعِينَ} (متعلقة بـ {يَنظُرُونَ}).
وإن وقفت على {خَفِيٍّ} كانت {مِنَ} متعلقة بـ {خَاشِعِينَ}.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ(10/6612)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
القيامة}، أي: وقال المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين، الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
قال السدي: غبنوا ذلك في الجنة.
وقال ابن عباس: هم الذين خلقوا للنار وخلقت النار لهم، خلفوا أهليهم وأموالهم في الدنيا، وصاروا إلى النار فحرموا الجنة والدنيا.
وقال قتادة: خسروا أهليهم الذين أُعِدُّوا لهم في الجنة لو أطاعوا.
وقيل: لما كان المؤمنون يجتمعون مع أهليهم في الجنة وكان الكفار لا يجتمعون معهم كانوا قد خسروهم.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، أي: دائم ثابت لا يزول أبداً.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله} - إلى آخر السورة).
أي ولم يكن لهؤلاء المشركين أولياء ينصرونهم / من عذاب الله.
ثم قال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ومن يخذله الله فلا يوفقه إلى الحق فما له من طريق إلى الحق، لأن الهداية والضلال بيده.
ثم قال تعالى: {استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله}، أي أجيبوا(10/6613)
أيها الناس داعي ربكم واتبعوه وآمنوا به من قبل أن يأتيَكم يوم لا شيء يرد مجيئه إذا جاء، وهو يوم القيامة.
{مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ}، أي: ما لكم يوم القيامة معقل تلجؤون إليه مما نزل بكم، وما لكم من إنكار لما حل عليكم ولا تغيير.
قال مجاهد: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ}، أي: " محرز، {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ}، أي من ناصر. فيكون نكير بمعنى: ناكر، أو: منكِر.
وقيل: المعنى في {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ}، أي: " لا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم ".
قال الزجاج: معناه: ليس لكم مخلص من العذاب، ولا تقدرون أن تنكروا ما توقفون عليه من ذنوبكم، (ولا ما) ينزل بكم من العذاب.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ}، أي: فإن(10/6614)
أعرض هؤلاء المشركون عما جئتهم به يا محمد من الحق فلم يؤمنوا به فدعهم، فإذا لم ترسلك إليهم رقيباً عليهم تحفظهم أعمالهم، ما عليك إلا البلاغ لما أرسلت به إليهم، فإذا بلغت قضيت ما يجب عليك.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً}، أي: أغنيناه ووسعنا عليه فرح بها.
{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ}، أي: وإن يصب الإنسان فقر، أو ضيق عيش، أو علة بما قدمت يداه من المعاصي - عقوبة له من الله عز وجل على فعله وعصيانه - جحد نعم الله سبحانه المتقدمة عنده ويئس من الخير.
والتقدير، فإن الإنسان كفور، أي: جحود لنعم ربه، يعد المصائب ويجحد النعم.
والإنسان هنا: واحد للجنس، يدل على الجمع، ولذلك قال: {وَإِن تُصِبْهُمْ}، فَجَمَعَ.
ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}، أي: لله سطان السموات والأرض يفعل في سلطانه ما يشاء ويخلق من يشاء، فيهب لمن يشاء - من عباده - الذكور من الأولاد، ويهب لمن يشاء منهم الإناث، ويهب لمن يشاء ذكوراًَ وإناثاً،(10/6615)
ويمنع من يشاء من الولد. فيجعله أو يجعل امرأته عقيماً.
قال ابن عباس يهب بمن يشاء إناثاً لا يولَد له إلا الجواري، ويهب لمن يشاء الذكور لا (يولد له) إلا الغلمان، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يولد له الجواري والغلمان، فلذلك تزويجهم، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم.
وقال محمد بن (الحنفية) وابن زيد في قوله (أو يزوجهم) ذكراناً وإناثاً، يعني التوأم، يخلق في البطن ذكراً وأنثى ويقال: رجل عقيم لا يولد له، وامرأة عقيم(10/6616)
لا تلد، وريح عقيم لا تأتي بمطر ولا خير.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، أي: إن الله ذو علم بما خلق، وقدرة على خلق ما يشاء.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه مشافهة، ولكن وحياً يوحي إليه كيف يشاء، إما إلهاماً، وإما مع ملك مقرب، أو من وراء حجاب حيث يسمع كلامه ولا يراه كما فعل بموسى صلوات الله عليه.
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}، يعني: من الملائكة، كجبريل وشبهه.
{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ}، أي: فيبلغ الملك إلى البشر المرسل إليه بإذن الله عز وجل ما يشاء الله أن يبلغه إليه من أمره ونهيه وخبره وما أراد.
وقال مجاهد {إِلاَّ وَحْياً}، أي: إلا أن يلقي (في قلبه) ما يشاء، ويلهمه ما يشاء، {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} كموسى، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} كجبريل إلى محمد عليهما السلام.
وقيل: المعنى: {إِلاَّ وَحْياً} كما أوحى إلى الأنبياء بإرسال جبريل وشبهه من(10/6617)
الملائكة، {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} كما كلَّم موسى، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} - يعني: من البشر - إلى الناس كافة.
وقال القتبي: {إِلاَّ وَحْياً}: في المنام، {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} كما كلم موسى أي ملكاً إلى النبي من بني آدم فيبلغه عن الله (ما يشاء) الله أن يبلغه.
{إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}، أي: إن الله عز وجل لذو علو على كل شيء واقتدار، ذو حكمة في تدبيره خلقه.
(وليس العلو في هذا وشبهه من المسافة إنما هو علو اقتدار، ورفعة حال وجلالة).
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}، أي: كما أوحينا إلى سائر الرسل قبلك، كذلك أوحينا إليك رحمة من أمرنا: وحياً، وهو القرآن.
قال قتادة: روحاً: رحمة. وقال السدي: روحاً: وحياً. وقال ابن عباس: هو(10/6618)
النبوة.
وقيل: المعنى: أوحينا / إليك ما تحيا به النفوس كما تحيا بثبات الروح فيها، وهو القرآن وما فيه من الإيمان والمواعظ.
ثم قال تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان}، أي: لم تكن يا محمد تدري أي شيء الكتاب، ولا أي شيء الإيمان للذين أعطيناكهما.
ثم قال تعالى: {ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا}، أي: ولكن جعلنا القرآن ضياء للناس يستضيء بنوره من يشاء الله عز وجل ومن يوفقه، ونوره هو: العمل بما فيه.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، أي: وإنك يا محمد لتهدي الناس وتدعوهم وترشدهم إلى طريق مستقيم، أي: إلى الحق والإسلام.
وقرأ الضحاك وحوشب: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} بضم التاء وفتح الدال على ما يسم فاعله.
ثم بين الصراط وفسره فقال: {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات}، أي: طريق(10/6619)
الله الذي دعا إليه عباده.
وقال الضحاك: إلى صراط مستقيم، إلى دين (مستقيم، دين) الله الذي له، وفي ملكه وقدرته وسلطانه جميع ما في السماوات وما في الأرض.
ثم قال: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور}، أي: ترد أمور جميع الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة فيقضى بينهم بالعدل، وأمورهم (أيضاً في الدنيا) إلى الله سبحانه. وإنما خص ذكر يوم القيامة - هنا - لأنه يوم لا يدعي فيه أحد لنفسه شيئاً ولا يتجبر فيه أحد، ولا يدعي أحد مُلْكاً ولا سلطاناً إلا الله سبحانه.
والدنيا فيها الجبارون والملوك والمُدَّعُونَ الباطل، فلذلك خص ذكر يوم القيامة برجوع الأمور إليه تعالى ذكره، وإن كانت في الدنيا بيده وفي حُكْمِه وقَبْضَتِهِ وعن مشيئته تكون، لا إله إلا هو.(10/6620)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزخرف
سورة حم، الزخرف، مكية.
قوله تعالى: {حم* والكتاب المبين} إلى قوله {ومضى مَثَلُ الأولين} قد تقدم ذكر حم.
وقوله: {والكتاب المبين}: قسم، أي: المبين لمن تديره وفكر في عبره وعظاته.
ثم قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}، أي: أنزلناه بلسان العرب إذ كنتم أيها المنذرون به من العرب.
" وجعلناه " هنا، يتعدى إلى مفعولين، " فالهاء " الأول، " وقرآناً " الثاني.(10/6621)
وهذا مما يدل على نقض قول أهل البدع: إنه بمعنى خلقنا. إذ لو كان بمعنى خلقنا؟ إذ لو كان بمعنى خلقنا، لم يتعد إلا إلى مفعول واحد.
ومثله قوله تعالى: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91]، فلو كان بمعنى " خلق " لصار المعنى أنهم خلقوا القرآن، وهذا محال.
ولم يُلْقِهِم في هذا الخطأ العظيم، والجهل الظاهر إلا قلّة علمهم بتصاريف اللغات وضعفهم في معرفة الإعراب. وقوله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، معناه: أنزلنا القرآن بلسانكم لتعقلوا معانيه ومواعظَه، ولم ننزله بلسان العجم فتقولوا نحن عَرَبٌ، وهذا كلام لا نفقه معانيَه.
قال قتادة: " والكتاب المبين: مبين - والله - بركته وهداه ورشده ". وقيل: المبين، أي: أبان الهدى من الضلالة، والحق من الباطل.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، أي: وإن القرآن في أم الكتاب، يعني: اللوح المحفوظ: وأم الكتاب: أصله.(10/6622)
فالقرآن مثبت عند الله جل وعز في اللوح المحفوظ، ومن اللوح المحفوظ نُسِخَ.
وقوله: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، أي: عندنا لذو علو ورفعة وقيل معنى " عَلِيٌّ ": قاهر لا يقدر أحد أن يدفعه ويبله، معجز لا يؤتى بمثله، حكيم أحكمت آياته ثم فصلت، فهو ذو حكمة.
وقيل: حكيم، أي: محكم في أحكامه ووصفه.
قال ابن عباس: " أو لما خلق الله عز وجل القلم: أمره أن يكتب ما يريد أن يخلق. قال: فالكتاب عنده.
روى مالك عن (عمران عن) عكرمة أنه قال " أم الكتاب القرآن ".
ثم قال تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} " صفحاً " مصدر، كأنه قال: أفنصفح عنكم صفحاً.(10/6623)
وقيل: هو مصدر في موضع الحال، كأنه قال: أفنضرب عنكم الذكر صافحين. كما تقول: جاء زيد مشياً، أي: ماشياً.
ويجوز أن يكون صفحا بمعنى: ذو صفح، كما تقول: رجل عدل (ورضى أي: عادل وراضٍ)، وذو عدل وذو رضى. يقال: أضربت عنك بمعنى: أعرضت عنك وتركتك.
والمعنى: أفنعرض عنكم أيها الناس ونترككم سدى لا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون.
قال مجاهد: معناه، أفتذكبون بالقرآن ولا تعاقبون.
وقال السدي: معناه: " أفنضرب عنكم العذاب ".
وقال ابن عباس: معناه: " أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا(10/6624)
ما أمرتم به ".
وقال قتادة: (معنى): {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ}، أي: مشركين /، والله لو كان هذا القرآن " رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء من ذلك ".
قال الضحاك: الذكر هنا: القرآن، وقال أبو صالح: الذكر: العذاب. وقيل: " الذكر: التذكير ". والمعنى: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن فلا نذكركم به عقاب الله وثوابه لأن كنتم قوما مسرفين. وهو مروي عن ابن عباس.(10/6625)
فيكون المعنى: فنهملكم (ونذكركم) سدى ولا نذكركم (لأنكم) كنتم قوماً مسرفين.
وهذا كله على قراءة من فتح " أن "، فأما من كسر " أن " فقد رده أبو حاتم وغيره، لأنهم إنما وبخوا على شيء قد ثبت ومضى؛ فهذا موضع المفتوحة لأنها لما مضى.
والمكسورة معناها لما يأتي. فكيف يربخون على شيء لم يفعلوه بعد.
والكسر عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء جيد حسن، ومعناه الحال عند الزجاج لأن في الكلام معنى التقرير والتوبيخ.
وقال سيبويه: سألت الخليل عن (قول الشاعر وهو) الفرزدق:(10/6626)
أَتَغْضَبُ أَنْ أُذْنَا قُتَيْبَة حُزَّتَا ... جِهَاراً وَلَمْ تَغْضض لِقَتْلِ ابْنِ حَازِمِ.
فقال: هي مكسورة لأنه قبيح أن يفصل بين أن والفعل، يريد أنّ " أَنْ " المفتوحة لا يفرق بينها وبين الفعل وهو " حزتا ".
وأن المكسورة يجوز ذلك فيها على إضمار فعل آخر، قال الله جل ذكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] (أي: وإن استجارك أحد من المشركين واستجارك). فعلى هذا التقدير البيت إن كسرت والتقدير: إن حُزَّتْ أُذْنَا قُتَيْبَة حُزَّتَا.(10/6627)
ويجوز عند تكثير من النحويين أن تكسر الألف. ويكون المعنى للماضي في البنية واللفظ للاستقبال. وعلى ذلك قرأ أبو عمرو، وابن كثير: {أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [المائدة: 2] بالكسر.
وعلى ذلك يتأول قول الله جل ذكره {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} [الكهف: 6] والكسر في هذا إجماع من القراء وتركهم للإيمان أَمْرٌ قَدْ تَقَدَّمَ وَكَانَ. فهو - لو حمل على نظائره - في موضع المفتوحة. ولم يقرأ به أحد. فدل ذلك على جواز الكسر وحسنه في هذه السورة وفي المائدة (وفي غيرها) على معنى: إن وقع ذلك. وعلى ذلك اختلف القراء في قوله: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50].
والمشهورون من القراء على الكسر أجمعوا.(10/6628)
وقد قرئ بالفتح على أنه أمر قد كان وانقضى.
والكسر على معنى: إن وقع ذلك فيما يستقبل، وعلى هذا يجوز في البيت الكسر وفي (الآيات المذكورات).
ثم قال تعالى: {أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين}، أي: وكثيراً أرسلنا من الأنبياء في الأمم الماضية كما أرسلناك يا محمد إلى قومك.
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: ما يأتي الأمم الماضية من نبي يدعوهم إلى الهدى إلا كذبوه واستهزءوا به كما استهزأ بك قومك يا محمد.
فلا يعظمن عليك ما يفعل بك قومك، فإنما سلكوا من مضى من الأمم المكذبة لرسلها.
فهذا نص يُسَلِّ الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم ويصبره على ما يلقى من المكذبين له، ويعلمه أنه قد فُعِلَ ذلك بمن بُعِثَ قبله من الأنبياء.
ثم قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً}، أي: فأهلكنا الأمم الماضية على تكذيبهم واستهزائهم بالرسل وهم أشد من قومك قة وآثاراً وتصرفاً في الأرض، فلم(10/6629)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
يمتنعوا من العذاب لما أتاهم. فكذلك نصنع بقومك - على نقص قوتهم عمن تقدمهم - والتقدير: فأهلكنا أمماً أشد من قريش بطشاً، فقريش أحرى ألا يقدروا على الامتناع إذا حلت بهم العقوبة لضعفهم ونقص حالهم عمن تقدم.
ثم قال: {ومضى مَثَلُ الأولين}، أي: ومضى لهؤلاء المشركين المستهزئين بك، يا محمد مثل (ما مضى للأمم) قبلهم من العقوبات إن أقاموا على شركهم وتكذيبهم لك. قال قتادة: {مَثَلُ الأولين}: عقوبتنا لهم. وقال مجاهد: سنتنافيهم.
وقيل: " مثل " هنا، بمعنى: صفة، أي: صفتهم بأنهم أهلكوا على كفرهم.
قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} إلى قوله: {لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}.
أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك، من خلق السماوات(10/6630)
والأرض؟ {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}، أي: العزيز في انتقامه وسلطانه، العليم بكل شيء.
ثم قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً}، أي بساطاً فسهل عليكم / التصرف فيها من بلد إلى بلد.
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً}، أي: طرقاً.
{لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، أي: كي تهتدوا في تصرفكم بتلك الطرق فتتوجهوا حيث شئتم. ولولا ذلك (لم يطق) أحد برَاحاً من موضعه ومنشئه.
قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} ليس بمتصل بما قبله، لأن ما قبله من جواب المشركين - حكاه الله عنهم.
ولو اتصل بما قبله لكام: " الذي جعل لنا الأرض ".
لكن معناه: إن الله جل ذكره وصف نفسه بنعمه بعد جواب المشركين.
فثم إضمار " هو "، هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، ثم وصف نعمه -(10/6631)
نعمةً (بعد نعمةٍ) - تنبيه وتقرير.
ثم قال تعالى: {والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ}، أي: مطر بمقدار الحاجة بكم إليه. ولم يجعله كالطوفان فيكون عذاباً بغرق، (ولا جعله) قليلاً (لا ينبت) به الزرع والنبات، ولكنه جعله بمقدار حاجتكم إليه.
وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}، أي: فأحيينا بذلك المطر بلداً لا نبات فيه ولا زرع فأنبت، فهو كالحياة له.
فكما أحيى الأرض بالمطر فأنبتت ولم يكن فيها نبات يحيي الموتى بالمطر فيخرجون من قبورهم (إلى ربهم).
وروى ابن مسعود أنه قال: يرسل الله جل ثناؤه ماء مثل مني الرجال، وليس شيء مما خلق الله من الأرض إلا وقد بقي منه شيء، فينبت بذلك الماء: الجسمان واللحوم، تنبت من (الثرى والمطر)، ثم قرأ ابن مسعود:(10/6632)
{والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً} - إلى - {تُخْرَجُونَ}.
ثم قال تعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا}، أي: الأجناس والأصناف من الخلق.
وقيل: معنى خلق كل شيء فزوجه، بأن خلق الذكور من الإناث أزواجاً، وخلق الإناث من الذكور أزواجاً.
وواحد الأزواج على " فَعْل " وكان بابه أن يجمع على " أَفْعُلٌ " إلا أنهم استثقلوا الضمة في الواو فنقلوه إلى جمع " فعل " فجمعوه على " أفعال " (وبابه " أفعال ") فشبه فعلاً بفعل إذ عدد الحروف متساوية، وعلى ذلك (أيضاً شبهوا) " فَعَلاً " بـ " فَعْل " وجمعوه على " أَفْعُل " وبابه " أَفْعَال " قالوا: زَمَنٌ وَأَزْمُنٌ.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} يعني: السفن في البحر، والإبل والخيل والبغال والحمير في البر، تركبون ذلك حيث شئتم.(10/6633)
ثم قال تعالى: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ}، (أي: على ظهور) ما تركبون، فلذلك وحدت الهاء.
وقال الفراء: معناه: على ظهور هذا الجنس، فهو عنده بمنزلة " كَثُرَ الدِّرْهَمُ.
والأحسن أن تكون مردودة على لفظ " ما " في قوله: {مَا تَرْكَبُونَ} و " ما " مذكرة اللفظ موحدة. ومثله الهاء في قوله: {إِذَا استويتم عَلَيْهِ}. وإنما أتى " ظهوره " بالجمع، لأنه رد على المعنى الواحد فيه بمعنى الجمع، ورجعت الهاء على " ما " على اللفظ.
وهذا نادر قدم فيه الحمل على المعنى (على الحمل على اللفظ وباب " من " و " ما " أن يقدم فيه الحمل على اللفظ قبل الحمل على المعنى) ونظيره قوله(10/6634)
تعالى: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} [الأنعام: 139] (فقدم الحمل على المعنى قبل الحمل على اللفظ. وهذا على قراءة من قرأ) خالصة بتاء التأنيث، ونظيره أيضاً: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 139] فأنث " سيئة " حملاً على معنى " كل "، ثم قال: " مكروهاً " فذكَّر، حملاً على لفظ " كل ". وهو كله (نادر لم أجد) له نظيراً.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ}، أي: نعمة ربكم التي أنعم عليكم بها إذا سخر لكم ما تركبون في البر والبحر.
ثم قال: {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا}، أي: وتقولوا تنزيها لله (وبراءة له) من السوء الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه.
قال قتادة: علمكم الله كيف تقولون إذا ركبتم الفلك: تقولون:(10/6635)
{بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41]، وإذا ركبتم الإبل تقولون: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}.
وعلمكم (ما تقولون) إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعاً، تقولون: اللهم انزلنا {مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} [المؤمنون: 29].
وكان طاوس إذا ركب يقول: اللهم هذا من فضلك ومنك ثم يقول: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}.
ومعنى {مُقْرِنِينَ}: مطيقين، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد، أي لم نطق على الانتفاع بهذه الأنعام إلا بك.
وحكى أهل اللغة: أقرن له، إذا أطاقه. وحكوا أنا مقرن لهذا أي: مطيق له.(10/6636)
وقال أبو عبيدة، مقرنين: ضابطين له.
وحكى أنه يقال: فلان مقرن لفلان، أي: ضابط له ".
وقد روي عن علي بم أبي طالب رضي الله عنهـ أنه كان (إذا جعل رجله في الركاب يقول): بسم الله، فإذا استوى راكباً قال: الحمد لله، ثم يقول: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} اللهم لا إله إلا أنت قد عملت سوءاً (وظلمت نفسي) فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ثم يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كفعلي.
وقال مجاهد: من ركب ولم يقل: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا. . .} الآية، قال له الشيطان تَغَنَّهْ؛ فإن لم يحسن قاله تَمَنَّهْ.(10/6637)
وقوله: {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}، أي: ويقولون أيضاً هذا. ومعناه: راجعون بعد الموت، مبعوثون.
وهذا كله في معنى الأمر بذكر نعم الله عز وجل على خلقه وشكره عليها.
وقد قيل: إن التقدير: ليأمركم إذا استويتم على ظهوره أن تذكروا نعمته، وهو مثل قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي: لأمرهم أن يعبدون، فقد أمرهم تعالى ذكره بذلك.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، يعني: ما أضاف المشركون إلى الله جل ذكره من البنات تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ومعنى {وَجَعَلُواْ} (ها هنا:) قالوا ووصفوا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى، قاله مجاهد والسدي.
قال قتادة: الجزء هنا: العدل، أي: جعل له المشركون عدلاً، وهي الأصنام.
وقال عطاء: جزءاً، أي: نصيباً، شريكاً وهو قول الضحاك والربيع بن أنس،(10/6638)
وهو معنى قول ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: هي الأصنام.
وذكر الزجاج أن الجزء هنا: البنات وأنشد:
إِن أَجْزَتْ (حُرَّةُ) يَوْماً فَلاَ عَجَبَ ... قَدْ (تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَاناً
أي: إن ولدت إناثاً.
وقال المبرد: الجزء: البنت.
وقوله تعالى بعد الآية: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16]، وقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين(10/6639)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] يدل على صحة قول مجاهد والسدي.
وقوله: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}، أي: إن الإنسان لجحود لنعم ربه، يتبين كفرانه للنعم لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله. وهو هنا الكافر.
(ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}، إلى قوله: {عَاقِبَةُ المكذبين}، معناه، لم يتخذ ذلك فأنتم أيها المشركون مبطلون في قولكم (تعالى عن ذلك علواً) كبيراً.
وهذا لفظ استفهام معناه التوبيخ، أي: كيف يتخذ البنات على قولكم وأنتم (لا ترضونهن) لأنفسكم (أفأصفاكم واختصكم) بالبنين.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} أي: وإذا بشر أحدكم هؤلاء الجاعلين لله سبحانه من عباده جزءاً بما وصف ربه به من اتخاذ البنات سبحانه وتعالى صار وجهه مسوداً وهو كظيم، أي حابس لغمه وحزنه وكربه.(10/6640)
قال قتادة: " وهو كظيم، أي: حزين ".
ثم قال: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} " من " في موضع رفع بالابتداء.
ويجوز أن يكون في موضع نصب ترده على {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} فتبدله من البنات.
ويجوز أن يكون في موضع خفض (تبدله من " ما ") في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً}.
وفي جواز هذين الوجهين في البدل ضعف لدخول ألف الاستفهام قبل " من " فهي تحول بين البدل والمبدل منه.
والمعنى: أجعلتم لله جزءاً ممن يرى في الحلية ويتزين بها، وهو في مخاصمة(10/6641)
من خاصمه غير مبين لحجته وبرهانه لعجزه وضعفه. ففي الكلام حذف استغني عنه - بدلالة ما ذكر بعده.
والتقدير: أو من ينشأ في الحلية يجعلون لله نصيباً. قال ابن عباس: عنى بذلك المرأة.
وقال مجاهد: " رخص للنساء في الحرير والذهب، وهن الجواري؛ جعلوهن للرحمن ولداً؛ كيف يحكمون ".
وقال قتادة: وقوله: {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} يعني النساء فقلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.(10/6642)
وقال ابن زيد (عنى) بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، يضربونها من (فضة وذهب) ويعبدونها، فهم أنشؤوها ضربوها من تلك الحلية ثم عبدوها، وهي لا تتكلم ولا تبين عن نفسها شيئاً.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً}، أي: ووصفوا الملائكة بهذا الوصف.
فجعل هنا بمعنى " وصف " تقول: جعلت فلان أعلم الناس /، أي: وصفته بهذا يتعدى إلى مفعول واحد (في الأصل).
ثم قال: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} هذا على التقرير والتوبيخ لهم، ومعناه: لم يشهدوا خلق الملائكة، فكيف تجرؤوا على وصفهم بالإناث.
ثم قال تعالى: على التهدد والوعيد لمن فعل ذلك (ولمن يقول ذلك): {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}، أي: يسألون عن قولهم وافترائهم يوم القيامة، ولن يجدوا إلى الاعتذار من قولهم سبيلاً.(10/6643)
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ}، أي: وقال هؤلاء المشركون: لو شاء الرحمن، ما عبدنا أوثاننا من دونه، وإنما لم تحل بنا العقوبة على عبادتنا إياها لرضاه عنا.
قال مجاهد: لو شاء الرحمن ما عبدناهم يعني الأوثان، والمعنى: هو أمرنا بعبادتها، دل على ذلك: قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، أي: يكذبون. فهذا الرد عليهم لا يحتمل أن يكون رد الظاهر من قولهم: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ}، لأنه قول صحيح لا يرد ولا ينكر. كما أن قولهم - إذا سُئِلُوا عمن خلق السماوات والأرض فقالوا خلقهن العزيز العليم لا يرد ولا ينكر.
ثم قال تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} هذا مردود إلى أول الآية.
والتقدير: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، أي: ما لهم بقولهم الملائكة إناثاً من علم، وقيل: إن ذلك مردود على ما قبله، والتقدير: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدنا هذه الأوثان، ثم قال الله: ما لهم بذلك من علم، أي: من عذر يقوم لهم في عبادتهم الأوثان لأنهم رأوا أن ذلك(10/6644)
عذرهم. فرد الله عز وجل عليهم.
فالمعنى: ما لهم من علم بحقيقة ما يقولون: (من ذلك)، إنما يقولونه تخرصاً واختراعاً من عند أنفسهم لأنهم لا خبر عندهم من الله عز وجل أن الله سبحانه شاء عبادتهم الأوثان، ورضي بذلك منهم.
ثم قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، أي: يخرصون ويكذبون في قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا هذه الأوثان.
ثم قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي: آتينا هؤلاء المتخرصين كتاباً يدل على حقيقة ما يقولون فيحتجون به.
والهاء في " من قبله " تعود على القرآن.
ثم قال تعالى: {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ}، أي: لم يأتهم كتاب بعبادتهم الأوثان ولكنهم قالوا: إنا وجدنا آباءنا على دين وملة، فنحن نتبع ما كانوا عليه.
وقرأ مجاهد وعمر بن عبد العزيز " على إمّةٍ " بكسر الهمزة قال الكسائي:(10/6645)
هما لغتان وقال غيره: هو مصدر أممت القوام إمة.
وحكي عن العرب: " ما أحسن إِمَّتَهُ وعِمَّته وجِلسته ".
ثم قال: {وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، أي: قالوا: وجدنا آباءنا على دين، فنحن متبعون لما كانوا عليه. هذا كله حكاية عن قريش.
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}، أي: كما قال لك (يا محمد قومك) إنهم متبعون في دينهم لما كان عليه آباؤهم كذلك قال من كان قبلهم من مترفي الأمم لرسلهم الذين ينذرونهم من عقاب الله عز وجل. والمترفون: الرؤساء(10/6646)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
والأشراف منهم. فسلك فعلهم سبيل من كان قبلهم من الأمم المكذبة.
ومعنى " مقتدون " أي: تقتدي بفعلهم، فاتبعوهم على الكفر.
ثم قال تعالى: {قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ}، أي: قل يا محمد لهؤلاء المتبعين ما وجدوا عليه آباءهم من الدين، أَوَلَوْا جِئْتُكُمْ أيها المشركون - من عند ربكم - بأهدى مما كان عليه آباؤكم من (الدين تتبعون) ما وجدتم عليه آباءكم، وغيره أهدى إلى الحق وأصوب منه!
ثم قال تعالى: {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، أي: فقال محمد صلى الله عليه وسلم ذلك لهم فقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون، أي: جاحدون منكرون.
وجمع في قوله: " أرسلتم " لأن من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء.
ثم قال تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ}، أي: فانتقمنا من هؤلاء الذين كذبوا رسلهم، فانظر يا محمد كيف كان عاقبة المكذبين، فكذلك ننتقم من قومك إن تمادوا على تكذيبك.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ} - إلى قوله - {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، " براء " مصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. تقول:(10/6647)
نحن البراء منك، وهي البراء منك.
والمعنى / أنني ذو البراء منك، ونحن ذو البراء كما تقول: رجل عدل، (وامرأة عدل، وقوم عدل)، أي: ذوو عدل. ونظيره: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177]، أي: ولكن ذو البر.
وقرأ ابن مسعود: " إنني بريء " على " فعيل ". فتجوز التثنية والجمع والتأنيث على هذه القراءة.
وجمعه في التكسير: " بُرَآء " (ك " كُرَمَاء ").(10/6648)
وحكى الكوفيون " براء " على حذف الياء وهو شاذ.
وقوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي}، هذا استثناء من قوله " مما تعبدون ".
ويجوز أن يكون ايتثناء ليس من الأول منقطعاً.
ومعنى الآية: واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إذ كانوا يعبدون ما بعيد قومك: إنني براء مما تعبدون من دون الله، إلا من الذي فطرني، أي: خلقني، فإني لا أبرأ منه.
{فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، أي سيقونا للحق في ديني.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}.
قال قتادة: الكلمة هي شهادة ألا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها من بعده، وقاله السدي، وقال ابن زيد: الكلمة: الإسلام، وهو قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131].(10/6649)
وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} [الحج: 78]، وقال: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} [البقرة: 128].
والضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا} عائد على قوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} وضمير الفاعل يعود على الله جل ذكره، أي: وجعلها الله سبحانه كلمة باقية في عقب إبراهيم، فلا يزال من ولد إبراهيم من يوحد الله.
وقيل: الضمير المرفوع يعود على إبراهيم، أي: وجعل إبراهيم الكلمة باقية في عقبه، أي: عرفهم التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله وأوصاهم به، وهو قوله: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ. . .} [البقرة: 132] الآية. فتوارثوا ذلك فلا يزال من ذريته موحد لله.(10/6650)
ويقال عَقِبَ وعقب، بمعنى واحد. والعَقِبُ هنا: الولد في قول مجاهد.
وقال ابن عباس: العقب هنا من يأتي بعده.
وقال السدي: في عقب إبراهيم: آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن شهاب: العقب: " الولد، وولد الولد ".
وقال ابن زيد: " عقبه: ذريته ".
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، معناه يرجعون إلى طاعة ربهم ويتوبون إليه.
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. ففي الكلام تقديم وتأخير.
ثم قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ}، أي: بل منعت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك وَمَتَّعْتُ آباءهم من قبلهم بالحياة ولم أعاجلهم (بالعقوبة على كفرهم حتى جاء الحق، يعني: القرآن، ورسول مبين،(10/6651)
يعني: محمد صلى الله عليه وسلم، لم أعاجلهم)، بالعذاب حتى أنزلت عليهم كتاباً وبعثت فيهم رسولاً يعرفونه، يبين لهم الحجج والبراهين ويبلغ اليهم ما أرسل به.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}، أي: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآن إعذاراً وإنذاراً، ورسول منهم يبين ما أرسل به ويبلغه إليهم، قالوا: هذا الذي جاءنا به سحر، وليس بوحي من عند الله، وقالوا إنا به جاحدون، أي: ننكر أن يكون من عند الله.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ}، أي: وقال مشركو قريش هلا نزل هذا القرآن الذي جاءنا به محمد على رجل من القريتين، (أي: القريتين، ثم) حذف، مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، وحبيب بن عمرو الثقفي من أهل الطائف، قاله ابن عباس.(10/6652)
وقيل: التقدير: من إحدى القريتين، ثم حذف.
وقال مجاهد: هما: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل من الطائف.
وقال قتادة: هما: الوليد بن المغيرة من أهل مكة و (عنبة بن مسعود من أهل الطائف.
وقيل هو) عروة بن مسعود من أهل الطائف، والوليد بن المغيرة من أهل مكة، قاله ابن زيد.
وقال السدي: هما الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وكنانة (ابن عبد بن عمرو بن) عمير من أهل الطائف.
وعن مجاهد أنهما: عتبة بن ربيعة من أهل مكة، وأبو مسعود الثقفي من أهل(10/6653)
الطائف، واسم أبي مسعود (عمير بن عمر) بن مسعود.
وقيل: هما الوليد بن بن المغيرة من أهل مكة، وأبو سعيد عمر بن عمير الثقفي سيد ثقيف. ثم قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} (أي: أهؤلاء القائلون هلا نزل القرآن على أحد رجلي القريتين يقسمون رحمة ربك) يا محمد بين خلقه، فيجعلون إكرامه لمن شاءوا، وعند من أرادوا، بل الله يقسم ذلك فيعطيه من أراد، ويحرمه من شاء.
قال ابن عباس: لما بعث الله جل ذكره محمداً صلى الله عليه وسلم أنكرت العرب ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله / بشراً مثل محمد، فأنزل الله جل ذكره: {أَكَانَ(10/6654)
لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس} [يونس: 2] وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر} [النحل: 43]، يعني: أهل الكتب الماضية فيخبرونكم أن الرسل التي كانت تأتي، بشر مثلكم، فلا يجب لكم أن تنكروا إرسال مثل محمد إليكم، إذ هو بشر مثلكم. وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى}
[يوسف: 109]، أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم فال: فلما كرر (عليهم تعالى) الحُجَج، قالوا: فإن كان بشراً فغير محمد أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أي: كل واحد منهما أشرف من محمد في المال والذكر، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان يسمى ريحانة قريش - من أهل مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الثقفي من أهل الطائف، قال الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}، أي: ربك يا محمد يفعل ما يشاء.
قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا}، أي: نحن نقسم الرحمة بين من شئنا من خلقنا فنجعل من شئنا نبياً، ومن شئنا مؤمناً، ومن شئنا كافراً، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون فيها في دنياهم، فجعلنا بعضهم أرفع من بعض، فوسعنا على بعض وضيقنا على بعض، وجعلنا بعضهم ملوكاً وبعضهم مملوكين.(10/6655)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}، أي: جعلنا بعضهم حراً وبعضهم مملوكاً، وبعضهم غنياً وبعضهم فقيراً ليستخدم بعضاً بأجرة وقد كانوا بني آدم كلهم.
وقيل: إنها مخصومة في المماليك، روى ذلك عن ابن عباس، أي: فضل بعضهم على بعض فجعل بعضهم مالكاً وبعضهم مملوكاً.
ثم قال تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، يعني: الجنة خير مما يجمعون في دنياهم من الأموال.
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} - إلى قوله - {فَبِئْسَ القرين}، أي: ولولا أن يكون الناس كلهم (كفاراً) لجعل الله لبيوت من يكفر سقفاً من فضة، ولكن لم يفعل ذلك ليكون في الخلق مؤمنون وكافرون على ما تقدم في علم الله عز وجل وتقديره فيهم.
وقيل: المعنى: لولا أن يميل الناس كلهم إلى طلب الدنيا ورفض الآخرة(10/6656)
لجعل الله لبيت الكافر سقفا من فضة، ومن وحد السقف فعلى إرادة الجمع.
يدل الواحد على الجمع كما نقول: زيد كثير (الدرهم والدينار) وكثير الشاة والبعير. فيرد الواحد على الجنس كله.
وقيل: المعنى عند من وحد: لجعلنا لبيت كل من كفر بالرحمن سقفاً. فوحد على المعنى.
وقيل: المعنى: لولا ما قدرنا من اختلاف الأرزاق في الناس فيكون في(10/6657)
المؤمنين غتي وفقير، وفي الكافرين مثل ذلك لجعلنا من يكفر بالرحمن أغنياء كلهم.
ففي هذا الفعل تنبيه على تحقير الدنيا وتصغير ما فيها.
ومن قرأ بالجمع فإنه حمل على اللفظ، فجمع السقف لجمع البيوت، وجمع السرر والأبواب، وهو جمع سقيفة، كقطيفة وقُطُف.
وقيل: هو جمع الجمع، كأنه جمع " سقْفاً " على " سُقُوف ". كفَلْس وفُلُوس. ثم جمع سقوفاً على سُقُف كحمار وحُمُر.
وقال أبو عبيدة: (سُقُف جمع كرُهُن ورَهْن، ورُهُن عند أكثر النحويين إنما هو جمع رِهَان، ورهان جمع رَهْن فرُهُن أيضاً، جمعُ جمعٍ.
وجعل الله السقوف للبيوت كما جعل الأبواب للبيوت.
فهو يدل على أن السقف لاَحَقَّ لِرَبِّ العلو فيه، وهو قول مالك وأصحابه.(10/6658)
وتحقيق المعنى في الآية أن الله جل ذكره أراد تهوين أمر الدنيا وأنها لا قيمة لها، فقال: لولا أن يميل الناس كلهم إلى الدنيا ويتركوا الآخرة لأعطينا الكافر من الدنيا أفضل مراده، وذلك لهوان الدنيا عليه، إذ هي شيء زائل مضمحل.
وقال الكسائي: معناها لولا إرادتنا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا أن نجعل سقوف بيوتهم من فضة وذلك لهوان الدنيا عند الله، وقال الفراء: لبيوتهم: على بيوتهم.
قال الشعبي: سُقُفاً من فضة، أي: جذوعاً. ومعارج، أي: دُرُجاً من فضة. عليها يظهرون، أي: يصعدون على السُّقُفِ والغُرَفِ.(10/6659)
وقال ابن زيد وغيره: المعارج: درج من فضة.
وقوله: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً}، يعني: من فضة.
{وَسُرُراً}، أي: من فضة عليها يتكئون، قاله ابن زيد وغيره.
وقوله: {وَزُخْرُفاً}، أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، يعني: الذهب، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي والضحاك وقال ابن زيد: الزخرف: ما يتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والأثاث.
وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى وجدته في قراءة عبد الله ذهباً.
والزخرف في اللغة: الزينة، يقال: زخرف داره، أي: زينها. والتقدير في الآية عند من جعل الزخرف الذهب: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومن(10/6660)
زخرف. ثم حذف " من " فنصب الزخرف.
قال الطبري: لو كانت القراءة في الزخرف بالخفض لكان حسناً على معنى: / من فضة ومن زخرف.
وقيل: التقدير: وجعلنا لهم زخرفاً - بغير حذف خفض - وهو أقوى وأحسن.
والمعارج: الدرج، وجمعت على مفاعل وواحدهما معراج، وكان حقها معاريج بالياء، كمناديل جمع منديل، لكنها جمعت على الواحد معرج وهي لغة، يقول: (مَعْرَجٌ وَمِعْرَاجٌ) كَمَفْتَح ومِفْتَاح.
ولذلك تقول في جمع مَفْتَح: (مَفَاتِح، وإن شئت)، مفاتيح على جمع مَفْتَاح.
ثم قال تعالى: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} هذا تقليل وتصغير لأمر الدنيا، إذ هي زائلة عن قليل، ولا خير في شيء لا يدوم.
والمعنى: وما كل ما تقدم ذكره من (الفضة والذهب) والسرر وإلا مسافة(10/6661)
متاع يستمتع به أهل الدنيا في دنياهم.
{والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: وزينة الآخرة ونعيمها خير عند ربك لمن اتقاه فَجَدَّ في طَاعَتِهِ وَتَجَنَّبَ مَعَاصيَه.
والمعنى: وثواب الآخرة وجزاء الآخرة خير عند ربك للمتقين. واللام (من و " لما ") عند الكوفيين بمعنى إلا، وهي لام التوكيد عند البصريين. و " ما ". زائدة، وقيل: هي بمعنى: " شيء ".
ثم قال تعالى: جل ذكره: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، أي: ومن يعرض عن الإيمان بما أنزل الله عز وجل من كتابه. هذا قول قتادة، وهو قول الفراء، وقال المبرد: " يَعشُ: يتعامى ".
ومنه قول الشاعر:
متى تأتِهِ تعْشو إلى ضوء ناره ... إلى ضوء ناره (تَجِدْ خَيْرَ عِنْدَهَا خَيْرٌ مُوقِدِ)(10/6662)
وقيل: معنى (يَعْشُ: يَعْمَ)، روي ذلك عن ابن عباس.
ولا يصح على هذا المعنى (إلا بفتح) الشين.
يقال: عشى يعشى عشى، إذ قرب من العمى.
والأعشى: الذي قد ركب بصره ضُعْفٌ وظُلْمةٌ. ومنه يقال: جاء فلان إلى فلان يعشو، إذا جاءه ليلاً لما يركب بصره من الظلمة.
وعلى ذلك أيضاً يتأول قول الشاعر.
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ ... (تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرٌ مُوقِدِ)
أي: متى تأتيه ليلاً.
وحكى بعض أهل اللغة: عشى عن ذكر الله، إذا لم ينتفع به، كما أن الأعشى لا(10/6663)
ينتفع بكل بصره في الضوء.
ويقال: عشى يعشى، إذا صار أعشى. وعشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى، وهو من ذوات الواو لقولهم: امرأة عشواء. فالياء هي عشى منقلبة من واو. ولذلك قال النحويون: العشا في البصر يكتب بالألف.
فتحقيق معنى الآية: ومن لا ينظر في حجج الله عز وجل قريناً من الشياطين.
قال السدي: ومن يعش: من يُعْرِض.
وقال ابن عباس وابن زيد: ومن يعش: يعم.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل}، أي: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله سبحانه فيحببون لهم الضلالة، ويحسب هؤلاء الكفار(10/6664)
الضالون أنهم على هدى في قبولهم ما تأمرهم به الشياطين.
ثم قال: {حتى إِذَا جَآءَنَا}، يعني: الكافر وقرينه من الشياطين. ومن وَحَّدّ " جاء " أراد الكافر وحده، وقد علم أن شيطانه ملازم له فاستغنى عن ذكره.
ثم قال تعالى: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين}، أي: حتى إذا جاء الكافر وقرينه من الشياطين: قال الكافر للشيطان حين أورده النار: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين، يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف.
وقيل: عنى بذلك المشرق والمغرب، وثنى بلفظ (" مشرق " كما) قيل: سيرة العمرين في أبي بكر وعمر.
قال الله جل ثناؤه: {فَبِئْسَ القرين}، أي: فيبس الشيطان قريناً لمن قارنه لأنه(10/6665)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
يورده إلى النار.
قوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ} - إلى قوله: - {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ}، أي: ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، (أي: لن يخفف) عنكم ما أنتم فيه من العذاب لاشتراككم فيه، بل كل واحد منكم يناله نصيبه من العذاب. فَحَرَمَ الله عز وجل أهل النار هذا المقدار من التأسي فلا راحة لهم في شيء، حتى في التأسي لا راحة لهم فيه.
ثم قال تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: أفأنت يا محمد تسمع من أصمه الله عن مساع الهدى على شريطه الانتفاع به، أو تهدي من أعمى الله قلبه وبصره على أن يرى ما يهتدى به، أو تهدي من هو في جور عن الحق بعيد عن الصواب، ليس ذلك إليك يا محمد إنما هو إلى الله عز وجل الذي يوفق من يشاء فيهتدي بتوفيقه إياه، ويخذل من يشاء فيضل بخذلانه إياه.
ثم قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}.(10/6666)
قال الحسن: هي في أهل الإسلام ممن بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد كانت بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده.
وقال قتادة: لم تقع النقمة، بل قد أذهب الله نبيه ولم ير في أمته إلا الذي تقر به عينه. قال / وليس من نبي إلا وقد رأى في أمته ما لا يشتهي.
قال قتادة: ذُكِر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ ما يصيب أمته بعده، فما زال منقبضاً ما استبسط ضاحكاً حتى لقي الله جل ذكره.
وقال السدي: هذه الآية عُني بها أهل الشرك من قومه صلى الله عليه وسلم، وقد أراه النقمة فيهم وأظهره عليهم.
فالمعنى: فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين، فإنا منهم(10/6667)
منتقمون كما فعلنا ذلك بالأمم المكذبة قبلهم، أو نريك الذي وعدناهم من النقمة منهم وإظهارك عليهم، فإنا عليهم مقتدرون.
ومعنى: الذي وعدناهم: الذي وعدناك فيهم من النصر.
وقيل: هو راجع إلى قوله: {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35].
فيكون المعنى: أو نريك الذي وعدنا المتقين من النصر.
ثم قال تعالى: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني القرآن، أي: الزمه واعمل بما فيه أنت ومن آمن بك.
ثم قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، أي: وإن هذا القرآن لشرفٌ لك ولقومك، يعني: قريشاً، وسوف تسألون عن الشكر على ما فضلكم به من إنزال كتابه عليكم.
وقيل: المعنى: وسوف تسألون عما عملتم فيه من قبولكم لأوامره ونواهيه.
ثم قال تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ}، يعني: اسأل يا محمد أهل الكتابين عن ذلك. فالتقدير: وأسال من أرسلنا إليهم قبلك رسلنا. و " من " زائدة.(10/6668)
وفي قراءة ابن مسعود: وسئل الذين ارسلنا من قبلك من رسلنا، هذا قول مجاهد والسدي، وقال قتادة: معناه: سل يا محمد أهل التوراة والإنجيل هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد. وقال الضحاك، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل مؤمني أهل الكتاب.
وقال ابن زيد: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الأنبياء عن ذلك ليلة جُمُعوا له في الإسراء إلى بيت المقدس. فكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد إيماناً ويقيناً أن الله عز وجل لم يأمر بعبادة غيره من أن يحتاج أن يسأل احداً. " فمن " على هذا القول غير زائدة.
" ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه ذلك قال له جبريل: سل يا محمد الأنبياء الذين أريتهم في الإسراء قال: " لاَ أَسْأَلُ قَدِ اكْتَفِيْتُ ".(10/6669)
فالمعنى: على هذا القول: (إنه يا محمد) سيسري بك ربك فأسأل الرسل هل أمر الله عز وجل أن يُعْبَدَ غيره.
وقيل: تقدير الآية: واسأل يا محمد أمم من أرسلنا قبلك (من رسلنا)، ثم حذف المضاف.
فيكون المسؤول أهل الكتابين وغيرهم من جميع الأمم، أي: سلهم هل وجدوا في كتبهم أن الله عز وجل أمر أن يعبد معه غيره.
والتقدير في الآية عند ابن قتيبة: واسأل من أرسلنا إليك قبلك رسلاً من رسلنا، فحذف " إليه " لأن في الكلام ما يدل عليه فالخطاب عنده للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد: المشركون. وحذف رسلاً لأن {مِن رُّسُلِنَآ} يدل عليه كما قال:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ.(10/6670)
أي: كأنك جَمَلٌ من جمال بني أقيش، وحذف " إليه " عند أهل العربية بعيد في القياس.
وقيل: المعنى: " سلنا عن الأنبياء الذين أرسلناهم قبلك ".
ويتم الكلام على " رسلنا " و " عن " محذوفة، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار، أي: ما جعلنا آلهة تعبد من دون الله.
وأخبر الآلهة كما يخبر عمن، فقال: " يعبدون " ولم يقل " تعبد " ولا " يعبدون "، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فعظموها كما يعظمون الملوك فأجرى الخبر عنها مجرى الخبر عن من يعقل.(10/6671)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين}، أي: ولقد أرسلنا موسى بالحجج والآيات إلى أشراف قوم فرعون وآل فرعون كما أرسلناك يا محمد إلى قومك. فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين.
فلما جاءهم موسى بآياتنا وأدلتنا إذا هم منها يضحكون، أي: يهزءون ويسخرون كما فعل بك قومك يا محمد.
وهذا كله تسلية وتصبير للنبي صلى الله عليه وسلم على ما ناله من قومه، فأعلمه أن ما نزل به من قومه قد نزل بمن كان قبله من الأنبياء فندبه تعالى إلى الصبر فقال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35].
قوله تعالى: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} إلى قوله - {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، أي: وما نرى آل فرعون من حجة على صدق ما جاءهم به موسى إلا هي أكبر من أختها، أي: هي أبين وآكد عليهم في الحجة من التي مضت قبلها.
ثم قال: {وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: (وأخذنا آل) فرعون بالجدب والسنين والجراد والقمل والضفادع والدم، لعلهم يتوبون إلى الله عز وجل ويتركون الكفر. /(10/6672)
ثم قال: {وَقَالُواْ يا أيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}، أي: وقال فرعون وملأه لموسى لما مسهم الضر بالجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: يا أيها الساحر ادع لنا ربك بعده الذي عهد إليك إنا آمنا بك واتبعناك إن كشف عنا الزجر.
وإنما خاكبوه بالساحر وهم يسألونه أن يدعو الله لهم ويعدوه بالإيمان، لأن الساحر عندهم: العالم، ولم يكن الساحر عندهم ذماً، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم.
وقيل: خاطبوه بذلك على عادتهم معه، ووعدوه أنهم سيؤمنون به فيما يستقبل، ومعنى: إننا لمهتدون، أي: إننا لمتبعوك ومصدقوك إن كشفت عنا العذاب.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}. في الكلام حذف،(10/6673)
والتقدير: فدعا موسى ربه أن يكشف عنهم العذاب فكشفه الله عنهم. فلما كشفه عنهم نكثوا وعدهم وتمادوا على كفرهم وتكذيبهم لموسى فنقضوا العهد الذي عاهدوا موسى عليه إن كشف الله عنهم العذاب.
قال قتادة: ينكثون: يغدرون.
ثم قال تعالى: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} الآية، أي: ونادى فرعون في قومه من القبط {قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي}، أي: من بين يدي في الجنات.
قال قتادة: تجري من تحتي، قال: كانت له جنات وأنهار ماء.
وقوله: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}: (معناه: أفلا تبصرون أيها) القوم ما أنا فيه من النعيم والملك وما فيه موسى من الفقر وَعَيَّ اللسان.(10/6674)
وقدره الأخفش: " أفلا تبصرون، أم تبصرون "، وقدره الخليل وسيبويه: " أفلا تبصرون، أم أنتم بصراء ".
ويكون " أم أنا خير " بمعنى: أم أنتم بصراء، لأنهم لو قالو له أنت خير لكانوا عند بصراء.
وقوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}، أي: قال فرعون لقومه: بل أنا خير من موسى الذي هو مهين لا عِزَّ له ولا ملك ولا مال يمتهن نفسه في حاجته.
" ولا يكاد يبين "، (أي: لا يبين) كلامه، للعقدة التي كانت فيه.
قال أحمد بن جعفر: تقف على " أفلا تبصرون "، ثم تبتدئ " أم أنا خير "، بمعنى: بل أنا خير.(10/6675)
قال أبو عبيدة: مجاز " أم " هنا، مجاز " بل ".
وقال يعقوب: الوقف: " أفلا تبصرون أم " ويبتدئ: " أنا خير ". وروى عن مجاهد أنه قال: " أفلا تبصرون أم " انقطع الكلام ثم قال: أنا خير من هذا الذي هو مهين "، وكذلك روي عن عيسى بن عمر.
والتقدير على هذا الوقف: أفلا تبصرون أم تبصرون فيتم الكلام.
ثم حذف " تبصرون " الثاني لدلالة الأول عليه فتقف على " أم " لأنها منتهى الكلام.
وقيل: إن من وقف على " أم " جعلها زائدة، وكأنه وقف على " تبصرون " من(10/6676)
قوله: " أفلا تبصرون ".
ولا يتم الكلام على " تبصرون " عند الخليل وسيبويه لأن " أم " تقتضي الاتصال بما قبلها. وقوله: " أنا خير من هذا الذي هو مهين " مع " أم " في موضع قوله: أم أنتم بصراء.
ثم قال تعالى: حكاية عن قول فرعون: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ}، أي: فهلا كان في يد موسى أساورة ذهباً وواحد الأساورة: إسوار. وفي قراءة أبي: أَسَاوِرُ من ذَهَبٍ.
فهذا يدل على أن الواحد إسوار. ولكن لما دخلت الهاء في أساورة حذفت الياء لأنهما يتعاقبان في هذا النحو، نحو: دهاقين ودهاقنة، (وجحاجيح وجحاحجة)، وزناديق وزنادقة، الهاء عوض من الياء، والواحد دهقان وجحجاح وزنديق، وحسن انصرافه لدخول هاء التأنيث فيه.(10/6677)
وقال الزجاج: إنما انصرف لأنه له في الواحد نظيراً نحو علانية وعباقيه. وفيه ثلاث لغات حكاها الكسائي وغيره، يقال: إِسْوَار وسِوَار وسُوَار بمعنى.
وقيل: إن أساورة يجوز (أن يكون) جمع أسورة، وأسورة جمع سُوار وَسِوَار.
والعرب تسمي الرجل الحاذق بالرمي (بِأُسْوَارُ) إذا كان من رجال العجم.
وقوله: {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ}.
هذا من قول فرعون، أي: لو كان موسى صادقا لجاء معه الملائكة، قد اقترن بعضهم ببعض متتابعين، يشهدون بصدقه فيما يقول.
قال مجاهد: مقترنين: " يمشون معه ".
وقال قتادة: مقترنين: متتابعين، وقال السدي: " يقارن بعضهم بعضاً ".(10/6678)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
قال الله: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، أي: فاستخف فرعون عقول قومه من القبط بقوله فقبلوا منه فأطاعوه على الكفر وتكذيب موسى.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، أي: خارجين عن طاعة الله سبحانه بكفرهم وتكذيبهم لموسى وتركهم قبول ما جاء هم به.
قوله تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} - إلى قوله -: {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: فلما أغضبونا حلت بهم العقوبة فأغرقوا في البحر / أجمعين.
قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: آسفونا: أغضبونا.
وعن ابن عباس: " آسفونا: أسخطونا ". وعنه: أغضبونا.
حلت بهم العقوبة فأغرقوا في البحر / أجمعين.
قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: آسفونا: أغضبونا.
وعن ابن عباس: " آسفونا: أسخطونا ". وعنه: أغضبونا.
ثم قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ}. السَّلَف، جمع سَالِف، كخَادِم(10/6679)
وَخَدَم، وتَابع وَتَبَع، وَغَائِب وغيب. والعرب تقول: هؤلاء سلفنا.
وقرأ الكسائي وحمزة: " سُلُفًا " بضمتين وهو جمع سليف حكاه الفراء.
وقرأ حميد الأعرج: " سُلَفاً " بضم السين وفتح اللام، وجمع سلفة، والسلفة: الفرقة المتقدمة.
والمعنى: فجعلنا هؤلاء الذين أغرقنا مقدمة يتقدمون إلى النار كما سنفعل بكفار قومك يا محمد.(10/6680)
وقيل: المعنى: فجعلنا قوم فرعون سلفا لكفار قومك يا محمد يتقدمونهم إلى النار: قاله مجاهد.
وقوله: {وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ}، أي: عبرة وعظة لمن يأتي بعدهم.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، أي: ولما شبه الله عز وجل عيسى في إحداثه إياه من غير فحل بآدم إذا قومك يا محمد منه يضحكون ويقولون: ما يريد منا إلا أن نتخذه إلها كما تخذت النصارى المسيح، قاله مجاهد.
" وقال ابن عباس لما قال الله عز وجل لقريش: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم فما ابن مريم؟ فقال: ذلك عبد الله ورسوله: فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم رباً. فقال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ".(10/6681)
وقيل: إن الآية نزلت في ابن الزبعرى، وذلك أنه لما أنزل الله جل ذكره {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. قال فالنصارى تعبد المسيح. فقال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} أي: قد علموا أنه لا يراد بالآية عيسى، وإنما يراد بها الأصنام.
قال الكسائي والفراء: " يصدون " (بالضم والكسر) لغتان، بعمنى يعرضون. وقال قطرب هما لغتان بمعنى يضحكون.(10/6682)
وقال أبو عبيد: " يَصِدُّون " بالكسر: يضجون، وبالضم يعرضون، وهو قول يونس وعيسى الثقفي.
والاختيار في القراءة عند أبي عبيد بالكسر على معنى يضجون لأنها لو كانت بالضم على معنى يعرضون لكان اللفظ: إذا قومك عنه يَصُدُّون.
ثم قال تعالى: {وقالواءَأَ الهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}، أي: وقال مشركو قومك يا محمد: أآلهتنا خير أم محمد، فنعبد محمداً ونترك آلهتنا.
وفي خرف أُبي: " ءالهتنا خير أم هذا "، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي معناه: أآلهتنا خير أم عيسى قال: وذلك أنهم خاصموه فقالوا:(10/6683)
أتزعم أن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ابن مريم وعزير والملائكة، هؤلاء قد عُبدوا من دون الله. قال: فأنزل الله براءة عيسى وشِبْهِهِ في قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] الآية.
وقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً}، أي: ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد إلا للجدل والخصومة. أي: لم يقولوا هذا على طريق المناظرة ولا على (وجه التثبت)، إنما قالوه طلباً للخصومة في الباطل.
وهذا فرق بين الجدال والمناظرة، لأن المتناظرين كل واحد منهما يطلب الصواب. والمتجادلين إنما يطلبان تثبيت ما لم يتيقنا صحته، أو ما قد علما باطله. فالمجادل يحاول إثبات الباطل على نفسه، والمناظر يحاول إظهار الصواب عند نفسه.(10/6684)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه قال): " مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدىً كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ ".
قال سفيان: " بل هم قوم خصمون "، حُدِّثْتُ أنها نزلت في ابن الزبعرى. ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}، أي: ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالتوفيق بالإيمان، وجعله الله آية لبني إسرائيل، وحجة عليهم، وهو قوله، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ}. وقيل معنى مثلاً، أي بشراً مثلهم، فضل عليهم.
ثم قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ}، أي: ولو نشاء يا معشر بني آدم أهلكناهم وجعلنا منكم بدلاً في الأرض من الملائكة يعبدون الله، وهو نحو قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، و {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ} [الأنعام: 133].
وقال ابن عباس: " يخلفون، " يخلفون، أي: يخلف بعضهم بعضاً "، وقاله قتادة. وقال(10/6685)
غيرهما: " يخلفون " معناه: يكونون خلفاً من بني آدم.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ}، أي: وإن ظهور عيسى علم يعلم به قرب قيام الساعة أي: هو من أشراطها، ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا وإقبال الآخرة هذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد.
فالهاء في: " وإنه " تعود على عيسى على قولهم.
وقد قرأ مجاهد: " وإنه لَعَلَمٌ " بفتحتيت على معنى: وإن نزول عيسى لعلامة لقرب الساعة.
ورُوي عن الحسن أنه قال معناه: وإن هذا القرآن لعلم للساعة، وحكي مثله(10/6686)
عن قتادة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً فَلَيَكْسِرْنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ ".
وروى مالك عن ابن شهاب عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لَيَهلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ (الرَّوْحَاءِ حَاجّاً ومُعْتَمِراً) أَوْ لَيُثَنِّهِمَا جَميعاً ".(10/6687)
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة قال: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً وَإِمَاماً مُقْسِطاً، فَيَكْسرُ الصَّليبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزيرَ، وَيضعُ الجِزْيةَ، وَتَضَعُ الحَرْبَ أَوْزَارَهَا، وتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً لله ربِّ العَالَمينَ ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَالَ (بِبابِ لُدٍّ) ".
قال ابن القاسم عن مالك: بينهما الناس (بباب لد) إذ يسمعون الإقامة، فتغاشهم غمامة، فإذا عيسى ابن مريم قد نزل.(10/6688)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يَنْزِلُ عِيسَى عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقيّ دِمَشْقَ ".
وروي (عن ابن عمر) أنه قال: " يخرج الدجال، ويبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيطلبه ويهلكه.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاَ تَهْلَكُ أُمَّةً أَنَا أَوَّلُها والمَسِيحُ آخِرُهَا ".(10/6689)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: " يموت عيسى (في المدينة) فيدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر، وقد ترك موضع قبره بينهم.
قال عبد الله بن سلام: نجد في التوراة أن عيسى يدفن مع محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان بعض الصحابة يتوقع قرب نزوله.
وروي عن أبي هريرة أنه كان يلقى الغلام الشاب فيقول له: إن لقيت عيسى بن مريم فأَقْرَه عني السلام، وقاله أبو ذر لبعض جلسائه.
وقيل: المعنى: وإن محمداً لعلم للساعة لأنه خاتم النبيين. فيكون معناه: يُعْلِمُ بَعْثُهُ قُرْبَ قيام الساعة. وهي في قراءة أبي: " وإِنَّهُ لَذِكْرٌ للسَّاعَةِ ".
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا}، أي: لا تشكن في قيام الساعة أيها الناس.
ثم قال: {واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، أي: وأطيعون أيها الناس، هذا الذي جئتكم به طريق لا عوج فيه.
قوله تعالى: {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} - إلى قوله -: {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ}، أي: ولا يمنعكم الشيطان من اتباع الحق.(10/6690)
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: ظاهرة العداوة.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة}، أي: ولما جاء عيسى) بني إسرائيل) بني إسرائيل بالآيات الواضحات. يعني: المعجزات.
وقيل: بالبينات: بالإنجيل: قاله قتادة، قال لهم قد جئتكم بالحكمة.
قال السدي: الحكمة ها هنا النبوءة.
وقيل: الحكمة، الإنجيل.
ثم قال: {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}.
قال أبو عبيدة: " بعض " بمعنى: " كل " وَرَدَّ ذلك أكثر العلماء لأن فيه التباسَ المعاني وفسادَ الأصول ونقضَ العربية.
والمعنى عند الزجاج: ولأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه. (فبين(10/6691)
لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقيل معناه: إنه يبين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على مقدار ما سألوه عنه، ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عن بيانها.
قال مجاهد/ معناه: ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوارة.
وقيل المعنى إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موسى في أِشياء من أمر دينهم، وأشياء من أمر دنياهم/ فبين لهم عيسى بعض ما اختلفوا فيه وهو أمر دينهم خاصة، فلذلك قال: {بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}.
ثم قال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}، أي: فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعون فيما أقول لكم.(10/6692)
{إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}، أي: إن الذي يستوجب الإفراد بالعبادة هو الله.
{هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، أي: هذا الذي أمرتكم به هو الطريق المقوم الذي لا يوصل إلى رضى الله إلا باتباعه.
ثم قال تعالى: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ}.
قال قتادة: الأحزاب هنا، هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى.
فكر ابن حبيب أن النصارى افترقت في عيسى بعد رفعه على ثلاث فرق:
فرقة قالت: هو الله، هم اليعقوبية قال الله عنهم:(10/6693)
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 17].
وفرقة ثانية قالت: هو ابن الله، وهم النسطورية. وهم الذين قال الله فيهم: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30].
وفرقة ثالثى قالت: هم ثلاثة: الله إله، وعيسى إله، وأمه إله وهم الملكانية. وهم الذي قال الله فيهم: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73].(10/6694)
فالنصارى إلى اليوم على هذه إلى اليوم على هذه الثلاث فرق. وكانوا فيه - إذ كان بين أظهرهم - على فرقتين: فرقت آمنت به، وفرقة كفرت به - وهم الأكثر - ثم لما رفع اختلفوا/ فيه على هذه الأقوال الثلاثة.
وقال السدي: " الأحزاب: اليهود والنصارى ".
ومعنى من بينهم، أي: من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته.
ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، أي: فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله من عذاب يوم أليم، وهو يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}، أي: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى إلا الساعة (بغتى، أي: فجأة).
" وأن " في موضع نصب بدل من " الساعة " بدل الاشتمال.
{وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: لا يعلمون بمجيئها.
ثم قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} أي: المتخالون على(10/6695)
معاصي الله في الدنيا يوم تقوم الساعة يتبرأ بعضهم إلإ الذين تخالوا فيها على تقوى الله.
قال ابن عباس: " كل خلة في الدنيا هي عداوة يوم القيامة، إلا خلى المتقين ".
وقال مجاهد، معناه: الأخلاء في الدنيا على معصية الله متعادون يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وفي الكلام حذف، أي: إلا المتقين، فإنه يقال لهم يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا، لأنكم قَدِمْتُمْ على ما هو أفضل منها.
وروي (أن الناس) ينادون بهذا النداء يوم القيامة فيطمع فيها من ليس من أهلها، حتى إذا سمع قوله: {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} (فييئس منها عند ذلك كل أحد إلا المسلمين ومعنى " وكانوا مسلمين "، أي: وكانوا أهل خضوع لله عز وجل(10/6696)
بقلوبهم.
وقيل: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ} [النمل: 13، غافر: 83] الرسل واستسلام له.
وروي عن بعض التابعين أنه قال يخرجون من القبور وكلهم مدعين فيناديهم منادٍ: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فيطمع فيها الخلق كلهم/ فيتبعها: {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ}. فيئس منها الخلق إلا أهل الإسلام.
قال (ابن عباس): يخرجون فينطرزن إلى الأرض غير الأرض التي عهدوا، (وإلى الناس غير الناس الذين عهدوا).
وكان ابن عباس يتمثل بعد هذا القول بقول الشاعر:
فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الذِينَ عَهِدتَّهُمْ ولا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كَنْتَ تَعْرِفُ(10/6697)
ثم قال تعالى: {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}، أي: تكرمون، قاله ابن عباس.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل تحبرون فقال: " اللَّذَّةُ والسَّماعُ بِمَا شَلءَ اللهُ (مِن ذِكْرِهِ) ".
" فالذين " يحتمل أن يكون مبتدأ " وادخلوا " الخبر على حذف القول، أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة.
ويجوز أن يكون نعتاً " للعباد " في موضع نصب، يدل على ذلك قوله: {ادخلوا الجنة} وما بعده. فأتى بلفظ الخطاب.
ويدل على الوجه الأول قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} وما بعده، فأتى بلفظ الغيبة. فالعباد مخاطبون لأن المنادى مخاطب.
" والذين " لفظهم لفظ غيبة. فكلا (الوجهين له) دليل.
ثم قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ}، أي: يطاف على هؤلاء الذين آمنوا في الجنة بقصاع من ذهب وأكواب من ذهب، أي: يطوف عليهم بذلك الغلمان.(10/6698)
والأكواب التي ليست لها آذان "، قاله السدي.
وقال قتادة: هي دون الأباريق. وقيل: الكوب الإبريق المستدير الذي لا أذن له ولا خرطوم.
والمعنى: يطاف عليهم في الجنة بصحاف الطعام وأكواب الطعام وأكواب الشراب من ذهب. فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب عن ذكر الطعام والشراب لمعرفة السامعين بمعناه.
قال ابن جبير: إن أدنى أهل الجنة منزلة مَنْ له قصر فيه سبعون ألف خادم، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبتها. لو فَتَحَ بابه فضافَه أهل الدنيا لوسعهم، ر يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك قوله: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} [ق: 35] {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس}.(10/6699)
قال عبد الله بن عمر: (وما أحد) من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، (كل غلام على) عمل خلاف ما عليه صاحبه.
وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس}، أي: وفي الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون وتلذ أعينكم. {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أي: ماكثون أبداً.
" وروى سفيان أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فقال له: " إنْ يُدْخِلكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَلاَ تَشَاءُ أََنْ تَرْكَبَ فَرَساً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطيرُ بِكَ في أَيِّ الجَنَّةِ شِئْتَ إِلاَّ فَعَلْتَ. فقال الأعرابي: يا رسول الله، إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يَا أَعْرَابِيُّ، إِنْ يُدْخِلَكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَفِيها مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ لَكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ".(10/6700)
وقال أبو أمامه: إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير فيقع في كفه نضيحاً فيأكل منه (حيث تشتهي) نفسه / ثم يطير، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد، ثم يرجع إلى مكانه.
وقال أبو طيبة السلمي: إن الشَّرْبَ من أهل الجنة لَتُظِلُّهُم السحاب، فقال فتقول: ما ما أمطركم؟ قال: فما يدعو داع شيئاً إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أتراباً.
ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، (أي: وتلك الجنة أورثكموها الله عن أهل النار، بما كنتم تعملون) في الدنيا من الخير.(10/6701)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{لَكُمْ فِيهَا}، أي: في الجنة. {فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ}، أي: من كل نوع.
{مِّنْهَا تَأْكُلُونَ}، أي: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم.
وقد قال ابن خالويه: إنما أشار إلى الجنة بإِارة البعيد فقال: " وتلك " وأشار إلى جهنم في (قوله: هذه) جهنم بإشارة القريب لتأكيد التخويف من جهنم لأن الله عز وجل قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب الله عز وجل قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب أحد منهم إلى على ذنب اكتسبه، فحذرهم الله عز وجل في النار وقَرَّب الإشارة إليها، (أكثر مما شوقهم) إلى الجنة، فجعل جهنم كأنه يُنظر إليها كالحاضرة، تخويفاً منها.
قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ}، إلى آخر السورة، أي: إن الذين اكتسبوا الكفر في الدنيا يوم القيامة في عذاب جهنم ماكثون أبداً، لا يخفف عنهم العذاب.(10/6702)
وهم في العذاب مبلسون، قال قتادة: مستسلمون.
وقال السدي: " مُبلسون: متغير حالهم ".
وقال الزجاج: " الملبس: الساكن، الممسك إمساك يائس من فرجٍ ".
وقال الطبري: المبلس: اليأس من النجاة.
وقال النحاس: المبلس: المتحير الذي قد يئس من الخير.
ثم قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين}، أي لم نظلمهم في عذابنا لهم (ولكن هم) ظلموا أنفسهم بكفرهم في الدنيا.
ثم قال تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي: ونادى المجرمون بعد دخولهم جهنم مالك خازن فقالوا: يا مالك لِيُمِتْنَا رَبُّكَ فيفرغ من إماتتنا.
روي أن مالك لا يجيبهم في وقت دعائهم، ويدعهم ألف عام ثم يجيبهم(10/6703)
فيقول: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} قاله ابن عباس.
وقال ابن عمر: إن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً فلا يجيبهم ثم يقول: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}، ثم ينادون ربهم: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] فيدعوهم مثل الدنيا ثم يرد عليهم {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [الؤمنون: 108] فما نفس القوم بعد ذلك بكلمة، إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم.
وقال نوف البكالي يتركهم مالك مائة سنة مما تعدون (ثم يناديهم)(10/6704)
فيستجيبون له، فيقول: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}.
وقال السدي: يمكثون ألف سنة مما تعدون، ثم يجيبهم بعد ألف عام، إنكم ماكثون.
قال ابن زيد وغيره: ليقض علينا ربك: ليمتنا. القضاء هنا الموت.
ثم قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق}، أي: لقد جاءتكم الرسل من عند ربكم.
{ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، أي أكثرهم لا يقبل الحق فهذا الذي أنتم فيه جزاء فعلكم.
ثم قال: {أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}، (أي: أم أبرم) هؤلاء المشركون من قريش أمراً يكبدون به الحق فإنا مبرمون. أي: نخزيهم ونذلهم ونظفرك(10/6705)
يا محمد بهم.
قال مجاهد: معناه إن كادوا بشرٍّ كدناهم مثله.
وقال قتادة: معناه: (أم أجمعوا) أمراً فإنا مجمعون ".
وقال ابن زيد معناه: (أم أحكموا) أمرهم فإنا محكمون لأمرنا.
وقال الفراء معناه: أم أحكموا أمراً ينجيهم من عذابنا على قولهم فإنا نعذبهم.
يقال: أبرم الأمر إذا بالغ في إحكامه. وأبرم الفاتل إذا أدغم، وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل كما قال زهير:(10/6706)
مِنْ سَحِيلٍ وَمُبْرَمِ ... ثم قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى}، أي: نسمع ذلك ونعلم ما أخفوا وما أعلنوا.
ثم قال: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، أي والحَفَظَةُ عندهم يكتبون ما نطقوا به.
ويروى " أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر تدارءوا في سماعالله عز وجل كلام عبادة ".
قال محمد بن كعب القرظي: بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي، أو ثقفيان، وقرشي، فقال واحد من الثلاثة: ترون أن الله يسمع كلامنا؟! فقال: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع.(10/6707)
فقال الثاني: إن كان يسمع إذا أعلنتم فإنه يسمع إذا أسررتم قال: فنزلت: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} الآية.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}، أي: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد على زعمكم فأنا أول المؤمنين بالله في تكذيبكم فقولوا ما شئتم، هذا معنى قول مجاهد.
وقال ابن عباس / معناه: لم يكن ولد فأنا أول الشاهدين " (فمعنى الكلام) على قول ابن عباس: ما كان ذلك ولا ينبغي أن يكون، وهو معنى قول قتادة وابن زيد، وهو قول زيد بن أسلم. ف " إن " معنى: (" ما " التي للنفي).(10/6708)
وقيل معنى: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}، أي: أول من يعبد الله عز وجل بالإيمان والتصديق أنه ليس للرحمن ولد، أي: على (هذا عبد) الله سبحانه وقال السدي معناه: " لو كان له ولد كنت أول من عبده (بأن له ولداً) ولكن لا ولد له ".
فجعل " إن " للشرط، وهو اختيار الطبري، لأنك إذا جعلت " إن " بمعنى " ما " أوهمت أنك إنما نفيت عن الله سبحانه الولد فيما مضى دون ما هو آت.
وإذا جعلت " إن " للشرط أخبرت أنه كان له ولد على قولكم فأنا أول من عبده على ذلك ولكن لا ولد، ولا ينبغي أن يكون، وهذا عنده (من الإلطاف) في الكلام، وحسن المخاطبة بمنزلة قوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]، وقد(10/6709)
علم أن الحق معه وأن مخالفيه في الضلال. وقيل معنى " العابدين " الآنفين.
حكى: ما عبد فلان إن فعل كذا، أي: ما أنف.
وهذا قول مردود لأنه يلزم منه أن يقول العابدين. إنما يقال، فلان عبد من كذا، أي: آنف منه. ولا يقال عابد بمعنى: أنف.
وقال: أبو عبيد مجازها: فأنا أول العابدين، أي: الجاحدين من عبد يعبد إذا حجد. وحكى: فلان عَبَدَني حَقّاً، أي: جحدني.
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض}، أي: تبرئة له وتنزيهاً له من الولد وغير ذلك من الأشياء المذمومة.
وقوله: {رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ}، أي يكذبون.
وحكى أبو حاتم أن قوماً يقفون {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ}، ثم يبتدؤون:(10/6710)
{فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} على معنى: قل يا محمد: ما كان للرحمن ولد: وهو قول يعقوب وغيره.
ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ}.
هذا تهدد ووعيد من الله جل ذكره للمشركين، أي: سيعلمون يوم القيامة جزاء لعبهم خوضهم في الباطل.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله}، أي: هو المعبود في السماء وفي الأرض، فلا شيء تصلح له الألوهية إلا هو.
قال قتادة: معنى الآية: وهو الذي يعبد في السماء ويعبد في الأرض.
ثم قال: {وَهُوَ الحكيم العليم}، أي: وهو الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم.
وفي حرف ابن مسعود: (وهو الذي في السماء وفي الأرض الله)، وهي(10/6711)
مروية عن عمر وأُبي.
ثم قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا}، أي: وتعالى الذي في ملكه ذلك وكله وفي تدبيره وبيده.
وقوله: {وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة}، أي: وتفرد بعلم قيام الساعة، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: تردون بعد مماتكم.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفاعة}، أي، ولا تملك الآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من دون الله عز وجل شفاعة لمن عبدهم، قال مجاهد. والقول الأول قاله قتادة.
{إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق}، أي: بالتوحيد لله والطاعة له.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أي: يعلمون (أن ما أقروا به حق).
وقيل معنى {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق}، يعني: عيسى وعزيرُ والملائكة فإنهم(10/6712)
يشفعون لمن أراد الله عز وجل.
قال مجاهد، معناه: لا يشفع المسيح وعزير والملائكة إلا من شهد بالحق، أي: قال لا إله إلا الله. فهذا يدل على أنه استثناء ليس من الأول.
ثم قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله}، أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك من خلقهم ليقولون خلقهم الله.
ثم قال: {فأنى يُؤْفَكُونَ}، أي: فمن أي وجه يصرفون عن عبادة الله الذي خلقهم، ويحرمون أتباع رضاه.
ثم قال تعالى: {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} من نصب " وقيله " عطفه، عند الأخفش على " سرهم ونجواهم " (أي: نسمع سرهم ونجواهم وقيله.
وقيل إنما) يجوز نصبه على المصدر.(10/6713)
وقال الزجاج: هو معطوف على موضع الساعة، (لأن معنى " وعنده علم الساعة ") ويعلم وقت الساعة ويعلم قيله.
وقيل هو معطوف على مفعول " يعلمون " المحذوف، والتقدير: هم يعلمون الحق وقيله.
وقيل معطوف على مفعول " يكتبون " المحذوف، والتقدير: ورسلنا لديهم يكتبون ذلك وقيله.
ومن خفضه عطفه على لفظ " الساعة "، أي: وعنده علم الساعة وعلم قيله.(10/6714)
والرفع فيه جائز على الابتداء.
والمعنى: ونسمع شكوى محمد وقيله: يا رب، إن هؤلاء الذين أمرتني أن تدعوهم وننذرهم لا يؤمنون. وهذا قول كان يقول له النبي صلى الله عليه وسلم لما امتنعت عليه قريش من الإيمان فأنزله الله جل ذكره.
قال مجاهد وقتادة: هذا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو / قومه إلى ربه، حكاه الله جل ذكره لنا في كتابه.
والهاء في " وقيله " عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: تعود على عيسى، فترجع على قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً} [الزخرف: 57]- الآية.
ثم قال تعالى: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ}، أي: دعهم واغفر لهم قولهم(10/6715)
وفعلهم، وقل: مسالمة ومتاركة مني إليكم، وتقديره: وقل أمري سلام.
وهذا كان قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال.
وقال الفراء: التقدير: وقل سلام عليكم، ثم حذف، وهو بعيد لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم، إنما أمر (بأن يسالمهم) حتى يأتيه أمر الله عز وجل.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ النصارى واليهود بالسلام فكيف يأمره الله بذلك للمشركين وينهاه عنه.
قال ابن عباس: " فاصفح عنهم، أي: أعرض عنهم ".
ثم قال: (فسوف تعلمون).
هذا تهدد ووعيد، أي: سوف تلقون ما يسوؤكم إن تماديتم على كفركم.(10/6716)
سورة الدخان
مكية
قال الحسن: "من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة غفر له".
ومن رواية ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قرأ يس وحم الدخان في ليلة جمعة إيماناً واحتِسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).(10/6717)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَهُمَا فِي يَوْمٍ في أَولَ نَهَارهِ لَم يُدْرِكُهُ ذَنْب إِلاّ الشّرْكُ بالله سُبْحَانَهُ".
قال تعالى: {حم* والكتاب المبين} - إلى قوله -: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ}، قد تقدم ذكر حم.
وقوله: {والكتاب المبين} معناه، وحق الكتاب الظاهر، يعني: القرآن.
وجواب القسم في وقوله: {والكتاب المبين} قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}. وقيل: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ}.
وقيل: لا يجوز أن يكون الجواب {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} لأنه صفة للمقسم به. ولا يكون صفة المقسم به جواباً للقسم.(10/6718)
ثم قال: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، يعني: القرآن أنزل إلى السماء الدنيا جملة ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في نيف وعشرين سنة نجوماً، نجم بعد نجم، وهو معنى قوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1]، أي: والقرآن إذا نزل، وهو معنى قوله أيضاً: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75]، اي: أقسم بنزول القرآن و " لا " صلة.
قال قتادة: الليلة المباركة: ليلة القدر.
ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، (ونزلت التوارة لست ليالٍ مضين من رمضان، ونزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان)، ونزل الإنجيل الثماني عشرة ليلة مضت من رمضان، ونزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان.(10/6719)
قال ابن عباس: أنزل الله عز وجل القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل به جبريل في عشرين سنة.
وقيل المعنى: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.
وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. قال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان فيها يبرم أمر السنة.
وظاهر التلاوة يدل على أنها ليلة قد تفرق فيها الأرزاق وتقضي الآجال إلى مثلها من قابل.
قال أبو العالية: ليلة القدر بركة كلها، لا يوافقها عبد مؤمن يعمل إحساناً إلا غفر له ما مضى من ذنوبه.
قال عكرمة: يكتب في ليلة النصف من شعبان حاج بيت الله الحرام فلا يغادر منهم أحداً ولا يزاد فيهم أحد.(10/6720)
والبركة في اللغة: الثبات والدوام والزيادة.
وقوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، أي: منذرين خلقنا بهذا القرآن الذي أنزلناه في ليلة القدر أن يجل بهم العذاب بكفرهم.
ثم قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، أي في تلك الليلة المباركة يقضى كل أمر محكم، وهو أمر السنة كلها، من يموت ومن يولد، ومن يُعَزُّ ومن يُذَلُّ، وغير ذلك. سئل الحسن: هل ليلة القدر في كل رمضان؟ فقال: أي، والله إنها لفي كل رمضان، سئل الحسن: هل ليلة القدر في كل رمضان؟ فقال: أي، والله إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها، وهو قول مجاهد وقتادة، وقاله ابن عباس وغيره.
وقيل معنى " يفرق ": يفصل بين المؤمن والكافر والمنافق فيقال للملائكة هذا فيعرفونه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " (تُقْطَعُ الآجَالُ) مِنْ شَعبَانَ إِلى شَعْبَانَ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَلَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي المَوْتَى "، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا لَيْلَةُ(10/6721)
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ".
ثم قال تعالى: {أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ}، أي: قضاء قضيناه، أي: أمراً نأمر به تلك الليلة.
وانتصب أمراً على أنه مصدر في موضع الحال عند الأخفش، أي: إنا أنزلناه آمرين أمراً وراحمين رحمةً.
وقال المبرد: نصبه نصب المصدر على معنى: أنزلناه إنزالاً فالأمر يشتمل على الإخبار.
وقال الجرمي: هو حال من نكرة، وأجاز هذا رجلٌ مُقْبِلاً.(10/6722)
وقال الزجاج: هو مصدر: والتقدير: فيها يفرق فرقاً / فأمر، بمعنى: فرق.
وقيل: إن " يفرق " يدل على " يؤمر " فانتصب " أمراً " على المصدر وعمل فيه المعنى.
وقوله: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}.
انتصب الرحمة على الحال - عند الأخفش -، ونصبه الفراء على أنه مفعول ل " مرسلين "، وجعل " الرحمة " هي النبي صلى الله عليه وسلم وأجاز الزجاج أن تنصبه على أنه(10/6723)
مفعول من أجله. وقيل: هي بدل من " أمراً ".
وقيل: نصبها على المصدر. والمعنى: إنا كنا مرسلين رسولا وهو الرحمة. إن الله هو السميع لما يقول المشركون في رسوله، العليم بما ينطق (في علمه) ضمائرهم وغير ذلك من أمورهم. " وإنا أنزلناه جواب القسم.
ثم قال تعالى: {رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ}، أي: الذي أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم وهو رب السماوات والأرض وما بينهما، أي: هو مالك ذلك كله ومبتدعه ومدبره.
{إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ}، أي: إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم به من أن ربكم رب السماوات والأرض.
وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين}، أي: هو مالككم ومالك من مضى قبلكم من آبائكم الأولين.(10/6724)
ثم قال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}، أي ما هم على يقين مما يقال لهم (لكنهم في شك منه، فهم يلعبون لشكهم.
ثم قال تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي: فانتظر يا محمد) النقمة منهم وقت يحول بينهم وبين السماء دخان من شدة الجوع.
بلغ بهم الجوع إلى أن كانوا يأكلون الغلهز، والغلهز أن يفقأ القُراد في الصوف. ويشوى ذلك الصوف بدم القراد ويؤكل. والقُراد: الحلم. فرحمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم بصدقة ومال.
ومفعول: " فارتقب " محذوف، وهو النقكة وشبهها.
وقيل: التقدير هذا عذاب أليم فارتقبه يوم تأتي، وفيه بُعْدٌ لحذف الهاء من غير صلة ولا صفة، ولأنه رفع " العذاب " مع حذف الهاء، وذلك لا يحسن إلا في الشعر.
