وقال قتادة: مثل نور الله في قلب المؤمن، فالهاء في نوره تعود على الله والنور معنى الهدى.
وقيل: تعود على المؤمن.
وقيل: على محمد عليه السلام. وقد مضى هذا.
قال القتبي: هو مثل ضربه الله تعالى لقلب المؤمن، وما أودعه من الإيمان والقرآن من نوره، لكنه بنفسه فقال: {الله نُورُ السماوات والأرض}، أي بنوره يهتدي من في السماوات والأرض. ثم قال {مَثَلُ نُورِهِ}، يعني مثل نور المؤمن.
وقيل: معناه: مثل نور الله في قلب المؤمن ونور الله الإيمان به.
وكان أبيّ يقرأ (مثل نور المؤمن) وقد مضى أكثر هذا، فالمعنى على قول ابن(8/5098)
عباس وغيره: الله هادي أهل السموات وأهل الأرض إلى أمور دينهم ومصالحهم / والكلام فيه توسع ومجاز لأنه قد علم أن الله لا يكون نوراً ولا ضياء ولا من جنس النور ولا الضياء، لأن النور والضياء مخاوقان لله جل ذكره، ومعنى {مَثَلُ نُورِهِ} أي صفة هدى الله للمؤمنين في قلوبهم. وهذا يدل على أن معنى {الله نُورُ السماوات والأرض}، أي هاديهن وليس الله هو النور لأنه قد شبه النور المذكور بالمشكاة الموصوفة، والله لا يشبهه شيء، ولا يُشَبَّه بشيء، فنوره إنما هو هداه ودلالة خلقه إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم، فإنما شبه هداه لخلقه بما يعقلون من المشكاة فيها المصباح الذي هو في زجاجة، تلك الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد بزيت من شجرة صفتها كذا، وذلك كله مبالغة في صفة هدى الله عباده.(8/5099)
وقوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}.
قال قتادة: " لا يفيء عليها ظل الشرق ولا ظل الغرب ضاحية، وذلك أصفى للزيت كأنه يقول: إن الشمس ى تفارقها ".
وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا.
وعن ابن عباس ومجاهد: أنه مثل للمؤمن، غير أن المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن، والمشكاة مثل الجوف.
وقال الحسن: معناه مثل القرآن في قلب المؤمن كمشكاة هذه صفتها.
وقال ابن زيد: {مَثَلُ نُورِهِ}، نور القرآن الذي أنزله الله على رسوله، فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره، ويعملون به، ويأخذون به، وهو لا ينقص. فهذا مثل ضربه الله لنوره.
وقال مجاهد: المشكاة القنديل.(8/5100)
وقيل: هو الحديد الذي يعلق فيه القنديل: قال أيضاً مجاهد: واختار الطبري أن يكون هذا المثل، مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد - الذي أنزله إليهم فآمنوا به، في قلوب المؤمنين - مثل مشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو نظير الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ وهو أجوف مفتوح إلى الأعلى، وهو كالكوة في الحائط التي لا تنفذ.
ثم قال: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}، وهو السراج، والمصباح، مثل لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات.
ثم قال: {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، يعني إن السراج الذي في المشكاة، في القنديل وهو الزجاجة وذلك مثل القرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله به قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه،(8/5101)
واستنارته، بنور القرآن بالكوكب الدري، فقال: {الزجاجة} وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ومعنى قراءة من قرأ {دُرِّيٌّ} بالتشديد وضم الدال أنه نسبه إلى الدر ومعناه: أن فضل هذا الكوكب في النور على سائر الكواكب كفضل الدر على سائر الحَبّ، ومن قرأ دِرئ بكسر الدال والمد والهمز جعله من إندرأ الحريق إذا اندفع.
وحكى الأخفش سعيد: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا.
وقيل: هو فعيل من درأت لأن معناه يدفع ويرجم به الشياطين.(8/5102)
وأنكر أبو عبيدة هذه القراءة إن كانت من درأت إذا دفعت وضعفها لأن الكواكب كلها تندفع فلا فضل لأحدهما على الآخر فلا فائدة في وصفه له بالاندفاع لأنها كلها تندفع.