" وقد حَلَّ (بقريش ذلك كله)، إذ دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللَّهُمَّ سِنِينَ(10/6725)
كَسِني يُوسُفَ ".
فأُخِذُوا بالجوع. فكان الرجل يحول بينه وبين النظر إلى السماء دخان من شدة الجوع، فيصير كهيئة الدخان، هذا قول ابن مسعود وغيره من المفسرين.
وقيل: الدخان آية من آيات الله يرسله الله عز وجل على عباده قبل مجيء الساعة فيدخل في أسماع أهل الكفر ويعتري أهل الإيمان كهيئة الزكام، روي ذلك عن ابن عمرو والحسن.
وروى حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَوَّلُ الآياتِ الدُّخَانُ، وَنُزُولُ عِيسَى، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنُ أبين تَسُوقُ النَّاس إِلَى المَحْشَرِ تَقِيلُ مَعَهُمْ إِذا(10/6726)
قَالُوا. قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} - الآية، ثم قال: (يُمْلَكُ بِالدُّهَانِ) مَا بَيْنَ (المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)، يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَةً. أَمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبَهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّكْمَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَكَهَيْئَةِ السَّكْرَانِ، يَخْرُجُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ ".
وقيل: إن الدخان هو ما ينتظر بهم يوم القيامة من العذاب، قاله زيد بن علي.
ثم قال: {يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: يغشى ذلك الدخان الناس يقولون هذا عذاب أليم.
ثم قال: {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ}، أي: يقولون ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
ثم قال تعالى: {أنى لَهُمُ الذكرى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ}، أي: من أي وجه لهم(10/6727)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
التذكر بالإيمان عند حلول العذاب بهم، وقد تولوا عما جاءهم به رسولهم.
{وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ}، أي: علم هذا الذي جاءنا به ليس هو من عند الله.
ثم قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً}، أي: إنا نكشف عنكم العذاب الذي نزل بكم بالخصب والرخاء وقتاً قليلاً، إنكم عائدون إلى كفركم إذا كشفناه عنكم، (وتنقضون ما عهدتم) به أنكم تؤمنون إذا كشف عنكم.
وقيل معناه: إنكم عائدون في عذاب الله (في الآخرة) إن لم تؤمنوا.
وقيل معناه: عائدون إلى الشرك.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} - إلى قوله - {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ}، أي: ننتقم منكم إن عدتم إلى كفركم عند كشفنا عنكم ما أنتم فيه من الجهد يوم نبطش البطشة الكبرى، وهو يوم بدر عند أكثر المفسرين، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد وأبو العالية، وهو قول وهو قول أُبي بن كعب، أمكن الله عز وجل منهم المؤمنين يوم بدر فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.(10/6728)
والعامل في " يوم نبطش ": " منتقمون ". /
وقيل: العامل فيه فعل مضمر، تقديره: اذكر يا محمد يوم نبطش. وهو الأحسن، لأن الظرف لا يعمل فيه ما بعد أن عند البصريين.
وقيل: التقدير: ننتقم يوم نبطش، ودل عليه " منتقمون ".
وفيه أيضاً بُعْدٌ لأن ما بعد " إنَّ " لا يفسر ما قبلها كما لا يفعل (ما بعدها) فيه.
فإضمار " اذكر " أحسن الوجوه، وذلك أن الله جا ذكره كشف عنهم ما كانوا فيه من الجهد فعادوا إلى كفرهم فأهلكهم قتلا بالسيف يوم بدر. فيكون العامل في " يوم نبطش " فعلاً مضمراً يفسره " إنا منتقمون ".
ولا يحسن أن يعمل فيه " منتقمون "، لأن ما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها. ويجوز أن يكون العامل " اذكر " مضمرة.
وقال عكرمة: البطشة الكبرى هي بطشة الله عز وجل بأعدائه يوم القيامة.(10/6729)
وكذلك روى قتادة عن الحسن.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}، أي اختبرناهم وابتليناهم قبل مشركي قومك يا محمد.
{وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} يعني موسى صلى الله عليه وسلم أي " كريم عند ربه عز وجل. وقيل كريم من قومه. وقيل: الفتنة في هذا العذاب.
وفي الكلام تقدير وتأخير، والتقدير، ولقد جاء قوم فرعون رسول كريم.
وفتناهم، أي: عذبناهم بالغرق، لأن العذاب - وهو الغرق - كان بعد مجيء موسى إليهم وإنذاره إياهم وكفرهم
. ثم قال تعالى: {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}.
قال ابن عباس معناه: (أن اتبعوني) إلى ما أدعوكم إليه يا عباد الله فيكون " عباد ": نصب على النداء المضاف على هذا القول.(10/6730)
وقال مجاهد معناه: أن أرسلوا معي عباد الله وخلوا سبيلهم، يعني بني إسرائيل، وهو مثل قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47].
وقيل التقدير: وجاءهم رسول أمين يقول لهم: أدوا إِليَّ عباد الله أي: خلوا(10/6731)
سبيلهم إني لكم رسول من الله إليكم، أنذركم بأسه إن لم تؤمنوا، أمين على وحيه ورسالته إليكم.
ثم قال: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}، أي: وجاءكم رسول كريم بأن أدوا إلي عباد الله وبألا تعلوا على الله، أي: لا تطغوا على ربكم فتكفروا به.
{إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}، أي: بحجة ظاهرة تدل على صحة ما جئتكم به.
ثم قال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون}، أي: قال لهم موسى ": وإني اعتصمت واستعذت بربي وربكم من أن تشتمون بألسنتكم، قاله ابن عباس والضحاك.
وقال أبو صالح: أن ترجمون معناه: أن تقولوا لي شاعر (أو كاهن) أو ساحر.(10/6732)
وقال قتادة معناه: " أن ترجمون بالحجارة ".
وقال الفراء: " الرجم - هنا - القتل ". استجار بالله عز وجل واعتصم به سبحانه من أن يقتلوه.
ثم قال لهم: {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون}، أي: أذا أنتم لم تصدقون فيما أقول لكم فخلوا سبيلي (ولا تؤذون).
وقيل معناه: فدعوني كفافاً، لا عَلَيَّ ولا لي.
قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ}، أي: فدعا موسى ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا وهموا بقتله. وفي الكلام حذف تتصل الفاء به. والتقدير: فكفروا فدعا ربه ولو لم يكن هذا الإضمار لم تتصل الفاء بشيء ومثله في قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي}.
قوله: {أَنَّ هؤلاء}، أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء قوم مجرمون لا يؤمنون بما(10/6733)
جئتهم به.
ثم قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}.
في هذا الكلام حذف. والتقدير: فأجابه ربه عز وجل بأن قال له: فأسر بعبادي ليلاً، يعني: بني إسرائيل، أي: فأسر بعبادي الذين صدقوك وآمنوا بك ليلاً إنهم متبعون، أي: إن فرعون وجنوده من القبط يتبعونكم إذا سريتم من عندهم.
ثم قال: {واترك البحر رَهْواً}، أي: إذا قطعت البحر (أنت وأصحابك) فاتركه ساكناً على حاله حين دخلته. هذا لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر.
لم يكن في (وسع موسى) ترك ذلك، ولم يكن الله عز وجل ليأمره بما لا يقدر عليه، فهو وعد من الله عز وجل لموسى أن يفعله له، وكأنه قال: ويبقى البحر على حاله ساكنا حتى يدخله فرعون وجنوده فيغرقون.
قال ابن عباس، معناه: واتركه طريقاً. وقال الضحاك: سهلاً.
وقال مجاهد معناه: واتركه ساكناً لا يرجع إلى ما كان عليه حتى يحصل فيه(10/6734)
آخرهم، وهو معنى قول ابن عباس: اتركه طريقاً، وروي عن مجاهد أيضاً " رهواً ": يابساً، وحكى المبرد: عيش (راهٍ، أي): خفض وادع.
قال: فمعنى رهواً: ساكناً، حتى يحصلوا فيه وهو ساكن فلا (ينفروا منه).
وقيل الرهو: المتفرق ويقال: جاء القوم رهواً، أي: على نظام واحد.
وروي أن الله جل ذكره قال هذا لموسى بعد أن قطع البحر بنو إسرائيل.
فعلى / هذا القول يكون في الكرم حذف.
والتقدير: فسرى موسى بعبادي(10/6735)
ليلاً وقطع بهم البحر فقلنا له بعدما قطعه وأراد رد البحر إلى هيئته التي كان عليها قبل اتفلاقه: اتركه رهواً، أي: ساكناً على حاله لا ترده إلى (هيئته الأولى) حتى يدخلوا كلهم فيه ويطمئنوا. هذا القول هو قول قتادة.
قال قتادة: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله موسى عليه السلام أن يضرب بالبحر بعصاه حتى يعود كما كان مخافة أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اتركه اكناً على حاله إنهم جند مغرقون، فغرقهم الله عز وجل في البحر.
ثم قال تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ}، أي: كم ترك آل فرعون - يعني: القبط المغرقين - من بساتين وينابيع ماء تتفجر في بساتينهم وزروع قائمة.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، يعني: مقام الملوك والأمراء، كانوا يعظمونه ويشرفونه، يعني به المنابر، (قاله ابن عباس وقيل: هي المنازل الحسنة. ومعنى(10/6736)
كريم: حسن).
ثم قال: {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ}، أي: وأخرجوا من نعمة كانوا فيها متفكهين. قال قتادة: فاكهين: ناعمين. وعن ابن عباس: فاكهين: فرحين والنعمة - بالفتح - التنعم.
وقرأ أبو رجاء العطاردي والحسن " فَكِهينَ " بغير ألف، على معنى: كانوا فيها بطرين أشرين.
ثم قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}، أي: هكذا فعلنا بهم أيها الناس، وأورثنا ما تركوا مما تقدم وصفه قوماً آخرين يعني: بني إسرائيل.
ثم قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض}، أي: ما بكى عليهم حين هلكوا بالغرق أهل السماء، ولا أهل الأرض. ثم حذف.
وقيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها.(10/6737)
قال السدي: " لما قُتل الحسين بن علي عليه السلام بكت السماء عليه وبكاؤها حمرتها ". وقال عطاء: " بكاؤها " حمرة أطرافها ".
وقيل: معنى ذلك أن المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فأعلمنا الله أنهم لم يكونوا مؤمنين فتبكي عليهم السماء والأرض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بَدَأَ الإسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً،(10/6738)
أَلاَ لاَ غُرْبَةَ عَلَى المُؤْمِنِ [مَا] مَاتَ مُؤْمِنٌ في غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلاَّ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} ثم قال: إِنَّهُمَا لاَ يَبْكِيَانِ عَلَى الكَافِرِ ".
ومن قال أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن ولا تبكيان على الكافر، علي بن أبي طالب (رضي الله عنهـ) وابن عباس والحسن والضحاك وقتادة.
قال ابن عباس: ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء (ينزل منه) رزقه(10/6739)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء ففقده بكى عليه، وإذا أفقده مصلاه من الأرض والموضع الذي كان يذكر الله عز وجل فيه بكى عليه. وإن قوم فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا في السماء فلم يبك عليهم شيء حين هلكوا هذا معنى قوله.
وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ}، معناه: لم يكونوا مؤخرين حين أتاهم العذاب وتم الأجل.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ} - إلى قوله - {هُوَ العزيز الرحيم}، أي: ولقد نجى الله عز وجل بني إسرائيل من العذاب المذل والإهانة التي كان فرعون وقومه يعذبونهم بها. قال قتادة: عذابهم لبني إسرائيل هو قتلهم أبناؤهم واستحياء نساءهم.
ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي: إن فرعون كان جباراً مستكبراً على ربه سبحانه مسرفاً متجاوزاً إلى غير ما يحب له من الكفر والطغيان.
قال ابن عباس: من المسرفين: من المشركين. وقال الضحاك:(10/6740)
من القتالين.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين}، أي: ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالم زمانهم وقيل معناه: اخترناهم للرسالة والتشريف على علم منا بهم فذكر تعالى أنه أختارهم لكثرة الأنبياء منهم.
قال قتادة ومجاهد معناه: اخترناهم على أهل زمانهم ذلك ولكل زمان عالم.
ثم قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ}، أي: وأعطيناهم من العبر والعظات ما فيه اختبار يبين لمن تأمله أنه اختبار اختبرهم الله عز وجل به.(10/6741)
وقيل المعنى: آتيناهم نعماً عظيمة وعبراً ظاهرةً.
روي أن الله عز وجل أنزل ببيت المقدس سلسلة معلقة من السماء فكانوا يتحاكمون في حقوقهم وخصوماتهم ودعاويهم إلى السلسلة. فمن كان محقاً أدرك بيده مس السلسلة، ومن كان مبطلاً لم يدرك بيده مسها، فلم يزالوا كذلك حتى مكروا / فرقعت، وذلك فيما روي أن رجلاً منهم أودع رجلاً مالاً فجحده المودع عنده، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي جحد الوديعة إلى كلخ فقأ داخله، ثم أدخل فيه الوديعة. فلما أتيا إلى السلسلة قال الجاحد للوديعة لرب المال: أمسك لي هذه الكلخة (في يدك) حتى أمس السلسة، فأمسكها رب المال وهو لا يعلم بما فيهاغ. ثم تقدم الجاحد بحضرة الناس، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني قد وضعت ماله في يده وقبضه مني فأسألك ألا تفضحني ومَدَّ يده فأدرك السلسة فأقبل صاحب المال يقول: والله يا بني إسرائيل (إن هذه السلسلة لباطل وزور، فرفع الله السلسلة من ذلك الوقت.
ويروى أنه كان لهم عمودان، فإذا أتهم أحد بزنى فَأَقَرَّ رُجِمَ، وإن جحد(10/6742)
أدخل بين) العمودين فإن كان كاذباً انضما عليه فقتلاه، وإن (كان بريئاً) سلم.
وكان الرجل منهم يعمل الذنب لا يعلم به أحد فيصبح ويجده مكتوباً على بابه.
قال قتادة: البلاء هو أنه (تعالى نجاهم) من عدوهم، ثم أقطعهم البحر وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. فيكون البلاء هنا على قول قتادة، النعمة.
وقال ابن زيد: ابتلاهم بالخير والشر، يختبرهم فيما آتاهم من الآيات، من يؤمن بها ومن يكفر.
ثم قال تعالى: {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}، أي:(10/6743)
إن مشركي قريش يا محمد ليقولن ما هي إلا موتتنا التي نموتها، وما نحن بعد مماتنا بمبعوثين تكذيباً منهم للبعث والثواب والعقاب.
ثم قال: {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي: قالوا لمحمد عليه السلام ومن آمنوا به فأتوا بآبائنا، أي: فأحيهم لنا لنسألهم عن صدقكم إن كنتم صادقين.
ثم قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ}، أي: أهؤلاء المشركون يا محمد خير أم قوم تبع الحميري.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان " تبع " رجلاً صالحاً، فذم الله قومه ولم يذمه.
قال كعب: كان " تبع " ملكاً من الملوك، وكان قومه كهَّاناً، وكان معه قوم من أهل الكتاب [فكان قومه يكذبون على أهل الكتاب عنده.
فقال لهم جميعاً: قربوا قرباناً فَقَرَبُوا. فتقبل قربان أهل الكتاب] ولم يتقبل(10/6744)
قربان قومه فأسلم، فلذلك ذكر الله عز وجل قومه ولم يذكره.
قال أبو عبيدة: " تبع " اسم ملك من ملوك اليمن، سمي بذلك لأنه يتبع صاحبه.
وروي سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاَ تَلْعَنُوا تُبَّعاً فَإِنَّهُ (قَدْ كَانَ) " أَسْلَمَ ".
وقوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ}، أي: من قبل قوم تُبَّع من الأمم الكافرة(10/6745)
بربها. يقول الله جل ذكره: فليس هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بخير من أولئك الذين أهلكوا بكفرهم، فطمعوا أن (نصفح عنهم) ولا نعذبهم وننتقم منهم بكفرهم.
وقوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}، أي: أهلكنا قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة إنهم كانوا قوماً مجرمين. فإذا انتقمنا من الأفضل لكفره فما ظنك بالأدون.
ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين}، أي: لم نخلق ذلك لعبا، بل خلقناه لإقامة العمل والحق الذي لا يصلح التدبير إلا به.
ينبه جل ذكره وخلقه على صحة كون البعث والثواب والعقاب، وأنه لم يخلق الخلق عبثاً، بل خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وأقبل للطاعة، فيجازي المحسن بالإحسان والمسيء بما أراد، وهو قوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق}، أي للحق والعدل.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون أن الله خلق (ذلك لذلك) فهم لا يخافون عقاباً (ولا يرجعون لتكذيبهم) بالمعاد والثواب والعقاب.(10/6746)
وذهب أبو حاتم إلى جواز الوقف على " تبع ". يقدر أن قوله: " والذين من قبلهم أهلكناهم " مبتدأ وخبره. كأنه يجعل المهلكين هم الذين كانوا من قبل قوم تبع (لا قوم تبع). والوقف عند غيره " أهلكناهم " على أن يكون الذين عطف على " قوم " وَأَتَمُّ منه " مجرمين ".
(ثم قال: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}، أي: إن يوم فصل الله بين خلقه وقت لجميع الخلق يجتمعون فيه للفصل بينهم).
ثم قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً}. " يوم " بدل من " يوم " الأول. ومعناه إن يوم لا يغني ولي عن ولي شيئاً وقت لجميع الخلق يجتمعون فيه للفصل بينهم، أي: يوم لا يدفع ابن عم عن ابن عم، ولا صاحب عن صاحب شيئاً من العذاب.(10/6747)
{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، أي: ولا ينصرهم أحد مما حَلَّ بهم من النقمة بكفرهم.
قال قتادة: " انقطت الأسباب يومئذ يا ابن آدم، وصار الناس يومئذ إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذ / خيراً سَعِدَ به، ومن أصاب يومئذ شراً شقي به ".
والمولى والولي في اللغة: الناصر.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ " في تفسيره ثلاثة أقوال:
- أحدهما: إن معناه: من كنت أتولاه فعلي يتولاه.
- والثاني: من كان (يتولاني، يتولاه) علي.
- والثالث: إنه كان قوله ذلك في سبب، وذلك أن أسامة بن(10/6748)
زيد قال لعلي: لبست مولاي، إنما مولاي رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاي فعلي مولاه ".
ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} " من " عند الأخفش في موضع رفع على البدل على المعنى كأن التقدير: (ولا ينصر) أحد إلا من رحم الله.
وأجاز أن تكون في موضع رفع على الابتداء. كأنه في التقدير: إلا من رحم الله فيغني عن غيره، أي: يشفع لغيره ممن أراد الله عز وجل له الشفاعة كما قال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28].
وقيل: " من " رفع لفعلها، أي لا يغني إلا من رحم الله (" فمن " على هذا القول بدل من " مولى " أي: لا يشفع إلا من رحم الله).(10/6749)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يشفعون. وقال الكسائي " من " في موضع نصب على الاستثناء المنقطع وهو قول الفراء. وتقف على " ينصرون " إن جعلت " من " (ابتداء، ويكون) التقدير: إلا من رحم الله فإنه تغني شفاعته.
فإن جعلت " من " بدلاً أو استثناء منقطعاً لم تقف على ينصرون.
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنَ المُؤْمِنينَ يُقَامُ في صَفِّ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرَى رَجُلاً مِنَ المُوَحِّدِينَ قَائِماً (فِي صَفِّ) أَهْلِ النَّارِ (قدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ) في(10/6750)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
الدُّنْيَا فَيُذَكِّرُهُ ذَلِكَ فَيَذْكُرُ، فَيَشْفَعُ فِيهِ فَيُحَوَّلُ إِلى صَفِّ اَهْلِ الجنَّةِ ".
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم}، أي: العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
ثم قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} - إلى آخر السورة أي: إن شجرة الزقوم التي أخبر تعالى أنها تنبت في أصل الجحيم هي طعام الكافر في جهنم، والأثيم: الآثم وهو في هذا أبو جهل ومن كان مثله.
ولما نزلت هذه الآية دعا أبو جهل بزبد ودعا أًحابه (فقال: تَعَالَوْا، تَزَقَّمُوا)، فهذا الذي يَعِدُنَا به محمد أنه طعامنا في الجحيم.(10/6751)
وذكر ابن هشام أن أبا جهل لما سمع قول الله جل ذكره {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} قال: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم) التي يخوفكم بها محمد؟، قالوا: لا. قال: هي عَجْوَةُ يَثْرِب بِالزَّبد.
والعجوة صنف من التمر طيب.
ورُوي أن أبا الدرداء كان يُقْرِئُ رَجُلاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} فكان الرجل يقول: طعام اليتيم. فلما أكثر عليه أبو الدرداء ولم يفهم الرجل، قال له: إن شجرة الزقوم طعام) الفاجر.
فهذه قراءة على التفسير لا يحسن أن يُقْرَأَ بها.(10/6752)
وقال ابن عباس: " لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت على الدنيا لأفسدت على الناس معائشهم ". وقال ابن زيد: الأثيم هنا: أبو جهل.
قال: {كالمهل يَغْلِي فِي البطون}، أي: شجرة الزقوم - التي جعلنا ثمرها طعام الكافر في جهنم - كالرصاص أو الفضة المذابة إذا ما تناهت حرارتها.
وقال ابن عباس: " كالمهل: كُدْردِيِّ الزيت ".
(وروي عنه أنه رأى فضة قد أذيبت فقال: هذا(10/6753)
المُهْلُ وروى) الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كَالمُهَلِ: كَعَكِرِ الزَّيْتِ، إِذَا قرب إلى وَجْهِ الكَافِرِ سَقَطَتْ (فَرْوَةُ) وَجْهِهِ فِيهِ " وقيل: " المهل " عكر القطران. وقيل: هو الصديد من الحميم.
وقوله: {كَغَلْيِ الحميم}، أي: (يغلي) ذلك في بطون الكفار كغلي الماء المحموم، وهو الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدة حره، والحميم بمعنى: (محموم، كقتيل) بمعنى: مقتول.
ثم قال تعالى: {خُذُوهُ فاعتلوه}: يعني الأثيم، وهو الكافر، يقال للملائكة: خذوا الكافر فاعتلوه، أي: (فادفعوه وسوقوه) على عنف.
يقال عتله: إذا ساقه بالدفع والجذب.(10/6754)
وقوله: {إلى سَوَآءِ الجحيم}، أي: إلى وسطها، أي: ادفعوه إلى وسط النار.
ثم قال: {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم}، أي: صبوا على رأس هذا الأثيم - وهو الكافر - من عذاب الجحيم.
ثم قال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}، أي: يقال له ذق هذا العذاب إنك أنت كنت العزيز في قومك.
قال قتادة: " نزلت هذه الآية في أبي جهل عدو الله لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فَهَزَّهُ، ثم قال: " أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا جَهْلٍ، ثُمَّ أَوْلَى لَك فَأَوْلَى " فقال أبو جهلٍ أيوعدني محمد، لأنا أعز من يمشي بين جبليها. فنزلت {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي: المدعي ذلك "
، وفيه نزلت: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] /، وفيه نزلت: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} [العلق: 19].(10/6755)
فالمعنى: ذُقْ عذاب الله، إنك أنت العزيز عند نفسك، الكريم فيما كنت تقول.
وقوله " ذق " عند من كسر " إن " واقع على محذوف وهو العذاب. فأما من فتح " أن " فمعناه مثل ذلك: ذق العذاب لأنك وبأنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم.
وهذا كلام معناه التقريع والتوبيخ وليس بمدح له، إنما هو على طريق الحكاية لما كان يدعي في الدنيا من العزة والكرم، إذ كان يقول: أنا العزيز الكريم، فقرع به عند حلول العذاب به إذ صار في ذلة وهوان. فكأنه قيل له: ذق هذا العذاب إنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم، فأنت الآن الذليل المهان. فأين ما كنت تقول في الدنيا. وذلك أشد لنكا له وحسرته.
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فقال له: " إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ(10/6756)
{أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: واللاَّتِ لاَ تَمْلِكُ لِي نفعاً ولا ضراً وَإِنِّي لأَمْنَعُ أَهْلَ البِطْحَاءِ، وَإِنِّ لأَعَزُّ وَأَكْرَمُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا هُوَ صَانِعٌ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا يُقَالُ لَهُ جَوَاباً لِقَوْلِهِ: أنا أعز وأكرم، فقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} عند نفسك، وأنت الذليل المهان عند الله ".
ثم قال: {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}، أي: يقال لهم إن هذا العذاب الذي كنتم تَشْكُّونَ.
ثم قال تعالى: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}، أي: إن الذين اتقوا الله عز وجل فأدوا طاعته (واجتنبوا معصيته) في موضع إقامة آمنين فيه من السوء كله. وكل من (تقبل الله) له عملاً وإن قل فهو من المتقين بدلالة قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27].
قال علي (بن أبي طالب) رضي الله عنهـ: مَا قَلَّ عَمَلٌ مع تقوى وكيف يَقِلُّ ما يتقبل.(10/6757)
ويروى أن سائلاً سأل ابن عمر ولده أن يعطيَه فأعطاه وقال له: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال ابن عمر: لو علمت أن الله عز وجل تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم واحد، لم يكن غائب أحد إلي من الموت. أتدري ممن يتقبل؟! إنما يتقبل الله من المتقين! ذكر ذلك أبو عبيد في كتاب الشواهد.
ووصف المقام " بأمين " لأنه يؤمن فيه.
والمقام - بالفتح - اسم المكان من قام، وبالضم اسم المكان (من أقام).
ثم بين تعالى ذكره ذلك المقام قال: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، أي: في بساتين وعيون من الماء متطرداً في أصول أشجار الجنات.
ثم قال تعالى: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ}.
السندس: مَا رَقَّ من الديباج. والإستبرق: ما غَلُظَ منه: وقيل: السندس: الخِزُّ المُوَشَّى.(10/6758)
وقوله: " متقابلين، أي: هم على سررهم لا يستدبر بعضهم بعضاً.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ}، أي: كما أدخلناهم الجنات، وألبسناهم السندس والإستبرق، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم أيضاً فيها بحور عين، وهن النقيات (البياض، والواحدة) حوراء.
وقال مجاهد: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ}، أي: " أنكحناهم حوراً. والحور التي يحار فيهن الطرف، بادٍ مُخُّ سوقهن من (وراء ثيابهن). يرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون ".
والحَوَرُ في اللغة: البياض، كما قيل للدقيق الصافي البياض الحُوَّارَى وفي حرف ابن مسعود: " زوجناهم بعيسى عين "، والعيس جمع عيساء وهي البيضاء من الإبل. والعين جمع عيناء وهي العظيمة العينين من النساء.(10/6759)
ومن العرب من يقول: بحير عين على الاتباع للثاني. ومثله من الحديث رواية من روى " أُرْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ " والفصيح: ارجعن موزورات.
ثم قال: {فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}، أي: يدعو هؤلاء المتقون من في الجنة بكل نوع من الفاكهة اشتهوه آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم، ونفاده، وغائلة (أذاه) (ومن كل) سوء يذحر في الدنيا.
ثم قال تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى}، أي: بعد الموتة الأولى، أي: لا يذوقون فيها موتاً بعد موتهم في الدنيا. ف " إلا " هاهنا قريبة المعنى من " بعد ".(10/6760)
وقال بعض النحويين " إلا " هنا بمعنى " سوى " أي: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة الأولى التي كانت في الدنيا، ومثله عنده {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22 و 23].
وطُعِنَ في هذا القول، لأن القائل لو قال (لا أذوق) اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم بمعنى " سوى "، لجاز أن يريد أن عنده طعاماً من نوع الطعام الذي ذاق بالأمس، وإنه ذائقه اليوم دون سائر الأطعمة.
فيحتمل معنى الآية إذا كانت " إلا " بمعنى " سوى " أن يكون ثم موت من جنس الموت الأول (يحل بهم) / وهذا محال.
وقال النحاس: المعنى لا يذوقون فيها الموت البتة. ثم قال: {إِلاَّ الموتة الأولى} على الاستثناء المنقطع.(10/6761)
ولذلك أجاز بعضهم الوقف على " الموت " (لأن ما) بعده منقطع. وأكثرهم على أن " إلا " بمعنى " بعد "، كما تقول: ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك، أي: بعد رجل عندك.
(والأحسن أن يكون " إلا " بمعنى " غير "، أي: لا يذوقون فيها موتاً غير الموتة الأولى التي كانت في الدنيا).
ثم قال: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم}، أي: نجاهم منه.
ثم قال: {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ}، أي: تفضلاً منه. وهو مصدر والعامل فيه فعل مضمر.
وقيل العامل: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}.
(وقيل العامل: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}).(10/6762)
وقيل العامل: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم}.
وقيل: الكلام كله الذي قبله عامل فيه، لأنه تفضل منه عليهم إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة. وقيل: سماه " تفضلاً " لأنه غفر لهم صغائرهم لو أخذهم بها لم يدخلوا الجنة.
وقيل: إنما سماه " تفضلاً " لأن نعمه عليهم في الدنيا تستغرق حسناتهم فأدخلهم الجنة بفضله ورحمته لا بأعمالهم.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَا اَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةِ بِعَمَلِهِ.
قِيلَ: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: (وَلاَ اَنَا) إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ ".(10/6763)
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}، (أي: هذا الذي تقدم وصفه للمتقين هو النجاء العظيم والظفر) الكبير.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي أنزلنا القرآن بلسان العرب لعلهم يفهمون (فيتذكرون ويتعظون).
ثم قال تعالى: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ}، أي: فانتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، إنهم منتظرون بك ريب الحدثان. وقيل المعنى: فانتظر الفتح والنصر فإنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك.(10/6764)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
سورة الجاثية
مكية
قوله تعالى: {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} - إلى قوله - {مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}، قد تقدم ذكر الاختلاف في " حم ".
والمعنى هذا تنزيل القرآن من عند العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي السماوات والأرض لأيات لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: إن فيها لعبراً وحُججاً للمصدقين بها، أي: إن لها خالقاً لم يخلقها عبثاً.
ثم قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، أي: وإن في خلقكم أيها الناس، وما ينشر الله عز وجل في الأرض من دابة تدب عليها من غير(10/6765)
جنسكم آيات لقوم يوقنون بحقائق الخلق، وأن الله عز وجل اخترع جميع ذلك.
ثم قال تعالى: {واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا}، أي: وإن في تعاقب الليل والنهار، وما ينزل من السماء من مطر يكون عنه من النبات رزقكم. وسمي الماء رزقاً لأن عنه يتكون الرزق في الأرض.
وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا}، أي: أنزل الماء فاهتزت الأرض بالنبات بعد أن كانت لا نبات فيها.
ثم قال: {وَتَصْرِيفِ الرياح}، أي: وكون الرياح مرة شمالاً ومرة جنوباً، ومرة صبّا ومرة دَبُوراً، ونحو ذلك من اختلافها لمنافع الخلق.
{ءايات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، أي عبراً وحججاً لقوم يعقلون عن الله عز وجل أمره ونهيه، فيتبعون رسله، ويفهمون عنهم وحيه.
وقوله: {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات} النصب في " ءايات " حسن على معنى: وإن في(10/6766)
خلقكم آيات. وحسن ذلك لإعادة حرف الجر مع خلقكم.
ويجوز الرفع من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن (تعطفها على الموضع) مثل قراءة الجماعة: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة} [الجاثية: 32] بالرفع، عطف على موضع {وعْدَ}.
والوجه الثاني: ترفع " الآيات " بالابتداء، وما قبلها خبرها. وتكون قد عطفت (جملة على) جملة منقطعة كما تقول إن زيداً خارج، وأن أجيئك غداً.
والوجه الثالث: أن ترفع على الابتداء والخبر والجملة في موضع الحال. مثل قوله: {يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154].(10/6767)
وأما قوله: {واختلاف الليل والنهار} - إلى قوله - {ءايات}، فالرفع حسن على ما تقدم من الأوجه.
والنصب عند سيبويه (والأخفش والكسائي) جائز على العطف على عاملين وهما " إن " وحرف الجر لأنك لم تُعِدْ " في مع " الاختلاف " كما أعدت أولا " في " مع " خلقكم ". فصرت تعطف بالواو على ما عملت فيه " إن " وعلى ما عمل فيه حرف الجر. فتخفض " الاختلاف " وتنصب " الآيات ".
ونظير هذا من الكلام قولك: في الدار والحجرة عمرو فتعطف بالواو على ما عملت فيه " في " وعلى ما عمل فيه الابتداء فتخفض الحجرة وترفع عمراً، فتعطف على عاملين (بحذف واحد.
ولو أعدت " في " لم يكن عطف(10/6768)
على عاملين.
ومنع المبرد القراءة بالنصب وقال: لا يجوز العطف على عاملين.
وكان الزجاج يحتج لسيبويه بأن قال: إن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله رفع فهو أيضاً عطف على عاملين لأنه عطف " واختلاف " على " خلقكم " وعطل " آيات " على موضع " آيات " الأولى.
قال: / فقد صار العطف على عاملين إجماعاً.
وهذا، لا يلزم، لأن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله خبر.
وحكى الفراء رفع " الاختلاف " ورفع " الآيات ". جعل " الآيات " هو " الاختلاف ". وهذا وجه حسن ظاهر لولا أن القراءة سنة.
وإنما بعد العطف على عاملين (عند المبرد وغيره لأن حرف العطف إنما أتى به لينوب مناب العامل للاختصار. فلم يقرأ أن يجعل ينوب مناب عاملين مختلفين،(10/6769)
ولو جاز أن ينوب مناب عاملين) لجاز أن ينوب مناب ثلاثة وأكثر (وهذا لا يقوله أحد) لأنه لو ناب مناب رافع وناصب لكان [رافعاً (ناصباً) في حال، وللزوم أن ينوب مناب رافع وناصب وجار فيكون] ناصباً ورافعاً جاراً في حال. وهذا محال ظاهر على أنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز إذا تأخر المجرور، نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة، وإنما أجازه من أجازه إذا كان المجرور يلي حرف العطف. وهذا تحكم بغير علة.
ثم قال تعالى: {تَلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}، أي: تلك حجج الله نتلوها عليك يا محمد، أي: نخبرك عنها بالحق لا الباطل كما يخبر مشركو قريش عن آلهتهم بالباطل يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3].(10/6770)
ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ}، أي: فبأي حديث يا محمد بعد قرآن الله عز وجل وكتابه وآياته يؤمن هؤلاء المشركون.
ومن قرأ بالتاء فمعناه: فبأي حديث بعد قرآن الله سبحانه تؤمنون أيها المشركون.
ثم قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً}؟
روي أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه ويحدث قريشاً. بأخبار ملوك العجم ويقول: أنا أحسن حديثاً من محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: الواد سائل من صديد أهل جهنم لكل كذاب، ذي إثم سامع(10/6771)
لآيات الله تُقرأ عليه ثم يتمادى وتجبره على ربه سبحانه، فلا يذعن لأمره ونهيه كأن لم يسمع ما قرئ عليه {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً}
[لقمان: 7]، أي: صمماً، فلا يسمع شيئاً لإصراره على كفره.
فبشره يا محمد بعذاب مؤلم، أي: موجع يوم القيامة. قال ابن عباس نزلت في الحارث بن كلدة ".
ثم قال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً}، أي: وإذا علم عذا الأفاك الأثيم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً، أي: يسخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43 و 44]، إذ دعا بزبد (وثمر) فقال: تزقموا من هذا، فما يفزعكم محمد إلا بهذا.(10/6772)
ثم قال: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، أي: لهم في الآخرة عذاب يهينهم، ويذلهم في نار جهنم.
وجمع في قوله: {أولئك} رداً على قوله: {لِّكُلِّ أَفَّاكٍ}.
ثم قال تعالى: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ}، أي: أمامهم جهنم.
{وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم} من عذابها. {مَّا كَسَبُواْ} في الدنيا من الأموال والأولاد شيئاً.
{وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ} أي: ولا تغني عنهم آلهتهم التي اتخذوها أولياء من دون الله فعبدوها، ولا رؤساؤهم الذين أطاعوهم في الكفر فاتخذوهم أولياء على ذلك من عذاب الله شيئاً.
ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، يعني: نار جهنم وما فيها من أصناف العذاب.
ثم قال تعالى: {هذا هُدًى والذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}، أي: هذا القرآن الذي أنزلنا هدى لمن وفقه الله إلى الإيمان به والعمل بما فيه. والذين جحدوا آيات ربهم ولم يؤمنوا بها، لهم عذاب مؤلم من الرجز.
قال المبرد: " الرجز: أغلظ العذاب وأشده ".(10/6773)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
قوله تعالى: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ} - إلى قوله - {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}، أي: الذي تجب له العبادة والخضوع والطاعة هو الله الذي سخر لكم البحر لتجري السفن فيه بأمره وبقدرته فتنتفعون بذلك لمتجركم، ومعائشكم، وتصرفكم في البلدان، وتبتغون من فضله فهو الذي يجب له الشكر على نعمه دون غيره.
ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ}، أي: سخر لكم أيضاً - أيها الناس - ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وليل ونهار وما في الأرض من دابة وشجر وجبل وغير ذلك لمنافعكم ومصالحكم جميعاً منه، أي: نعمة منه عليكم، فإياه فاحمدوا واشكروا.
وقرئت: " جميعاً منة "، أي من " عليكم بذلك منة).(10/6774)
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: إن في تسخير ما تقدم ذكره لمنافع الخلق ومصالحهم لعبراً لقوم يتفكرون في آيات الله عز وجل وحججه سبحانه وأدلته فيعتبرون بها وينطقون.
و {جَمِيعاً مِّنْهُ} (وقف جيد).
ومن قرأ " منة " وقف على " جميعاً "، ثم ابتدأ " منة " إن في ذلك "، أي: من عليكم بذلك منة.
ثم قال تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله}، أي: قل لهم اغفروا يغفروا. فهو جواب أمر محمول على المعنى.
والمعنى: قل يا محمد للذين صدقوك: اغفروا للذين لا يخافون أيام الله، أي: بأس الله ووقائعه فمن كفر به ونقمه منهم يغفروا.
{لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي: ليجزي الله عز وجل في الآخرة هؤلاء /(10/6775)
الذين يؤذون المؤمنين بما اكتسبوا في الدنيا من أذى المؤمنين (ومن غير) ذلك.
وروي عن عاصم أنه قرأ {لِيَجْزِيَ قَوْماً} بنصب قوم والفعل لما لم يسم فاعله. وهذا بعيد جداً لم يجزه سيبويه ولا جميع البصريين.
وإنما تقديره عنده: ليجزي الجزاء قوماً. فيقيم المصدر مقام ما لم يسم فاعله ويضمره وينصب الاسم المقصود بالمعنى وهو شاذ في النظر والقياس.(10/6776)
ولم يجز النحويون: " شُرِبَ الضربُ زيداً " برفع الضرب ونصب زيد، ولو جاز هذا لجازت هذه القراءة ولكن لا يجيزونه إلا في شعر على بعد.
قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزؤون به ويكذبونه، ثم أمره الله عز وجل أن يقاتلهم كافة. فكان هذا من المنسوخ. وعن ابن عباس أيضاً، وهو قول الضحاك: إن الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ(10/6777)
شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به فنزلت: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} - يعني عمر - {يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله}، ثم نسخ هذا في " براءة " بالأمر بالقتال والقتل للمشركين، وهو أيضاً قول قتادة، إلا أنه قال: نسخها قوله:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وقاله الضحاك.
وعن أبي هريرة أنه قال نسخها قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} [الحج: 39] وقاله الضحاك.
وقيل: معنى " لا يرجون أيام الله ": لا يخافون البعث.
ثم قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ}، أي: لخلاص نفسه يعمل، والله عز وجل غني عن عمله، إنما عمله له.
{وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}، أي: ومن عمل عملاً سيئا فعلى نفسه جنى وفي عطبها(10/6778)
سعى، لا يضر الله سبحانه ذلك ولا ينقصه من ملكه. {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ} أيها الناس.
{تُرْجَعُونَ}، (أي: تردون) في الآخرة فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة}، أي: ولقد أعطينا بني إسرائيل التوراة والإنجيل.
{والحكم} يعني: الفهم بالكتاب والعلم بما فيه من السنن التي لم تنزل في كتاب. قال مجاهد: " الحكم: اللب ".
وقوله: {والنبوة}، أي: وجعلنا منهم الأنبياء والرسل إلى الخلق، فأكثر الأنبياء والرسل من بني إسرائيل.
ثم قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات}، يعني: المَنَّ والسَّلْوَى وغير ذلك من المطاعم.
ثم قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين}، أي: على عالم زمانهم.
ثم قال: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر}، أي: وأعطيناهم واضحات من أمرنا بتنزيلنا التوراة عليهم فيها تفصيل كل شيء.
ثم قال: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: لم يختلفوا في دينهم إلا من بعد {مَا جَآءَهُمُ العلم}، أي: إلا من بعد ما أنزلت عليهم التوراة فاختلفوا(10/6779)
للرياسة بعد علمهم بالحق مما اختلفوا فيه فتنافسوا في الدنيا ورياستها فبغوا بغياً فيما بينهم، وتركوا تبيين ما أنزل الله عليهم.
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة}، أي: يحكم (ويفصل بينهم) فيما اختلفوا فيه يوم القيامة، فيعلي المحق على المبطل.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها}، أي: ثم جعلناك يا محمد بعد بني إسرائيل على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا من قبلك من الرسل، فاتبع تلك الشريعة {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: ولا تتبع ما يدعوك إليه الجاهلون بالله.
قال ابن عباس: {على شَرِيعَةٍ}: " على هدى من الأمر وبينة ".
وقال قتادة: " الشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي ".
وقال ابن زيد: الشريعة: الدين، وقرأ {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [الشورى: 13] فنوح أولهم ومحمد آخرهم صلى الله على جميع النبيين وسلم.(10/6780)
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لن ينفعوك من الله شيئا إن ابتعت أهواءهم وما يدعونك إليه.
ثم قل تعالى: {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، أي: وإن الكافرين بعضهم أنصار بعض وأعوانهم على أهل الإيمان بالله عز وجل.
{ والله وَلِيُّ المتقين}، أي: هو ولي من اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
ثم قال تعالى: {هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، أي: هذا القرآن بصائر يبصر به من العمى وهو الضلالة، ويهتدي به من جار عن طريق / الحق، وتاه في ميدان الباطل {وَرَحْمَةٌ}، أي: وهو رحمة لمن آمن به واتبعه.
(وقوله: {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، أي هو نور ورشاد ورحمة لمن أيقن أنه من عند الله فآمن به واتبعه).
ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، أي: أيحسب بالكفار بالله عز وجل المكتسبون الكبائر أن يكونوا كالمؤمنين بالله عز وجل(10/6781)
المجتنبين للكبائر.
ويدل على أن المراد بالمكتسبين السيئات في هذه الآية الكفار قوله: " كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ". فذكر الإيمان مع العمل، ولو كانوا مؤمنين لقال: كالذين عملوا الصالحات ولم يذكر الإيمان.
ثم قال: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
قال مجاهد معناه: إن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. وقال أبو الدرداء: " يبعث الناس على ما ماتوا عليه ".
هذا معنى قراءة من رفع " سواء " فجعله مبتدأ " ومحياهم " خبر، ومماتهم عطف على " محياهم ".(10/6782)
وإنما حَسُنَ الرفع في " سواء " (لأن الفعل) قد استوفى مفعوليه فارتفع " سواء " على الابتداء، كما قيل " سَوَاءُ العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي ".
وإنما اختير الرفع في " سواء " لأنه اسم في معنى المصدر فلم يحسن جريه على الأول فارتفع بالإبتداء إذ الفعل قد تعدى إلى مفعوليه.
ولو كان في موضع " سواء " مستو لحسن النصب لأنه يجري على الأول، فينصب مع المعرفة على الحال وهذا هو الاختيار عند سيبويه وجميع النحويين.
ويجوز النصب عند سيبويه وغيره كما أجاز: مررت برجل سواءً عليه الخير والشر، فإذا نصبت على الحال، إذ قبله معرفة.
فكما جاز أن يكون صفة للنكرة جاز أن يكون حالاً للمعرفة وهو بعيد، لأن الأسماء التي ليست بجارية على الفعل، الرفع الاختيار فيها عند النحويين إذا رفعت ظاهراً بعدها.(10/6783)
وبالنصب قرأ حفص وحمزة والكسائي على الحال من الهاء والميم في " نجعلهم ".
وقرأ الأعمش {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بالنصب في ذلك كله ينصب " سوا " على الحال، وينصب " محياهم ومماتهم " على تقدير في محياهم ومماتهم كأنه يجعله ظرفاً.
ويجوز أن يكون {مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بدلا من الهاء والميم في {نَّجْعَلَهُمْ} فيصير المعنى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء)، أي كمحيى الذين آمنوا ومماتهم.
والوقف على " الصالحات " حسن عند نافع وأبي(10/6784)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
عبيدة على قراءة من رفع.
وقال غيرهما: من نصب سواء وقف عليه. وهو بعيد لا وجه له، لأن " محياهم " مرتفع " بسواء ". والتمام عند الأخفش: " ومماتهم " وعند غيره " يحكمون ".
ومعنى " ساء ما يحكمون: " بيس الحكم يحكمون إن حسبوا ذلك وظنوه.
و" ما " في موضع رفع إن جعلتها نكرة.
قال مجاهد في معنى الآية: محيى المسلمين ومماتهم، كلاهما محمود، محيى الكفار ومماتهم مذموم، فلا يستويان.
قوله تعالى: {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} - إلى قوله -: {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: خلق ذلك للعدل والحق لا لما يحسب هؤلاء الجاهلون بالله عز وجل من أن يجعل من اكتسب السيئات بالكفر كمن آمن بالله تعالى وعمل صالحاً في المحيى والممات، لأن هذا من فعل غير أهل العدل والإنصاف. فمن(10/6785)
الحق والعدل عند الذي خلق السماوات والأرض لهما، أن يخالف بين حكم من كفر ومن آمن في العاجل والآجل.
ثم قال: {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، أي: وخلق ذلك لتجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت في الدنيا من خير وشر. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، أي: لا يظلمون جزاء أعمالهم.
وروى أبو هريرة حديثاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِذَا كانَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ عز وجل مَعْ كَلِّ امْرِئٍ عَمَلَهُ، فَلاَ يَرَى المُؤْمِنُ شَيْئاً (يُرَوِّعُهُ وُلا شَيْئاً) يَخَافُهُ إِلاَّ قَالَ لَهُ عَمَلُهُ: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ وَالله مَا أَنْتَ بِالَّذِي هُوَ يُرَادُ بِالَّذِي هضا هُنَا، وَلاَ أَنْتَ المَعْنِي بِهِ. فَإِذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً قَالَ لَهُ المُؤْمِنُ: مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللهُ، فَوَالله مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْكَ وَجْهاً وَلاَ أَطْيَبُ مِنْكَ لَفْظاً. فَيقول: / أَتَعْجَبُ مِنْ حُسْنِي؟ إِنَّ عَمَلَكَ وَالله -، كَانَ حُسْناً في الدُّنْيَا، وَإِنِّي عَمَلُكَ، وَإِنَّكَ كُنْتَ تَحْمِلُنِي في الدُّنْيا عَلَى ثِقْلِي، وَإِنِّ وَالله لأَحْمُلَكَ اليَوْمَ وأُدَافِعُ عَنْكَ، قال: (وَإِنَّهَا لِلَّتِي) يَقُولُ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ".(10/6786)
ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}.
قال ابن عباس: " ذلك الكافر اتخذ بغير هدى من الله ولا برهان ".
قال قتادة: " لا يهوى شيئاً إلا ركبه، لا يخاف الله ".
وقال ابن جبير: " كانت قريش تعبد العزى - وهو حجر أبيض - حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر فأنزل الله عز وجل: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}.
قال الحسن: " هو الذي كلما اشتهى شيئاً لم يمتنع منه ".
ثم قال تعالى: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ}، أي: وخذ له الله عن طريق الحق في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.(10/6787)
قال ابن عباس: " أضله الله في سابق علمه ".
وقال ابن جبير: " أضله على عدم قد علمه منه ".
وقيل المعنى: أضله الله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه.
وقيل المعنى: على علم منه بأن عبادته لا تنفعه ".
ثم قال تعالى: جل ذكره: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً}، أي: وطبع على اسمه أن يسمع (مواعظ الله وما) ينتفع به، وطبع على قلبه (فلا يعي) شيئاً من الخير، وجعل على بصره غكاءً أن يبصر به حجج الله عز وجل، يعني: بصر قلبه. فهو لا يهتدي لخير، نسأل الله ألا يخذلنا عما فيه رشدنا عنده.
ثم قال: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله}، أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله عز وجل له، وخذلانه إياه.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أيها الناس ما يذكر لكم وما توعظون به.(10/6788)
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا}، وقال هؤلاء المشركون ما حياتنا الدنيا التي نحن فيها، لا حياة سواها، تكذيباً بالبعث والجزاء. قال قتادة: " هذا قول مشركي العرب ".
وقوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي نموت نحن ويحيى أبناؤنا بعدنا.
وقيل: هو كلام فيه تقديم وتأخير. والتقدير: نحيى ونموت.
وقيل المعنى: نكون أمواتاً، يعني: النطق، ثم نحيى، أي: نصير أحياء في الدنيا ثم لا يهلكنا إلا الدهر، أي: إلا مرور الزمان وطول العمر.
وقيل المعنى: نموت (ونحيا على قولكم أيها المؤمنون) - على طريق الاستبعاد للبعث - بعد الموت، قاله علي بن سليمان.
وهؤلاء قوم لم يكونوا يعرفون الله فنسبوا ما يلحقهم من الموت إلى الدهر.(10/6789)
وقيل: بل كانوا يعرفون الله سبحانه، ولكن نسبوا الآفات والعلل التي تلحقهم فيموتون بها إلى الدهر.
جهلوا أن الآفات مقدرة من عند الله عز وجل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ ".
ومعنى ذلك: أنهم كانوا يسبون الدهر ويقولون: هو يهلكنا فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
فيكون معنى نهيه: لا تسبوا الدهر فإن الله هو مهلككم لا الدهر الذي نسبتم ذلك إليه.
وقيل المعنى: لا تسبوا خلقاً من خلق الله فيما لا ذنب له، فإن الله عز وجل هو خالق الدهر. فيكون على حذف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقيل معنى ذلك، فإن الله مقيم الدهر، أي: مقيم أبداً لا يزول.
ثم قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، أي: وما لهم - بقولهم: لا نبعث - من(10/6790)
علم، إنما ينكرون ذلك ويقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا - تخرصاً بغير خبر أتاهم من الله عز وجل. ما هم إلا في ظنون، أي: في شك من ذلك وحيرة.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ}، أي: وإذا تتلى على هؤلاء المكذبين بالبعث آيات الله عز وجل ظاهرات تخبرهم بالبعث بعد الموت. لم تكن حجتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرات تخبرهم بالبعث بعد الموت. لم تكن حجتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قولهم: جئ بآبائنا الذين هلكوا وانشرهم لنا إن كنت صادقاً في قولك: إنا نبعث بعد الموت.
وروى هارون وحسين عن أبي بكر عن عاصم: " ما كان حجتهم " بالرفع.(10/6791)
ثم قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة}، أي: قل لهم يا محمد: الله يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا ثم يميتكم فيها إذا شاء، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، أولكم وآخركم لا شك في ذلك، فلا تشكوا فيه.
ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث لا يعلمون حقيقة ذلك.
ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: سلطان ذلك دون من تدعون من دون الله من الآلهة.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة}، أي: وله الملك يوم تقوم الساعة.
والعامل في " يومئذ ": " يخسر ". وقيل: العامل في " يوم تقوم ": " يخسر " و " يومئذ " بدل منه. فيبتدئ بـ " يوم تقوم الساعة ".
قوله: {يَخْسَرُ المبطلون}، أي: يغبن / ذلك اليوم الذين أبطلوا في الدنيا في أقوالهم ودعواهم أن (لله شريكا) فيخسرون منازلهم في الجنة، ويبدلون بها منازل في النار كانت للمحقين في أقوالهم ودعواهم أن الله لا شريك له فأبدلوا منها بمنازلهم في الجنة. فمفعول " يخسر " محذوف، وهو المنازل.
ثم قال تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا}، أي: وترى يا محمد(10/6792)
ذلك اليوم أهل كل أمة ودين جاثية على رُكَبِها مجتمعة (مستوفرة) من هول ذلك اليوم.
قال مجاهد: جاثية على الركب (مستوفزين): وهو قول الضحاك وابن زيد وغيرهما.
وعن مجاهد أن " الأمة: هنا: الواحد ".
ثم قال تعالى: {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي أهل كل أمة يدعون إلى كتابهم الذي أَمْلَت حفظتهم في الدنيا من أعمالهم وألفاظهم،(10/6793)
يقال لهم: اليوم تجزون ثواب أعمالكم في الدنيا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فالمعنى: كل يجزى بما تضمنه كتابه من عمله في الدنيا، وهو مثل قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
ويدل على صحة هذا التفسير قوله بعد ذلك: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وقيل معنى الآية: كل أمة تدعى إلى كتابها الذي فرض عليها من حلال وحرام فتجازى بما عملت فيه.
قال ابن عباس: يعرض من خميس إلى خميس ما كتبته الملائكة عليهم السلام من أفعال بني آدم. فينسخ منه ما يُجْزَى عليه من الخير والشر، ويُلغى سائره.
ثم قال: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق}، أي يقال لهم في ذلك اليوم إذا عُرِضَت عليهم أعمالهم في كتبهم التي أحصتها عليهم الحفظة: هذا كتابنا ينطق عليكم بما أٍلفنم في الدنيا من الأعمال، قد أحصته عليكم الحفظة، فاقرؤوه.(10/6794)
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: كانت حفظتنا تكتب أعمالهم فتثبتها في الكتب عليكم.
وقال ابن عباس: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، (هو أم) الكتاب فيه أعمال بني آدم.
وقوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، قال هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم من اللوح المحفوظ قبل أن يَعمَلوها، ثم يقابلون بذلك أعمال بني آدم فلا يزيدون شيئاً ولا ينقصون شيئاً قد كتبه الله عز وجل ذلك قبل خلقهم وعلمه وقضاه.
قال ابن عباس " إن الله جل ذكره خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب، فقل: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، بر أو فجور ورزق مقسوم من حلال (أو حرام)، ثم الزم كل شيء(10/6795)
من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كم هو، ثم جعل على العباد حفظة، وعلى الكتاب خزاناً، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عَمَلَ ذلك اليوم فإذا فنى الرزق وانقطع الأثر، وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم (من الخزنة) فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحلكم عندنا شيئاً، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.
قال ابن عباس: " ألستم قوماً عرباً تسمعون الحفظة تقول: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ".
وعنه أيضاً أنه قال: فرغ الله عز وجل مما هو كائن فتنسخ الملائكة ما يعمل يوماً بيوم من اللوح المحفوظ، فيقابل به عمل الإنسان لا يزيد على ذلك ولا ينقص.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " إن الملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون(10/6796)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
فيه أعمال بني آدم ".
وقيل لابن عباس: ما توهمنا إلا أنهم يكتبونه بعدما يعمل. فقال: أنتم قوم عرب والله يقول: إنا كنا نستنتخ ما كنتم تعملون " وهل يكون الاستنساخ إلا من نسخة.
وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ عز وجل القَلَمُ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين - فَكَتَبَ: الدُّنْيَا وَمَا يَكُونَ فِيها مِنْ عَمَلٍ (مَعْمُوٌ بِرٍّ) أَوْ فُجُورٍ، رَطْبٍ أَو يَابِسٍ، فَأَمْضَاهُ عَنِدَهُ (فِي الذِّكْرِ). ثُمَّ قَالَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَلْ تَكُونُ النَّسْخَةُ إِلاَّ مِنْ شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ".
قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} - إلى آخر السورة، فأما الذين وحدوا الله عز وجل وعملوا بطاعته فدخلهم ربهم(10/6797)
في رحمته، يعني: في جنته يوم القيامة.
{ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين}، أي: دخولهم في رحمته يومئذ هو الظفر الظاهر.
ثم قال: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ}، / جواب " أما " محذوف، والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، أي تقرأ عليكم فاستكبرتم عن اتباعها والإيمان بها. والاستكبار في اللغة: الأنفة عن اتباع الحق.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قَالَ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: الكِبْرَيَاءُ رِدَّائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مَنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ".(10/6798)
قوله: {وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}، أي: قوماً تكسبون الآثام والكفر سبحانه، لا تؤمنون بمعادٍ ولا بثواب ولا عقاب.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة}، أي: ويقال لهم يومئذ: وإذا قيل لكم إن وعد الله حق في بعثكم ومجازاتكم على أعمالكم، قلتم مجيبين: ما ندري ما الساعة، أي: ما ندري ما البعث والجزاء تكذيباً منكم بوعيد الله ووعده وإنكار القدرة على إحيائكم بعد موتكم.
{إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً}، أي: وقلتم (ما نظن) أن الساعة آتية إلا ظناً.
{وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أنها جائية.
وتقديره في العربية: إن نحن إلا نظن ظنا ونظيره من الكلام ما حكاه (أبو عمرو) بن العلاء وسيبويه من قولهم: ليس الطيب إلا المسك، (على تقدير: ليس إلا الطيب المسك). هذا مذهب المبرد وتقديره.(10/6799)
وسيبويه يقول (إن " ليس ") في هذا جرت مجرى " ما " فارتفع ما بعد " إلا " كما يرتفع مع " ما "
وقيل التقدير في الآية: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً. وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام: ما ضربت إلا ضرباً، وما ظننت إلا ظناً، إذ فائدة المصدر فائدة الفعل فكما لا يجوز: ما ضربت إلا ضربت، وما ظننت إلا ظننت، كذلك لا يجوز مع المصدر، فكذلك لا تجوز إن نظن إلا نظن.
وإذا لم يجز مع الفعل لم يجز مع المصدر، فلا فائدة في المصدر أن يقع بعد حرف الإيجاب وليس قبله اسم، كما لا فائدة في الفعل أن يقع بعده. فلذلك احتيج إلى تقدير محذوف ليقع بعد الحرف اسم أو فعل قبله اسم.
ثم قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}، أي: وظهر لهؤلاء المكذبين بالبعث عقاب سيئات أعمالهم في الآخرة.(10/6800)
{وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: وحل بهم من عذاب الله عقاب استهزائهم بآيات الله عز وجل في الدنيا.
ثم قال تعالى: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ}، أي: نترككم في نار جهنم كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وتشاغلتم بلذاتكم في الدنيا، واتبعتم أهواءكم.
ثم قال: {وَمَأْوَاكُمُ النار}، أي: ومنزلكم الذي تأوون إليه نار جهنم.
وما لكم من ناصر ينصركم من العذاب فينقذكم منه.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً}، أي: هذا الذي حل بكم من (العذاب والهوان) باتخاذكم آيات الله - (في الدنيا) - هزؤا تسخرون منها.
ثم قال ثم قال: {وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا}، أي: وخدعتكم الحياة الدنيا فآثرتموها على العمل بما ينجيكم من العذاب.
ثم قال تعالى: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ}، لا يخرجون من نار جهنم، ولا يستعتبون فيردون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً ويتوبوا من كفرهم.
ثم قال تعالى: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين}، أي: فلله على(10/6801)
نعمه وأياديه عند خلقه الحمد، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فهو رب السماوات ورب الأرض، أي: مالكها ومالك العالمين، وهم جميع أصناف الخلائق.
ثم قال تعالى: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض}، أي: وله العظمة والسلطان والجلال في السماوات السبع والأرضين السبع.
{وَهُوَ العزيز الحكيم}، أي: وهو العزيز في نقمته من أعدائه، القاهر مل ما دونه، الحكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء لا يقدر (على ذلك) ولا على شيء منه أحد غيره، لا إله إلا هو.(10/6802)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ
المجلد الحادي عشر
الأحقاف - الصف
1429 هـ - 2008 م(10/6803)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
مكية
قوله: {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الآيات 1 - 3].
قد تقدم ذكرهم، والتقدير: هذا تنزيل الكتاب من عند الله العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه.
قال: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}.
أي: ما أحدثنا ذلك وأوجدناه (بعد أن لم يكن) إلا لإقامة الحق والعدل في(11/6807)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
الخلق، (وإلا لأجل مسمى)، فكل ذلك معلوم عنده تعالى متى - يفنيه فيصيره معدوماً عندكم - أمر بفناء ذلك.
ثم قال: {والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ}.
أي: والذين جحدوا توحيد الله سبحانه ولم يؤمنوا بالبعث بعد الموت معرضون عن إنذار الله عز وجل، لا يتعظون ولا يتفكرون في آيات الله سبحانه فيعتبرون ويزدجرون.
قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض}.
أي: قل لهم يا محمد - لهؤلاء الكفار بالله سبحانه من قومك - أرأيتم أيها الناس الآلهة التي تعبدون من دون الله سبحانه:
أروني أي: شيء خلقوا من الأرض، فإن ربي خلق الأرض كلها.(11/6808)
وقيل " من " بمعنى " في "، والمعنى أروني {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} فإن ربي خلق الأرض كلها، فلأي شيء عبدتموها ولأي حجة آثرتم عبادتها على عبادة الله سبحانه الذي خلقها وابتدعها، وخلق كل ما في الأرض من غير أصل.
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات}.
أي: أم لآلهتكم شرك في خلق السماوات السبع فيكون لكم بذلك حجة في عبادتكم إياها، فمن حجتي في إفراد الله بالعبادة أنه خلق السماوات والأرضين وابتدع ذلك من غير أصل.
ثم قال: {ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ}.
[أي: جيئوني بكتاب من قبل هذا] القرآن فيه أن آلهتكم خلقت شيئاً من السماوات والأرضين، أو جيئوني بأثارة من علم بذلك.
" وأثارة " مصدر كالسماحة.
قال ابن عباس:(11/6809)
هو خط كانت تخطه العرب في الأرض، وروى أن نبياً كان يخط بإصبعيه في الأرض السبابة والوسطى، يخط بهما في الرمل ويزجره.
وقال قتادة معناه: أو خاصة من علم تخير أن آلهتكم خلقت شيئاً أو لها شرك في شيء، وهو قول ابن جبير والحسن.(11/6810)
وقيل معناه: أو علم تثيرونه فتستخرجونه.
وقيل معناه: أو تأثرون بذلك علماً عن أحد ممن كان قبلكم، قاله مجاهد.
وعن ابن عباس: " أو أثارة من علم "، معناه: أو بيّنة من الأمر.
وقال أبو عبيدة وأبو بكر بن عياش معناه: أو بقية من علم.
ثم قال: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} /.(11/6811)
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم ما تدعون أن آلهتكم مستحقة أن تعبد.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، أو أَثَرَةٍ من علم، على فَعَلَةٍ وهما لغتان عند الفراء، وحكى الكسائي لغة ثالثة: أو أُثْرَِةٍ على فُعْلَةٍ.
والمعنى عنده: أو بقية من علم، ويجوز أن يكون معناه عنده: أو شيئاً(11/6812)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
مأثوراً من كتب الأولين.
وأثرة بمعنى أثر، كقترة وقتر، والمأثور هو المتحدث به مما صح سنده عن من يحدث به عنه.
قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله}.
[أي: لا أحد أضل ممن يعبد من دون الله] حجراً لا يستجيب له إذا دعاه أبداً، ولا ينفعهم، وتلك الحجارة التي يعبدونها غافلة عن دعاء هؤلاء الكفار، لا تعقل ولا تفهم، ووقعت " من " للأصنام والحجارة، وهي لا تعقل لأنهم جعلوها في عبادتهم إياها بمنزلة من يعقل ويميز، فخوطبوا على مذهبهم فيها.(11/6813)
وقد قرأ ابن مسعود (مَا لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ) كما قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} [مريم: 42]، فأجراه على المعنى، وأتى بـ " ما " التي تكون لما لا يعقل، وقد كان يلزم أن يقرأ: " وهي عن دعائهم غافلة لكنه أتى به على لفظ من يعقل، فمرة رد الكلام على المعنى، ومرة رده على ما جرى في مخاطباتهم ومثل قراءة الجماعة هنا: قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله} [الزمر: 3] وأتى بالهاء والميم وهما لمن يعقل، فجرى الإخبار عن الأصنام على ما يجري في مخاطباتهم، لأنهم أجروها مجرى من يعقل ومن يميز، ولو أتى الكلام على المعنى لقال: " ما نعبدها إلا لتقربنا ". وهذا كله توبيخ من الله جلَّ ذكره للمشركين لسوء رأيهم وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئاً ولا يفهم، وتركهم عبادة من أنعم عليهم بجميع ما هم فيه من النعم، وإليه يلجئون ويتفرعون عند حاجتهم وضروراتهم.(11/6814)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قال: {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً}.
أي: وإذا جمع الناس لموقف الحشر كانت آلهتهم لهم أعداء؛ لأنهم يتبرءون منهم، وهو قوله: {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
لأن الآلهة تقول يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بفعلهم، وهو قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63].
قال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}.
أي: وإذا تقرأ عليهم آيات الكتاب واضحات البرهان أنها حق من عند الله، قالوا للحق لما جاءهم، وهو القرآن: هذا سحر مبين أي: ظاهر لمن تأمله وسمعه، قالوا: هذا القرآن يخدع من سمعه كفعل السحر.
قال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً}.
أي: يقول هؤلاء المشركون: اختلق محمد هذا القرآن. فقل لهم يا محمد: إن افتريته؛ أي: إن اختلقته من عند نفسي كذباً على الله سبحانه فلستم تغنون عني من عذاب الله عز وجل شيئاً إن عذبني على ذلك.(11/6815)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: الله أعلم من كل شيء سواه بما تقولون وما تدعون علي من الكذب.
{كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: كفى الله شاهداً علي وعليكم فيما تقولون وما أقول.
{وَهُوَ الغفور الرحيم} أي: والله ذو الستر على ذنوب من تاب إليه، الرحيم بهم أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها /.
قال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ}.
أي: قل يا محمد: ما كنت أول الرسل فتنكرون رسالتي، بل قد كان قبلي رسل كثير وأنا واحد منهم.
قال المبرد: البدع البديع الأول، ومنه يقال: ابتدع فلان كذا، أي: أتى بما لم يتقدمه إليه أحد قبله، ومنه بديع السماوات: أي: مبتدعهما.(11/6816)
وقوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ}.
قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، أي: لست أدري ما نصير إليه يوم القيامة.
ثم بيّن الله عز وجل حاله فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2] وبيّن للمؤمنين أمرهم فقال: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5] هذا قول ابن عباس.
وقال عكرمة والحسن: هذه الآية منسوخة نسختها سورة الفتح، قالا: فلما نزلت سورة الفتح خرج النبي صلى الله عليه وسلم فبشرهم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال له رجل من المسلمين هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا، فأنزل الله، {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِير} [الأحزاب: 47] وأنزل: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات(11/6817)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الفتح: 5] إلى قوله: {حَكِيماً} [الفتح: 5] فبيّن للمؤمنين ما يفعل بهم أيضاً.
قال قتادة: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، ثم درى ما يفعل به في أول الفتح، وعن الحسن: أنها نزلت في المشركين، وأنه صلى الله عليه وسلم ما يدري ما يصير إليه أمره معهم في الدنيا، وما يصير أمرهم، أيؤمنون أم يكفرون، أيعجلون بالعذاب أم يؤخرون وقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، إنه قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل.
وقيل معناه: ما أدري ما يفترض عليّ وعليكم في الدنيا من الفرائض.
وقيل المعنى: ما أدري ما يحل علي وعليكم من جدب أو رخاء في الدنيا.
وقيل إنها نزلت في رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فسرت أصحابه فاستبطئوا تأويلها فأنزل الله عز وجل: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ}.
واختار الطبري وغيره أن يكون هذا في أمر الدنيا دون حال الآخرة لأنه لو(11/6818)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
كان لا يدري ما يفعل به ولا بهم في الآخرة لكان ذلك حجة لهم لأنهم يقولون له: فعلى ما نتبعك إذا كنت لا تدري على أي حال نصير غداً في القيامة.
وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} أي: ما اتبع فيما أمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله عز وجل إلي وأمره إياي.
{وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم عقاب الله عز وجل على كفركم.
{مُّبِينٌ} أي: قد بينت لكم إنذاري لكم ونصحي إياكم.
قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء القائلين للقرآن لما جاءهم هذا سحر مبين، إن كان هذا القرآن من عند الله أنزله علي وكفرتم به.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} يعني موسى عليه السلام شهد على مثل القرآن، فالتصديق أنه من عند الله هو التوراة.(11/6819)
فشهد على التوراة أنها من عند الله سبحانه، والقرآن مثلها. قاله مسروق.
وقال الشعبي: زعم قوم أنه عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، والحواميم مكية، ولكنه موسى عليه السلام، وروى مالك عن أبي هريرة عن عامر بن(11/6820)
سعد بن أبي وقاص أنه قال: " ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض [إنه] من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ} ".
وقال ابن عباس: " كان رجلاً من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم [ قال]: إنّا نجده في التوراة، وكان أفضل رجل فيهم وأعلمهم فخاصم اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، وتراضوا بحكم عبد الله بن سلام وقالوا: إن شهد لك آمنا بك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله مكتوباً في التوراة والإنجيل؟(11/6821)
فقال: نعم فاعترضت اليهود وأسلم عبد الله، وهو قوله: {فَآمَنَ واستكبرتم} ".
قال مجاهد: هو عبد الله بن سلام، وهو قول قتادة وابن زيد والحسن.
وعن الشعبي أنه قال: هو رجل من أهل الكتاب غير عبد الله بن سلام.
وذهب ابن سيرين إلى أن هذه الآية مدنية جعلت في سورة مكية فيصح أنه عبد الله بن سلام لأن إسلامه (كان بالمدينة).
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: جعل جزاؤهم على كفرهم ترك توفيقهم للهدى.(11/6822)
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم}.
فقوله: " وَاسْتَكْبَرْتُمْ " معطوف على وكفرتم. وقوله: " على مثله ": معناه عليه، كما قال:
{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]: أي: فإن آمنوا / بمثل القرآن وجواب " أرأيتم " محذوف.
دلّ عليه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} والتقدير / أضلكم الله بفعلكم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وقيل التقدير فآمن واستكبرتم أليس قد ظلمتم، إن الله لا يهدي [القوم] الظالمين.
و {أَرَأَيْتُمْ} لفظ موضوع للسؤال والاستفتاء، ويكون للتنبيه ولذلك لا يقتضي مفعولاً به.(11/6823)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}.
من جعل الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من مؤمني بني إسرائيل، كان المعنى عنده: وقال الذين كفروا من بني إسرائيل للذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كان المعنى عنده: وقال مشركو قريش لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم: لو كان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وهذا التأويل قول قتادة.
قال: ذلك ناس من المشركين، قالوا: نحن أعز به ونحن ونحن، فلو كان الإيمان(11/6824)
بمحمد صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً وأصنافهم، فأنزل الله جل ذكره: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 104].
قال الحسن: أسلم " أسلم " " وغفار " فقالت قريش: لو كان خيراً ما سبقونا إليه.(11/6825)
وقال الزجاج: أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، فقال بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد: لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيراً ما سبقونا إليه، إذ نحن أعز منهم وإنما هؤلاء رعاة البهم.
وفي قوله: {سَبَقُونَآ} خروج من خطاب إلى غيبة، ولو جرى على صدر الكلام في الخطاب لقال: ما سبقتمونا، ولكنه كلام فصيح حسن كثير في كلام العرب والقرآن، ويجوز أن يكون قال: {مَّا سَبَقُونَآ} على أن يكون قاله الكفار لبعض المؤمنين،(11/6826)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
فيكون على بابه لم يخرج من شيء إلى شيء، فقيل: إنه قول وقع في أنفسهم ولم يقولوه ظاهراً بأفواههم.
وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ}.
أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به {فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ}.
أي: هذا القرآن أكاذيب من أخبار الأولين قديمة.
قال: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً}.
أي: ومن قبل هذا القرآن كتاب موسى أنزلناه عليه، " فالهاء " تعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] وهو التوراة إماماً لبني إسرائيل يأتمون به، ورحمة لهم.
ثم قال: {وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} يعني: القرآن مصدق للتوراة.
وقيل: مصدق لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.(11/6827)
وقوله: {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} نصبه على الحال من المضمر في {مُّصَدِّقٌ}.
وقيل: هو حال من {كِتَابٌ} لأنه لما نعت قرب من المعرفة فحسنت الحال منه.
وقيل: هو منصوب " بمصدق "، وفيه بعد؛ لأنه يصير المعنى أن القرآن يصدق نفسه، فيصير التقدير: وهذا القرآن مصدق نفسه؛ لأن اللسان العربي هنا هو القرآن، وهذا المعنى ناقص إذا تأملته.
وقيل: " اللسان " هنا عني به محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا المعنى يحسن نصب " لسان " " بمصدق "، كأنه قال: وهذا القرآن مصدق محمداً صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون في الكلام حذف مضاف. والتقدير: وهذا كتاب مصدق صاحب لسان عربي، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول حسن وتأويل صحيح.
ثم قال: {لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} أي: لينذر [أهل] الكتاب الذين ظلموا.(11/6828)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
وقيل معناه: لينذر محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن الذين ظلموا، وهذا التأويل على قراءة من قرأ لينذر [بالياء، فأما على قراءة من قرأ بالتاء فلا يكون إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لتنذر يا] محمد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله سبحانه.
{وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ}.
أي: وهو بشرى للذين أطاعوا الله عز وجل فأحسنوا لأنفسهم في فعلهم.
قال تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}.
أي قالوا: لا إله إلا الله، ثم استقاموا على ذلك فأطاعوا الله عز وجل فأحسنوا لأنفسهم في فعلهم حتى ماتوا فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة، ولا هم يحزنزن على ما خلفوا بعدهم في الدنيا.
قال: {أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا}.(11/6829)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
أي: هؤلاء الذين تقدمت صفتهم هم أصحاب الجنة ماكثين فيها جزاء لهم من الله عز وجل بأعمالهم الصالحة.
قال تعالى {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ [كُرْهاً]}.
أي: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسنى في صحبته إياهما أيام الدنيا، والبر بهما حياتهما وبعد مماتهما لما لقيانه في حمله وتربيته، ثم بيّن ما لقيا منه من التعب فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} أي: بمشقة، ووضعته بمشقة.
قال أبو محمد (مؤلفه رضي الله عنهـ): فبر الوالدين أعظم ما يتقرب به إلى الله جل ذكره، وعقوقهما من أعظم الكبائر المهلكات، وقد تقدم القول في ذلكما في " سبحان " وبيّنه الله عز وجل بقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23].
فنهى الله عز وجل الولد أن يقول أف إذا شم منهما رائحة يكرهها، فالنهي لما فوق ذلك أعظم، وهذا باب مختصر في الحض على بر الوالدين.
روى ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل قال: " الإيمان بالله،(11/6830)
والصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله " ".
وروى مورق العجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هل تعلمون نفقة أفضل من نفقة في سبيل الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: نفقة الولد على الوالدين ".
وروى أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة الوالدين، ودعوة المسافر [ودعوة] المظلوم ".(11/6831)
وفي رواية أخرى: " ودعوة الإمام العادل في موضع، ودعوة المظلوم ".
قال الحسن: دعاء الوالدين للولد نجاة، ودعاؤهما عليه استيصال.
قال: وعن المسيب " أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد يوماً المنبر فلما وضع رجله على الدرجة الأولى قال: آمين، ثم وضع رجله على الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم وضع رجله على الدرجة الثالثة فقال: آمين، فلما فرغ من خطبته ذكروا له ذلك فقال: إن جبريل استقبلني حين وضعت رجلي على الدرجة الأولى، فقال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، فلما صعدت إلى الثانية قال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، فلما صعدت إلى الثالثة، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين ".(11/6832)
وروى مجاهد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله، ودعوة الوالدين ".
وعن الحسن " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إني حججت، وإن والدتي قد آذنت لي في الحج، فقال [له]: " لقعدة معها تقعدها على مائدتها أحب إلي من حجتك " ".
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أبر البر أن يصل الرجل أهل(11/6833)
ود أبيه بعده ".
وقال عمر رضي الله عنهـ " من أراد أن يصل أباه بعد موته فليصل إخوان أبيه بعده ".
وعن النبي عليه السلام أنه قال: " ودك ود أبيك لا تقطع من كان يصل أباك فيطفأ بذلك نورك ".
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، واليمين الغموس ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: وكيف يسب الرجل والديه، قال: يسب أبا(11/6834)
الرجل، فيسب أباه ويسب أمه [فيسب أمه] ".
وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُدْمِنُ خَمْرٍ، وَمُكَذِّبٌ بِقَدَر ".
قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجافي الرجل أباه عند السلطان، يعني يخاصمه، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأم أعظم حق في البر والطاعة من(11/6835)
الأب ".
وعن الحسن أنه قال: (ثلثا البر الطاعات للأم والثلث للأب).
وروى أبو هريرة: " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق مني بحسن الصحبة، قال: أمك، قال ثم من، قال: أمك ثلاثاً، قال: ثم من؟ قال: أباك ".
وقد قرن الله جل ذكره شكره بشكر الوالدين فقال: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 13].
وقال كعب الأحبار: قال لقمان لابنه " يا بني من أرضى والديه فقد أرضى الرحمن ومن أسخطهما فقد أسخط الرحمن يا بني إنما الوالدان باب من أبواب الجنة،(11/6836)
فإن رضيا مضيت إلى الجنان وإن سخطا حجبت ".
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوك فيعتقه ".
وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان [بوالديه إِحْسَاناً]}.
يقال إن الإنسان ها هنا إنسان بعينه، وليس كل إنسان حمله وفصاله ثلاثون شهراً، بل يزيدون وينقصون، وليس كل من بلغ أشده يقول: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ}.
وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. والذي عليه أكثر الناس أنها عامة على الأكثر من الناس في الحمل والفصال.
وقوله: {قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ}.
هذه صفة المؤمن وما يجب له أن يقول، فهو وإن لم يقل ذلك فذلك اعتقاده(11/6837)
ومذهبه، وذلك ما يجب له أن يقول.
قال (قتادة والحسن ومجاهد): المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة، و " حُسْناً " في مصاحف الحرمين والشام والبصرة بغير ألف قبل الحاء، وعلى ذلك أجمع القراء في سورة " العنكبوت "، وهو في مصاحف الكوفيين بألف، وعلى ذلك أجمع القراء في قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً}، فالقراءتان متكافئتان، إذ في كتاب الله لكل واحدة مثال، فجمع عليه.
وقرأ عيسى بن عمر " حَسَناً " بفتح الحاء والسين على معنى فعلاً(11/6838)
حسناً، ولا يجوز حُسْنَى بغير تنوين؛ لأن هذا لم تتكلم به العرب بألف التأنيث إلا بالألف واللام في أوله نحو الحُسْنَى والفُضْلى، وإِحْسَانٌ مصدر أَحْسَن، وَحَسَنَ بمعناه، وَكَرْهاً مصدر في موضع الحال.
وزعم أبو حاتم أن القراءة بفتح الكاف لا تحسن؛ لأن الكرة بالفتح: الغصب والقهر، وبالضم المكروه، فبالضم يتم المعنى عنده، وذكر أن بعض العلماء سمع رجلاً يقرأ بفتح الكاف فقال له لو حَمَلته كرها (لَرَمَتْ بِهِ) لأن الكره عنده الغضب والقهر.
وهما عند أكثر العلماء غيره لغتان مشهورتان بمعنى واحد، ومعناه المشقة.(11/6839)
والفتح عند المبرد وسيبويه أولى به لأنه المصدر بعينه.
وقد حكى سيبويه والخليل أن كل فعل ثلاثي فمصدره فَعْلٌ، واستدلا على ذلك أنك إذا رددته إلى المرة الواحدة جاء مفتوحاً، تقول: قَامَ قَوْمَةً، وَذَهَبَ ذَهْبَةً، والذهاب عندها اسم للمصدر، لا مصدر، فكذلك الكره بالضم إنما هو اسم للمصدر، والكره بالفتح هو المصدر.(11/6840)
ثم قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً}.
أي: ومدة حمل أمه له وفصالها إياه من الرضاع ثلاثون شهراً. وهذا مما استدل به العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه قد قال تعالى في سورة البقرة: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فأخبر بمدة الرضاعة الكاملة، فالذي يبقى من الثلاثين شهراً التي ذكر الله هنا هو ستة أشهر فهي للحمل.
وقرأ الجحدري " وَحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ ". ورويت عن الحسن.
والفصال والفصل مصدران. يقال فَصَلَهُ فِصَالاً وَفَصْلاً، والفَصْلُ على مذهب سيبويه هو المصدر، والفِصَال اسم للمصدر على ما تقدم.
وهذا النص مخصوص غير عام، إنما هو في أكثر الناس لأن منهم من يقيم في(11/6841)
الحمل أكثر من ثلاثين شهراً، والفصل بعد ذلك، وقد قيل إنه إنسان بعينه.
ثم قال تعالى: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} " أشُدَّهُ " عند سيبويه جمع شدة، وقد ذكر شرحه في " يُوسُف " بأبين من هذا.
قال ابن عباس: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء أربعون سنة، والعمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة.
وقال الشعبي: الأشد بلوغ الحُلُم، وذلك إذا كتبت لك الحسنات وعليك السيئات.
وقيل: الأشد ثماني عشرة سنة.
ثم قال: {قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ (وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا)}.
أي: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حق الله في بره والديه، أَعِني على شكر نعمتك التي أنعمت علي، وتعريفي توحيدك وهدايتك إياي(11/6842)
للعمل بطاعتك وعلى والدي من قبلي.
وَأَصْلُ أَوْزِعَنِي: مِن وَزَعْتُ الرَجُل على كذا: إِذَا دَفَعْتُه إِلَيْهِ.
وكان أبو بكر بن عياش يقول هو أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ، فلم يكفر له أب ولا أم بل أسلما. قال أوزعني: معناه ألهمني، روي " أنه لما بلغ أشده ثماني عشرة سنة صحب النبي صلى الله عليه وسلم والنبي عليه السلام ابن عشرين سنة، وسافر معه إلى الشام في تجارة فنزلا منزلاً فيه سدرة، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب بجوار الموضع يقال له بحيرى فسأله أبو بكر رضي الله عنهـ عن الدين وتحدث معه، فقال له الراهب: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال له أبو بكر: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له الراهب: هذا والله نبي، والله ما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي عليه السلام وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة، آمن به وصدّقه وصحبه، ففيه نزلت الآيات.(11/6843)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
ثم قال تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه}.
أي: وأوزعني أن أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني. {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي}.
أي: وأصلح لي أموري في ذريتي الذين وهبتم لي بأن تجعلهم على الهدى واتباع مرضاتك.
{إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} أي: تبت إليك من الذنوب التي سلفت مني.
{وَإِنِّي مِنَ المسلمين} أي: من الخاضعين لك بالطاعة، المسلمين لأمرك ونهيك ثم قال: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ}.
أي: والذين هذه صفتهم يتقبل الله منهم أحسن أعمالهم فيجازيهم عليها ويصفح عن سيئاتهم. . . وقوله: {في أَصْحَابِ الجنة}.
أي: يفعل بهم ذلك فعله في أصحاب الجنة.
ثم قال: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ}.
أي: وعدهم وعد الحق لا شك فيه أنه موف لهم بذلك.
قوله: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} إلى قوله: (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [الآيات 16 - 24].(11/6844)
هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه عند بعض العلماء، ورد ذلك بعضهم قال: هذا يبطله قوله: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول}، فقد حقت عليه وعلى أمثاله كلمة العذاب بهذه الآية، وأن عبد الرحمن من أفاضيل المؤمنين.
وقال ابن عباس: نزلت في ابن لأبي بكر الصديق قال له: أتعدني أن أبعث بعد الموت، منكراً لذلك، ولم يذكر اسمه.
وروي أن معاوية لما كتب إلى مروان أن يبايع الناس ليزيد(11/6845)
قال عبد الرحمن ابن أبي بكر: جئتم بها هرقلية (فقال له مروان: يا أيها الناس) إن هذا الذي قال الله فيه: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} الآية، فغضبت عائشة لما بلغها ذلك وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه - تعني الحكم - طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتقدير في الآية، والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت أف لكما، أي: قَذَراً لكما أتعدانني أن أخرج من قبري بعد الموت.
وقرأ الحسن: أن أخرج، جعل الفعل له.
قال قتادة: هذا عبد سوء عاق لوالديه فاجر.
وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي}.
أي: أتعدانني في أن أبعث بعد الموت وقد مضت قبلي القرون فهلكت، ولم يبعث أحد منهم بعد موته، فكيف أبعث أما ولم يبعث أحد ممن هلك قبلي، فتوهم(11/6846)
المخذول أن لما لم يبعث من مات قبله، لا يبعث هو، ولم يدر أن للجميع أجلاً ووقتاً يبعثون فيه.
ثم قال: {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله}.
أي: ووالداه يصرخان الله عليه، ويقولان ويلك آمن بالله وبالبعث، وصدّق بوعد الله ووعيده، إن وعد الله حق، إنه يبعث الموتى ليجازيهم على أعمالهم، فيقول لهما مكذباً لقولهما: ما هذا إلا أساطير؛ أي: ما تقولان لي إلا أخباراً / من أخبار الأولين باطلة.
{يَسْتَغثِيَانِ الله} تَمَامٌ عند نافع، وَتْلَكَ آمِنِ التمام عند يعقوب وغيره(11/6847)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
" وَحَقٌ "، هو التمامُ عند غيرهما؛ لأنه من تمام القول الذي قالا له وهو الصواب إن شاء الله ".
قال: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول}.
أي: وجبت عليهم كلمة العذاب في الآخرة مثل ما وجبت للأمم المتقدمة المنكرة للبعث، الضالة عن الهدى من الجن والإنس كفعل هذا الذي تقدم ذكره.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ}.
أي: مغبونين ببيعهم الهدى بالضلالة، والجنة بالنار.
وهذه الآية تدل على موت الجن كما يموت الإنس أمة بعد أمة، لأنه قال: {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس}، وهي تدل على مجازاة الجن كما يجازي الإنس، ودخول الجن النار والجنة كما يدخلها الإنس، وليس المراد بقوله: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} عبد الرحمن الذي نزلت فيه الآية، وإنما المعنى، من عمل مثل هذا الذي ذكر عنه، إنكاراً للبعث فهو الذي حق عليه العذاب، فأول الكلام خاص، وآخره عام.
وروى قتادة عن الحسن أنه قال: الجن لا يموتون، قال قتادة: فاحتجت عليه(11/6848)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
بهذه الآية.
قال: {وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ} أي: ولكل هذين الفريقين من الجن والإنس من أعمالهم منازل ومراتب عند الله يوم القيامة في الجنة أو في النار.
قال ابن زيد: درج أهل النار يذهب سفالاً، ودرج أهل الجنة يذهب علواً.
ثم قال: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعمالهم} أي: ولنعطي جميعهم أجور أعمالهم من حسن وسيء.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: لا يزاد على أحد ذنب غيره، ولا ينقص أحد من حسن عمله.
والوقف عند بعضهم {مِّمَّا عَمِلُواْ}، على أن تكون " اللام " متعلقة بفعل مضمر بعد هذا، والتمام: يظلمون.
قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار}.
أي: واذكر يا محمد يوم يعرض الذين كفروا على نار جهنم.
وقيل العامل في " يوم " فعل مضمر بعده، والتقدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم}، فيقال هو العامل في " يوم " والمعنى: يقال لهم(11/6849)
أذهبتم طيباتكم في الدنيا وتطلبون النجاة اليوم.
(وذكر بعض العلماء أن معناه: أذهبتم طيباتكم في الدنيا لأنفسكم، ولم تعطوا منها الحاجة، وتؤثروا أهل الفقر لوجه الله عز وجل.
وأكل الطيبات من المطاعم حلال غذا طاب أصلها، يقول الله جل ذكره: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] فأخبرنا أن الطيبات من الرزق مباحة للمؤمنين في الدينا، وأنها خالصة لهم يوم القيامة في الآخرة إذ يشاركهم فيها في الدنيا الكفار، فلا شيء فيها للكفار في الآخرة).
ويروى أن عمر رضي الله عنهـ رأى جابر بن عبد الله ومعه إنسان يحمل عنه شيئاً(11/6850)
فقال: " ما هذا؟ قال: لحم اشتريته بدرهم فقال: أوكلما قدم أحدكم اشترى لحماً بدرهم والله لو شئت أن أكون أطيبكم طعاماً، وأينعكم ثوباً لفعلت، ولكن الله يقول: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} فَأَنَا أَتْرُكُ طَيِّبَاتِي ".
وروى قتادة عن أبي هريرة أنه قال: " إنما كان طعامنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم الأسودين: الماء والتمر، والله ما كنا نرى سراءكم هذه/ ولا ندري ما هي ".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه دخل على أهل الصفة، وهو مكان يجتمع فيه فقراء المسلمين وهو يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال: أنتم غير من يغدوا أحدهم في حلة ويروح في أخرى، ويغدا عليه بتحفة ويراح عليه بأخرى ويستر(11/6851)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
بيته كما تستر الكعبة، قالوا نحن يؤمئذ خير قال: بل أنتم اليوم خير ".
ثم قال: {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}.
أي: بتكبركم في الدنيا على ربكم/ ومخالفتكم أمره ونهيه بغير ما أباح لكم وبفسقكم.
قال: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف}.
أي: واذكر يا محمد لقومك أخا عاد وهو هود إذ أنذر قومه كما أنذرت أنت قومك.
والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلاً.
قول المبرد، " هو رمل مكثتن ليس بالعظيم وفيه أعواج يقال أحقوقف(11/6852)
الشيء: إذا اعوج حتى يلتقي طرفاه. كما قال: " سماوة الهلال حتى احقوقف ".
قال ابن عباس: الأحقاف جبل بالشام، وقاله الضحاك.
وعن ابن عباس أنها واد بين عمان ومهرة.(11/6853)
وقال ابن إسحاق. كانت الأحقاف ما بين عمان إلى حضرموت واليمن كلها. وقال مجاهد: الأحقاف: الرمل.
وقال قتادة: هي رمال مشرفة على البحر بالشحر، والشحر ما يقرب من عدن.
وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله}.
والنذر جمع نذير، والنذير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بمعنى منذر.
وقيل: النذر هنا اسم المصدر بمعنى الإنذار، وليس بجمع.(11/6854)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
وقال الضحاك: لم يبعث الله عز وجل رسولاً إلا بن يعبد الله وحده.
ثم قال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ [عَظِيمٍ]}.
قال لهم هود ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم إن عبدتم غير الله سبحانه عذاب يوم عظيم هوله وهو يوم القيامة.
قال: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}.
أي: قال قوم هود وهم عاد لهود {جِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} وتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، فأْتنا بما تعدنا من العذاب إن كنت صادقاً في قولك أنك تخاف علينا عذاب يوم عظيم.
قال {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله}.
أي: قال لهم هود إنما العلم بمجيء وقت العذاب إليكم على كفركم عند الله لا علم لي من ذلك إلا ما علمني ربي.(11/6855)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
{وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} [أي]: وأنا أبلغكم ما أمرت أن أبلغكم إياه، إنما أنا رسول لا علم عندي من الغيب.
{ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}.
مواضع حظوظكم فلا تعرفون ما يضركم ولا ينفعكم فتستعجلون العذاب لجهلكم بقدرة الله سبحانه.
قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}.
أي: فلما رأت عاد العذاب الذي استعجلته سحاباً عارضاً مستقبلاً نحو أوديتهم.
{قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي: ظنوه أنه مطرٌ يأتيهم بخير.
قال ابن عباس: كان لقوم عاد واد إذا أمطروا من نحوه وأتاهم الغيم من قبله كان ذلك العام عام خصب متعالم فيهم، فبعث الله عز وجل عليهم العذاب من قبل ذلك الوادي، فجعل هو يدعوهم ويقول: إن العذاب قد أظلكم فيقولون:(11/6856)
كذبت هذا عارض ممطرنا، ونظلت الريح فنسفت الرعاة فجعلت تمر على الغنم ورعاتها حتى تغرقها، ثم تحلق بهم في السماء حتى تقذفهم في البحر، ثم نسفت البيوت حتى جعلتها كالرميم.
قال قتادة: ذكر لنا أنه حبس عنهم المطر زماناً فلما رأوا العذاب مقبلاً ظنوه مطراً يأتيهم وقالوا: كذب هود، [فلما رآه هود] قال لهم: بل هو ما استعجلتم به من العذاب، هو ريح فيها عذاب أليم، فروي أن الريح كانت تلقى الفسطاط. وتأتي بالرجل الغائب فتلقيه وتحل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة.
قال ابن عباس: كان لعاد واد إذا جاء المطر أو الغيم من ناحيته كان غيثاً فأرسل الله عز وجل عليهم العذاب من ناحيته، فلما وعدهم هود بالعذاب ورأوا العارض قالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال لهم هود: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.(11/6857)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}. أي: تهلك الريح كل شيء أمرت بهلاكه.
قال ابن عباس: ما أرسل الله عز وجل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا ونزع خاتمه /.
ثم قال: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} أي: فأصبح قوم هود لم يبق إلا مساكنهم.
ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} أي: كما جزينا عاداً بكفرهم كذلك نجزي قومك يا محمد إن تمادوا في غيّهم.
قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ}.
أي: ولقد مكنا عاد الذين أهلكوا بكفرهم فيما لم نمكن لكم أيها القوم فيه من الدنيا.
قال قتادة: أنبأنا الله عز وجل بأنه قد مكنهم / في شيء وام يمكنا.
قال المبرد: " ما " ها هنا بمعنى " الذي " و " إن " بمعنى " ما " وقيل إنَّ " إن "(11/6858)
زائدة، ولا يعرف زيادة " إن " إلا في النفي، وإنما تكون زائدة في الإيجاب " أن " المفتوحة.
ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً}.
أي: خلقنا لمن تقدم من عاد سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم وأبصاراً يبصرون بها آيات ربهم، وأفئدة أي: قلوب يعقلون بها الحق ويميزونه من الباطل، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا نفعهم، إذ لم يستعملوه فيما أمروا به مما يقربهم إلى عز وجل إذ كانوا يجحدون بآيات الله، أي: لم ينفعهم ما أعطوا من الجوارح ولا وصلوا بها إلى ما يقربهم إلى الله إذ كانوا يكفرون بآيات الله ورسله.
ثم قال: {وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
أي: وحلّ عقاب استهزائهم بالرسل، وهذا كله تهديد ووعيد من الله(11/6859)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
جلّ ذكره لقريش وتحذير لهم، أي: يحل بهم ما حل بعاد. وأن يبادروا بالتوبة قبل النقمة.
قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى}.
أي: من أهل القرى، هذا مخاطبة لأهل مكة من قريش وغيرهم أعلمهم الله أنه قد أهلك أهل القرى التي حولهم بكفرهم كعاد وثمود، وأنه محل بهم مثل ذلك إن تمادوا على كفرهم.
ثم قال: {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
أي ووعظناهم بأنواع العظات وذكرناهم بضروب من الذكر ليرجعوا عن كفرهم، فأبوا إلا الإقامة على الكفر فأهلكناهم، ففي الكلام حذف، وهو معنى ما ذكرنا من إقامتهم على الكفر وهلاكهم على ذلك.
قال: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله [قُرْبَاناً آلِهَةَ}.
أي: فهلا نصر هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله] وتقربوا بعبادتهم إلى الله بزعمهم، بل حلّ بهم الهلاك، ولا ناصر لهم من دون الله، وهذا احتجاج من الله(11/6860)
لنبيه عليه السلام على مشركي قومه، أن الآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تنقذ من عبدها من ضر، فكذلك أنتم يا قريش في عبادتكم هذه الأصنام، إن أتاكم بأس الله ونقمته، لم تنقذكم آلهتكم منه كما لم تغن عمن كان قبلكم.
ثم قال: {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
أي: بل تركتهم آلهتهم فأخذت غير طريقهم إذ لم يصبها ما أصابهم من العذاب إذ هي حجارة وجماد فلم يصبها ما أصابهم فذلك ضلالها عنهم.
ثم قال: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ}.
أي: وهذه الآلهة التي ضلّت عنهم هي كذبهم وافتراؤهم في قولهم أنها تقربنا إلى الله زلفى، و " الإِفْكُ " هنا مصدر في موضع المفعول، والمعنى وهذه الآلهة مَأفُوكُهُمْ: أي مكذوبهم لأن الإِفك إنما هو فعلُ الإفك، " وَقُرْبَاناً " منصوب " باتخذوا " و " آلِهَةٌ " بدل منه، ويجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون مفعولاً من أجله، وتنصب الآلهة باتخذوا في الوجهين.
وقرأ ابن عباس: (وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ)، جعله فعلاً ماضياً، فتكون " ما " في قوله: {وَمَا كَانُواْ} في موضع رفع عطف على المضمر في إفكهم، والمعنى: وذلك أرداهم(11/6861)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
وأهلكهم هو وما كانوا يفترون؛ أي: أهلكهم ذلك هو وافتراؤهم، وفيه قبح حتى يؤكده المضمر المرفوع.
ويجوز أن تكون " ما " في موضع رفع عطفاً على ذلك، والتقدير: وذلك افتراؤهم أهلكهم وأظلهم، " وما " في موضع رفع على قراءة الجماعة عطفاً على " إفكهم " وهي وما بعدما مصدر فلا تحتاج إلى عائد فإن قيل جعلتها بمعنى: " الذي " قدرتها محذوفة، والتقدير وما كانوا يفترونه.
وحكى الزجاج: وذلك أفكهم بالمد: بمعنى أكذبهم.
قال: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن}.
أي: واذكر يا محمد إذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، وصرفه إياهم هو الرجم الذي حل بهم بالشهب / من السماء عند الاستماع على عادتهم، فلما(11/6862)
رجموا بالشهب ومنعوا مما لم يكونوا يمنعون منه قالوا: إن هذا الحادث (حدث في السماء لشيء) حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون ذلك الحادث في الأرض حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً من سوق عكاظ يصلي بأصحاب الفجر، فسمعوا قراءته وذهبوا إلى أصحابهم منذرين، وهذا قول ابن جبير.
قال ابن عباس: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وكانت/ الجن تقعد من السماء مقاعد للسمع فلما بعث الله نبيه عليه السلام حرصت السماء حرصاً شديداً، فرجمت الشياطين فأنكروا ذلك، وقالوا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً.
فقال إبليس اللعين: لقد حدث في الأرض حدث فاجتمع إليه الجن، فقال: تفرقوا في الأرض فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء، وكان أول بعث بعثه ركباً من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وسادتهم، فبعثهم الله إلى(11/6863)
تهامة فاندفعوا حتى بلغوا وادي نخلة فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة فاستمعوه فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا، ولم يكن النبي عليه السلام يعلم بهم، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين، قال ابن عباس: وكانوا سبعة من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
وقال (زر بن حبيش): كانوا تسعة، قال ابن عباس: لم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن: لما أتوا ليستمعوا أعلم الله نبيه عليه السلام بمكانهم.(11/6864)
وقال قتادة: بل أمر رسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم، وروى عنه أنه قال لأصحابه: " أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني فأطرقوا، ثم قالها لهم ثانية وثالثة فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب (الحجون) ثم خط رسول الله صلى الله عليه وسلم ( على عبد الله خطاً). قال عبد الله: فجعلت الجن تهوي وأرى أمثال النسور تمشي، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا نبي الله ما اللغط الذي سمعتُ؟ قال: اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم فقضى [فيه] بالحق ".
" وروى جابر بن عبد الله وابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم سورة الرحمن فكلما قرأ النبي: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالت الجن: لا بشيء من آلاء نعمائك(11/6865)
نكذب ربنا فلك الحمد "
ولما قدم ابن مسعود الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هم نفر من الأعاجم، فقال: ما رأيت للذين قرأ عليهم نبي الله من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء. وروى معمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم خط على ابن مسعود خطاً ثم قال له: لا تخرج منه، ثم ذهب إلى الجن فقرأ عليهم القرآن ثم رجع إلى ابن مسعود فقال له: هل رأيت شيئاً؟ قال: سمعت لغطاً شديداً. قال: إن الجن تدارت في قتيل بينهما فقضى فيه بالحق.(11/6866)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
وسألوه الزاد، فقال: كل عظم لكم غداء، وكل روثة لكم خضرة، فقالوا يا رسول الله يقدرها الناس علينا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بأحدهما " وقد كثر الاختلاف في حديث ابن مسعود، وكثير من العلماء روى أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة أحد، وروى ذلك عن ابن مسعود قال: ما شهدها منا أحد، وعنه ما شهدها أحد غيري، وكانت قراءته عليهم بالحجون وقيل بنخلة، وأكثر المفسرين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلهم إلى قومهم لينذروهم عذاب الله، ومنهم من قال: بل مضوا من غير أمره وما علم عليهم إلا بعد ذلك.
قوله: {قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً [أُنزِلَ]} إلى آخر السورة [الآيات 29 - 34].(11/6867)
أي: قالت الجن الذين استمعوا القرآن لقومهم إذ رجعوا إليهم يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه، أي: مصدقاً للتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله يهدي إلى الحق؛ أي يرشد مستمعه وقابله إلى الحق وإلى طريق مستقيم لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم، ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى.
ثم قال حكاية عن قول / الجن لقومهم {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ}.
أي: أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعو إليه من طاعة الله وآمنوا به. {وَآمِنُواْ بِهِ} أي: وبرسوله، وهو الداعي، فالهاء في " به " تعود على الداعي وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضوهم على الإيمان برسول الله وطاعته ووعدهم بالمغفرة على ذلك.(11/6868)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
فقالوا: {أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي: يسترها عليكم في الآخرة.
{وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: وينقذكم يوم القيامة من عذاب مؤلم إن أجبتموه وآمنتم به.
ثم قال / عنهم: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله}.
يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، أي: قالوا لقومهم من لا يجب محمداً ولا يؤمن به {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض} أي: ليس بمعجز ربه بهربه في الأرض إن أراد عقوبته؛ لأنه حيث كان في قبضة ربه وسلطانه.
{وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ} أي: ليس لمن لا يجب داعي الله من دون الله أولياء ينقذونه من عذابه.
{أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: أولئك الذين لا يجيبون داعي الله ولا يؤمنون به في جور ظاهر عن قصد الحق وإصابة الصواب.
قال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى}.
أي: أوَلم يعلم قومك يا محمد أن الله الذي خلق السماوات والأرض وابتدعهما على غير مثال، قادر على أن يحيي الموتى فيردهم أحياء كما كانوا، فخلق(11/6869)
السماوات والأرض وإيجادهما على غير مثال أعظم في القدرة من إعادة شيء قد كان له مثال على لطافة خلقه.
{بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: بلى يقدر على ذلك، إنه على كل شيء يريد قادر، لا يمتنع عليه شيء أراده.
وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق والجحدري: يقدر على أن يحيي الموتى.
وقرأ ابن مسعود " قادر " بغير باء.
واختار بعض النحويين " يقدر " على " بقادر "؛ لأن الباء إنما تدخل في النفي، وهذا إيجاب.(11/6870)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
وروى ذلك عن أبي عمر والكسائي، والباء " إنما دخلت عند النحويين لدخول لم " في أول الكلام. وقال علي بن سليمان: تدخل " الباء " في النفي، فإذا دخل على النفي استفهام لم يغيره عن حاله، فتقول: " أما زيد بقائم " كما تقول: " ما زيد بقائم ".
قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار}.
أي: واذكر يا محمد يوم يعرض الذين كفروا - وأنكروا البعث والجنة والنار - على نار جهنم، فيقال: أليس هذا بالحق وقد كنتم تكذبون به في الدنيا؟ فيجيبون ويقولون: بل هو الحق وربنا، فقال [لهم]: فذوقوا العذاب الآن بكفركم به وجحودكم إياه في الدنيا.(11/6871)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
قال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل}.
أي: فاصبر يا محمد على ما تلقاه من قومك كما صبر أولوا العزم من الرسل من قبلك على ما لقوا من قومهم من التكذيب والمكاره، فصبر نبيّه على ما يناله من قومه من الأذى والمكروه وعلّمه أن ذلك قد لقيه الرسل قبله ليتأسى بهم، وأولوا العزم من الرسل الذين كانوا امتحنوا مع قومهم في ذات الله في الدنيا، فلم تردهم المحن عن تبليغ ما أرسلوا به وإنذار من أرسلوا إليه في الدنيا.
قال عطاء: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، لم يتخذ الله رسولاً إلا كان ذا عزم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا.
وقال قتادة: هم أربعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله(11/6872)
عليهم.
وقال مجاهد: هم خمسة كقول عطاء (وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي: ولا تستعجل لهم يا محمد إتيان العذاب من عند ربك على كفرهم، فإنه نازل بهم لا محالة، وإن متعوا في الدنيا فإنما هو متاع قليل.
ثم قال {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ}.
وذلك أنهم ينسون مقدار لبثهم في الدنيا، وتهون عليهم مدته لهول ما يرون، وشدة ما يلقون، وما يعانون من الأهوال والعذاب وهذا مثل قوله قال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين} [المؤمنون: 113 - 114]، استقلوا لبثهم في الدنيا حتى جعلوه يوماً أو أقل من يوم لعظيم ما عاينوا، والعادون: الملائكة.
وقوله: {بَلاَغٌ} معناه: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، اي: لبث بلاغهم إلى آجالهم، ثم حذف المضاف مثل / {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقيل المعنى: هذا القرآن، أو هذه التلاوة والإنذار بلاغ لهم، (أي: كفاية لهم)(11/6873)
أن تكفروا واعتبروا وتذكروا. وقيل بلاغ: معناه: قليل، تقول العرب: ما معه من الزاد إلا بلاغ؛ أي: قليل، وقيل المعنى: هذا الذي وعظوا به بلاغ.
وقرأ عيسى بن عمر: " بَلاغاً " بالنصب، جعله نعتاً لساعة وقيل نصبه على المصدر.
وقرأ أبو مجلز " بَلِّغْ " على الأمر.
ثم قال: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} أي: فهل يهلك الله بعذابه إلا القوم الذين خرجوا عن طاعة الله، وخالفوا أمره وكفروا به.
وقيل المعنى: فهل يهلك مع تفضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون.
وحكى أبو حاتم عن بعضهم - واستبعده - أن الوقف ولا تستعجل ثم يبتدئ {لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} أي: لهم بلاغ، وفيه بعد؛ لأن(11/6874)
الخبر قد بعد من الابتداء واعترض بينهما شيء كثير ليس منه.
وقال غيره {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} وقف تام: وعن الحسن {مِّن نَّهَارٍ} تمام الكلام، وهو قول أبي حاتم أيضاً، وقال يعقوب ثم تبتدئ {بَلاَغٌ} أي: " ذلك بلاغ ". وكذلك قال نافع /، إلاّ أنه قال: وإن شئت وقفت على " بلاغ ". ومن نصب فلا يقف إلا على بلاغ؛ لأن ما قبله عمل فيه فلا يفرق بينهما، ومن قرأ " بَلِّغْ " وقف على " نَهَارٍ " واستأنف بالأمر.(11/6875)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -
مدنية
قوله:
{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}.
الذين جحدوا بآيات الله ورسوله وعبدوا غيره، وصدوا من أراد أن يؤمن برسوله عن الإيمان أضلّ أعمالهم، أي: أتلفها وأبطلها وأحبطها فلا ينتفعون بها في أخراهم. وهي ما كان من صدقاتهم وصلتهم الرحم.
ونحوه من أبواب البر أحبطها الله؛ لأنها كانت على غير استقامة لم يرد بها وجه الله.(11/6877)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
قال ابن عباس [هم] أهل مكة.
قوله: {والذين آمَنُواْ}.
يريد به الأنصار، فالآيتان عنده مخصوصتان، وغيره يقول إنهما عامتان. ويجوز أن [تكونا مخصوصتين] في وقت النزول ثم هما عامتان بعد ذلك لكل من فعل فعلهما.
وأصل الصد: المنع، يقال: صد في نفسه وصد غيره، وحكي أصد غيره، والمصدر في نفسه الصدود، وصد غيره صداً قال الله جل ذكره {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 61] فهذا غير متعد والمعنى: والذين صدقوا محمداً وما جاء به وعملوا بطاعة الله واتبعوا كتابه.
{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: غطاها وسترها، فلا يؤاخذهم بها في الآخرة، فشتان ما بين الفريقين قوم أخذوا بسيئاتهم وأبطلت حسناتهم، وقوم غفرت سيئاتهم وتقلبت حسناتهم.
وقوله: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}.
قال ابن عباس: بالهم: أمرهم.(11/6878)
وقال مجاهد: شأنهم.
وقال قتادة وابن زيد: حالهم.
والبال كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر فيقولون: بالات.
وقال المبرد: قد يكون للبال موضع آخر يكون فيه بمعنى القلب.
(وقال النقاش: وأصلح بالهم: نياتهم)، يقال: ما يخطر هذا على بالي؛ أي: على قلبي، والمعنى عند الطبري: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه في الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود في جناته، والآية نزلت في أهل المدينة، ثم(11/6879)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
هي عامة فيمن كان مثلهم.
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} أي: الأمر ذلك، وقيل المعنى: ذلك الضلال والهدى المتقدم ذكرهما، من أجل أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وهو الشيطان وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من عند ربهم، وهو كتاب الله ورسوله.
والتقدير عند الطبري: هذا الذي فعلنا بهذين الفريقين من إضلال أعمال الكفار وإبطالها والتكفير لسيئات الذين آمنوا، جزاء منا لكل فريق على فعله، لأن الكفار اتبعوا الشيطان وأطاعوه والمؤمنون اتبعوا كتاب الله وصدقوا رسوله.
قال مجاهد: الباطل هنا: الشيطان.
ثم قال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: كما / بيّنت لكم أيها الناس سبب تفريقي بين الفريقين، كذلك أمثل لكم الآيات وأشبه لكم الأشباه.
قال الزجاج: معناه كذلك يبيّن الله للناس أمثال المؤمنين وسيئات الكفار(11/6880)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
كالبيان الذي ذكر.
ومعنى قول القائل: " ضربت له مثلاً: بينت له ضرباً من الأمثال "، أي: صنفاً منها.
قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب}.
أي: فاضربوا رقابهم حتى يؤمنوا. والتقدير: فاضربوا الرّقاب ضرباً، وهذا المصدر الذي يقوم مقام الفعل يجوز أن ينون وأن يقدم عليه مفعوله ولا صلة له، وإنما تكون له صلى إذا كان بمعنى " إن فعل " و " إن يفعل ".
ثم قال: {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق}.
أي: حتى إذا غلبتموهم وقهرتموهم بالقتل، وبقيت منهم بقية أسرى في أيديكم لم يلحقهم قتل، فشدوهم في الوثاق كيلا يهربون.
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً}.
أي: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان بالقتل، فإما أن تمنوا عليهم مناً، فتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن تفادوهم، فتأخذوا منهم عوضاً وتطلقوهم.(11/6881)
قال الزجاج: " أثخنتموهم: أكثرتم فيهم القتل، ومنه قول: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67].
وقال ابن جريج: هذه الآية منسوخة، لأن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم، والناسخ لها عنده {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهي محكمة في أهل الكتاب يجوز أن يمن عليهم وأن يفادوا فكأنه ينحو إلى أنها مخصوصة، فسمى التخصيص نسخاً، وهو قول السدي وجماعة من الكوفيين.(11/6882)
وقال بعض / العلماء: هي في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] قالوا: وإذا أسر المشرك فلا يجوز أن يمن عليه ولا أن يفادى من أهل الكتاب كان أو من أهل الأوثان. قالوا: فإن أسر المسلمون المرأة جاز أن يفادى بها؛ لأنه لا تقتل، وكذلك الصبيان ومن تؤخذ منه الجزية فإنه لا يقتل لأنه في عهد.
قال قتادة: هي منسوخة نسخها {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57].
وقال مجاهد نسختها {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}.
وقال الضحاك: الآية ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وقال: لا يقتل المشرك إذا أسر ولكن يمن عليه أو يفادى. كما قال جل ذكره، فالآية أيضاً عنده ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}.(11/6883)
وكان الحسن يكره قتل الأسير، ويختار أن يمن عليه أو يفادى.
وقال ابن جبير: الآية محكمة، [ولا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، واستدل بآية الأنفال.
وقال ابن عباس: الآية محكمة] جعل الله للنبي والمؤمنين الخيار في الأسارى، إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوا، وإن شاءوا فادوهم، فالآيتان عنده محكمتان ومعمول بهما، وهذا القول هو قول أهل المدينة والشافعي وأبو عبيد.(11/6884)
فأما قوله: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا}.
فالمعنى والله أعلم: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم حتى يتوب المشركون عن شركهم، فتكون الحرب ألجأتهم إلى الإيمان فتسقط عنهم آثامهم.
وقال مجاهد معناه: " افعلوا هذا الذي أمرتم به (حتى يضع المحارب آلة حربه) بنزول عيسى فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً وتذهب العداوة من الأشياء كلها، وذلك عند ظهور الإسلام على الدين كله.
وقال قتادة: معناه حتى لا يكون شرك.
قال الزجاج معناه: فاقتلوهم واسروهم حتى يؤمنوا، وما دام الكفر فالجهاد قائم أبداً.
وقيل المعنى: فاقتلوهم واسروهم حتى تأمنوا فيضعوا السلاح.
والحرب مؤنثة وتصغيرها حريب وكذلك قوس ودود يصغران بغير هاءٍ وهما(11/6885)
ثلاثيان مؤنثان سماعاً من العرب.
ثم قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ}.
أي: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون هو الحق، ولو يشاء ربكم لانتصر منهم بعقوبة ينزلها بهم، وذلك عليه هين يسير، ولكن أراد أن يختبركم ويعلم أهل الطاعة منكم / والمجاهدين في سبيل الله ليجازيهم على طاعتهم ويعذب أعداءه بذنبهم.
ثم قال: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} هذه الآية نزلت في قتلى أُحد.
وقرأ الحسن " قُتِّلُوْا " بالتشديد، على معنى: قتلوا المشركين قتل بعضهم بعض.
وقرأ الجحدري " قَتَلُوْا " بالفتح، على معنى: قتلوا المشركين في الله وفي سبيل الله.
{فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: لن يجعل الله أعمالهم التي عملوها باطلاً كما أبطل أعمال الكفار.(11/6886)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
وقال قتادة: " نزلت هذه الآية يوم أُحد والنبي صلى الله عليه وسلم في الشِّعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون أعلى هُبَل ونادى المسلمون [الله] أعلى وأجل، فنادى المشركون يوم بيوم [بدر] أن الحرب سِجَال، أن لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، إن القتلى مختلفون أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون ".
قوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}.
من قرأ قَتلوا أو قُتلوا على ما لم يسم فاعله، فالمعنى سيهديهم إلى جنته ويصلح شأنهم فيها بالنعيم المقيم وغفران الذنوب ويدخلهم إياها، ويجوز أن يكون المعنى:(11/6887)
سيهدي من بقي منهم حيّاً كما قال: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ} [آل عمران: 146] اي: فما وهن من بقي منهم، ومن قرأ " قاتلوا " فالمعنى: سيوفقهم في الدنيا إلى الرشد والعمل الصالح ويصلح فيها حالهم حتى يتوفاهم على ما يرضاه منهم ويدخلهم الجنة في الآخرة.
{عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: زينها لهم، قال أبو سعيد الخدري: إذا نجّى الله المؤمنين من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ثم يؤذن لهم بالدخول إلى الجنة، قال: فما كان المؤمن بأدل بمنزلة [في الدنيا منه بمنزلة] في الجنة حتى يدخلها.(11/6888)
قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم منها لا يخطئون كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها بأحد.
قال ابن زيد: بلغنا عن غير واحد أنه يدخل أهل الجنة وهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا، فذلك قوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ}.
قال / سلمة بن كهيل معناه: عَرَّفهم طرقها.
وقيل معناه: طَيَّبَها لهم، يقال طعام مُعَرَّفٌ: أي: مطيب.
وقيل معناه: رفعها لهم، مأخوذ من عُرْف الدابة.(11/6889)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
وقيل معناه: عرَّف المكلفين من عبادة أنها لهم.
أي: إن تنصروا دين الله أو أولياء الله أو رسول الله ينصركم على عدوكم ويثبت أقدامكم، إذا لقيتم عدوكم فلا تفروا منه لكثرة عددهم وقلة عددكم.
وقيل معناه: ويثبت أقدامكم في موقف الحساب بأن يجعل الحجة لكم.
قال: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ}
قال تعلب: التعس: الشر، قال: وقيل هو البعد. قال: والنكس: قلب أمره وفساده.
قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه، والنكس على رأسه قال:(11/6890)
والتعس أيضاً الهلاك.
قال الزجاج التعس في اللغة: الانحطاط والعثور.
قال ابن زيد: فتعساً لهم: فشقاء لهم. ودخلت الفاء في " فتعساً لهم " " لأن " " الذين " فيه إبهام أشبه به الشرط، فدخلته الفاء في خبر " هم " كما تدخل في جواب الشرط، وجواب الشرط هو " أن " لخبر الابتداء في أكثر أحكامه.
وقوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}.
أي: أبطلها وأتلفها، والمعنى: أن هؤلاء القوم ممن يجب أن يقال لهم أتعسهم الله، أي: أخزاهم الله، وهذا مما يدعى به على العاثر.
وقوله: {وَأَضَلَّ} أتى على الخبر حملاً على لفظ {الذين} لأنه خبر في اللفظ(11/6891)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
فدخلت الفاء حملاً على المعنى، وأتى {وَأَضَلَّ} حملاً على اللفظ، وهذا يسميه بعض أهل المعاني الإمكان: [أي] يمكن هذا فيه (ويمكن هذا فيه).
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله} أي: كرهوا قبول ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن فكفروا به فأحبط الله أعمالهم؛ أي: أبطلها وأتلفها أي: هذا الذي فعلنا بهم، لأنهم كرهوا / القرآن وكفروا به.
قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ}.
أي: لو لم يسافر هؤلاء المشركون الذين يكرهون القرآن ويكذبون محمداً إلى الشام وإلى غيره من البلدان، فيمرون على ديار من كان قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لأنبيائها فينظروا كيف كان عاقبة فعلهم، أن الله أهلكهم ودمر عليهم.
{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي: ولمن تمادى على كفره منك أمثال هذه الفعلة التي فعلنا بالأمم الماضية من الهلاك والتدمير، وهذا وعيد وتهديد من الله جل ذكره لقريش ولمن ركب طريقتهم في الكفر والتكذيب للأنبياء.(11/6892)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
قال الزجاج: " والهاء في أمثالها " تعود على العاقبة، وهو قول الطبري، قال: المعنى: وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم.
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} أي: وليهم وناصرهم وموفقهم.
{وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} أي: لا ولي ينقذهم من الضلال، وفي قراءة عبد الله بن سعود: ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا.
قال ابن عباس: المولى الناصر وأكثر المفسرين على أن المولى هنا: الولي، والمعنى واحد، وعلى هذا يتناول قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كنت مولاه فعلي مولاه أي: من كنت وليه وناصره فعلي وليه وناصره ".
وقيل معناه: من كان يتولاني وينصرني فهو يتولى [علياً] وينصره.
قال تعالى: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}.(11/6893)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
هذا وعد من الله جل ذكره للمؤمنين أنه سيدخلهم بساتين تجري الأنهار من تحت أشجارها (ثم أخبر بالطائفة الأخرى) وهم الكفار فقال:
{والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} أي: في الدنيا.
{وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام}.
أي يأكلون ولا يتفكرون في معاد، كما أن البهائم تأكل ولا تفكر في معاد، فهما متساويان في الحال.
ثم قال: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي: مسكن ومأوى لهم في الآخرة.
قال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ}.
أي: وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل مكة الذين أخرجوك منها أهلكوا على شدة قوتهم وتمك بأسهم فلم ينصرهم ناصر من الهلاك، فما ظنك يا محمد بأهل قريتك على ضعفهم وعدم الناصر لهم كيف تكون حالهم إن تمادوا على كفرهم بالله وتكذيبك.(11/6894)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
قال ابن عباس: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار، التفت إلى مكة فقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك "، (فأعتى الأعداء من عدا) على الله في [حرمه] أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية / قال: فأنزل الله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ} الآية (وأجرى الخبر للقرية) والمراد أهلها.
أي: أفمن كان على برهان وحجة وعلم ويقين من أمور ربه فهو يعبده على بصيرة كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله فرآه حسناً، [فتمادى] عليه، وهي(11/6895)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
عبادتهم الأوثان التي زين لهم الشيطان عبادتها، فتمادوا على ذلك.
{واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ}.
أي: ما دعتهم إليه أنفسهم، وما سوّل لهم الشيطان بغير حجة ولا برهان ولا علم ولا يقين.
قال قتادة: أفمن كان على بيّنة من ربه وهو محمد صلى الله عليه وسلم كمن زين له سوء عمله: المشركون.
قال: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [أي: صفة الجنة التي وعدها الله] من أتقى معاصيه وعمل بطاعته.
{فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي: غير متغير الريح ولا عكر، وفيها:
{وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}.
أي: لم يمحض لطول مقامه، ولا راب ولا غيرته الأيدي بالحلب من(11/6896)
الضروع، بل هو كوثر.
وفيها: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}.
لا تحيل عقولهم، ولا تلحقهم منه كراهة، ولا صداع، كما تفعل خمر الدنيا التي تحيل العقول وتكره شاربها ويعبس بعد شرابها، ويعرض له / منها الصداع والقيء.
وفيها: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى}.
أي: لا غير فيه ولا ندى فيه، ولا شيء يخالطه، كما يكون في عسل الدنيا.
ثم قال: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات}.
أي: من كل ما اشتهت أنفسهم من الثمرات، قال كعب: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا. فالنيل: نهر العسل في الجنة، والفرات: نهر الخمر في الجنة، وسيحان: نهر الماء في الجنة، وجيحان: نهر اللبن في الجنة.
وقال كعب أيضاً: النيل في الآخرة عسل أغور ما يكون من الأنهار التي(11/6897)
سماها الله عز وجل، ودجلة في الآخرة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات في الآخرة خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، وسيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل.
ثم قال: {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي: لهم مغفرة؛ أي: ستر على ذنوبهم، وعفو من الله عليها فلا يجازيهم بها، والتقدير عند سيبويه: وفيها يتلى عليكم مثل الجنة، وفيها يقص عليكم مثل الجنة.
وقال يونس (و) النضر بن شميل والفراء: " مثل " بمعنى صفة ومثله(11/6898)
وقد تقدم ذكره: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: 18] وهذه الآية هي تفسير لقوله: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الحج: 14] من أي شيء هي، فذكر أنها من ماء ومن لبن ومن عسل ومن خمر.
ويروى أن الماء الذي هو غير آسن هو من تسنيم لا تمسه يد [مجيء] حتى يدخل في فِيه.
ثم قال: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار}.
أي: ماكث أبدا في جهنم، أي: هل يستوي من هو في هذه الجنات والأنهار التي تقدم وصفها مع من هو ماكث في نار جهنم.
ثم قال: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} أي: وسقي هؤلاء الذين في النار ماء قد أنتهى حره.
{فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ}.
روى عن النبي صلى الله أنه قال في قوله: " {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} قال: " يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فاذا فإذا شربه قطع(11/6899)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
أمعاءه حتى يخرج من دبره " ".
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}.
أي: ومن هؤلاء الكفار يا محمد من يستمع إلى قراءتك وهم المنافقون.
{حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً}.
أي: فإذا خرج هؤلاء المنافقون المستمعون إليك، لم يعوا شيئاً ولا حفظوا مما قلت شيئاً، لأنهم حضروا لغير الله، واستمعوا بغير نية، فإذا خرجوا بغير علم ولا فهم، قالوا: لأصحابك المؤمنين ما قال محمد آنفاً. أي: منذ ساعة.
قال قتادة: هم المنافقون، دخل رجلان: رجل ممن عقل عن الله، فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل عن الله، فلم ينتفع بما سمع.
وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع فعاقل، وسامع فغافل، وسامع فتارك،(11/6900)
وكان ابن عباس يقول: {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} أنا منهم، وقد سئلت (فيمن سئل).
قال ابن زيد: " هم الصحابة ".
قال عبد الله بن بريدة: قالوا ذلك لابن مسعود. وقيل إنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ثم خرجوا فقالوا للمسلمين استهزاء: ماذا قال آنفاً، / أي: إنّا لم نلتفت إلى ما قال.
ثم قال: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ}.
أي: أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين ختم الله على قلوبهم فهم لا يهتدون للحق، فرفضوا أمر الله واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم بغير برهان ولا حجة، فهذه في المنافقين.
وقال: {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ}.(11/6901)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
هذه في أهل الشرك، فكلا الفريقين اتبعوا أهواءهم.
قال: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى}.
أي: والذين وفقهم الله لاتباع الحق من المستمعين زادهم الله بما سمعوا منك هذى. ففي {زَادَهُمْ} ضمير يعود على (الله وقيل هو يعود على) قول النبي، أي: زادهم قول النبي هدى.
وقيل: هو عائد على فعل المشركين، وقولهم: {مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي: زادهم الله بضلال المنافقين واستهزائهم هدى.
وقوله: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} /.
أي: (وأعطى الله هؤلاء المتقين) تقواهم بأن استعملهم بطاعته، وقيل معناه: وألهمهم عمل أهل النعم.
وقيل المعنى: وأعطاهم ثواب تقواهم.(11/6902)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
وقيل: إن المؤمنين آمنوا بالقرآن لما نزل، فلما نزل الناسخ [والمنسوخ] زادهم ذلك هدى.
قال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}.
أي: فهل ينظر هؤلاء المنافقون إلا إتيان الساعة وقيامها عليهم بغتة. " فأن " في موضع نصب بدلاً من " الساعة " بدل الاشتمال.
و" بغتة " نصب على المصدر، أي: تبغتهم بغتة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال، وحكى أبو عبيد (أن في بعض مصاحف الكوفيين أن تأتيهم، على الشرط)، والجواب: فقد جاء.
وقال أبو جعفر الرواسي قلت لأبي عمرو ما هذه " الفاء " في قوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا}.(11/6903)
فقال: هي جواب للجزاء، قال: فقلت له: إنها أن تأتيهم، فقال: معاذ الله إنما هي أن تأتهم. وهذه القراءة تفسر المعنى لو صحت؛ لأنه يصير المعنى: إنها تأتيهم بغتة، ويجوز: أن تأتيهم غير بغتة؛ لأنه بمعنى الشرط والجزاء، وقد قال الله {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف: 187] والأمر المحدود الذي لا بد منه ولا يكون غيره، لا يدخله الشرط، لأن الشرط، لأن الشرط إنما يدخل في الموضع الذي يجوز أن يكون، ويجوز ألا يكون، ويحسن أن يقع، ويحسن ألا يقع، فليس هذا موضعاً للشرط البتة، وجاء قوله: {يَنظُرُونَ} بمعنى " ينتظرون " وهم لا يؤمنون بالساعة فكيف ينتظرونها، وإنما ذلك بمعنى الوعيد والتهديد، كما تقول لمن أصر على الذنوب والكفر: هل تنتظر إلا العذاب، وكما تقول لعبدك يصر على مخالفتك: هل تنتظر إلا العقوبة، فالمعنى: هل ينتظرون في الحقيقة عندنا وعند المؤمنين إلا أن تأتيهم الساعة بغتة.
وقوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أي: فقد جاء هؤلاء الكفار علاماتها ومقدماتها(11/6904)
وآياتها.
قال الحسن: موت النبي عليه السلام من علاماتها، وقال غيره: بعث النبي من علاماتها، لأنه نبي بعث لا نبي بعده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعة كَفَرَسَيْ رِهان " (وقال أيضاً): " بُعِثْت أَنَا والسَّاعة كَهَاتَيْن " وأشار بالسبابة والوسطى.
ثم قال: {فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذكراهم} أي: فمن أي وجه لهؤلاء الكفار تقع الذكرى إذ جاءتهم الساعة بغتة، أي: ليس ينفعهم ذلك الوقت تذكر ولا ندم، إذ ليس هو وقت عمل ولا استعتاب ولا تأخر، فالتقدير: من أين لهم منفعة التذكر والازدجار عن الكفر إذا جاءت الساعة وانقطعت التوبة.(11/6905)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
قال: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي: فاعلم يا محمد أنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، واسئل ربك الستر على ذنبك وعلى ذنوب المؤمنين والمؤمنات.
ثم قال: {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [أي]: يعلم أعمالكم في تصرفكم وفي سكونكم لا يخفى عليه شيء.
وقيل المعنى: يعلم متصرفكم ومثواكم في الدنيا والآخرة، ومخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم هنا هي مخاطبة لأمته، والفاء في قوله: " فاعلم " جواب المجازات، والتقدير: قد بيّنا أن الله واحد، فاعلم.
قال: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ}.
أي: ويقول الذين صدقوا الله ورسوله هل نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار، فإذا أنزل الله سورة محكمة بالفرائض تأمرهم بالجهاد رأيت الذين في قلوبهم مرض، يعني المنافقين ينظرون إليك [يا محمد نظر المغشي عليه من الموت، أي: ينظرون إليك] نظراً أمثال نظر الذي غشي عليه من حلول الموت به خوفاً أن تأمرهم بالجهاد مع المسلمين، وجبنا من لقاء العدو.(11/6906)
قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين، والمرض هنا: الشك والنفاق.
وقوله تعالى: {فأولى لَهُمْ} هو وعيدٌ لهم.
ثم ابتدأ فقال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}.
أي: طاعة وقول معروف أولى بهم، وأمثل لهم، / وأجمل بهم، وفيه معنى الأمر من الله لهم بذلك، فالوقف على هذا: {فأولى لَهُمْ} وأولى، عند بعض أهل المعاني: " أفعل " التي للتفضيل كما تقول: هذا أخزى لك وأقبح لوجهك، وهو عنده مشتق من الويل وفيه قلب، قلبت اللاَّم في موضع العين لئلا يقع إدغام، ومعنى {فأولى لَهُمْ} أي: وليهم المكروه / بمعنى أولى لهم المكروه. والعرب تقول لكل من قارب الهلكة ثم أفلت: " أولى لك " أي: كدت تهلك.
وعن ابن عباس: قوله تعالى: {لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}، من قول المؤمنين، أي: لهم طاعة وقول معروف قبل الأمر بالقتال، فإذا أمروا نظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر الذي(11/6907)
غشي عليه من خوف الموت فيكون الوقف على هذا " فأولى " ثم يبتدئ: {لَهُمْ * طَاعَةٌ} أي: يقول المؤمنون للمنافقين لهم طاعة وقول معرف: قبل نزول السورة بالأمر بالجهاد. فإذا نزلت بذلك نظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر من غشي عليه من الموت.
وقيل: هو خبر من الله جل ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم قبل أن تنزل السورة يقولون: سمعاً وطاعة، فإذا نزلت السورة بذلك كرهوه فقال لهم الله طاعة وقول معروف قبل وجوب الفرائض عليكم، فإذا أنزلت الفرائض شق ذلك عليكم، وكرهتموه، فالكلام متصل على هذا القول لا يوقف على ما قبل طاعة، والوقف على القول الأول: فأولى لهم " وعليه أكثر العلماء وقد ذكرته.
وقوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر}.
أي: فإذا وجب القتال وفرض كرهتموه، فالجواب محذوف لعلم السامع.
وقيل المعنى: فإذا [جَدَ] الأمر، قاله مجاهد، وعنه: فإذا جاء الأمر بالقتال.(11/6908)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
وقيل المعنى: فإذا عزم أصحاب الأمر، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم قال: {فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي: فلو صدق هؤلاء المنافقون الله وتركوا التعلل والهرب لكان صدقهم الله خيراً لهم.
قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض}.
هذه مخاطبة للمنافقين الكارهين للجهاد. أي: فهل عسيتم أيها القوم لعلكم أن توليتم عن ما فرض الله عليكم من الجهاد أن تفسدوا في الأرض؛ أي: أن تعصوا الله ورسوله، وتعودوا لما كنتم عليه من سفك الدم وقطع الرحم، والتفرق بعدما جمعكم الإسلام وألف بين قلوبكم، هذا معنى قول قتادة وغيره.
وقال محمد بن كعب معناه: فهل عسيتم أن توليتم من أمور الناس شيئاً أن يقتل بعضكم بعضاً.(11/6909)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
وقيل المعنى: فهل عسيتم أن توليتم عن النبي صلى الله عليه وسلم. فكفرتم بما جاءكم به أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر فتفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، وترجعوا إلى العداوات والحروب التي كانت بين الأوس والخزرج.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " أَنْ تُوُلِّتُمْ " على ما لم يسم فاعله أي: إن وَلِيَ عليكم غيركم.
قوله: {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} إلى قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) الآيات [24 - 36].
أي: أولئك الذين تقدم وصفهم هم الذين أبعدهم الله من رحمته وثوابه فهم بمنزلة الصم إذ لا ينتفعون بما يسمعون، وهم بمنزلة العمي إذ لا ينتفعون بما يرون من آيات الله وأدلته على توحيده.
ثم قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [25].(11/6910)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
أي: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون كتاب الله وما فيه من الحجج، فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون من النفاق بل على قلوبهم أقفال أقفلها الله عليهم، فهم لا يعقلون ما يتلى عليهم.
قال خالد بن معدان: ما من آدمي إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله عز وجل من الغيب فإذا أراد الله بعبد خيراً أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله له: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}.(11/6911)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
وروى هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا يوماً: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله يفتحها ويفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به.
قال: {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} أي: إن الذين رجعوا القهقرى كفاراً بالله من بعدما ظهر لهم الحق فآثروا الضلالة على الهدى، الشيطان سول لهم ذلك وزينه لهم حتى ركبوه، / وأملى لهم في أعمارهم وأطال لهم ليبلغوا الأجل الذي حد لهم أن يبلغوه.
وقيل معناه: أنه تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة وأملى لهم / فتركهم على كفرهم(11/6912)
ونفاقهم إلى إتيان آجالهم، ولا يكون الضمير في " أملى " يعود على الشيطان البتة في جميع القراءات، لأنه لا يقدر على أن يمد في عمر أحد ولا ينقص منه، ولم يسلطه الله على شيء من ذلك، ولذلك قرأ أبو عمرو " وأملي " على الإخبار عن الله خوفاً أن يتوهم متوهم أن الضمير للشيطان.
وقد أجاز الحسن أن يكون الضمير في " أملي " يعود على الشيطان على معنى أنه مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر.
قال قتادة: هم أعداء الله أهل الكتاب يعرفون نعت النبي عليه السلام وأصحابه عندهم في كتبهم ثم يكفرون به.
وقال ابن عباس: عني بذلك أهل النفاق، وقاله الضحاك.(11/6913)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
والوقف الحسن المختار: {سَوَّلَ لَهُمْ} لأن الضميرين. في {سَوَّلَ لَهُمْ} {وأملى لَهُمْ} مختلفان. الأول للشيطان والثاني لله، فتفرق بينهما بالوقف، وهو قبول الكسائي والفراء وأبي حاتم.
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر}.
أي: ذلك الإضلال من الله لهم بأنهم قالوا لليهود سنطيعكم في التظافر والمعونة على عداوة محمد.
قال قتادة وغيره: المنافقون ظاهروا اليهود على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فاليهود هم الذين كرهوا ما نزل الله لأنهم حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم إذ بعث الله نبياً من غير ولد يعقوب، وقد أعلمهم الله في التوراة أنه يبعث نبياً من ولد أبيهم - يعني إبراهيم - فتأولوا أن الأب يعقوب فكفروا على تأويل منهم وحسد وبغي، وكرهوا نزول القرآن بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، فالمنافقون هم القائلون لليهود: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر} أي: في النصر على محمد.
ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي: يعلم ما يُسر الفريقان من عداوة المؤمنين لا(11/6914)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
يخفى عليه شيء، ومعنى {كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} أي: كرهوا الفرائض التي أنزلها الله في كتابه: يعني: اليهود عليهم اللعنة.
أي: كيف تكون حالهم في الوقت الذي تتوفاهم فيه الملائكة في حال ضربهم وجوه المنافقين وأشباههم.
قال الطبري: المعنى: الله يعلم أسرار هؤلاء المنافقين فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبارهم، فحالهم أيضاً لا يخفى عليه في ذلك الوقت.
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله} أي: ذلك جزاؤهم لأنهم اتبعوا الأمر الذي أسخط الله وهو كفرهم بما أنزل الله.
{وَكَرِهُواْ رضوانه} أي: كرهوا اتباع كتابه، ورسوله والدخول في شريعته.
{فَأَحْبَطَ أعمالهم} أي: أبطلها بكفرهم فلا ثواب لهم فيها.
قال: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: شرك ونفاق.
{أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} أي: أحسبوا أن الله لا يخرج ويظهر ما يسرون من(11/6915)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
النفاق والكبر والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ( وموالاتهم اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه. والأضغان: العداوة.
قال المبرد: الضغن ما يضمر من المكروه.
قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} أي: ولو نشاء يا محمد لعرفناك بهؤلاء المنافقين وأطلعناك على نفاقهم بأعيانهم.
ثم قال: {فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلامات النفاق الظاهرة فيهم.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أي: في فحوى قولهم، وظاهر ألفاظهم وأفعالهم.
قال ابن عباس: هم أهل النفاق وقد عرفه الله إياهم في سورة براءة فقال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84].
وقال: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83]. فلولا أنه قد عرفه إياهم ما(11/6916)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
خصهم بهذا المنع.
وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن عباس: فما رآى النبي صلى الله عليه وسلم منافقاً فخاطبه إلا عرفه.
ثم قال: {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} هذا مخاطبة لأهل الإيمان. أي: يعلم أيها الناس أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم [عليها].
هذا مخاطبة للمؤمنين لنختبركم أيها المؤمنون بالفرائض والجهاد حتى نعلم المجاهدين منكم أعدائي والصابرين على أداء فرائضي فنعرف الصدق منكم من الكاذب / فنجازي كلاًّ بعمله.
ثم قال: {وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}.
ونختبر أعمالكم فيما تعبدتم به، ومعنى: حتى نعلم، وهو قد علم ذلك قبل خلق جميع الخلق أنه أراد به العلم الذي يقع عليه الجزاء، فالمعنى حتى نعلم ذلك(11/6917)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
منكم علم مشاهدة يقع عليها الجزاء، وقد علم تعالى ما يكون من عبادة من الطاعة والمعصية قبل خلق الخلق.
قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى}.
أي: إن الذين جحدوا توحيد الله وصدوا الناس عن الإيمان بالله وبرسوله وكتابه، وخالفوا أمر الرسول من بعد ما تبين لهم أنه نبي مرسل من عند الله، لن يضروا الله شيئاً بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، بل ضروا أنفسهم، لأن الله بالغ أمره وناصر دينه ورسوله.
{وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطلها ويتلفها فلا ينتفعون بها في الدنيا ولا في الآخرة.
أي: أطيعوهما فيما أمراكم به، ولا تخالفوهما فتبطلوا أعمالكم.
أي: إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن الإيمان بالله ورسوله، ثم ماتوا على هذا المذهب من كفرهم فلن يستر الله ذنوبهم في الآخرة، بل يعاقبهم(11/6918)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
عليها، فأعلمنا الله أنه لا يغفر لمن مات على الكفر.
ودلت هذه الآية أنه من مات على خلاف هذه الحال أنه جائز أن يستر الله على ذنوبه فيغفر له ويدخله جنته؛ لأنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، يفعل ما يشاء، وقد قال في موضع آخر {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 50]، فهذا مخصوص معناه إلا الشرك لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]، فالعمدة التي بها يرتجى الفوز والنجاة من النار، الإيمان بالله وبرسوله وبكتبه واتباع لسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولقاء الله جل ذكره على ذلك غير مبدل ولا مغير أماتنا الله على ذلك وحشرنا عليه.
قال: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ} أي: ولا تضعفوا أيها المؤمنون عن قتال عدوكم، وتدعوهم إلى الصلح والمسألة، وأنتم الغالبون لهم الظاهرون عليهم، والله معكم بالنصر والمعونة عليهم.
وقيل: معنى {وَأَنتُمُ الأعلون} وأنتم أولى بالله منهم.
وقال ابن زيد: هذا منسوخ نسخة الأمر بالجهاد والغلظة عليهم.(11/6919)
وقوله: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
معناه: ولن يظلمكم الله، فينقصكم أجور أعمالكم، يقال وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلاً، أو أخذت له مالاً غصباً.
قال الفراء: هو مشتق من الوتر: وهو الذحل.
وقيل: هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فيكون المعنى ولن يفردكم بغير ثواب أعمالكم، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسل: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " أي أفرد منهما، وقيل معناه: كأنما نقص أهله وماله.(11/6920)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
قوله: {إِنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}.
أي: ابذلوا أيها المؤمنون أنفسكم وأموالكم في جهاد عدوكم ورضى ربكم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو، إلا ما كان منها من عمل صالح.
ثم قال: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: تؤمنوا بربكم، وتتقوا مخالفة أمره يؤتكم أجوركم، وقد عرفهم أن أجورهم الجنة، والنجاة من النار.
ثم قال: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أموالكم} أي: لا يطلب منك ربكم أموالكم، إنما يطلب منكم الإيمان به وجهاد عدوه.
وقيل معناه: ولا يأمركم أن تنفقوا أموالكم كلها في سبيل الله ومواساة الفقراء.
قال: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} [أي: إن يطلب منكم ربكم نفقة أموالكم كلها في جهاد عدوه فيلح عليكم في ذلك تبخلوا] بها وتمنعوه منها ويخرج منكم ما خفي.
وقيل المعنى: ويخرج البُخْل أضغانكم، أي: ما تضمرونه من امتناع النفقة خوف الفقر يفضحكم.(11/6921)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قال قتادة: قد علم الله أن في مساءلة المال خروج الأضغان.
قال الضحاك: تخسر قلوبكم إذا سألتم أموالكم.
قال: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي: أنتم أيها المؤمنون تدعون/ أي لتنفقوا في سبيل الله /، فمنكم من يبخل بإخراج النفقة في سبيل الله، ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله فإنما يبخل عن نفسه، لأنه يمنعها الآجر العظيم والثواب الجزيل فبخله عليها راجع.
ثم قال: {والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء} أي: لا حاجة به إلى أموالكم لأنه غني عنها وإنما يختبركم ليعلم الطائع من العاصي، ليجازي كلا بعمله، وأنتم أيها الخلق الفقراء إلى الله.
ثم قال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي: وإن تعرضوا أيها الناس عن ما جاءكم به محمد فترتدوا، يستبدل قوماً غيركم أي: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين بدلاً منكم يعملون ما يؤمرون به.
{ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} أي: لا يبخلوا بأموالهم عن النفقة في سبيل الله ولا يضيعوا شيئاً من حدود [الله].(11/6922)
" وروي أنه لما نزلت هذه الآية كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من هؤلاء القوم، إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان فقال، هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو أن الدين معلق بالثريا لنالته رجال من أهل فارس ".
وقيل: هم أهل اليمن.
وقيل: هم الملائكة، وهو بعيد لأنه لا يقال للملائكة قوم.(11/6923)
وقيل المعنى إن تولى أهل مكة عن الإيمان والجهاد استبدل الله بهم أهل المدينة.(11/6924)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
سورة الفتح
قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1)}.
المعنى: إنا حكمنا لك يا محمد حكماً ظاهراً لمن سمعه أو بلغه أنك الغالب الظافر.(11/6925)
وقال قتادة معناه: إنا قضينا لك يا محمد قضاء بيناً.
روى عطاء والضحاك عن ابن عباس ان الله جل ذكره لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} [الأحقاف: 8]. فلما قالها شمت المشركون وكتبوا إلى اليهود بذلك، وقالوا كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه، فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}. . . الآية. فأخبره بما يكون من أمره وما كان، وبعاقبة المؤمنين به. والفتح: يراد به ما فتح عليه من الغنائم وأخذ القرى بالحرب وغير الحرب فقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} منة من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعل المنة سبيلاً للمغفرة؛ لأن كل ما يفعله العبد من خير، فالله الموفق له، ثم الله يتفضل بالمجازاة على ذلك الفعل، وهو وَفق إليه، وأعان عليه، فكل من عنده لا إله إلا هو، فالحسنة من العبد منة من الله عليه إذ وفقه لها، ثم يجازيه على ذلك تفضلاً بعد تفضل ومنة بعد منة، وقد قيل: إن التقدير: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً تستغفر عنده ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيكون الغفران من الله جزاء للإستغفار منه عند إتيان الفتح، أعلمه تعالى أنه إذا جاء الفتح واستغفر غفر له (ودليل(11/6926)
هذا القول قوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح. . . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} [النصر: 1 - 3]. فأمره بالاستغفار عند الفتح.
والفتح في اللغة: الظفر بالمكان بالقرية أو المدينة، بحرب أو بغير حرب، عنوة أو صلحا.
قال أنس: " نزلت، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد نزلت علي آية أحب إليّ من جميع الدنيا لو كانت باقية لي غير فانية، لأن الدنيا لا قدر لها فيقدر بها الأمر العظيم الجليل ثم تلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} الآية.
فقال رجل من المسلمين: هنيئاً مريئاً هذا لك يا رسول الله فماذا لنا؟ فأنزل الله: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} الآية ".(11/6927)
وهذه الآية نزلت في فتح الحديبية، والحديبية بير، وكان في فتحها آية من الله، وذلك/ أن النبي صلى الله عليه وسلم ورد هذه البير وقد نزف ماؤها، فتمضمض صلى الله عليه وسلم وتفل فيها، فأقبل الماء حتى شرب كل من كان معه، ولم يكن بينه وبين المشركين حرب الاتراع، ثم فتح له.
وقيل معناه: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً باجتناب الكبائر ليغفر لك الصغائر.
وقيل معناه: إنا فتحنا لك بالهداية إلى الإسلام، ولام {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله}: لام قسم عند أبي حاتم والمعنى: " ليغفرن لك الله ".
وقال ابن كيسان وغيره: هي لام كي، فالمعنى: وقع الفتح لك يا محمد لتقع لك المغفرة.
قال مجاهد: ما تقدم من ذنبك قبل النبوة، وما تأخر بعد النبوة.(11/6928)
قال الشعبي: " وما تأخر ": يعني إلى أن يموت، وقد غلط قوم فظنوا أن الفتح هنا فتح مكة، والصحيح أنه فتح الحديبية كذلك قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك.
قال الطبري الفتح هنا: الهدنة التي جرت بين النبي عليه السلام وبين مشركي قريش بالحديبية ونزلت هذه السورة في منصرف النبي عليه السلام عن الحديبية [بعد الهدنة التي جرت بينه وبين قومه.
قال أنس: " لما رجعنا ن غزوة الحديبية] وقد حيل بيننا وبين منسكنا قال: / فنحن بين الحزن والكآبة قال فأنزل الله جل ذكره عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} إلى(11/6929)
{مُّسْتَقِيماً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد أنزلت [علي] آية أحب إلي من الدنيا جميعاً.
وغزوة الحديبية هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة من سنة ستٍ من الهجرة، والحديبية بئر.
وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان، فأهلوا بذي الحليفة وأهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن هو وظائفة من أصحابه وليس معهم من السلاح إلا السيوف فصدهم المشركون عن البيت فمضى لقتالهم، فبركت به ناقته فقال الناس خلأت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، فتخلف عن ذلك، وأراد أن يبعث بالهدي الذي كان معهم، فمنعوه،(11/6930)
وجرت بينه وبين قريش مراسلات وقصة فيها طول، ثم أرسل(11/6931)
النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنهـ إلى قريش فكلمهم بما أمره به رسول الله عليه السلام فأرسلت معه قريش سهيل بن عمرو ليصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بمكة ناس كثير من المسلمين فدعوا عثمان ليطوف بالبيت، فقال: ما كنت لأطوف بالبيت حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فصالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً وكتب بينهم وبينه كتاب على أن يرجع النبي وأصحابه من مكانهم، فإذا كان العام القابل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان ويخلى بينه وبين الكعبة ثلاثة أيام لا يرد عنها، وعلى ألا يدخلها هو ولا أحد من أصحابه إلا بالسلاح، وكتبوا مع ذلك شروطاً كثيرة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب إلى قريش مع عثمان، وبقي سهيل بن عمرو عند النبي عليه السلام، فوقع بين أصحاب النبي(11/6932)
صلى الله عليه وسلم والمشركين بعض قتال ورمى بعضهم بعضا بالنبل والحجارة، فحبس المشركون عثمان، وحبس المسلمون سهيلا فعند ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة،، وأراد قتالهم فبايعه المسلمون تحت الشجرة على الموت، وهي بيعة الرضوان، إذ كانت بالحديبية، وهي بير، بايعوه وهم ألف وست مائة تحت شجرة، وقيل: كانوا ألفاً وأربعة مائة بايعوه على الموت، وقيل: بايعوه على ألا يفروا. قال جابر: فبايعناه على ألا نفر وكانت الشجرة سرة وكان المسلمون ألفاً وستة مائة فيهم مائة فارس، فلما راى المشركون ذلك خافوا وبعثوا بمن كان عندهم من المسلمين وطلبوا الصلح فتركهم رسول الله والمسلمون على كآبة والمشركون خائفون.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا بدنهم فتوقفوا حتى نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فنحروا / هديهم وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلقت طائفة من أصحابه، وقصرت طائفة فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للمحلقين [قالوا]: والمقصرين يا رسول الله [فأعادها] ثلاث مرات، ثم قال في الرابعة(11/6933)
وللمقصرين "
، وعند ذلك أنزل الله على رسوله عليه السلام: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} في آيات فيها ذكر صد المشركين الهدي، وأخبر تعالى لأي شيء كف أيدي المؤمنين عن المشركين فقال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
يعني: ولولا أن تقتلوا من كان بمكة من المؤمنين لأطلق أيديكم أيها المؤمنون على من بمكة من الكفار، ولكن منعتم من ذلك لئلا تأثموا وأنتم لا تعلمون. وذكر حمية المكفار وذكر تصديق رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتدخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، وذلك في العام المقبل على ما قاضاهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما قوله: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 27].(11/6934)
فقيل هو دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل مكة آمنا وأصحابه معه للعمرة.
وقيل هو فتح خيبر. وفي فتح خيبر نزلت: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}، ولا اختلاف في ذلك،.
وكان فتح خيبر عند مالك على رأس ست سنين من الهجرة بعد منصرفهم من الحديبية، وهو الفتح الذي أثاب الله فيه أهل بيعة الرضوان، فلم يغزُ خيبر غيرهم.
وقال غير مالك: فتحت خيبر في أول سنة سبع من الهجرة وكانت مدة / الصلح الذي صالحهم عليه النبي عليه السلام: سنتين يأمن بعضهم بعضاً. ولما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك قال رجل من المسلمين: فمن أتاهم منا يا رسول الله فهم أحق به.
قال: نعم، وأبعده الله وأسحقه ومن أتانا منهم لم نقبله، قال: نعم، فإنه من أراد فراقهم وخلاف دينهم جعل الله له فرجاً ومخرجاً، وخرجت أم كلثوم مهاجرة إلى(11/6935)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق لم تتزوج، فقبل النبي عليه السلام هجرتها ولم يردها إلى المشركين.
وأقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد مقيداً قد أسلم، وكان والده سهيل والمشركون قد قيدوه وحبسوه؛ لأنه أسلم، واجتنب الطريق وأخذ الجبال حتى هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ففرح به المسلمون وتلقوه وآووه فناشدهم والده سهيل إلا ردوا عليه ابنه، فرده عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن يعلم الله من نفسه الصدق ينجه، فرجع سهيل يضرب وجه أبي جندل ولده بعصاً شوك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هبه لي أو أجره من العذاب، فقال: " والله لا أفعل فأجاره مكرز ابن حفص وأخذ بيده وأدخله فسطاطه وظهر من آيات(11/6936)
النبي صلى الله عليه وسلم علامات معجزات في تلك الغزاة، من ذلك: أن الناس قالوا ليس لنا ماء، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم سهماً من كنانته فأمر به فوضع في قعر قليب ليس فيه ماء، فروى الناس حتى ضربوا بعطن، ومن ذلك أن الناس شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: ابسطوا أبضاعكم وعيالكم، ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينشره ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم، فأخذوا ما شاء الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد من عند المشركين قد أسلم، فيطلبه المشركون، إلا دفعه إليهم ولا يمضي أحد من عند المسلمين إلى المشركين مرتداً إلا تركه المسلمون لهم، فعلى ذلك وقع الصلح / فوفى بما عاهدهم عليه، فخرج قوم(11/6937)
أسلموا من مكة، وانعزلوا في موضع يقطعون الطريق على عير قريش، وخرج أبو جندل من مكة هارباً ومعه نفر ممن أسلم فلحقوا بأولئك الذين يقطعون الطريق على عير قريش، ولم يأت منهم أحد النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً أن يردهم إلى المشركين، فكان أبو جندل يصلي بهم، وكان من لطف للمسلمين أنه صعب على المشركين ذلك، فوجهوا إلى النبي يسألونه أن يوجه في القوم ليقدموا عليه، وقالوا: إنا لا نسألكم في ردهم إلينا، ومن خرج إليك منا فأمسكه، ولا ترده بلا حرج عليك، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأصحابه أن يقدموا عليه، وأمر من اتبعهم من المسلمين أن يرجعوا إلى بلدانهم وأهليهم، وألا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش ففعلوا.
وقوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}.
معناه: يرفع ذكرك في الدنيا وينصرك على عدوك، ويغفر لك ذنوبك في الآخرة.
وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: يرشدك ديناً لا اعوجاج فيه(11/6938)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
فيستقيم بك إلى رضا ربك وإلى طريق الجنة.
أي: ينصرك على أعدائك نصراً لا يغلبك غالب، وقيل معناه نصراً ذا عز لا ذل معه.
قال: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} أي: جعل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين إلى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليزدادوا إيماناً وتصديقاً مع تصديقهم. قال ابن عباس: السكينة الرحمة، وقال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فقال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 4] الآية.
قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل السماوات والأرض وأصدقه وأكمله شهادة لا إله إلا الله.(11/6939)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} أي: عبيده وخلقه ينتقم ممن يشاء من أعدائه.
ثم قال: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أي: لم يزل ذا علم بما هو كائن قبل كونه وما خلقه عاملون قبل خلقهم، حكيماً في تدبيره خلقه.
قال: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} أي: فتح لك يا محمد لتشكر ربك على ما أعطاك وليحمد المؤمنون / ربهم على ما وعدهم به أنه سيدخلهم بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبداً.
{وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: بغطيها ويسترها فلا يحاسبهم بها.
{وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} أي: وكان إدخالهم الجنة الموصوفة وستره على ذنوبهم عند الله ظفراً منهم بما كانوا يأملونه (ونجاة من العذاب كثيراً).
قال: {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات [والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء]}.
أي: فتح الله لك يا محمد ليعذب هؤلاء المذكورين وظنهم السوء، وأنهم كانوا يظنون أن لن يعود الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين الشيطان ذلك في قلوبهم فرد الله دائرة السوء عليهم: ومعنى دائرة السوء: (دائرة العذاب والهلاك).(11/6940)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
وقال الخليل وسيبويه: السوء هنا: الفساد.
وقال الفراء: الفتح [في السنين: الشر في الشر، قال: وقلما تقول العرب دائرة السوء إلا بالضم، واختار الفراء الفتح في السين] لأن العرب تقول: هو رجل سوء، بالفتح، ولا تقوله بالضم.
والسُّوء بالضم اسم الفعل، وبالفتح الشيء بعينه.
ثم قال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} أي: نالهم بغضبه ولعنهم أي: وأبعدهم من رحمته، وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة. {[وَسَآءَتْ] مَصِيراً} أي: ساءت جهنم منزلا لهم.
قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض}.
أي: ولله كل من في السماوات والأرض عبيداً له وأنصاراً له على أعدائه، ولم يزل الله (عزيزاً لا يغلبه غالب)، حكيما في تدبيره خلقه.
ثم قال: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [8].(11/6941)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
انتصبت الثلاثة الألفاظ على الحال، وهي حال مقدرة. أي: مقدرين بشهادتك يا محمد (على أمتك يوم القيامة) ومقدرين تبشيرك أمتك بما أعد الله لهم من النعيم. إن أطاعوك ومقدرين إنذارك من كفر بك ما أعد الله له من العذاب إن مات على كفره.
قال: {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}.
أي: فعل الله ذلك بك يا محمد / ليؤمن بك (من سبق في علم الله) أنه يؤمن.
قال ابن عباس: تعزروه: يعني الإجلال، وتوقروه هو التعظيم.
قال قتادة: وتعزروه: تنصروه، وتوقروه: تفخموه.
وقال عكرمة: تعزروه: تقاتلون معه بالسيف.
وقال ابن زيد: وتعزروه وتوقروه: هو الطاعة لله تعالى.
وقال المبرد: تعزروه: تبالغوا في تعظيمه، ومنه عزر السلطان الإنسان؛ أي: بالغ(11/6942)
في أدبه فيما دون الحد.
وقال علي بن سليمان: معنى وتعزروه: يمنعون منه وتنصرونه.
قال الطبري: معنى التعزير في هذا الموضع المعونة بالنصر.
وقرأ الجحدري: تعزروه بالتخفيف.
وقرأ محمد اليماني: وتعزّروه بالزاءين، من العز؛ أي: تجعلونه عزيزاً ويقال: عززه يعززه جعله عزيزاً وقواه، ومنه قوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 13].
وقيل إن قوله: وتعزروه وتوقروه لله. وقيل هو للنبي صلى الله عليه وسلم فأما " وتسبحوه "(11/6943)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
فلا تكون إلا لله.
وتنزهوا الله عن السوء في بعض القراءات وتسبحوا الله.
وقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: ظرفان تصلون لله في هذين الوقتين.
قال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أي: إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية، وذلك حين حبس المشركون عثمان بن عفان بايع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يفروا عند لقاء العدو، ثم صرفهم الله عن المشركين وقتالهم، لئلا يهلك من بمكة من المسلمين ولا يعلم بهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] إلى قوله: {أَلِيماً} [الفتح: 25].
وقوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أي: إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله، لأن الله ضمن لهم الجنة.
وقوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: يده فوق أيديهم عند البيعة.
وقيل: قوة الله فوق قوتهم في نصرتهم رسوله.
وقيل: معناه يد الله في الثواب والفواء لهم فوق أيديهم في الوفاء بما بايعوك عليه.
وقيل: معناه يد الله في الهداية لهم فوق أيديهم في الطاعة.(11/6944)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
ثم قال: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي: من نكث البيعة ولم يف بما بايع عليه فإنما نكثه راجع عليه لأنه يحرم نفسه الأجر الجزيل، والعطاء العظيم في الآخرة. ثم قال: {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله} في إيمانه.
{فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي: ومن أوفى ببيعتك وما عهد على نفسه من نصرك يا محمد فسيؤتيه [الله] أجراً عظيماً وهو الجنة والنجاة من النار.
قال: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا}.
نزلت هذه الآية في الأعراب الذين حول المدينة من مزينة وجهينة وأسلم، وغيرهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فلما رجع النبي / وظفر وسلم أتوه يسألونه الاستغفار لهم وفي قلوبهم خلاف ذلك، ففضحهم الله.
أي: سيقول لك يا محمد إذا رجعت إلى الحديبية الذين (تخلفوا في أهليهم). وقعدوا عن صحبتك والخروج معك إلى مكة معتمرين كما خرجت، معتذرين عن تخلفهم عنك: شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وأصلاح معائشنا وأهلينا فاستغفر لنا ربك لتخلفنا عنك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى مكة معتمراً استنفر العرب، الذين حول المدينة ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له(11/6945)
بحرب أن يصدوه عن البيت، ثم أحرم بالعمرة، وساق الهدي ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب فتثاقل عنه كثير من الأعراب فتخلفوا عنه، ففيهم نزل هذا.
وقال مجاهد: هم أعراب المدينة من جهينة ومزينة تخلفوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة غداة الحديبية ثم أنزل الله تكذيبهم في عذرهم فقال: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي: يسألونك يا محمد الاستغفار من فعلهم من غير توبة تنعقد عليها قلوبهم، ولا ندم على فعلهم.
وجاء بلفظ " ألسنتهم " توكيداً وفرقاً بين المجاز والحقيقة.
ثم قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} أي: قل يا محمد لهؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى مكة، من يملك لكم من الله شيئاً.(11/6946)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
{إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} / أي: من يدفع عنكم الضر إذا أراده الله بكم حين عصيتم رسوله وتخلفتم عن الخروج معه، واعتذرتم بما لا تعتقده قلوبكم.
ثم قال: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: بل [لم] يزل الله ذا خبر بما تعملون وما تعتقدون، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}.
هذا خطاب للأعراب الذين تخلفوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لما اعتذروا وكذبوا في اعتذارهم، فأكذبهم الله ثم أعلمهم بما علم من اعتقادهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: بل ظننتم أيها الأعراب أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يرجعون إلى المدينة أبداً من غزوتهم، فلذلك تخلفتم عن الخروج معهم لأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم كما زعمتم في عذركم.
ثم قال: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} أي: زين لكم الشيطان ذلك، وقال لكم لا يرجع النبي والمؤمنون إلى المدينة أبداً، وأنهم سيهلكون في غزوهم، وظننتم أن الله لا ينصر نبيّه ومن أطاعه، وذلك ظن السوء.
ثم قال: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى باعتقادكم وظنكم.(11/6947)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
والبور في اللغة: الشيء الذي لا قيمة له ولا فائدة فيه ك لا شيء ".
قال قتادة بوار: فاسدين.
قال ابن زيد البور: الذي لا خير فيه.
قال مجاهد بوراً: هلكى.
أي: ومن لم يؤمن منكم أيها العرب ومن غيركم بالله ورسوله فقد كفر، وقد اعتدنا لمن كفر سعيراً من النار يسعر عليهم (في جهنم) إذا وردوها يوم القيامة.
يقال سعرت النار: إذا أوقدتها سعراً، ويقال: سعرتها أيضاً إذا حركتها ومنه قولهم أنه (لمسعر حرب): أي: محركها وموقدها.
قال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}.
أي: له سلطان ذلك، فلا أحد يقدر على رده عما يريد من تعذيبه من أراد تعذيبه ولا عن ستر من أراد الستر عليه وإدخاله الجنة، وهذا تنبيه وحق لهؤلاء الأعراب(11/6948)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
الذين تخلفوا عن رسول الله على التوبة والمراجعة إلى أمر الله وأمر رسوله: أي: بادروا إلى التوبة فإن الله يغفر لمن تاب، لا يرده عن ذلك راد.
{وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين وذا رحمة لهم.
قال: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا}.
أي: سيقول لك يا محمد ولأصحابك هؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن محبتك والخروج معك إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} يعني ما وعد الله به المؤمنين من غنائم خيبر، وعدهم ذلك بالحديبة وهو قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو فتح خيبر فأعلم الله نبيه عليه السلام أن المتخلفين عنه سيقولون له إذا خرج إلى فتح خيبر وأخذ غنائمها دعنا نتبعك.
ثم قال: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} / أي: يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعده أهل الحديبية، وذلك أن الله وعدهم غنائم خيبر بالحديبة عوضاً من غنائم أهل مكة إذا أنصرفوا على صلح.
قال مجاهد: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة فوعده الله مغانم كثيرة فعجلت له خيبر، فأراد المتخلفون أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا من المغانم فيغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية.(11/6949)
وقيل إن معنى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} أي: يريدون أن يخرجوا معك في غزوك (وقد قال الله): {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83].
قال ابن زيد: أرادوا أن يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبدلوا كلام الله الذي قال لنبيه: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} وذلك حين رجع من غزوة تبوك.
وأنكر هذا القول الطبري؛ لأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة، قال: والصواب الذي قاله قتادة ومجاهد: أنهم يريدون أن يغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية، وذلك: مغانم خيبر وغيرها.
وقوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي: كذلك قال لنا الله من قبل مرجعنا إليكم من الحديبية ان غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية / دون غيرهم ممن لم يشهدها، فليس لكم أن تتبعونا لأنكم تخلفتم عن الحديبية.
ثم قال: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم.
ثم قال: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لا يعقلون عن الله ما له عليهم إلا(11/6950)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
يسيراً، ولو كانوا يعقلون ما قالوا ذلك.
قوله: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين تخلَّفوا من الأعراب عن أن يخرجوا معك إلى الحديبية، وطلبوا أن يتبعوك إلى أخذ غنائم خيبر ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يصلحون.
قال ابن عباس: أهل فارس، وهو قول مجاهد وابن زيد.
وقال الحسن، وابن أبي ليلى: هم فارس والروم.(11/6951)
وقال عكرمة: هم هوازن يوم حنين، وكذلك (قال ابن جبير) هوازن وثقيف.
وقال الزهري: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب.
وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد.
وقال كعب: هم الروم يقاتلهم هؤلاء القوم أو يسلمون بغير قتال.(11/6952)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
ومن قرأ " يسلموا " فمعناه: حتى يعلموا أو إلا أن يسلموا.
ثم قال: {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} أي: يعطيكم الله على إجابتكم لقتال هؤلاء القوم الجنة.
{وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: وإن تتخلفوا عن قتال هؤلاء القوم كما تخلفتم عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية يعذبكم عذاباً أليماً في الآخرة.
قال: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} ليس عليهم ضيق إذا تخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين للعذر الذي نزل بهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.
ثم قال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: تحت أشجارها الأنهار.(11/6953)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
{وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعص الله ورسوله، ويدع الجهاد إذا دعي إليه يعذبه عذاباً أليماً في الآخرة.
قال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة}.
يعني: بيعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سنة ست، وفتح خيبر سنة سبع، وقال مالك: سنة ست أو هو الفتح القريب، واعتمر [رسول الله صلى الله عليه وسلم] سنة سبع، وفتح مكة سنة ثمان، وحج أبو بكر ونادى علي براءة سنة تسع، وحج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ".
وقد قال الله عز وجل: { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة}.
ومن رضي الله عنهـ لم يدخل النار أبداً، وكانوا بايعوه على منابزة قريش لما حبسوا عثمان، وظن المؤمنون أنه قتل وأشاع إبليس في عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عثمان قتل وصدوا النبي عن البيت فبايعوه على ألا يفروا ولا يولوهم الأدبار أسفاً(11/6954)
على عثمان وكان النبي عليه السلام أرسله إلى المشركين بمكة في عقد الصلح وإعلامهم أنه إنما جاء ليعتمر معظماً للبيت وللحرم فأبطأ عثمان، فقيل قد قتل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على قتالهم ثم بلغه أن عثمان سالم لم يقتل وهي بيعة الرضوان، وكانت الشجرة سرة فكان الذين بايعوه ألفاً وأربع مائة، وقي ألفاً وخمس مائة، وقيل ألف وثلاث مائة، وقيل ألف وست مائة.
وقال ابن عباس: كانوا ألفاً وخمس مائة وخمسة وعشرين.
وقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: علم الله ما في قلوب المؤمنين من صدق النية في مبايعتهم والوفاء بذلك: {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} [أي]: فأنزل الله الطمأنينة عند علمه بصدق فعلهم عليهم.
قال قتادة: / أنزل عليهم الصبر والوقار.(11/6955)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
ثم قال: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} أي: وعوضهم من غنائم مكة غنائم خيبر بعقب رجوعهم من الحديبية سنة ست عند مالك، والفتح: فتح خيبر قاله قتادة وغيره وعليه أكثر المفسرين.
وقال بعضهم هو فتح الحديبية وذلك سلامة المؤمنين، ورجوعهم سالمين مأجورين /.
ثم قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} (أي: وأثاب هؤلاء الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة بما أكرمهم به من الرضا ورجوعهم سالمين)، وبغنائم كثيرة يأخذونها من أموال اليهود بخيبر.
{وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي: لم يزل ذا عزة في انتقامه من أعدائه، حكيماً في تدبيره خلقه.
قال: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني: غنائم خيبر عجلها الله لأهل بيعة الرضوان بعد منصرفهم من الحديبية سنة ست.
وقيل أول سنة سبع، وهذه مخاطبة لأهل بيعة الرضوان (خاصة أنهم) سيغنمون مغانم كثيرة.(11/6956)
قال مجاهد: هي من لدن نزلت هذه الآية إلى اليوم.
وحكى ابن زيد عن أبيه: أنها مغانم خيبر.
ثم قال: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه}.
قال قتادة: هي غنائم خيبر عجلت، والمؤخرة كل غنيمة يغنم [المؤمنون] من ذلك الوقت إلى أن تقوم الساعة.
وقال ابن عباس: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} هو الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش ودلَّ على ذلك قوله:
{وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} أي: وكف أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون بالحديبية.