فأما قراءة من قرأ بضم الدال والمد والهمز، فقد أنكرها جماعة، إذ ليس في الكلام. فُعَيلٌ، وقد جوزها أبو عبيدة وقال: هو فعول مثل سيوح، وأصله درؤ وأبدلوا من الواو ياء كما قالوا: عني. وأنكر هذا القول على أبي عبيدة لأِنه لا يشبع عتي إن كان جمع عات، فالبدل فيه لازم لأن الجمع باب تغيير والواو لا يكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة، فاعتلاله لازم، فإن كان عتياً مصدراً فيجب قلب الواو لأنها ظرف في فعول وليست الواو في دري / إذا جعل أصله دروي ظرفاً فلا يشتبهان، ووجه هذه القراءة، عند بعض النحويين أنه فعيل كَمُريق، على أن مُريقاً أعجمي، فلا يجب أن يحتج به. والكوكب الذي شبه بالزجاجة، هو الزهرة قال الضحاك.
ومن قرأ {يُوقَدُ} على تفعل جعله فعلاً ماضياً خبراً عن المصباح.(8/5103)
وقيل، خبراً عن الكوكب.
ومن قرأ بالياء، على يفعل جعله فعلا مستقبلاً لم يسم فاعله راجعاً إلى المصباح.
ومن قرأ بالتاء على تفعل جعله فعلاً لم يسم فاعله مستقبلاً أيضاً راجعاً على الزجاجة لأنها أقرب إليه، فلما كان الاتقاد فيها جاز أن توصف هي به لعلم السامعين بالمعنى، كما قالوا: ليل نائم، وسر كاتم، وقد نام ليلك، كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] فوصف اليوم بالعصوف والعصوف للريح، لكن لما كان الريح في اليوم جعل وصفاً لليوم لعلم السامعين بالمعنى وهو كثير في كلام العرب. وأنشد الفراء:
" يومين غيمين، ويوماً شمساً " ... فجعل الغيمين وصفاً لليومين لأنهما في اليومين يكونان، فكذلك وصف الزجاجة بأنها توقد لأن الإيقاد فيها يكون.(8/5104)
ومعنى قوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ}، أي توقد من دهن شجرة.
وقوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}.
قال ابن عباس: لا شرقية بغير غرب ولا غربية بغير شرق.
وقال الحسن: ليست هذه الشجرة في الأرض، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه تمثل بالنور.
وقال أبو مالك: لا يصيبها الشمس وقت الشرق ولا وقت الغرب ولكنها بين شجر في فجوة من ذلك فهي في ظل أبداً قد سترها ما حولها من الشجر.
وقيل إنها يصيبها الشمس عند الشروق وعند الغروب، ولم تخلص للشروق فيقال لها شرقية، ولا للغروب فيقال لها غربية، ولكنها قد جمعتهما كما يقال: فلان لا أبيض ولا أسود إذا كان فيه بياض وسواد، ويقال: هذا لا حلو ولا حامض أي لم(8/5105)
يخلص له أحد الطعمين، فهذا قول مختار وهو معنى قول ابن عباس المتقدم.
وقال عكرمة: لا تخلو من الشمس وقت الغروب والشروق، وذلك أصفى لذهنها وهذا موافق لمذهب ابن عباس أيضاً.
وعن مجاهد أنه قال: لا يُكنها جبل ولا وادي.
وقال قتادة: هي شجرة بارزة للمشس.
وقال الضحاك: لا تصيبها الشمس، وعنه مثل قول قتادة.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: هي شجرة تكون فوق جبل تطلع عليها الشمس وتغرب عليها.
وقال القتبي: المعنى أنها: ليست بارزة للمشس، لا يصيبها الظل فيقال لها شرقية، وليست في الظل لا تصيبها الشمس فيقال لها غربية.
وقال الطبري: معناه: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالغداة، من الشرق دون العشي، ولا غربية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية، وهذا أيضاً قول ابن عباس(8/5106)
بعينه وهو قول عكرمة.
وقوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، قال الطبري: معناه أن هذا القرآن من عند الله، وأنه كلامه، فجعل مثله ومثل كونه من عنده، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها بعده.
وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء} يعني أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر.
وقوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، أي ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً، فأنزل القرآن إليهم منبهاً لهم على توحيده، فكيف وقد نبههم وذكرهم بآياته فزادهم حجة إلى حجة عندهم قبل ذلك. فذلك بيان من الله جل ذكره ونور على البيان.
وقوله: {نُّورٌ على نُورٍ} النور الأول النار، والثاني الزيت الذي يكاد يضيء من صفاه قبل أن تمسه النار، قاله مجاهد.
قال: الطبري: هو مثل للقرآن، أي هذا القرآن نور من عند الله أنزله على خلقه يستضيئون به.(8/5107)
وقوله {على نُورٍ} يعني / الحجج والبيان الذي نصبه الله لهم مما يدل على وحدانيته قبل مجيء القرآن.
قال ابن زيد: {نُّورٌ على نُورٍ}، يضيء بعضه بعضاً يعني القرآن.
قوله: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ}، أي يوفق الله لاتباع نوره وهو القرآن من يشاء من عباده.
ثم قال: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ}، أي ويمثل الله الأمثال للناس، يعني به ما مثل لهم من مثل القرآن في قلب المؤمن، بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في الآية من الأمثال.
ثم قال: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}، أي عليم بالأشياء كلها، ومن قال: {مَثَلُ نُورِهِ} أي نور المؤمن جاز له أن يقف على {الله نُورُ السماوات والأرض}، ومن قال المعنى: مثل نور الله لم يقف إلا على مصباح {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، تمام، {دُرِّيٌّ} تمام {تَمْسَسْهُ نَارٌ}، تمام [للناس]، قطع. و [عليم]،(8/5108)
تمام إن جعلت في " بيوت " متعلقاً بيسبح. فإن جعلته على قول ابن زيد متعلقاً بقوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}، لم تقف إلى {عَلَيِمٌ} وكذلك إن جعلته متعلقاً {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وهو قول الطبري. وكذلك إن جعلته حالاً مما تقدم لم تقف على {عَلَيِمٌ} وهو قول: أحمد بن يحيى.
وفي هذه الآية، قول غريب منه ما يوافق ما تقدم، ومنه ما يخالف. ذكره الدمياطي في تفسيره وهو أن قوله {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور محمد عليه السلام إذ كان مستودعاً في صلب عبد المطلب كمشكاة يعني كوة غير نافذة على لغة الحبش، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} يعني قلب النبي، ضبهه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الحكمة والإيمان. {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، يعني قلبه في صدره {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}، أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان(8/5109)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
والحكمة {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} يعني الزهرة. {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، أي استنار نور محمد من نور إبراهيم، فإبراهيم هو الشجرة المباركة، ومحمد عليه السلام على ملته ودينه، فمنه استنار، ثم مثل إبراهيم فقال: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي إن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب فهو في الضياء مثل هذه الزيتونة التي لا تصيبها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، فزيتها أضوى وأطيب.
وقيل معنى {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي إن إبراهيم لا يهودي ولا نصراني بل هو حنيف مسلم. وهذا التفسير مخالف في أكثره لجميع ما قدمناه. والله أعلم بحقيقة ذلك، فهذا ما وصل إلينا في تفسير هذه الآية، والله أعلم بصحة معناها وبما أراد فيها.
قوله تعالى ذكره: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}.
أي الله نور السماوات والأرض مثل نوره أي نور القرآن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}(8/5110)
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} فيكون قوله: {فِي بُيُوتٍ} ظرف للمصباح ويتعلق به فيكون على قول ابن زيد: يسبح له فيها: من صفة البيوت.
وقيل: المعنى {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} فيكون متعلقاً {يُوقَدُ} ويسبح أيضاً وما بعده صفة للبيوت.
وقيل: المعنى كمشكاة في بيوت، فيسبح أيضاً وما بعده صفة، فلا يقف على هذه الأقوال على ما قبل {فِي بُيُوتٍ}
وقيل: المعنى: يسبح له رجال في بيوت فتقف على هذا على ما قبل {فِي بُيُوتٍ}.
قال ابن عباس وأبو صاح، ومجاهد، والحسن، وابن زيد: هي المساجد.(8/5111)
قال ابن عباس: نهي عن اللغو فيها.
وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: المساجد بيوت الله، وأنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها.
وقال عكرمة: هي البيوت كلها.
وقال: الحسن: يعني به بيت المقدس.
وعن مجاهد أنه قال: هي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: في الكلام معنى الإغراء والمعنى: صلوا في بيوت أذن الله أن ترفع أي يرفع قدرها وتصان وتجل، وأذن الله أن يذكر فيها اسمه، وهي المساجد.