روي: " أن المشركين بعثوا عروة بن مسعود الثقفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما(11/6957)
أتاهم عام الحديبية فأكرم النبي عليه السلام إتيانه وأدناه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن تقسم البيعة التي أعزها الله، هذه والله قريش لبست، لك جلود النسور وقلوب السباع تقسم بالله لا تدخل مكة أبداً. هذا خلق على الخيل في كراع الغميم وهذه العوذ المطانيل: يعني النساء التي لهن أطفال، تتعوذ بالله من إتيانك مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا سعود لم نأت لهذا، وإنما أتينا معتمرين نحل من عمرتنا وننحر هدينا، ونرجع إلى بلدنا، فاذهب إلى أخوانك وأعلمهم ذلك "، فرجع عروة إلى مكة فقال لهم: إني قد رأيت بختنصر في ملكه، ورأيت كسرى في ملكه ورأيت ملك اليمن، والله ما رأيت ملك قط مثل محمد في أصحابه، والله ما تقع منه شعرة إلا صدوها ولا نخامة إلا ابتلعوها والله ليملكن ما فوق رؤوسكم وما تحت أرجلكم، فابعثوا إليه من يقاضيه على ترك الحرب فيما بينكم وبينه، فبعثوا وقاضوه على أن يرجع ويعتمر في العام المقبل.
وقال قتادة: كف الله أيدي اليهود عن المدينة حين صار النبي صلى الله عليه وسلم إلى(11/6958)
الحديبية وإلى خيبر وهو اختيار الطبري، لأن كف أيدي المشركين من أهل مكة عن المؤمنين قد ذكره الله بعد هذه الآية، فقال: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] فدل أن الكف الأول غير هذا، فهو كف أيدي اليهود عن المدينة في غيبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وروي عن ابن عباس والحسن في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} قال: هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر لهم فألقى الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: ولتكون المغانم (آية للمؤمنين ودلالة) على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم بما سيكون.(11/6959)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
وقال الطبري معناه: وليكون كف أيدي اليهود عن عيالكم عبرة للمؤمنين وهو قول قتادة.
ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: ويرشدكم الله أيها المؤمنون طريقا واضحاً لا اعوجاج فيه وهو أن تتقوا في أموركم كلها ربكم، إذ هو الحائط عليكم ولعيالكم.
قال: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} [أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها].
قال ابن عباس وابن أبي ليلى والحسن: هي فارس والروم.
وعن ابن عباس أيضاً: هي خيبر، وقاله الضحاك وابن زيد وابن إسحاق.
وقال قتادة: هي مكة قد أحاط الله بها أي: بأهلها.
{وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي: لم يزل ذا قدرة على كل شيء.
قال: {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار} أي: ولو قاتلكم يا أهل بيعة(11/6960)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
الرضوان مشركو مكة لانهزموا عنكم وولوكم أدبارهم، ثم لا يجدون ولياً / يواليهم عليكم، ولا نصيراً ينصرهم عليكم.
قال: {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ} أي: سن الله انهزام المشركين بين يدي المؤمنين سنة قد خلت من قبلكم في الأمم الماضية، " فَسُنّة " مصدر عملت فيه جملة ليت من لفظه، وهي قوله /: {لَوَلَّوُاْ الأدبار} ولن يجد يا محمد لسنة الله التي سنها في الأمم الماضية تبديلاً بل ذلك دائم في كل أمة يخذل المشركين وينصر المؤمنين.
قال: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ}.
والله الذي كف أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون بالحديبية إذ خرجوا ليصيبوا منكم، وكف أيديكم عنهم: أي: أرضاكم بالصلح وترك قتال المشركين.
قال أنس بن مالك: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة من جبل التنعيم عند صلاة الفجر على رسول الله عليه السلام وأصحابه ليقتلوهم فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم(11/6961)
أعتقهم فنزلت الآية فيهم.
فالله كف أيديهم عن قتل رسول الله وأصحابه وكف أيدي المؤمنين عن قتلهم حين أخذوهم فأعتقوهم وهو قوله.
{مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: كف أيديكم عن قتلهم من بعد أن أخذتموهم أسرى وظفرتم بهم فأعتقتموهم.
قال قتادة: بعث المشركون أربعين رجلاً أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً فأتي بهم رسول الله فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم بعد أن رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل.
قال قتادة: بطن مكة: الحديبية.
ثم قال: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي: لم يزل بصيراً بأعمالكم وأعمالهم لا يخفى عليه منها ولا من غيرها شيء.(11/6962)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
قوله: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام}.
أي: هؤلاء المشركون من قريش هم الكافرون الصادون لكم عن دخول المسجد الحرام، والصادون الهدي محبوساً على أن يبلغ محله.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع دخول مكة عام الحديبية، وهي سنة ست قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أليس قد وعدنا الله أن ندخل، فقال أبو بكر: أوعدك الدخول في هذا العام، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك. والعامل في " أن " {مَعْكُوفاً أَن} ويجوز أن يكون {صَدُّوكُمْ}، والمعنى صدوكم عن دخول المسجد الحرام لتمام عمرتكم، وصدوا الهدي عن أن يبلغ موضع نحره، وذلك دخول الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل فكانت البدنة عن عشرة، قال ذلك المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، (وقد(11/6963)
تقدم الاختلاف) في عدتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خرجوا معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي حتى إذا كانوا بالحديبية وهي بير يقرب مكة صدهم المشركون عن دخول الحرم فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك إلى المدينة وذلك سنة ست، ثم يرجع من العام المقبل وهو سنة سبع فيكون بمكة ثلاث ليال ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ولا يخرج بأحد من أهلها، فنحر هديه في مكانه وحلقوا في مكانهم، فلما كان العام المقبل سنة سبع أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فدخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة فعوضهم الله من صدهم في ذي القعدة ودخولهم مكة في ذي القعدة من العام المقبل فهو قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
ثم قال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
أي: لولا أنه بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لا تعلمون أيها المؤمنون مكانهم وأشخاصهم فتقتلوهم بغير علم فتأثموا ويعيركم بذلك المشركون وتلزمهم(11/6964)
الدية. والباء في " بغير " متعلقة " فتطئوهم "، " وأن " في قوله " أن تطئوهم " بدل من رجال بدل الاشتمال وقيل هي بدل من الهاء، والميم في " تعلموهم " والمعنى يرجع إلى شيء واحد: لسلطكم الله عليهم، فجواب " لولا " محذوف دل عليه الكلام. /
والتقدير لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنون (ونساء مؤمنات) لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم ولكنه تعالى حال بينكم وبين ذلك.
{لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أي: لم يأذن لكم في قتالهم وقتلهم ليسلم من كفار مكة من قدر الله له أن يسلم فيدخل في رحمة الله.
وقيل المعنى: لولا رجال مؤمنون في أصلاب المشركين وأرحام المشركات ونساء مثل ذلك لعذبنا الذين كفروا.
ثم قال /: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: لو زال من بمكة(11/6965)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
من المؤمنين وخرجوا من بين ظهراني المشركين لقتلنا من بقي بمكة من المشركين بالسيف.
وقال الضحاك: لو تزيلوا: يعني من كان بمكة من المؤمنين المستضعفين.
والمعرَّة: المفعلة من العرِّ وهو الجَرَبْ، والمعنى فيصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة على من أطاق، أو صيام شهرين متتابعين.
" وأن " في قوله: {أَن تَطَئُوهُمْ} بدل من رجال أو بدل من الهاء والميم في {تَطَئُوهُمْ} وهو بدل الاشتمال.
قال: {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية}.
نزلت هذه الآية في سهيل بن عمرو وجهه المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحضر(11/6966)
كتاب الصلح فامتنع أن يكتب في الكتاب {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ}، وأن يكتب فيه {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله}، وقال: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وامتنع هو وأصحابه من دخول النبي وأصحابه مكة.
قال الزهري: كانت حميتهم أنهم لم يقروا أن محمداً نبي الله ولم يقروا بباسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت.
والعامل في قوله: " إذا جعل ": " لعذبنا " فلا يبتدأ بها، ويجوز أن يكون العامل فعلاً مضمراً معناه: اذكر إذ جعل، فتبتديء بها إن شئت.
والحمية: الأنفة والإنكار.
ثم قال: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي: أنزل عليهم الصبر والطمأنينة.
ثم قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي: وألزم الله المؤمنين قول لا إله إلا الله، وكانوا أحق بها من المشركين، وكانوا هم أهلها.
قال علي بن أبي طالب وابن عباس: كلمة التقوى لا إله إلا الله. وكذلك(11/6967)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول مجاهد وقتادة، والضحاك وعكرمة وعطاء وابن عمر وابن زيد.
وزاد عطاء فقال: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال الزهري: كلمة التقوى بسم الله الرحمن الرحيم وهو قول المسور ومروان لأن المشركين منعوا علي بن أبي طالب أن يكتب في كتابه الصلح: " بسم الله الرحمن الرحيم ".
وعن مجاهد وعطاء أنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وفي قراءة عبد الله " وكانوا أهلها وأحق [بها] ".
ثم قال: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي: لا يخفى عليه شيء من جميع أحوالكم.
ثم قال: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}.(11/6968)
لقد صدق الله رسوله رؤياه التي أراه في منامه. أراه الله أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك، يقصروا بعضهم رأسه، ويحلقا بعضهم.
قال مجاهد: " رآى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحروا بدنهم بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن زيد: قال النبي لأصحابه: إني رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين " فلما نزل بالحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، وقالوا ابن رؤياه فأنزل الله {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق} فأعلمهم أنهم سيدخلون من غير ذلك العام، وأن رؤيا محمد حق.
وقوله: {إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}.
فحكى ما جرى في الرؤيا من قول الملك له في منامه.
وقيل: إنما جرى لفظ الاستثناء لأنه خوطب في منامه على ما أدبه الله به في قوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24] فخوطب في منامه، وأخبر بها يلزمه(11/6969)
أن يقول لأصحابه كما لو كان هو المخبر بذلك لهم من عند نفسه.
وقيل /: إنما وقع الاستثناء على من يموت منهم قبل الدخول لأنهم على غير يقين من بقائهم كلهم حتى يدخلوا، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " فوقع الاستثناء على من قد لا يموت على دينه.
[وقيل: بل خاطبهم على ما يعقلون].
وقيل: بل خاطبهم على ما أدبه الله به وأمره به في قوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} الآية.(11/6970)
وقيل: هو استثناء من آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله ذلك، ولا يجوز أن يكون ذلك استثناء من الله، لأن الله عالم بعواقب الأمور، وإنما يكون مثل هذا الاستثناء من المخلوقين الذين لا يعلمون عواقب الأمور، ولا يدرون بأن ذلك الشيء يكون أو لايكون، والله عالم بما يكون وبما لا يكون.
وقال بعض العلماء: إنما أتى الاستثناء في هذا لأن الله خاطب / الناس على ما يعرفه وعلى ما يجب لهم أن يقولوا.
وقيل معنى " إن شاء الله ": إن أمركم الله بالدخول.
وقال نفطويه المعنى فيه: كائن الدخول إن شاء الله ذلك، فليس فيه ضمان على الله أنه لا بد من الدخول، ولكن لما قال: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} دل على(11/6971)
إنفاد المشيئة، وكان الدخول لأنه أخبر أن دون المشيئة فتحاً قريباً فعلم بهذا الوعد أن المشيئة [نافذة] والدخول كائن، فيصير المعنى لتدخلن المسجد الحرام إذا جاءت المشيئة.
قال نفطويه: كانت العدة من الله للمؤمنين بالدخول سنة ست، وصدوا سنة سبع، ودخلوا سنة ثمان، وحج أبو بكر بالناس سنة تسع وفيها نادى على علي رضي الله عنهـ ببراءة، وفتحت مكة سنة عشر، وحج النبي صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة.
والحلق للرجال والتقصير للنساء، وقد يجوز للرجال أن يقصروا. والحلق أفضل ومن أجل جواز التقصير للرجال قال: {وَمُقَصِّرِينَ} ولم يقل ومقصرات، فغلَّب المذكر.
وقيل: إن الاستثناء في الآية أنما وقع على من مات منهم أو قتل وقيل إنّ " إنْ " بمعنى " إذ ".
ثم قال {لاَ تَخَافُونَ} أي: تدخلون غير خائفين.(11/6972)
قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}.
أي: علم الله أن بمكة رجالاً ونساءً مؤمنين، فلو دخلتموها أيها المؤمنون ذلك العام لقتلتم منهم فتلزمكم الديات ويقرعكم بذلك المشركون، فردكم عن مكة من أجل ذلك.
ثم قال: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي: فجعل الله لكم من دون صدكم عن البيت فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك العام واقتسم أهل الحديبية خاصة مغانمها.
وقال مجاهد: الفتح القريب نحرهم الهدي بالحديبية، ورجعوا فافتتحوا خيبر، ثم قضوا عُمرتهم في السنة المقبلة.
وقيل المعنى: فجعل الله من دون رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحاً قريباً وهو فتح خيبر.(11/6973)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
قال: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى [الدين كُلِّهِ]}.
يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله بالرشد إلى الصراط المستقيم، وبالدين القوي الحق وهو الإسلام ليظهره على الدين كله، ليبطل به الملل كلها، فلا يكون دين إلا دينه، وذلك أمر سيكون عند نزول عيسى صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه كان هذا إعلان النبي صلى الله عليه وسلم قد قهر أهل الأديان كلها في وقته، وفي خلافة أبي بكر وعمر.
وقال ابن عباس معناه: ليظهره على أمر الدين كله.
ثم قال: {وكفى بالله شَهِيداً} أي: كفى به شهيداً على نفسه أنه سيظهرك على أمر الدين الذي بعثك به. هذا قول الحسن، وهو اختيار الطبري. ففي هذا إعلام من الله لنبيه عليه السلام أنه سيفتح مكة وغيرها من البلدان.
قال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} أي: وأتباعه من أصحابه هم أشداء على الكفار، أي: ذوو غلظة عليهم وشدة وذوو رحمة فيما بينهم يرحم بعضهم بعضاً ويغلظون على الكفار عداوة في الله.
قال قتادة: ألقى الله في قلوبهم الرحمة لبعضهم من بعض.
ثم قال: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً}.(11/6974)
أي: ترى أصحاب محمد تارة ركعاً وتارة سجداً يلتمسون بذلك من فعلهم في ركوعهم وسجودهم وغلظتهم على الكفار، ورحمة بعضهم لبعض فضلاً من الله / أن يدخلهم في رحمته ويرضى عنهم.
ثم قال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود}.
قال ابن عباس معناه: أثر صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة.
قال عطية: مواضع السجود في وجوههم يوم القيامة أشد بياضاً من اللبن وهو قول مقاتل.
قال الحسن: هو بياض في وجوههم يوم القيامة، وعنه هو بياض في(11/6975)
وجوههم، وعن ابن عباس: أن ذلك في الدنيا وهو السمت الحسن.
وقال مجاهد: أما أنه ليس الذي ترون، ولكنه سيماء الإسلام، وسمته وخشوعه وتواضعه.
وقال الحسن: هو الصفرة التي تعلو الوجه من السهر والتعب، وهو قول ابن عطية.
وقال ابن جبير وعكرمة: هو أثر التراب (وأثر الطهور).
وقال ابن وهب: أخبرني مالك أنه ما يتعلق بالجبهة من تراب الأرض.(11/6976)
ورواه مطرف عن مالك أيضاً.
وأصل السيمي: العلامة.
ثم قال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة}.
أي: هذا الذي تقدم من صفاتهم ونعتهم في التوراة.
ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ}.
أي: وصف أصحاب محمد في الإنجيل ونعتهم فيه كزرع أخرج شطئه، أي: فراخه.
يقال: أَشْطَأَ الزَّرْعُ يُشْطِيءُ أَشْطاً: إِذا أَفْرَخَ.
فشبههم الله في الإنجيل بالزرع الذي أخرج فراخه، وذلك أنهم في أول(11/6977)
دخولهم الإسلام كانوا عدداً قليلاً / كالزرع في أول ما يخرج، ثم جعلوا يتزايدون ويكثرون، كالزرع إذا أخرج فراخه فكثر وعظم بها، ونما، فيكون الأصل ثلاثين وأربعين وأكثر بالفراخ فكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً ثم تزايدوا وكثروا فكانت هذه صفتهم في التوراة والإنجيل من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض فكان مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل، هذا قول أكثر المفسرين، وهو اختيار الطبري، وروى عن مجاهد أنه قال: المثلان منصوصان فيهم في التوراة والإنجيل.
قوله: {فَآزَرَهُ} أي: قواه، يعني فقوى الشطء الزرع، وذلك أن الزرع أول ما يخرج رقيق الأصل ضعيفاً، فإذا أخرج فراخه غلظ. أصله وتقوى فكذلك(11/6978)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قلة ضعفاء ومستضعفين، فلما كثروا وتقووا قتلوا المشركين.
ثم قال: {فاستغلظ} أي: فاستوى الزرع على سوقه لما غلظ وتقوى بخروج الفراخ.
والسوق جمع ساق، وسوقه: أصوله.
وعن ابن عباس أنه مثل للنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله وحده كخروج الزرع مفرداً، ثم بعث الله قوماً آمنوا به فتقوى بهم كالزرع إذا أخرج فراخه فتقوى بها وغلظ. هذا معنى قوله.
وقيام معنى: {فاستوى على سُوقِهِ} أي: تلاحق الفراخ بالأصول فاستوى جميع ذلك، كم تلاحق من آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم ببعض فاستوى جميعهم في الإيمان.(11/6979)
قال ابن زيد: " فآزره "، فاجتمع ذلك فالتفت كالمؤمنين كانوا قليلاً ثم تزايدوا فتأيدوا.
ثم قال: {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} أي: يعجب هذا الزارع حين استغلظ واستوى على سوقه، فحسن عند زارعيه.
وقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} فاللام متعلقة بمحذوف، والتقدير: فعل ذلك بهم ليغيظ بهم الكفار، والتقدير: فعل ذلك ليغيظ بمحمد وأصحابه الكفار، فالمعنى فعل ذلك بمحمد وأصحابه ليغيظ الكفار.
ثم قال: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
أي: وعد الله الذين صدقوا محمداً وعملوا الأعمال الصالحات من أصحاب محمد أجراً عظيماً ففضلهم بذلك على غيرهم.
وقيل: معنى وعد الله الذين تثبتوا على الإيمان من أصحاب محمد أجراً عظيماً، وستراً على ذنوبهم.
وقد روى سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله:(11/6980)
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} إلى آخر السورة، أن {الذين مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} عمر بن الخطاب {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ}: عثمان ابن عفان، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}، علي بن أبي طالب {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً}: طلحة والزبير {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} / عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،(11/6981)
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل}: أبو عبيدة بن الجراح، {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} بأبي بكر الصديق، فاستغلظ بعمر، {فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع} بعثمان، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} بعلي، {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا في قلب مؤمن ".
وسئل: أبو هريرة عن القدر فقال: اكتف منه بآخر سورة الفتح، يريد {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ (أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار)} آخر السورة، ثم قال أبو هريرة: " إن الله نعتهم قبل أن يخلفهم ".(11/6982)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
سورة الحجرات مدنية قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ} إلى قوله: {بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية.
روى سفيان عن الأعمش عن خيثمة قال: هل تقرؤون {يا أيها الذين آمَنُواْ} إِلا وهي في التوراة " يا أيها المساكين ". فالمعنى: يا أيها(11/6983)
الذين صدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم لا تعجلوا بقضاء أمركم في دينكم قبل أن يقضي الله عز وجل ورسوله لكم فيه.
حكي عن العرب: فلان تقدم بين يدي إمامه؛ أي: تعجل الأمر والنهي دونه.
قال ابن عباس معناه: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
وعنه أنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وقال مجاهد معناه: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله عز وجل على لسان رسوله.(11/6984)
وقال قتادة: كان أناس يقولون لو نزل في كذا، أو صنع كذا وكذا، فكره الله عز وجل ذلك.
وقال الحسن: ذبح أناس من المسلمين قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر لتقدمهم.
ففي هذا دليل أنه لا يجوز أن يؤدى فرض قبل وقته.
قال الضحاك: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله: يعني بذلك في القتال، وما كان من أمر دينهم، لا يصلح لهم أن يتقدموا في أمر حتى يأمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن أبي مليكة: أن الآية نزلت في رأي، أشار به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم،(11/6985)
وذلك أن النبي / صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلاً إذ مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر.
وقيل: نزلت في سبب كلام دار بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وذلك أن (وفداً من بني تميم) قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس، فقال له أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال له عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية في ذلك.(11/6986)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [أي: يسمع قولكم ويعلم فعلكم فاتقوه وخافوه].
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ}.
أي: لا تسابقوه بالكلام وتغلظوا له في الخطاب.
{وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}.
أي: لا تنادوه باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه، ولكن عظموه ووقروه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادى، قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله. وهذا كله أمر من الله عز وجل للمؤمنين بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله، وهو مثل قوله: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63].
روي: أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: أقسمت بالله ألا أكلم رسول الله(11/6987)
صلى الله عليه وسلّم إلا كأخي السرار.
وقد كره جماعة من العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحضرة العلماء اتباعاً لأدب الله عز وجل وتعظيماً لرسول الله بعد موته كما كان يحب في حياته، وتشريفاً للعلم، إذ العلماء ورثة الأنبياء.
وقد روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف بعالمنا ".
وروي: أن هذه الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكان(11/6988)
خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم / في مفاخرة بني تميم للأقرع بن حابس وكان في أذنيه صمم، فكان إذا تكلم أعلى صوته، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله، وخشي أن يكون حبط عمله. فعند ذلك شاكى أبو بكر ألا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار فأنزل الله عز وجل في أبي بكر ومن فعل فعله.
{إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى}.
أي: طهرها من كل دنس وجعل فيها التقوى. وثابت هذا هو الذي وقعت جويرية: أم المؤمنين في سهمه فكاتبته على نفسها.(11/6989)
قالت عائشة رضي الله عنها: وكانت جويرية امرأة حلوة مليحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو - إلا أن رأيتها على باب حجرتي كرهتها وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم سيرى منها ما رأيت، تريد من حسنها وحلاوتها.
قالت عائشة: فدخلت جويرية على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عنك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس، وكاتبته عن نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: فهل (لك خير) من ذلك، قالت: وما هو يا رسول الله، قال: أقض كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، فخرج الخبر في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله، فأرسلوا ما بأيديهم من الأسرى إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(11/6990)
قالت عائشة: فلقد أعتق الناس بتزويجها إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، قالت: فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية.
ثم قال: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}.
أي: مخافة أن تبطل أعمالكم وأنتم {لاَ تَشْعُرُونَ} أي: لا تعملون.
وقال الزجاج تقديره " لأن تحبط "، وهو عنده مثل {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 7] وسمى هذه اللام لام الصيرورة أي: التقطه ليصير أمرهم إلى ذلك؛ لأنهم قصدوا التصيّر إلى ذلك ولكنه في المقدر، وفيما سبقه من علم الله، فالمعنى لا ترفعوا أصواتكم فيكون ذلك سبباً لإبطال أعمالكم.
وفي قراءة عبد الله: " فَتَحْبَطَ أَعْمَالُكُم ".
ثم قال: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} أي: يكفون(11/6991)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
رفع أصواتهم عند حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} (أي: اختبرها فاصطفاها) وأخلصها للتقوى كما يمتحن الذهِب بالنار فيخلص جيده ويبطل خبيثه.
قال مجاهد: اختبرها فوجدها خالصة للتقوى.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: امتحنها للتقوى: أي: أذهب الشهوات منها.
ثم قال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: لهم ستر وعفو من الله عز وجل يوم القيامة، ولهم أجر عظيم: وهو الجنة والخلود فيها.
روي: أن هذه الآية: نزلت في قوم من الأعراب نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته يا محمد أخرج إلينا.(11/6992)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قال مجاهد: هم أعراب من بني تميم.
وقيل: " هو الأقرع بن حابس نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات وقال: يا محمد (إن مدحي زين وإن ذمي شين)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك الله جل ذكره ".
وقوله: {لاَ يَعْقِلُونَ} أي: لا يعقلون أن فعلهم ذلك قبيح.
قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}.
أي: لو تركوا نداءك من وراء الحجرات، وصبروا حتى تخرج إليهم لكان ذلك عند الله خيراً لهم، لأن الله عز وجل قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، والله غفور لمن ناداك وجهل أن تاب عن ذلك، رحيم به أن يعذبه بعد توبته /.
وقيل: بل غفر الله لهم فعلهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بفعلهم الاستخفاف(11/6993)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
بحق النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان فعلهم سوء أدب منهم.
قال: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا}.
روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قالت: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثهم الشيطان أنهم يريدون قتله فرجع إلى (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضعوا له حين [صلُّوا] الظهر، وقالوا: نعوذ بالله من سخط رسول الله، بعث(11/6994)
إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا به، وقرت به أعيننا. ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر فنزلت.
{يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [فتبينوا أَن تُصِيبُواْ]} الآية.
وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة إلا أن مجاهداً قال: إنه الوليد قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتبين ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فأتوه وأخبروه أنهم مستمسكون بالإسلام وسمع صلاتهم وآذانهم، فلما أصبحوا أتاهم (خالد فرأى) الذي يعجبه فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فأنزل الله عز وجل الآية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " التبيين من الله والعجلة من الشيطان ".(11/6995)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي: قوم براء مما قُذفوا به فتندموا على فعلتم بهم.
قال: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ}.
أي: إعلموا أن نبي الله عز وجل بين ظهركم فلا تقولوا الباطل فإن الله يخبره بأخباركم فلو أطاعكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تقولون له لنالكم عنت وشدة ومشقة، لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد قوله في بني المصطلق إنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة لغزاهم وأصابهم بالقتل والسباء وهم براء، فكنتم تقتلون وتسبون من لا يحل قتله ولا سباؤه، فيدخل عليكم الإثم والمشقة في إخراج الدّيات والعنت والفساد والهلاك.
ثم قال: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} أي: وفقكم له وزينه في قلوبكم.
وقيل معناه: أمركم أن تحبوا الإيمان، وزينه في قلوبكم فأحببتموه وهذا قول مردود لأن الكفار قد أمرهم الله بمحبة الإيمان أيضاً، فلا فرق بين كافر ولا مؤمن في ذلك. وقيل معناه: فعل بكم أفاعيل تحبون معها الإيمان، وهي التوفيق.
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} أي: فعل بكم أفاعيل كرهتم معها ذلك.(11/6996)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قال ابن زيد: حببه إليكم: حسنه في قلوبكم، قال العصيان: عصيان النبي صلى الله عليه وسلم، والفسوق: الكذب، والعصيان: ركوب ما نهى الله عز وجل عنه.
ثم قال: {أولئك هُمُ الراشدون} أي: هؤلاء الذين حبّب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والكذب، وفعل ما نهاهم عنه هم السالكون طريق الحق.
قال: {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} أي: فعل ذلك بهم للفضل والنعمة، فانتهيا عند الزجاج على أنهما مفعولان من أجلهما.
ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: ذو علم بالمحسن منكم والمسيء /، ومن هو أهل الفضل والنعمة ممن لا يستحق ذلك ذو حكمة في تدبيره خلقه.
قال الزجاج قوله: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}: معناه أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة، والآيات المعجزات.
ويجوز أن يكون زينه في قلوبهم بتوفيقه إياهم إلى طريقِ الحق في سبيل الرشاد.(11/6997)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا}.
طائفتان عند البصريين / رفع بفعلهم، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما.
وهما رفع بالابتداء عند الكوفيين، والخبر: اقتتلوا، وله نظائر (كثيرة في القرآن) وقد تقدم ذكرها، وسيأتي نظائرها فيما بعد إن شاء الله والمعنى: أصلحوا بينهما أيها المؤمنون بالدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله.
{فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله}.
أي: فإن أبت إحداهما الرضا بحكم الله عز وجل وحكم رسوله فقاتلوا الفئة التي أبت وبغت حتى ترجع إلى أمر الله، فإن رجعت الباغية إلى حكم الله بعد قتالكم إياها،(11/6998)
فأصلِحوا بينها وبين الطائفة الأخرى بالإنصاف والعدل بينهما قال ابن زيد لا يقاتل الفئة الباغية إلا الولاة.
وروي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلا في أمر تنازعا فيه.
وروي عن أنس أنه قال: قيل للنبي عليه السلام لو أتيت عبد الله بن أُبي، قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم إليه وركب حماراً وانطلق معه المسلمون، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله المنافق: إليك عني، فوالله لقد آتاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه فرد عليه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي(11/6999)
والنعال فنزلت هذه الآية فيهم.
وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال: لها أم زيد تحت رجل من غيرهم فكان بينها وبين زوجها خصومة، فبلغ قومها فجاؤوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي [وبالنعال]، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ليصلح بينهم فنزل القرآن في ذلك.
وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما خصومة وكان أحدهما أكثر عشيرة من الآخر فأبى أن يحاكمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتدافعا وتقاتلا بالأيدي والنعال فنزلت الآية فيهما.(11/7000)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين}.
[أي: أعدلوا في حكمكم بينهم إن الله يحب المقسطين] العادلين في أحكامهم.
يقال قسط الرجل: إذا جار، وأقسط إذا عدل.
قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ}.
أي: إنما المؤمنون إخوة في الدين فأصْلِحوا بينهم إذا اقتتِلوا بأن تحملهم على حكم كتاب الله عز وجل.
{ واتقوا الله} أي: وخافوه في حكمكم فلا تحيفوا.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوا ذلك ليرحمكم ربكم.
قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ}.
أي: لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين لعل (المستهزئ منه خير من الهازئ)، وكذلك النساء.
" وقوم " في كلام العرب يقع للمذكرين خاصة، ويجوز أن يكون فيهم نساء على المجاز.(11/7001)
وقال بعض أهل اللغة: إنما قيل لجماعة المذكرين قوم لأنه أريد جمع قائم فهذا أصله ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين.
فقوم عنده جمع قائم " كَزائِرٍ وزُوَر، وصَائِم وصَوْم، ونَائِم ونَوم ".
وقيل: سميت الجماعة قوماً لأنهم يقومون مع داعيهم في النوائب والشدائد ومثل ذلك قولهم لقوم الرجل نفره، فهو جمع نافِر؛ لأنهم ينفرون معه إذا استنفرهم، قال مجاهد: لا يسخر قوم من قوم هو سخرية الغني بالفقير لفقره، ولعل الفقير أفضل عند الله من الغني.
وقال ابن زيد: معناه لا يسخر من ستر الله على ذنوبه ممن (كشف الله سبحانه) في الدنيا ستره، لعل ما أظهر الله عز وجل على هذا في الدنيا خير له في الآخرة من أن يسترها عليه في الدنيا، فلست أيها الهازئ على يقين أنك أفضل منه بستر الله عز وجل عليك في الدنيا هذا معنى قوله.(11/7002)
ويروى أن هذه الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل بن هشام قدم المدينة مسلماً فكان يمر بالمؤمنين فيقولون: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم أن يقولوا ذلك /، ونزلت الآية عامة فيه وفي غيره.
ثم قال: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} / أي: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقال: أنفسكم لأن المؤمنين كرجل واحد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما المؤمنون كالجسد الواحد غذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر ".
يقال: " لَمَزهُ يَلْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ لُمزاً إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّمَهُ ".
قال علي بن سليمان: اللمز الطعن على الإنسان بالحضرة، والهمز في الغيبة.
قال المبرد: اللمز يكون باللسان، والعين (تعيبه وتجدد) إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلا باللسان في الحضرة والغيبة وأكثر ما يكون في(11/7003)
الغيبة، وقال النبز: اللقب الثابت، والمنابزة: الإشاعة والإذاعة.
قال الطبري: النبز واللقب واحد.
قال الضحاك: نزلت هذه الآية في بني سلمة قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما منهم رجل إلا وله إسمان وثلاثة، فكان إذا دعي الرجل بالاسم قالوا إنه يغضب من هذا، فنزلت {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب}.
وقيل معناه: قول الرجل للرجل يا فاسق يا زاني، يا كافر يا منافق قاله عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد.(11/7004)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
وقال ابن عباس: هو تسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسق بعد التوبة.
وقال الحسن: هو اليهودي والنصراني يسلمان فنهي أن يقال لهما يا يهودي يا نصراني بعد إسلامه.
وقيل: هو دعاء الرجل للرجل بما يكره من إسم أو صفة أو لقب، وهذا قول جامع لما تقدم.
ثم قال: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان}.
أي: من فعل هذا الذي نهي عنه فسخر من أخيه المؤمن ونبزه بالألقاب فهو فاسق.
وبين الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا أن تسموا فساقاً، ففي الكلام حذف وتقديره ما ذكرنا.
وقال ابن زيد: معناه بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته.
ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون}.
أي: ومن لم يتب عن نبزه أخاه وسخريته منه فهو ظالم نفسه.
قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ}.(11/7005)
أي: تجنبوا أن تظنوا بالمؤمنين شراً، فإن الظن غير محق، وإنما قال: " كثيراً " ولم يقل: اجتنبوا الظن كله؛ لأن الظن قد يكون في الخير فتظن بأخيك المؤمن خيراً، وذلك حسن، فلو قال: اجتنبوا الظن كله يمنع أن يظن الإنسان بأخيه خيراً، ولذلك قال: إن بعض الظن إثم، أي: إن ظنك بأخيك المؤمن الشر لا الخير إثم لأن الله عز وجل قد نهاك عنه.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والظن فإنه أكذب الحديث فلا ينبغي لأحد أن يظن شراً بمن ظاهره حسن، ولا بأس أن نظن شراً بمن ظاهره قبيح ".
قال مجاهد: خذوا ما ظهر واتركوا ما ستره الله عز وجل.
ثم قال: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}.
أي: ولا يتبع بعضكم عورة بعض، فيبحث عن سرائره ليطلع على عيوبه. قال ابن عباس: نهى الله عز وجل المؤمن أن يتبع عورات المؤمن.(11/7006)
قال مجاهد: ولا تجسسوا: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستره الله وهو معنى قول قتادة.
والتجسس والتحسس (سواء في اللغة).
وقوله: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}.
أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره أن يقال له في وجهه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: " هو أن تقول لأخيك ما فيه، فإن كنت صادقاً فقد اغتبته، وإن كنت كاذباً فقد بهته ".
قال مسروق: إذا ذكرت الرجل بأسوأ ما فيه فقد اغتبته، وإن ذكرته بما ليس(11/7007)
فيه فقد بهته.
قال الحسن: الغيبة أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرت بما ليس فيه فذلك البهتان.
قال ابن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشر سواد شعره ثم قلته من ورائه فقد اغتبته.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة: ما أطول ذراعها، فقال: قد اغتبتها فاستحلي منها.
وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الغيبة أشد من الزنا لأن الرجل يزني فيتوب الله عليه، [والرجل يغتاب الرجل فيتوب، فلا يتاب عليه حتى يستحله] ".
ثم قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}.(11/7008)
أي: أنتم تحبون أن تأكلوا لحم الميتة، وتكرهونه فكذلك يجب / أن تكرهوا الغيبة للحي فإن الله حرم غيبة المؤمن حياً كما حرم أكل لحمه ميتاً.
قال ابن عباس: معناه كما أنت كاره أكل لحم الميتة المدودة فاكره غيبة أخيك كذلك، فأكل الميتة حرتم في الشريعة مكروه في النفوس مستقذر فضرب الله مثلاً للغيبة، فجعل المغتاب كآكل لحم / الميتة.
والعرب تقول: ألحمتك فلاناً: أي: أمكنتك من عرضه.
وقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ}.
[أتى] بالماضي على تقدير فقد كرهتموه، ففيه معنى الأمر، ودل على ذلك قوله: {واتقوا الله} عطف عليه وهو أمر.
وقال الكسائي: فكرهتموه معناه: فينبغي أن تكرهوه.
قال المبرد: معناه فكرهتم أن تأكلوه.
ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}.
أي: وخافوا الله أن تقدموا على فعل ما نهاكم عنه من الظن السوء وتتبع عورات المسلم والتجسس على ما خفي عنك باغتياب أخيك المسلم وغير ذلك مما(11/7009)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
نهاك عنه، إن الله تواب على من تاب إليه: أي: رجع إليه، رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها.
قوله: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى}.
أي: خلقناكم من آدم وحواء، يعني من ماء ذكر وماء أنثى.
قال مجاهد: خلق الله عز وجل الولد من ماء الرجل وماء المرأة.
ثم قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا}.
أي: وجعلناكم متناسبين يناسب بعضكم بعضاً فيعرف بعضكم بعضاً، فيقال فلان ابن فلان من بني فلان فيعرف قرب نسبه من بعده فالأفخاذ أقرب [من القبائل والقبائل أقرب] من الشعوب.
قال مجاهد: شعوباً هو النسب البعيد، والقبائل دون ذلك.(11/7010)
وكذلك قال قتادة والضحاك.
قال ابن عباس: الشعوب الجماع، والقبائل البطون.
وقال ابن جبير: الشعوب الجمهور، والقبائل الأفخاذ.
وواحد الشعوب شعب بالفتح، والشعب عند أهل اللغة: الجمهور مثل مضر تقسمت وتفرقت، ثم يليه القبيلة لأنها يقابل بعضها بعضاً، ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ وهو أقربها.
وقيل: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب.
ثم قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ}.
أي: أفضلكم عند الله أتقاكم لارتكاب ما نهى الله سبحانه عنه، وأعمالكم لما(11/7011)
أمر الله تعالى به ليس فضلكم بأنسابكم إنما الفضل لمن كثر تقاه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأل عن غير الناس فقال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم وأتقاهم ".
قال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إنا جعلنا نسباً وجعلتم نسباً إن أكرمكم عند الله أتقاكم ليقم المتقون، فلا يقوم إلا من كان كذلك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخير الناس من طال عمره وحسن عمله ".
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " لتعرفوا أن أكرمكم عند الله بفتح " أن "(11/7012)
وتعرفوا على مقال تضربوا، على معنى جعلهم شعوباً وقبائل لكي يعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، ومجاز هذه القراءة: جعلهم كذلك ليعرفوا أنسابهم؛ لأن أكرمهم عند الله أتقاهم؛ لأن: " تَعْرِفُوا " عملت في: " أن " لأنه لم يجعلهم شعوباً قبائل ليعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، إنما جعلهم كذلك ليعرفوا أنسابهم.
وكسر " أن " أولى وأتم في المعنى المقصود إليه بالآية.
ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
أي: ذو علم، بأتقاكم عنده وأكرمكم، وذو خبر بكم وبمصالحكم.(11/7013)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
ثم قال: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا}.
أي: قالت جماعة الأعراب صدقنا بالله وبرسوله، قل لهم يا محمد لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وخضعنا وتذللنا.
والإسلام في اللغة الخضوع والتذلل لأمر الله جل ذكره والتسليم له.
والإيمان: التصديق بكل ما جاء من عند الله.
وللإسلام موضع آخر وهو الاستسلام خوف القتل، قد يقع الإسلام بمعنى الإيمان وقد يكون بمعنى الاستسلام. والإيمان والإسلام يتعرفان على وجهين إيمان ظاهر/ لا باطن معه نحو قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وإيمان باطن وظاهر وهو المتقبل، وإسلام ظاهر لا باطن معه كالذي في هذه السورة.
والإسلام أعم من الإيمان لأن الإسلام ما صدق به باطن [ونطق به الظاهر والإيمان ما صدق به الباطن]، فإن كان الإسلام ظاهراً غير باطن فليس بإيمان إنما هو استسلام ولا هو إسلام صحيح.
وهذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد، وهم من المؤلفة قلوبهم أسلموا(11/7014)
بألسنتهم خوف القتل والسباء ولم تصدق قلوبهم ألسنتهم.
فرد الله عليهم قولهم " آمنا " إذ لم يصدقوه بقلوبهم، وقال بل قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا في الظاهر خوف القتل، فالإسلام / قول، والإيمان قول وعمل.
قال الزهري: الإسلام قول والإيمان عمل.
قال ابن زيد قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} أي: لم تصدقوا قولكم بعملكم.
ثم أخبر تعالى بصفة المؤمنين فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}.
قال النخعي: ولكن قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا.
وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم الله عز وجل أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين.(11/7015)
وقيل إنهم منوا على النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانهم فأعلمهم الله عز وجل أن هذا ليس من خلق المؤمنين إنما هو من خلق من استسلم خوف السباء والقتل، ولو دخل الإيمان في قلوبهم ما منّوا به، ودليله قوله بعد ذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} [الحجرات: 17].
وقال قتادة: لم تعم هذه الآية كل الأعراب، بل فيهم المؤمنون حقاً، إنما نزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله فقالوا آمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}.
أي: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان وحقائقه في قلوبكم، وهو نفي قد دخل.
ثم قال: {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً}.
أي: إن أطعتم الله ورسوله فيما تؤمرون به لا ينقصكم الله (من ثواب أعمالكم شيئاً في الآخرة) ولا يظلمكم.
قال ابن زيد معناه: " إن تصدقوا قلوبكم بفعلكم يقبل ذلك منكم، وتجازوا(11/7016)
عليه.
يقال: أَلَتَهُ ويَأَلِتْهُ وَلآتَهُ يَلِيتُه لغتان بمعنى: نَقَصَه، فمن قرأ " لاَ يَلِتْكُمْ " فهو من لاَتَ يَلِيتَ، وتصديقها في المصحف أنها بغير ألف بعد الياء، ولو كانت همزة لم تختصر من الخط.
ومن قرأ " يَاْلِتْكُمْ " فهو من أَلَتَ يَأْلِتُ.
فأما قوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم} [الطور: 21] فهو من أَلَتَ يَأْلَتُ، (ولو جاء على اللغة) الأخرى لقيل، وما أَلَتْنَاهُمْ. وهذه لغة هذيل.
وبذلك قرأ ابن مسعود وأُبي، وهذه القراءة شاهدة لقراءة من قرأ هنا(11/7017)
" يَلِتْكُمْ " من لاَتَ يَلِيْتُ، لكنها مخالفة للخط؛ لأن الخط في " والطور " بألف قبل اللام، لكن من جعله هنا من لات وفي " الطور من ألت " فإنما جمع بين اللغتين واتبع الخط في الموضعين، ومثله مما أجمع عليه قوله: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5]، فهذا من أَمْلَى يُمْلِي.
ثم قال في موضع آخر: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282]، فهذا من أمثال، يقال أَمْلَى عليه وَأَمَال عَلَيْه: لغتان، ومثله قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء: 55] فهذا من أمليت.
وقال في موضع آخر {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] فهذا من صليت.
ومثله قوله: {كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق} [العنكبوت: 18] من أبدأ، وقال: {كَيْفَ بَدَأَ الخلق} [العنكبوت: 19] من بدأته، يقال: أَبْدَأَهُ وَبَدَأَهُ لغتان.(11/7018)
وقد قرأ ابن كثير: أَلِتْنَاهُمْ بكسر اللام، وهي لغة أيضاً. يقال: أَلِتَ يَأْلِتُ وَأَلَتَ يَألَتُ.
ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.(11/7019)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
أي: غفور للذنوب لمن تاب منها رحيم أن يعذب أحداً بعد توبته.
ثم قال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}.
أي: صدقوا بما أنزل الله، وبرسول الله بقلوبهم، وأقروا به بألسنتهم، وقبلوا ما أمروا به، وانتهوا عما نهوا عنه، ثم لم يُشكوا في ذلك.
{وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون} أي: هم الذين صدقوا في قولهم / إنا مؤمنون.
قال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي: أتعلمونه بطاعتكم وما أضمرت قلوبكم، وهو يعلم ما غاب عنكم في السماوات والأرض.
لا يخفى عليه شيء من ذلك، فكيف يخفى ما تخفي صدوركم.
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: ذو علم بجميع الأشياء.
قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ}.
أي: يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، قل لهم: لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم بهدايته لكم إلى الإيمان، ولولا توفيقه لكم ما أسلمتم، فالمنة له لا إله إلا هو إن كنتم صادقين في قولكم (أنكم آمنتم)، فالمنة في ذلك عليكم لله عز وجل، ولا منة لكم على الله، وذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفضل المهاجرين بالعطاء ليستألفهم على(11/7020)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
الإسلام فكرهت الأنصار ذلك وتكلمت، فأنزل الله عز وجل { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} الآية، فلما نزلت أتى الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكون فقالوا يا رسول الله جئتنا ونحن ضلال فهدانا الله بك، وجئتنا ونحن أذلة فهدانا الله بك، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لئن قلتم إنك جئتنا ذليلاً فأعززناك ومطروداً فآويناك، فقالت الأنصار بل لله ورسوله المنة علينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس دثاري وأنتم شعاري، ولو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار ولولا الهجرة لكنت أحداً من الأنصار " ".
قال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} أي: يعلم ما غاب فيها لا يخفى عليه [شيء]، فهو يعلم الصادق منكم من الكاذب في دعواه، فلا يخفى عليه ما تكنه صدوركم.(11/7021)
ثم قال: {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: ذو بصر بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء فهو محصيها عليكم حتى يجازيكم بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(11/7022)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
مكية
سورة ق مكية: قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلى قوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ) [1 - 14].
روى عطاء والضحاك عن ابن عباس: أن ق اسم جبل بالدنيا من زبرجدة خضراء وأن السماء عليه مقبية أقسم الله جل ذكره به.
وقال ابن عباس: " ق " و " ن " وأشباه هذا قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.(11/7023)
وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن، وعنه: أنه اسم من أسماء السور، والوقف على ق، في هذه الثلاثة تقديرات، حسن.
وقال الفراء: معنى ق، " قُفِيَ الأَمْرُ واللهَّ "، فاكتفى بالقاف عن الجملة كما قال: " قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا، فَقَالَتْ قَافْ "، أي: قَد وقَفْتُ، أي: أي: فاكتفى بالقاف عن(11/7024)
الجملة، وتَقِفُ على " قاف " في هذا القول إِلاَّ أن تَجْعَلَه جواباً للقسم بعده فلا تقِفُ عليه، فإن أضمرتَ الجواب وقفتَ على قاف، وكذلك التقدير في القول الذي بعده، وهو قول مجاهد.
وقال مجاهد: ق جبل محيط بالأرض، وقيل: إنه من زمردة خضراء وإن خضرة السماء والبحر منه.
وقوله: {والقرآن المجيد} قسم، والمجيد: الكريم.
وقيل: الرفيع القدر.
واختُلف في جواب القسم، فقيل: الجواب {بَلْ عجبوا} لأن " بل " تُؤَكد وتُوجِب وقوع ما بعدها. مثل " أن " و " اللام "، وقولُك " لَقَدْ عَجِبُوا " و " بَلْ عَجِبُوا " واحد.
وقال الأخفش سعيد، الجواب: قد علمنا ما تنقص الأرض، أي: قد علمنا(11/7025)
ذلك، وهو قول الكسائي.
وقال الزجاج: الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن المجيد لتُبعثُن.
وقيل التقدير: والقرآن المجيد لتعلمن عاقبة تكذيبكم بالبعث، ودل على ذلك مَا حكى الله عنهم من قولهم {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3].
وقيل الجواب (ق لأنه) بمعنى قُفِيَ الأَمْرُ والقرآن المجيد.
وقيل الجواب (ق): وعلى تقدير هو " ق " والقرآن المجيد، وهذا على قول ابن زيد ووهب بن منبه لأنهما قالا " قاف " اسم للجبل المحيط بالأرض.(11/7026)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
وقيل الجواب {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى}.
قال تعالى: {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ}.
أي: لم يكذبك قريش يا محمد لأنهم لا يعرفونك بل لتعجبهم وإنكارهم من بشر / مثلهم ينذرهم بأمر الله عز وجل.
{ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
قال بعض أهل المعاني: (العجب وقع من المؤمنين) والكافرين فقيل بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم.
ثم ميز الله الكافرين من المؤمنين [فقال تعالى]: {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا} الآية فوصفهم بإنكار البعث، ولم يقل: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقالوا هذا شيء عجيب.
ثم بيَّن قول الكافرين من جميع من تعجب من إرسال منذر، فآمن المؤمنون(11/7027)
مما تعجبوا منه، وكفر الكافرون به.
ثم قال تعالى حكاية عن قولهم أنهم قالوا: {أَءِذَا مِتْنَا}، وإنما جواب منهم لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم لهم، أنهم يبعثون، فأنكروا ذلك فقالوا:
{أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي: أَنُبعَثُ إذا كنا في قبورنا تراباً؟ وقوله: {أَءِذَا مِتْنَا}: إنما هو جواب منهم لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يبعثون ويجازون بأعمالهم.
ودل على ذلك قوله: {أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} لأن المنذر أعلمهم أنهم يبعثون فأنكروا ذلك، فقالوا: أئِذا متنا وكنا ترابا، واكتفى بدلالة الكلام على حكاية ما قال لهم المنذر وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنما أتى هذا الإنكار ولم يتقدم قبله شيء للجواب المضمر المحذوف، والتقدير: والقرآن المجيد لتبعثن، ففهموا ذلك فقالوا جزاباً: أنبعث إذا كنا تراباً، إنكاراً للبعث.(11/7028)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
وقيل: أن " أئذا متنا " جواب لِما قيل لهم، إذ أنكروا إتيان منذر منهم، وقالوا هذا شيء عجيب، فقيل لهم ستعلمون عاقبة إنكارهم إذا بعثتم بعد موتكم، فقالوا منكرين: أئذا متنا وكنا تراباً نبعث.
ومعنى: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي: ذلك بعث لا يكون.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ}.
أي: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم [بعد موتهم، وعندنا كتاب محفوظ بما تأكل الأرض منهم.
قال مجاهد: ما تأكل الأرض منهم أي: عظامهم].
وقال ابن عباس: من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم، وما يبقى، فالذي يبقى من الإنسان هو عجب الذنب ومنه يتركب عند النشور.
وروى أبو سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عَجُبُ الذَّنَبِ، فقيل: وما هو يا رسول الله، فقال مثل حبة خردل منه تنشرون ".(11/7029)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
وقيل معناه: وقد علمنا ما يدخل (في الإسلام من بلدان المشركين).
قال: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} يعني بالقرآن.
{فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي: مختلط ملتبس لا يعرفون حقه من باطله.
وقال ابن عباس: المريج الشيء المنكر، وعنه مريج: مختلف، وعنه في أمر ضلالة.(11/7030)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
وقال (ابن جبير ومجاهد) مريج: ملتبس.
وقال ابن زيد في المختلط: يقال مرج الخاتم في أصبعه: إذا اضطرب من الهزال، فتقديره: فهم في أمر مختلط مختلف، لا يثبتون على رأي: واحد ولا على قول، يقولون مرة ساحر، ومرة معلم، ومرة كاهن، ومرة مجنون /، ثم دلهم جل ذكره على وحدانيته وآياته فقال:
{أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا}.
أي: أفلم ينظر هؤلاء المنكرون للبعث بعد الموت كيف خَلقنا السماء فوقهم بغير عمد يرونها، وكيف زيناها بالنجوم وليس فيها فتوق ولا شقوق فيعلمون أن من قدر على هذا الأمر العظيم الجليل وأحدثه لا يتعذر عليه إحياء الموتى على صغر خلقهم وقد نبه على هذا بقوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 56].
قال: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}.
أي: وينظرون إلى الأرض كيف مددنا مسطحة لا اعوجاج فيها وجعلنا على(11/7031)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
جوانبها جبالاً تمسكها لئلا تميد بأهلها، وكيف أنبتنا فيها من كل جنس من النبات فيبهج من رآه ويسره، فمن قدر على اختراع هذا كله كيف يعجز عن إحياء الموتى بعد موتهم.
وقيل بهيج: حسن، قاله ابن عباس.
أي: فعل ذلك نعمة منه يبصرها / العباد فيستدلون على عظيم قدرته، وأنه لا يعجزه شيء أراده، ويتذكرون به فيتَّعظون ويزدجرون عن مخالفة أمره ونهيه.
والمنيب: التائب، قاله قتادة: وقيل منيب: مخبت، قاله مجاهد.
و {تَبْصِرَةً وذكرى}: مصدران أو مفعولان من أجلهما؛ أي: فعلنا ذلك " ليبصركم الله " القدرة، ولتتذكروا عظمة الله فتعلموا أنه قادر على ما يشاء من إحياء الموتى وغير ذلك.
قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا} أي: مطراً مباركاً فأنبتا به جنات، أي:(11/7032)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
بساتين، و " حب الحصيد " يعني الزرع من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب.
قال الفراء: الحصيد: هو إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الحب هو الحصيد.
والتقدير عند البصريين، وحب النبت الحصيد.
أي: وأنبتنا النخل طوالا، وهي حال مقدرة، ونضيد بمعنى منضود أي: مكتنز منضم متراكب.
قال: {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} " رزقاً " مصدر أو مفعول من أجله.
ثم قال: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أي: أحيينا بالمطر بلدة قد أجذبت وقحطت فلا نبات فيها.
ثم قال: {كَذَلِكَ الخروج} أي: كذلك تخرجون من قبوركم يبعث الله جل ذكره(11/7033)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
ماء ينبت به الناس كما [ينبت به الزرع، أي: كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها فأخرجنا فيها النبات والزرع بالمطر]. كذلك يبعث عليكم مطراً فتحيون للبعث يوم القيامة.
قال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي: كذبت قبل قومك يا محمد قوم نوح.
{وَأَصْحَابُ الرس وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيكة وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ}
أصحاب الأيكة: قوم شعيب.
والرس: بير قتل فيها صاحب يس، قاله الضحاك.
وقال كعب: أصحاب الأخدود، وهم الذين أرسل إليهم اثنان وعزز بثالث، قال: والرس: الأخدود.
قال قتادة: الأيكة: الشجر الملتف.
قال عبد الله بن سلام: كان تبع رجل من العرب ظهر على الناس فاختار فتية من الأحبار فاستبطنهم واستدخلهم حتى أخذ منهم وتابعهم فاستنكر ذلك قومه(11/7034)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
وقالوا قد ترك دينكم وتابع الفِتَيَة فلما فشا ذلك قام الفتية فقالوا بيننا وبينهم النار تحرق الكاذب وينجو منها الصادق ففعلوا فعلق الفتية مصاحفهم في أعناقهم ثم غدوا إلى النار فدخلوها فانفرجت عنهم ثم دخلت الفرقة الأخرى فأحرقتهم فأسلم تبع، وكان رجلاً صالحاً.
وقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل} أي: كلهم كذب الرسل فوجب عليهم وعيد الله عز وجل وهو النقمة بالعذاب، وهو تخويف من الله عز وجل لقريش أنهم إن تمادوا على كفرهم حق عليهم الوعيد أيضاً.
قوله: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول}.
هذا توبيخ وتقريع لمن أنكر البعث بعد الموت، والمعنى: أفعيينا بابتداع الخلق الذي خلقناه ولم يكن شيئاً، فنعيا بإعادتهم خلقاً كما كانوا بعد فنائهم. أي: ليس(11/7035)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
يعيينا ذلك، بل نحن قادِرون عليه.
ثم قال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
أي: بل هم في شك من إعادة الخلق بعد فنائهم فلذلك أنكروا البعث بعد الموت.
قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي: ما تحدثه به نفسه لا تخفى عليه سرائره.
وقيل: هو مخصوص بآدم عليه السلام وما وحرمت به نفسه من أكل الشجرة التي نهي عنها، ثم هي عامة في جميع الخلق لا يخفى عليه شيء من وسواس أنفسهم إليهم.
ثم قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} / أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من قتل العاتق.(11/7036)
وقيل معناه: ونحن أملك به وأقرب إليه.
وقيل معناه: ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد.
وهنا من الله جلّ ذكره زجر للإنسان عن إضمار المعصية.
قال الفراء: الوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين.
وقال ابن عباس: " مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " أي: من عرق العنق.
وقال أبو عبيدة: حبل الوريد: حبل العاتق، والوريد عرق في العنق متصل بالقلب، وهو نياط القلب، والوريد والوتين ما في القلب.
قال الأقرع: هو نهر الجسد يمتد من الخنصر أو الإبهام، فإذا كان في الفخذ أو الساق فهو الساق وإذا كان في البطن فهو الحالب وإذا كان في القلب فهو الأبهر وإذا كان في اليد فهو الأكحل وإذا كان في العنق فهو الوريد وإذا كان في العين فهو الناظر / وإذا كان في القلب فهو الوتين.(11/7037)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
العامل في " إذ أقرب "، أي: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي: قاعد، وتقديره عند سيبويه: " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ". ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه.
فلذلك لم يقل، قعيدان، وهو قوله الكسائي.
ومذهب الأخفش والفراء: أن قعيداً يؤدى عن اثنين وأكثرمنهما كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67]. ومذهب المبرد: أن " قعيداً " ينوي به التقديم والتأخير، والتقدير عنده: " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد " فاكتفى بالأول عن الثاني ومثله {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
وقيل: قعيد بمعنى الجماعة، كما قال: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].(11/7038)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
قال قتادة وغيره: المتلقيان الملكان الحافظان على الإنسان جميع أعماله وألفاظه.
قال مجاهد: الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات.
أي: ما يلفظ بكلام من خير أو شر إلا كتب عليه، قاله عكرمة وغيره.
قال الحسن وقتادة: يكتب الملكان ما يلفظ به من جميع الأشياء.
قال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب قال لا تعجل لعله يستغفر.
وروي: أن الله جل ذكره جعل لصاحب اليمين على صاحب الشمال سلطاناً يطيعه به، فإذا كان الليل قال: صاحب اليمين لصاحب الشمال ألاقيك، أطرح أنا حسنة واطرح أنت عشر سيئات، حتى يصعد صاحب الحسنات لا سيئات معه.(11/7039)
ويروى أن مجلس الملك على باب الإنسان الذي وكل به، وقلم الملك لسان الإنسان، ومداده ريق الإنسان، وهذا تمثيل في القرب، والله أعلم (بكيفية ذلك).
ويروى أن رجلاً قال لبعيره: حَلْ، فقال صاحب الحسنات، ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب السيئات: ما هي بسيئة فاكتبها، فأوحى الله عز وجل إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين فاكتب.
(وروت أم حبيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلام ابن آدم عليه السلام عليه لاَ لَه إِلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ذكر الله عز وجل) ".
وقال [عمرو بن الحارث]: بلغني أن رجلاً إذا عمل سيئة قال كاتب اليمين لصاحب الشمال أكتب فيقول لا بل أنت فيمتنعان فينادي منادياً صاحب الشمال:(11/7040)
أكتب ما ترك صاحب اليمين.
وقال أبو صالح: في قول الله جل ذكره: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 40] أن الملائكة تكتب كل ما تكلم به الإنسان فيمحو الله عز وجل منه ما ليس له وما ليس عليه ويثبت ما له وما عليه، وهذا القول موافق لقول الحسن وقتادة أن الملكين يكتبان كل ما يقول الإنسان ويعمل من جميع الأشياء.
وقوله: {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} معناه حافظ حاضر يكتب عليه ويحفظه.
وقيل: عتيد معناه معد، وفعيل يأتي بمعنى فاعل نحو قدير بمعنى قادر وهو كثير، ويأتي بمعنى مفعول نحو سميع بمعنى مسمع.(11/7041)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وأليم بمعنى مؤلم، ويأتي بمعنى مفعول، نحو قتيل بمعنى مقتول وهو كثير، ويأتي بمعنى الجمع نحو ما ذكرنا من قعيد وله نظائر.
(وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل وكل بعبده ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: ربنا قد مات عبدك فلان بن فلان فتأذن لنا فنصعد إلى السماء فيقول سمائي مملوءة من ملائكتي، فيقولان ربنا فنقيم في الأرض، فيقول الله عز وجل أرضي مملوءة من خلقي فيقولان ربنا فأين، فيقول قٌومَا عند قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني وهللالي واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم يبعثون) ".
قال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}.
أي: وجاءت شدة الموت وغلبته على فهم الإنسان بالحق من أمر الآخرة.
وقيل المعنى: (وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت).(11/7042)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وفي قراءة عبد الله: " وجاءت سكرة الحق بالموت "، وكذلك [قال] أبو بكر رضي الله عنهـ في مرضه الذي مات فيه لعائشة رضي الله عنها.
ومعنى هذه القراءة: أن الحق هو الله، فالمعنى وجاءته سكرة الله بالموت.
وقيل: الحق هنا الموت، فالتقدير وجاءت سكرة الموت بالموت فالحق هو الموت الذي / حتمه الله على جميع خلقه.
ثم قال: {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي: السكرة التي جاءتك أيها الإنسان، والموت الذي أتاك هو الذي كنت منه تهرب، وعنه تروع.
قد تقدم صفة النفخ في الصور، ومعنى الصور، والاختلاف فيه في غير موضع.
فالمعنى ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في الصور، وهو اليوم الذي وعدكم الله عز وجل فيه أن يبعثكم ويجازيكم بأعمالكم.
ثم قال: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [21].(11/7043)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
أي: وجاءت يوم القيامة كل نفس معها سائق يسوقها إلى الله عز وجل حتى يوردها الموقف، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر، قاله الحسين والربيع وقتادة وغيرهم.
قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد شاهد عليه من نفسه.
وقال مجاهد: هما الملكان.
وقال الضحاك: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل، والملائكة أيضاً تشهد عليهم، والأنبياء يشهدون عليهم.
وقال ابن زيد: يوكل به ملك يحصي عليه عمله، ويشهد به عليه وملك يسوقه إلى محشره.
وقال أبو هريرة: السائق والشهيد نفسه.(11/7044)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وقيل: السائق شيطان النفس يكون خلفها، والشهيد ملكه.
وهذه الآية إلى " حديدٌ " في قول أكثر العلماء يراد بها البر والفاجر، وهو اختيار الطبري.
وقيل: عني بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: عني بها المشركون وهو قول الضحاك، والقول الثاني روي عن زيد بن أسلم: يريد به استنقاذ الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم مما كان عليه في الجاهلية، ودلّ على ذلك قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] والقول الأول أولى بالصواب والله أعلم.
أي: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة في الدنيا عما يراد بك وعما يحصى عليك إذ لم تعاينه، فكشفنا عنك الغطاء الآن فنظرت إلى الأهوال والشدائد فزالت الغفلة.
قال ابن عباس: هذا للكافر خاصة، لأن المؤمن قد آمن بجميع ما يقدم عليه فلم يكن عليه غطاء، وكذلك قال مجاهد وسفيان.(11/7045)
وقال ابن زيد هو للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة أي: كنت مع القوم في جاهليتهم فهديناك إلى الإسلام، وأعلمناك ما يراد بك فكشفنا عنك الغطاء الذي كان عليك في الجاهلية.
وقد احتج زيد بن أسلم في هذه الآيات أنها للنبي صلى الله عليه وسلم { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] فيكون الكشف على قوله في الدنيا، وعلى قول ابن عباس ومجاهد وسفيان يوم القيامة.
وقيل: بل هذا لجميع الخلق، البر والفاجر، لأن المعاينة ليست كالخبر.
وعن ابن عباس: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} قال: هو الحياة بعد الموت.
ثم قال: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ}.
أي: فأنت اليوم حاد النظر، عالم بما كنت تخبر به علم معاينة لا علم خبر.(11/7046)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
والبصر هنا يراد به بصر القلب، كما يقال: فلان بصير بالفقه.
أي: وقال قرين هذا الإنسان الذي جاء به ربه يوم القيامة ومعه سائق وشهيد: هذا ما عندي حاضر مما كتبت عليه.
قال ابن زيد: هو سائق الذي وكل به.
قال قتادة قرينه: الملك.
وقيل قرينه: شيطانه.
وقيل معنى عتيد: معد.
وقيل معناه: قال قرين الكافر هذا ما عندي من العذاب له حاضر.
[وقيل معناه: قال قرينه من زبانية جهنم هذا ما عندي من العذاب حاضر].
ثم قال: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [24].(11/7047)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
قال الفراء والكسائي: " أَلْقِيَا " مخاطبة للقرين.
قال الفراء: والعرب تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، فيقول: " يا رجل قوما ".
وأنشد:
خَلِيلَيَّ مُرَّابِي عَلَى أُمِّ جُنْدُبٍ ... [لِنَقْضِي لُبَانَاتِ] الفُؤادِ المُعَذَّبِ
وإنما خاطب واحداً، واستدل على ذلك بقوله في القصيدة:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطِبِ(11/7048)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
وقيل: إنما ثني (ألقيا)، لأن قريناً يقع للجماعة والاثنين كقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكقوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17]، على قول من رأى ذلك، وقد تقدم ذكره.
وقيل: إنما قال ألقيا على شرط تكرير الفعل كأنه قال: أَلْقِ، أَلْقِ، فالألف تدل على التكرير /، وهو قول المبرد.
وقيل: هو مخاطبة للملكين، السائق والشهيد، والعنيد: المعاند للحق المجانب له.
وقيل العنيد: الجاحد للتوحيد.
قوله: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ}.(11/7049)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
قال قتادة: مناع للخير: أي: للزكاة المفروضة.
معتد: متعد على حدود الله، مريب: شاك في الله وفي قدرته.
وقيل مريب: يأتي الأمور القبيحة.
وقيل الخير هنا: المال، يمنع أن يخرجه في حقه، معتد: متعد على الناس بلسانه وبطشه ظلماً. مريب: شاك.
ثم بينه تعالى فقال: {الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي: هو الذي أشرك بالله غيره فجعل معه إلهاً آخر يعبده.
أي: قال قرين هذا الكافر الذي عبد مع الله غيره، وقرينه شيطانه، قاله ابن عباس وغيره.
قال ابن زيد: قال قرينه من الجن ربنا ما أطغيته، تبرأ منه، والمعنى أنه تبرأ من(11/7050)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
كفره، وقال ما أجبرته على الكفر، إنما دعوته فاستجاب لي، لأنه كان على طريق جائر عن الصواب، فأعلم الله عز وجل عباده بتبري بعضهم من بعض يوم القيامة، وقد مضى ذلك في مواضع.
(أي: قال لهما عز وجل) لا تختصما إِليَّ اليوم وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد على الكفر على لسان رسلي وكتبي.
قال ابن عباس: اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم، وإنما قال لهم " لا تختصموا " ولم يتقدم إلاَّ ذكرُ الاثنين؛ لأن قبله الأخبار عن جماعة في قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 23]، وفي قوله: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [ق: 21]، وبعده خطاب للجماعة في قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم}.
فالمراد كل من اختصم مع قرينه، فهم جماعة ليس المراد به اثنين فقط، بل كل كافر اختصم مع قرينه، ويجوز أن يكون جمع تختصموا؛ لأن الاثنين جماعة والأول أبين.(11/7051)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
قال: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أي: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا، وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 118].
قال مجاهد معناه قد قضيت ما أنا قاض.
وقيل: معناه قد قضيت الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها.
ثم قال {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي: لا أحداً بجرم أحد.
أي: يوم يقول لجهنم هل أمتلئت لما سبق من وعيده في قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 118] وذلك يوم القيامة. وقوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}.
قال ابن عباس: إن الله قد سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما بعث الناس يوم القيامة، وسيق أعداء الله إلى النار زمراً، جعلوا يقتحمون في(11/7052)
جهنم فوجاً، لا يلقى في جهنم فوج إلا ذهب فيها لا يملؤها شيء فقالت: ألست [قد] أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين، قال: فوضع قدمه عليها، فقالت حين وضع قدمه عليها: [قد امتلأتُ فليس من مزيد ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها] فتضايقت حين جعل عليها ما جعل فامتلأت فما فيها موضع إبرة.
قال مجاهد: وتقول هل من مزيد، قال: وعدها ليملأنها فقال هلا وفيتك (قالت وهل من مسلك)، فمعنى {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ما من مزيد على هذين القولين.
وحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له بمكة: " ألاّ تنزل داراً من دورك فقال: " وهل ترك لنا عقيل من دار " " أي: ما ترك لنا داراً حين باعها وقت. الهجرة فالتقدير:(11/7053)
هل فيّ من مسلك (وقد امتلأت). فلا زيادة فيّ.
وقال أنس بن مالك: يلقي في جهنم وتقول هل من مزيد؛ أي: زدني ثلاثاً، حتى يضع قدمه فيها فتنزوي بعضها إلى بعض فتقول: قظ ثلاثاً، وهو قول ابن زيد.
فمعنى {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} على هذين القولين: زدني، تسأله أن يزيد فيها من الخلق، وعلى. القولين الأولين: لا مزيد فيّ قد امتلأت، فلا موضع لأحد في وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تَزَالُ جَهَنَّمَ تَقُولُ هَلْ مِنَ مَزِيدٍ فَيَقُومُ رَبّ العَالَمِين فَيَجْعَلَ قَدَمَهُ فِيها فَتَقُول قَط قط ".
ومعنى قدمه: أي: من تقدم في عمله أنه يدخله النار، ومنه قوله تعالى {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] [أي] سابقة خير.
ومن روى الحديث " حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارَ فِيها قَدَمه " احتمل التفسير الأول، أي:(11/7054)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
حتى يضع لها من تقدم في علمنه أنه يدخل النار، ويحتمل أن يكون / المعنى: حتى يضع الجبارون المتكبرون على الله فيها أقدامهم بأجمعهم، والواحد يدل على الجمع.
وقال أبو هريرة: " اخْتَصَمَت الجَنَّة وَالنَّار، فَقَالَتْ: الجَنّة مَا لِي إِنَّمَا يَدْخُلُنِي فُقَرَاء المُسْلِمين وَسقاطهم، وقالت النار: ما لي إنما يدخلني الجبارون والمتكبرون ".
فقال تعالى ذكره: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء [وأنت عذابي أصيب به من أشاء] ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فإن الله ينشئ لها من خلقه ما شاء، وأما النار فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ويلقون فيها فتقول هل من مزيد، حتى يضع فيها قدمه، فهناك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط.
أي: أدنيت الجنة وقربت للذين آتقوا ربهم.(11/7055)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
قال {هذا مَا تُوعَدُونَ} أي: يقال لهم هذا الذي كنتم توعدونه / أيها المتقون.
{لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أي: لكل راجع عن معصية الله عز وجل تائب من ذنوبه.
وقيل هو المسبِّح، قال أبن عباس، قال: لكل أواب: لكل مسبِّح، وهو قول مجاهد. وعن مجاهد أنه قال هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا، فيستغفر منها، وكذا روى عن الشعبي.
(وقال الحسن: الأواب: الرجل معلق قلبه عند الله).
وقال قتادة لكل أواب حفيظ: أي: لكل مطيع لله عز وجل، كثير الصلاة.
وقال ابن زيد الأواب الثواب.
قال ابن عباس حفيظ: أي: حفظ ذنوبه حتى تاب منها.
وقيل: معناه حفيظ على فرائض الله، أي: محافظ عليها.(11/7056)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
وقال قتادة: حفيظ: ما استودعه الله عز وجل من حقه ونعمته.
قال: {مَّنْ خَشِيَ الرحمن} " من " بدل من " أواب " أو من " كل "، والمعنى: من خاف الرحمن في الدنيا وخشي عذابه.
{وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} قال قتادة: بقلب منيب إلى ربه؛ أي: راجع إلى رضا ربه.
قال فضيل: المنيب: الذي يذكر ذنوبه في الخلا ويستغفر منها.
قال {ادخلوها بِسَلاَمٍ ذَلِكَ} أي: ادخلوا الجنة بسلامة وبأمان من الهم والنصب والعذاب والموت وجميع المكاره والأحزان.
ثم قال {يَوْمُ الخلود} أي: ذلك اليوم الذي يدخلون فيه الجنة هو يوم(11/7057)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
المكث في النعيم المقيم.
قال {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} أي: لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم.
{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي: وعندنا ما أعطيناهم زيادة، قيل: هو النظر إلى الله جل ذكره. وقيل بل يزادون ما لم يخطر على قلوبهم. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النظر إلى الله في كل يوم، وذكر حديثا طويلا ".
قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}.
أي: وكثيراً من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش هم أشد من قريش بطشاً.
ثم قال: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} قال ابن عباس معناه فأثروا في البلاد. وقال مجاهد(11/7058)
ضربوا في الأرض. وقيل معناه ضربوا وتوغلوا في البلاد (يلتمسون محيصاً) من الموت فلم يجدوا منه مخلصاً. والقرن مأخوذ من الأقران وهو مقدار أكثر ما يعيش أهل ذلك الزمان.
قال الفراء: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} (أي: فهل كان لهم من الموت محيص) وحذف " كان " للدلالة.
وقرأ يحيى بن يعمر فنقِّبوا: على الأمر، ومعناه: التهدد والوعيد لقريش، أي: فطوفوا في البلاد وتوغلوا وفروا بأنفسكم فيها هل تجدون(11/7059)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
محيصاً من الموت.
وقراءة الجماعة إنما هي على الإخبار عما فعلت القرون الماضية فالوقف على (قراءة الجماعة على محيص). وعلى قراءة ابن يعمر على " بطشاً ".
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
أي: إن في إهلاكنا القرون الماضية قبل قريش بكفرهم لذكرى يتذكر بها ويتعظ بها من كان له عقل من قريش وغيرهم، فينتهي عن الفعل الذي أهلكت القرون الماضية من أجله وهو الكفر بالله ورسله عليهم السلام وكتبه.
قال قتادة: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} يعني من هذه الأمة. قال: يعني بذلك القلب الحي. فالتقدير لمن كان له عقل يعقل به ما ينفعه وكني عن العقل بالقلب لأنه محله.
ثم قال: {أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} (أي: وألقى بسمعه لأخبار الجزاء عن القرون الماضية التي أهلكت بكفرها وعصيانها).(11/7060)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
وهو شهيد: أي: متفهم لما يخبر به عنهم معرض عما يخبر به، هذا معنى قول أبن عباس والضحاك وغيرهما.
وقال قتادة: عني بذلك أهل الكتاب، فالمعنى وهو شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من نعمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول معمر.
وقال الحسن هو منافق استمع ولم ينتفع.
وقال أبو صالح هو المؤمن يسمع القرآن وهو شهيد على ذلك.
أي: خلقنا جميع ذلك في ستة أيام، أولها الأحد، وآخرها الجمعة وما مسنا من إعياء.
روي: " أن هذه الآية نزلت في يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا ما خلق الله (من الخلق) في هذه الأيام الستة، فقال (خلق يوم الأحد والاثنين الأرض)، وخلق الجبال يوم الثلاثاء [وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمراتها وخرابها يوم(11/7061)
الأربعاء وخلق السماوات] والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات، يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال وفي الثانية الآفات وفي الثالثة آدم، قالوا صدقت إذا أتممت، فعرف النبي / صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب، فأنزل الله {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ} ".
قال قتادة: أكذب الله جل وعز اليهود والنصارى وأهل الفِراء على الله جل ذكره، وذلك أنهم قالوا: خلق الله جل وعز السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استراح يوم السابع. وذلك عندهم يوم السبت، وهم يسمونه الراحة.
قال الضحاك: كان مقدار كل يوم ألف سنة مما تعدون.
قال مجاهد: {مِن لُّغُوبٍ} من نصب.
وقال قتادة: من إعياء.(11/7062)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
واللغوب في اللغة: التعب. يقال لغب يلغب لغوباً: إذا تعب.
قال: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي: اصبر يا محمد على قولهم لك ثم استراح.
وهذه الآية عند جماعة منسوخة بقوله {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29].
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب}.
قال قتادة: قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: صلاة العصر، وهو قول ابن زيد.
قال ابن زيد: {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ}: يعني صلاة العتمة.
وقال مجاهد: هي الصلاة بالليل، في أي وقت صلى.
وقوله: {وَأَدْبَارَ السجود}.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: الركعتان بعد المغرب. وكذلك عن عمر رضي الله عنهـ.(11/7063)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد والشعبي وقتادة والضحاك.
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار الطبري. وقيل: هو على الندب.
وعن ابن عباس: {وَأَدْبَارَ السجود} هو التسبيح بعد الصلاة، وأدبار النجوم علامة الصبح.
وقال: ابن زيد وأدبار السجود: النوافل بعد الصلوات المكتوبات.
أي: واستمع يا محمد حين ينادي المنادي من صخرة بيت المقدس وهو المكان القريب، قال كعب، قال: ينادي بصوت عال يا أيتها العظام البالية، والأوصال المنقطعة اجتمعي لفصل القضاء.
قال قتادة: كما نحدث أنه من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض.(11/7064)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
قال: وحدثنا أن كعبا قال هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وقال بريدة: هو ملك يقوم على صخرة المقدس يقول: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب قال فيقبلون كما قال الله عز وجل { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7]. [وإنما] قيل له مكان قريب: لأنه يسمع كل أحد.
قال: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق} أي: يوم يسمع الخلائق صيحة البعث من القبور بالحق أي: بالاجتماع للحساب.
ثم قال: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} أي: ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
أي: نحيى الموتى، ونميت الأجبار، وإلينا رجوع جميع الخلق يوم القيامة.
قال: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً} أي: وإلينا مصيرهم في يوم تشقق الأرض عن جميع الخلق، أي: تتصدع عنهم فيخرجون سراعاً.
ثم قال: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي: جمعهم جمعا علينا سهل.(11/7065)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قال: / {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي: نحن أعلم يا محمد بما يقول هؤلاء المشركون من كذبهم على الله سبحانه، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم للبعث، ولست يا محمد [عليهم] بمسلط على أن تجبرهم على الإيمان، إنما أنت منذر.
قال الفراء: " وضع الجبَّار في موضع السلطان من الجبرية ".
ثم قال مجاهد: وما أنت عليهم بجبار: أي: ست تتجبر عليهم، وهو معنى قول قتادة. وجبار من أجبرته على كذا، وحكى أهل الغة أن العرب لا تأتي بفعال من أفعلت، إما تأتي به من فعلت غير حرف، وأخرجا فعَّال من أفعلت، وهو درّاك من أدركت، وهو شاذ.(11/7066)
وحكى عن العرب: جبره على الأمر، فجبَّار من هذا.
وقد يقال أجبره بمعنى جبره، لكن الجبار من جبره مأخوذ.
ثم قال: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي: فذكر يا محمد بهذا القرآن من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عقابي.
قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ}.(11/7067)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والذاريات
مكية
سورة والذاريات مكية. قوله: (وَالذَّارِيَاتِ) إلى قوله (مُحْسِنِينَ) الآيات [1 - 16].
المعنى: ورب الرياح الذاريات ذروا. يقال: ذَرَتِ الرِّيحُ الشَّيءَ: إذا فَرَّقَتْهُ، وأَذْرَتْهُ فَهِيَ مَذْرِيَّة.
ورب السحاب الحاملات وقراً، يعني موقرة من ماء المطر، يعني مثقلة من المطر.
أي: ورب السفن الجاريات يسراً: أي: جرياً سهلاً.(11/7069)
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
قال: {فالمقسمات أَمْراً} أي: ورب الملائكة المقسمات بأمر الله الأمر من عنده بين خلقه.
قال الفراء: {فالمقسمات أَمْراً} يعني: الملائكة (تأتي بأمر مختلف) جبريل / صاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، فتلك قسمة الأمر، والجواب عن هذه الأقسام:
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدين لواقع} يعني: البعث والجزاء، والجنة والنار.
قال أبو الطفيل: شهدت علي بن أبي طالب بخطب وهو يقول: سلوني فوَالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا أعلمتكم به، وسلوني عن كتاب(11/7070)
الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل، فقام إليه ابن الكواء فقال: ما والذاريات ذرواً، فالحاملات وقراً، فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً، (فقال علي): ويلك، سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، والذاريات ذوراً: الريح، فالحاملات وقراً: السحاب، فالجاريات يسرا: السفن، فالمقسمات أمرا: الملائكة، وهو قول ابن عباس.
وقد قيل: إن الحاملات وقراً السفن تحمل أثقال بني آدم بأمر الله عز وجل.
وقيل: هي الرياح؛ لأنها تحمل السحاب من بلد إلى بلد فتسوقه.(11/7071)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
وقوله {لَصَادِقٌ} معناه لصدقه، فوقع الاسم في موضع المصدر، كما يأتي المصدر في موضع الاسم نحو: هو رجل عدل: أي: عادل، ورجل رضى أي: مرضي ودرهم وِزْنُ الأمير: أي: مَوْزُونُه.
ثم قال: {وَإِنَّ الدين لواقع} أي: وإن الجزاء بالأعمال لواقع يوم القيامة كائن لا محالة فيه.
أي: ورب السماء ذات الخلق الحسن.
فقال ابن عباس: ذات الحبك: هو حسنها واستواؤها.
وقال أبو مالك: وأبو صالح وعكرمة ذات الحبك: ذات الخلق الحسن.
فقال ابن عباس: ذات الحبك: هو حسنها واستواؤها.
وقال أبو مالك: وأبو صالح وعكرمة ذات الحبك: ذات الخلق الحسن.
وقال الحسن: ذات النجوم. قال: حُبِكَتْ بالخَلقِ الحَسَنِ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ.(11/7072)
وقال أبو عبيدة: ذات الحبك: ذات الطرائق، يقال للرمل والماء إذا ضربتهما الريح فصارت فيهما طرائق حبائك.
قال الأخفش: واحد الحُبُك: حِبَاك.
وقال الكسائي والفراء: يقال حِبَاك وَحَبِيكة، ويقال لِتَكَسُّرِ الشَّعر الجعد حُبُكٌ، وحباك الحمام: طرائق على جناحيه، وطرائق الماء حُبُكه.
قال ابن جبير: ذات الحبك: ذات الزينة.
وروى البكالي عن عبد الله بن عمر والسماء ذات الحبك: قال: هي السماء السابعة.
وجواب القسم قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ}، (أي: منكم مصدق(11/7073)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
بهذا القرآن مكذب به).
قال الحسن: {لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ}: (أي: في أمر النبي صلى الله عليه وسلم) .
قال (ابن زيد): اختلافهم أن بعضهم يقول هو سحر، وبعضهم يقول غير ذلك.
أي: يصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف عنه في اللوح المحفوظ. قاله الحسن.
وقيل: معناه يصرف عن الإيمان ناساً / إذا أرادوه بقولهم وكذِبِهم من صُرِف؛ لأنهم يقولون لمن أراد الإيمان هو سحر وكهانة، فيصرف عن الإيمان.
قال ابن عباس: معناه لعن المرتابون.
قال ابن زيد: قتل الخراصون يخرصون الكذب، يقولون شاعر ساحر(11/7074)
وكهانة، وأساطير الأولين اكتتبها.
قال مجاهد: معناه قتل الخراصون الذين يقولون لسنا نبعث.
وقال الفراء: معناه: لعن الكاذبون الذين يقولون محمد مجنون وساحر شاعر كذاب يخترصون ما لا يعلمون.
ولا يعرف أهل اللغة " قُتِل " بمعنى " لُعِن " ومعناه على قول سيبويه والخليل وغيرهما أن هؤلاء ممن يجب أن يدعا عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين أو بعذاب من عند الله.(11/7075)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
قال ابن عباس: عني به الكهانة.
أي: هم في غمرة الضلالة، وغلبتها متمادون، وعن الحق ساهون لاهون.
قال مجاهد: {فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}: قلوبهم في أكنة.
وقال أهل اللغة معناه: في تغطية الباطل والجهل غافلون.
أي: يسألون متى يوم الجزاء والحساب على طريق الإنكار له، يعني به هؤلاء الخراصين الذين تقدمت صفتهم.
أي: يعذبون.
قال الزجاج: " يوم هم " منصوب بإضمار فعل التقدير، يقع الجزاء في يوم هم على النار يعذبون. وعلى " بمعنى " في "، أي: في النار يعذبون، وحسن ذلك كما وقعت في " بمعنى " على " في قوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي: على جذوع(11/7076)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
النخل وقيل " يوم هم " (في موضع رفع على البدل) من يوم الأول، لكنه بني على الفتح لأنه أضيف إضافة غير محضة.
وقيل بني لأنه أضيف إلى شيئين.
وقال سيبويه والخليل: ظروف الزمان غير متمكنة، فإذا أضيفت إلى غير معرب أو إلى جملة بنيت على الفتح.
أي: يقال لهم: ذوقوا عذابكم هذا الذي كنتم به في الدنيا تستعجلون إنكاراً واستهزاء.
قال قتادة: يفتنون: ينضجون بالنار.
وقال سفيان: يحرقون.
قال المبرد: هو من فَتَنْتَ الذَّهَب والفِضَّة إذا أحْرَقْتَهُما لتَخْتَبرهما وتُخَلِّصهما. فالتقدير عند من قال هذا: يوم هم على النار يفتنون: يختبرون فيقال(11/7077)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
ما سلككم في سقر.
وعن ابن عباس: فتنتكم؛ أي: تكذيبكم، أي: عقاب تكذيبكم.
أي: إن الذين اتقوا ربهم بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا في بساتين وعيون ماء في الآخرة.
قال: {آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: آخذين في الدنيا، وعاملين بما أفترضه عليهم ربهم من فرائضه وطاعته.
قال ابن عباس: آخذين ما أتاهم ربهم، قال: الفرائض.
وقيل معناه آخذين ما أتاهم ربهم في الجنة، وهو حال من المتقين في القولين جميعاً إلا أنك إذا جعلته في الجنة، كانت حالاً مقدرة.
ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي: كانوا في الدنيا قبل دخولهم الجنة محسنين في أعمالهم الصالحة لأنفسهم.(11/7078)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
وقال ابن عباس: {قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي: قبل أن تفترض عليهم الفرائض.
قوله {كَانُواْ قَلِيلاً}.
قال قتادة: معناه: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون: أي: قليلاً الوقت الذي لا يرقدون فيه (فما) بمعنى (لا).
قال قتادة: كانوا يتيقظون فيصلون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.
قال قطرب: معناه ما مِنْ ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها.(11/7079)
وقال ابن عباس: معناه أنه لم تكن (تمضي عليهم ليلة) لا يأخذون منها، ولو شيئاً.
وقال أبو العالية: معناه كانوا لا ينامون بين (المغرب والعشاء)، وعنه كانوا يصيبون في الليلة حظاً.
وقال الحسن: معناه أنهم (كابدوا) قيام الليل، فلا ينامون منه إلا قليلاً، وقاله (الأحنف بن قيس).
وروى ابن وهب أنه يراد بها ما بين المغرب والعشاء. قال: كانت الأنصار يصلون المغرب وينصرفون إلى قباء فبدا لهم، فأقاموا حتى صلوا العشاء، فنزلت الآية(11/7080)
فيهم. وقوله: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: إنهم يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الضحاك: {كَانُواْ قَلِيلاً} مردود على ما قبله، وهو تمام الكلام، فالمعنى / أنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلاً، أي: كان المحسنون قليلا من الناس.
ثم ابتدأ {مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} " فما " نافية على هذا القول، " وما " على القوال الأول مع الفعل مصدر.
وقال النخعي: معناه: كانوا قليلاً ينامون، فيحتمل أن تكون " ما " زائدة على هذا القول، وأن تكون والفعل مصدراً.
والهجوع في اللغة: النوم، وهو قول ابن عباس والنخعي والضحاك وابن زيد.(11/7081)
وروى ابن وهب عن مجاهد أنه قال في معنى الآية: كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا أصابوا منها خيراً.
وروى ابن وهب أيضاً في جامعه عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن ناساً كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار من أول الليل [ثم يهجعون قليلاً ثم يصلون آخر ذلك قال الله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ}] يعني: في نضحهم.(11/7082)
ثم قال: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فكأنه تعالى مدحهم أنهم لم يشغلهم في أول الليل، وتعبهم في النضح حتى قاموا يصلون في آخر الليل.
ثم قال: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، قال الضحاك: معناه يقومون فيصلون، أي: كانوا يقومون وينامون، وهو قول مجاهد.
وقال الحسن: (مدوا الصلاة وبسطوا) حتى كان الاستغفار في السحر، يعني الاستغفار من الذنوب.
قال ابن زيد: هو الاستغفار، قال وبلغنا أن نبي الله يعقوب صلى الله عليه وسلم حين سأله بنوه أن يستغفر لهم، فقالوا: {قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} [يوسف: 98] قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} [يوسف: 98]، أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر.
قال: وقال بعض أهل العلم أن الساعة التي تفتح فيها أبواب الجنة هي في السحر.
قال ابن زيد: السحر: السدس الآخر من الليل.(11/7083)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وروى حماد بن سلمة عن الجريري أن داود عليه السلام سأل جبريل عليه السلام أي: ساعة من الليل أسمع، قال: لا أدري إلا أن العرش يهتز في السحر.
قال الجريري: فذكرت هذا لسعيد بن أبي الحسن، فقال: أما ترى أن ريح الرياحين يفوح في السحر.
أي: وفي أموال المتقين المحسنين الذين تقدمت صفتهم أنهم في جنات وعيون حق لسائلهم المحتاج إلى ما في(11/7084)
أيديهم والمحروم. وهذه الآية محكمة. في قول الحسن والنخعي، قالا في المال / حق سوى الزكاة.
وقال الضحاك وغيره: هذه الآية منسوخة بالزكاة.
قال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن.
وللعلماء في المحروم ثمانية أقوال:
قال ابن عباس: السائل: الذي يسأل، والمحروم: الذي لا يبقى له مال وعنه أيضاً أنه قال: المحروم: المحارف.
وقال محمد بن الحنفية المحروم: الذي لم يشهد الحرب، فيكون له سهم في الغنيمة.(11/7085)
وقال زيد بن أسلم: المحروم الذي لحقته جائحة فأتلفت زرعه.
وقال الزهري: المحروم: الذي لا يسأل الناس إلحافاً.
وروى عنه ابن وهب أنه قال: المحروم: المتعفف الذي لا يسأل إلحافا، ولا يعرفون مكانه ليتصدقوا عليه، وتصديق قول الزهري ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [قيل] له: " من المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيعطى، ولا يسأل الناس " ".
وقال عكرمة: المحروم الذي لا ينمى له شيء.
والقول الثامن: يروى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهـ أنه قال:(11/7086)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
المحروم: الكلب.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: المحروم: الفقير الذي يحرم الرزق.
والوقف عند يعقوب في الآية {كَانُواْ قَلِيلاً} على قول الضحاك، وتفسيره أي: كان الناس الذين هم محسنون قليلاً.
وكذلك روي عن نافع، وقد تقدم ذكر ذلك.
قوله: {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ}.
أي: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين بالله إذا ساروا فيها.
قال قتادة: في الأرض معتبر لمن اعتبر.
وقال ابن جبير: إذا ساروا في الأرض رأوا عبراً، وآيات عظاماً. ثم قال: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.(11/7087)
قال ابن الزبير: معناه وفي سبيل الخلاء، يعني سبيل الغائط [والبول] من أنفسكم أفلا تبصرون، أي: في خلق ذلك وتدبيره وتيسيره عبرة لمن اعتبر.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين أفلا تبصرون.
وقيل: هو على الحذف / لدلالة الأول عليه تقديره وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون.
وقال قتادة: معناه أن يتفكر الإنسان في نفسه فيعرف أنه إنما لينت مفاصله للعبادة.
وقال ابن زيد: معناه: وفي خلقكم من تراب وجعله لكم السمع والبصر والفؤاد وغير ذلك [عبرة] لمن أعتبر، وهو مثل قوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20].(11/7088)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
وقيل: معناه: وتأكلون وتشربون في مدخل واحد ويخرج من موضعين.
يعني: المطر الذي يخرج به النبات قاله الضحاك وسفيان ابن عيينة وغيرهما.
وقال الثوري: معناه ومن عند الله الذي في السماء رزقكم.
وقيل: معناه: وفي السماء تقدير رزقكم، أي: فيها مكتوب يرزق فلان كذا وفلان كذا.
وقال مجاهد: معنى: {وَمَا تُوعَدُونَ} [يعني من خير وشر.
وقال الضحاك معناه: وما توعدون] من الجنة والنار في السماء هو.(11/7089)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
وقال سفيان [بن عيينة]: {وَمَا تُوعَدُونَ}: يعني الجنة.
قال: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} هذا قسم الله جل ذكره بنفسه، أن الذي أخبرهم به من أن رزقهم في السماء وفيها ما يوعدون حق، كما أنهم ينطقون حق.
قال الحسن: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله عز وجل أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه " ومن نصب " مثل " فهو عند سيبويه مبني لما أضيف إلى غير متمكن ونظيره {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 65] في قراءة من فتح.
وقال الكسائي: هو نصب على القطع، ونصبه الفراء على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره إنه (لحق كمثل ذلك حقاً) مثل نطقكم، وأجاز أن يكون أنتصب على حذف الكاف، والتقدير عنده " أنه لحق كمثل ما أنكم "، فلما حذف الكاف نصب، وأجاز زيد مثلك بالنصب على تقدير حذف الكاف، ويلزمه على هذا أن يجيز " عبد الله الأسد " بالنصب على تقدير " كالأسد "، فينصبه إذا حُذف الكاف، وهذا لا(11/7090)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
يجيزه أحد.
وقد امتنع من إجازته الفراء وغيره، واعتذر في جوازه مع " مثل " أن الكاف تقوم مقام " مثل " فأما من رفعه، فإنه جعله نعتاً لحق.
هذه الآية تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحل بقومه إن تمادوا على غيهم ما أحل بقوم لوط، ومذكر قريشاً لما فعل بالأمم قبلهم، إذ كفروا وعصوا ليزدجروا ويتعظوا، وإنما قيل لهم " المكرمين " لأن إبراهيم وسارة خدماهم بأنفسهما على جلالة قدرهما.
وقال مجاهد: أكرمهم إبراهيم وأمر أهله لهم بالعجل.
وقيل إنما وصفوا [بذلك] لأن الله أكرمهم واختارهم إذ أرسلهم إلى إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل (صلوات الله عليهم).
قال: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي: حين دخلوا على إبراهيم: {فَقَالُواْ سَلاَماً} أي: سلَّموا سلاماً.(11/7091)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
وقال المبرد: معناه / سلمنا سلاماً، فهو مصدر عنده.
وأبو حاتم يرى أن " سلاماً " وقف كاف، قال سلاماً كاف أيضاً.
قوله: {قَالَ سَلاَمٌ} أي: قال لهم إبراهيم سلام عليكم. ومن قرأ سلام فمعناه قال لهم إبراهيم: أنتم سلام {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي: ننكركم ولا نعرفكم.
قال: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} أي: عدل إليهم، ورجع في خفية.
{فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} جاء أضيافه بعجل مشوي سمين، وكان عامة مال إبراهيم صلى الله عليه وسلم البقر.
في هذا الكلام حذف، والتقدير: فقربه إليهم فأمسكوا عن الأكل، فقال: ألا تأكلون؟
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي: أضمر في نفسه منهم خوفاً حين امتنعوا من الأكل.
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} أي: عليم إذا كبر.(11/7092)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قال مجاهد: هو إسماعيل، وقال غيره هو إسحاق.
ومذهب الطبري. وهو الصواب إن شاء الله أنها: سارة الحرة، وأم إسماعيل إنما كانت أمة اسمها هاجر.
ويدل على أنه إسحاق قوله في موضع آخر {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، فهذا نص ظاهر لا يحتاج إلى تأويل.
{فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ}.
المعنى: فأقبلت امرأته سارة في صرة أي: في صيحة.
ومعنى أقبلت: أخذت في فعل الأمر، وليس هو بإقبال / نقلة من مكان.(11/7093)
وهو كقول القائل (أقبل فلان يشتمني، أي: أخذ في ذلك).
وقال قتادة: في صرة: في رنة.
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: في صرة: في صيحة.
وقال بعضهم تلك الصيحة هو قوله: " فصكت وجهها ".
قال ابن عباس: لطمته.
وقال السدي: لما بشر جبريل عليه السلام سارة بإسحاق ضربت وجهها تعجباً.
وقال مجاهد: ضربت جبهتها تعجباً.
وقال سفيان: وضعت يدها على جبهتها تعجباً.
وقيل: إنما ضربت وجهها بأصابعها.
ثم قال: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي: أنا عجوز عقيم فكيف ألد، والعقيم(11/7094)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
التي لا تلد.
{قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي: قالت لها الرسل هكذا قال ربك، أي: كما أخبرناك وقلنا لك.
{إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} أي: الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم، وبما كان وبما كائن.
قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} أي: قال إبراهيم للرسل: ما شأنكم أيها الرسل وما نبأكم، قالوا: إنا أرسلنا ربنا إلى قوم مجرمين، أي: كافرين.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} أي: من السماء نرسلها عليهم. ومعنى {مِّن طِينٍ} من أجر مسومة عند ربك: أي: معلمة.
وقيل: معناه: مرسلة. من سومت الإبل: إذا أرسلتها.
وقال ابن عباس مسومة: مختوم عليها، يكون الحجر أبيض عليه نقطة سوداء، ويكون أسود عليه نقطة بيضاء. {لِلْمُسْرِفِينَ} أي: للمعتدين حدود الله عز وجل.(11/7095)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
وعن ابن عباس في " مسومة " أنها المعلمة بعلامة تعرف بها الملائكة أنها للمسرفين في المعاصي.
وقيل: إنه كان مكتوب على كل حجر أسم من يهلك به.
قال: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين (*) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} أي: من كان في قرية لوط وهي " سدوم " وهم لوط وابنتهاه، أنجاهم الله مع لوط. وجاز إضمار القرية ولم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وقيل الهاء في " فيها " للجماعة. {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا} أي: في القرية {غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} وهو بيت لوط.
قال ابن زيد: ما كان مع لوط مؤمن واحد، وعرض عليهم أن ينكحوا بناته رجاء أن يكون له منهم عضد يعينه (ويدفع عنه)، {قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يريد النكاح فأبوا عليه.(11/7096)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
قال قتادة: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم الله ليعلموا أن الإيمان عند الله محفوظ فلا ضيعة على أهله.
أي: أبقينا في قرية لوط عبرة وعظة لمن خاف عذاب الله؛ لأنها انقلبت بأهلها، فصار أعلاها أسفلها، وأرسلت الحجارة على من غاب منهم عن القرية.
والمعنى عند الفراء: وتركناها آية، " وفي " زائدة.
قوله: {وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ}.
أي: وفي موسى آية أيضاً إذ أرسلناه إلى فرعون بمصر.
{بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: بحجة تبيّن لمن رآها حجة لموسى صلى الله عليه وسلم على صحة ما يدعو إليه، فهو معطوف على " وفي الأرض " (ومثله " وفي ثمود " كله معطوف بعضه على بعض مع الاعتراضات بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك " وقوم(11/7097)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
نوح " على قراءة من خفضه هو معطوف أيضاً على " وفي الأرض ").
قال: {فتولى بِرُكْنِهِ} أي: فأدبر فرعون بجنوده وقومه عن الإيمان لما أتته الآيات البينات.
قال مجاهد: بركنه: بجنده وبأصحابه.
وقال قتادة: بركنه: بقوته.
وقال ابن زيد: بركنه: بجموعه التي معه.
وقرأ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 79] أي: لو أن لي قوة من الناس، أو آوي إلى ركن / أجاهدكم به.
قال الفراء بركنه: بنفسه.(11/7098)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
وحقيقة بركنه في اللغة، بجانبه الذي يتقوى به.
ثم قال: {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي: قال ذلك فرعون في موسى.
قال أبو عبيدة: إن " أو " بمعنى الواو و " أو " على بابها عند البصريين، ومعناها أنهم قالوا: هو ساحر يسحر عيون الناس أو هو مجنون به جنة.
قال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} أي: أخذنا فرعون وجنوده بالغضب فألقيناهم في البحر فغرقناهم. وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} معناه: وفرعون مسلم؛ أي: أتى ما يلام عليه.
قال: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح} [أي: وفي عاد عبرة أيضاً وعناية لكم حين أرسلنا عليهم الريح] التي قد عقمت عن الخير، لا رحمة فيها ولا تلقح / نباتاً ولا تثير سحاباً.(11/7099)
وروى ابن أبي الدنيا أن الريح كانت تمر بالمرأة في هودجها فتحملها [وبالقوم من عاد فتحملهم وبالإبل والغنم فتحملها]، وتمر بالعادي الواحد بين القوم فتحمله من بينهم والناس ينظرون، (ولا) تحمل إلا عادياً.
قال ابن المسيب: هي الجنوب.(11/7100)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور.
وقال علي بن أبي طالب: هي النكباء.
وقال عبيد بن عمير: الريح العقيم تحت الأرض الرابعة، وإنما أرسل منها في بلاد عاد بقدر منخر الثور.
وقوله: {كالرميم} معناه كالنبت إذا يبس ودرس، وأصل الرميم: العظم البالي المتقادم.
وقال ابن عباس: كالرميم: كالشيء الهالك، وقال مجاهد: وقال قتادة:(11/7101)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
كالرميم رميم الشجر.
قال: {وَفِي ثَمُودَ} عبرة وعظة. {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} إلى ثلاثة أيام.
{فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} وقيل معناه: تمتعوا إلى وقت فناء آجالكم. أي قال: {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي: تكبروا عن طاعة ربهم.
قال مجاهد: عتوا: علوا. وقال ابن زيد العاتي: العاصي التارك لأمر الله.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي: صاعقة العذاب.
{وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي: فجأة، ومعنى ينظرون أي ينتظرون، لأنهم وعدوا بالعذاب قبل نزوله بثلاثة أيام، وجعل لنزوله علامات. فظهرت العلامات في الثلاثة الأيام، فأصبحوا في اليوم الرابع موقنين بالعذاب ينتظرون حلوله.
قال: {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي: فما استطاعوا من دافع لما نزل لهم من عذاب الله، ولا قدروا على نهوض به.(11/7102)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
ثم قال: {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} أي: وما كانوا يقدرون على أن يستقيدوا ممن عاقبهم.
قال قتادة: معناه: وما كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة.
من نصب " قوماً " عطفه على الهاء، والميم في فأخذتهم الصاعقة أي: أخذتهم وأخذت قوم نوح.
وقيل التقدير: وأهلكت قوم نوح.
وقيل التقدير: وأذكر قوم نوح.
وقيل هو معطوف على الهاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} أي: أخذنا فرعون وجنوده وأخذنا قوم نوح؛ لأن الفريقين ماتوا بالغرق.
ومن خفض عطفه على عاد، وفي عاد، وفي قوم نوح، والتقدير على(11/7103)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
الخفض: وفي قوم نوح أيضاً عبرة وعظة لكم إذا أهلكناهم من قبل ثمود لما كفروا وكذبوا نوحاً.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أي: خارجين عن الحق مخالفين لأمر الله، فكله معطوف على {وَفِي الأرض آيَاتٌ}.
قوله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ}.
نصب السماء على فعل مضمر تقديره: " وبنينا السماء بنيناها بأيد " أي: بقوة وقدرة، أي: والسماء رفعنا سقفها بقوة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسفيان وغيرهم.
{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي: لذوو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه.
أي: والأرض جعلناها فراشاً للخلق ومهاداً، فنعم الماهدون نحن لهم.(11/7104)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} التقدير: ومن كل شيء خلقناه زوجين، أي: جنسين ذكراً وأنثى وحلواً وحامضاً، قاله ابن زيد والفراء.
وقيل معناه: خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة، والهدى والضلالة والإيمان والكفر، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجن. قاله مجاهد.
وقال الحسن: هو مثل الشمس والقمر.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون فتعلمون أن القادر على ذلك مستوجب للعبادة / والطاعة.
قال: {ففروا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ} أي: فاهربوا من عذاب الله إلى الله بالإعمال الصالحات.
{إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم عقابه، وأبين لكم النذارة. (وقيل معناه: فروا إلى الله من أمر الله). س
قال: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي: لا تعبدوا إلهاً آخر، إنما هو(11/7105)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
الله واحد، إني لكم منه نذير مبين كالأول. فالأول تخويف من الله لمن عصاه من الموحدين، والثاني تخويف لمن عبد معه غيره من المشركين، " وكذلك " تمام عند أبي حاتم وأحمد ابن موسى وعند غيرهما " مبين " الثاني، والكاف من " كذلك " إن وقفت عليها في موضع رفع، أي: الأمر / كذلك، ومن ابتدأ بها، فهي في موضع نصب.
أي: فعل قريش مثل فعل من كان قبلهم في قولهم للرسول ساحر أو مجنون، والتقدير كما كذبت قريش محمداً كذلك كذبت الأمم من قبلها رسلهم، وكما قالت في محمد قريش، كذلك قالت الأمم (قبلها، كأنهم تواصوا على ذلك).
أي: كما فعلت قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذلك فعلت الأمم قبلها.
قال: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} أي: أوصى بذلك بعضهم بعضاً.(11/7106)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
قال قتادة: معناه: كأن الأول أوصى الآخر بالتكذيب.
ثم قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: لم يتواصوا بذلك لكنهم اتفقوا في الطغيان والعصيان فركبوا طريقة واحدة في التكذيب لرسلهم، والكفر بالله سبحانه.
قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} أي: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين حتى يأتيك أمر الله فيهم.
{فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} أي: لا يلومك ربك على إعراضك عنهم.
وقال ابن زيد: معناه: بلغت ما أرسلناك به فلست بملوم.
قال قتادة: ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية اشتد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن الوحي قد أنقطع، وأن العذاب قد حضر فأنزل الله بعد ذلك {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين}.
وقال الضحاك: التوالي منسوخ؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم، والموعظة لهم، والمعنى وذكِّر يا محمد من أرسلت إليه، فإن العظة تنفع أهل الإيمان بالله.
وقيل: المعنى: وذكَّرهم بالعقوبة والهلاك وبأيام الله.
وليس قوله {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} بوقف؛ لأنه لم يؤمر بالتولي فقط، بل أمر معه(11/7107)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
بالتذكير. والتمام {تَنفَعُ المؤمنين}.
يعني: من المؤمنين المتقدم ذكرهم، لم يخلق المؤمن من الجن والإنس إلا للعبادة.
يعني: من علم منهم أنه يؤمن، فخلقه لما علم منه، وهو الإيمان.
وقيل معنى الآية: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفوني، فكل الخلق مقر بالله عارف به كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25].
وقيل المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأستعبدهم واختبرهم، فقد استعبد الجميع وأمرهم ونهاهم، فكفر فريق، وآمن فريق على ما علم منهم قبل خلقه لهم.
ويدل على أن الآية ليست على العموم كثرة من يموت قبل وجوب العبادة عليه، نحو الأطفال، وكثرة من يعيش معتوهاً لا تجب عليه عبادة، فدل ذلك على أن الآية خصوص فيمن علم منه العبادة والطاعة من الجن والإنس خلقه (له) ليعبده(11/7108)
كما علم منه ذلك؛ فيجازيه على ذلك، لأن علمه بطاعتهم لا يجازون عليها حتى يخلقهم ويعملون، فخلقهم ليعملوا فتقع المجازات على ما ظهر من طاعتهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك، فإنما عني أنه خلق المؤمنين من الجن والإنس الذين تنفعهم الذكرى لعبادته فكانوا كذلك كما قال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
وقد قال تعالى ذكره: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5].
ثم قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: 6] يعني الأبرار خاصة المذكورين ليس يريد كل عباد الله، فهذا مثل ذلك، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ في الآية. معناها: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي اختياراً. (وقيل معناه: ما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليوحدون).
وقال ابن عباس: إلا ليعبدون؛ أي: من خلقت منهم لعبادتي خصوصاً يعني المؤمنين منهم.(11/7109)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
وقال زيد بن أسلم: إلا ليعبدون: هو ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة.
وقال سفيان، معناه: من خلق للعبادة منهم لم يخلق إلا لها.
وقال ابن عباس: لم يخلق الفريقين إلا ليقروا بالعبادة طوعاً وكرهاً، فيكون عاماً وعلى الأقوال الأول يكون مخصوصاً.
وقيل: المعنى ما خلقهم إلا ليأمرهم بالعبادة، فمن تقدم له منهم في علم الله الطاعة أطاع أمره، ومن تقدم له في علم الله المعصية عصى أمره.
قال ابن عباس: معناه: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل المعنى ما أريد أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد(11/7110)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
أن يطعموا عبادي /.
أي: إن الله هو الرزاق خلقه، المتكفل بأقواتهم. ذو القوة المتين: أي: ذو القوة الشديدة.
قال ابن عباس: المتين: الشديد.
قال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي: فإن للذين أشركوا بالله من قريش نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية التي أشركت كما أشركوا، وكذبت كما كذبوا.
وأصل الذَّنُوب: الدَّلْوُ العظيمة، وهي السجل كانوا يقتسمونها على الماء فيستسقى هذا حظه ونصيبه، وهذا حظه ونصيبه، فسمي الحظ والنصيب الذَّنُوب على الاستعارة.
وقوله: {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} [أي: فلا يستعجلوا] العذاب فإنه آتيهم كما أتى الأمم الماضية الكافرة مثلهم.
وقال ابن جبير معناه: فإن للذين ظلموا من قريش سجلاً من العذاب مثل سجل أصحابهم من الأمم الماضية، فلا يستعجلوا ذلك وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد.(11/7111)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
أي: فقبوح لهم من يومهم.
وقيل المعنى: فالواد السائل في جهنم من قيح وصديد لهم في يوم القيامة.(11/7112)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والطور
مكية
سورة والطور مكية: قوله: (وَالطُّورِ) إلى قوله: (مِنْ دَافِعٍ) [1 - 7].
هذه الأقسام أقسم الله عز وجل بها أن عذابه لحال واقع لا بد منه. والتقدير: ورب الطور، ورب كتاب مسطور.
فالطور جبل، قال نوف: أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فارتفعت وشمخت، إلا الطور فإنه تواضع وقال: أرضى بما قسم الله [لي]، فكان الأمر عليه.(11/7113)
وقيل هو بمدين وهو طور سيناء.
قال مجاهد: الطور الجبل بالسريانية.
وقوله: {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} رواه أحمد بن صالح عن نافع بالصاد، وأكثر الرواة عنه بالسين كالجماعة على خط المصحف، والسين هو الأصل، وإنما جاز فيها الصاد لأجل الطاء التي بعدها ليكون النطق (بمطبق مستقر قبل مطبق مجهور) والسين مهموسة وليست بمطبقة، فالفظ بها قيل: حرف مجهور فيه تكلف واختلاف في عمل اللسان، وإذا قرأت بالسين كان عمل اللسان في تسفل ثم يتصعد بعد ذلك، ففيه بعض المشقة ولهذا نظائر كثيرة قد مضت.(11/7114)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
ومعنى المسطور: المكتوب.
وهو الصحيفة، قيل يعني به ما تكتب الحفظة وتستنسخ من أعمال بني آدم التي سبقت في علم الله عز وجل قبل خلقه لهم.
أي: يعمر بكثرة الدعاء والغشيان، روى أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً.
وروي أنه كذلك في كل سماء بيت يقابل الذي تحته، وكلها تقابل الكعبة.
وعن ابن عباس أنه كان يقول: إن لله عز وجل في السماوات والأرضين خمسة عشر بيتاً، سبعة في الأرضين وسبعة في السماوات والكعبة محادية كلها.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع لي البيت المعمور فقلت: يا جبريل ما هذا؟(11/7115)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
قال: البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً.
وعنه قال: هو في السماء السادسة.
وعن ابن عباس أنه قال: هو بيت حذاء العرش.
وقوله: {والسقف المرفوع} يعني به السماء. كقوله: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وقوله: {والبحر المسجور}.
قال مجاهد: المسجور الموقد، ومثله {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي: أوقدت من شجرة التنور إذا أوقدت، وهو قول ابن زيد.(11/7116)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
وسأل علي بن أبي طالب رجلاً من اليهود فقال له: أين جهنم، فقال اليهودي: في البحر، فقال علي: ما أراه إلا صادقاً.
وقال قتادة: المسجور: المملوء بالماء. وقيل معناه: المملوء بالنار.
وقال ابن عباس: المسجور: الذي ذهب ماؤه، وسجره: ذهب مائه حين يفجر.
وعن ابن عباس أيضاً المسجور: المحبوس.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ قال: هو بحر تحت العرش.
أي: هو كائن ليس له راد يرده عن الكفار يوم القيامة، " وَإِنَّ " هي جواب القسم.
قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} إلى قوله: (وَلَا تَأْثِيمٌ) الآيات [9 - 21].(11/7117)
معناه أن عذاب ربك يا محمد لحال بالكافرين في يوم تمور السماء موراً: أي: تدور وتتحرك.
قال مجاهد: تمور مَوْراً: تدور دوراً.
قال قتادة: مورها: تحركها.
وقال الضحاك: مورها: استدارتها وتحركها لأمر الله عز وجل موج بعضها في بعض.
وقال ابن عباس: مورها: تشققها.
وقيل: معنى تمور: تَتَكَّفأ كما تَتَكفَّأ السفينة حتى تذهب فلا تكون شيئاً،(11/7118)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
وتسير الجبال عن أماكنها كما تسير السحاب.
وقيل: {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً}، أي: تسير عن أماكنها من الأرض، فتصير هباءً منبثاً.
أي: فالواد السائل من قبح وصديد في جهنم لهم، ودخلت الفاء في " فويل " لجواب الجملة التي قبلها؛ لأن الجملة فيها إبهام، فشابهت الشرط فجوبت بالفاء كما يجاب الشرط.
أي: في فتنة واختلاط في الدنيا غافلين لاهين عما هم صائرون إليه.
أي: يدفعون ويرهقون إليها دفعاً.
يقال هذه النار التي كنتم تكذبون(11/7119)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)
وتجحدون، أي: تردونها وتصلونها.
أي: يقال لهم يوم القيامة حين يعاينون العذتب، [أفسحر هذا الذي وردتموه أم أنتم لا تعاينونه وهذا الكلام معناه التوبيخ والتقريع]، وتحقيق العطف أن معناه: " بل أنتم " فهو خروج من أمر إلى أمر، أي: لا تبصرون الحق، وقد كانوا يبصرون، لكنه توبيخ لهم وتقريع وتوقيف على صحة ما كانوا يكذبوا به من النار، فهو من بصر القلب لا من بصر العين.
قال: {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ذوقوا حر هذه النار فاصبروا على ألمها وشدتها أو لا تصبروا على ذلك، سواء عليكم أصبرتم أن جزعتم، لا بد لكم من الخلود فيها مجازاة لكم بأعمالكم في الدنيا وكفركم بالله سبحانه فلفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر عنهم دليله قوله بعد ذلك: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ}، أي: سواء عليكم الجزع والصبر.
أي: إن الذين اتقوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في بساتين ونعيم في الآخرة.
وقال الحسن: {المتقين} هم الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما أفترض عليهم.(11/7120)
وقال ابن عباس: إنما سمي المتقون لأنهم ذكروا الله عند طاعته فأخذوا بها تقية له، وذكروه عند معصيته فتركوها تقية له.
قال ميمون بن مهران: [لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه].
وقال الحسن: من اتقى الشرك فهو متق، ولو زاد الحسن في قوله " والكبائر " لكان قولاً مختاراً.
وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي العبد الله حتى يتقيه في مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خيفة أن يكون حراماً فيكون حجاباً بينه وبين(11/7121)
فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
الحرام، فأن الله قد بين للعباد ما هم صائرون إليه. وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، فلا تحقرن شيئاً من الشر أن تتقيه، ولا شيئاً من الخير أن تفعله.
قوله {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ}.
أي: عندهم فاكهة كثيرة. تقول العرب: هو رجل تامر ولابن: إذا كان عنده تمر كثير ولبن.
وقيل معنى فاكهين: طيبي الأنفس، ضاحكين بما أعطاهم ربهم في الآخرة من النعيم وبما دفع عنهم من عذاب النار.
قال: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} أي: يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة هنيئاً، لا تخافون انتقالاً ولا موتاً ولا هرماً ولا مرضاً جزاء لهم بعملكم في الدنيا.(11/7122)
{مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [أي]: على نمارق وعلى سرر جعلت صفوفاً. وترك ذكر " النمارق " لدلالة الكلام عليها /.
ثم قال: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي: جعلنا للذكور من هؤلاء، المتقين أزواجاً بحور عين قربناهم بهم.
والحور: جمع حوراء، وهي الشديدة بياض مقلة العين في شدة سواد الحدقة.
والعين: جمع عيناء، وهي العظيمة العين في حسن سعة.
قال الضحاك: {بِحُورٍ عِينٍ}، بيض حسان العيون /. والحَوَرُ في اللغة: البياض، ومنه قيل الحواري، وقيل: للقصار حوار، ولصفوة الأنبياء حواريون.(11/7123)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
{مَّصْفُوفَةٍ}: تمام عند نافع.
قال: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}.
قال ابن عباس: هو المؤمن (يرفع الله ذريته) لتقر بذلك عينه وإن كانوا دونه في العمل.
وعن ابن عباس أنه قال: المؤمن تتبعه ذريته بإيمان يلحق الله به ذريته الصغار التي لم تبلغ الإيمان.
وروى عبادة بن الصامت عن كعب الأحبار أنه قال: والذي نفسي بيده إن أطفال المسلمين ليقدسون حول العرش، ويسبحون، ويحمدون الله، وما من أحد أكرم على الله عز وجل منهم، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تبارك وتعالى: ادخلوا الجنة(11/7124)
فيقولون: ربَّنا وآباؤنا، فيقال لهم ويقولون ثلاث مرات: وآباؤنا فيقول الله عز وجل في الثالثة: ادخلوا الجنة وآباؤكم معكم.
قوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي: ولم ينقص الآباء من عملهم شيئا.
وقال الضحاك معناها: من أدرك ذريته الإيمان فعمل بطاعتي ألْحقتهم بآبائهم في الجنة، وأولادهم الصغار أيضاً على ذلك.
وقال ابن زيد بمثل هذا القول إلا أنه جعل الهاء، والميم في {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} من ذكر الذرية، فالمعنى عنده: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بالإيمان [ألحقنا بالذرية] أبناءهم الصغار الذين لم يلحقوا الإيمان ولم يبلغوا العمل.
وقيل المعنى: إن الله عز وجل ذكره ليضل (الذرية الجنة) بعمل الآباء إذا كانوا مؤمنين من غير أن ينقص الآباء من أجرهم شيئاً، قاله عامر وابن جبير.(11/7125)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
وقال النخعي: يعطي الله ذرية الرجل إذ اتبعوه على افيمان من الأجر مثل ما أعطاه الآباء من غير أن ينقص الآباء شيئاً من أجرهم. وقاله الربيع.
وقال قتادة: عملت الذرية بطاعة الله، فألحقهم الله بآبائهم وما نقص الآباء من أجورهم شيئاً.
ثم قال: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي: كل إنسان مرتهن بما عمل من خير وشر، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
أي: أمددنا هؤلاء الذين اتبعتهم ذريتهم بإيمان مع ذرياتهم بفاكهة وبلحم مما يشتهون من اللُّحمان.
قال: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي: يتعاطون في الجنة كأس الشراب، ويتناولونه بينهم. لا لغو في الكأس: أي: لا يلغو من شربها كما تفعل خمر الدنيا.
{وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي: ولا يأثم من شربها كما يأثم من شرب خمر الدنيا.
وقيل: التأثيم هنا: الكذب، واللغو: الباطل.(11/7126)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ}.
أي: يطوف على هؤلاء الذين تقدمت صفتهم غلمان لهم كأنهم اللؤلؤ المكنون في بياضه وصفائه. والمكنون: المصون، أي: يطوفون عليهم في الجنة بكؤوس الشراب الذي تقدمت صفته.
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال: " يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: والذي نفسي بيده إن فضل الخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ".
أي: أقبل بعض المؤمنين يسأل عن حال بعض.
قال ابن عباس: يتساءلون حين بعثوا في النفخة الثانية. قيل: إنهم يقول بعضهم لبعض ما صيرك إلى هذه المنزلة الرفيعة.
ثم قال: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) [24] أي: قال بعضهم(11/7127)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
لبعض: إنا كنا من قبل في الدنيا مشفقين خائفين من عذاب الله عز وجل فمنَّ الله علينا بفضله، فغفر الصغائر وترك المحاسبة على النعم المستغرقة للأعمال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ".
قال: {وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} أي: (عذاب النار) وأدخلنا الجنة. وقيل معناه إذا أمر الكفار بالانطلاق إلى ظل ذي ثلاث شعب من دخان النار أمر بالمؤمنين إلى ظل من ظل الله، فتقف كل طائفة في الظل الذي أمرت به إليه حتى يفرغ من الحساب، فعند ذلك يقول المؤمنون: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} وهو الظل ذو ثلاث / شعب.(11/7128)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
قال: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ / نَدْعُوهُ} هذا كله قول المؤمنين، أي: كنا في الدنيا نعبده، ونخلص العمل له {إِنَّهُ هُوَ البر} أي: اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه أن يعذبهم بعد توبتهم.
أي: فذكر يا محمد من أرسلناك إليهم من قومك وعظهم فلست بفضل ربك عليك بكاهن كما يقول المشركون ولا بمجنون، ولكن رسول الله.
أي: بل يقول المشركون في محمد صلى الله عليه وسلم هو شاعر نتربص به حوادث الدهر تكفيناه بموت أو بحادثة متلفة.
قال ابن عباس: إن قريشاً اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به الموت حتى يهلك كما هلك قبله من الشعراء، إنما(11/7129)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
هو كأحدهم، فأنزل الله عز وجل: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} والمنون: الموت، وهو واحد لا جمع له، قاله الأصمعي.
وقال الأخفش: المنون: جمع لا واحد له.
وقال الفراء: هو الواحد والجمع. والدهر يسمى بالمنون لأنه يذهب بمنة الحيوان، أي: بقوتها.
وقال أبو عبيدة: قيل للدهر " منون " لأنه مضعف من قوله " حبل منين " إذا كان بالياً ضعيفاً.
أي: قل لهم يا محمد انتظروا وتمهلوا في ريب المنون، فإني متربص معكم حتى يأتي أمر الله تعالى فيكم وفيّ.
قال: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} أي: أن تأمرهم عقولهم وألبابهم بأن يقولوا لمن جاءهم بالحق شاعر ومجنون، بل هم قوم طاغون.
وقيل: المعنى: أم تأمرهم عقولهم بأن يعبدوا الأصنام ويتركوا عبادة خالقهم(11/7130)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
ورازقهم بل هم قوم قد طغوا وبغوا فتجاوزوا أمر ربهم و " أَمْ " في هذا كله بمعنى " بل ".
ثم قال: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} أي: فليأت قائلو ذلك من المشركين بقرآن مثله فيكونوا صادقين في قولهم أن محمداً تقَوَّلَهُ.
" أم " في موضع الألف، والتقدير: أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء وأمهات، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفقهون لله حجة، ولا يتَّعظون بموعظة.
وقيل المعنى: أخلقوا من غير صانع صنعهم ودبرهم، فهم لا يقبلون من أحد، أم هم الخالقون للأشياء، فلذلك لا ياتمرون لأمر الله سبحانه. وقيل المعنى: أم هم الخالقون لأنفسهم.
وقيل معنى الآية: أم خلقوا لغير شيء؛ أي: أَخلقوا عبثاً لا يؤمرون ولا ينهون.
أي: أفعلوا ذلك فيكونوا هم الخالقون.(11/7131)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
ومعناه لم يخلقوا ذلك [بل] لا يوقنون؛ أي: لا يعلمون ما يلزمهم.
وقيل المعنى: لم يتركوا قبول أمر ربهم لأنهم خلقوا السماوات والأرض ولكنهم تركوه لأنهم لا يوقنون بوعيد الله سبحانه، وما أعد من العذاب لمن عصى أمره، فهم يكفرون ويعصون؛ لأنهم لا يوقنون بالعقاب والمجازات.
أي: أعندهم عطاء ربك فيستغنوا عنه، فيعرضوا عن أمره ونهيه أم هم المصيطرون.
قال ابن عباس: المصيطرون: المسلطون، وعنه: المتولون.
وقال أبو عبيدة: أم هم الأرباب، يقال: تسيطرت علي، أي: أتَّخذتني خولاً لَكَ. وقيل المعنى: أم هم الجبارون.
أي: ألهم سلم (يرتقون) فيه إلى السماء يستمعون الوحي فيكونوا قد سمعوا صواب ما هم عليه من الكفر فيستمسكوا به، فإن كانوا يدعون ذلك، فليأتِ من يزعم أنه استمع بحجة تبين أنها حق.(11/7132)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
ثم قال: / (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [37] أي: ألِربكم أيها المشركون البنات ولكم البنون كما تزعمون، هذه قسمة ضيزى.
ثم قال: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [38] أي: أتسألهم يا محمد جعلاً على دعائك إياهم فتثقل عليهم إجابتك لذلك.
قال قتادة: معناه هل سألت يا محمد هؤلاء القوم أجراً فجهدتهم فلا يستطيعون الإسلام.
ثم قال: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) [39] أي: هم لا يعلمون الغيب فكيف يقولون لا نؤمن برسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويقولون شاعر نتربص به ريب المنون، فهم يكتبون؛ أي: يكتبون / للناس ما أرادوا ويخبرونهم له.
قال: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي: أراد هؤلاء المشركون بدين الله وبرسوله كيداً، أي: مكراً وخديعة.
{فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} أي: هم الممكور بهم المهلكون دون محمد ودينه ومن آمن به.
ثم قال: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [41] أي: ألهم معبود يرزقهم ويخلقهم وينفعهم ويضرهم غير الله، سبحان الله عما يشركون.
ثم قال: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) [42] أي: وإن ير هؤلاء المشركون قطعاً من السماء ساقطاً يقولوا هذا سحاب بعضه فوق(11/7133)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
بعض وهذا إنما عني به قول المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وكذا وتسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، فقال جل ذكره لنبيه عليه السلام وإن ير هؤلاء المشركون (ما سألوا من الآيات) لم ينتقلوا عمّا هم عليه من التكذيب، ولقالوا: إنما هو سحاب مركوم؛ أي: سحاب بعضه فوق بعض.
ثم قال: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [43] أي: فدع يا محمد هؤلاء الكفار حتى يلاقوا يوم موتهم، والصعق: الموت وذلك عند النفخة الأولى.
{يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي: لا يغني عنهم مكرهم شيئاً، ولا ناصر لهم من عذاب الله عز وجل.
قال: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} قال ابن عباس وغيره: هو عذاب القبر.
وقال مجاهد: هو الجوع.
وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا للمؤمن أجرٌ وللكافر تعجيل عذاب.(11/7134)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
فالمعنى: لهؤلاء المشركين عذاب آخر (فبل يوم القيامة) وهو ما ذكرنا فلا يستعجلون به.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك أي: لا يؤمنون به فيعلمون أنه حال بهم.
قال ابن الماجشون: سمعت محمد بن المنكدر يقول: بلغني أن الله تبارك وتعالى يسلط على الكافر في قبره دابة عمياء في يدها سوط من حديد في رأسه جمرة مثل غرب الجمل يضربه إلى يوم القيامة لا تراه ولا تسمع صوته فترحمه. ومعنى غرب الجمل: هو الدلو الذي يسقى به الجمل.
قال: {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: امض يا محمد(11/7135)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
لأمر ربك وتبليغ ما أرسلت به فإنك بمرأى منا [ونحن نحوطك] ونحفظك.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: حين تقوم من نومك قال: سبحان الله وبحمده، قاله سفيان.
وقيل المعنى: (إذا قمت إلى الصلاة) المفروضة فقل سبحان الله وبحمده. وقيل: تقول سبحانك اللهم وبحمدك.
وقيل التسبيح هنا تكبيرة الإحرام.
يريد به صلاة العشاء الآخرة، وركعتا الفجر.
وعن ابن عباس أنه التسبيح في أدبار الصلوات، وأكثرهم على أن {وَإِدْبَارَ النجوم}: وركعتا الفجر.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هما خير من الدنيا جميعاً ".(11/7136)
وقال الضحاك وابن زيد {وَإِدْبَارَ النجوم}: صلاة الصبح بعينها وهو اختيار الطبري.(11/7137)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة والنجم
مكية
سورة والنجم مكية قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) إلى قوله: (مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) الآيات [1 - 18].
قال مجاهد: النجم: الثريا، إذا هوى: إذا سقطت، فالمعنى: ورب الثريا، وعنه أن النجم هنا: القرآن، إذا هوى: إذا نزل، فالمعنى: والقرآن إذا نزل من السماء الدنيا.
[قال ابن عباس: والنجم إذا هوى يعني به القرآن إذا نزل من السماء الدنيا].(11/7139)
مثل قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] أي: أقسم بنزول القرآن من سماء الدنيا.
وروى قتادة أن عتبة بن أبي لهب قال: " كفرت برب النجم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما تخاف أن يأكلك كلب الله / فخرج في تجارة إلى اليمن فبينما هم قد عَرَّسُوا إذا سمع صوت الأسد، فقال لأصحابه: أنا مأكول فحدّقوا به وضرب على أصمختهم فناموا فجاء الأسد حتى أخذه فما سمعوا إلا صوته ".
وقال الحسن: أقسم الله تعالى بالنجم إذا غاب.(11/7140)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
وقال الفراء: أقسم بالقرآن لأنه نزل نجوماً.
وقيل: يراد به النجم الذي ترمى به الشياطين.
أي: ما جار محمد عن الحق ولا مال عنه، بل هو على استقامة وسداد.
ومعنى {وَمَا غوى}: أي: ما خاب فيها طلبه من الرحمة.
وقيل: معناه: ما صار غاوياً ولكنه رشيد سديد.
يقال: غَوَى يَغْوِي مِنَ الغَيِّ، وغَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي إِذَا لم يُرْوَ مِنْ لَبَن أُمِّهِ حَتَّى يَمُوتَ هَزَالاً.
قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي: ليس ينطق محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن عن هواه، بل هو وحي أوحي إليه.(11/7141)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
وقيل: هو خبر عن القرآن، أي: ما ينطق القرآن عن الهوى، دليله قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} فهذا هو القرآن بلا اختلاف، وهو قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} أي: إن هذا القرآن إلا وحي يوحيه الله عز وجل إلى محمد صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام، وبين ذلك بقوله:
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} أي: علَّم محمداً هذا القرآن ملك شديد القوى هو جبريل صلى الله عليه وسلم. قال الفراء وغيره: قالت قريش إنما يقول من تلقائه فنزل نكذيبهم في هذه الآية وعلى هذا التفسير جميع المفسرين من الصحابة والتابيعن ومن بعدهم في هذه الآية، والقوى جمع قوة، وقيل: شديد الأسباب.
قال: {ذُو مِرَّةٍ} قال ابن عباس: ذو منظر حسن.
وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن.
وقال مجاهد: ذو مرة: ذو قوة، وكذلك [قال] سفيان وابن زيد يعني به(11/7142)
جبريل صلى الله عليه وسلم.
وكان الحسن يقول ذو مرة: هو الله عز وجل.
وتم الكلام عند قوله: ذو مرة، ثم ابتداء بالفاء فقال: {فاستوى} (أي: استوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى.
وقيل: هو الله سبحانه: أي: استوى) على العرش، وكذا أهل التفسير غير الحسن على أنه جبريل.
وقيل: ذو مرة: ذو صحة جسم وسلامة من الآفات وهو اختيار الطبري ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سوى ".(11/7143)
وقيل معناه: ذو قوة وشدة يعني جبريل صلى الله عليه وسلم.
روي: أن من قُوَّته اقتلع مدائن لوط الأربع، في كل مدينة مائة ألف من الناس بمساكنهم وأنعامهم بقادمتي جناحه حتى بلغ تخوم الأرض السابعة السفلى، فاقتلع المدائن من أصولها حتى بلغ بهن قرب سماء الدنيا، فسمع أهل السماء صياح الدجاج ونباح الكلاب ونهيق الحمير، ثم أهوى بها إلى الأرض ثم غشّاها بالحجارة، وهو قوله: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [هود: 82] وهو قوله في جبريل: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20].
وقول: {فاستوى} أي: فاستوى هذا الشديد القوي بصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وذلك لما أسري به عليهما السلام، استوى هو وجبريل بمطلع الشمس الأعلى، وهو الأفق الأعلى، وهذا القول قال به الطبري والفراء.(11/7144)
وفيه العطف على المضمر المرفوع من غير تأكيد، وهو قبيح عند البصريين.
[لأن وهو بالأفق معطوف على المضمر في فاستوى وكان القياس عند البصريين] فاستوى هو، وهو، أي: جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الزجاج: الضمير لجبريل، يعني الضمير في فاستوى، وضمير " هو " كلاهما لجبريل عليه السلام، فلا يلزم في هذا القول عطف على مضمر مرفوع لأن الضميرين لواحد. لكن يكون " وهو بالأفق الأعلى " جملة في موضع الحال من المضمر في " فاستوى " أي: استوى جبريل في حال كونه بالأفق العلى.
والمعنى: فاستوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على صورته لأنه كان يتمثل للنبي على صورة رجل فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق، فالمعنى: فاستوى جبريل عليه السلام في الأفق الأعلى على صورته على قول الزجاج، وأكثر المفسرين عليه، فالمضمر الذي هو في " استوى " لجبريل(11/7145)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
وقوله " وهو " لجبريل أيضاً، وعلى القول الأول الضمير في " استوى " لجبريل.
وقوله: " وهو " / لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في العدد: " فاستوى وامرأته " فهذا يدل على أن " فاستوى " يتصل بما قبله.
قال قتادة: الأفق: الذي يأتي منه النهار.
وقال الحسن: أفق المشرق الأعلى بينهما.
قوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} أي: ثم دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى إليه. وهو قول قتادة والحسن.
وعن ابن عباس: ثم دنا الله تعالى ذكره من محمد فتدلى إليه؛ أي: أمره وحكمه.
قال أنس: عرج جبريل برسول الله صلى الله عليهما وسلم ليلة الإسراء إلى السماء السابعة ثم علا به بما لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى جاء به سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة (سبحانه وتعالى) فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى(11/7146)
(إليه جل ذكره) ما شاء، وأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة على أمته في كل يوم وليلة ثم ذكر الحديث بطوله.
وقال الفراء: " الفاء " بمعنى " الواو " وتقديره عنده " ثم (دنا وتدلى "، ودنا) يعني جبريل / صلى الله عليه وسلم وهو عنده مثل قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] [أي: انشق القمر واقتربت الساعة، لأن انشقاق القمر من علامة اقتراب الساعة].
وقيل: معناه فكان جبريل من محمد صلى الله عليهما وسلم قاب قوسين أو أدنى. وقاب: معناه قدر، أو أدنى: فمعناه أو أقرب منه، و " أو " هنا جيء بها على ما تعقل العرب من مخاطباتها، والمعنى: فكان على مقدار يقدره الرائي منكم قدر(11/7147)
قوسين أو أقل [من] ذلك، فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى [الله] إلى جبريل صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان: قوسين: ذراعين، وكذلك روي عن ابن عباس.
وقال مجاهد: وقتادة قاب قوسين: مقدار قوسين.
وقيل معناه: كان منه على مقدار مثل، حيث يكون الوتر من القوس أو أقل من ذلك.
قال عبد الله بن عمر: دنا منه جبريل حتى كان قدر ذراع وذراعين. (قال النبي صلى الله عليه وسلم) : " رأيت جبريل له ست مائة جناح " وقال الكوفيون(11/7148)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
" أو " بمعنى " الواو ".
أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما شاء.
وقيل: أوحى جبريل إلى عبد الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم ما شاء الله.
وقيل معنى الآية: فكان الله جل ذكره من جبريل صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إلى عبده جبريل ما شاء ليبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم قول من قال هو محمد قرب من ربه سبحانه هذا القرب.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: " هل رأيت ربك؟ فقال: لم أراه بعيني ولكن رأيته بفؤادي. مرتين ثم تلا {ثُمَّ دَنَا فتدلى} ".
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما عرج بي مضى جبريل حتى جاء الجنة قال: فدخلت فأعطيت الكوثر ثم مضى حتى جاء السدرة المنتهى فدنا ربك فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ".
أي: ما كذب فؤاد محمد على محمد(11/7149)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
فيما رآه ولكنه صدقه، ومن شدد فمعناه: ما كذب فؤاد محمد الذي رأى.
قال ابن عباس: رأى ربه بفؤاده ولم يره بعينه، وقاله عكرمة.
قال ابن عباس: اصطفى الله إبراهيم بالمَخَلَّة، واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمد بالرؤية.
وقال ابن مسعود: الذي رأى فؤاده جبريل، وقاله الحسن وقتادة. قالوا: وهو الذي أراه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى.
أي: أفتجادلونه على ما يرى، ويقل: معناه أفتحاجونه على ما يرى، ومن قرأه بغير ألف فمعناه أفتجحدونه على ما يرى).(11/7150)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
يقال مرائي حقي يمْرِيني مَريا، أي: جحدني.
أي: رأى محمد جبريل مرة أخرى في هذا الموضع على صورته قاله مجاهد. وقاله الربيع، وهو قول ابن مسعود.
وروي: " أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤية جبريل فقال: لم أره على صورته إلا هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من / السماء ساداً عظيم خلقه بين السماء والأرض ".
وقال ابن عباس: رأى ربه بقلبه، فقال له رجل عند ذلك أليس قد قال: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 104] فقال له عكرمة: أليس ترى السماء؟ فقال: بلى، قال: أفكلها ترى.(11/7151)
ومعنى سدرة المنتهى أي: عند السدرة التي إليها ينتهي علم كل عالم.
وقال كعب: هي سدرة في أصل العرش إليها ينتهي علم كل ملك مقرب أو نبي مرسل ما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله.
وعن كعب أنه قال: إنها سدرة على رؤوس حملة العرش فإليها ينتهي علم الخلائق.
وقال عبد الله: هي سدرة في السماء السادسة إليها ينتهي من يعرج من الأرض وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها.
وقال الضحاك: في سدرة المنتهى: إليها ينتهي كل شيء من أمر الله جل ذكره لا يعدوها.
وقيل هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه السلام وإنها في السماء الرابعة.
وقيل: هي سدرة إليها ينتهي كل من كان على سنّة رسول الله، روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لما انتهى إليها ليلة الإسراء قيل له: إلى هذه السدرة ينتهي كل أحد خلا من أمتك على سنتك.(11/7152)
وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في سدرة المنتهى: نَبَقُها كَقِلال هَجَر ".
وقال الربيع بن أنس: إليها تنتهي أرواح الشهداء، فلذلك سميت سدرة المنتهى.
وقال قتادة: أخبرني أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت سدرة منتهاها في السماء السابعة نَبَقُهَا كَقِلالٍ هَجَرَ وورقها كأذان الفيلة يخرج من ساقها نهران باطنان ونهران ظاهران فقال: يا جبريل / ما هذا؟ فقال: أما(11/7153)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في صفتها: يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها ".
أي: عند سدرة المنتهى جنة مأوى أرواح الشهداء.
قال ابن عباس: هي عن يمين العرش وهي منزل الشهداء، وقاله قتادة وغيره.
وقرأ ابن الزبير {جَنَّةُ المأوى} بالهاء، أي جنهُ المساء عندها أي: عند السدرة.
جنَّ المساء يجنُّ: أي: سَتَرَهُ. يقال جنَّه الليل وأَجَنَّه.(11/7154)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
وأنكر هذه القراءة ابن عباس ودعا على من يقرأ بها، وأنكرتها أيضاً عائشة رضي الله عنها. وقال الفراء هي شاذة.
أي: ولقد رأى محمد جبريل صلى الله عليه وسلم في صورته مرة أخرى حين يغشى السدرة ما يغشى.
قال عبد الله ومسروق ومجاهد والنخعي: غشي السدرة فراش من ذهب.
قال يعقوب بن زيد " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى}.
فقال: رأيتها يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله ".
وقال ابن عباس: غشيها رب القوة.
قال مجاهد: كانت (أغصان السدرة) لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً فرآها محمد ورأى ربه بقلبه.(11/7155)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة يقعون عليها كما تقع الغربان على الشجر.
أي: ما مال بصر محمد صلة الله عليه وسلم عن ما رأى ولا عدل ولا جاوز ما رأى.
قال ابن عباس: معناه ما زاغ بصر محمد يمسناً ولا شمالاً، وما طغى. ما جاوز أمر ربه.
أي: لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم هناك من أعلام ربه سبحانه وأدلته الأدلة الكبرى. إن جعلت " من " زائدة كانت " الكبرى " نعتاً للآيات على اللفظ أو على الموضع، وإن جعلت " من " للتبعيض كانت " الكبرى " في موضع نصب برأَى، والكبرى في الأصل نعت تقديره: لقد رأَى الآية الكبرى من آيات ربه.
قال عبد الله: رأَى رفرفاً أخضر من / الجنة قد سَدَّ الأُفُق.
وقال ابن زيد: رأى جبريل في خلته التي خلق عليها في السماوات والأرض بينه وبينه قدر قوسين أو أدنى.(11/7156)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى}.
رأيت من رؤية العين، ولذلك نصب بها، ولو كانت التي للسؤال والاستفتاء لم تتعدد نحو قوله {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 13] فالمعنى: أفرأيتم أيها المشركون هذه الأصنام التي جعلتموها بنات الله.
أي: أتجعلون له البنات ولكم الذكور (أي: هذه إذاً).
{قِسْمَةٌ ضيزى} أي: قسمة جائرة على الحق، وذلك أن المشركين أخذوا اسم الباري وهو الله، وزادوا فيه التأنيث وسموا به أصنامهم فقالوا اللات، وكذلك أخذوا العزى من العزيز وأخذوا منات من: منى الله الشيء: إذا قدره، وزعموا أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فجعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم.
قال أبو عبيدة: هي أصنام كانت في جوف الكعبة يعبدونها.(11/7157)
وقرأ مجاهد " اللات " بالتشديد، وكذلك قرأ ابن عباس، وقالا: كان رجلاً يلِت السَّويق أيام الحج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وقيل: كان يقوم على ألهتهم ويلِت السويق لهم، وكان بالطائف قاله أبو صالح والسدي. وقيل: كان يلِت السويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمى الصنم اللات بتشديد التاء. وحكى خلف عن سليم عن حمزة وأبو عبد الرحمن عن(11/7158)
(اليزيدي) عن أبي عمرو أنهما وقفا على اللات بالتاء، اتباعاً للمصحف، وكذلك وقف نافع.
وروي عن الكسائي أنه وقف بالهاء، والمشهور عن جميعهم الوقف على التاء اتباعاً للمصحف وإبعاداً أن يشبه الوقف على الله.
والعُزّى: حجراً أبيض كانوا يعبدونه قاله ابن جبير.
وقال مجاهد: العُزى شجرة كانوا يعبدونها.
وقال ابن زيد: العُزى بيت بالطائف لثقيف كانوا يعبدونه.
وقال قتادة: هو نبت كان ببطن نخلة، وأما منات فصنم كان لخزاعة.(11/7159)
وقال قتادة: [التقدير] آلهة يعبدونها وهي اللات والعزى ومنات.
قال أبو إسحاق: " منات " صخرة لهذيل وخزاعة كانوا يعبدونها من دون الله / جل وعز وتعالى عن ذلك.
وقيل: الَّلات صنم كان لثقيف، والعزى سمرة عبدوها.
وقوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي: قسمة جائرة ناقصة إذ رضيتم أن تجعلوا لخالقكم ورازقكم ما تكرهونه لأنفسكم وآثرتم أنفسكم بما تحبون.
(وضيزى فُعلى) ولكن كسرت، وإنما كان أصلها الضم إذ ليس في الكلام فعلى صفة وفيه (فُعلى وفَعلى) فكسرت الضاد لتصح الياء، كما قالوا بيضٌ وأصله بوض. ومن همزه فهي لغة يقال ضَازَهُ يَضِيزُهُ ويَضُوزُهُ وضَأَزَهُ يَضْأَزَهُ.
ويقال: ضِزتَهُ وضَزْته إذا نَقَصتَهُ حَقَّهُ، فيقال على هذا ضِئزَى بالهمز وضُؤْزَى أيضاً.(11/7160)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)
وجواب الاستفهام محذوف، والتقدير: أفرأيتم هذه الأصنام هل لها من هذه القدرة التي تقدم ذكرها شيء.
وقال أبو عبيدة: التقدير أَلَكُمْ الذكر وله الأُنثى كيف يكون هذا لأنهم قالوا الملائكة بنات الله جل ذكره. وقيل الجواب: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}.
قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أي: ما اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى إلا أسماء أحدثتموها أيها المشركون أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بهذه الأسماء من سلطان أي: من حجة في هذه الأسماء.
ثم قال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن}؛ أي: ما يتبع هؤلاء المشركون في هذه [الأسماء] إلا الظن، وهوى أنفسهم فاخترقوا ما لم يؤمروا به من قبل أنفسهم ومن ما وجدوا عليه آباءهم الكفار بالله عز وجل.
ثم قال: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} أي: جاءهم محمد من عند ربهم عز وجل بالبيان والوحي الحق.
قال: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} أي: ليس ذلك فيكون الأمر على ما يشتهون، بل الله عز وجل يعطي من يشاء ما شاء، إذ له الآخرة والأولى.(11/7161)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
قال: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي: وكثير / من الملائكة في السماوات لا تنفع شفاعتهم لمن شفعوا لمن شفعوا إلا من بعد أن يأذن الله عز وجل لهم فتنفع شفاعتهم إذا رضي الله سبحانه بها، وهذا توبيخ لعبدة الأوثان والملائكة من قريش وغيرهم لأنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فأخبر تعالى ذكره أن الملائكة مع فضلهم وكثرة طاعتهم لا تنفع أحداً شفاعتهم إلا من (بعد إذن الله عز وجل لهم) ورضاه، فكيف تشفع الأصنام لكم.
قال: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن}.
أي: أن الذين لا يصدقون بالبعث ليسمون الملائكة تسمية الإناث لأنهم كانوا يقولون هم بنات الله تعالى (الله عن ذلك علواً كبيراً). {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يقولون [ذلك] إلا ظناً بغير علم، والهاء تعود على السماء لأن التسمية والأسماء واحد، {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [أي] يقوم مقام الحق.
قال: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي: فدع من أدبر عن الإيمان بما جئته به(11/7162)
من القرآن.
{وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} أي: طلب الدنيا ولم يطلب ما عند الله.
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} أي: ليس لهم علم إلا علم معائشهم وإلا إيثار الدنيا على الآخرة وقولهم الملائكة بنات الله.
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي: هو عالم لهم قد علمهم في سابق علمه أنهم لا يؤمنون، وهو أعلم في سابق علمه بمن يهتدي فيؤمن.
ثم قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} أي: لله ملكهما وما فيهما. ولام ليجزي (متعلقة بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}.
وقيل المعنى: ولله ما في السماوات وما في الأرض يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو أعلم بهم ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أطاعوا. وقيل هي متعلقة بقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى. . . لِيَجْزِيَ}.
وقوله: {بالحسنى} يعني بالجنة.
قال زيد بن أسلم: {الذين أَسَاءُواْ}: المشركون، {الذين أَحْسَنُواْ} المؤمنون.(11/7163)
ثم بيَّن المؤمنين ونعتهم فقال: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش} أي: يبعدون عن ارتكاب الكبائر التي نهى الله عنها، وقد تقدم القول فيها في " النساء ". ويبعدون عن ارتكاب الفواحش التي نهى الله عنها وهي الزنا وشبهه مما أوجب الله فيه حداً.
وقوله: {إِلاَّ اللمم} قال ابن عباس: إلا ما سلف منهم في الجاهلية قبل الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: الكبائر: الشرك، والفواحش، والزنا، تركوا ذلك حين أسلموا فغفر الله عز وجل لهم ما كانوا أتوا به وأصابوه من ذلك قبل الإسلام.
وقيل: اللمم: الصغائر. /
وقيل: هي أن تلم بالشيء ولا تفعله. وقيل اللمم كنظر العين والتقبيل والجس.
وقال الشعبي: هو ما دون الزنا، وقيل: " إلا " بمعنى الواو، وليس بشيء هذا نقض كلام العرب.(11/7164)
وقال أبو هريرة: هو مثل القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة.
وعن ابن عباس أن اللمم أن تأتي الذنب ثم تتوب منه ولا تعود.
وعن أبي هريرة أيضاً مثله، (وهو قول أهل اللغة قالوا: اللمم بالذنب أن تناول منه ولا تمر عليه، ويقال ألْمَمْتُ أتيت ونزلت عليه).
(وعن ابن عباس وابن الزبير) هو ما بين الحدين، حد الدنيا والآخرة وبه قال عكرمة وقتادة والضحاك.
وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر وابن العاص أنه قال: اللَّمم ما دون الشرك.
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} أي: لمن اجتنب الكبائر. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يعني آدم عليه السلام.(11/7165)
{وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أجنّة: جمع جنين، اي: أعلم بكم في ذلك الوقت وفي كل وقت، وهو أعلم بمن أتقى. وقيل اللمم هو الذنب [بين] الحدين مما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بنار في الآخرة تكفره الصلوات الخمس.
والكبائر مثل الزنا وقتل النفس التي حرم الله، وشرب الخمر وعقوق الوالدين، (وأكل مال اليتيم).
وقال نفطويه: اللمم هو أن تأتي ذنباً لم يكن لك بعادة، والعرب تقول: ما تَأْتِينَا إلاَّ لِماماً: أي: في الحين بعد الحين.
قال: ولا يكون اللمم أن تهم ولا تفعل؛ لأن العرب إذا قالت: ألم بنا فلان معناه فعل الإتيان لا أنه همَّ ولم يفعل، ويدل على أنه فعل الذنب قوله {وَاسِعُ المغفرة} فهل تكون المغفرة إلا لمن فعل ذنباً /، وهل يغفر ما لم يفعل.
وروى الحسن أنه قال: اللمم هو أن يلم الرجل اللمة من الخمر واللمة من الزنا، واللمة من السرقة ثم لا يعوده.(11/7166)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
قال عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك.
وقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يدل على أن اللمم: الصغائر يغفرها الله لمن اجتنب الكبائر حتماً.
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] هذه المغفرة ليست بحتم إنما هي إلى مشيئة الله يفعلها لمن يشاء، ومغفرة الصغائر لمن أجتنب الكبائر حتم من الله جل ذكره (فعلها).
ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي: الله عالم بما تعملون حين خلق أباكم آدم من الأرض، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم يعلم ما تصير إليه أموركم، وما أنتم عاملون، فلا تزكوا أنفسكم فإن الله يعلم المتقي من الفساد. وأجنة جمع جنين.
قوله: {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى}.
أي: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله عز وجل وأعرض وأعطى صاحبه قليلاً من ماله ثم منعه فلم يعطه وبخل عليه.
هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وذلك أنه عاتبه بعض المشركين لما أتبع(11/7167)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء به فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة ففعل وأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه تمام ما ضمن له.
ومعنى وأكدى: قطع العطية ولم يتمها قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة.
أي: أعند هذا الذي ضمن له العذاب أن يتحمله عنه في الآخرة علم الغيب فهو يرى حقيقة قوله ووفائه بما وعده.
وقيل: المعنى أعَلِمَ الوليد أن هذا الذي يتحمل عنه العذاب في الآخرة كما قال: ويرى: بمعنى: يعلم.
أي: أم لم يخبر هذا المضمون له أن يحتمل عنه العذاب في الآخرة بالذي في صحف موسى.
{وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} أي: وفي الرسالة وبلغها إلى من أرسلت إليه.
وقيل معناه: وَفَّى ما عهد إليه ربه من تبليغ الرسالة وهو {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: بلغ ألا يحمل أحد ذنب أحد.(11/7168)
قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي حتى كان إبراهيم عليه السلام فبلغ {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى}.
وقال قتادة: وفى طاعة الله ورسوله إلى خلقه.
وقال ابن جبير: بلَّغ ما أمره به ربه وهو قول (ابن زيد وسفيان) والنخعي.
وعن ابن عباس أيضاً: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وفَّى بما أمره ربه عز وجل من الذبح والرؤيا، والذي في صحف موسى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.
وعن ابن عباس أيضاً: أن إبراهيم وفى شرائع الإسلام ثلاثين سهماً، وما ابتلي بهذا الذين أحد فأقامه إلاَّ إبراهيم فإنه وفَّى به.
وقال مجاهد: وفى ما فرض عليه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أخبركم لم(11/7169)
سمَّ الله جل ذكره إبراهيم خليله " الذي وفَّى ". لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحمد فِي السماوات} الآية ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وفى إبراهيم بحمد ربه أربع ركعات في النهار ".
وقوله: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أكثر المفسرين على أنه ما في صحف موسى وإبراهيم، وفَّى بالشرائع والأوامر على ما تقدم من الاختلاف.
قال أبو مالك الغفاري: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} إلى قوله: {هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى} هذا كله في مصحف إبراهيم وموسى.
وعنى بقوله: / {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} الذي ضمن للوليد أن يتحمل عنه عذاب الآخرة يقول الله ألم نخبر هذا المضمون.
أي: بهذا الذي في صحف إبراهيم وموسى أن أحداً لا يحمل ذنب أحد.
ثم قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [38].(11/7170)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
قال ابن عباس الآية منسوخة لأن الله عز وجل أنزل بعد ذلك {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فرفع الله الأبناء في درجات الآباء بعمل الآباء، وهو اختيار الطبري.
وروى ابن عباس عن النبي / صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله جل ذكره ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته إن كان لم يبلغها بعمله لِتَقَرَّبِهِم عينه ".
وقال قوم: الآية محكمة، ولا ينفع أحداً عمل أحد لا من صدقة ولا من حج ولا صلاة ولا غير ذلك، وقد أجمع العلماء أن الصلاة لا يجوز فيها أن يصلي أحد عن أحد وقد أتت أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في إجازة الحج عن الحي والميت والصيام عن الميت والصدقة عن الميت.(11/7171)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
ومذهب مالك أن عمل الأبدان لا يجوز أن يعمله أحد عن أحد، فإن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه.
قال تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي: وإن عمل كل عامل سوف يراه الله يوم القيامة، فيجازيه عليه الجزاء الأوفى من خير أو شر يثاب على عمله.
أي: وإن إلى ربك يا محمد انتهاء جميع خلقه ومرجعهم، وهو المجازي جميعهم بأعمالهم صالحهم وطالحهم.(11/7172)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
أي: أضحك أهل الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار. وقيل معناه أضحك من شاء في الدنيا بأن سره، وأبكى من شاء بأن غمه.
أي: هو أمات من أمات من خلقه، وهو أحيا من أحيا منهم.
قال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} أي: ابتدع إنشاء الذكر والأنثى.
يقال لكل واحد من الذكر والأنثى زوج. خلقهما: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} أي: إذا أمناها الرجل والمرأة.
وقيل معناه: إذا مناها الله عز وجل، أي: قدرها أن تكون نسمة.
أي: عليه إعادتهم بعد موتهم خلقاً جديداً.
أي: أغنى بالمال من شاء، واقناه: أي: جعله يقتني الأشياء ويدخرها.
وقيل أقنى: ادخر. وهو قول مجاهد والحسن وقتادة.(11/7173)
وعن ابن عباس (وأقنى: أي: أرضى، وأغنى: وأعطى).
وعن مجاهد أيضاً: أغنى: تولى، وأقنى: أرضى.
وقال السدي: اقنى من القنية، يعني ادخار الأشياء. وقال سفيان بن عيينة معناه: أغنى ورضي.
وقال أبو صفوان بن عوانة: أغنى وأقنى: (أخذ من الغنيمة).
وقال المعتمر بن سليمان: أغنى الإنسان وأقنى أي: أفقر الخلق إليه.
وقال ابن زيد " أعنى وأقنى أي: أغنى من شاء من خلقه وأفقر من شاء.(11/7174)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
أي: وإن ربك يا محمد هو رب الشعرى، وهو نجم يسمى بهذا الاسم كان بعض أهل الجاهلية يعبده.
قال مجاهد: هو الكوكب الذي خلف الجوزاء كانوا يعبدونه، فقيل لهم: اتركوا عبادته واعبدوا ربه وهو الشعرى: العبور الخارج عن المجرة عبدت في الجاهلية، وقالوا: رأينا ما (عبرت عن المنازل) فأعلم الله أنه ربها وأنه خالقها الذي تجب له العبادة.
وهو عاد بن آدم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأكبر، وكانت عاد الآخرة ساكنة بمكة مع أخوالهم من العمالقة ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، فلم يصبهم من العذاب ما أصابه عاداً الأولى ثم هلكت [عاد] الآخرة بعد ذلك بغى بعضهم على بعض فتفانوا بالقتل، وعادٌ الأولى هي التي هلكت بالريح.(11/7175)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
وقال ابن زيد: إنما قيل لها عاد الأولى لأنها أول الأمم هلاكاً بعد نوح.
وقيل: إن عاداً الآخرة هي ثمود.
وقد قال زهير: " كَأَحْمُرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعُ فَتَفْطَم " يريد عاقر الناقة فسمى ثمود عاداً.
أي: ولم يبق الله ثموداً ولكن أهلكهم بكفرهم.
أي: ولم يبقَ الله قوم نوح من قبل عاد وثمود بل أهلكهم بكفرهم بربهم وظلمهم لأنفسهم.
قال قتادة: (لم يكن) قبيل من الناس هم أظلم وأطغى من قوم دعاهم نبي الله تعالى نوح إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاماً كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى ذكر لنا(11/7176)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)
أن الرجل كان يأخذ بيد ابنه ويأت به إلى نوح صلى الله عليه وسلم فيقول: يا بني لا تقبل من هذا فإنَّ أُبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ وأوصاني بما أوصيتك [به] تتابعاً / على الضلالة وتكذيباً لأمر الله.
أي: والمقلوب أعلاها أهوى /، وهي سدوم قرية قوم لوط أمر الله جبريل فرفعها من الأرض السابعة بجناحه ثم أهواها مقلوبة. يقال: هوى إذا سقط، وأهواه غيره أسقطه.
قال مجاهد: رفعها جبريل صلى الله عليه وسلم إلى السماء ثم أهواها.
قال ابن زيد أهواها جبريل عليه السلام [ثم أتبعها تلك الصخر].(11/7177)
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
أي: جلاها الله عز وجل بعد أن انقلبت بالحجارة المنضودة المسومة فأمطرها عليهم حجارة من سجيل.
قال قتادة: غشاها بصخر منضود، في قوله {مَا غشى} معنى التعظيم.
أي: فبأي نعم ربك يا ابن آدم أنعمها عليك تشك وترتاب وتجادل وهذا لمن شك وكذب.
ومن نصب المؤتفكة بأهوى (أجاز أن يبدأ بها) ومن نصبها على العطف على قوم نوح وثمود لم يبتدئ بها.
أي: محمد نذير لقومه كما أنذرت الرسل من قبله قاله قتادة.
وقيل المعنى: محمد نذير من النذر الأولى في أم الكتاب.
وقال أبو مالك معناه: هذا الذي خوفتم به من القرآن في هذه السورة نذير لكم(11/7178)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
من النذر الأولى التي كانت في صحف إبراهيم وموسى، وهو اختيار الطبري.
أي: دَنَت وقَرُبَت القيامة، يقال: أَزِفَ الأمر إذا دَنَا وقَرُبَ، وسميت القيامة بالأزفة لقربها.
أي: ليس تنكشف القيامة فتقوم إلا بإقامة الله إياها وكشفه لها من دون سواه من خلقة؛ لأنه لم يطلع عليها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
وقيل: كاشفة. كما قيل: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: من بقاء.
والمعنى: ليس لها من دون الله كاشف لها.
وقيل " الهاء " للمبالغة، وكاشفة بمعنى كشف وتكون على القول الأولى بمعنى أنكشف.
هذا خطاب لمشركي قريش؛ أي: أفمن هذا القرآن تعجبون مما نزل على محمد وتضحكون استهزاء(11/7179)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
به، ولا تبكون لما فيه من الوعيد لمن كفر به.
أي: لاهون عما فيه من العبر والتذكر، معرضون عن آياته، والإيمان به يقال: سمد يسمد: إذا لها.
وروى شعبة عن المغيرة عن إبراهيم {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال: القيام [قبل الإمام] إلى الصلاة.
وحكي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أنه دخل الصلاة فرأى الناس قياماً فقال ما لهم، أو قال ما شأنهم سامدين.
وقال ابن عباس: [سامدون] هو الغناء، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا وهي لغة أهل اليمن من خيبر يقولون: أسمد لنا (أي: تغنى لنا).(11/7180)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
وقيل: سامدون: شامخون.
قال الضحاك كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم شامخين، والشامخ المتكبر.
وعن ابن عباس: سامدون: لاهون. وقال قتادة: سامدون: غافلون.
وقال مجاهد: سامدون: معرضون، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية لم ير ضاحكاً ولا متبسماً [حتى مات].
أي: اسجدوا لله في صلاتكم أيها الناس دون من سواه من الآلهة واعبدوه دون غيره.
(قال ابن عباس: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس).
(وقال ابن مسعود: أول سورة نزلت فيها السجدة، والنجم، قال: فسجد النبي وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ تراباً فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً(11/7181)
وهو أمية بن خلف).(11/7182)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
سورة القمر مكية قوله تعالى {اقتربت الساعة}.
معناه دنت القيامة وقربت.
روى أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وقد كادت الشمس تغيب فقال ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثلاً ما [بقي] من هذا اليوم فيما مضى وما نرى من الشمس إلا يسيراً ".(11/7183)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
وقال كعب ووهب الدنيا ستة آلاف سنة. قال وهب قد مضى منها خمسة آلاف وستمائة، وهذا إنذار من الله بدنو القيامة وقرب فناء الدنيا.
وقوله: / {وانشق القمر} أي: انفلق وكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة، وذلك أن كفار قريش سألوه آية فأراهم انشقاق القمر، فدل على صحة قوله، فلما أراهم ذلك (أعرضوا وكذبوا). وقالوا هذا سحر مستمر سحرنا له محمد، ففي ذلك يقول الله جل ذكره.
ومعنى مستمر: أي: ذاهب. وقيل مستمر: شديد. وقيل معناه: يشبه بعضه بعضاً. قال أنس: انشق القمر فرقتين. وقال ابن مسعود انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهبت فرقة منه خلف الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا.(11/7184)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
قال: {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي: كذبت قريش واتبعت أهواءها. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي: كل أمر يستقر إن خيراً في الجنة، وإن شراً ففي النار.
أي: ولقد جاء قريشاً من الأخبار والقصص والوعد والوعيد ما فيه متعظ لهم.
قال {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يعني القرآن. {فَمَا تُغْنِ النذر} أي: فليست تغن النذر لإعراضهم عنها. والنذر جمع نذير أو بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون " ما " استفهاماً. والمعنى فأي شيء يغني النذر عنهم وهم معرضون عنها.
ثم قال فتول عنهم يوم يدع الداع / إلى شيء نكر أي: فأعرض عنهم: تم الكلام(11/7185)
على قوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}، ثم ابتدأ فقال {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أي: منكر يخرجون من الأجداث. " فيم " منصوب " بأذكر يوم تخرجون. والأجداث: القبور. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} كأنهم في انتشارهم من القبور إلى موقف الحساب جراد منتشر.
وقوله {خُشَّعاً أبصارهم} حال من الضمير في (يخرجون من قبورهم) فينتشرون لموقف العرض يوم يد الداع خشعا إبصارهم، أي هي ذليلة خاضعة، ولا يجوز أن يكون حالا من المضمر في عنهم، لأن الأمر بالتوالي في الدنيا، والإخبار بخشوع أبصارهم بعد بعثهم.
وقوله {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} وقال في موضع آخر {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 3] فذلك صنفان مختلفان، وإنما ذلك لأن كون ذلك في وقتين مختلفين أحدهما عند البعث بالخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض لا جهة لأحد منهم يقصدها نشبههم عند(11/7186)
ذلك بالفراش لأن الفراش لا جهة يقصدها، وإنما هي بعضها في بعض فلا يزال الناس كذلك حتى يسمعوا المنادي يدعوهم فيقصدونه، فتصير لهم وجهة يقصدونها، فشبههم في هذا الوقت بالجراد المنتشر، وهكذا الجراد لها (وجهة تقصدها) وهي منشرة.
ويروى أن مريم سألت ربها أن يطعمها لحماً لا دم فيه فأطعمها الجراد فدعت للجراد فقالت: اللهم أعشها بغير رضاع (وتابع بنيها بغير شياع، أي: بغير دعاء بينها). ثم قال {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} قال قتادة: عامدين. وقال أبو عبيدة: مسرعين مقبلين خائفين. ولا يكون الإهطاع إلا مع خوف، ويقال: هطع وأهطع بمعنى أسرع مقبلاً خائفاً.
وقال سفيان شاخصة أبصارهم إلى السماء. وقال ابن عباس ناظرين.(11/7187)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
{يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي: شديد هول المطلع.
قال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي: كذب قبل قومك قوم نوحا. {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} يعني نوحاً. {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} أي: هو مجنون. وقوله {وازدجر} أي: زجروه بالشتم والوعيد والرجم.
قال ابن زيد اتهموه وزجروه وأوعدوه، وقالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين. وقال الحسن قالوا مجنون وتوعدوه بالقتل. ثم قال {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} أي: قال يا رب قد غلبت وقهرت فانتصر لي منهم بعذاب من عندك. قال تعالى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} أي: مندفع منصب.
قال {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وقضاه في اللوح المحفوظ. ثم قال {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} / أي: وحملنا نوحا إذا التقى الماء على سفينة ذات ألواح ودسر. والدسر: المسامير، وهو جمع دسار. وقيل الدسر: صدر السفينة(11/7188)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
لأنها تدفع الماء بصدرها: [أي] تدسره قاله الحسن.
وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة. وقال الضحاك الدسر: طرف السفينة، وأصل الدّسْر: الدّفع.
قال {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى منا ومبصر.
وقوله {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي: فعلنا بهم ذلك جزاء لنوح للذي كفر بالله فيه. وقيل " من " بمعنى " ما " والمعنى: جزاء لمن كان كفر بنعم الله وأياديه.
وقال مجاهد: معناه (جزاء الله لأنه كفر به). وقيل معناه جزاء لنوح ولمن آمن به لأنهم كفروا بهم، فتوحد " كفر " على هذا على لفظ " من ". ثم قال(11/7189)
{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} أي: تركنا السفينة آية وعبرة لمن بعد نوح. وقال قتادة رفعت الفسينة على الجودي حتى رآها أوائل لهذه الأمة.
قال مجاهد: إن الله جل ذكره حين غرق قوم نوح جعلت الجبال تشمخ، وتواضع الجودي فرفعه الله عز وجل على الجبال، وجعل قرار السفينة عليه. وقيل معناه: ولقد تركنا هذه الفعلة آية. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
أي: فهل من متعظ يخاف أن يناله من العقوبة مثل ما نال قوم نوح. ثم قال {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: وإنذاري، وهذا تحذير من الله لمن نزل عليه القرآن وكفر به أن يصيبه مثل ما أصاب قوم نوح. ثم قال {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} أي: سهلناه وبيناه وفصلناه لمن يريد أن يتذكر به ويعتبر.
وقيل معنى: فهل من مذكر: هل من طالب علم فيعان عليه: وقال محمد بن كعب معناه: هل من مذكر عن معاصي الله. قال ابن زيد يسرنا: بينا. وقال مجاهد: يسرنا: هونا.(11/7190)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
وقيل معناه: فهل من طالب علم أو خير فيعان عليه.
قال {كَذَّبَتْ عَادٌ} أي: كذب أيضاً عاد هوداً نبيهم فيما أتاهم / به. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (أي عذبتهم لذلك، وأهلكتهم، فلتحذر قريش ان يصيبهم بتكذيبهم محمدا مثل ما أصاب قوم هود.
قال {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي: ريحاً شديدة العصوف باردة لها صوت، وأصله صَرَرً فأبدل من أحدى الراءات ماداً، فكبْكِبُوا من كَبَبَ.
قوله {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} أي: في يوم شر وشؤم لهم (استمر بهم فيه البلاء) والعذاب إلى أن (أوفى بهم العذاب). قال قتادة استمر بهم إلى نار جهنم.
أي: تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتندق رقابهم وتبين من أجسادهم.(11/7191)
قال ابن إسحاق: لما هبت الريح قام سبعة من عاد فقالوا نرد الريح، فأتوا ضم الشعب الذي منه تأتي الريح، فوقفوا عليه، فجعلت الريح تهب وتدخل تحت واحد منهم ثم تقلعه من الأرض فترمي به على رأسه فتندق رقبته، ففعلت ذلك بستة منهم كما قال الله {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ}، وبقي رجل اسمه الخلجان، فأتى هوداً فقال يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتي، قال تلك ملائكة ربي، [قال مالي إن أسلمت، قال: تسلم!، قال أفينقذني ربك من هؤلاء، قال: ويلك أرأيت ملكاً ينقد من جنده]، فقال وعزته لو فعل ما رضيت، قال ثم مال إلى جانب الجبل فأخذ بركن منه يهزه، فاهتز في يده ثم جعل يقول:
أَلاَ لَمْ يَبْقَ إِلاّ الخِلْجَانَ نَفْسُه ... يَالَك من يوم دَهَاني أَمْسُه.
بِثَابِتِ الوَطء شديدٍ أَمْسُه ... لو لم يجِئني جِئته أَجُسه.(11/7192)
ثم هبت الريح فحملته، فألحقته بأصحابه.
(وروي عن أبي هريرة أنه قال أن كان الرجل ليغمز قدميه فيدخل في الأرض) من قوم عاد ليتخذ المصراعين من حجارة لو اجتمع عليه خمس مائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوه، وأن كان الرجل (ليغمز قدميه فتدخل في الأرض).
وقوله {تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي: تنزعهم من الحفر التي كانوا حفروها كأنهم أعجاز نخل منقعر.
قال الطبري في الكلام حذف، والتقدير: تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل، " فالكاف " على هذا في موضع نصب بالمحذوف. وقال الزجاج وغيره " الكاف " في موضع الحال، أي: تنزع الناس مشبهين / بأعجاز نخل. ومعنى(11/7193)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)
" منقعر " أي: منقلع من قعره.
(وقال الحسن لما جاءت الريح إلى قوم هود قاموا إليها فاستقبلوها وأخذ بعضهم بيد بعض).
(وركزوا أقدامهم في الوادي، وقالوا لهود من يزيل أقدامنا عن أماكنها إن كنت صادقاً، فأرسل الله عليهم الريح فنزعت أقدامهم كأنهم أعجاز نخل منقعر).
قال مجاهد: بانت أجسامهم من رؤوسهم فصاروا أجساماً بلا رؤوس.
وقيل التشبيه هنا إنما هو للحفر التي كانوا فيها قياما، صارت الحفر كأنها أعجاز نخل وهذا قول ضعيف، ولزم هذا القائل أن يقول " كأنهن ".
أي: فانظر يا معشر كفار قريش كيف كان عذاب قوم هود إذ كذبوا هوداً، وكيف كان إنذاري إياكم أن ينزل بكم ما نزل بهم.
قوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) إلى قوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) الآيات [22 - 31].(11/7194)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
أي: ولقد بينا وسهلنا القرآن لمن أراد أن يذكر ويتعظ، فهل من طالب علم فيعان عليه.
قال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} [أي] كذب قوم صالح بنذر الله (التي أتتهم) من عنده، فقالوا مكذبين لرسولهم صالح {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} أي: نحن الجماعة الكثيرة كيف نتبع بشراً واحداً.
{إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي: إن أتبعناه لفي ذهاب عن الصواب وسعر: أي: وعناد، قاله قتادة. وقيل: وسعر: وجنون.
قال {أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} هذا إخبار من الله جل ذكره عما قاله قوم صالح، أي: قالوا أأنزل الوحي عليه من بيننا على طريق الإنكار. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي: كذاب لا يبالي ما قال: وأصل الأشر: الريح والبطر، قال الله عز وجل { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر}.(11/7195)
أهم أم هو، بل هم الكذابون الأشرون، وهذا تهدد ووعيد من الله لهم ولمن فعل فعلهم.
وقرأ أبو قلابة {الكذاب الأشر} بالتشديد وفتح الشين ولا يجوز مثل هذا في الأولى لأنه لا يقال منه أفعل، وإنما جاز في الثاني لأنه من قولهم: زيد الأشر (ومَنْذِزٌ لِشَر) كما يقال: (الأْخَيرُ وَاُلَخُورَى). وقرأ ابن جبير ومجاهد: " من الكذاب الأشر " بضم الشين والتخفيف، وهي لغة في الأشر.
كما يقال رجل " خَوِرُ وَخَورً ". ثم قال تعالى {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ}(11/7196)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
أي: باعثوا الناقة التي سألها ثمود صالحاً آية لهم وحجة (من الله) لصالح ابتلاء لهم واختباراً هل يؤمنون به أو يكذبونه.
ثم قال {فارتقبهم واصطبر}. هذا أمر من الله لصالح، أي: فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون بالناقة، واصبر على ارتقابهم ولا تعجل.
وكان ابتلاؤهم في ذلك أن الناقة خرجت لهم من صخرة صماء فآمن بعضهم، وكانت عظيمة كثيرة الأكل /. فشكوا ذلك إلى صالح وقالوا قد أفنت الحشائش والأعشاب ومنعتنا من الماء، فقال ذورها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء، ترد الماء يوماً وتردون يوماً، فكانت هذه الفتنة، وهو قوله: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي: وخبر (قومك يا صالح) أن الماء يوم لهم يشربون ويتزودون، ويوم للناقة ترد فيه. وقيل المعنى أن الماء يوم غِبّ الناقة قسمة بينهم يشربون ويتزودون. ثم قال: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أي: كل حظ من الماء يحضره من هو له.
وقيل المعنى: كل من له الماء يوماً يحضره، وتحضره الناقة يوماً. وقال مجاهد: يحضرون يومهم، ويحضرون اللبن يوم الناقة.
[أيٍ] فنادت ثمود صاحبهم قَدَاراً(11/7197)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
عاقر الناقة لعقرها فحضوه على ذلك فتناول الناقة فعقرها.
قال ابن عباس تناولها بيده، ويقال إنه كان ولد زينة، وهو من التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وهم الذين قالوا، لصالح {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]. فمعنى فتعاطى: أي: فتناول الفعل ففعل فقتلها، وهو من قولهم: عطوت: إذا تناولت. كما قال أمرؤ القيس:
(وَتَعْطوُ بَرخص غير شَتْنٍ كأنه ... أَسَارِيعُ ظَبْيٍ أو مَسَاوِيكُ إِسْحَل).
وفي الحديث: " أن عاقر الناقة كان عزيراً (منيعا كأنه رفعة) / "
قال {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} هذا الخطاب لقريش [أي] فكيف كان(11/7198)
عذابي إياهم وإنذاري لهم.
وقيل معناه: وإنذاري لكم أَنّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، وقد تقدم خبر عذابهم كيف كان.
وقوله {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} أي: فكان قوم صالح لما أخذتهم الصيحة صاروا رفاتاً كهيئة الشجر المحتظر بعد (نعمته وغضارته). وقيل معناه: فصاروا كالعظام المحترقة، قاله ابن عباس.
وقيل صاروا كالتراب المتناثر من الحائط في يوم ريح: قاله ابن جبير.
وقال ابن زيد صاروا كهشيم حظيرة الراعي التي تتخذ الغم فتيبس فتصير هشيماً.
وقال مجاهد: صاروا كهشيم الخيمة وهو ما تكسر من (خشبها).
وقال سفيان (هو ما يتناثر من الحصير إذا ضربتها بالعصا.(11/7199)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
وحقيقة الهشيم أنه فعيل بمعنى مفعول أي: مهشوم وهو ما يبس وتحات من ورق الشجر، والمحتظر بكسر الظاء: الذي يحتظر على الهشيم، أي: يحوزه ليجمعه ويحظر عليه ليمنع من أخذه، فهو محتظر بكسر الظاء، والهشيم محتظر بفتح الظاء وصف له.
أي: كذبت جماعة قوم لوط بما أنذرهم به لوط من الإيمان والوعد والوعيد.
قال {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} أي: حجارة من السماء وقد تقدم ذكره في غير موضع.
{إِلاَّ آلَ لُوطٍ} يعني بناته {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ}.
قال {نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} نصب " نعمة " على أنها مفعول لها، ولذلك لا يتم الوقف على " سحر " أي: أنجيناهم من العذاب للنعمة من الله عليهم.
ثم قال {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} أي: كما أنجينا آل لوط من العذاب، كذلك نجزي(11/7200)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
من شكر الله سبحانه، وآمن بإنذاره واتبع أمره وانتهى عن نهيه.
أي: حذرهم لوط قبل حلول العذاب لهم نقمة الله عز وجل لهم، فشكوا فيما توعدهم به وأنذرهم إياه.
قال: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} أي: راود قوم لوط لوطاً في أضيافه ليفعلوا بهم ما كانوا يفعلون بمن دخل قريتهم من الذكور.
{فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} أي: طمس على أعينهم، أي: غطينا عليها.
وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه عز وجل في عقوبتهم ليلة أتوا لوطاً وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه فصفقهم بجناحه فتركهم عمياً لا يرون يترددون.
قال ابن زيد: هؤلاء قوم لوط حين أرادوا من ضيفه طمس الله أعينهم. وقد كان ينهاهم عن عملهم الخبيث الذي كانوا يعملون فقالوا له إنه لا نترك عملنا فإياك أن تنزل أحداً أو تضيفه أو تدعه ينزل عندك فإنا لا نتركه، قال فلما جاءه المرسلون خرجت امرأته الشقية فأتتهم فدعتهم وقالت لهم تعالوا فأنه قد جاء قوم لم(11/7201)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39)
أر قوماً أحسن ثياباً ولا أطيب أرواحاً منهم، قال فجاءوه يهرعون إليه فقال: " إِنّ هَؤلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَأُتّقَواَ اُّللهَ / وَلاَ تُخزُوُنِ فِي ضَيْفِي قالَوُاْ أَوَ لَمْ تَنْهَكَ عَنِ اُلْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِيَ هنّ أَطُهَرُ لَكُمْ " فقال له جبريل ما يهولك من هؤلاء، قال أما ترى ما يريدون، قال إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك، قال فنشر جبريل عليه السلام جناحاً من أجنحته فاختلس به أبصارهم، وطمس أعينهم، فجعلوا يجول بعضهم في بعض.
وكذلك ذكر مجاهد مثل معنى هذا.
ثم قال {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: ذوقوا عذابي الذي حل بكم، وعاقبة إنذاري لكم، وقيل إنه من قول الملائكة لهم أي: قالت الملائكة لهم فذوقوا عذاب الله، وعاقبة ما أنذركم به.
أي: ولقد صبحهم قوم لوط عند طلوع الفجر عذاب ثابت إلى يوم القيامة، وهو أن قلبت عليهم المدينة، وأرسلت الحجارة عليهم وعلى من غاب من المدينة وحلوا في عذاب إلى يوم القيامة. قال قتادة: استقر بهم العذاب إلى نار جهنم. /
قد تقدم تفسير كل هذا.(11/7202)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
ثم قال (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) [41] أي: جاء أتباع فرعون إنذارنا بالعقوبة لكفرهم بالله ورسوله.
(كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [42] أي: كذبوا بكل ما جاءهم به موسى صلى الله عليه وسلم فأخذهم الله بالعذاب أخذ منيع قادر على ما يريد، فأغرقهم أجمعين.
ثم قال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} أي: أكفاركم يا قريش، (أي الذين إن يروا آية) يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، خير من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وأخذهم العذاب لكفرهم، فيقولوا إنا ننجوا لشرفنا، بل ليس هم بخير منهم، فإذا كانوا قد هلكوا بكفرهم فما يؤمنك أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب [وهذا] لفظ استفهام معناه التوقيف. حكى سيبويه: الشقاء أحب إليك أم السعادة.
قال ابن عباس معناه ليس كفاركم خيراً من وقوم نوح وقوم لوط.
ثم قال {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} [أي] أم لكم كتاب فيه براءة لكم من العذاب في كتاب الله عز وجل. { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي: أم يقول كفار(11/7203)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
قريش نحن جماعة ينصر بعضنا بعضاً على ما نريده.
فصدق الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وعده، وهزم المشركين يوم بدر وولوا هاربين.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ لما نزلت {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} جعلت أقول أي: جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر. وأكثر المفسرين على أنه يوم بدر هزموا فيه وولوا الدبر.
(قالت عائشة رضي الله عنها لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية أَلْعَب. {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} الآية أي: يوم القيامة موعدهم للعذاب بل ذلك الوقت أدهى وأمر من الهزيمة التي كانت عليهم في الدنيا وتوليتهم الدبر.
وأدهى من الداهية والداهية (الأمر العظيم) الذي لا ينفع فيه دواء. وَأَمْرُ من المَرَارة.(11/7204)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
أي: في حيرة وتجاوز عن الحق. {وَسُعُرٍ} أي: واحتراق من شدة العناد، والنصب في الباطل وقيل وسعر: وعناد.
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " قال: هم القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني ".
وقيل القول هنا محذوف. والمعنى يقال لهم: ذوقوا مس سقر. ومعنى يسحبون: أي: يجرون إلى النار. وفي قراءة ابن مسعود " إِلَى اُلنّاِر " على التفسير، " وسَقَى " إسم من أسماء أبواب جهنم أعاذنا الله منها.
وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: لوددت أن عندي رجلا من أهل القدر فوجأت رأسه، قال: ولم ذلك لأن الله عز وجل خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء وقلمه ذهب وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر الله فيه كل يوم ستين وثلاث مائة نظرة يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت ويقدر ويدبر،(11/7205)
ويفعل ما يشاء.
وقوله {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} هو على المجاز، كما يقال وجدت مس الحمى، وذاق طعم الموت.
وقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: بمقدار قدرناه وقضيناه وفي هذا بيان بالتوعد للقائلين بالقدر.
وقال ابن عباس: إني لأجد في القرآن قوما يسحبون في النار وعلى وجوههم، يقال لهم ذوقوا مس سقر لأنهم كانوا يكذبون بالقدر وإني لأراهم فما أدري أشيء [كان] قبلنا أم شيء فيما بقي.
وقال أبو هريرة خاصمت مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} إلى قوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
(وقال أبو عبد الرحمان السلمي لما نزلت هذه الآية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)، قال رجل يا رسول الله ففيم العمل، أفي شيء نستأنفه، أم في شيء قد فرغ(11/7206)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعملوا (فكل مُيَسّرً لما خُلق له فسينسره لليسرى وسنيسره للعسرى). وقال محمد بن كعب القرطبي / لما تكلم الناس في القدر نظرت وإذا هو في هذه الآية أنزلت فيهم: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} إلى {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. قال أبو محمد وقد أملانا الكلام على إعراب هذه الآية، والاستدلال منها على أن الله خلق كل شيء، وأنه لفظ عام لا خصوص فيه في غير هذا الكلام.
[أي وما أمرنا للشيء إذا أمرنا به وأردنا تكوينه إلا قولة واحدة كن فيكون كلمح البصر] من السرعة لا يتأخر ولا مراجعة فيها.
هذا خطاب لمشركي قريش الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، أي: ولقد أهلكنا نظراءهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلها كما كذبتم رسولكم، فما يؤمنك أن تهلكوا كما هلك من كان قبلكم، فهل من متعظ يتعظ فيزدجر عن كفره.
ثم قال {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أي: وكل شيء فعله أشياعكم من(11/7207)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
الأمم الماضية فهو في الكتب كتبته عليهم الحفظة، وكذلك فعلت بكم.
وقيل الزبر هنا أم الكتاب، هو في أم الكتاب من قبل أن يخلقوا. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي: وكل صغير من الأعمال أو كبير مثبت في الكتاب مكتوب في أسطر.
قال تعالى {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي: إن الذين اتقوا عقاب الله وآمنوا برسله، وبما جاءتهم به الرسل، في بساتين يوم القيامة.
والنهر ونَهر بمعنى أَنْهَار كما قال: " فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينا " وقيل نهر معناه وضياء وسعة، يقال أنهرته إذا وسعته. وقرأ الأعمش ونهر بالضم جعله جمع " نهار " كقَذَالِ وقُذَالَ.(11/7208)
وروي أنه ليس في الجنة ليل إنما هو نور كله، إنما يعرفون الليل بإغلاق الأبواب وإرخاء الستور، [والنهار بفتح الأبواب ورفع الستور]. ثم قال {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم. {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أي: عند ذي ملك يقدر على ما يشاء لا إله إلا هو.(11/7209)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
مكية
سورة الرحمن جل ذكره مكية قوله: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إلى قوله (وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [1 - 11].
الرحمن اسم من أسماء الله لا يشاركه فيه أحد، ومعناه: الكثير الرحمة بشرط المبالغة، والمعنى: الرحمان أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن، فبصركم فيه الحلال والحرام. وقيل معناه علم محمدا القرآن، والإنسان " محمداً " [حتى أداه إلى جميع(11/7211)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
الناس والثاني سهل عليه جميع الناس صلى الله عليه وسلم] .
وقيل لا حذف فيه، والمعنى (الرحمان أيها الناس) جعل القرآن علامة، وآية يعتبر بها. والأول أحسن لقوله {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان}.
ثم قال: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [2] يعني آدم صلى الله عليه وسلم.
وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل الإنسان بمعنى الناس. " وعَلّمَهُ البيَان " أي: الحلال والحرام، وقاله قتادة. وقيل معناه: علمع الخير والشر، وما يأتي وما يدع. وقال ابن زيد: معناه علمه الكلام فجعله مميزاً. وقيل معناه علمه بيان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه. وقيل (الخط: وهو مأثور).
ثم قال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [3] أي: يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.(11/7212)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
وقال ابن زيد حسبانهما الدهر والزمان، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرِ أحد كيف يحسب. وقال الضحاك معناه: يجريان بقدر. وقال مجاهد: معناه: أنهما يدوران في مثل قطب الرحا. والحسبان مصدر حسبت الشيء حِساباً وحُسْبَانا مثل الغفران والكفران.
وقيل الحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان.
قال: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} النجم ما نجم من النبات وانبسط على غير ساق، مثل البقل وشبهه، هذا قول ابن عباس وابن جبير وغيرهما، والشجر ما قام على ساق. وقال مجاهد: النجم نجم السماء، وهو قول قتادة والحسن. وقوله / {يَسْجُدَانِ} يعني يسجد ظلهما، وهو اختيار الطبري كما قال: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15](11/7213)
وهو قول ابن جبير وغيره. /
وقال قتادة: لم يدع الله عز وجل شيئاً إلا عبده له. وقال مجاهد: يسجدان بكرة وعشياً، يريد أن سجوده: دوران ظله.
وقال الحسن النجم نجم السماء، والشجر كله يسجد لله عز وجل. واصل السجود: الاستسلام والانقياد لله سبحانه. فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله [ عز وجل] وانقيادها له سبحانه، ومن الحيوان كذلك.
ثم قال {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن} أي: العدل، فهو خبر فيه معنى الأمر بالعدل ودل على ذلك قوله {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} وقيل هو الميزان الذي يتناصف به الناس.
ثم قال {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} أي: وضع الميزان لئلا تبخسوا وتظلموا في الوزن.
وقال قتادة: اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل عليك، أَوْفِ كما تحب أن يُوَفّى لك فإن بالعدل صلاح الناس.(11/7214)
ثم قال {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} أي: أقيموا الميزان بالعدل ولا تنقصوا الوزن إذا أوزنتم. ثم قال {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي: والأرض وطأها للخلق. {فِيهَا فَاكِهَةٌ والنخل ذَاتُ الأكمام} أي: في الأرض فاكهة، وفيها النخل ذات الطلع قاله القرظي. وقال الحسن وقتادة والضحاك الأكمام: الِلّيفُ، وأصل الكَمِ أن يكون غلافا للشيء، ومنه قيل كم القميص لأنه يغطي اليد. ثم قال {والحب ذُو العصف والريحان} [أي] وفيها الحب يعني حب البر والشعير، والعصف. ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه يسمى العصف إذا يبس. وقيل هو التبن قاله قتادة والضحاك. وقال ابن جبير العصف: البقل من الزرع. وقوله: (والريحان) يعني والرزق.
قال ابن عباس كل ريحان في القرآن فهو رزق وهو قول مجاهد والضحاك.(11/7215)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
وعن ابن عباس أيضاً أنه الريحان الذي يشم، وهو قول الحسن وابن زيد. وعن ابن عباس أيضاً أنه خضرة الزرع.
وقال ابن جبير الريحان ما قام على ساق. وحكى الفراء عن بعضهم العصف: المأكول من الحب، والريحان الذي لا يؤكل. وقال الفراء: العصف بقل الزرع، تقول العرب: خرجنا نعصف الزرع: إذا قطعوا منه شيئاً قبل أن يدرك، فذلك العصف، (والريحان هو ورق والحب الذي يؤكل).
أي: فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تكذبان وتجحدان، والآلآء: النعم في قول ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. وقال ابن زيد الآلاء: القدرة، وإنما أضمر الجن والإنس ولم يتقدم للجن ذكر، لأن الأنام واقع على الجميع. وقيل لما أتى بعده وخلق الجانّ، بين ذلك ما(11/7216)
تقدم من التثنية. وقيل إنه مخاطبة للواحد: حكي عن العرب أنهم يقولون: اُدْخُلاَهَا يا غلام.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قُرئت عنده فقال: " مالي أسمع الجن أحسن جواباً منكم، قالوا وما ذلك يا رسول الله قال ما أتيت على قول الله عز وجل { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالت الجن ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد ".
وقال جابر بن عبد الله تلاها. رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها فقال: " مالكم سكوتاً الجن كانت أحسن رداً منكم، ما تلوتها عليهم مرة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد ".
ومن رواية جابر بن عبد الله أيضا في حديث آخر أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما قرأت هذه الآية على الجن من مرة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا لا بشيء من(11/7217)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
نعمائك نكذب ربنا ولك الحمد ".
(يعني آدم صلى الله عليه وسلم) من طين يابس لم يطبخ فله صلصة من يُبْس إذا حُرِكَ ونَقْرٍ كالفخار، فهو من يُبْسِه، وإن لم يكن كطبوخاً كالذي طُبخ بالنار، فهو يُصَلصل كما يصلصل الفخار الذي قد طبخ من الطين. قال ابن عباس خلق الله جل ذكره آدم صلى الله عليه وسلم من طين لازب.
واللازب: اللزج الطيب من بعد حماء مسنون، وإنما كان حماً مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، ويصوت.
وقال عكرمة من صلصال /: كالفخار: هو من طين خلط برمل فصار كالفخار. وقال قتادة: الصلصال: التراب اليابس الذي تسمع له صلصلة(11/7218)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
كالفخار. وعن ابن عباس هو ما عسر فخرج من بين الأصابع.
واصل صلصال: صلال، من صلى اللحم إذا نتن وتغيرت رائحته، كصَرْصَر وكَبَكَب من صرَ وكَبَ، فأبدل في جميع ذلك من الحرف المكرر الثاني حرفاً من جنس الأول.
قال {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} المارج ما اختلط بعضه ببعض من بين أصفر وأخضر وأحمر من قولهم: مرَج أمر القوم: إذا اختلط.
وقال ابن عباس من أوسط النار وأحسنها، وعنه خلقه من لهب النار من أحسن النار. وعنه من خالص النار، وعنه من لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال مجاهد: المارج اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت. / وذكر عنه ابن وهب أن المارج الحمرة التي تكون في طرف النار. ويروى أن الله جل ذكره خلق نارين فمزج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما(11/7219)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)
الأخرى وهي نار السموم، فخلق إبليس اللعين منها، وكل هذا من أول السورة، نعم أنعم الله بها على خلقه ذكرها وعددها فلذلك قال بعد ذلك. {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأي نعم ربك تكذب الأنس والجن. فالضمير في {تُكَذِّبَانِ} في جميع السورة يعود على الأنس والجن الذين مضى ذكرهما في قوله {خَلَقَ الإنسان} {وَخَلَقَ الجآن} لكنه تقدم فيه ضميرهما قبل ذكرهما في الأول خاصة لأن المعنى مفهوم.
ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد تقدم شرحه.
قال {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} يريد مشرق الشمس في اشتاء ومشرقها في الصيف وكذلك مغربها، {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد تقدم، وليس ذلك كله بتكرير، لأنه تعالى يذكر لهما غير النعم المتقدمة. ثم ينبه عليها قوله {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ}.
أي: أرسلَهُما وخلاّهما.(11/7220)
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)
يقال مرج فلان دابته: إذا خلاها وتركها، وهما بحران أحدهما في السماء والآخر في الأرض، قاله ابن عباس، وقال يلتقيان في كل عام.
وقال الحسن: هما بحرا فارس والروم، وقاله قتادة.
قال {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} أي: بين البحرين حاجز لا يصيب أحدهما صاحبه، وكل شيء كان بين شيئين فهو برزخ عند العرب، فما بين السماء والأرض برزخ. وقيل معناه: بينهما بعد لا يبغي أحدهما على الآخر قد حجز المالح عن العذب والعذب عن المالح.
وقال ابن زيد: بينهما بعد الأرض فلا يختلطان. وقيل لا يبغيان: لا يبغي أحدهما على الآخر.
وقال قتادة: لا يبغيان على الناس. قال الحسن: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم، جعل بين الناس وبينهما اليبس. وقال ابن زيد: لا يبغيان أن يلتقيا. {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أي: يخرج من(11/7221)
أحدهما [وهو المالح ثم حذف المضاف مثل " وَاسْئَلِ اَلْقَريَة ". وقيل ما يخرج منهما] جميعاً لأن الصدف التي في المالح لا يتكون اللؤلؤ فيها إلا عن قطر السماء، وهو قول الطبري.
وروى معناه عن ابن عباس قال: إن السماء إذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ.
والمرجان صغار اللؤلؤ واللؤلؤ ما عظم منه، هذا قول علي ين أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والضحاك وأبي عبيدة وغيرهم (رحمهم الله).
وقال مجاهد: " المرجان ما عظم من اللؤلؤ، وروى ذلك عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: المرجان حجر أحمر. وقيل المرجان: جيد اللؤلؤ. ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد تقدم شرحه.(11/7222)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
قال {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} أي: ولرب المشرقين والمغربين السفن الجارية في البحر كأنها الجبال. قال مجاهد: المنشآت ما رفع قلعه من السفن، وما لم يرفع قلعه فليست بمنشآت.
قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} / يعني من على وجه الأرض ومن يكون فيها بالموت، وأضمرت الأرض ولم يتقدم ذكرهما لظهور المعنى.
قال {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} أي: معناه ويبقى ربك. ثم قال {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي: إليه يفزع من في السماوات والأرض في حوائجهم لا غنى لأحد عنه. ثم قال {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال أهل المعرفة بالله معناه أنه ينفذ ما قدر أن يكون مما سبق في علمه وأثبته في اللوح المحفوظ، وليس هو إحداث أمر لم يتقدم في علمه بل جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة لا يزاد في ذلك ولا ينقص، لكنه تعالى يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء، وكل ذلك تقدم علمه به بلا أمد.
وقال قتادة: معناه: يحيي حياً ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً.(11/7223)
وقال أبو صالح معناه: يسأله من في السماوات الرحمة، ومن في الأرض المغفرة والرزق. وقال علي بن سليمان معناه: يسأله من في السماوات والأرض عن شأنه كل يوم هو فيشأن.
وقال عبيد بن عمر كل يوم هو في شأن يجيب داعيا ويعطي سائلاً، ويفك عانياً ويشفي سقيماً. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: كل يوم هو في شأن " (أي في شأن) يغفر ذنباً ويكشف كرباً، ويجيب داعياً. وقال قتادة: كل يوم هو في شأن: أي: في شأن خلقه وصلاحهم، وتدبير أمورهم.
قال ابن عباس أن الله جل ذكره لوحا محفوظا ينظر فيه كل يوم (ثلاث مائة وستين) نظرة، يعز مع نظرة من يشاء ويذل من يشاء ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء.
وقال أبو سليمان الداراني إنما إنفاذ ما قدر أن يكون في ذلك اليوم، وليس(11/7224)
شيء من أمره تعالى يحدث إلا قد جرى القلم بما هو كائن. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} هذا وعيد من الله لعباده وتهدد، ومعناه: سآخذ في مجازاتكم ومحاسبتكم وليس هو تفرغ من شغل.
وقيل المعنى سنفرغ لكم من وعيدكم ما وعدت لكم من الثواب والعقاب. والفراغ في اللغة على وجهين: إحداهما الفراغ من الشغل /، والآخر القصد إلى الشيء تقول سأفرغ لك: أي: سأقصد إليك.
قال جرير: (فرغت إلى العبد المقين في الحجل). وقال أبو عبيدة: سنحاسبكم. وقرأ يوماً عمر بن ورق {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 24]، وقرأ(11/7225)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} ثم قال أما وعده ربي لقد جاء من غير غيبة، ولقد تفرغ من غير شغل.
قال {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} أي: إن استطعتم] أن تجوزوا أقطار السماوات والرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا فإنكم لا تجوزون لذلك إلا بحجة من ربكم، يقال لهم ذلك يوم القيامة.
والمعنى سنقصد لكم يوم القيامة فيقال لكم إن قدرتم أن تجوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم فلا يصل إلى عذابكم فجوزوا فإنكم لا تقدرون على ذلك إلا بحجة من عند ربكم تنجيكم.
قال الضحاك إذا كان يوم القيامة أمر الله جل وعز السماء الدنيا [فتشققت] بأهلها ومن فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم ثالثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة فصفوا صفاً دون صف ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نادوا فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا(11/7226)
فيه فذلك قوله عز وجل { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} [غافر: 32] على قراءة من قرأ بالتشديد {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 33]، وذلك قوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 24] وهو قوله {يامعشر الجن والإنس}. . الآية وذلك قوله {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 16 - 17].
وعن الضحاك أيضاً أن المعنى: أن استطتم أن تهربوا من الموت فاهربوا فغنه مدرككم. وقال ابن عباس معناه: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فأعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان، أي: ببينة من الله تعالى.
وعن ابن عباس أيضا أن معناه: لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. والأقطار جمع قطر وهي الأطراف والنواحي، ويقال فيها الأقتار بالتاء يقال قطر الدار وقترها. قال مجاهد: إلا بسلطان: إلا بحجة. وقال قتادة: إلا بملك / وليس لكم(11/7227)
ملك. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد تقدم تفسيره. ثم قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} قال ابن عباس المعنى يرسل عليكم أيه الثقلان يوم القيامة لعب من نار ودخان. فالشوظ: اللهيب، والنحاس، الدخان، وقال مجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد: وعن الضحاك الشواظ: الدخان. قال ابن عباس النحاس: الدخان، وعنه أنه قال النحاس: الصفر يعذبون به.
وقال مجاهد: يذاب الصفر من فوق رؤوسهم. وقال قتادة: النحاس: الصفر يعذبون به، وهو قول الحسن.
وقوله {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي: لا ينصر بعضكم بعضاً أيها الجن والأنس. وكسر الشين(11/7228)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
في شواظ لغة، ومن خفض " نحاس " فعلى معنى يرسل عليكما لهب يتشعب من نار ومن دخان، وهذا التقدير حسن.
قوله {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان}.
أي: فإذا انفطرت السماء وذلك يوم القيامة وكان لونها كلون الفرس الورد الأحمر. قال ابن عباس فكانت وردة كالدهان: كالفرس الورد. وقال الضحاك تتغير السماء فيصير لونها كلون الدابة الوردة. ومعنى كالدهان: كالدعن صافية، قال سجاد والضحاك. وقال أبو الجوزاء تكون كصفاء الدهن. وقال زيد بن أسلم(11/7229)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
تكون كعكر الزيت. " والدهان " جمع " دهن "، وقيل الدهان الجلد الأحمر. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد تقدم شرحه.
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} أي: لا تسأل الملائكة أحداً عن ذنوبه، لأن الله عز وجل قد حفظها [عليهم] وأحصاها فليس يؤخذ علمها من عندهم. قال ابن عباس معناه: لا أسألهم عن ذنوبهم، ولا أسأل بعضهم عن ذنوب بعض وهو مثل قوله {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] وهو مثل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119] على قراءة من رفع.
وقال مجاهد: معناه أن الملائكة لا تسأل عن المجرمين لأنهم يعرفونهم بسيماهم. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم الله على السنة القوم فتكلمت ايديهم(11/7230)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)
وأرجلهم بما كانوا يعملون، فكأنها مواقف مختلفة على قول قتادة. وقال قتادة: أيضاً هم معروفون بسواد وجوههم، وزرقة عيونهم. ودل على صحة (هذا التفسير) أن بعده يعرف المجرمون بسيماهم. والسيماء: العلامة وهو قول الحسن أيضاً.
قال {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} أي: / تعرف الملائكة المجرمين بعلامتهم وذلك سواد وجوههم، وزرقة الأعين، قاله أهل التفسير كلهم.
وقوله {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي: مجمع (بين رجلي الرجل) وناصيته حتى يدق ظهره ثم يلقى في النار، فذلك أشد لعذابه وأعظم في التسوية به.
قال ابن عباس يجمع بين ناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.(11/7231)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)
قال {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} أي: يقال لهم هذه جهنم التي كنتم (بها تكذبون). وفي قراءة ابن مسعود هذه جهنم التي [كنتما] بها تكذبون، تصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان مخاطبة للكفار من الجن والإنس. ثم قال {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: يطوف هؤلاء المجرمون في جهنم بين أطباقها.
{وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: وبين ماء قد أسخن وأغلى حتى انتهى حره ونضجه. [وقال الضحاك: بلغ غليه، وعنه أيضاً قد انتهى نضجه منذ خلق الله السماوات والأرض. وقال ابن زيد: الآني: الحاضر. وقال الحسن ما ظنك باقوام وقفوا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فلما انقطعت أعناقهم وأجوافهم من العطش والجوع أمر بهم إلى نار جهنم]. ثم قال {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}.
أي: ولمن اتقى الله جلذ كره، وخاف مقامه بين يدي ربه عز وجل فأطاعه بستانان. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر مقام ربه فينزع منه، وهو قول النخعي وقتادة.(11/7232)
وقال أبو الدرداء " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الآية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت وإن زنا وسرق يا رسول الله [فقلت كذلك إلى ثلاث مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم] وإن رغم أنف أبي الدرداء " قال ابن زيد مقامه حين يقوم العباد بين يديه [يوم] القيامة. فالمعنى ولمن ترك المعصية خوفاً من الله جنتان، قيل هما جنة خلقت له وجنة ورثها كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هل تدرون ما الجنتان قالوا الله ورسوله أعلم. فقال بستانان في أرض الجنة، كل بستان مسيرة مائة عام في وسط / كل بستان دار من نور على نور، وليس منها شيء إلا يهتز (نعمة وخضرة) قرارها ثابت وشجرها ثابت. ثم قال {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} هذا نعت للجنتين " قال ابن عباس: ذواتا ألوان. وقال عكرمة ذواتا أفنان: ظل(11/7233)
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
الأغصان على الحيطان، وهو قول مجاهد والضحاك.
وقال الضحاك ذواتا ألوان من الفاكهة. وعن مجاهد معناه: ذواتا أغصان وعن ابن عباس أيضاً أنه قال يتماس أطراف شجرها، أي: يمس بعضه بعضا كالمعروشات. وقال قتادة: ذواتا أفنان: يعني فضلهما وسعتهما على ما سواهما. وقال معمر ذواتا فضل على ما سواهما.
والأفنان في اللغة: الأغصان، والواحد " فنن " على قول أكثرهم إلا الضحاك فإن الواحد على قوله " فن " ويلزم أن يجمع على قوله على فنون لأنه قال ذواتا أفنان، ذواتا ألوان من الفاكهة.
قال {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي: في الجنتين عينان تجريان يقال إن حصباهما الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحصاتهما المسك(11/7234)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
الأذفر وحافاتهما الزعفران.
(قال مسروق في صفة الجنة أنهارها تجري في غير أخدود، ونخلها نضيد من أسفله إلى فرعه، وثمرها أمثال القلال كلما أخذ منها تمرة عادت مكانها أخرى، طول العنقود اثنى عشر ذراعاً). ثم قال {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي: في الجنتين من كل نوع من الفاكهة نوعان وضربان.
قال {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي: ينعمون متكئين على فرش، ودل الكلام على هذا الفعل وهو العامل في الحال ذكره المبرد. وقيل العامل معنى الملك في قوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {مُتَّكِئِينَ} وهو محمول على المعنى، ولو دل على اللفظ لقال متكئاً.
والاستبرق عند العرب: الديباج الغليظ الذي يعلو على الكعبة. وقيل هو الخز الموشي هذا هو البطائن. ولم يذكر تعالى ذكره الظواهر، إذ ليس في الدنيا من يعرف قدرها. قال ابن مسعود قد أخبرتم بالبواطن فكيف لو أخبرتم بالظواهر.(11/7235)
وقيل لابن جبير هذه البطائن من استبرق، فما الظواهر؟ قال هذا مما قال الله جل ثناءه فيه {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وفي الحديث " ظواهرها بدر يتلالا " وصغر سيبويه استبرق على أبيرق، وأن السين والتاء زائدتان والألف بمنزلة ميم مستفعل، لأن الهمزة / [تكون] زائدة أولاً في بنات الأربعة والخمسة، إنما تكون زائدة أولاً في بنات الثلاثة.
وقال الفراء تصغيره " تَبَيْرق " فحذف السين والهمزة. ثم قال {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أي: وثمر الجنتين قريب من آخذه ومجتنيه يجتنيه كيف يشاء قائماً وقاعداً وراقداً.
قال قتادة: ثمارها جانية لا يرد أيدهم عنده بعد ولا شوك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يقطع رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله جل ثناؤه مكانها خيراً منها ".(11/7236)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)
وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: نخل الجنة خشبها ذهب كرنفها زمرد أخضر وثمرها أمثال القلال أحلى من الشهد، والين من الزبد لا عجم لها. وقال أبو عبيدة عن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود نخلها نضيد من أسفله إلى فرعه، وثمرها أمثال القلال. كلما أخذت منها ثمرة عادت مكانها أخرى، طول العنقود منها أثنى عشر ذراعا.
قال {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} أي: في الفرش. وفي بمعنى على، والمعنى: على الفرش حور قاصرات الطرف.
وقيل المعنى: في الجنتين وفيما أعد له قاصرات الطرف: فلذلك جمع " فيهن " ويجوز أن تكون الجنتان تشتمل على جنات، فجمع " فيهن " على المعنى، ألا ترى أن الجنة التي أمد الله عز وجل لأوليائه تشتمل على جنات قد تقدم ذكرها وقد قال تعالى:(11/7237)
{يَدْخُلُونَ الجنة} [النساء: 124]. ثم قال {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الرعد: 23]، فأبدل من الجنة جنات لأنها تشتمل على جنات. وقيل هو جمع أتى في موضع التثنية /، كما قال {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وله نظائر تقدم ذكرها.
وقال الفراء كل موضع من الجنتين جنة، فلذلك قال {فِيهِنَّ}. ومعنى {قَاصِرَاتُ الطرف} أي: قصر أطرافهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال. قال ابن زيد: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن، تقول الحوراء: وعزة ربي وجلاله وجماله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك.
يقال قصره: إذا حبسه. فالمعنى فيهن حور حابسات طرفهن عن جميع الرجال إلا من أزواجهن.
روى أنه عني بهن الآدميات اللواتي يمتن أبكاراً، ودليل هذا قوله {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ} يعني في الدنيا لم يدمهن، لم يفتضضهن إنس قبل أزواجهن في(11/7238)
الجنة ولا جان.
حكى الفراء طمثها يطمثها إذا أفتضها، ولا يكون إلا بتدمية، ومنه قيل للحائض: طامث.
وقال غير الفراء يقال طمثها: إذا وطئها على أي الوجوه كان. قال عكرمة: لم يطمثهن: لم ينكحهن، والطمث: الجماع.
قال ابن عباس: لم يطمثهن، لم يدمهن، فإن قيل كيف ذكر الجان في الوطء، فالجواب أن مجاهداً قال إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إِحْلِيلِه فجامع معه.
واستدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الجن يدخلون الجنة، فالإنسيات للإنس والجنيات للجن، قاله (ضمرة بن حبيب).
وهذه الآية أيضاً تدل على أن الجن يطئون. ثم قال {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان}(11/7239)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
أي: كأن هؤلاء الحور الياقوت في صفائه يرى مخها من فوق لحمها وحللها كما يرى السلك في داخل الياقوتة وكأنهن اللؤلؤ في بياضه، هذا قول عباس والحسن وابن زيد وسفيان وغيرهم.
وقيل المعنى هن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ وحمر المرجان من رقة البشر. وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أن المرأة من الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ومخها، وذلك أن الله قال {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} فأما الياقوت فإنك لو أدخلت فيه سلك لرأيته من ورائه ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " من دخل الجنة فله فيها زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء ثيابهما ".
قوله {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان}. إلى اخر السورة الايات [59 _ 78].(11/7240)
أي: هل جزاء من أحسن لنفسه، فخاف من قالم ربه، وأطاع الله إلا أن يحسن إليه في الآخرة بما وصف من الجنس والفرش والحور، وغير ذلك من النعيم. قال قتادة: عملوا خيراً فجوزوا خيراً. قال ابن المنكدر أي معناه هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلا الجنة. ورواه مالك عن زيد بن أسلم. وقال عكرمة / معناه هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. وقيل المعنى: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة. ثم قال {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي: ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان والمعنى ومن دونهما في الدرج. وقال ابن عباس ومن دونهما جنتان وهما اللتان قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وهي التي لا يعلم الخلائق ما فيها، تأتيهم كل يوم منها تحفة.
وقال ابن زيد معناه: ومن دونهما جنتان هي أدنى من هاتين لأصحاب(11/7241)
اليمين. والتقدير في العربية: وله من دونهما جنتان، أي: لمن خاف مقام ربه جنتان دون الاولتين في الفضل. ثم قال {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: خضراوان يعني من الري. قاله ابن جبير وابن الزبير، وابن عباس، وأبو صالح، وقتادة. وقال مجاهد: معناه مسودتان. والدهمة عند العرب: السواد. ثم قال {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي: في هاتين الجنتين (عينان من ماء فوارتان)، أي: يفور الماء منهما. والنضخ أكثر من النضح، ولم يسمع منه فعل، قال عكرمة وابن زيد ينضحان بالماء. قال ابن عباس نضاختان: فائضتان. وقال الضحاك ممتلئتان لا تنقطعان. وقال ابن جبير نفاختان بالماء والفاكهة.
وقيل تنفخ على أولياء الله بالمسك والعنبر.(11/7242)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)
ثم قال {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أي: في هاتين الجنتين / ذلك، وأعيد ذكر النخل والرمان وقد دخلا في جملة الفاكهة لفضلهما، كما قال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 97]. وكما قال {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]. وكما قال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الحج: 18]. ثم قال {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} [الحج: 18]. فأعيد هذا البيان. وقيل أنهما ليستا من الفاكهة. ثم قال {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} أي: في الجنتين الأوليين والثانيتين حور خيرات حسان، فأصله التشديد ولكن خفف كميت وهين ولا يستعمل على الأصل لطوله، والمعنى خيرات الأخلاق حسان الوجوه.
وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جبير نخل الجنة جذوعها من ذهب وعروقها من ذهب وكرانيفها من زمرد، وسعفها كسوة لأهل الجنة، وثمرها كاللؤلؤ أشد بياضا من اللبن (أحلى من العسل وألين من الزبد) ليس له عجم. ثم قال {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} أي: محبوسات في الخيام قصور على أزواجهن فلا يردن غيرهم. وقيل الخيام هنا:(11/7243)
الحجال. وقيل الخيام: البيوت. وقال الحسن: محبوسات ليس بطوافات في الطرق. وقال ابن عباس: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ: لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. قال عمر بن الخطاب: الخيام در مجوف، وكذلك روى ابن وهب عن ابن مسعود وهو قول ابن جبير ومجاهد والضحاك وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: مسكن المؤمن في الجنة يسير الراكب الجواد فيه ثلاث ليال وأنهار(11/7244)
جناته وما أعد الله له من الكرامة. وقال ابن زيد خيامهم في الجنة من لؤلؤ. قال سعيد بن جبير أدنى أهل الجنة منزلة من له قصر له سبعون ألف خادم في يد كل خادم صفحة فيها لون سوى لون صاحبتها وطعم سوى طعم صاحبتها لو أطابه أهل الدنيا لأوسعهم.
وعن أنس بن مالك يرفعه: قال: أن أسفل أهل الجنة أربعين درجة ليقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل خادم صفحتان، واحد من ذهب وأخرى من فضة، في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله، يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها، ويجد لآخرها من اللذة مثل ما وجد لأولها، ثم يكون ذلك رشحا كرشح المسك. وحشاؤه مسك لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون.
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن أهل الجنة يلهمون فيها الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس " وعن أبي هريرة قال: إن أدنى أهل / الجنة منزلة وما منهم دان(11/7245)
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
يغدو الحمد عليه ويروح عشرة آلاف خادم، ما منهم خادم إلا ومعه طريقة ليست مع صاحبه. ويروى أن الخيمة من درة بيضاء أو خضراء أو ياقوتة حمراء، أو لؤلؤة جوفاء يرى باطنها من ظاهرها.
(وروى عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبر على وجهه في جنات عدن) ".
قال {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} أي: لم يمسهن نكاح فيدمهن من إنس ولا(11/7246)
جان، وقد تقدم الاختلاف فيه. ثم قال {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي: يتكئ هؤلاء أصحاب الجنتين الثانيتين على رفرف خضر (وعبقري حسان) وهي رياض الجنة جمع رفرفة قاله مجاهد وابن جبير.
وقال ابن عباس عن المحابس، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد. وقال الحسن هي البسط. وقيل هي المرافق. روى قتادة عن الحسن أيضا قال هي مرافق خضر، وهو مشتق من رَفَّ يَرُفُّ: إذا أرتفع. والعبقري الطنافس.
وعن مجاهد أنه الديباج وهو جمع، / وَاحِدَتُه عَبْقَرَية. وقال ابن عباس: العبقري الزرابي، وهو قول قتادة. وقال ابن جبير هي عتاق الزرابي. وقال ابن(11/7247)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
زيد هي الطنافس. وسئل ابن عمر عن قول النبي صلى الله عليه وسلم " فلم أر عبقرياً يفري فرية " فقال هو رئيس القوم وجليلهم.
قال {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} أي: تبارك ربك يا محمد ذو العظمة وذو الإكرام من جميع خلقه.
وقرأ ابن عامر: ذو: " بالواو " على النعت للاسم، وكذلك هي في حرف أُبيّ وابن مسعود. قال ابن عباس ذي الجلال والإكرام: ذي العظمة والكبرياء. وتبارك: تفاعل من البركة في أسمه، والبركة في اللغة: نماء النعمة وثباتها، فحضهم(11/7248)
بذلك على أن يكثروا ذكر اسمه ودعاءه. وأن يذكروه بالإجلال والتعظيم، وفي الحديث " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " أي أكثروا بالدعاء به.(11/7249)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
مكية
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من داوم قراءة الواقعة لم يفتقر أبداً".
قال معروف دعي ابن مسعود إلى عطائه ليأخذه فأبى، فقيل له خذ للعيال،(11/7251)
فقال أنهم يقرءون سورة الواقعة، فمن قرأها أذهبت عنه الفاقة، قال معروف فاكثرت ذلك، فرأيته كذلك من ليلتي أو من الغد.
قال ابن مسعود أني قد أمرت بناتي أن يقرأن سورة الواقعة كل ليلة فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة".
ومن رواية ابن وهب أن ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبداً".
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول للنساء لا تعجزن أحداكن أن تقرأ سورة الواقعة كل ليلة.
(وقال مسروق بن الأجدع من أراد أن يعلم نبأ الأولين ونبأ الآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من داوم قراءة الواقعة لم يفتقر أبداً".(11/7252)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) إلى قوله: (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [1 - 16].
المعنى: إذا نزلت صيحة القيام، وذلك حين ينفخ في الصور لقيام الساعة.
والواقعة والآزفة والطاعة والحاقة والقارعة والصاخة، كلها من أسماء يوم القيامة.
قال الضحاك: الواقعة: الصيحة.
وقال الحسن: هي القيامة.
أي ليس لقيام الساعة رجعة ولا مثنوية، قال الحسن.
وقال سفيان: ليس لوقعتها أحد يكذب بها.
وقيل المعنى: ليس في الأخبار بأنها تكون كذب. وكذب وكاذبة مصدر(11/7253)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
كالعاقبة. ويجوز أن يكون نعتا كأنه قال: جماعة كاذبة.
قال عبد الله بن سراقة خفت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
قال قتادة: تخللت كل سهل وجبل حتى أسمعت القريب والبعيد، ثم رفعت أقواما في كرامة الله جل ثناؤه، وخفضت أقواماً في عذاب الله سبحانه.
وقال عكرمة والضحاك خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعه الأقصى فكان القريب والبعيد من الله سبحانه سواء. /
وقال ابن عباس أسمعت القريب والبعيد.
وقيل المعنى أنها تخفض أقواماً كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقواماً كانوا في(11/7254)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
الدنيا متضعين.
إذا زلزلت الأرض فتحركت تحريكا قاله ابن عباس. وقتادة ومجاهد.
أي: وفتت الجبال فتاً، قاله ابن عباس والشعبي وأبو صالح فصارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول، كما قال {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14].
وقال قتادة: كما يبس الشجر تذروه الرياح يمينا وشمالا.
أي: فكانت الجبال هباء، وهو الغبار الذي يكون في شعاع الشمس من الكوة كهيئة الغبار، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد.
وقال علي الهباء المنبت: رهج الدواب.(11/7255)
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
وعن ابن عباس الهباء: الذي يطير من النار / إذا اضطرمت، يطير منه الشرر فإذا وقع لم يكن شيئاً.
وقال قتادة: هباء منبثاً كيبيس الشجر تذروه الرياح يميناً وشمالا.
وقوله {مُّنبَثّاً} يعني به متفرقاً.
أي: وكنتم أيها الناس أنواعاً ثلاثة. قال ابن عباس أزواجاً: أصنافاً ثلاثة.
وقال قتادة: هي منازل الناس يوم القيامة ثلاثة منازل.
قال: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} هذا أحد الأزواج الثلاثة.
والثاني قوله: {وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة} والثالث قوله: {والسابقون السابقون} فأتى الخبر عنهم مغنيا عن البيان عنهم لدلالة الكلام على معناه. وفي الكلام بما(11/7256)
معنى التعجب، يعجب الله عز وجل نبيه عليه السلام، أي: ماذا لهم، وما أعد لهم من نعيم أو من عذاب.
ومعنى: أصحاب الميمنة: أي: الذين أخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وهي علامة لمن نجا.
وكذلك أصحاب المشئمة، هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الأيسر الأشام، ومنه اليمن والشؤم، وقيل إنما سموا بذلك لأنهم أعطوا كتبهم بإيمانهم أو بشمائلهم.
وقيل إنما سموا بذلك لأن الجنة عن يمين الناس والنار عن شمالهم.
وقيل سموا بذلك لأن أصحاب الميمنة ميامين على أنفسهم، وأصحاب المشئمة مشائيم على أنفسهم، مأخوذ من اليمن والشوم.(11/7257)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
وقال أبو العباس ثعلب: العرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك " أي اجعلني ضمن المتقدمين عندك ولا تجعلني من المتأخرين.
وقال في قوله تعالى {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة}، قال أصحاب الميمنة هم أصحاب التقدم، وأصحاب المشئمة هم أصحاب التأخر.
وانشدوا لابن الدمينة:
أي بني أخي يُمني يديك جعلتني ... أم صيرتين في شمالك فأفرح.
معناه: أخبرني أنا من المتقدمين عنك أن من المتأخرين.
وقيل هذا مردود على الخبر الذي أتى: أن الله جل ذكره خلق الطيب من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم في الجانب اليمين من آدم، وخلق الخبيث من الجانب الشمال منه، فلذلك ينادون يوم القيامة بأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فذلك ستة أقوال.
والذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله وهم المقربون وهم المهاجرون الأولون، وهم المقربون من الله، وقيل(11/7258)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
هم الذين صلوا إلى القبلتين، قاله ابن سيرين.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال السابقون من الأمم الماضية أكثر من سابقي هذه الأمة.
وقال مجاهد: هم السابقون إلى الجهاد في سبيل الله جل وعز.
وقيل هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفا في سبيل الله عز وجل.
{ أولئك المقربون} أي: هم الذين يقربهم الله سبحانه منه يوم القيامة ويدخلهم جنات النعيم.
(وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون من السابقون يوم القيامة: قالوا الله ورسوله أعلم، قال: " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه / وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم ".
قال {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} أي: جماعة من الأولين، يعني من الأمم الماضية.
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} وقيل من الأمة الآخرة: يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الثلثان جميعاً من أمتي ".(11/7259)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
وقيل عني بذلك النبيين والمرسلين ومن يشبههم من الصديقين فقال {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين}، لأن الأنبياء والمرسلين كانوا في الأولين دون الآخرين.
وقال أبو هريرة " لما نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وتغلبوهم في النصف الباقي ".
قوله: على سرر: أي: هم على سرر، والسرر جمع سرير.
ومعنى موضونة عند أبن عباس وغيره: مصفوقة.
قال أبو عبيدة / موضونة: منسوجة مدخل بعضها فوق بعض، والوضين:(11/7260)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
البطان من السيور: إذا نسج بعضه على بعض مضاعفاً كحلق الدرع، فهو فعيل في معنى مفعول.
وقال مجاهد: وعكرمة الموضونة: المرمولة بالذهب.
وقال قتادة: هي المشبكة بالذهب.
وعن عكرمة مشبكة بالدر والياقوت.
وقيل السرير الموضون هو الذي سطحه بمنزلة المنسوج، وذلك ألين من الخشب، ويقال وضنت الشيء بمعنى نسجته وضمنته.
أي: وجه بعضهم حذاء بعض لا ينظر بعضهم إلى قفاء بعض، يعني به المؤمن وأزواجه.(11/7261)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
وقيل يعني المؤمنين بعضهم مع بعض، فوصفهم الله عز وجل بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق، كما قال تعالى {إخوانا على سُرُرٍ متقابلين} [الحجر: 47].
قال: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي: يطوف عليهم بالأكواب غلمان باقون لا يموتون ولا يهرمون على سن واحد كأنهم ولدوا في وقت واحد.
والأكواب جمع كوب، وهو من الأباريق ما اتسع رأسه ولم يكن له خرطوم.
وقال ابن عباس الأكواب: الجرار من الفضة.
وقال مجاهد: الأباريق ما كان لها آذان، والأكواب ما ليس لها آذن.
وعنه الأكواب ما ليس له عرى ولا آذان وهو قول الفراء، وما كان له أذن وعرى فهو إبرايق.
وقال قتادة: الأكواب دون الأباريق وليس له عرى.
وقال الضحاك الأكواب جرار (ليس لها عرى).(11/7262)
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
وقال أبو صالح الأكواب التي ليست لها عرى، المستديرة أفواهها والأباريق التي لها خراطيم.
ثم قال: الكأس: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} الكأس: القدح الذي فيه الخمر، لا يقال لها كأس حتى تكون فيه، فإن كان فارغاً فهو زجاجة.
وقوله: {مِّن مَّعِينٍ} أي: من عيون جارية.
قال ابن عباس وكأس من معين: الخمر.
وقال قتادة: من معين: من خمر جارية ترى بالعين.
أي: لا يصدع رؤوسهم شربها.
وقيل معناه (لا يتفرقون عنها عرقاً كخمر الدنيا).
ثم قال: {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي: لا تنزف عقولهم، قاله مجاهد.(11/7263)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وقال قتادة: لا تغلب أحدا على عقله.
وقال أبو عبيدة لا يصدعون عنها: لا تصدع رؤوسهم، ولا ينزفون: لا يكسرون ومن قرأ بكسر الزاي فمعناه لا ينفذ شرابهم.
وقيل: لا ينزفون: لا تتغير ألوانهم لشربها، وهو زوال الدم من الوجه.
أي: يطوف عليهم هؤلاء الولدان بفاكهة مما يتخيرون لأنفسهم من الجنة وتشتهيها قلوبهم.
قال بعض المفسرين: يخلق الله جل ذكره لهم لحما على ما يشتهون من (شواء وطبخ) من جنس الطير.
وبعضهم يقول لهم لحم طير من الجنة على الحقيقة.
وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما هو إلا تشتهي الطائر في الجنة وهو يطير فيقع بين يديك مشوياً ".(11/7264)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
ويروى أن رجلاً من أهل الجنة يجني الفاكهة فيخطر على قلبه غيرها، وهي في يده فتحول التي جنى إلى جنس التي خطرت بقلبه، ويخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى.
من رفع فعلى الابتداء. والتقدير: وحور عين لهم.
ويجوز أن يكون معطوفاً على ولدان أي: ويطوف عليهم حور عين، هذا قول اليزيدي، ومذهب سيبويه أن الرفع محمول على المعنى، لأن المعنى: لهم فاكهة أو فيها فاكهة وأباريق وكأس ولحم وحور عين، وأنشد على ذلك أبياتاً حمل الآخر على المعنى الأول ولم يحمله على اللفظ.
والرفع اختيار أبي عبيدة والفراء، لأن الحور لا يطاف بهن.
وقد قرأ حمزة والكسائي بالخفض جعلا {وَفَاكِهَةٍ} {وَلَحْمِ طَيْرٍ} معطوفة على(11/7265)
{فِي جَنَّاتِ النعيم} (أي هم في جنات النعيم) وفي فاكهة، وفي لحم طير، وفي (حور) عين وما بين {وَفَاكِهَةٍ} " وحنات اعتراض " ودل على ذلك قوله بعد {سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} وما ذكر بعده إلى {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ}.
ثم قال: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} [الواقعة: 35] فكنى عن الحور ولم يجر لهن ذكر من لدن قوله {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ}، وإنما ذلك لأنه لما ذكر الفرش استغنى عن ذكر من يفترش عليها من الحور ثم أخرج الكناية عنهن للمعنى / المفهوم في الكلام.
وقال الفراء الخفض على الاتباع / وهو ضعيف.
وقال قطرب هي معطوفة على الأكواب والأباريق، فجعل الحور يطاف بهن.
قال بعض العلماء (أي يطاف بهن عليهم) ويكون لأهل الجنة في ذلك اللذة، لأن فيها ما تشتهي الأنفس.(11/7266)
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
وقيل الخفض محمول على المعنى، لأن معنى يطوف عليهم بكذا وكذا ينعمون به فيصير المعنى: ينعمون بفاكهة وبلحم وبحور عين.
وقرأ أبي " حورا عينا " [بالنصب حمله على المعنى أيضاً لأن معنى يطوف عليهم بكذا: يعطون كذا ويعطون حورا عينا].
وتقدير النصب عند أبي حاتم " ويزجرون حورا عينا ".
أي: هن / في بياضهن وحسنهن كاللؤلؤ المكنون الذي صين في كن.
وقالت أم سلمة قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون}، فقال: صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي.
وسمي نساء الجنة بالحور لبياضهن، ومنه قيل للدقيق الخالص الحواري، ومنه الحواريون لبياض ثيابهم، وقيل كانوا قصارين يبيضون الثياب. والحور في(11/7267)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
العين: شدة سواد الحدقة مع شدة بياض ما حولها، وسمين {عَيْناً} لشدة سواد الحدقة وشدة بياض ما حولها، وهي المقلتان.
وقيل: " العين " الكبيرات الأعين، يقال: امرأة عينا ورجل أعين: كبير العين.
(أي ثواباً لهم بعملهم في الدنيا، وعوضاً من طاعة الله عز وجل) .
والحوراء: الشديدة سواد العين (والشديدة بياض) العين، قاله الحسن.
وقال الضحاك: هي عظام العين.
وقال ابن عباس: (سواد الحدقة).
وقال الحسن الحور: صوالح بني آدم.(11/7268)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
وقال الليث بن أبي سليمان بلغني أن الحور العين خلقن من الزعفران، وكذلك روى ليث عن مجاهد وعن مجاهد أيضاً أنه إنما سمين حورا (لأنهن يحار) فيهن الطرف.
قال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي: في الجنة {لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} أي: لا يسمعون في الجنة باطلا من القول، وليس فيها ما يؤثمهم. /
وقيل اللغو: ما يلغى.
أي: لا يسمعون فيه ما يكرهون، إنما يسمعون أسلم مما تكره.
وقيل المعنى إلا قيلا يسلم فيه من الإثم.
(أي ماذا لهم من النعيم، وفي الكلام معنى التعجب يعجب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ما أعده لهم من الفضل، وأصحاب اليمين) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين يوم القيامة، والجنة عن يمين الخلق، والنار عن يسارهم.(11/7269)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
وقيل: هم الذين أعطو كتبهم بأيمانهم.
وقيل: هم الذين أقسم الله أن يدخلهم الجنة.
(وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر). هم أطفال المسلمين.
وقيل هم الميامين على أنفسهم إذا عملوا ما أنجاهم من النار، وأدخلهم الجنة، وقيل: هم الذين خلقوا في الجانب الأيمن من أدم صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هم المتقدمون في الفضل عند الله تعالى، فذلك سبعة أقوال، وقد تقدم هذا بأشرح منه.
أي: في ثمر (سدر موقر) من حمله (قد ذهب) شوكه، قاله ابن عباس.(11/7270)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: حصده: وقره من الحمل.
وقال عكرمة وقتادة هو الموقر الذي لا شوك فيه.
وقال الضحاك ومجاهد المخضود: الموقر.
وقال ابن جبير ثمره أعظم من القلال.
وقرأ علي بن أبي طالب " وطلع " بالعين.
وذكر أبو عبيدة أن الطلح: عند العرب شجر عظيم كثير الشوك.(11/7271)
قال الزجاج يجوز أن يكون في الجنة، وقد أزيل شوكه.
وأهل التفسير يقولون: الطلح: الموز، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.
وهو قول أبي هريرة وأبي سعيد، فهذا مما يجوز أن يكون أهل اللغة قد غاب عنهم اسمه أنه الموز.
وقال مجاهد: كانوا يتعجبون من طلح " وج " فأعلمهم الله تعالى أن في الجنة طلحاً.
وأما في قراءة علي فإنه جعله من طلع النخيل بمنزلة لها طلع نفيد. ونفيد بمعنى منفود، ومعناه قد ضم بعضه إلى بعض.
قال قتادة: / قد ضمنه الحمل الورق.(11/7272)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
وقال ابن عباس منفود بعضه على بعض.
قال قتادة: شجر الجنة موقر بالحمل من أسفله إلى أعلاه.
أي: دائم لا تنسخه شمس ولا ليل فيذهبا. وكل ما لا انقطاع له فهو ممدود.
وقال عمر بن ميمون: " وظل ممدود " (خمس مائة ألف سنة).
وعن أبي هريرة أن / النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم " وظل ممدود " فبلغ ذلك كعباً فقال(11/7273)
صدق أبو هريرة، والذي أنزل التوراة (على موسى) والفرقان على محمد لو أن رجلاً ركب حقة أو جدعة ثم دار حول تلك الشجرة ما قطعها حتى يسقط هرماً، إن الله جل ذكره غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: " وظل ممدود " هي شجرة في الجنة على ما ساق يسير الراكب في ظلها من نواحيها كلها مائة عام، للراكب المحث.
قال: فينزل أهل الغرف، وأهل الجنة فيجلسون مجالي في ظللها فيتحدثون فيذكرون لهو الدنيا، فيأمر الله عز وجل ريحا من الجنة فتهب فتتحرك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا.(11/7274)
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
أي: مصبوب سائل في غير أخدود حصباؤه الياقوت الأحمر، وحماته المسك الأذفر، وترابه الكافور، وحافتا جريه الزعفران.
أي: لا تنقطع لقلتها ولا تزول في صيف ولا شتاء، ولا عليها مانع يمنع ثم من أخذها ويحول بينهم وبينها ولا عليها شوك [فيتعذر أخذ ثمرتها ولا بعد].
وروى أن الرجل إذا اشتهى الثمرة وقعت على فيه أو تدنو منه / حتى يتناولها بيده.
أي: طويلة بعضها فوق بعض.
وروى الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ارتفاعها كما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض، لمسيرة خمس مائة عام "(11/7275)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
ثم قال: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) [37 - 38] أي: أنا أنشأنا الحور لأن الفرش دلت على من عليها من الحور.
وقال أبو عبيدة الضمير في {أَنشَأْنَاهُنَّ} يعود على " وحور عين " الأولى، فالمعنى: إنا خلقنا الحور جديداً فجعلناهن أبكاراً.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الثيب والأبكار يريد الآدميات ".
وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: " منهن العجائز يعني أنهن من بني آدم ".
وقال ابن عباس هن من بني آدم، نساؤكم في الدنيا ينشئهن الله أبكاراً عذارى.
أي: أقراناً.
قال مجاهد: خلقهن الله من الزعفران.(11/7276)
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} أي: صيرناهن عذارى.
وعربا جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الغنجة وهو قول مجاهد والحسن وعكرمة. وقال أبو صالح هي الشكلة.
وقال زيد بن أسلم هي الحسنة الكلام.
وقال ابن عباس هي المقلة، وعنه: عواشق.
وعن الحسن هي العاتق.
وأصله كله من أعرب: أذا بَيّن، ومنه الإعراب.
وقيل يراد بقوله: إنا أنشأناهن: الحور العين، بمعنى إنشاء لم يولدن.
وقيل يراد به بنات آدم على ما تقدم، أي: أنشأنا الصبية (و) العجوزة إنشاء واحداً.(11/7277)
لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
وقوله: (لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ) [40] أي: أنشأ هؤلاء لأصحاب اليمين، وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين من موقف الحساب إلى الجنة.
ثم قال (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [41 - 42] أي: جماعة من الأمم الماضية قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وجماعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله الحسن.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني لأرجو أن يكون من يتبعني من / أمتي ربع أهل الجنة فكبر أصحابه، ثم قال: لأرجو أن تكونوا الشطر، فكبر أصحابه، ثم تلا هذه الآية: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} ".
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الآية " هما جميعاً من أمتي ".
أي: ماذا أعد الله لهم من الهوان والعذاب. يعجب نبيه عليه السلام من ذلك، ففيه معنى التعجيب وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.(11/7278)
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وقيل هم الذين أعطوا كتبهم بشمائلهم.
أي: في سموم جهنم وحميمها.
أي: من دخان شديد السواد، والعرب تصف الشديد السواد باليحموم.
قال ابن عباس وعكرمة [ومجاهد] هو دخان جهنم، وقاله قتادة وابن زيد.
أي: ليست ذلك الظل ببارد كبرد ظلال الدنيا، لكنه حار إذ هو دخان.
وقوله: {وَلاَ كَرِيمٍ} أي: ولا حسن لأنه عذاب. قال الضحاك كل شراب ليس بعذب فليس بكريم، والعرب تنفي الكرم عن كل شيء ليس بمحمود. /
أي إن أصحاب الشمال كانوا (قبل ذلك) في الدنيا منعمين بالحرام.(11/7279)
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثم قال: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي: يصرون على الشرك بالله، قال الضحاك وقتادة والفراء وغيرهم، أي: كانوا يتمادون عليه ولا يتوبون (سبحانه عما يصفون) منه، ولا يستغفرون من شركهم بالله عز وجل.
وقال مجاهد: {عَلَى الحنث العظيم} على الذنب العظيم، وقاله ابن زيد ثم فسره ابن زيد فقال هو الشرك.
وقيل هو قسمهم أن الله لا يبعث أحداً، ودل على ذلك قوله بعده {وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}.
(أنكروا البعث) فقيل لهم: {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}.
أي إنكم وأباؤكم ومن بعدكم، ومن قبل أبائكم لا بد من بعثكم يوم القيامة ومجازاتكم على أعمالكم.
ثم قال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) [54 - 55].(11/7280)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
أي أنكم بعد البعث أيها الضالون عن الحق لأكلون من شجر جهنم، وهي الزقوم.
(فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [56] أي: من الشجرة، أو من الشجر.
ثم قال: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) [57] أي: على الزقوم من الحميم، وهو الماء الذي قد بلغ في الحرارة.
(فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [58] [الهيمُ جمع أهيم، وهي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء، وقد قيل الهيم] جمع هائم وهائمة.
قال ابن عباس شرب الهيم: شرب الإبل العطاش.
وقال عكرمة هي الإبل المراض تمص الماء معا ولا تروى، وعنه أنها الإبل يأخذها العطش، فلا تزال تشرب حتى تهلك.(11/7281)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
(وقال الضحاك) الهيم: الإبل العطاش تشرب فلا تروى يأخذها داء يقال له الهيام.
وقال ابن عباس الهيم: الهيام من الأرض يعني الرمل.
ثم قال: (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) [59] أي: هذا الذي وصف رزق هؤلاء يوم الجزاء.
ثم قال: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) [60] أي: نحن خلقناكم يا مكذبون بالبعث، ولم تكونوا شيئاً، فهل لا تصدقون من أنشأكم أولاً، أنه ينشئكم آخرا.
ثم قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) [61 - 62] أي: أفرأيتم أيها المكذبون بالبعث، المنكرون قدرة الله عز وجل على إحيائكم بعد موتكم هذه النطفة التي تمنون في أرحام نسائكم، يقال (أمنى ومنى، وأمنى): أكثر.
[{ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي: تخلقون ذلك المني حتى يصير فيه الروح].
{أَم نَحْنُ الخالقون}.(11/7282)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
قال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي: عجلناه على قوم وأخرناه عن قوم إلى وقت مسمى، أي: منكم قريب الأجل ومنكم بعيد الأجل.
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: في أجالكم لا يسبق متقدم فيتأخر، ولا متأخر فيتقدم، بل لا يتقدم أجل قبل وقته ولا يتأخر عن وقته.
قال: {على أَن نُّبَدِّلَ أمثالكم}.
قال الطبري معناه: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم فنحيي بأخرين من جنسكم.
وقيل التقدير: وما نحن بمسبوقين / على / أن نبدل أمثالكم، (أي إن أردنا) أن نبدل أمثالكم منكم لم يسبقنا إلى ذلك سابق.
وقوله: {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} في أي: خلق شاء.
وقيل: قردة وخنازير.
وقيل يخلق لهم أبداناً للبقاء لأن هذه للفناء خلقت.
وقيل معناه في عالم لا تعلمون، أو في مكان لا تعلمون.
وقيل المعنى: وننشئكم في غير هذه الصور، فننشئ المؤمنين يوم القيامة في(11/7283)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاً، وننشئ الكافرين في أقبح الصور وإن كان في الدنيا نبلاً.
أي: ولقد علمتم الأحداث الأول، فلقد أحدثناكم ولم تكونوا شيئاً، فهلا تذكرون فتعلمون أن من فعل ذلك قادر على إنشاء آخر متى شاء.
وقال قتادة: ولقد علمتم النشأة الأولى (بعد خلق) آدم عليه السلام فلست تسأل أحداً من الناس إلا نبأك أن الله جل ذكره خلق آدم من طين.
أي أفرأيتم أيها الناس الحرث الذي تحرثونه أنتم تنبتونه وتصيرونه زرعاً أم نحن نجعله كذلك.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقل زرعت لكن قل حرثت "، ثم تلا أبو هريرة الآية.
قال: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ / حُطَاماً} أي: لجعلنا الزرع هشيماً لا ينتفع به في مطعم(11/7284)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
ولا ثمر.
ثم قال: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي: فظلتم تتعجبون مما نزل بكم وبزرعكم من المصيبة، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال عكرمة معناه فظلتم تلاومون بينكم في تفريطكم في طاعة ربكم بما نزل بكم.
وقال الحسن تفكهون: تندمون على ما سلف منك من معصية الله جل وعز التي أوجبت عليكم العقوبة، وروي مثل ذلك أيضاً عن قتادة.
وقال ابن زيد تفكهون: تفجعون، ومعنى فظلتم: فأقمتم.
أي: لمولع بنا، قاله عكرمة ومجاهد.
وعن مجاهد أيضاً لمغرمون: لملقون للشر.(11/7285)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
وقيل معناه لمعذبون، والغرام عند العرب الهلاك والعذاب.
أي: [مجدون لا حظ لنا].
وقال قتادة: معناه: محارفون.
قال: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي: أنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض، أم نحن المنزلون.
قال مجاهد: وقتادة وابن زيد المزن: السحاب.
وقال ابن عباس المزن: السماء والسحاب، وهو قول سفيان.
قال: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي: جعلنا الماء مراً مالحاً فلا تشربون منه ولا تنتفعون به في زروعكم وكرومكم.
{فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} أي: فهلا تشكرون الله على ما فعل بكم.(11/7286)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
أي أفرأيتم أيها الناس النار التي تستخرجون من زندكم وتقدحون.
أي: أنتم أخترعتم شجرتها أم نحن اخترعنا ذلك.
وتورون من أوريت زنادي وناري أوريتها: إذا أوقدتها. /
وقال أبو عبيدة وأكثر ما يقولون وريت زنادي، وأهل نجد يقولون وريت زنادي.
(قال) {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} يعني النار التي تذكرون بها نار جهنم فتتعظون وتخافون.
وقال مجاهد: تذكرة تذكر النار الكبرى، وكذا قال قتادة:
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أن ناركم (جزء من سبعين جزاء) من نار جهنم(11/7287)
قالوا يا نبي الله وإن كانت لكافية، قال قد ضربت بالماء ضربتين ليستمتع بها بنو أدم ويدنو منها ".
ثم قال: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} قال ابن عباس للمقوين: للمسافرين وقال مجاهد: للمقوين: للمستمتعين بها من الحاضر والمسافر.
وقال ابن زيد للمقوين: للجائعين.
والعرب تقول أقويت منه كذا وكذا: (أكلت منه كذا وكذا)، وأصله من أقوت الدار إذا خلت من أهلها، (ويقال أقوى إذا نزل بالقواء في الأرض الخالية.
وقال ابن زيد المقوي: الذي لا زاد ولا مال معه.(11/7288)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
وأقوى عند أهل اللغة على ثلاثة معانٍ، يقال أقوى إذا فني زاده، ومنه أقوت الدار إذا فني أهلها، ويقال أقوى إذا سافر أي: نزل القواء. والقين، ويقال أقوى إذا قوى وقوى أصحابه.
والمتاع: المنفعة.
أي: فنزه ربك يا محمد من السوء.
زائدة والتقدير أقسم.
وقيل لا رد الكلام، والتقدير ليس الأمر كما يقول الكافر.
ثم استأنف فقال: أقسم بمواقع النجوم، وقيل " لا بمعنى " إلا للتنبيه ومعنى مواقع النجوم، منازل القرآن، لأن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً متفرقة.
قال ابن عباس نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين بعد وتلا ابن عباس {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم}، قال نزل متفرقاً.(11/7289)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
وقال عكرمة فلا أقسم بمواقع النجوم، قال أنزل الله القرآن نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات، وقال أيضاً نزل جميعاً فوضع بمواقع النجوم، فجعل جبريل صلى الله عليه وسلم / يأتي بالسورة بعد السورة وإنما نزل جميعاً في ليلة القدر.
وقال مجاهد: بمواقع النجوم هو محكم القرآن.
وقال الحسن بمواقع النجوم بمغاربها، وقاله قتادة.
وعن الحسن أيضاً بمواقع النجوم هو أنكدارها وانتشارها يوم القيامة.
وعن مجاهد أيضاً بمواقع النجوم مطالعها ومساقطها.
أي: وأن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.
أي: أقسم بمواقع النجوم وهو القرآن أن هذا القرآن لقسم عظيم لو تعلمون ذلك أنه لقرآن كريم، والهاء " في " " إنه " من ذكر القرآن.
قال: {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي: في كتاب مصون عند الله لا يمسه إلا المطهرون.
قال ابن عباس هو الكتاب الذي في السماء، قاله الضحاك.(11/7290)
قال ابن زيد زعموا أن الشياطين تنزلت به على محمد صلى الله عليه وسلم.
فأخبرهم الله أنهم لا يستطيعون على ذلك.
قال ابن عباس: إذا أراد الله أن ينزل كتاباً نسخته السفرة فلا يمسه إلا المطهرون، يعني الملائكة، وهو قول ابن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك، فهو خبر وليس بنهي، وقد يجوز أن يكون إخباراً على الإلزام فيكون فيه معنى النهي كما تقول (جعل كذا) وكقوله {يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].
قال المبرد معناه آمنوا بالله.
وقيل هم حملة التوراة والإنجيل، قاله عكرمة.
وقال أبو العالية المطهرون الذين طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل قال ابن زيد المطهرون: الملائكة والأنبياء والرسل التي تتنزل به من عند الله المطهرة.(11/7291)
وقال قتادة: معناه لا يمسه عند الله إلا المطهرون، قال وأما عندكم فيمسه المشرك النجس والمنافق الرجس.
وفي حرف ابن مسعود ما يمسه.
وقال مالك بن أنس في قوله عز وجل { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} إنما هو بمنزلة قوله: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16] فهذا من قول مالك يدل على أنه نفي ليس بنهي يراد به الملائكة.
وقال مسلم: لا يمسه إلا طاهراً، وسئل عن آية فقال: سلوني فلست أمسه إنما أقرؤه، وكان قد أحدث ولم يتوضأ.
وفي كتاب عمرو بن حزم: لا يمس القرآن إلا طاهراً، وهو الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم.(11/7292)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
وروى مالك أن مصعب بن سعد قال كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص فاحتككت، فقال لعلك مسست ذكرك، فقلت نعم، فقال فقم فتوضأ، فقمت فتوضأت ثم رجعت، وروي أنه قال له فقم فاغسل يديك.
وكان ابن عمر لا يمس المصحف إلا طاهراً. /
وقال مالك لا يمس المصحف أحد بعلاقة أو على وسادة إى وهو طاهر إكراماً للقرآن.
أي: هو تنزيل من عند رب العالمين.
أي: أفبهذا القرآن الذي أنبأتكم خبره وأنتم تلينون القول للمكذبين به ممالاة منكم لهم على التكذيب والكفر.
قال مجاهد: أنتم مدهنون: أي: أنتم يريدون أن تمايلوهم [فيه] وتركنوا إليهم.(11/7293)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
وقال ابن عباس أنتم مدهنون: مكذبون غير مصدقين.
وقال الضحاك يقال أدهن وداهن: إذا نافق.
أي: وتجعلون شكر الله على رزقه لكم التكذيب له، وهذا كقول القائل للآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، بمعنى جعلت شكر إحساني إليك إساءة منك، فالتقدير وتجعلون رزقي إياكم تذكيبكم لرسلي وكتبي. /
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا "، وقاله ابن عباس.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ".(11/7294)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
قال الضحاك في الآية: جعل الله رزقكم في السماء وأنتم تجعلونه في الأنواء.
قال قطرب الرزق هنا: الشكر.
وقيل المعنى: وتجعلون شكر رزقكم ثم حذف مثل، {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
يعني النفس تبلغ الحلقوم عند خروجها.
أي: من حضره ينظر ولا يغني عنه شيئاً، فهذا خطاب عام والمراد به من حضر الميت.
قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: ورسلنا أقرب إلى الميت منكم يقبضون روحه ولكن لا تبصرونهم، وهذا كله جواب لمن ادعى أنه يمتنع من الموت ويدفعه.
أي: فهلا أن كنتم غير مجزيين.
(أي إن كنتم صادقين) في أنكم تمنعون من الموت، فارجعوا تلك النفس، وامنعوا من خروجها.(11/7295)
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن غير مدينين: غير محاسبين.
قال ابن زيد كانوا يجحدون أن يدانوا بعد الموت.
وقال الفراء: غير مدينين: غير مملوكين.
وقال الحسن غير مدينين: غير مبعوثين يوم القيامة.
وقيل معناه غير مجزيين بأعمالكم.
{تَرْجِعُونَهَآ} أي: تردون تلك النفوس إلى الأجساد بعد إذ صارت في الحلاقيم.
{إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنكم تمتنعون من الموت والحساب والمجازاة.
وقال الفراء إن كنتم صادقين: إن كنتم غير مملوكين، فالمعنى هل لا ترجعون نفس عزيزكم إن كنتم غير مملوكين ولا مقهورين.
وجواب فلولا في الموضعين جواب واحد على قول الفراء.(11/7296)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
وقيل حذف جواب أحدهما لدلالة الآخر عليه.
أي: إن كان الميت من المقربين أي: من الذين قربهم الله من جواره ورحمته.
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} (أي فله) روح وريحان.
والروح: الرحمة، والريحان: الرزق.
وقال مجاهد الروح: الفرح.
وقال الحسن الريحان: ريحانكم هذا.
وقال الربيع بن خيثم فروح وريحان هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث.(11/7297)
قال ابن عباس فروح وريحان: فراحة ومستريح من الدنيا.
وقال ابن جبير {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}: راحة ومستراح: وعنه يعني بالريحان المستريح من الدنيا.
وقال الضحاك الروح: المغفرة والرحمة. والريحان: الاستراحة.
وعنه: الروح والاستراحة.
وقال القتبي فروح: أي: في القبر له طيب نسيم.
ومن قرأ بضم الراء فمعناه: فحياة له ربقاء.
وقيل الريحان: الراحة.
قال أبو العالية لم يفارق أحد من المقربين وهم السابقون الدنيا حتى يؤتى(11/7298)
بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم يقبض.
قال الحسن يقبض الملك نفس المؤمن في ريحانة.
والفاء في " فروح " " جواب " " إن "، وجواب " أما " هذا قول / الأخفش والفراء.
وقال سيبويه لا جواب " أن " هنا، لأن بعدها فعلاً ماضياً، كما تقول (أكرمك إن جئتني)، " والفاء " جواب " أما ".
وقال المبرد جواب " إن " محذوف، لأن بعدها ما يدل عليه، والفاء جواب " أما " وأما معناها: الخروج من شيء إلى شيء، أي: دع ما كنا فيه وخذ بشيء أخر، ولا يلي فعل فعلا، فمعنى أما: مهما يكن (من شيء).
فوجب أن يليها الاسم، وتقديره أن يكون بعد جوابها، فإذا أردت أن تعرف إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها، " مهما " وقدر الاسم بعد الفاء.(11/7299)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
تقول أما زيداً فضربت، والتقدير: مهما يكن من شيء فضربت / زيداً.
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [93] أي: من الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وقيل من الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.
ثم قال: (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [94] أي: فسلام من عند الله، أي: سلام من ذلك وقيل المعنى: يقال سلام لك إنك من أصحاب اليمين.
قال قتادة: معناه سلموا وسلمت عليهم الملائكة.
وقيل المعنى: لك يا محمد منهم سلام، أي: يسلمون عليك.
وقيل المعنى: فسلام لك أنك من أصحاب اليمين.
وقيل معناه فلست ترى فيهم يا محمد إلا ما تحب من السلامة.
ثم قال: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) [95 - 96]
[أي إن كان الميت ممن كذب بآيات الله وضل عن دين الله فنزل من حميم أي:(11/7300)
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فرزق من حميم].
أي له زرق من حميم قد غلي عليه حتى انتهى حره، فهو شرابه.
(وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [97] أي: وحريق النار يحرق بها.
ثم قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [98] أي: أن هذا الذي أخبرتم به أيها الناس من الخير عن المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال وما تصير أمورهم لهو حق اليقين، أي: لهو من الخبر الحق اليقين.
قال قتادة: إن الله جل ذكره ليس تاركاً أحداً من الناس [يوقفه] على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فينفعه ذلك يوم القيامة وأما الكافر فأيقن في الآخرة حين لا ينفعه ذلك.
(وحق اليقين): محض اليقين، وقيل معناه حق الأمر اليقين، وحق الخبر اليقين مثل " دِينُ الْقَيِّمَةِ " أي: دين الملة القيمة.
وقيل أصل " اليقين " أن يكون نعتاً للحق، ولكن أضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع كما قال " وَلَدارُ الآْخِرَةِ " و " وملاة الأولى " و " مسجد الجامع "، وهو عند(11/7301)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
أكثر الكوفيين من باب إضافة الشيء إلى نفسه.
ثم قال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [99] [أي] فنزه ربك العظيم.
وقيل معناه: فسبح بتسمية ربك العظيم.(11/7302)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
مدنية
قوله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآيات [1 - 10].
أي: كل ما دون الله من خلقه يسبح تعظيماً له وإقراراً بربوبيته وقيل التسبيح فيما لا ينطق هو ظهور أثر الصنعة فيه.
وقيل: بل كل ما لا ينطق والله أعلم بتسبيحه، ودل على ذلك قوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ولو كان تسبيح ما لا ينطق أثر الصنعة عليه لكان ذلك [شيئاً] يفقه (ويعلم ظاهرا عندنا).(11/7303)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
وقيل: {سَبَّحَ} في هذا وما بعده من السور معناه " صلى ".
وقوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: العزيز في انتقامه ممن عصاه الحكيم في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل.
قال: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ}. الآية.
أي له سلطان ذلك كله، فلا شيء فيهن يقدر على الامتناع منه، يحيي ما يشاء من الخلق بأن يوجده كيف يشاء، ويميت من يشاء من الأحياء بعد الحياة عند بلوغ الأجل الذي قدره الله له قبل أن يخلقه.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ذو قدرة لا يمتنع عليه ما يريده من إحياء ميت وموت حي.
أي: هو الأول قبل كل شيء بغير حد، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية، وهو الظاهر على كل شيء، فكل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلا منه، والباطن في جميع الأشياء، فلا(11/7304)
شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فرق عرشه.
قال قتادة: " ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما هذا، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: هذا العنان، هذا / راوي الأرض (يسوقه) الله إلى قوم لا يشمونه ولا يرجونه: ثم قال: هل تدرون ما التي فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ، قال فهل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال مسيرة خمس مائة عام قال هل تدرون ما فوق ذلك، (قالوا مثل ذلك) قال فوقها سماء أخرى (وبينها خمس مائة عام) ثم قال مثل ذلك حتى ذكر سبع سماوات، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك، قالوا مثل ذلك، قال فإن فوق ذلك العرش وبين السماء السابعة وبينه مثل ما بين السمائين، ثم قال هل تدرون ما التي تحتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنما الأرض ثم قال مثل ذلك إلى سبع أرضين، وذكر أن بين كل أرض وأرض مسيرة خمس مائة عام، ثم قال والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم(11/7305)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله تعالى، ثم قرأ {هُوَ الأول والآخر} الآية ".
وقال ابن عباس ظهر فوق الظاهرين بقهره المتكبرين.
وقيل معنى " الظاهر والباطن " /: يعلم ما ظهر وما بطن، ومنه ظهر الإنسان وبطنه، لأن الظهر غير ساتر، والبطن ساتر، ومنه الظهير وهو العوين على الأشياء حق (يستعلي) عليها، ويعين " وظهير " أي: قوي.
ومنه صلاة الظهر لأنها أول ما ظهرت من الصلوات.
وقيل الظهر والظهيرة: شدة الحر، فسميت الصلاة بالظهر لأنها اسم الوقت الذي تكون فيه، ومنه: ظهرت على فلان: أي قهرته.
وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: لا يخفى عليه شيء ظهر ولا بطن في السماء ولا في الأرض كبر أو صغر.
قال: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
أي: ابتدع ذلك وأنشأه في ستة أيام، مقدار كل يوم ألف عام.(11/7306)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: ارتفع وعلا ارتفاع قدرة وتعظيم وجلالة، لا ارتفاع نقلة.
ثم قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}: أي: ما يدخل فيها من الماء وغيره.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من النبات وغيره.
{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} أي ينزل منها إلى الأرض من القطر وغير ذلك.
{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: ما يصعد إليها من الأعمال والملائكة وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: بصير بأعمالكم يحصيها عليكم حتى يجازيكم بها يوم القيامة.
ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} قال سفيان الثوري: علمه.
قال: {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي: له سلطان ذلك وملكه.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: إليه ترد الأمور يوم القيامة فيقضي بين خلقه بحكمه وعدله.
قال: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي: يدخل هذا في هذا وإذا في ذا أي ما نقص من هذا زاد في ذا.(11/7307)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
ثم قال: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: هو ذو علم بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير وشر، وفي الحديث " أن الدعاء يستجاب بعد هذه (الآيات البينات) ".
قال: {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}.
أي صدقوا بتوحيد الله وكتبه ورسله، وأنفقوا في سبيل الله مما خولكم وأورثكم عن من كان قبلكم، فجعلكم خلفاً فيه، (أي فالذين آمنوا). صدقوا وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير، أي: الجنة.
قال: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ} الآية.
أي وأي شيء لكم في ترك الإيمان بالله، والرسول يدعوكم بالحجج والبراهين لتؤمنوا بربكم، لتصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما جاءكم به.
ثم قال: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ}.(11/7308)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
أي أخذ الله عز وجل ميثاقكم في صلب آدم عليه السلام إذا قال لكم ألست بربكم، فقلتم بلى.
وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
أي إن كنتم تريدون أن تؤمنوا يوماً من الأيام بالله، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم.
وقيل معناه: إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما خطر لكم من البراهين والدلائل.
قال: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}.
يعني القرآن.
{لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور}.
أي من الكفر إلى الإيمان.
وقيل معناه: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
ثم قال: {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} /.
أي لذو رأفة ورحمة بكم، ومن رأفته ورحمته أنزل الله عليكم آيات بينات(11/7309)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
يخرجكم بها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
قال: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} الآية.
أي: أي عذر لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله وأنتم خلف الموت فتخلفون ما تبخلون به ويورث بعدكم، ثم يخلفه من ورثه عنكم فيعود الميراث إلى الله عز وجل.
وحضهم على الإنفاق في سبيل الله ليكون ذلك ذخراً لهم عنده من قبل أن يموتوا فلا يقدرون، وتصير الأموال ميراثاً لمن له ميراث السماوات والأرض وهو الله جل ذكره.
ثم قال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ}.
أي من قبل فتح مكة، وهاجر وقاتل في سبيل الله عز وجل قاله مجاهد وقتادة، أي: لا يستوي في الأجر والفضل من هاجر قبل الفتح وأنفق وقاتل مع من هاجر من بعد ذلك وقاتل وأنفق.
قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل فتح مكة أفضل منهما بعد الفتح،(11/7310)
وكذلك قال زيد بن أسلم.
وقال الشعبي الفتح هنا فتح الحديبية، فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل فتح الحديبية أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك.
وهذا القول اختاره بعض العلماء، لأن الخدري روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوم فتح الحديبية يأتي أقوام يحقرون أعمالكم من أعمالهم قالوا يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال لا، هم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً، قلنا يا رسول الله أهم خير منا. قال لو أن لأحدهم جبل / ذهباً ثم أفقه ما بلغ (مد أحدكم ولا نصيفه) هذا فضل ما بيننا وبين الناس، لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل إلى قوله {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ".
ثم قال: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي: والذين أنفقوا من قبل ومن بعد وقاتلوا كلهم وعدهم الله الجنة.
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: بما تعملون من النفقة في سبيل الله وقتل(11/7311)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
أعدائه وغير ذلك من أعمالكم، ذو خبر وعلم، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
قال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً}.
أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله محتسباً في نفقته، فيضاعف له ربه (بالحسنة عشرة أمثالها) إلى سبع مائة ضعف.
{وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (وهو الجنة).
" ومن " مبتدأ و " ذا " خبره، " والذي " نعت ل " ذا ".
وقيل " من " مبتدأ و " ذا " زائدة مع " الذي "، و " الذي " خبر الابتداء.
وأجاز الفراء أن تكون " ذا " زائدة مع " من " كما جاءت زائدة مع " ما "، ولا يجوز هذا عند البصريين لأن " ما " مبهمة، فجاز ذلك فيها، وليست من كذلك.
قال: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين [والمؤمنات] يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}.(11/7312)
أي لهم أجر كريم في يوم ترى المؤمنين، فالعامل في " يوم " معنى الملك في " لهم ".
وقيل العامل فيه {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} {يَوْمَ تَرَى} فوعد هو العامل فيه.
ومعنى الآية: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يضيء نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من المؤمنين ما يضيء نوره [من المدينة إلى عدن وصنعاء فدون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره] إلا من موضع قدميه ".
قال ابن مسعود يعطى المؤمنون نوراً على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى [نوراً كالنخلة السحوق ومنهم من يعطى نوراً كالرجل القائم وأدناهم من يعطى نوراً] على ابهامه يضيء مرة ويُطفى مرة.
وقال الضحاك معنى " وبإيمانهم " أي: وبأيمانهم كتبهم.
وقيل النور هنا: الكتاب لأنهم يعطون كتبهم من بين أيديهم بأيمانهم فلهذا وقع الخصوص.(11/7313)
وقيل المعنى يسعى ثواب إيمانهم وعملهم [الصالح] بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم نظائر، هذا اختيار الطبري، وهو قول الضحاك المتقدم.
والباء في " وبأيمانهم " بمعنى " في " على هذا التأويل، وعلى القول الأول بمعنى " عن ".
ثم قال: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
أي يقال لهم بشراكم اليوم جنات، أي: الذي تبشرون به اليوم هو جنات، فأبشروا بها وأجاز الفراء " جنات " بالنصب على القطع، ويكون " اليوم " خبر الابتداء.
وأجاز رفع " اليوم " على أنه خبر " بشراكم " /، وأجاز أن يكون " بشراكم " في موضع نصب بمعنى يبشرهم ربهم بالبشرى، وأن ينصب جنات بالبشرى، وفي هذه التأويلات بعد وتعسف وغلط ظاهر.(11/7314)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها لا يتحولون عنها.
{ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي: خلودهم في الجنة التي وصفت هو النجاح العظيم.
قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون}.
أي ذلك هو الفوز العظيم في يوم يقول هؤلاء المنافقون.
{لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا} أي: تمهلوا علينا.
{نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي: نستصبح من نوركم.
و {انظرونا} في قراءة من وصل الألف من نظر ينظر: إذا انتظر.
وقرأ حمزة بقطع الألف، جعله من أنظره: إذا أخره، وهو بعيد في المعنى إذا حملته على التأخير، وإنما يجوز على مهنى تمهلوا علينا.
يقال أنظرني: بمعنى تمهل عليّ وترفق، حكاه علي بن سليمان فعلى هذا تجوز قراءة حمزة.(11/7315)
وحكى غيره أنظرني: بمعنى اصبر علي، كما قال (عمرو بن كلثوم): (وانظرنا نخبرك اليقينا) [أي اصبر علينا]، فعلى هذا أيضاً تصح قراءة حمزة.
ثم قال: {قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً}.
يقال لهم ارجعوا من حيث [جئتم] فاطلبوا لأنفسكم هنالك نوراً [فإنه] لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا.
قال ابن عباس بينما الناس في ظلمة إذا بعث الله جل ثناؤه نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور لهم دليلاً من الله جل وعز إلى الجنة، فلما رآى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انظرونا نقتبس من نوركم فإنا [كنا] معكم في الدنيا قال المؤمنون ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة(11/7316)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
التمسوا هنالك النور.
ثم قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أي: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسور وهو حاجز بين أهل الجنة [وأهل] النار.
قال ابن زيد هذا السور هو الذي قال جل وعز {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46].
ويقال أن ذلك السور ببيت المقدس عن موضع يعرف بوادي جهنم.
وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن ابن عباس.
وكان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة: في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله عز وجل { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} والرحمة هنا الجنة، والعذاب: النار. /
قال: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}.
أي ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور فبقوا في الظلمة والعذاب، ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم ونناكحكم ونوارثكم، قال لهم(11/7317)
المؤمنون، بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم فنافقتم والفتنة هنا: النفاق، قاله مجاهد.
قال شريك بن عبد الله فتنتم أنفسكم بالشهوات واللذات وتربصتم قال بالتوبة.
{وارتبتم} أي: شككتم.
{حتى جَآءَ أَمْرُ الله} يعني الموت.
{وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان.
وقال غيره وتربصتم وتثبطتم بالإيمان، والإقرار بالله ورسوله قال قتادة: وتربصتم: أي: بالحق وأهله.
وقيل معناه: وتربصتم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين الدوائر. وقيل تربصتم بالتوبة.(11/7318)
وقوله: {وارتبتم} أي: شككتم في توحيد الله سبحانه وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: كانوا في شك من الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: {وَغرَّتْكُمُ الأماني}.
أي وخدعتكم أماني أنفسكم فصدتكم عن سبيل الله. وأضلتكم.
وقيل معناه: تمنيتم أن تنزل بالنبي صلى الله عليه وسلم الدوائر.
{حتى جَآءَ أَمْرُ الله}.
{حتى جَآءَ} نصر الله نبيه ودينه.
وقيل حتى جاء أمر الله يقبض أرواحكم عند تمام آجالكم.
قال قتادة وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله، قال: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.(11/7319)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
وقوله: {وَغَرَّكُم بالله الغرور}.
أي وخدعكم بالله الشيطان فأطمعكم في النجاة من عقوبته والسلامة من عذابه.
قال: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ}.
(قال ابن سلام وذلك أنهم يعطون الإيمان يوم القيامة فلا يقبل منهم).
هذا قول المؤمنين لأهل النفاق، فاليوم لا يقبل منكم فداء ولا عوض بدلا من عقابكم وعذابكم، ولا يؤخذ من الذين كفروا.
{مَأْوَاكُمُ النار}.
أي مثواكم ومسكنكم.
{هِيَ مَوْلاَكُمْ} أي: النار أولى بكم. /
{وَبِئْسَ المصير} أي: المرجع، بئس المصير من صار إلى النار.
قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}.
أي ألم يحن للذين صدقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله (وتذل من(11/7320)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
خشية الله).
{وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} وهو القرآن.
قال ابن عباس {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}، قال: تطيع قلوبهم.
روي عن ابن مسعود أنه قال: عاتبنا الله بهذه الآية بعد إسلامنا بسبع سنين. وقال غيره بأربع سنين.
وقال قتادة: ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما يرفع الله من الناس الخشوع ".
ثم قال: {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} يعني: بني إسرائيل، والكتاب: التوراة والإنجيل.
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}.(11/7321)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
والأمد الدهر الذي بينهم وبين موسى عليه السلام.
ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: من أهل الكتاب.
قال: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا}.
أي بالمطر فتنبت بعد يبسها وموتها، فكما قدر على ذلك، فهو قادر على أن يحيي الموتى بعد إفنائهم.
وقال صالح المري يحيي الأرض بعد موتها: يلين بكم، القلوب بعد قسوتها.
ثم قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} (أي الحجج والأدلة).
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
قال: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً}.
أي انفقوا في سبيل الله وفيما ندبهم إليه.(11/7322)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{يُضَاعَفُ لَهُمْ} (أي فيضاعف لهم) الثواب يوم القيامة.
{وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
أي ثواب كريم وهو الجنة، ومن خفف " المصدقين " فمعناه إن الذين صدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنوا ثم تصدقوا من أموالهم وأنفقوا في طاعة الله عز وجل يضاعف لهم.
قوله: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ}.
أي والذين أقروا بوحدانية الله وإرساله رسله، وصدقوا الرسل {أولئك هُمُ الصديقون} أي: الذين كثر صدقهم وتصديقهم.
ثم قال: {والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم.
ومذهب ابن عباس ومسروق والضحاك أن " الشهداء " منفصل من " الصديقين " منقطع منه.(11/7323)
وروى البراء بن عازب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ".
فهذا يدل على أنه متصل بالصديقين، أي: أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، أي: لهم أجر الشهداء، ونورهم: أي: للمؤمنين أي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أجر الشهداء ونورهم.
وروى سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: كلكم صديق وشهيد فقيل له انظر ماذا تقول يا أبا هريرة، فقال اقررأوا هذه الآية فذكرها.
وروي " أن رجلاً من قضاعة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس وصمت شهر رمضان، وآتيت الزكاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من كان على هذا كان من الصديقين والشهداء ".(11/7324)
وعن ابن عباس أنه قال يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال كل مؤمن صديق، ويزكي الله بالقتل من يشاء ثم تلا هذه الآية ".
قال مجاهد: هو متصل، وكل مؤمن شهيد.
وروي ذلك عن ابن عمر، روي عنه أنه، قال في حديث له. والرجل يموت على فراشه هو شهيد، وقرأ هذه الآية.
وقيل " الشهداء " في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم وهو قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41].
هذا قول الفراء، والقول الأول هو اختيار الطبري، ويكون تمام الكلام: " الصديقون ".(11/7325)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
ثم يبتدئ الإخبار عن الشهداء، وإنما سمي المقتول في سبيل الله عز وجل شهيداً، لأنه يشهد له بالجنة.
وقيل سمي شهيداً لأنه يشهد عند الله على الأمم. قال تعالى {وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [الحج: 76].
وقال مجاهد: سمي المؤمن شهيداً، لأنه يشهد عند الله على نفسه بالإيمان.
ثم قال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم}.
أي جحدوا ما أنزل الله عز وجل وكذبوا بالقرآن هم أصحاب النار.
قال: {اعلموا أَنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ [وَلَهْوٌ]} أي /: اعلموا أيها الناس أن ما عجل لكم في الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة زائلة مضمحلة، فأنتم تفاخرون بها وتتكثرون بها فمثلكم كمثل مطر أعجب الكفار نباته، أي: أعجبه الزراع نباته فهو على نهاية الحسن.
وقيل الكفار هنا هم المكذبون، لأنهم بالدنيا أشد إعجاباً، أي لا يؤمنون(11/7326)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
بالبعث.
وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يبتدئ في الصفرة.
{فتراه مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حطاما} أي: متحطماً لا نفع فيه لأحد، فضرب الله عز وجل مثلا للدنيا وزينتها وزوالها بعد الإعجاب بها.
(ثم أخبر تعالى بما في الآخرة من العذاب لمن ركن إلى الدنيا واختارها على الآخرة بالبعث فقال:
{وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله ورضوان} لأهل الإيمان بالله ورسوله.
قال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض}.
أي: سابقوا أيها الناس وسارعوا إلى الأعمال الصالحة التي توجب [لكم] دخول الجنة سعتها كسعة السماوات [والأرض خالدين فيها أعدت للذين آمنوا بالله ورسله.
وقيل عرضها الذي هو خلاف الطول مثل عرض السماوات] والأرضين إذا وصل كل سماء بسماء وكل أرض بأرض، فإن قيل فأين السماوات والأرضون إذاً، فالجواب أن الليل إذا أقبل ذهب النهار في علم الله، وإذا أقبل النهار ذهب الليل في علم الله.(11/7327)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
قال مكحول في قوله: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية، هو المسارعة إلى التكبيرة الأولى من الصلاة.
ثم قال: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ}.
أي: هذه الجنة التي تقدمت صفتها فضل من الله تفضل به على المؤمنين، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، وهو ذو الفضل [العظيم] عليهم بما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح وبسط لهم من الرزق، وعرفهم موضع الشكر.
قال: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كتاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ}.
أي: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في جدب الأرض وقحطها وفساد ثمارها ولا في أنفسكم بالأوصاب والأوجاع إلا هو في كتاب، يعني أم الكتاب.
" من قبل أن نبرأ الأنفس " أي: نخلقها.
قال ابن عباس هو شيء قد فرغ عنه من قبل أن تخلق الأنفس، قال: وبلغنا أنه(11/7328)
ليس أحد يصيب خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق، إلا بذنب وما يعفو الله أكثر.
وقال الحسن في معنى الآية: كل مصيبة (من السماء) هي في كتاب الله جل ثناؤه من قبل أن نتبرأ القسمة، وهو قول الضحاك وابن زيد.
وعن ابن عباس أيضاً هو ما أصاب من مصيبة في الدين والدنيا هي في كتاب عند الله من قبل أن تخلق الأنفس.
وقيل الضمير في " نبرأها " بالمصائب، وقيل للأرض. ورجوعها إلى الأنفس أولى لأنه أقرب إليها.
وقوله: {إِلاَّ فِي كتاب} معناه: إلا هي في كتاب، ثم حذف الضمير.
قال ابن عباس أمر الله عز وجل القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
ثم قال: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: إن خلق الله عز وجل الأنفس وإحصاء ما هي(11/7329)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
ملاقيته من المصائب على الله سهل، لأنه إنما يقول لشيء كن فيكون.
قال: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ}.
أي: أعلمكم الله عز وجل أن الأمور كلها قد فرغ منها، لكيلا تأسوا على ما فاتكم من أمر دنياكم، ولا تفرحوا بما جاءكم منها، وذلك الفرح الذي يؤدي إلى المعصية والحزن الذي يؤدي إلى المعصية.
قال عكرمة: هو الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة، قال وليس (أحد إلا وهو) يحزن ويفرح، لكن من أصابته مصيبة فجعل / حزنه صبراً ومن أصابه خير فجعل فرحه شكراً، فهو ممدوح لا مذموم.
فالمعنى: أعلمكم بفراغه مما يكون وتقدم علمه به قبل خلقكم / كيلا تحزنوا حزناً تتعدون فيه على ما [لا] ينبغي، ولا تفرحوا فرحاً تتجاوزون فيه ما (ينبغي).
ثم قال: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
وقيل: معناه: لا يحب كل مختال في مشيته تكبراً وتعظماً فخور على الناس بماله ودنياه.(11/7330)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قال: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل}.
أي: يبخلون أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرون الناس ألا يؤمنوا به.
وقيل معناه: يبخلون بإخراج حق الله عز وجل من أموالهم ويأمرون الناس بذلك، وهذه الآية نزلت في اليهود، عرفوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم حق وما جاء به حق، وكانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون الناس ويبشرونهم بقرب مبعثه، وينتصرون على أعدائهم به، ويقولون: اللهم بحق النبي المبعوث أنصرنا فينتصرون فلما بعث كتموا أمره وكفروا به وبخلوا أن يصدقوه، وأمروا الناس بتكذيبه.
قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن قبول ما أمر الله عز وجل به من الإنفاق في سبيل الله، وإخراج الزكاة، والإيمان بالله وبرسوله.
{فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي: الغني عن ماله ونفقته وغير ذلك، الحميد إلى خلقه بما أنعم عليهم من نعمة.(11/7331)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} إلى قوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآيات [24 - 27].
أي لقد أرسلنا إلى أمم بالآيات المفصلات وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل.
قال ابن زيداً (الميزان) ما يعمل به، ويتعاطون عليه في الدنيا من معائشهم في أخذهم وإعطائهم، فالكتاب فيه شرائع دينهم وأمر أخراهم، والميزان فيه تناصفهم في دنياهم.
{لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي: ليعمل الناس بينهم بالعدل.
ثم قال: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: قوة شديدة.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: وفيه منافع للناس، وذلك ما ينتفعون به عند لقائهم العدو وغير ذلك من المنافع مثل السكين والقدوم.
قال ابن زيد البأس الشديد: السيوف والسلاح التي يقاتل بها الناس والمنافع(11/7332)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
هو حفرهم وحرثهم بها وغير ذلك.
قال مجاهد: أنزله ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وأرسلنا الرسل وأنزلنا الكتاب والميزان ليعدلوا بينهم وليعلم حزب الله من ينصر دينه ورسله بالغيب منهم.
{إِنَّ الله قَوِيٌّ} أي: على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره عزيز في انتقامه منهم.
قال مجاهد: أنزل الحديد ليعلم من ينصره.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} الآية.
أي أرسلهما تعالى إلى قومهما، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، ولذلك كانت النبوة في ذريتهما، وعليهم أنزل الله كتبه التوراة والزبور والإنجيل وأكثر الكتب.
ثم قال: {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ} أي: فمن ذريتهما مهتد إلى الحق.
{وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: ضلال عن الحق.(11/7333)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
قال: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم} (أي: اتبعنا آثارهم برسلنا) أي: آثار الذرية، وقيل الضمير يعود على نوح وإبراهيم وإن كانا اثنين لأن الاثنين جمع.
ثم قال: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي: واتبعنا الرسل بعيسى ابن مريم.
{وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} روي أنه نزل جملة.
ثم قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي اتبعوا عيسى رأفة وهي أشد الرأفة.
{وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} وأحدثوا رهبانية أحدثوها.
{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما افترضنا (عليهم الرهبانية).
{إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} أي: لم تكتب عليهم إلا أن يبتغوا رضوان الله " فابتغاء بدل من الضمير في " كتبناها ".
وقيل هو منصوب على الاستثناء المنقطع.
وقال الحارث المحاسبي: لقد ذم الله قوماً من بني إسرائيل ابتدعوا رهبانية لم(11/7334)
يؤمروا بها، ولم يرعوها حق رعايتها.
وحكى عن مجاهد أنه قال في الآية معناها كتبناها عليم ابتغاء رضوان الله.
(قال أبو أمامة الباهلي وغيره / معنى الآية: لم نكتبها عليهم ولم يبتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله، فعاتبهم الله بتركها.
قال الحارث: وهذا أولى التفسيرين بالحق، يريد قول أبي أمامة قال وعليه أكثر العلماء، وقال الحارث فذمهم الله عليه بترك رعاية ما ابتدعوا، فكيف بمن ضيع رعاية ما وجب الله عليه).
ثم قال: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} هذا عام يراد به الخصوص إذ ليس كلهم فرطوا في الرهبانية، وذلك أن (الله كتب) عليهم القتال قبل أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم فلما قل أهل الإيمان وكثر أهل الشرك وذهبت الرسل وقهروا اعتزلوا في الغيران، فلم يزل ذلك شأنهم حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله وأخذوا بالبدعة، هذا قول الضحاك.(11/7335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
وقيل الذين لم يرعوها هم قوم جاءوا بعد الأولين الذين ابتدعوا الرهبانية.
ثم قال: {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على فعلهم.
{وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: أهل معاص وخروج عن طاعة الله.
وقال ابن زيد هم الذين رعوا ذلك الحق.
قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله / وهم الذين ابتدعوا الرهبانية.
وقد قيل أن الرهبانية معطوفة على رأفة.، وأنها مما آتاهم الله فابتدعوا فيها وغيروها وبدلوها.
قال: {يا أيها الذينءَامَنُواْ} أي: صدقوا بما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين.
{اتقوا الله} أي: خافوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.(11/7336)
{وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
{ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أي: يعطيكم ضعفين من الأجر بإيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأصل الكفل: الحظ.
قال ابن عباس كفلين: أجرين بإيمانكم بعيسى ومحمد عليه السلام وبالقرآن والإنجيل.
قال: " بن جبير بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً إئذن لنا فنأتي هذا النبي فنلم به ونركب بهؤلاء في البحر، فأنا أعلم بالبحر منهم، فقدموا مع جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة (وشدة الحال استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم(11/7337)
فقالوا يا رسول الله إن لنا أموالاً ونحن ما نرى ما بالمسلمين من خصاصة) فأن أنت أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله عز وجل فيهم {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54]: أي: يريد النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن بالنبي عليه السلام، هذا فخروا على المسلمين فقالوا يا معشر المسلمين أما من آمن [منا] بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا، فأنزل الله عز وجل: { يا أيها الذينءَامَنُواْ اتقوا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.
قال الضحاك {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي: أجرين بإيمانكم بالكتابة الأول وبالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.(11/7338)
قال ابن زيد " كفلين من رحمته " أجر الدنيا وأجر الآخرة.
وقال ابن عمر " كفلين " ثلاث مائة جزء من الرحمة وستة وثلاثون جزءاً رواه عنه نعيم بن حماد.
وقال الشعبي الناس يوم القيامة على أربع منازل: رجل كان مؤمناً بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران، ورجل كان كافراً بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجر، ورجل كفر بعيسى وبمحمد عليهما السلام فباء بغضب على غضب، ورجل كان كافراً بعيسى من مشركي العرب فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم / فباء بغضب واحد.
وسئل سعيد بن عبد العزيز عن الكفل فقال: " ثلاثمائة وخمسون حسنة(11/7339)
وقال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ سأل حبراً من أحبار اليهود فقال له: كم أفضل ما ضعفت له الحسنة، فقال كفل ثلاث مائة وخمسون حسنة. قال: فحمد الله عمر على أنه تعالى أعطانا كفلين فضاعفه لنا الحسنة إلى سبع مائة ضعف.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل آمن بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ورجل كانت له أمة، فأدبها، فأحسن تأديبها ثم أعقتها وتزوجها، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه عز وجل ونصح لسيده ".
وقال عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " وإنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استأجر عمالاً فقال من يعمل [من] بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط(11/7340)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
فعملت اليهود ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فعملتم ".
ثم قال: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}.
قال ابن عباس النور: القرآن واتباعهم النبي عليه السلام، وقاله ابن جبير.
وقال مجاهد: {وَيَجْعَل لَّكُمْ} أي: هى.
وقيل معناه: ويجعل لكم نوراً تمشون به يوم القيامة، وهو النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة.
وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: يصفح عنكم ويستر ذنوبكم.
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو مغفرة ورحمة.
قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}. إلى اخر السورة.(11/7341)
قيل معناه ليعلم أهل الكتب، و " لا " زائدة صلة، دل على ذلك أن بعده: / {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله}.
وقد قرأ ابن عباس ليعلم. وهي قراءة الجحدري.
وقرأ ابن مسعود وابن جبير " لكي يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ "، وذلك على التفسير، والمعنى فعل ذلك، لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصكم به لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع خلقه، فأعلمهم تعالى ذكره أنه قد أتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم من زيادة النور والمغفرة والأجر.
قال قتادة: لما نزلت [هذه الآية يعني: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حسد أهل الكتاب المسلمين عليها] فأنزل الله " لئلا يعلم أهل الكتاب. . [إلى آخرها، أي: فعلت ذلك لكي يعلم أهل الكتاب أنهم(11/7342)
لا يقدرون] على شيء من فضل الله، يؤتي فضله من يشاء ويخص به من يشاء من خلقه.
قال قتادة: ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إنما مثلنا ومثل أهل الكتاب من قبلنا كمثل رجل استأجر أجراء يعملون إلى الليل على قيراط، فلما انتصف النهار سئموا عمله وملوا فحاسبهم وأعطاهم نصف قيراط، (ثم استأجر أجراء يعملون إلى الليل على قيراط فعملوا إلى العصر ثم سئموا وملوا عمله، فاعطاهم على قدر ذلك ثم استأجر أجراء إلى الليل على قيراطين يعملون بقية عمله فقيل له ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً؟ قال هو مالي أعطي من شئت ".
وقوله: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} أي: بيده دونهم ودون غيرهم، يؤتيه من يشاء من(11/7343)
خلقه، فلذلك أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأجر على مدتهم القريبة ما لم يعط غيرهم.
{والله ذُو الفضل العظيم}.
أي ذو الفضل على خلقه، العظيم فضله.
وقيل أنهم قالوا: الأنبياء منا، كفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم فأعلم الله خلقه أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وليس فضله بموقوف على بني إسرائيل دون غيرهم فلا يرسل رسولاً إلا منها يرسل الرسول ممن يشاء على من يشاء، وإلى من يشاء، يفعل ما يشاء ويتفضل على من يشاء لا إله إلا هو.(11/7344)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سورة المجادلة
مدنية
قوله: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الآية 1].
هذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة، وقيل اسمها خويلة.
وقيل اسم أبيها خويلد، وقيل الصامت.
وقيل الذبيح، وهي امرأة من الأنصار.
قال قتادة: كان زوجها أوس بن الصامت.
روي " أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه /، فقالت يا رسول(11/7345)
الله طالت صحبتي مع زوجي وظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه. وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً بائناً، وكان بينها وبين زوجها قرابة فقالت أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم جعلت تكرر عليه المسألة ويجاوبها بمثل ذلك، فتقول أشكو إلى الله فاقتي إليه، فنزل الوحي وقد قامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها [عائشة] أن اسكتي قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات فلما قضى الوحي قال اذهبي فادعي زوجك، فدعته فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} ثم قال له: أتستطيع رقبة، قال لا، فتلا عليه {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا}، فقال يا رسول الله إني أذا لم أكل في اليوم ثلاث مرات خشيت أن يعشو بصري، فتلا عليه {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}، ثم قال له أتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً، قال لا يا رسول الله إلا أن تعينني، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعم ".
روى عروة بن الزبير قال، قالت عائشة رضي الله عنها، " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إن خولة تشتكي زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيخفى (علي أحياناً بعض ما(11/7346)
تقول، فأنزل الله جل ذكره: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} الآية.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خولة في محاورتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أشكو إليك ذلك فهو قوله وتشتكي إلى الله. وروى أيضاً عن عروة عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمع بعض كلامها، ويخفى علي [بعضه]، إذا أنزل عز وجل { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية.
قال قتادة: أتت خويلة بنت ثعلبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي إليه زوجها أوس بن الصامت فقالت: يا رسول ظاهر مني حين كبرت سني ورق عظمي، فانزل الله عز وجل فيها ما تسمعون، ثم تلا {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ} إلى قوله {لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
وقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [المجادلة: 3] أي: يريد المظاهر يغشى (امرأته بعدما ظاهر(11/7347)
منها).
وروى أنه " لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا يا رسول الله إلا أن تعينني منك بعون وصلاة / يريد ودعاء فأعانه (رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً ".
قال ابن عباس كان الرجل إذا قال لأمراته في الجاهلية: أنت عليِّ كظهر أمي حرمت عليه، فمضى ذلك في الإسلام، وكان أول من ظاهر في الإسلام أوس وكانت تحته ابنة عم له يقال لها خولة بنت خويلد فظاهر منها، فأسقط في يده فقال ما أراك إلا قد حرمت علي، وقالت له مثل ذلك، قال فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فأخبرته فقال يا خويلة ما أمرنا في أمرك بشيء فأنزل الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله. . . الآيات، فقال يا خويلة أبشري، قالت خيراً، فقرأ عليها {قَدْ سَمِعَ الله} إلى قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا}، قالت وأي رقبة لنا، والله ما يجد رقبة غيري، فقرأ عليها: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فقالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره، فقرأ عليها(11/7348)
{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}، فقالت من أين، ما هي إلا أكلة إلى مثلها قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر وسق وست ثلاثسن صاعاً، والوسق ستون صاعاً، فقال ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك.
وقال محمد بن كعب القرطي هي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت، وكان رجلاً به لهم فقال في بعض هجراته: أنت علي كظهر أمي، ثم ندم على ما قال فقال لها ما أظنك إلا قد حرمت علي، فقالت لا تقبل ذلك، فوالله ما أحب طلاقا فقالت إئت رسول الله فسله، فقال: إنني أجدني أستحيي منه أن أسأله عن هذا، قالت إئت رسول الله فسله، فقال: إني أجدني أستحيي منه أن أسأله عن هذا، قالت فدعني أنا أسأله /، فقال، فجاءت إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي وأحب الناس إلي قد قال كلمة، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، قال أنت علي كظهر أمي.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت لا تقل ذلك يا نبي الله، والله ما ذكر طلاقا، فرادت النبي مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو [اليوم] إليك شدة حالتي ووجدي وما يشق علي من فراقه، اللهم فأنزل على لسان نبيك، فأنزل(11/7349)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الله مكانه: قد سمع الله. . . الآيات.
وقوله: {وتشتكي إِلَى الله} هو ما شكت من تأسفها على فراق زوجها.
وقوله: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي: يسمع تحاور النبي وخولة.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي: يسمع ما يتحاور به كل اثنين فأكثر.
{بَصِيرٌ} بما يعملون، فيجازيهم عليه يوم القيامة.
قوله: {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ}.
أي: الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم بقولهم: انت علي كظهر أمي.
{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً}.
أي: وإن الأزواج ليقولون إلى نسائهم (قولاً منكراً، وقولاً زوراً) أي: كذباً.
قال أبو قلابة وغيره: كان الظهار طلاق أهل الجاهلية طلاق بتات، لا يرجع إلى(11/7350)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
امرأته من قاله أبداً.
ثم قال: {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي: ذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها، وذو ستر عليهم فلا يعاقبهم عليها بعد التوبة.
قال: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي: والكفارة على من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي ويريد الرجوع إلى الوطء تحرير رقبة من قبل أن يطأها، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين أي: متصلين من قبل أن يطأها، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً.
وقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} معناه: ثم يرجعون في تحريم ما حرموا على أنفسهم فيجعلونه حلالا وذلك الوطء.
قال قتادة: يريد أن يغشى بعد قوله.
وقال أهل الظاهر معناه: يعود للفظ مرة أخرى، فلا تلزمه الكفارة عندهم حتى يقول لها مرة أخرى أنت علي كظهر أمي. ولا يلزمه شيء من قوله ذلك لها مرة واحدة.
وقيل المعنى والذين كانوا يظاهرون من نسائهم في الجاهلية ثم يعودون في(11/7351)
الإسلام إلى مثل ذلك القول، فعلى من فعل ذلك في الإسلام تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.
وقيل معناه: ثم يصيرون لما كانوا يقولون في الجاهلية.
وقيل معناه: ثم يعزمون على إمساك النساء بعد المظاهرة.
وقيل معناه: أن يقيم مدة لا يطلق ثم يعود إلى فعل ما ترك فيخالفه.
وقال طاوس لما قالوا: للوطء.
وقال الأخفش سعيد: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا من قبل أن يتماسا، والمعنى يصيرون إلى ما كانوا عليه من الجماع، فعليهم تحرير رقبة من أجل قولهم.
وقال الزجاج معناه ثم يعودون إلى إرادة الجماع من اجل ما قالوا.(11/7352)
وقال الفراء لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا أي: يرجعون عن قولهم وتحريمهم نساءهم / فيريدون الوطء.
وقال القتبي هو أن يعود لمثل ما كان يقال في الجاهلية (ولا تجزيه في الكفارة) عند مالك إلا رقبة مسلمة، ولا يجوز عنده عتق المدَبَّر والمكاتَب عن الظهار، ولا عتق أم الولد، فأما عتق الصبي فقد أجازهمالك عن الظهار إذا كان ذلك من قصر النفقة، وعتق من يصلي ويصوم أحب إليه، ولا يجزي عن الظهار عتق من يعتق على الإنسان إذا ملكه كالأب والابن والأم والجد والأخ، فإن أعتق عن ظهاره ما في بطن أمه فولدته حياً ثم مات لم يجزه عند مالك، ولا يجزي عند مالك عتق الأعمى ولا المعقد ولا المقطوع اليدين ولا أشلهما أو الرجلين، والمقطوع أحدهما، ولا الأعرج الشديد العرج، ولا الأخرس، ولا المجنون المطبق، ولا الذي يجن ويفيق، ولا عتق من أعتقه قبل ذلك إلى مدة، ولا عتق من اشتري بشرط أن يعتق على الرقاب الواجبة، ولا يجزي عتق الأصم ولا المقطوع الإبهام، ولا المقطوع الأذنين، ولا المفلوج الشق، ولا المقطوع الأصبع الواحدة فأكثر، ولا الأجذم، ولا الأبرص،(11/7353)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
ولا عتق / كل من فيه عيب يضر به وينقص من ثمنه نقصاً فاحشاً، ويجزئ عتق الأعور.
وقوله {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي: فعليه الكفارة من قبل أن يطأها، ولا يحل له وطئها إذا ظاهر منها حتى يكفر عن ظهاره، وإذا علق ظهاره بشرط لم يلزمه الظهار إلا مع فعل ذلك الشرط، وذلك أن يثول لامرأته أنت علي كظهر أمي إن دخلت دار فلان، فهو مظاهر حتى تدخل تلك الدار، فإذا دخلت لزمه الظهار، ولا طلاق في الظهار، ولم ير الحسن بأساً أن يقبل ويغش فيما دون الفرج قبل الكفارة. وقاله الثوري، ومنع مالك من ذلك، ومنعه من النظر إلى شعرها قبل الكفارة.
وقوله {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي: أوجب عليكم، ربكم من الكفارة عِظَةً لكم، لتنتهوا عن الظهار وقول الزور. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: ذو خبر بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء، فانتهوا عن قول الزور.
قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي: فمن لم يجد ما يشتري به رقبة، فعليه صيام شهرين متتابعين لا يفصل بينهما ولا بين شيء من أيامهما بإفطار وهو متعمد، فإن أفطر لعذر بنى على ما صام ولا شيء عليه، فإن أفطر لغير عذر ابتدأ(11/7354)
الصيام، فإن أفطر لسفر أحدثه ابتدأ الصوم، فإن ابتدأ الصوم فأيسر أتم صومه، ولا يرجع إلى العتق عند مالك، وإن ابتدأ الصيام أو ابتدأ الإطعام إن لم يقدر على الصيام ثم جامع قبل إكمال الصيام أو الإطعام، ابتدأ الصيام والإطعام، كأن جماعة ناسياً أو عامداً، ويجزيه الصيام بالأهلة وإن كان الشهر ثمانية وخمسين أوستاً وخمسين يوماً، فإن ابتدأ الصوم في غير أول الشهر صام ثلاثين يوما، وشهرا على الهلال، وقيل يصوم ستين يوماً، وإذا ظاهر وله دار وخادم لزمه العتق عند مالك. وقوله: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي: فمن لم يستطع الصوم فعليه أن يطعم ستين مسكيناً مداً من [حنطة] بمد هشام، هذا قول مالك وهو مد وثلثان بمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطي لكل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فإن أعطى مدا بمد هشام أجزأه إذا أعطاهم في جمع الكفارات مما هو أكثر عيش ذلك البلد أجزاه، ولا يجزى في ذلك عرض ولا دارهم ولا دقيق ولا سويق.(11/7355)
قال ابن القاسم فأن أطعم لكفارته ثلاثين مسكيناً من حنطة ثم طاق العسر حتى صار عيشهم الثمر أو الشعير، فلا بأس أن يعطي تمام الستين ثمراً أو شعيراً. وقد قال الأوزاعي إن أعطى في الكفارة ثمنها أجزأه، وكذلك قال أصحاب الرأي، ولا يجوز أن يعطي الثلاثين مثل ما يعطي لستين فيكون عليهم العطاء، ولا بد من العدد، وإذا ظاهر فمات أو ماتت ولم يكفر ورثها وورثته.
والظهار عند مالك على كل حر وعبد من المسلمين في كل زوجة حرة كانت أو أمة أو كتابية، إلا أنه إذا ظاهر من امرأته وهي أمة ثم اشتراها فالظهار لازم. ويلزم السكران ظهاره كما يلزمه الطلاق، ولا يلزم المكره الظهار. وفي الظهار من الأَمَة،(11/7356)
الكفارة تامة عند مالك، ويلزم العبد في الظهار صيام شهرين كالحر ولا يعتق إلا بإذن مولاه. وإذا ظاهر الرجل من امرأته مراراً لم تلزمه إلا كفارة واحدة، (وأما المظاهر) من امرأتيه أو ثلاث أو أربع في ظهار واحد لم تلزمه إلا كفارة واحدة. وكل من ظاهر من امرأته بامرأة مسن ذوات المحارم من النسب أو الرضاع لزمه، كقوله: أنت عليِّ كظهر أختي (أو كظهر ابنة ابنتي) أو كظهر أختي من الرضاع، وكذلك عند مالك إذا قال لها أنت عليِّ كظهر / أبي: يلزمه الظهار.
وكذلك يلزسمه الظهار لو قال لامرأته: أنت علي (كظهر أخي وكقدم أخي) ونحوه من العورات، وإنما خص هذا اللفظ في اليمين بالظهر دون البطن، لأن الظهر موضع الركوب من البهائم، والمرأة مركوبة، إذا غشيت، فكأنه إذا قال أنت علي كظهر أمي، قال: ركوبك للنكاح حرام علي كركوب أبي للنكاح /، فأقام الظهر مقام الركوب، إذ الركوب من غير بني آدم إنما يركب على ظهر، فهو استعارة لطيفة. ثم قال {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي: ألزمت من ظاهر ذلك من الكفارات كي تقروا بتوحيد الله وبرسوله إذا عملتم بما(11/7357)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
أمرتم به. وقال الزجاج معناه: ذلك التغليظ عليكم لتؤمنوا بالله ورسوله. ثم قال {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي: فرائضه التي حدها لكم.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: ولمن كفر بحدود الله في الآخرة عذاب مؤلم؛ أي: موجع.
قال: {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ} أي: إن الذين يخالفون الله في حدوده وفرائضه فيجعلون لأنفسهم حدوداً غير حدوده كبتوا، أي: غيظوا وأخزوا كما غيظ الذين من قبلهم مِن الأمم الذين حادوا الله ورسوله، قاله قتادة.
وقال ابو عبيدة كبتوا: أي أهلكوا، وأصله كبدوا (من قولهم): كبده الله: أي: أصاب الله كبده، ثم أبدلت التاء من الدال، ثم قيل ذلك لكل من أهلك وغيظ وأذل. وقيل معناه: غيظوا يوم الخندق كما غيظ الذين من قبلهم ممن قاتل الأنبياء. ومعنى يحادون: يصيرون في حد أعداء الله ومخالفي أمره.
ثم قال {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: دلالات ظاهرات محكمات.
وللكافرين بتلك الآيات عذاب مهين، أي: مذل يوم القيامة.(11/7358)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ} إلى قوله: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الآيات [6 - 13].
أي: اذكر يا محمد يوم يبعثهم الله جميعاً، ويجوز أن يكون العامل " مهيناً " فلا يوقف عليه أي: وللكافرين بحدود الله عذاب مهين في يوم يبعثهم الله جميعاً، وذلك يوم القيامة يبعثون من قبورهم ليخبرهم الله بما عملوا في الدنيا، أحصى الله أعمالهم فنسوها.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: هو شهيد على كل شيء عملوه، أي: شاهد على ذلك، محيط علمه بذلك.
قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي: ألم تعلم يا محمد وتنظر بعين قلبك أن الله لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض، فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء الكفارة. وقوله {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} " ثلاثة " بدل من " نجوى " على اللفظ، " ونجوى " بمعنى متناجين، ويجوز أن يكون " نجوى " مضافة إلى ثلاثة {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ}، ونجوى بمعنى: (سر، أي: من سر ثلاثة)، وقد يجوز(11/7359)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
رفع " ثلاثة " على البدل من موضع " نجوى "، ويجوز نصبه على الحال من المضمر في " نجوى ".
وفي حرف عبد الله: ولا أربعة إلا هو خامسهم، وفيه أيضا إلا الله رابعهم. {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ} إلا الله معهم إذا تناجوا. وهذه قراءة على التفسير لا يجوز أن يقرأ بها لمخالفتها للمصحف.
وقرأ أبو جعفر يزيد " ما تكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثَةٍ " بالتاء على التأنيث النجوى، كما تقول ما جاءتني من امرأة. وقرأ الحسن ولا أكثر بالرفع، عطف على الموضع. ومعنى هو رابعهم وهو سادسهم أي: هو شاهدهم بعلمه وهو على عرشه قاله الضحاك وغيره.
قال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول فَبِئْسَ المصير} أي: ألم تنظر (بعين قلبك يا محمد) إلى الذين نهوا عن النجوى من اليهود، ثم يعودون إلى(11/7360)
النجوى بعد نهي (الله عز وجل لهم) عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول.
قال مجاهد: هم اليهود. وقيل هم المنافقون كان " النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالأمر من أمر الله تعالى، فيقولون سمعا وطاعة، ثم يتحول بعضهم إلى بعض فيتناجون بخلاف ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسرفوا، والله ينهاهم حتى قالوا لولا يعذبنا الله بما نقول، فكانوا يحيون النبي عليه السلام بغير تحية الإسلام، فأنزل الله عز وجل { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} ".
ثم قال {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} [أي: وإذا جاءك هؤلاء الذين نهوا عن النجوى ولم يقبلوا النهي حيوك بما لم يحيك به الله]. يقولون: السلام عليكم. قالت عائشة رضي الله عنها: " جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم / فقالوا: السلام عليك يا أبا القاسم فقلت: السلام عليكم فعل الله بكم وفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا يحب(11/7361)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
الفحشاء / ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال: ألست تراني أرد عليهم ما يقولون، أقول: وعليكم، فنزلت هذه الآية في ذلك ".
ثم قال: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} أي: يقول هؤلاء الذين يحيونك بما لم يحيك به الله هلا يعاقبنا الله بقولنا. وقال ابن زيد السام: الموت. قال قتادة: ومجاهد: هم اليهود. وعن ابن عباس أنهم المنافقون.
ثم قال: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} أي: كفاهم دخولهم جهنم يوم القيامة عقوبة لهم فبئس المنقلب والمرجع، فلا يستعجلوا العذاب والعقوبة بقولهم: " لولا يعذبنا الله بما نقول ".
قال: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي: لا تفعلوا ذلك كما فعله المنافقون، ولكن تناجوا بالبر والتقوى، أي: بطاعة الله عز وجل،(11/7362)
وما يقربكم إليه سبحانه وأداء ما كلفكم من فرائضه (جلت عظمته).
{واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: وخافوا الله الذي إليه مصيركم في معادكم أن تخالفوا طاعته ثم قال: {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ}.
قال قتادة: كان المنافقون يتناجون بينهم فكان ذلك يغيظ المؤمنين وتكبر عليهم، فانزل الله عز وجل هذه الآية.
ثم أعلمهم أن ذلك لا يضرهم فقال: {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً} أي: ليس تناجي المنافقين فيما بينهم بضار للمؤمنين إلا بإذن الله.
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} قال ابن زيد: كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع من ذلك أحداً، قال: والأرض يومئذ حرب على أهل هذا البلد، وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في أمور قد حضرت وجموع قد جمعت لكم، فقال الله عز وجل: { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان} الآية. وقال عطية العوفي هي الأحلام التي يراها الإنسان في(11/7363)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
نومه فتحزنه.
قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} لأي: إذا قيل لكم توسعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسعوا يوسع الله عليكم في منازلكم في الجنة.
قال مالك: [نزلت] في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يسر بقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه فيمنعه ذلك من التفسح لأخيه. قال مالك وأرى مجالس العلم من ذلك وهي داخلة في الآية.
{وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} أي: ارتفعوا وانضموا، فانضموا يرفع الله الذين آمنوا منكم في درجات وقيل المعنى: وإذا قيل ارتفعوا إلى قتال عدوكم فقوموا إلى ذلك أو لصلاة أو لعمل خير فقوموا، قاله ابن عباس(11/7364)
ومجاهد. وقال الحسن: هذا كله في الغزو. وقال قتادة: معناه: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا. وقال ابن زيد معناه: وإذا قيل [لكم] ارتفعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له حوائج فارتفعوا عنه.
يقال نشز: إذا تنحى عن موضع، وامرأة ناشزة [أو] متنحية عن زوجها، وأصله من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض.
قال قتادة: هو مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضيقوا مجلسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، فأمرهم الله عز وجل أن يفسح بعضهم [لبعض].
وقال الضحاك: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ومن حوله أمروا أن يتوسعوا(11/7365)
حتى يصيب كل رجل منهم مجلساً من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا بالتفسح.
وقال ابن عباس: عني به مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، وقاله الحسن.
ثم قال: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} [أي]: درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل يرفعهم في الثواب والكرامة. وقيل يرفعهم على غيرهم ممن لا علم عنده في الفضل. وقيل الدرجات هنا للعلماء خاصة. /
قال ابن مسعود: معناه: يرفع الله الذين آمنوا منكم، ويرفع الله / الذين أوتوا العلم درجات على الذين آمنوا ولا علم عندهم.
قال مطرف: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة. وخير دينكم الورع.(11/7366)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: ذو خبر بأعمالكم كلها لا يخفى عليه المطيع ربه من العاصي له، فيجازي كلاً بما عمل. /
قال {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} نهى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يناجوه حتى يتصدقوا، تعظيما له، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب بعد أن قدم صدقة دينار، ثم نسخ ذلك بما بعده، فرخص لهم أن يناجوه من غير تقديم صدقة.
قال علي: إن في كتاب الله لآية لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول الله تصدقت بدرهم فنسخت.
قال قتادة: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوا في المسألة فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل تكون له الحاجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يقضيها(11/7367)
حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك [عليهم]؛ فأنزل الله عز وجل الرحمة في قوله {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية.
وقال ابن عباس: كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة، فلما نزلت الزكاة نسخت هذا.
(وروي عن ابن عباس) أنه قال: كان السلمون يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخف عن نبيه عليه السلام، فيصبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها /.
قال ابن زيد: ضيق الله عليهم في المناجات لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على أهل الحق، فقالوا يا رسول الله لا نستطيع ذلك ولا نطيقه،(11/7368)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
فنزل التخفيف. قال قتادة: ما قامت إلا ساعة من نهار ثم نسخت. ومعنى أشفقتم: أشق ذلك عليكم، ولا يوصف الله عز وجل بالإشفاق، لا يقال يا شفيق. لأن أصله الحزن والخوف.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم}.
أي: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد فترى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم. يعني: المنافقون والوا اليهود، ما هم منكم [ولا منهم]، أي: ما المنافقون من أهل دينكم ولا من أهل دينهم، وهذا مثل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} [الحشر: 11].
وهو مثل قوله أيضا: {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [المائدة: 52] أي: نفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] أي: في موالات اليهود {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] يعني المنافقين يقولون ذلك.(11/7369)
قال ابن زيد هؤلاء المنافقون قالوا لا ندع حلفاءنا وموالينا فيكونون معنا لنصرتنا وعزنا، نخشى أن تصيبنا دائرة، فقال الله جل ذكره: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} [المائدة: 52] الآيات.
وقوله {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم يشهدون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قوله: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] أي: لكاذبون في ادعائهم أن ذلك إيمان من قلوبهم وإقرار صحيح، إنما ذلك قول بألسنتهم واعتقادهم خلاف ذلك، وهذا مثل قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وذكر هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم في أمر بلغه عنه، فحلف كاذباً.
وقال ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه، إذ قال يجيئكم الساعة رجل ينظر إليكم نظر شيطان، فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علام تسبني أنت وأصحابك؟ فقال دعي أجيئك(11/7370)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
بهم فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شيء، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية ".
قال: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي: لهؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود. {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: بئس عملهم في الدنيا لغشهم للمسلمين ونصحهم اليهود.
قال: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: جعلوا حلفهم جنة يمتنعون بها من القتل، ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم العقوبة، وذلك أنه إذا اطلع على شيء من نفاقهم حلفوا للمؤمنين انهم منهم، فيتركون.
ثم قال: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: فصدوا المؤمنين بإيمانهم عن أن يقتلوهم، وقتلهم هو سبيل الله فيهم، لأنهم كفار لا يؤدون الجزية.
ثم قال: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: فلهؤلاء المنافقين في الآخرة عذاب مذل، وهو عذاب النار.(11/7371)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
ثم قال: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} أي: لن ينتفعوا بها في الآخرة من عقوبة الله / لهم ولن ينقذوا بها من عذاب الهم.
{أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني: المنافقين إنهم ماكثون أبداً في نار جهنم.
قال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ [لَكُمْ]} أي: هم ماكثون في النار / يوم بعثهم الله جميعاً، وذلك يوم القيامة. ويجوز أن يكون تقدير العامل: اذكر يوم يبعثهم الله من قبورهم فيحلفون لله وهم كاذبون كما يحلفون للمؤمنين وهم كاذبون.
قال قتادة: إن المنافق حلف يوم القيامة كما حلف في الدنيا. ثم قال {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ} أي: ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم لله كاذبين على شيء من الحق.
{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي: في حلفهم.
وأجاز علي بن سليمان " ألا أنّهم " بالفتح، فجعل " ألا " بمعنى " حقا ".
قال: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} أي: غلب عليهم واستولى(11/7372)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
على قلوبهم فنسوا ذكر الله.
{أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي: جنده وأتباعه.
{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [أي: جنده وأتباعه هم] الهالكون المغبونون في الآخرة.
ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي: يخالفونه في حدوده، فيصيرون في حد آخر غير الذي حد لهم. وقال المفسرون يحادون: يعادون. وقيل يشاقون، والمعنى واحد.
ثم قال: {أولئك فِي الأذلين} أي: في أهل الذلة، لأن الغلبة لله ورسوله.
قال تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} أي: قضى ذلك في أم الكتاب.
قال قتادة: كتب كتاباً فأمضاه. وقال غيره: كتبه في اللوح المحفوظ.
وقال الفراء " كتب " هنا بمعنى: " قال ".
ثم قال: {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: ذو قوة على كل من حاده ورسوله أن يهلكه، عزيز في انتقامه من أعدائه.
ثم قال: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} أي: ليس(11/7373)
من والى من عادى الله ورسوله مؤمنين بالله واليوم الآخر.
ولو (كان الذي) عادى الله ورسوله أباً أو ابناً له أو أخاً أو زوجاً أو عشيرة له، لا عذر في موالاته بهذه القرابة إذا كان ممن عادى الله ورسوله.
وروي أن هذه الآية / " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بالتحرز ثم أعتذر لما اطلع عليه بأهله بمكة، وأنه أحب أن يقدم عندهم يداً يحفظون أهله من أجلها. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل لأحد أشرك بك في عنقي منه فيكون ذلك سببا للمودة لأنك لا تجد قوما يؤمنون بالله [وباليوم] إلى أو عشيرتهم ".(11/7374)
ثم قال: {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي: أولئك الذين لا يوادون من حاد الله ورسول ولو كانوا ذوي قربى منهم ونسب، كتب الله عز وجل في قلوبهم الإيمان، (أي: غطى قلوبهم بالإيمان).
و" في " بمعنى " اللام " والإخبار عن القلب كالأخبار عن صاحبه. . وقيل معناه: كتب في قلوبهم سمة الإيمان ليعلم أنهم مؤمنون. وقد روي أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد. وأن عمر بم الخطاب رضي الله عنهـ قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر، ودعا أبو بكر ابنه للبراز يوم بدر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد، وأن مصعب بن عمير قتل أخاه يوم أحد. وكان علي وعمه حمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهم أقرباؤهم، (فلم يتوقف) أحد عن قتل أهله وقرابته، فمدحهم الله عز وجل في هذه الآية.
ثم قال {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي: وقواهم ببرهان منه. وذلك النور والهدى الذين(11/7375)
يجعلها الله عز وجل في قلب من يشاء. وقيل بروح منه: بجبريل ينصرهم ويؤيدهم ويوفقهم. ثم وعدهم بالجنة.
فقال: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها رضي الله عنهـ بطاعتهم إياه ورضوا عنه بوفائه إياهم ما وعدهم من الجنة.
ثم قال: {أولئك حِزْبُ الله} أي: جنده وأولياؤه.
{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} أي: الباقون في النعيم المقيم والفلاح والبقاء.(11/7376)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
سورة الحشر
مدنية
قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: (شَدِيدُ الْعِقَابِ) الآيات [1 - 7].
أي: صلى وسجد لله ما في السماوات وما في الأرض من خلقه، وهو العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه.
ثم قال: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} يعني: بني النضير حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من أحد، لأنهم أعانوا المشركين على المسلمين ونقضوا العهد، فلما ضيق عليهم صالحهم على أن لهم ما حملت الأبل من رحالتهم سوى الحلقة، والحلقة: السلاح، وأجلاهم إلى الشام، وذلك أول(11/7377)
الحشر / [حشر الناس إلى الشام في الدنيا ثم يحشرون إليها في الآخرة، فلذلك قال لأول الحشر]: أي: لأول الحشر في الدنيا إلى ارض الشام، ومنهم من جلي إلى خيبر، وبنو النضير حي من اليهود لم يجلوا قط، ولكن قضى الله عز وجل عليهم أنهم لا بد أن يجلوا من ديارهم. وهو قوله: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} يعني: بالسيف والسبي. وروي الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير إلى الشام قال لهم امضوا هذا أول الحشر وأنا على الأثر.
قال عكرمة: إن شككتم أن الشام أرض المحشر فاقرأوا أول الحشر.
وقال ابن عباس: لأول الحشر، أنهم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من ديارهم.(11/7378)
ثم قال: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} يقوله للمؤمنين، لم تظنوا أيها المؤمنون أنهم يخرجون من ديارهم / لشدتهم واجتماع كلمتهم.
{وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله} روي أن المنافقين بعثوا إليهم من المدينة لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم يأمروهم بالثبات في حصونهم ويعدونهم النصرة، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} [الحشر: 11] الآية.
وقوله: {لأَوَّلِ الحشر} هو إخراج النبي بني النضير من المدينة إلى خيبر، وآخر الحشر هو إخراجهم من خيبر إلى أريحا وأذرعات، وذلك على يد عمر رضي الله عنهـ. وقيل آخر حشرهم يوم القيامة.
ثم قال: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي: فجاءهم أمر الله، فقذف في قلوبهم الرعب عند نزول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهم، فذهب ما كانوا يظنون أن حصونهم مانعة لهم من النبي عليه السلام وأصحابه.(11/7379)
وقال أبو صالح: معنى: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ}: هو قتل كعب ابن الأشرف.
وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نصرت بالرعب على مسيرة شهر ".
ومعنى {يَحْتَسِبُواْ}: يظنوا. وقيل: يعلموا، من قول الناس: حسبه الله: أي: العالم بخبره الله، وهو الذي يجازيه.
وقيل: معناه: كافي إياك الله. من قولهم: أحسب الشيء: إذا كفاه وقيل حسبك الله: معناه: محاسبك، كشريب بمعنى شارب. وقيل: حسبك الله معناه،(11/7380)
المقتدر عليك الله، ومنه قوله: {كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً}
[النساء: 86] أي: مقتدرا.
ثم قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ}. من خفف فمعناه: [يتركونها معطلة، والبيت المعطل خراب، وقيل معناه يهدمونها، ومن يشدَّد فمعناه: يهدمونها أياً: كأذكرت الرجل وذكرته (وأبلغته)، ومعناه: أن المؤمنين كانوا يهدمون الحصون ليدخلوا عليهم البيوت واليهود [يهدمون بيوتهم ويبنون ما هدم المؤمنون من الحصن فهم والمؤمنون يهدمون] مساكنهم وبيوتهم قاله ابن عباس والضحاك.
وقيل: إنهم / لما صولحوا على ما حملت إبلهم كان أحدهم ينظر إلى الخشبة في منزله فيستحسنها والعمود والباب. فينزع ذلك ويهدمه فيحمله معه، والمؤمنون يهدمون ما بقي.(11/7381)
قال قتادة: جعل المؤمنون يخربون من ظاهر وجعلوا هم يخربون من داخل. قال الزهري لما صالحوا كانوا لا تعجبهم خشبة إلا أخذوها، فكان ذلك خرابهم لبيوتهم، وهو معنى قول ابن زيد.
قال قتادة: كان المسلمون يخربون من خارج ليدخلوا على اليهود، واليهود يخربون من داخل.
ثم قال {فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي: فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحل الله بهؤلاء اليهود.
وقيل معناه: يا من أبصر بعينه، والأول أحسن.
والاعتبار اشتقاقه من عبر إلى كذا: إذا جاوز إليه، والعبرة منه لأنها متجاوزة من العين إلى الخد.
ثم قال {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} أي: لولا أن الله عز وجل ( قضى وحتم على هؤلاء اليهود الجلاء) لعذبهم في الدنيا بالسيف [والسبي]، ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار.
قال الزهري: كان النضير من سبط لم يصبهم جلاء قط فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، فأتم فيهم قضاءه، ولولا ذلك لعذبهم بالسيف والسبي في الدنيا.(11/7382)
والجلاء: الانتقال من مكان إلى مكان، يقال جلا القوم من منازلهم وأجليتهم. وحكى أحمد بن يحيى: أُجْلِي القوم من منازلهم. بمعنى: جُلُوا.
وحكى غيره: جلوا عن منازلهم يجلون، قال ابن عباس كان النبي عليه السلام قد حاصرهم حتى بلغ بهم كل مبلغ فأعطوا ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء.(11/7383)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي: الأمر ذلك، لأنهم خالفوا أمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فصاروا في شق والمؤمنون في شق، ويجوز أن يكون التقدير: فعلنا بهم ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، " فذلك " على القول [الأول] في موضع رفع خبر الابتداء المضمر، وعلى هذا القول في موضع نصب بالفعل المضمر.
ثم قال تعالى: {وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي: ومن يخالف الله في أمره فإن الله شديد العقاب له في الآخرة.
قال: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله}.
أي: ما قطعتم من ألوان النخل أو تركتموها قائمة فلم تقطعوها. واللينة(11/7384)
جمع ألوان النخل سوى العجوة، قال عكرمة، وقاله يزيد بن رومان وقتادة وهو قوله ابن عباس وابن جبير والزهري.
وقال مجاهد: اللينة: النخل كله من العجوة وغيرها، وقال: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقال: إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل قطع من قطع، فاعلموا أن ما قطع منه وما ترك بإذن الله كان.
وقال ابن زيد اللينة: النخلة عجوة كانت أو غير عجوة.(11/7385)
وعن ابن عباس: اللينة: لون من النخيل.
وعن سفيان الثوري: اللينة: كرام النخل.
وقال أبو عبيدة: هي ألوان النخل ما لم تكن العَجْوَةُ واُلْبَرْنِي.
وروي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم فتحصنوا [وأبوا أن يخرجوا، قطع نخلهم وأحرقها، فقالوا يا محمد أنت تنهى عن الفساد] فما معنى هذا؟ فوقع في قلوب المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله عز وجل { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ} " الآية ".
وروى: أن أبا بكر نهى المسلمين عن قطع النخل [حين] وجه بهم لفتح الشام، وإنما ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم [ أعلمهم] أن الشام ستفتح عليهم، فلما تيقن(11/7386)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
بفتحها لم يحتج إلى إخراب ما ينتفع به المسلمون.
والياء في " لينة " منقلبة عن واو / لأنها من اللون، وقيل هي مشتقة من لأن يلين، فتكون الياء أصلية غير منقلبة.
ومعنى: {فَبِإِذْنِ الله} أي: فبأمر الله قطعت نقمة من أعدائه وخزياً لهم وهو قوله: {وَلِيُخْزِيَ الفاسقين} ليذلهم، وهم بنو النضير.
قال: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} أي: الذي رد الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير فلم توجفوا على غنيمته وأخذه خيلاً ولا إبلاً، أي: لم تلقوا في ذلك حرباً ولا مئونة، لأنهم معكم في بلدكم. قال قتادة: ما قطعتم إليهم وادياً، ولا سرتم مسيراً، إنما كانت حوائط بين النضير طعمة لكم من عند الله. / (وقد قيل إنما عني بذلك) أموال بني قريظة، إذ قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسباهم لما استولى عليهم، قاله الضحاك. وأكثر المفسرين على أنهم بنو النضير، لأنهم(11/7387)
صولحوا على الجلاء وتركوا أموالهم بغير إيجاف من خيل ولا ركاب. والإيجَاف: ضرب من السير سريع. يقال: وَجَفَ: إذا أسرع، وأَوجَفَه غيره.
قال مجاهد: في قوله {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ذكرهم ربهم عز وجل أنه نصرهم وكفاهم.
قال ابن عباس: " أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى قريظة والنضير، وليس للمسلمين يومئذ كبير خيل ولا ركاب يوجف عليها فملكوا من ذلك خيبر وفدك(11/7388)
وقرى ثم أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع فأتاها فاحتواها كلها عدة (النفقة ومصالح) المسلمين ولم يقسمها، فكان يفعل فيها ما يرى فيجعل الباقي بعد مصلحته في السلاح الذي يقاتل به العدو، وفي الكراع، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم طلبت فاطمة أبا بكر في إرثها من ذلك، فقال أبو بكر أنت أعز علي [غير] أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا نورث " ما تركنا صدقة ".
ولكني أقره على ما كان في (عهد رسول الله) صلى الله عليه وسلم فقال ناس: هلا قسمها النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}.
ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.(11/7389)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
ثم قال: {ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ} أي: يفعل ذلك كما سلط محمداً صلى الله عليه وسلم على بني النضير، فكان له خاصة ما غنم منهم يعمل فيه ما يرى.
ثم قال: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ذو قدرة على كل شيء، لا يعجزه شيء، وبقدرته سلط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضري وغيرهم.
قال: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى}.
أي: الذي رد الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال مشركي القرى [فلله وللرسول يعني القرى] التي غنمت بقتال وإيجاف خيل وركاب، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ} [الانفال: 41] الآية.
وقيل: أي: هذا فيما غنمتم بصلح من غير إيجاف خيل أو ركاب فيكون مثل الأول في المعنى، إلا أن الأول مخصوص في (بني النضير) خاصة يتفرد به(11/7390)
النبي صلى الله يفعل فيه ما يرى، وكذلك فعل، وهذا الثاني يكون للأصناف التي ذكر الله عز وجل والذي في سورة الأنفال في ما غنم بخيل وركاب وقتال، فالثلاث الآيات محكمات على هذا القول.
وقيل: أن هذا غير الأول لأن هذا إنما هو في ما كان من الجزية. والخراج يكون لهؤلاء الأصناف المذكورين، والأول للنبي عليه السلام خاصة، وما في الأنفال هو ما غنم بإيجاف خيل وركاب وقتال يكون للأصناف المذكورين، وهذا القول قاله معمر.
ثم قال: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} أي: فعلنا ذلك في هذه الغنائم كي لا يقتسمه الأغنياء منكم ويتداولوه بينهم دون من ذكر الله عز وجل.
ثم قال: {واتقوا الله} أي: اتقوه أن تخالفوا رسوله.(11/7391)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ}.
أي ولكن يكون ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للفقراء المهاجرين، يعني مهاجرة قريش.
قال مجاهد: / جعل / الله عز وجل ما أفاء الله على رسوله من قريظة لمهاجرة قريش الذين أخرجهم المشركون من ديارهم وأموالهم، فخرجوا ملتمسين فضلاً، أي: ثوابا من الله ورضونا منه عليهم، وناصرين دين الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{ أولئك هُمُ الصادقون} أي: صدقوا في فعلهم وقولهم.
قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ} أي: الذين سكنوا الدار، وهي المدينة، أي: اتخذوها مسكناً، واتخذوا الإيمان دينا من قبل إتيان المهاجرين، يعني الأنصار يحبون من هاجر إليهم، يعني من مكة وغيرها.
ثم قال: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} أي: ولا يجد الأنصار في قلوبهم حسداً(11/7392)
مما أعطي المهاجرون دونهم من الفيء.
روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون / الأنصار إلا رجلين من الأنصار أحدهما سهل بن حنيف والآخر أبو دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقراً فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم لفقرهما، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله كان قد أعطاه أموالهم يفعل فيها ما يشاء، وقد تقدم ذكر ذلك، قاله عبد الله بن أبزى.(11/7393)
وقال ابن زيد: " لما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير المهاجرين الأولين، تكلم في ذلك بعض الأنصار، فعاتبهم الله عز وجل، فقال: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم، فقالوا أموالنا بينهم قطائع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك قالوا وما ذلك يا رسول الله قال هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر فقالوا نعم يا رسول الله ".
قال الحسن: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} [يعني الحسنة. ثم قال تعالى:] {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} هذا من صفة الأنصار، وصفهم الله عز وجل أنهم يعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم.
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بما عندهم، وإن كان بهم فاقة وحاجة.
روى أبو هريرة: " أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضيفه، فلم يكن عنده ما(11/7394)
يضيفه، فقال ألا رجلاً يضيف هذا رحمه الله، فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فأنطلق به إلى رحله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله، نومي الصبية أطفئي المصباح وأريه أنك تأكلين معه، واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم براً له، قال: ففعلت فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ".
ثم قال: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون}.
أي: ومن وقاه الله عز وجل شح نفسه، فهو من الباقين المخلدين في الجنة.
والشح في اللغة: البخل ومنع الفضل من المال.
وقيل: الشح هنا: أكل أموال الناس بغير حق، قاله ابن مسعود.(11/7395)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بَرِئَ من الشح من أدى الزكاة [وقرى] الضيف وأعطى في النائبة ".
قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان}.
أي والذين جاؤوا من بعد الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين الأولين، يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا [بالإيمان] من الأنصار وغيرهم.
{وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي: غمراً وضغناً، يعني به الذين أسلموا من بعد الذين تبوءوا الدار.
قال قتادة: ذكر الله جل ذكره الطائفة الثالثة فقال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ. . .} الآية.
ثم قال: أُمِروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسبهم.(11/7396)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
وقيل المعنى: والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار.
قال ابن أبي ليلى كان الناس / على ثلاث منازل: (المهاجرون الأولون) والذين اتبعوهم بإحسان و (الذين جاءوا من بعدهم).
ثم قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو رأفة ورحمة لمن أطاعك.
قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً}.
يعني: منافقي المدينة يقولون لبني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم أثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، فإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا وانتظروا نصرهم، فلم يفوا لهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب (فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم) أن يجليهم ويكف عن دعائهم على أن لهم ما(11/7397)
حملت الإبل من أموالهم، فصالحهم على ذلك.
قال ابن عباس: الذين نافقوا هنا هم عبد الله بن أبي وأصحابه وعدوا بني النضير بالنصر والخروج معهم، وأنهم لا يطيعون فيهم أحداً أبداً، فأعلمنا الله عز وجل أنهم كاذبون، وأنهم لا يقاتلون معهم، ولا يخرجون معهم، وأنهم / حتى لو نصروهم لولوا الأدبار منهزمين.
{ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي: ثم لا ينصر الله عز وجل بني النضير على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل يخذلهم.
وقال أبو صالح: {لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب}، هم بنو قريظة.
وقيل معنى: {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار} أي: ولئن نصر اليهود المنفقون، ومعنى لا ينصرونهم: طائعين، ولئن نصروهم: مكرهين، ليولن الأدبار منهزمين.
وقيل معنى: لا ينصرونهم: أي: لا يدومون على نصرهم كما يقال: فلان لا يصوم ولا يصلي، أي: لا يدوم على ذلك، ورفع (يخرجون وينصرون) وقبله(11/7398)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
شرط، لأنه قسم، ولا يعمل الشرط في القسم، ولا في جوابه، لكنه سد مسد جواب الشرط.
قال: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} أي: لأنتم أيها المؤمنون أشد رهبة في صدور اليهود بني النضير من الله سبحانه: أي: هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل.
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [أي: ذلك الخوف الذي حل بهم، من أجل أنهم قوم لا يفقهون] قدر عظمة الله عز وجل، فهم لذلك يخافونكم أعظم من خوفهم الله (عز وجهه وتعالى جدُّه)، ولذلك ارتكبوا معاصي الله وخالفوه في نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومعونتهم للمشركين بأُحد.
قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ}.
أي: من خوفهم منكم لا يقاتلونكم إلا في قرى قد حصنت، ولا يبرزون إليكم أو يقاتلونكم إلا من وراء جدر، أي: إلا من وراء حيطان.(11/7399)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: عداوة بعضهم لبعض شديدة.
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى}.
يعني: المنافقين واليهود، أي: تحسبهم يا محمد مؤتلفي الكلمة مجتمعين على محبة بعضهم بعضاً، وقلوبهم شتى: أي: مفترقة (ببعض بعضهم لبعض).
ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي: ذلك الذي وصفه الله عز وجل من أمر اليهود والمنافقين من عداوة بعضهم بعضاً في الباطل، من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم مما عليهم فيه الضرر.
وقال قتادة: لما قرأ هذه الآية: كذا أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة الحق.
وقال مجاهد: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى}: هم المنافقون يخالف دينهم دين اليهود.
وقال سفيان: هم المشركون وأهل الكتاب.
قال: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.(11/7400)
أي: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، " فالكاف " في موضع رفع خبر الابتداء المضمر، " وقريباً " نعت لظرف محذوف. والتقدير: وقتاً قريباً ذاقوا عاقبة كفرهم وعصيانهم، وكذا التقدير في الكاف من قوله: {كَمَثَلِ الشيطان} والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أعلمنا أن مثل هؤلاء اليهود والمنفقين فيما الله عز وجل صانع بهم من إحلال عقوبته [بهم] كمثل فعله بالذين من قبلهم يعني [به] بني قينقاع (أمكن الله عز وجل منهم) قبل بني النضير، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: عنى به كفار قريش يوم بدر.
وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير.
ومعنى: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي: نالهم عقاب الله عز وجل على كفرهم به، " والوبال ": ثقل المكروه، ومنه: " طعام وبيل ": أي: ثقيل وخم.(11/7401)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم، يعني موجعاً في الآخرة، يعني المنفقين وإخوانهم من يهود بني النضير وغيرهم مِمن عصى الله عز وجل وخادعه سبحانه.
قوله: {كَمَثَلِ الشيطان}.
قد ذكرنا الكاف في {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} والمعنى: مثل هؤلاء المنافقين في وعدهم اليهود بالنصر، وإخلافهم إياهم وتبريهم منهم لما أجلوا من ديارهم، كمثل الشيطان الذي غر الإنسان ووعده على كفره النصر ثم تبرأ منه لما كفر وأسلمه.
روي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " إن راهباً تعَبَّد ستين سنة وأن الشيطان أراده وأعياه، فعَمَد إلى امرأة فأجَنَّها ولها إخوة، فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاءوا به إليها فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك، فأطِعني أُنجك ممّا صنعت بك، أسجد لي سجدة،(11/7402)
فسجد [له]، فلما سجد له / قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
/ وعن ابن مسعود أنه قال: كانت امراة ترعى غنماً، كان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يقبل قولك، فقتلها ثم دفنها. قال: فأتى الشيطان إخواتها في المنام، فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك، فقالوا: لاَ بَلْ قُصَّها علينا، فَقَصَّهَا، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، وقال الآخر مثل ذلك، فقالوا: والله ما هذا إلا لشيء. فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فقالوا: والله ما هذا إلا لشيء. فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان، فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن(11/7403)
ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال: فسجد له. فلما أتوا ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل.
وقول الشيطان: {إني أَخَافُ الله (رَبَّ العالمين)} إنما هو على طريق التبرؤ من الإنسان، لأنه لا يخاف الله على الحقيقة، لأنه لو خافه ما عصاه، ولو خافه لكان ذلك مدحاً له.
وعن ابن عباس: أن راهباً من بني إسرائيل تعبد فأحسن عبادته، وكان يُؤتى من كل أرض فيُسأل عن الفقه، وكان عالماً، وأن ثلاثة أخوة كانت لهم أخت حسنة من أحسن النساء، وأنهم أرادوا سفراً، فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة، فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها، فقال أحدهم أنا أدلكم على من تتركونها عنده، قالوا من هو، قال راهب بني إسرائيل إن ماتت قام عليها وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليها، فعمدوا إليه، فقالوا: إنا نريد السفر، ولا نجد أحداً أوثق منك في أنفسنا، ولا أحفظ لها ولي منك ولما جعل عندك فإن رأيت أن نجعل أختنا عندك، فإنها ضائعة شديدة الوجع، فإن ماتت فقم عليهم، وإن عاشت فأصلح إليها حتى نرجع.(11/7404)
فقال: أكفيكم إن شاء الله، فانطلقوا وقام عليها فداواها حتى برئت وعاد إليها حسنها، فأطلع إليها فوجدها متصنعة، فلم يزل به الشيطان يزين له أن يقع عليها حتى وقع عليها، فحملت ثم قدمه الشيطان، فزين له قتلها وقال: إن لم تقتلها افتضحت وعُرِف شبيهك في الولد، فلم تكن لك معذرة فلم يزل به حتى قتلها. فلما قدم إخوتها قالوا له: ما فعلت فلانة قال ماتت فدفنتها قالوا أحسنت، ثم جعلوا يرون في المنام ويخبرون أن الراهب هو قتلها، وأنها تحت شجرة كذا وكذا، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت، فعمدوا إليه فأخذوه، فقال له الشيطان: أنا زينت لك الزنا (وقتلَها بعد الزنى)، فهل لك أن أنجيك، قال: نعم (قال: أفتطيعني؟ قال: نعم) قال: فاسجد لي سجدة واحدة، فسجد له ثم قتل.
وقال مجاهد: الإنسان هنا عنى به الإنسان كلهم في غرور الشيطان إياهم وتبريه منهم، كما غر المنافقون اليهود ووعدوهم بالنصر، ثم (تبرءوا) منهم وأسلموهم.(11/7405)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
قال تعالى /: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
أي اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ولينظر أحدكم ما قدم لمماته من العمل الصالح والعمل السيء.
قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعله كغد، فغد يوم القيامة.
وقاله الضحاك وابن زيد وقالا: الأمس الدنيا، وغداً الآخرة.
ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وخافوه بإداء فرائضه واجتناب معاصيه، إنه خبر بجميع أعمالكم، فيجازيكم عليها، وكرر هذا اللفظ للتأكيد.
قال: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي تتركوا أمره ونهيه، فتعدوا حدوده.
{فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي أنساهم حظوظ أنفسهم / من عمل الخيرات، فعلى هذا القول الأول يكون النسيان الأول من الترك، والثاني من النسيان المعروف، وقيل مما من الترك، والمعنى تركوا أمر الله فتركه ثوابهم، وهو عند بعض أهل اللغة غلط، لا يقال أنسي عن الترك، وإنما يصح مثل هذا في قوله {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].
وقيل معنى فأنساهم (وجدهم كذلك)، كما يقال أحمدته، فيكون " أنفسهم "(11/7406)
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
على هذا تأكيداً، وعلى قول الأول مفعولاً به.
ثم قال {أولئك هُمُ الفاسقون} أي الخارجون عن طاعة الله ( عز وجل) .
قال {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} أي لا يعتدلون في الجزاء وفي النعيم.
{أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} أي الناجون مما حذروا.
{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا} أي: فكانت عقبى الشيطان والإنسان: الخلود في نار جهنم.
{وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} أي: فالخلود في النار جزاء الظالمين المنافقين واليهود [من] بني النضير ومن كان مثلهم.
والنصب في " خالدين " والرفع سواء عند سيبويه، لا يغلب النصب على الرفع لأجل تكرير الظرف.
ومذهب الفراء أن النصب أحسن، لئلا يلغى الظرف مرتين.
وألزم سيبويه من اعتل بتكرير الظرف أن يجيز النصب في قوله " عَلَيْكَ زَيْدٌ حَرِيصٌ عَلَيْكَ " فينصب حريص لتكرير الظرف، وهذا لا يجوز. /(11/7407)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
قال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله}.
أي: لو أنزل الله عز وجل هذا القرآن على جبل وهو حجر أصم لرأيته يا محمد على قساوته وشدته متذللاً متضرعاً حذراً من الآ يؤدي حق الله عز وجل المفترض عليه، وقد ا، زل على ابن آدم وَمعه فهم وإدراك وهو مستخف بحقه لاه عما فيه.
قال / قتادة: فعذر الله عز وجل الجبل الأصم ولم يعذر أشقياء بني آدم، فهل رأيتم أحداً تصدعت جوارحه من خشية الله سبحانه.
وقيل: المعنى: لو أنزلنا هذا القرآن (على جبل) على عظمته وشدته وجعلنا فيه ما يميز: لذل وخضع.
ثم قال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: نمثل لهم لعلهم يتفركون فيها فيعتبروا ويزدجروا.
قال: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة} أي: (الذي يتصدع(11/7408)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
الحبل له ويذل من خشيته) وهو الله الذي لا معبود تجب له العبادة غيره، يعلم السر والجهر وما غاب وما ظهر، وهو الرحمن الرحيم.
قال: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي: لا معبود بحق غيره.
{الملك القدوس} أي: الذي لا ملك فوقه، والقدوس في قول قتادة: المبارك.
وقيل: {القدوس} القدوس: المطهر مما نسبه إليه المشركون (والقدس: الطهر).
والأرض المقدسة: المطهرة.
وقرأ أبو الدينار الأعرابي: القَدوس بفتح القاف كسَمُّور وشَبُّوط.
وقوله: {السلام} أي: ذو السلامة من جميع الآفات.(11/7409)
وقوله: {المؤمن} أي: الذي أَمِن عباده من جَوره.
وقيل: معناه: اليذ يصدق عباده المؤمنين إذا شهدوا على الناس.
وقوله: {المهيمن} قال ابن عباس: هو الأمين، وعنه: الشهيد.
وقال أبو عبيدة: الرقيب الحفيظ.
وقال المبرد: أصله المؤيمن ثم أبدل من الهمزة هاء.
وقله: {العزيز الجبار} أي: ذو العزة والمنع، الذي يجبر خلقه على ما يشاء من " أجبر "، وهذا قول مردود، لأن " فعالاً " لا يكون من " أفعل " ولكنه من " جَبَرَ الله خلْقَه: إذا نَعَشَهُم ".
وقيل: هو من جبرت العظم: فجبر.(11/7410)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وقيل: هو من من تجبر النخل: إذا علا وفات اليد.
وقوله: {المتكبر} معناه العلي فوق خلقه.
وقال قتادة: المتكبر: تكبر عن كل سوء.
وقوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيهاً / له، وبراءة مما يقول المشركون.
قال: {هُوَ الله الخالق البارىء} أي: هو الله الذي خلق الخلق، وبرأهم فأوجدهم. {المصور} أي: الذي صورهم في الأرحام كيف يشاء.
وقيل: معنى خلق الخلق: قدره وبرأهم: سواهم وعدلهم، وصورهم بعد ذلك.
ثم قال: {لَهُ الأسمآء الحسنى} وهي تسعة وتسعون اسماً قد اختلف الناس فيها.
ثم قال: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض} أي: يصلي ويسجد له طوعاً وكرهاً كل ما في السماوات والأرض من الخلق.
{وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: العَزِيزُ في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه، وقيل حكيم بمعنى حاكم، وقيل بمعنى محكم.(11/7411)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
مدنية
{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} الآية.
أي: يأيها الذين صدقوا محمداً وما جاء به لا توالوا المشركين ولا تناصحوهم ولا تودوهم، يعني أهل مكة (وهم من) كفروا بما جاءكم من الحق، يعني القرآن.
{يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} يعني: من مكة من أجل إن آمنتم بالله ربكم.
{إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي} أي: إن كنتم على صحة ويقين اعتقاد أنكم خرجتم جهاداً مجاهدين في الله عز وجل، وابتغاء مرضاته سبحانه فلا تودوا المشركين وتناصحوهم وتسرون إليهم بالمودة.
{وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} أي: بسركم وعلانيتكم في مناصحتكم(11/7413)
وصحبتكم لهم وغير ذلك.
{وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أي: ومن يودهم وينصحهم فقد جار عن قصد الطريق المستقيم.
والباء في " بِالمَوَدَّةِ " زائدة عند الفراء، وهي متعلقة بالمصدر عند البصريين.
ويروى أن هذه الآية [نزلت] في شأن حاطب بن أبي بلتعة كان قد كتب إلى مشركي مكة يطلعهم على أمر النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه إليهم.
قال علي رضي الله عنهـ: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، قال فانطلقنا نتعادى(11/7414)
حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب، قالت ما معي كتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، وقال علي لها: والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل علي أني كنت أمراً ملحقاً إلى قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم، فأحببتُ إِذا فاتني ذلك النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمونني بها في قرابتي ولم أرد ارتداداً عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنه قد صدقكم، فقال عمر، دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: أما أنه شهد بدراً، فقال اعملُوا ما شئتم فقد غفرت لكم، قال سفيان:
فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} إلى قوله:(11/7415)
{سَوَآءَ السبيل} ".
ومعنى: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي: في المستقبل، وقد ذكر معنى هذا الحديث عروة بن الزبير وابن عباس وقتادة ومجاهد (أن مجاهداً قال: نزلت) في ابن بلتعة وقوم معه كتبوا إلى أهل مكة يحذرونهم.
ويروى: أنه كان في كتابه / إلى أهل مكة أن [رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم مثل الليل والسيل وأقسم بالله] لو غزاكم وحده لنصره الله عليكم فكيف وهو في جمع كثير.
ويروى: " أنه خاطب أهل مكة يخبرهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما حملك على هذا، فقال: والله يا رسول الله ما نافقت منذ أسلمت، ولكن لي بمكة أهل مستضعفون ليس لهم من يعرفهم ويذب عنهم، فكتبت كتابي هذا أتقرب به من قلوبهم وأنا أعلم أنه لا ينفعهم وأن الله بالغ أمره، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه،(11/7416)
وأراد عمر ضرب عنقه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
قال أبو حاتم: ليس من أولها وقف تام إلى {وَمَآ أَعْلَنتُمْ}.
وقال محمد بن عيسى: {أَوْلِيَآءَ} وقف، وقال غيره: إن جعلت {تُلْقُونَ} نعتاً " لأولياء " لم تقف على " أولياء " وإن جعلته مبتدأ وقفت على " أولياء ".
وقال القتبي: {بالمودة}: التمام.
[قال يعقوب]: و {وَإِيَّاكُمْ} وقف كاف.
وقال أبو حاتم: هو وقف بيان.
قال القتبي: هو تمام، ولا يصح هذا لأن " وَإِنْ تُؤْمِنُوا " معمولة(11/7417)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
" ليخرجون ".
ثم قال: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً} أي: أن يصادفكم هؤلاء الذين تودون إليهم بالمودة / يكونوا لكم حرباً، ويبسطوا إليكم أيديهم بالقتل وألسنتهم بالشتم، وودوا لو تكفرون فتصيرون مثلهم.
قال: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} أي: لن تنفعكم عند الله يوم القيامة أقرباؤكم ولا أولادكم الذين من أجلهم ناصحتم المشركين، وكتبتم إليهم بالمودة فيكون العامل في الظرف: ينفعكم.
وقيل: / العامل فيه " يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ " ومعنى يفصل بينكم؛ أي: يدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار.
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: ذو علم وبصر بجميع أعمالكم، وهو مجازيكم عليه فاتقوا الله في أنفسكم.
ثم قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ} الآية.
أي: قد كانت لكم أيُّها المؤمنون قدوة حسنة تقتدون بها في إبراهيم صلى الله عليه وسلم(11/7418)
خليل الرحمن عز وجل والذين معه.
قال ابن زيد هم الأنبياء إذ قالوا لقومهم يعني الكفار: {إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ} أي: متبرئون منكم ومما تعبدون من دون الله من الأصنام.
{كَفَرْنَا بِكُمْ} أي: أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر.
{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً} أي: وظهرت بيننا وبينكم العداوة والبغضاء على كفركم أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده فتفرده بالعبادة.
ثم قال: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ} أي: قد كانت لكم أسوة حسنة في هؤلاء المذكورين إلا في قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فإنه لا أسوة لكم في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو الله، وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يؤمن، فكان إبراهيم يدعو له ويقول: اللهم اهد أبي، فلما مات على الكفر تبرأ منه وهو قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وكذلك أنتم أيُّها المؤمنون يجب لكم أن تتبرءوا من أعداء الله المشركين به ولا تتخذوهم أولياء حتى يؤمنوا.
قال مجاهد: نُهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفروا لآبائهم المشركين، وهو معنى قول قتادة ومعمر وابن زيد.(11/7419)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
وقوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} استثناء ليس من الأول.
ثم قال: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} [أي: ما أدفع عنك عقوبة الله لك على كفرك، ثم قال:]
{رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير}.
أي: عليك توكلنا في جميع أمورنا، وإليك رجعنا وتبنا مما تكره إلى ما تحب وترضى.
{وَإِلَيْكَ المصير} أي: مصيرنا يوم القيامة.
قال: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} هذا كله حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام، أي: لا تعذبنا بأيدي الكافرين، ولا بعذاب من عندك فيفتتن الكفار ويقولون: لو كانوا على حق ما أصابهم هذا.
قال قتادة: معناه لا تظهر الكفار علينا فيفتتنوا بذلك.
وقال ابن عباس: معناه: لا تسلطهم علينا فيفتتنوا.
{واغفر لَنَا رَبَّنَآ} أي: أستر علينا ذنوبنا بعفوك عنها.
{إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي: أنت الشديد الانتقام من أعدائك، الحكيم في تدبيرك خلقك.(11/7420)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة.
ثم قال تعالى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي: القدوة بإبراهيم ومن معه إنما هي لمن آمن بالله ورجا ثوابه، وخاف عقابه، وآمن باليوم الآخر فهو بدل بإعادة الجار.
ثم قال: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي: ومن يتول عن الاقتادء بإبراهيم والأنبياء معه (صلى الله عليهم وسلم) فيخالف سيرتهم وفعلهم فإن الله هو الغني عن اقتدائه بهم، الحميد عند أهل المعرفة به.
قال: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً}.
[أي]: عسى الله أن يوفق من عاديتم فيه عن المشركين إلى الإيمان فتعود العداوة (مودة) ففعل ذلك سبحانه.
و {عَسَى} من الله: واجبة، فأسلم كثير منهم، وصاروا إخواناً لمن كان يعاديهم، وكانت المودة بعد الفتح وقبله.
(وروي: أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في أبي سفيان، جعل بينه وبين أبي سفيان مودة بأن تزوج ابنته أم حبيبة، بعد العداوة التي كانت بينهما وقبله).
قال ابن عباس: كانت المودة بعد الفتح، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة. /
{والله قَدِيرٌ} أي: ذو قدرة على ما يشاء.(11/7421)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو ستر على ذنوب من أناب وآمن وذو رحمة بهم أن يعذبهم على ذنوبهم بعد أيمانهم وتوبتهم منها.
قال: {لاَّ يَنْهَاكُمُ / الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ. . .} الآية.
قيل: أن هذه الآية إنما هي في الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا، سمح الله عز وجل للمؤمنين بالمدينة أن يبروهم ويحسنوا إليهم، فهي مخصوصة محكمة قاله مجاهد. وقيل هي منسوخة بآية السيف، قاله قتادة وابن زيد.
وقيل: هي مخصوصة في حلفاء بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد من المشركين لم ينقضوه، وهم خزاعة، قاله أبو صالح.
وقال الحسن: خزاعة وبنو عبد الحارث بن عبد مناف، فسمح لهم أن يبروهم ويحسنوا إليهم، ويفوا لهم بالعهد.
وقيل: الآية عامة محكمة في كل من بينك وبينه قرابة، جائز بره والإحسان إليه إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين وإن كان مشركاً، ولا يجب قتال من لم يقاتلك(11/7422)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
من الكفار حتى تدعوه إلى الإسلام فإن أبى فاقتله.
ثم قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين} الآية: إنما ينهاكم الله عن مودة من قاتلكم في الدين، وأخرجك من بيته في الدين، يعني بذلك كفار أهل مكة، قال مجاهد.
قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ} (من دار الحرب) {فامتحنوهن الله}.
أي: إذا جاءكم النساء مهاجرات من دار الحرب فامتحنوهن، وكانت محنة النبي صلى الله عليه وسلم لهن أن يحلفن بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس الدنيا، وبالله ما خرجت (إلا حباً لله ولرسوله). /
وعن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يمتحنهن بآخر السورة.
قوله: {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} إلى قوله: {مَعْرُوفٍ} ".(11/7423)
قالت: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وإذا لقررن بذلك قال لهن النبي صلى الله عليه وسلم إنطلقن فقد بايعتكن، قالت ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام، قالت فما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا ما أمره الله به.
وعن ابن عباس: أن المحنة كانت أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً (رسول الله).
وقال مجاهد: {فامتحنوهن}: سلوهن ما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن [أو سخط أو غيره، ولم يؤمن، فارجعوهن إلى أزواجهن].
قال قتادة: كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجهن النشوز وما أخرجهن إلا حب الإسلام (وأهله والحرص عليه)، فإن أقررن بذلك قبِل منهن.(11/7424)
وقال عكرمة: يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك، فذلك المحنة.
وروى ابن وهب عن رجاله أن قوله: " إِذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُهُنَّ ".
نزلت في امرأة حسان بن الدحداحة وهي أميمة بنت بشر امرأة من بني عمور ابن عوف، وأن سهل بن حنيف تزوجها حين فرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له عبد الله بن سهل، وأن قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} نزل في امرأة لعمر بن الخطاب تركها بمكة كافرة ولم يطلقها حتى نزلت هذه الآية فطلقها عمر فخلف عليها معاوية.
وقوله: {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي: أعلم بمن جاء للإيمان ممن جاء لغير ذلك.
ثم قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي: إن أقررن بالمحنة بما عقد عليه الإيمان فلا تردوهن إلى الكفار /، وإنما قيل ذلك للمؤمنين، لأن العهد كان بينهم وبين مشركي مكة إذ صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت في صلح الحديبية أن يرد(11/7425)
المسلمون إلى المشركين من جاء منهم إلى المسلمين مسلماً، فأبطل الله عز وجل ذلك الشرط في النساء غذا جئن مؤمنات ونسخه، وأمرهم ألا يردوا من جاء من النساء مؤمنة، وهذا من نسخ القرآن للسنة.
وقوله: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي: لا تحل المسلمة للكافر ولا الكافر للمسلمة.
ثم قال: {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} [أي وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ما أنفقوا] على النساء في الصداق، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما.
ثم قال: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: لا حرج عليكم أيُّها المؤمنون أن تنكحوا من جاءكم من المؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن.
وكان الزهري: يقول إنما أمر الله جل ذكره بِرد صدقاتهن إليهن إذا (حبسن عنهم) إذا هم ردوا على المسلمين من حبس عنهم من / نسائهم.
وقال الشافعي: {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} منسوخ، واحتج من قال بهذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن (ترد عليهم) صدقات النساء المهاجرات إليه، المؤمنات قد(11/7426)
شرط لهم رد النساء على كا حال، فأمر الله ألا يردهن إليهم غذا أتين مؤمنات، وجعل رد الصداق عوضاً من ردهن [ليتم] العهد الذي بينه وبين قريش، فإذا لم يكن عهد مثل ذلك في الرد وأتت امرأة من عند المعاهدين مؤمنة / لم يلزم أن يرد عليهم صداقها، فإن كان العهد مثل عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، لم يلزم أيضاً أن يرد عليهم صداقها، لأن الشرط في النساء قد أبطله الله، فهو منسوخ باطل ولا عوض للباطل، مع أنه لا يجوز أن يشترط / إمام في العهد رد النساء بحكم الله، وإذا لم يشترط ذلك فلم يلزم رد الصداق، لأن الصداق إنما كان عوضاً عن شرط قد وقع، ثم نزل القرآن بعده فنسخه، فإذا لم يجز عقد ذلك الشرط لم يجز العوض منه، فهو كله منسوخ بحكم الله عز وجل في منع رد النساء المؤمنات إليهم.
ومذهب مالك أن الصلح على رد الرجال إليهم جائز.
ومذهب الكوفيين أنه منسوخ ولا يجوز.
ثم قال: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} أي: لا تمسكوا بعقد نكاح الكوافر من غير أهل الكتاب، فهي مخصوصة.
وقيل هو عام نسخ منه أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5].(11/7427)
ولما نزلت هذه الآية طلق المؤمنون كل امرأة مشركة لهم في مكة، منهم عمر وغيره.
ثم قال: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} هذا خطاب للمؤمنين الذين ذهب نساؤهم إلى المشركين (فأمرهم الله أن يطلبوا صدقات نسائهم من المشركين ويدفعوا إلى المشركين صدقات من جاء من النساء مؤمنات، يعني من تزوج منهن في مكة أو في المدينة، فإذا تزوجت المهاجرة من عند المشركين بالمدينة وجب على زوجها [أن يرد الصداق على زوجها] الذي كان لها بمكة، وإذا تزوجت المرأة التي تخرج إلى المشركين بمكة وجب أن يطلب زوجها المؤمن صداقها الذي دفع إليها من المشركين.
قال ابن شهاب: أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل، فأدوا صدقات من تزوجوا ممن جاءهم من النساء مهاجرات مؤمنات، وابى المشركون أن يقروا بحكم الله سبحانه من أداء صدقات من تزوجوا من النساء اللواتي فررن إليهم من عند المسلمين، هذا معنى قوله.
وهذا حكم أطله الله عز وجل المؤمنين / عليه ولم يأمر به الكفار لأنهم لا يأتمرون(11/7428)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
(بهذا وهو مثل قوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5] فهو حكم أطلع الله عز وجل المؤمنين عليه) وإن كان الذين أوتوا الكتاب لا يأتمرون بذلك ولا يحلون لأنفسهم طعام المؤمنين.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي: هذا الذي حكمته بينكم هو حكم الله عز وجل فيكم وفيهم، فاتبع المؤمنون الحكم وامتنع منه المشركون، وطالبوا النبي وأصحابه برد النساء على ما عقد عليه العهد فلما امتنع المشركون من رد صدقات نساء المؤمنين أنزل الله جل ذكره.
{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ}.
هذا قول الزهري، فأمرهم الله عز وجل إذا غنموا من المشركين غنيمة، وصارت لهم على المشركين عقبى خير، أن يدفعوا إلى من ذهبت امرأته إلى المشركين صداقه الذي كان دفع إليها من الغنيمة إذ امتنع المشركون من رد الصداق.
وقال مجاهد وقتادة: هذا إنما هو فيمن فر من نساء المؤمنين إلى الكفار الذين(11/7429)
ليس بينهم وبين المؤمنين عهد ولا صلح.
ومعنى: {فَعَاقَبْتُمْ} أي: فأصبتم عقبى خير من غنيمة.
وقال الأعمش: هي منسوخة.
وقيل: معناه: أن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يعطوا لمن ذهبت زوجته إلى المشركين من صدقات المهاجرات إليهم من عند المشركين، فإن بقي في أيدي المؤمنين فضل من الصدقات ردوه إلى المشركين، هذا كله معنى قول الزهري.
وقال غيره: إنما أمروا أن يدفعوا إلى من ذهبت زوجته إلى المشركين من غنيمة وفيء إذا افتتح عليهم به، وهو قول (مجاهد وقتادة). وأكثر العلماء / على أن هذا الحكم منسوخ، لأنه إنما كان مخصوصاً في ذلك العهد بعينه.
قال الزهري: انقطع هذا يوم الفتح.
وقال قتادة: نسخ الله عز وجل هذا في سورة براءة. /
وقال الثوري: لا يعمل به اليوم.(11/7430)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
وعن عائشة رضي الله عنها: أن هذه الآية {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} لما نزلت كتب المسلمون إلى المشركين أن الله عز وجل قد حكم بكذا وكذا ونصوا الآية، فكتب إليهم المشركون: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به، فأنزل الله: " وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ. . . الآية.
قال:
{يا أيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ} الآية. أمر الله نبيه عليه السلام أن يقبل من جاءه من المهاجرات من عند المشركين إذا أقررن بأنهن لا يشركن بالله ولا يسرقن ولا يزنين.
وقوله: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} معنى: بين أيديهن: ما كان من قبله حرام أو حبسة أو أكل حرام.
ومعنى: بين أرجلهن: الجماع ونحوه من حرام.
وقيل: بين أيديهن: يعني ألسنتهن وأرجلهن: فروجهن.
وقيل معناه: ولا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهم.
{وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: يطعنك فيما تأمرهن به.(11/7431)
وقيل هو ألا ينُحْن، قاله ابن عباس، وقال أنس بن مالك.
وقال زيد / بن أسلم: هو ألا يخمشن وجهاً، ولا يشققن جيباً، ولا يدعون ويلا، ولا ينشدن شعراً.
قال قتادة: ذكر لنا " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة وأَلاَّ يحدثن الرجال إلا رجال ذَوُو محرم منهن ".
وروى ابن المنكدر: " أن نساء جئن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعنه فقال في ما استطعتن وأطقتن، فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ".
وهذه الشروط كلها ليست على الإلزام، إنما هي على الندب، لأن الإجماع على أنه ليس على الإمام أن يشترط هذا على من أتته مؤمنة، فدل هذا على أنه على الندب، وقد قيل أنه منسوخ بالإجماع.(11/7432)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
وقوله: {واستغفر لَهُنَّ الله} أي: سل الله لهن المغفرة. /
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو ستر على ذنوب من أمن وتاب من ذنوبه وذو رحمة به أن يعذبه بعد توبته.
قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} أي: لا توالوا اليهود {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} قد تركوا العمل لها وآثروا الدنيا.
وقيل: معناه: قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الأحياء من أمواتهم أن يرجعوا إليهم قاله ابن عباس والحسن.
(وقيل: معناه: كما يئس الكفار من الموتى من الآخرة، لذلك يئس هؤلاء اليهود من الآخرة).
وقال قتادة: معناه: قد يئس اليهود أن يبعثوا كما يئس الكفار أن يرجع إليهم من مات.
وقيل: المعنى: قد يئس اليهود أن يرحمهم الله عز وجل حين رأوا النار، وظهر لهم عملهم كما يئس الكفار أن يرجع إليهم من مات.(11/7433)
وقيل: المعنى: كما يئس الكفار الذين ماتوا أن يرحمهم الله عز وجل حين عاينوا ما عملوا، فكذلك يئس هؤلاء اليهود من رحمة الله سبحانه في القيامة، هذا معنى قول مجاهد وابن زيد وعكرمة.
وقيل: المعنى: كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. " فمن " على الأقوال للتعدية، وعلى هذه الأقوال لإبانة الجنس.(11/7434)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
مدنية
سورة الصف مدنية عند قتادة عند ابن عباس
قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الآيات [1 - 12].
معناه صلى وسجد لله طائعاً أو كارهاً ما في السماوات وما في الأرض.
{وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: العزيز في انتقامه ممن عصاه، الحكيم في تدبيره خلقه.
هذا تأديب وتوبيخ للمؤمنين، وروي عن ابن عباس أنهم كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد الجهاد لو نعلم (أحب الأعمال) إلى الله عز وجل لأتيناه ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا فلما كان يوم أحد(11/7435)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
تولوا عن النبي صلى الله عيله وسلم حتى شُج وكُسرت رباعيته، فَعَذلَهُم الله عز وجل على ذلك بهذه الآية.
قوله: {أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} " أَنْ " في موضع رفع بالابتداء، كما تقول نِعمَ رجلاً زيداً وفي موضع رفع على إضمار مبتدأ.
فالمعنى: لِمَ تقولون / قولاً ولا تصدقوه بالفعل، عظم المقت عند الله مقتاً قولكم / ما لا تفعلون.
وعن ابن عباس: أن ناساً من المؤمنين كانوا يقولون قبل فرض الجهاد لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إليه. إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين لم يقروا به، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المسلمين وشق عليهم أمره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.(11/7436)
وقال أبو صالح: قالوا لو كنا نعلم أيُّ الأعمال أحب إلى الله عز وجل وأفضل، فنزلت: [{يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إلى آخر السورة، فكرهوا فنزلت:] {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
وقال مجاهد: نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة، قالوا: في مجلس لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناها حتى نموت، فأنزل الله عز وجل فيهم هذا، فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيساً في سبيل الله عز وجل حتى أموت فقُتِل شهيداً رحمه الله.(11/7437)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وقال قتادة: بلغني أنها نزلت في الجهاد، كان الرجل يقول: قاتلت وفعلت ولم يكن فعل، فوعظهم الله عز وجل في ذلك أشد موعظة، وهو قول الضحاك.
وقال ابن زيد: نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون. فيكون التقدير على هذا القول: يأيها الذين حكم لهم بحكم الإيمان.
قال: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} المحبة من الله عز وجل قبول الأعمال، والإثابة عليه، أي: إن الله يقبل عمل الذين يقاتلون أعداءه على الدخول في دينه مصطفين كأنهم بنيان مرصوص، كأنهم في اصطفافهم حيطان مبنية / قَدْ رُصَّ بناؤها وأحكم في استوائه.
وقيل: {مَّرْصُوصٌ}: بني بالرصاص.
قال قتادة: لا يحب صاحب البنيان أن يختلف بناؤه، كذلك تعالى ذكره لا يختلف أمره.(11/7438)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قال ابن زيد: هؤلاء الذين صدقوا قولهم بأعمالهم، والأولون قوم لم يصدقوا قولهم بأعمالهم، لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه وتخلفوا.
وقيل: أن الآية تدل على أن القتال راجلاً أحب إليه من القتال فارساً.
قال: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ}.
واذكر يا محمد إذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون حقاً أني رسول الله إليكم.
{فَلَمَّا زاغوا} أي: عدلوا عن الحق، وجاروا عن الهدى، أزاغ الله قلوبهم؛ أي: أمالها عن الحق، وقيل عن الثواب.
وقال أبو أمامة: هم الخوارج.
وعن سعد بن أبي وقاص: هم الحَرُورِية.
ثم قال: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} (أي: لا يوفق للصواب) من خرج عن الإيمان إلى الكفر.
قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم}.(11/7439)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
أي: واذكر يا محمد إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم {مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} أي: لما نزل قبلي من التوراة على موسى ومبشراً لكم (برسول من الله) إليكم يأتي من بعدي اسمه أحمد.
ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: فلما جاء أحمد لبني إسرائيل بالعلامات الظاهرات الدالات على نبوته، قالوا هذا الذي جئتنا به سحر ظاهر، ومن قرأ " ساحر " فمعناه: قالوا هذا الذي جاءنا هو ساحر بين.
قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي: لا أحد أظلم ممن اخترق على الله سبحانه الكذب، وهو قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ساحر وشاعر إذ دعاهم إلى الإسلام، يقولون له ذلك حين دعاهم إلى الدخول في الإسلام.
ثم قال: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: لا يوفقهم إلى الهدى.
قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} أي: يريد هؤلاء القائلون بمحمد صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام ساحر وشاعر ليبطلوا الحق الذي جاءهم به من عند الله عز وجل بقولهم إنه ساحر وأن ما جاء به سحر. /(11/7440)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
ثم قال: {والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي: مُعل دينه على سائر الأديان، ومظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على من عاداه، وعنى بالنُّورِ هنا الإسلام، ولو كره ذلك الكافرون بالله سبحانه فلا بد له من إمضاء مراده في إعلاء كلمته.
قال: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي: الله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، وهو بيان الحق ودين الحق، وهو دين الله عز وجل يعني به الإسلام.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي: ليظهر دينه وهو الإسلام على الأديان كلها ويعليه، وذلك فيما روي عند نزول عيسى / صلى الله عليه وسلم تصير الملة واحدة، فَلاَ يكون دين غير دين الإسلام.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنهـ أنه قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} هو خروج عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى، قالت: فقلت يا رسول الله إن كنت لأَظن حين أنزل الله عز وجل(11/7441)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أن: ذلك سيكون تاماً، فقال أنه سيكون ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله عز وجل ريحاً طيبة فيتوفى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من خير، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم ".
أي: ينجيكم قبولها والعمل بها من عذاب مؤلم، أي: موجع، ثم بين التجارة ما هي، فقال:
{تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أي: تدومون على الإيمان بالله ورسوله، وتجاهدون أعداء الله بأموالكم وأنفسكم.
ويروى أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لوددنا أن نجد عملاً نعمله يدخلنا الله به الجنة، فنزلت الآية.
ثم قال: {ذَلِكُمْ / خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: قبول ذلك وفعله خير لكم عاقبة إن كنتم تعلمون حسن العاقبة من سوئها.
قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جزم " يغفر " لأنه جواب لتؤمنوا بالله لأنه بمعنى الإلزام كأنه قال: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم يغفر لكم ذنوبكم، أي: يسترها عليكم فلا يعاقبكم عليها.(11/7442)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
وفي حرف عبد الله: {آمَنُواْ} على الأمر.
وقال الفراء: / {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب الاستفهام في قوله: " هَلْ أَدُلُّكُمْ " وهو خطأ، لأنه ليس بالدلالة تجب المغفرة، إنما تجب بالقبول والعمل.
وقد قال علي بن سليمان: " تؤمنون " عطف بيان على " تجارة ".
وقيل: هو مبين عن تجارة، كعطف البيان في الأسماء التي تشبه البدل وهذا قول حسن، فيكون " يغفر " جوابا بالاستفهام (كأنه قال: " بدل تؤمنون ").
وتجاهدون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: في بساتين إقامة أبداً.
{ذَلِكَ الفوز العظيم} أي: ذلك الذي تقدم وصفه لمن آمن وجاهد هو النجاح العظيم خطره.
قوله: {وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} إلى اخر السورة الايات(11/7443)
[13 - 14]، أي: وهل أدلكم على خلة أخرى تحبونها هي نصر من الله لكم على أعدائكم، وفتح لكم قريب، " فأحرى " في موضع خفض عطفاً على " تجارة " عند الأخفش.
وقال الفراء: هي في موضع رفع، والتقدير: ولكم خلة أخرى، وهو اختيار الطبري لأجل رفع " نصر " و " فتح " على البدل من " أخرى "، فيكون المعنى على قول الفراء أنه وعدهم على إيمانهم وجهادهم بخلتين: واحدة في الآخرة وهي غفران الذنوب ودخول الجنات والمساكن الطيبات في جنات عدن، والأخرى في الدنيا، وهي النصر والفتح والغنيمة، فتقف على مذهب الأخفش على {تُحِبُّونَهَا} وتبتدئ {نَصْرٌ مِّن الله}، أي: هو نصر، ولا تقف على قول الفراء، لأن (نصراً بدلٌ) من " أخرى ".
ثم قال: {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي: وبشر يا محمد المؤمنين بنصر من الله لهم وفتح عاجل.(11/7444)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله} أي: لأنبيائه ولأوليائه ولدينه، ومن أضاف " أنصاراً " إلى الله احتج بقوله: " نَحْنُ أَنْصارُ اللهَِّ " وهو اختيار أبي عبيد. فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه.
وفي حرف عبد الله: " أَنْتُمْ أَنْصارَ اللهَِّ " بالإضافة والإيجاب، وأيضاً فإنه جمع مكسر، وليس مثل ضاربين فيعمل ويُنَون، فكانت إضافته أولى، ومن لم يضف قال بينهما فرق، لأن الأول يراد به الاستقبال فهو مشابه لاسم الفاعل.
وحقُّه إذا أريدَ به الاستقبال التنوين، والثاني أمر قد كان، فلذلك أجمع فيه على إضافته.
وقوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} الكاف من " كَمَا " في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، والتقدير كونوا كونا [كما].
وقيل: هي نعت للأنصار، أي: كونوا أنصاراً مثل أنصار عيسى.
قال قتادة: كانت لله أنصار من هذه الأمة تجاهد على كتابه وحقه.
ذكر لنا أنه " بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اثنان وسبعين رجلاً من الأنصار، وذكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل، إنكم تبايعونه على محاربة(11/7445)
العرب كلها ويسلمون، وذكر لنا أن بعضهم قال يا نبي الله اشترط لربك ولنفسك / ما شئت، فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبي الله، قال لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، ففعلوا، ففعل الله عز وجل بهم ذلك ".
قال معمر: قال الحواريون يعني من أصحاب محمد، نحن أنصار الله، قال كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وجعفر وحمزة وعثمان بن مظعون رضوان الله عليهم.
قال مجاهد: من أنصاري إلى الله: من يتبعني إلى الله.(11/7446)
قال ابن عباس: سموا حواريين لبياض ثيابهم.
وقال الضحاك: الحواريون هم الغسالون بالنَّبَطية، فيكونون على هذا في قوله " قالَ الْحَوارِيُّونَ " يعني به حواري عيسى.
قال الضحاك: هم غسالون مَرَّ بهم عيسى فآمنوا واتبعوه.
وقيل: الحواريون: صفوة الأنبياء، ومنه قيل لما يختار من صفو الدقيق وخالصه: حَوَارَى.
وقال القتبي: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي: مع الله، وهذا عند بعض العلماء لا يجوز كما لا يجوز " قمت إلى زيد " بمعنى " مع زيد " و " إِلى " على بابِها، ومعناه: من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي، فالمعنى: قال الحواريون نحن أنصار أنبياء الله على ما بعثهم به من الحق.
ثم قال تعالى: {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} يعني: بعيسى.
قال ابن عباس: لما أراد الله جل ذكره أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى(11/7447)
أصحابه وهم اثنا عشر في بيت، فخرج إليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال لهم: إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيُّكم يلقى عليه شبهي فيقتل في مكاني ويكون معي في درجتي، قال فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال أنا، فقال أجلس ثم أعاد عليهم /، [الثالثة]، فقال أنا قال نعم أنت ذلك، فألقى عليه شبه عيسى ورفع عيسى من زاوية في البيت إلى السماء، قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبهه، فقتلوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا ثلاثة فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية، وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفع إليه وهم النسطورية، وقالت فرقة كان عبد الله ورسوله ما شاء فينا ثم رفعه إليه وهم المسلمون، فتظاهرت الفرقتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعثه الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرت طائفة به.
وقيل: آمنت طائفة بعيسى صلى الله عليه وسلم وكفرت أخرى به.(11/7448)
ثم قال: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} يعني: إظهار دين محمد على دين الكفرة.
قال قتادة: فتفرقوا أربع فرق بعد عيسى، قالت طائفة هو الله وهم اليعقوبية. وقالت طائفة منهم هو ابنه (تعالى عن ذلك وجل) وهم الإسرائيلية.
وقالت طائفة منهم: أمه الإله وهو الله وهم النسطورية، وقالت طائفة منهم: وهو عبد الله ورسوله، وهم المسلمون.
ثم قال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} أي: قويناهم بالحجة الظاهرة أن عيسى روح الله وكلمته.
قال قتادة: الفرقة المسلمة للفرق: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل وأن الله لا يأكل.
وقيل: المعنى: فقوينا الذين آمنوا من بني إسرائيل على عدوهم الذين كفروا(11/7449)
منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بتصديق محمد عليه السلام إيّاهم أن عيسى / عبد الله ورسوله، وتكذيبه من قال خلاف ذلك.
{فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} أي: فأصبحت الطائفة المؤمنة مستعلية بالحجة والبرهان على الكفار.
قال النخعي: أصبحت حجة من آمن بعيسى صلى الله عليه وسلم ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم لهم بأن عيسى روح الله وكلمته.
وقيل: فأصبح من آمن مع عيسى عالياً على من كفر به.
يقال: ظهرت على الحائط بمعنى: علوت عليه.(11/7450)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ
المجلد الثاني عشر
الجمعة - الناس
1429 هـ - 2008 م(11/7451)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعة
مدنية
/ قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}، آخر السورة.
أي: يصلي ويسجد لله ما في السماوات السبع وما في الأض من الخلق طوعاً وكرهاً. و " يسبح " للحال.
وقوله: {الملك القدوس}.
أي: الذي له ملك كل شيء [الطاهر] من كل ما يضيفه إليه(12/7453)
المشركون.
{العزيز الحكيم}.
أي: الشديد في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خَلْقَه.
- ثم قال تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً (مِّنْهُمْ)}.
أي: الله الذي بعث في العرب -[الذين] لا كتاب عندهم من عند الله - رسولاً منهم، يعني [محمداً] صلى الله عليه وسلم.
قال ابن زيد: " سميت أمة محمد أميين لأنه لم ينزل عليهم كتاباً قبل القرآن ".
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ(12/7454)
نَحْسُبُ " وذكر الحديث.
[و] إنما قيل، [للذي] لا يكتب: " أمي "، لأنه نسب إلى أمه، كأنه كما ولد.
وقيل: نسب إليها في أكثر الأحوال لا تكتب.
وقيل: إن [الأميين] إنما نسبوا إلى أم القرى، وهي مكة.
- وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}.(12/7455)
أي: يقرأ عليهم كتاب الله وَيُطَهِّرُهم من دَنَس الكفر ويُمَنِّيهِم بالثواب إذا قبلوا منه واتبعوه.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب}.
أي: القرآن.
{والحكمة}: التفقه في الدين. وقيل: الكتاب: القرآن وما فيه من حلال وحرام. والحِكْمَةُ: (السُّنَةُ. قاله) قتادة.
- ثم قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
أي: وقد كان هؤلاء (الأميون) - من قبل محمد إليهم - في جور ظاهر عن قصد السبيل وعن الهدى والرشاد. وتقديره [في] [العـ]ـربية: وما(12/7456)
كانوا من قبل بعث محمد إلا في ضلالٍ (مبين)، (هذا مذهب سيبويه، وتقديره عند الكوفيين). وإنهم كانوا من قبل بعث محمد لفي ضلالٍ مبين.
- ثم قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}.
{وَآخَرِينَ}: عطف على الأميين، أي: بعث في الأميين وفي آخرين منهم، " فهم " في موضع خفض، وقيل: " هم " في موضع نصب عطف على الهاء والميم في " يُعَلِّمْهُمُ " أو في: " يُزَكَّيهِمْ "، أي: ويعلم آخرين (مِنهُم الكتاب والحكمة،(12/7457)
أي: ويزكي آخرين منهم، قال مجاهد: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}) عنى به العجم لأنهم أميون أيضاً، وكذلك قال ابن جبير.
قال أبو هريرة: " لمَّا نَزَلَ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ( بِيَدِهِ) عَلَى [سَلْمَانَ] / وَقَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالثُّرَيَّا(12/7458)
لَنَالَهُ هَذَا وَأَصْحَابُهُ ".
وعن مجاهد: " {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}: هم كل من ردف الإسلام من الناس كلهم ".
وقال ابن زيد: هؤلاء كل من كان بعد النبي عليه السلام إلى يوم القيامة (كل من دخل في الإسلام من العرب والحجم.
وقال الضحاك: " كل من آمن وعمل صالحاً إلى يوم القيامة ").
وقال ابن عمر في أهل اليمن: " أَنْتُمْ هُمْ.(12/7459)
ومعنى: {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}.
أي: لم يَحْيَوْا بَعْدُ [وَسَيَحْيَوْنَ].
ثم قال: {وَهُوَ العزيز الحكيم}.
أي: وهو العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه.
ثم قال: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل}.
أي: هذا الذي تقدم من الخبر على إرسال محمد إلى الأميين وغيرهم هو فضل من الله تفضل به عليهم، لأنه يؤتي فضله من يشاء من عباده، ولا يستحق الذم ممن حرمه إياه لأنه لم يمنعه حقاً هو له، ولكنه (علم) من هو له أهل(12/7460)
فأودعه (إياه). وعن ابن عباس أن الفضل هنا: الدين.
- ثم قال تعالى: {والله ذُو الفضل}.
أي: والله ذو الفضل العظيم على جميع خلقه المحسن منهم والمسيء.
- ثم قال تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}.
أي: مثل الذين ألزموما العمل بما في التوراة فلم يقوموا به ولا وفوا بما ألزموما فيها من الإيمان بمحمد وغير ذلك من فروضها. يعني بني إسرائيل والنصارى.
- {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً}.
أي يحمل كتباً من العلم لا ينتفع بها ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة فيها بيان أمر محمد وبعثه والأمر بالإيمان به، فلم ينتفعوا بذلك ولا وفوا به، فصاروا في عدم الانتفاع بذلك مثل الحمار الذي يحمل أسفاراً. أي: كتباً بها العلم.(12/7461)
والحمل في هذا من الحمالة وليس من الحمل على الظهر ولا في الصدر، أي تحملوا العمل بما فيها فلم يفوا بذلك. ومثله: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا. . . وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72]. في الأحزاب، ومثله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] وهو كثير. فأما قوله: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ} فهو من الحمل على الظهر.
قال الضحاك: " الكتاب بالنبطية يسمى سِفْراً ".
- ثم قال: {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله}.
(أي: بئس هذا المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) وحججه.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}.
لا يوفقهم (إلى) الهدى عقوبة لهم بكفرهم.
- ثم قال تعالى: {قُلْ يا أيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ(12/7462)
الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت}.
أي: قل - يا محمد - لليهود: إن كنتم تزعمون أنكم أولياء لله من دون المؤمنين فتمنوا الموت إن كنتم محقين في قولكم: إنكم أولياؤه، فإن الله لا يعذب أولياءه، بل يكرمهم [وينعمهم]، فيستريحون من تعب الدنيا وكربها إلى النعيم.
- ثم قال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ (أَبَداً) بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ}.
(أي): ولا يتمنى - محمد - اليهودُ الموتَ أبداً لمعرفتهم (بما) قدمت أيديهم من الآثام {والله عَلِيمٌ بالظالمين}.
- ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ}.
أي: قل لليهود - يا محمد -: إن الموت الذي تهربون منه وتكرهونه - لما قدمت أيديكم من الآثام - لا بد أن يحل بكم {ثُمَّ تُرَدُّونَ} - إذا متّمْ - {إلى عَالِمِ الغيب والشهادة}، أي: إلى الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم ما ظهر من ذلك، ويعلم ما أسررتم من أعمالكم وما أظهرتم فيجازيكم(12/7463)
عليها ويخبركم بالذي كنتم تعلمون.
ودخلت الفاء في قوله: " فإنه " لتقدم " الذي " وإن كان نعتاً، لأن النعت هو المنعوت في المعنى. و " الذي " فيه إبهام، فشابه الشرط بالإبهام الذي فيه، فدخلت الفاء في خبر " إن " لكون اسمها فيه إبهام كما تدخل في جواب الشرط، لأن خبر " إن " كجواب الشرط، فلما شابهه من الإبهام الذي في " الذي " دخل فيه ما يدخل في جواب الشرط.
وقد قيل: إن الخبر ل " إن " هنا هو جملة من ابتداء وخبر، والتقدير: قل إن الموت هو الذي تفرون منه.
- ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله}.
أي: إذا سمعتم النداء إلى الصلاة في يوم الجمعة) فامضوا إليها، وهو الآذن الذي يكون عند قعود الإمام على المنبر للخطبة.(12/7464)
وقد قرأ ابن مسعود وعمر بن الخطاب: " فَامْضُُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ ".
والسعي: [العمل] لا السرعة في المشي، دليله (قوله): {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى} [عبس: 8] و: {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} [النازعات: 22] و: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض} [البقرة: 205] / {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} [الصافات: 102] كل هذا ليس يراد به سرعة مشي ولا جَرْيٌ، إنما هو العمل. ويزيد في بيانه قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] أي: إن عملكم لمختلف.(12/7465)
قال الحسن وقتادة: فاسعوا بالنية والإرادة.
قال قتادة: " السعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المضي إليها "، وهو قول عكرمة.
(وقال) ابن زيد: إذا سمعتم الداعي الأول فأجيبوا إلى ذلك.
قال: ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذان إلا الأذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصلاة. قال: وهذا الآخِر شيء أحدثه الناس بَعْدُ في(12/7466)
زمان عثمان رضي الله [عنه] فلم ينكره أحد من الصحابة، وذلك حين كثر الناس وتباعدت الدور من المسجد، فمضى عليه العمل. ولا يحل البيع بعد سماع النداء الذي يكون بين يدي الإمام عند الخطبة، وهو قوله: {وَذَرُواْ البيع}.
أي: دعوا البيع والشراء إذا نودي للصلاة عند الخطبة (يوم الجمعة).
والذكر هنا هو موعظة الإمامِ الناس في خطبته، قاله ابن المسيب وغيره.
- ثم قال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي: سَعْيُكم إليها وتركُ البيع والشراء خير لكم في عُقْبَاكُمْ إن كنتم تعلمون مصالِحَ أنفسكم ومضارَّها، وقد قال الضحاك والحسن وعطاء: إذا زالت(12/7467)
الشمس يوم الجمعة حَرُمَ البيعُ والشراءُ حتى تُقْضَى الصلاة، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهـ يمنع الناسَ البيعَ يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة.
وقال مالك: يفسخ البيع إذا وقع في هذا الوقت المنهي عنه، ولم ير الشافعي فسخه لأن الآية ليس فيها فسخة، فقيل له: أرأيت نكاحَ [المُحْرِمِ] ونكاحَ الشِّغَارِ يُفسخان إذا وقعا؟ [فقال: نعم]، قال: فكيف [تفسخهما] وليس في(12/7468)
الحديث ذكر الفسخ إذا وقعا؟! إما فيه النهي عن ذلك كما في الآية النهي عن البيع، فكما لا اختلاف في فسخ النكاح - وإن كان الحديث لم يتضمن ذكر الفسخ - كذلك هذا. وقد ذهب قوم إلى أن البيع جائز في ذلك الوقت، وتأولوا أن الآية على الترغيب لا على الإلزام، واستدلوا (على ذلك) بقوله بعد ذلك: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}. فلما قال {خَيْرٌ لَّكُمْ} دل على أنه على الترغيب. وهذا غلط، لو جاز هذا لكان قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] على الترغيب لا على الإلزام، وهذا كفر من قائله.
فإن أعتق أو أنكح بعد الأذان يوم الجمعة لم يفسخ، لأنه ليس من البيع الذي نص الله [عليه]، [ولأنه] أمر نادر غير دائم كالبيع الذي هو دائم(12/7469)
منتظر، ولأن القوم إنما خرجوا من خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى العير التي أتت من الشام ليَرَوْهَا ولِيَشتروا [مما] جاءت به، فعوتبوا على ذلك ونزل تحريم البيع الذي أخرجهم من خلف النبي عليه السلام.
قال جابر: " أَقْبَلَتْ عِيرٌ بِتِجَارَةٍ يَوْمَ الجُمعةِ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فانصرفَ الناسُ يَنْظُرُونَ، وبَقِيَ رسولُ الله (يخطب) فِي (اثْنَيْ) عَشَرَ رَجُلاً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ ".(12/7470)
فالجمعة لازمة لكل حر محتلم، وغسلها سنّة على كل محتلم وقت الرواح إليها.
ولا جمعة على المسافر ولا على النساء، فإن (حضرن) وصلين مع الناس ركعتين أجزتهن عن الظهر.
وكان ابن مسعود يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول: أخرجن إلى بيوتكن (خيراً لكن. وجائز للمسافر السفر) يوم الجمعة ما لم يحضر الوقت عند(12/7471)
مالك، ومنعه جماعة من ذلك حتى يصلي الجمعة.
والجمعة يجب أن يأتيها من كان على ثلاثة أميال فأقل من المسجد عند ملك.
وعن الزهري: من كان على (مسافة ستة) أميال فأقل يجب عليه الإتيان. وقيل: لا يجب إلا على من سمع النداء، روي (عن) عبد الله بن عمر وسعيد بن(12/7472)
المسيب وبه قال أحمد بن حنبل، لأنه قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} فدل على أن ذلك على من سمعه أو كانَ في موضع يمكن أن يسمعه.
وقال أصحاب الرأي: تجب الجمعة على أهل المصر، من سمع النداء ومن لم يسمع.
وقال ابن المنكدر والزهري: تجب الجمعة على من كان على أربعة أميال.(12/7473)
وروي عن أبي هريرة: أن الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.
وقال أبو العالية والحسن: (هي) (عند) زوال الشمس.
وقالت عائشة رضي الله عنها: هي عند إذان المؤذن لصلاة الجمعة.(12/7474)
وعن الحسن أيضاً أنها ما بين خروج الإمام إلى أن [تقضى] الصلاة.
وقال أبو بردة: هي عند نزول الإمام.
وقال أبو السوار: هي ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة.
وعن أبي ذر: أنها بعد زيغ الشمس شبراً إلى ذراع من يوم الجمعة.
وعن جماعة/ من العلماء: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.(12/7475)
- ثم قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة}.
أي: إن شئتم، (وهذه) رخصة بعد [خطر]. وقد روى أنس أن النبي عليه السلام قال: " {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} لَيْسَ بِطَلَبِ دُنْيَا وَلَكِنْ عَبَادَةُ مَرِيضٍ وَحَضُورُ جَنَازَةٍ وَزِيَارَةُ أَخٍ في الله ".
وقوله: {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
اي: اذكروه بالحمد والشكر على ما وفقكم له لعلكم تنجون وتبقون في(12/7476)
النعيم الدائم.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا}.
التقدير عند المبرد: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهواً انفضوا إليه (ثم حذف وأخر ضمير الأول.
والمعنى: إذا رأوا ذلك أسرعوا إليه) وتركوك قائماً تخطب. يوبخ المؤمنين بذلك من فعلهم (إذ) خرجوا عن رسول الله - وهو يخطب - لرؤية العير التي أتت من (الشام) وكانت تحمل زيتاً (أتى) به دحي بن (خليفة)(12/7477)
من الشام.
قال الحسن: أصاب الناس جوع و (غلاء) سعر، فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فخرجوا إليها.
واللهو (هنا): ما يصنع عند النكاح من الدف. وقيل: وهو الطبل.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة}.
أي: ما عنده من الثواب والأجر خير من ذلك لمن جلس واستمع الخطبة.
{والله خَيْرُ الرازقين}.
أي: خير رازق، فارغبوا إليه في توسعة الرزق.(12/7478)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
مدنية
قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}. إلى آخر السورة.
أي: إذا جاءك - يا محمد - المنافقون فأقروا أنك رسول الله، فالله يعلم أنك لرسوله، ولكن الله يشهد أن المنافقين لكاذبون في ما أظهروا إليك من الإقرار، لأن باطنهم على خلاف ما أظهروا. وأعيد ذكر الله ثانية ولم يضمر للتفخيم(12/7479)
والعظيم.
ثم قال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ (جُنَّةً)}.
أي: جعلوا ما أظهروا من الإيمان جُنَّةً يمتنعون به من القتل والسبي، هي الإيمان المذكورة في سورة براءة، وهو حلفهم بالله [ما قالوا، وحلفهم]: {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56].
قال الضحاك: هي حلفهم بالله إنهم لمنكم.
ومعنى {جُنَّةً} سُتْرة يستترون بها كما يستتر [المستجن] بِجُنَّتِه في الحرب، فامتنعوا بأيمانهم من القتل والسَّبْيِ.
- ثم قال تعالى: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}.(12/7480)
أي: فمنعوا أنفسهم ومن اتبعهم من الناس عن الإيمان.
- {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
أي: بئس عملهم.
- ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ}.
أي: ذلك الحلف والنفاق من أجل أنهم آمننوا بألسنتهم ثم كفروا بقلوبهم، فختم الله على قلوبهم، {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} صواباً من خطأ، ولا حقاً من باطل لغلبة الهوى عليهم.
وأعلمنا الله جل ذكره في هذه الآية (أن) النفاق كُفْرٌ، بقوله: {ثُمَّ كَفَرُوا}.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}.
العامل في " (إذا) " من قوله [{إِذَا جَآءَكَ}] و {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} وشِبْهِه: الفعلُ الذي بعدهما. وفيهما معنى المجازاة، للإبهام الذي فيهما، وإذا كان فيهما معنى المجازاة لم يضافا إلى ما بعدهما. وإذا لم يضافا فأحسنُ أن يعمل ما بعدهما فيهما، إلا أنه لا(12/7481)
يُختار أن يُجْزَما للتوقيت الذي فيهما. ففارقا به معنى حروف الشرط من وجه، فقبح العمل في اللفظ، وحسن العمل في المعنى دون اللفظ للإبهام الذي فيهما، فإن قدرتهما مضافين إلى ما بعدهما، لم يعمل فيهما ولا عملاً فيه في لفظ ولا معنى.
والمعنى: وإذا رأيت - يا محمد - هؤلاء المنافقين تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورتها {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} كما تسمع كلام غيرهم من أهل الإيمان فتظنه حقاً.
- {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
أي لاخير عندهم ولا علم، إنما هم صور وأشباح [بلا فهم] ولا علم ولا عقل.
ثم قال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}.(12/7482)
(أي) يظنون - من جبنهم وسوء ظنهم - كل مصيحة يسمعونها أنها عليهم. وقيل: المعنى: يحسبون كل صائح يصيح أنه يقصدهم، لأنهم (على) وجل من إظهار الله (ما أخفوا) من من النفاق فيهتك سترهم ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي [ذراريهم] وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم كلما نزل وحي على النبي ظنوا أنه في أمرهم وفي هلاكهم وعطبهم.
- ثم قال تعالى: {هُمُ العدو فاحذرهم}.(12/7483)
أي: هم الأعداء لك - يا محمد - (وللمؤمنين)، فاحذرهم.
- ثم قال تعالى: {[قَاتَلَهُمُ] الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
أي: عاقبهم الله فأهلكهم فصاروةا بمنزلة من قتل، من أين يص (رفو) ن/ عن الحق بعد ظهور البراهين والحجج.
- ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ}.
أي: وإذا قال المؤمنون لهؤلاء المنافقين: تعالوا: إلى رسول الله [يستغفر لكم الله]، تولوا وأعرضوا وحركوا رؤوسهم وهزوها استهزاءً برسول الله وباسغفاره {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}.
ومن شدد {لَوَّوْاْ} فمعناه أنهم [كرروا] هز رؤوسهم وتحريكها. وهذه(12/7484)
الآيات - فيما رُوي - نزلت في عبد الله بن أُبيّ بن سلول المنافق. وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا علىمن عند رسول الله حتى ينفضوا (وقال): لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسمع ذلك زيد بن أرقم فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ( فدعاه النبي فسأله) عن ذلك فحلف ما قاله. فقيل له: لو أت (يت) النبي صلى الله عليه وسلم فسألته أن يستغفر لك. فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاءً. يعني بذلك أنه غير فاعل ما قالوا له. ففيه نزلت هذه السورة.(12/7485)
- ثم قال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}.
[أي] مُسْتَوٍ الاستغفار منك - يا محمد - لهم وتركه، لأن الله لا يغفر لهم؛ لأنهم على كفرهم مقيمون، وإنما المغفرة للمؤمنين.
(وكن النبي) صلى الله عليه وسلم قد استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام.
- ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}.
أي: لا يوفق القوم الذين خرجوا عن طاعته.
" قال ابن عباس: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية: نزلت بعد الآية (التي) في " براءة "، قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سوف أستغفر لهم زيارة على سبعين، فأنزل الله هنا {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية " فلم يبق للاستغفار لهم وجه.(12/7486)
ثم قال تعالى: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ}.
هذا قول [عبد] الله بن أُبَيْ لأصحابه المنافقين، [قال (لأصحابه]: لا تنفقوا على المهاجرين حتى {يَنفَضُّواْ}: يتفرقوا عن محمد.
- ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض}.
(أي): جميع ما فيهما، وبيده مفاتيح خزائن كل شيء، لا يعطي أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه، ولا يمنع أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه.
ثم قال: {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ}.
(أي: لا يفقهون) أن كل شيء بيد الله تحت قدرته. فلذلك يقولون هذا.
- ثم قال: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل}.
أي: يقول هؤلاء المنافقون: لئن رجعنا إلى مدينتنا ليخرجن منها العزيز [الذليل].(12/7487)
وحكى الفراء: " لَيَخْرُجَنَّ [الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] " [بنصب] " الأذل " على الحال وفتح الياء وضم [الراء من " ليخرجن "]، وهو بعيد.
وقد أجاز يونس: مررت به [المسكين] بالنصب على الحال.(12/7488)
(وحكى سيبويه: دخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ، بالنصب على الحال)، وهذه أشياء شاذة لا يقاس عليها القرآن.
- ثم قال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
أي: ولله العزة والشدة ولرسوله والمؤمنين.
{ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ}.
(أي): لا يعلمون ذلك.
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أُبيِّ كان من المؤمنين حقاً، وأنه لما [أُتِيَ] بأبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوبخه على ما بلغه، فأنكر ذلك عبد الله وحلف، قال له(12/7489)
ولده (عبد الله): [والله، لا تمر] حتى تقول: إنك الأذل، وإن رسول الله الأعز. فلم يمر حتى قالها.
" وروي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول لله، بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ الهِ أَبي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فُمُرْنِي، فَأَنَا أَحْمِلُ لَكَ رَأْسَهُ. فَوَاللهِ، لَقَدْ عَلِمَتِ الخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بِكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللهِ: نَرْفُقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا. [ثُمَّ(12/7490)
كَانَ] بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَحْدَثَ حَدَثاً عاقَبَهُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ. وَكَانَ عُمَرُ قَدْ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ (فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ) - لمَّا تَوَلَّى قَوْمُهُ عُقُوبَتَهُ - كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ؟! أَمَا وَاللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ [لأَرْعَدَتْ لَهُ] آنُفٌ لَوْ أَمَرْتُها اليَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ، قَدْ عَلِمْتَ لأَمْرُ رَسُولِ اللهِ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي
. " ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله}.
قال عطاء والضحاك: {عَن ذِكْرِ الله}: عن الصلوات الخمس.
أي: لا يشغلكم اللهو [بها] والمحبة لها، والاشتغال عن الصلوات المفروضات.(12/7491)
وقيل: هو عام، ووقع النهي وفي الظاهر على الأموال والأولاد. وهو في المعنى واقع على المخاطبين، دلّ على ذلك قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} وهو كثير في القرآن.
- ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون}.
أي/ ومن يغشله (ماله وولده عما فرض الله عليه من الصلوات وعن ذكر الله فأولئك هم ([المغبونون] حظوظهم من كرامة) الله ورحمته.
- ثم قال: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين}.
أي: وتصدقوا أيها المؤمنون (مما رزقناكم)، وأنفقوا في سبيل الله [مما] خَوّلَكم الله من أموالكم من قبل أن تموتوا، فيقول أحدكم: يا رب، هلا أخرتني(12/7492)
ورددتني إلى الدنيا وقتاً قريباً فأتصدق وأكن من الصالحين.
فيسأل الرجعة حين لا رجعة.
(وقيل: المعنى: هلا مددت لي في العمر فأتصدق وأكن من الصالحين)، قيل: [معنى] {وَأَكُن مِّنَ الصالحين} أحج بيتك الحرام.
قال ابن عباس: ما من أحد يموت ولم يؤد الزكاة ولم يحج إلا سأل الكرة، ثم قرأ هذه الآية: قال: فقوله: [{فَأَصَّدَّقَ}] أي: أؤدي الزكاة، وقوله: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين}: أحج.
قال الضحاك: هو المؤمن ينزل به الموت وله مال كثير لم يزكه ولم يحج منه ولم(12/7493)
يعط منه حق الله، يسأل الرجعة عند الموت (ليزكي) ماله.
- قال تعالى: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ}.
أي: لا يؤخر الله في أجل أحد فيمد له [فيه] إذا حضر أجله.
وعن ابن عباس: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين}: أؤدي الفرائض، [وأجتنب] الحرام. والتقدير في العربية: " وأكون صالحا من الصالحين ".(12/7494)
- ثم قال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
أي: ذو خبر وعلم بأعمال خلقه، محيط بها فمجازيهم عليها.(12/7495)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابن
مدنية على قول قتادة، ومكية على قول ابن عباس إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده، فأنزل الله جلّ ذكره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ) [14] إلى آخرها.(12/7497)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
-[قوله تعالى]: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض. . .} إلى آخر السورة.
معناه: يصلي لله ويسجد جميع من في السماوات السبع والأرض من الخلق طوعا وكرها " ويسبح ": للحال.
- وقيل: معناه [ينزه الله] ويُبَرِّئُهُ من السوء كل من السموات والأرض.
- ثم قال تعالى: {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد. . .}.
أي: له ملك السموات والأرض وسلطان ذلك، وله حمد [ما] فيهما من الخلق.
- {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
أي: ذوقوا على كل شيء، يفعل ما يريد، لا يُعْجِزُهُ شيء أراده.
- ثم قال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ. . .}.
[أي: خلقكم على علمه فيكم من قبل أن يخلقكم، فمنكم من كفر، ومنكم من آمن على ما سبق من علمه بكم]، أي: الله الذي خلقكم - أيها الناس - فمنكم من(12/7498)
يكفر بخالقه ويجحده، ومنكم من يُؤْمِنُ بخالقه ويُقِرُّبِهِ.
- {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
أي: والله الذي خلقكم بصير بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، فيجازيكم بها، فاتقوه فيما أمركم به وما نهاكم عنه.
وعن أبي ذر أنه قال: إن المنى إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتى مَلَكُ النفوس فعرج به إلى الجبار في راحته فقال: يا رب عبدك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله جل ثناؤه ما هو قاض. ثم يقول: أي رب، شقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو [لاَقٍ].
- ثم قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق (وَصَوَّرَكُمْ) فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. . . ُ}.
أي: خلق السموات والأرض بالعدل [والإنصاف] ومثّلكم فأحسن تمثيلكم.
وروي أنه [عنى] به تصوير آدم وخلقه إياه.(12/7499)
(وقال ابن عباس: يعني آدَمَ، خلقه بيده.
- ثم قال: {وَإِلَيْهِ المصير}.
أي: المرجع يوم القيامة).
- ثم قال: {(يَعْلَمُ) مَا فِي السماوات والأرض. . .}.
أي: يعلم كل ما في السماوات السبع والأرض من شيء لا تخفى عليه من ذلك خافية، ويعلم ما يُسِرُّ الخلق من قول وعمل وما يعلنون من ذلك.
- ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}.
أي: ذو علم بضمائر صدور العباد وما تنطوي عليه نفوسهم وهذا: (كله) تحذير من الله جل ذكره (لعباده أن يسروا غير الذي يعلنون).
- ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ (الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ)}.(12/7500)
(هو خطاب لقريش أي: ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبلكم كقوم (نوح) وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط كفروا {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ})، أي: فمسهم عقاب الله إياهم على كفرهم فتخافوا أنتم أن يحل بكم على كفركم مثل ما حلّ بهم.
- ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أي: ولهم بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب عذاب آخر موجع في الآخرة، وهو/ عذاب في لن ار.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ. . .}.
أي: ذلك (الذي) [نالهم] على كفرهم والذي أعد لهم ربهم من العذاب من أجل أنه {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات}: الآيات الواضحات على حقيقة ما تدعوهم(12/7501)
إليه. فيقولون: {[أَبَشَرٌ] يَهْدُونَنَا} استكباراً منهم أن يكون رسل الله (إليهم) بشر مثلهم. وَأَتَى " يَهْدُونَنَا " بلفظ الجمع وقَبْلَهُ " بَشَرٌ "، " مُوَحَّد "، لأنه حُمِلَ على المعنى، لأنه عند بعضهم اسْمٌ للجمع.
وحكى [المازني] أن النحويين أجازوا أن يقال: [جاءني] ثلاثة نفر وثلاثة رهط، لأن نفراً ورهطاً لأقل العدد، [وما دون العشرة يضاف لأَقَلِ العدد، فلما وقع موقعه وهو مثْلُه لأقل العدد] جاز، و " بشر " للعدد الكثير، و " قوم " للقليل والكثير، فلما خالف ما يضاف إليه ما دون العشرة (لم يضعف إليه كما لا [يضاف] ما دون العشر) إلى أكثر العدد.(12/7502)
وقال المبرد: إنما لم يضف ما دون العشرة إلى " بشر "، لأنه يقع للواحد والجمع، وما دون العشرة لا يضاف إلى الواحد. هذا معنى قولهما. واستدل على أن " بشرا " يقع للواحد [بقول] الله {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] ثم قال: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ. . . . . .}.
(أي): فجحدوا رسالات ربهم، وأدبروا عن الإيمان برسلهم {واستغنى الله. . .} عن إيمانهم إذ [لا يزيد] في ملكه إيمانهم، ولا ينقص منه كفرهم.
{والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
أي: {غَنِيٌّ} عن جميع خلقه، محمود عند جميعهم، إذ ما يهم من نعمة فمنه وبفضله.
ثم قال: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ. . .}.(12/7503)
أي: زعم الكفار من قريش أنهم لا يبعثون من قبورهم بعد مماتهم. وقد كره مجاهد وغيره أن يقول الرجل: زعم فلان. " وزعم " عند النحويين على ضربين:
تكمون بمعنى قال، وبمعنى تَخَرَّصَ وَتَقَوَّلَ.
ثم قال تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ. . .}.
أي: قل لهم يا محمد مجاوباً [لنفيهم] البعث: بلى وربي، لتبعثن من قبوركم يوم القيامة، ثم لَتُخْبَرُنَّ بما عملتم في الدنيا، ثم [تجازون] على أعمالكم.
{وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ}.(12/7504)
أي: سهل هين.
ثم قال تعالى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا. . .}.
أي: فصدقوا بالله أيها المشركون (به)، وصدقوا برسوله وبالقرآن الذي أنتزل عليه ربما فيه من إخبار الله إياكم بالبعث والجزاء والجنة والنار وغير ذلك.
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
أي: ذو خبر وعلم بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن. . .}.
[العامل] في: " يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ": [" خَبِيرٌ "] والمعنى: والله ذو خبر بأعمالكم يجازيكم عليها في يوم يجمعكم ليوم جمع الخلائق كلهم، ذلك يوم يَغْبَنُ فيه أهلُ الجنة أهلَ النار.
قال مجاهد: (يَوْمَ القيامة يَوْمٌ يَغْبَنُ فيه أهلُ الجنة أهلَ النار).(12/7505)
قال ابن عباس: (غَبَنَ أهلُ الجنة أهلَ النار).
وقيل: العامل في " يوم ". . . لتنبؤن.
ثم قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار. . .}.
أي: ومن يصدّق بالله وبما أنزل ويعمل في دنياه عملاً صالحاً نكفر عنه ما مضى من سيئاته ونمحها عنه ونسترها عليه وندخله في الآخرة بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها أبداً لا يموتون ولا يخرجون منها.
- {ذَلِكَ الفوز العظيم}.
أي: ذلك [النجاء] العظيم.(12/7506)
ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنآ (أولئك أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير)}.
أي: والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا بأدلته تعالى وجحدوا كتابه، أولئك أصحاب النار هم فيها ماكثون أبداً لا يموتون ولا يخرجون منها.
{وَبِئْسَ المصير}.
أي: وبئس الشيء الذي يصار إليه نارُ جهنم.
ثم قال تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله (وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ}.
أي: لم تصب أحداً من الخلق مصيبة إلا بقضاء الله وتقديره ذلك عليه.
وقال الفراء: معناه: إلا بأمر الله).(12/7507)
قال علمقة: هو الرحل تصبيه [المصيبة] فيعلم أنها من قبل الله فيسلم لها ويرضى عن الله، فذلك قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ}، أي: ومن يصدق بالله وبتوحيده يَهْدِ قلبه إلى الإيمان ويُوَفِّقُهُ إلى الطريق المستقيم، فيعلم أنه لا تصيبه إلا بإذن الله فيسلم لأمر (الله) ويرضى بقضائه.
قال ابن عباس: يهدي قلبه لليقين فيعلم أن كُلاًّ من عند الله، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.(12/7508)
وقيل: يهدي قلبه إلى التسليم لأمر الله إذا أصيب وإلى الشكر إذا أنعم عليه وإلى الغفران إذا ظلم/.
- ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين}.
أي: أطيعوا الله في أمره ونهيه والإيمان به وبرسوله وأطيعوا رسوله، فإن أعرضتم عن الإيمان بذلك فليس على محمد إلا أن يبلغكم ما أرسل [به] إليكم بلاغا ظاهراً، والمحاسبةُ والمجازاةُ على الله.
- ثم قال تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.
أي: الله معبودكم، لا معبود تصلح العبادة إلا له، وعلى الله فليتوك المصدقون بوحدانيته.
- ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ. .} الآية.
روي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا الإسلام والهجرة، وأسلموا في(12/7509)
بلدانهم وأرادوا الهجرة فثبطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم وأبوا أن يَدَعُوهُمْ يخرجون، ثم هاجروا بعد ذلك بأهليهم وأولادهم. فلما قدموا المدينة، وجدوا الناس قد فقهوا وتعلموا القرآن، فَهَمُّوا [عقوبة] أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله هذه الآية.
ولذلك قال: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فاعلموا أن من الأزواج والأولاد من هو عدو، ولا عَدُوَّ أَعْظَمُ ممن مَنَعَ من الهجرة. هذا معنى قول ابن عباس.
فكان الرجل يضرب أهله إذا ثبطوه عن الهجرة، وَيُقْسِمُ ليفعلن بهم وليعاقبنهم على ذلك، فقال الله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال عطاء: نزلت [هذه الثلاث آيات] (في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو [بكوا] إليه ووقفوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فَيَرِقُّ ويقيم فنزلت هذه الآيات (فيه)).(12/7510)
قال قتادة: من الأزواج والأولاد من لا يأمر بطاعة الله، ولا ينهي عن معصيته.
وكبرت تلك عداوة للمرء أن يكون صاحبه (لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر).
وأكثر المفسرين على أنهن نزلن في من كان [يسلم] ويمنعه أهله وولده من الهجرة. وهو قول الضحاك (وابن زيد).
ثم قال: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ [وَأَوْلاَدُكُمْ] فِتْنَةٌ. . .}.
أي: بلاء عليكم في الدنيا.(12/7511)
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن والحسين عليهما قيمصان أحمران يعثران ويقومان، وهو يخطب، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذهما فرفعهما ووضعهما في حجره ثم قال: صدق الله {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في ختطبته ".
ثم قال: {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
أي: ثواب عظيم إذا أنتم خالفتم الأزواج والأولاد في طاعة الله.
قال قتادة: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}: الجنة.(12/7512)
ثم قال: {فاتقوا الله مَا استطعتم. . .}.
هذا نزل بعد قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] تخفيفاً عن الخلق، فقيل: إن هذا ناسخ لذلك، وقيل: " هو تخفيف، ولا بد من التقى. ومعنى {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى.
وكانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فيقول: فيما استطعتم.
قال ابن مسعود {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
- ثم قال: {واسمعوا وَأَطِيعُواْ. . .}.(12/7513)
أي: اسمعوا لرسلو الله وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه.
- {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ. . .}.
أي: أنفقوا مالاً لأنفسكم، بالخير هنا مفعول لِ " أَنفقوا "، والخير: المال، كما قال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] يعني: المال.
وقيل: " خَيْرَاً " هنا بمعنى: أفعل، أي: وأنفقوا في سبيل الله يكن خيراً لكم.
- ثم قال: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون}.
أي: ومن يقه الله شح نفسه. وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه.(12/7514)
قال ابن عباس: " شُحَّ نَفْسِهِ ": " هوى نفسه. . . ".
قال ابن مسعود: " هو أن يَعْمَدَ إلى مال غيره فيأكله ".
وقال سفيان بن عيينة: هو الظلم، وليس هو البخل.
{فأولئك هُمُ المفلحون}.
أي: هم الباقون في النعيم المقيم.
قال الحسن: نظرك إلى المرأة لا تملكها من الشح.
وقال ابن عباس: ليس الشح أن يمنع الإنسان ماله، إنما الشح أن [تطمح](12/7515)
عين الرجل إلى ماليس له.
قال ابن مسعود: إنما الشح الذي ذكر الله تعالى أن يأكل الرجل مال أخيه، وحَبْسُ المال [عن] الصدقة هو البخل.
وقال طاوس: إنما الشح أن تشحّ على ما في [أيدي] الناس.
[قل علي: من أدى زكاته فقد وُقِي شح نفسه].
- ثم قال تعالى: {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)}.
أي: إن تنفقوا في سبيل الله في الدنيا احتساباً للأجر والثواب يُضَاعِف أَجْرَ ذلك لَكُمْ رَبُّكُمْ من واحد إلى سبعمائة ضعف إلى أكثر ويستر عليكم ذنوبكم مع(12/7516)
تضعيفه/ لنفاتكم.
{والله شَكُورٌ حَلِيمٌ}.
أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله، حليم عن أهل معاصيه، يترك معالجتهم بعقوبته.
- ثم قال تعالى: {عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم}.
أي: هو عالم ما غاب عن الأبصار وما ظهر في السماوات والأرضين، وهو الشديد في انتقامه ممن كفر به، الحكيم في تدبيره خلقه.(12/7517)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطلاق
مدنية
ويقال لها: سورة النساء الصغرى.
- قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. . .} إلى قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً. . .}.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويراد به أمته [ودل] على ذلك قوله - بعد ذلك: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}.
وقيل: إن هذا من الانتقال من المخاطبة، كما قال:(12/7519)
{حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22] ثم قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22].
وقيل: إنه كله مخاطبة للنبي، لكن خوطب بلفظ الجمع على التعظيم والإجلال، كما يقال للرجل الجليل: أنتم فعلتم.
والمعنى: إذا طلقتم نساءكم المدخول بهن، أي: إذا أردتم طلاقهن {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: لظهورهن [الذي يحصينه من عدتهن ويعتددن به طاهرات من غير جماع كان منكم في ذلك الطهر، ولا تطلقوهن لحيضهن] الذي لا يعتددن من أقرائهن. (" فاللام " بمعنى) " في ": أي: [فطلقوهن] في عدتهن.(12/7520)
أي: في الطهر (الذي) [يعتددن] به، وهو الطهر [الذي] لم تقرب فيه. [وهذا هو مذهب] مالك وغيره.
وكون اللاَّمِ بمعنى " في ": [مستعمل]، قال الله جل ذكره عن قول الكافر في الآخرة: {ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]، أي: في حياتي، أي: يا ليتني قدمت عملاً (صالحاً) في حياتي في الدنيا.
فطلاق السنة الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يطلق الرجل امرأته وهي طاهر من غير جماع كان منه في ذلك الطهر. دل على ذلك قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: في عدتهن، أي: في الطهر الذي يعتددن به ويجعلنه قُرْءاً إذا مضى.
وسأل رجل ابن عباس فقال: إنه طلق امرأته مائة، فقال له ابن عباس: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ولم تتق الله فيجعل لك مخرجاً، وقرأ:(12/7521)
{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الجمعة: 2]، وقرأ: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن من قبل عدتهن) هكذا روي أنه قرأ على التفسير.
" وَرَوَى مالك أن ابن عمر " طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمرُ عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مُرْهُ يُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهَرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهَرَ (ثُمَّ) إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدٌ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ الله أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " فهذا طلاق السنة، يطلقها في طهر لم يسمها فيه طلقة، ويدعها [تمضي] في عدتها، فإن بدا له أن يرتجعها (أرتجعها) شاءت أم أبت قبل أن تمضي(12/7522)
عدتها، فإن لم يرتجعها حتى مضت عدتها حلَّت للأَزواج غيرِه وملكت نفسها، وصار خطاباً من الخطاب. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وعطاء وطاوس وابن المسيب وعمرو بن دينار وقتادة وربيعة ومالك وأهل المدينة، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو(12/7523)
ثور وأصحاب الرأي، ومُضِيُّ عدتها عند مالك وأصحابه: أن ترى الدم من الحيضة الثالثة، لأن الأقراء عند الأطهار، وعند غيره: الحِيَضُ.
وأصل [القرء] في اللغة: الوقت. فهو يصلح للطهر والحيض وقد مضى الكلام على الأقراء في سورة البقرة [بأشبع] من هذا.(12/7524)
وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلق في كل طهر طلقة.
قال مجاهد والحسن وابن سيرين: {لِعِدَّتِهِنَّ}: (أي): لطهرهن، أي: إذا طهرت من حيض ولم تجامع - وهو [قول] السدي - ومن طلق ثلاثاً لزمه، وبئس ما صنع لمخالفته السنة.
(روي) أن علياً - رضي لله عنه - كان يعاقب من طلق البتة، وكان يقول: ما طلق(12/7525)
طلاق السنة فندم.
وروى أنس أن [عمر] كان يؤدب من طلاق ثلاثاً وينهى عنه.
وروي أن هذا الحكم نزل في سبب طلاق النبي حفصة بنت عمر، طلقها تطليقة، فقيل له: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة.
- وقوله: {وَأَحْصُواْ العدة. . .}.
أي: احفظوها لتعلموا متى تحل للأزواج وتملك نفسها، ومتى بقى لكم عليها حكم بالمراجعة.
- ثم قال: {واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ. . .}.
أي: خافوه أن تتعدوا حدوده ولا تُخرجوا من طلقتم من نسائكم لعدتهن من(12/7526)
بيوتهن اللاتي كنتم أسكنتموهن فيما قبل الطلاق حتى تنقضي العدة.
قال ابن عباس: هي المطلقة في الطهر طَلْقَةً لا تَخْرُج من بيتها ما دامم لزوجها عليها الرجعة/ وعليه النفقة، وذلك ما كانت (في) العدة.
وقال قتادة: لا يخرجها إذا طلقتها واحدة أو اثنتين حتى تتم العدة، فإن طلقها ثلاثاً لم يكن لها سكنى. هذا معنى قوله. والسكنى واجب عند مالك لكل مطلقة دخل بها طلقة ثلاثا أو واحدة. وقال الضحاك: إن خرجت هي فلا سكنى لها ولا نفقة.
- ثم قال: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ. . .}.
قال قتادة: هي الزنا، إذا زنت في عدتها أخرجها لإقامة الحد عليها. وهو قول(12/7527)
الحسن ومجاهد وابن زيد.
قال ابن عباس: الفاحشة هنا: [البَذَاءُ] على أهله.
وقال قتادة: [الفاحشة] هنا: النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز، فلها أن تتحول من بيت زوجها.
وقال السدي: الفاحشة هنا: خروجها من بيتها في العدة.
وقال ابن عمر: " خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة ".(12/7528)
وعن ابن عباس أنه قال: الفاحشة هنا: كل معصية مثل الزنا والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار الطبري.
وللرجل أن يطلق الحامل متى شاء عند مالك تطليقة واحدة.
[وكذلك يطلق الآيسة من المحيض واللائي لم يحضن متى شاء تطليقة واحدة، ولا يتبعها] طلاقاً حتى تحل.(12/7529)
- ثم قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله] فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
(أي): وتلك الأمور التي بينت لكم (في الطلاق) حدود الله [لكم] وفرائضه عليكم، ومن يتعد حدود الله فيطلق في غير طهر ويخرج من طلق من بيتها قبل انقضاء العدة ويتجاوز [ما أمره الله به] فقد ظلم نفسه بما ألزمها من الذنوب والعقوبات في آخرته.
- ثم قال: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ (أَمْراً)}.
أي: لعلكم تندمون بدلا طلاقكم فتراجعون، فإذا تجاوزتم حدود الله في الطلاق فطلقتم ثلاثاً ثم ندمتم لم تكن لكم رجعة أبداً، إنما تكونون خطاباً لها بعد زوج. وهذا قول جميع المفسرين.(12/7530)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إلى قوله: {مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}.
أي: فإذا بلغ المطلقات اللواتي في العدة آخر عدتهن، فأمسكوهن برجعة ترجعونهن إن أردتم ذلك.
ومعنى: {بِمَعْرُوفٍ} أي: راجعوهن بمعروف، وذلك إعطاؤها الحقوق التي أوجب الله لها عليهم من النفقة والكسوة والسكنى وحسن الصحبة.
- {أَوْ فَارِقُوهُنَّ. . .}.
أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهم.
ومعنى {بِمَعْرُوفٍ. . .}.
(أي) ": [بإيفائها ما لها] من بقية الصداق والمتعة. قال الضحاك:(12/7531)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر، إن لم يكن يحضن، فراجع إن شئت قبل أن تقضي العدة ([وأمسكها] بمعروف، أي: بحسن الصحبة والقيام عليها {أَوْ فَارِقُوهُنَّ} أي: دعوهن حتى تنقضي العدة) بالطهر الثالث أو تمام الثلاثة أشهر {بِمَعْرُوفٍ} (أن) يعطيها مهرها إن كان لها.
- ثم قال تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ. . .}.
أي: أشهدوا - إذا رجعتموهن - ذوي عدل. وهما من يُرضى دينه وأمانته.
قال ابن عباس: يشهد عدلين عند الطلاق وعند المراجعة، وقاله السدي.(12/7532)
والإشهاد عند [أكثر] الفقهاء على الندب، وكذلك أكثر ما جاء في القرآن من الأمر بالأشهاد.
قال ابن المسيب: {[ذَوَىْ] عَدْلٍ}: [ذوي] عقل وفهمه.
- ثم قال: {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ. . .}.
أي: اشهدوا بالحق.
وإذا جامع أو [قَيَّل] يريد به الرجعة فهو رجعة عند مالك. وكذلك إن [تكلم] بالرجعة ونِيَّتُه الرجعة فهي رجعة.
- ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر. . .}.(12/7533)
أي: هذا (الذي) عرفتكم به من أمر الطلاق عظة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر فيتبعه ويعمل به.
- ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}.
أي: ومن يخف الله فيعمل ما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً، وذلك أنه [يُعَرِّفُهُ] أن ما قضاه عليه فلا بد أن يكون.
وقيل: المعنى: ومن يتق الله فيما أمره به (من هذا الطلاق، يجعل له مخرجاً إن ابتغت نفسه رد المطلقة بعد انقضاء العدة فيحل له أن يخاطبها ويتزوجها. ومن لم يتق الله فيما أمره) ويطلق ثلاثاً، لا يجعل له مخرجاً إن ابتغتها نفسه، فلا يحل له أن يخطبها، ولا يتزوجها إلا بعد زوج، هاذ قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ -(12/7534)
والشعبي.
وقيل: هو على العموم، (أي: و) من يتق الله في أمره ونهيه يجعل له مخرجاً في كل أموره فيرزقه من حيث لا يحتسب، / (أي): [ويسبب] له أسباب الرزق من حيث لا يشعر ولا يعلم.
وعن ابن عباس: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}: ينجيه (من كل كرب) في الدنيا والآخرة.
قال الربيع: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} من كل أمر ضاق على الناس.(12/7535)
وروي أن هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان له ابن قد أسره المشركون، فكان يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم مكان ابنه وحاله وحاجته، فكان النبي يأمره بالصبر [ويقول له: إن الله سيجعل له مخرجاً]. فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى [انفلت] بانه من [أيدي] المشركيني، [فمر بغنم] من أغنام العدو، [فاسْتاقها] [وجاء بها] إليه، فنزلت: {وَمَن يَتَّقِ الله} الآية.
قال ابن مسعود: [المخرج] أن يعلم أن الله هو الذي يعطيه ويمنعه.
- ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ. . .}.(12/7536)
أي: فهو كافيه.
قال مسروق: [القضاء] جار على من توكل وعلى من لم يتوكل.
قال بعض الصالحين: المتوكل تعجل البركة والأجر.
- ثم قال تعالى {إِنَّ الله بَالِغُ}.
قال مسروق: الله بالغ أمره بكل حال، [توكل] عليه أو لم يتوكل (عليه)، أي: مُنْفِذٌ قضاءه بكل حال، غير أن المتوكل عليه يكفّرُ عنه سيآتِه ويعظم له أجراً.
قال ابن مسعود: إن أكثر آية تفويضاً في القرآن {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ}.(12/7537)
- ثم قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.
قال مسروق: " أي: لكل شيء أجلاً ومنتهى ".
وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة.
وقيل: هو عام.
والمعنى: قد جعل الله [لكل شيء من الطلاق] والعدة وغير ذلك حداً وأجلاً وقدراً ينتهي إليه.
ولا اختلاف بين العلماء وأن المطلقة واحدةً أو اثنتين لها النفقة والسكنى وكذلك المطلقة الحامل.
وفي المطلقة ثلاثاً اختلاف، فأكثر العلماء على أن لا نفقة (لها) ولا سكنى. وقد روي ذلك [عن النبي صلى الله عليه وسلم] . وقال الحسن وعكرمة والشعبي: لها متاع(12/7538)
بالمعروف وسكنى. وهو قول جابر.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: (لها النفقة) والسكنى. وهو قول مروي عن عمر وابن مسعود، وبه قال شريح. والقول الأول قول ابن عباس.(12/7539)
وقال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو عبيد: لها السكنى ولا نفقة (لها) وهو قول ابن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وعطاء والشعبي وابن مهدي.(12/7540)
- ثم قال تعالى: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ. . .}.
أي: والنساء اللائي ارتفع طمثهن فلا يرجون أن يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، (وكذلك عدة النساء اللائي لم يحضن أيضا. وقوله: {إِنِ ارتبتم} قيل: معناه: إن ارتبتم بالدم الذي [يظهر] منها في كبرها أمن الحيض هو أم من الاستحاضة؟ فعدتهن ثلاثة أشهر).
وقال مجاهد: معناه: إن لم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيضة أو اللائي لم(12/7541)
يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
وقال الزهري: " إن ارتبتم في كبرها أن يكون ذلك من الكبر، فإنها تعتد حين ترتاب ثلاثة أشهر.
فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة، فإنها [يُتَأَنَّى] بها حتى يُنظر أهي [حامل] أم غير حامل؟ فإن استبان حملها فحتى تضع حملها، وإن لم يستبن حملها فحتى يستبرئها، وأقصى ذلك سنة، تسعة للاستبراء وثلاثة للعدة، وهو مذهب مالك.
وقال ابن زيد: إن ارتبتم أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها وارتاب الرجل وقالت المرأة: تركتني الحيضة، فعدتها ثلاثة أشهر إن ارتاب فخاف أن تكومن حيضتها قد انقطعت.
وقيل: المعنى: إن ارتبتم [بحكمهن] فلم تدروا ما الحكم في عدتهن، فإن عدتهن ثلاثة أشهر.(12/7542)
وقال عكرمة: من [الريبة]: المرأة المستحاضة والتي لا تستقيم لها الحِيَضُ: تحيض في الشهر مرات، وفي الأشهر مرة، فعدتها ثلاثة أشهر، وهو قول قتادة.
وقيل: هذا متصل بأول السورة، والتقدير: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة ولا يخرجن.
والاختيار (عند) الطبري أن يكون المعنى على قول من قال: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم في عدتهن. قال: ولو كن الارتياب إنما هو في الدم، لا يُدرى دم حيض أم دم استحاضة؟. لكان اللفظ: إن ارتبتن. لأنهن إذا أشكل الدم عليهن فهن المُرتابات بدماء أنفسهن، [لا غيرهن]، فكون [الخطاب] للرجال دليل(12/7543)
على أن المعنى: إن ارتبتم في الحكم في عدتهن. وايضاً فإن بعده {(واللائي) لَمْ يَحِضْنَ} ومحال أن [يُرتاب] في دم من لم تحض، وإنما [يرتاب] في حكمها في العدة.
قال الضحاك {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض} من القواعد من النساء/ {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} من الصغار، لم يبلغن وقد مُسِسْنَ فعدتهن ثلاثةُ أشهر. وهو قول قتادة.
- ثم قال تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. . .}.
أي: والنساء الحوامل إذا طُلقن، فانقضاء عدتهن أن يضعن حملهن. وهذا إجماع.
فأما المتوفى عنها زوجها (وهي حامل، فأكثر العلماء على أن وضع حمْلها انقضاء عدتها ولو كان بعد موْت زوجها).
وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ - وابن عباس - رضي الله عنهـ - أن انقضاء(12/7544)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
عدتها آخر الأجلين.
- ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله [يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً].}.
أي: ومن يتق الله فيتبع في طلاقه ما أمره الله به يجعل له من طلاقه ذلك يسراً. وهو أن يسهل عليه إن أراد الرجعة فيجعل الأمر بيده ويرتجعها متى شاء ما كانت في العدة، ويحل له التزويج بعد انقضاء العدة. ومن لا يتق الله - فيطلق ثلاثاً بخلاف ما أمره الله - لا يسهل عليه رجعة في عدة ولا في غيرها، ولا يسهل عليه تزويجها بعد العدة ما لم [تتزوج] غيره.
- قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ. . .} إلى آخر السورة.
أي: ذلك الذي بينه لكم حكم الطلاق والرجعة والعدة أَمْرُ الله الذي(12/7545)