وروى ابن زيد / عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد يغدو أو يروح إلى(8/5112)
المسجد يؤثره على ما سواه، إلا وله عند الله منزلاً يعد له في الجنة، كلما غدا وراح، كما أن رجلاً منكم لو زاره من يحب زيارته لاجتهد في كرامته ".
وقوله: {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}، قال مجاهد: ترفع: تبنى.
وقال الحسن: ترفع: تعظم لذكره وتصان. وقول مجاهد أولى لقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل} [البقرة: 127]، أي يبنيان.
وقوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} أي وأذن لعباده أن يذكروا فيها اسمه.
قال ابن عباس: {يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [البقرة: 114]، أي يتلى فيها كتابه.(8/5113)
ثم قال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}، أي: يصلي لله في هذه البيوت بالغدوات والعشيات رجال، يعني صلاة الصبح، وصلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة.
وعن ابن عباس: أن كل تسبيح في القرآن فهو صلاة.
قال الحسن: أذن أن تبنى يصلى له فيها بالغدو والآصال.
وواحد الآصال: أُصُلٌ وواحد الأُصُل أصيل، والآصال: جمع الجمع.
وذكر ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عباس أنه قال: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله عز وجل وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}. كأن ابن عباس جعل تسبيح الغدو صلاة الضحى.(8/5114)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
قال: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}، أي: لا يُشغلهم عن صلاتهم في هذه المساجد شيء.
ونظر سالم بن عبد الله إلى قوم من أهل السوق، قاموا وتركوا أشغالهم يريدون الصلاة فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}.
وذكر الله هنا: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس وغيره.
قال عطاء: {عَن ذِكْرِ الله}، أي: عن حضور الصلاة المكتوبة.
وعن عبد الله بن عمر، وعن ابن مسعود مثل قول سالم بن عبد الله. في القائمين عن أشغالهم إلى الصلاة.(8/5115)
وروت أسماء بنت يزيد الأنصارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة نادى مناد يسمع الخلائق كلهم سيعلم الله الجمع من أولى بالكرم اليوم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} الآية قال: فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانت {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}، إلى قوله: {الأبصار} قال: فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون وهم قليل.
قال: ثم يحاسب سائر الناس ".
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: " هم الذين يضربون في(8/5116)
الأرض يبتغون من فضل الله. ثم قال: {وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة} "، أي: ولا يلهيهم شيء عن إقامة الصلاة عند مواقيتها، وعن أداء الزكاة عند وقتها.
وإقام مصدر أقمت وأصله إقواماً، ثم قلبت الواو ألفاً، فاجتمع ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي إقاماً فدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، فصارت إقامة، فلما أضيف المصدر: قالم المضاف إليه مقام الهاء التي دخلت عوضاً من الألف المحذوفة فإذا اضفت هذا المصدر جاز حذف الهاء، لأن المضاف إليه يقوم مقامها. ألا ترى أنك تقول: وعدته عدة فتثبت الهاء لأمها عوضاً من الفاء، فإن أضفته جاز حذف الهاء.
قال الشاعر:
إن الخليط أَجَدُّوا البين فانجردوا ... واخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا
يريد عدة الأمر.(8/5117)
وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله جل ذكره، والإخلاص، وكذلك عنده {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} وقوله {يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} [مريم: 55] وقوله:
{وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} [مريم: 31]، وقوله: {مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: 21]، وقوله: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164]، وقوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً} [مريم: 13]، هذا كله ونحوه عنده. عني به الطاعة لله والإخلاص.
/ ثم قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار}، أي: تعرف القلوب فيه الأمر عياناً ويقيناً، فتنقلب عما كانت عليه من الشك والكفر إلى اليقين، ويزداد المسلمون يقيناً، ويكشف عن الأبصار غظاؤها فتنظر الحق، ومثله
{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]، وقيل: المعنى. تتقلب فيه(8/5118)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
القلوب من هوله بين طمع بالنجاة، وحذر من الهلاك، وتنقلب الأبصار في نظرها، أي ناحية يؤخذ بهم لذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يوتون كتابهم، أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة.
وقيل: معناه تنقلب في النار من حال إلى حال، ومن عذاب إلى عذاب مرة إنضاج، ومرة إحراق، ومرة لَفْح.
وقيل: هو تقلبها على جمر جهنم، كما قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [الأحزاب: 66]، وكما قال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، أي: نقلبها في النار.
قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ}، أي وأطاعوا، وعملوا ما تقدم ذكره خوف عقاب الله ولكي يثيبهم يوم القيامة بأحسن أعمالهم في الدنيا،(8/5119)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
ولكي يزيدهم من ثوابه ومن فضله. {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي يتفضل على من يشاء بما لم يستحقه من ثواب عمله بغير محسبة، ولا يوقف على {الآصال} لأن رجالاً مرفوعون بيسبح، فأما على قراءة من قرأ يسبح على ما لم يسم فاعله، فيقف على {الآصال} لأن رجالاً عند سيبويه: مرفوعون بإضمار فعل، كأنه قيل: من يسبحه؟ فقيل: يسبحه رجال.
ومن رفع رجالاً على هذه القراءة بالابتداء، و {فِي بُيُوتٍ} الخبر لم يقف على {الآصال}.
قال تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، هذا مثال ضربه الله لأعمال الكفار، أي والذين جحدوا آيات الله، أعمالهم التي عملوها في الدنيا مثل سراب. والسراب ما لصق بالأرض وذلك يكون نصف النهار، وحين يشتد(8/5120)
الحر. وإذا أري من بعد ظن أنه ماء. والآل ما رأيت أول النهار وآخره الذي يرفع كل شيء.
وقوله {بِقِيعَةٍ} هو جمع قاع، كالجيرة: جمع جار، هذا قول الفراء.
وقال: أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، والقاع والقيعة ما انبسط من الأرض، ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب.
و {يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً}، أي يحسب العطشان ذلك السراب ماء حتى إذا جاء السراب ليشرب منه لم يجده شيئاً.
وقيل: المعنى: جاء موضع السراب لأن السراب ليس بشيء، وكذلك الكافر بالله، عمله يحسب أنه ينجيه عند الله من عذابه. حتى إذا هلك وجاء وقت حاجته إلى عمله لم يجده شيئاً يفعله إذا كان على كفر بالله.
ثم قال: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ}، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على(8/5121)
عمله بالمرصاد، فوفاه حساب عمله وجازاه عليه. هذا معنى قول ابن عباس وأبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد.
فالضمير في لم يجده و {جَآءَهُ} للظمآن، والضمير في {وَجَدَ} للكافر الذي ضرب الله مثلاً بالظمآن. فالمعنى أن الكافر يأتي يوم القيامة أحوج ما كان إلى عمله فلا يجد شيئاً، كهذا الظمآن يأتي إلى السراب الذي يظنه ماء أحوج ما كان إليه لشدة عطشه فلا يجد شيئاً. وقوله {والله سَرِيعُ الحساب}، أي لا يحتاج إلى عقد عند حساب، هو عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وإنما، سماه حساباً لأنه أعطاه جزاء عمله على قدر ما استحقه.(8/5122)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
وقال {سَرِيعُ الحساب}، لأن محاسبته لعبد وإعطاءه جزاء عمله لا يشغله عن محاسبة غيره من عبيده، لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.
قوله تعالى ذكره: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} [39]، إلى قوله (لَعِبْرَةً) (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [42].
الكاف في {كَظُلُمَاتٍ}، في موضع / رفع عطف على الكاف في {كَسَرَابٍ}، والكاف في {كَسَرَابٍ}، في موضع رفع خبر الابتداء، وهو أعمالهم.
وقيل: التقدير أو هي كظلمات، فتقف على هذا القول على ما قبل {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} ولا تقف على القول الأول لأنه معطوف على ما قبله. وهنا مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ، وفساد،(8/5123)
وضلالة من، فأعمالهم مثل ظلمات في بحر لجي، أي عميق كثير الماء، ولجة البحر معظمه ووسطه.
{يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، أي يغشى البحر موج، من فوق ذلك الموج موج، من فوق ذلك الموج سحاب.
{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}، فالظلمات مثل لأعمال الكفار، والبحر اللجي مثل لقلب الكافر، أي عمله بنية قلب قد غمره الجهل، وغشيته الضلالة والحيرة. كما يغشى هذا البحر موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب الكافر الذي عملُه كالظلمات يغشاه الجهل بالله، إذ الله ختم عليه، فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ الله، وعلى بصره غشاوة، فلا يبصر حجج الله، فتلك الظلمات بعضها فوق بعض.
قال: ابن عباس: الظلمات: الأعمال، والبحر اللجي: قلب الإنسان. وقوله:(8/5124)
{يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، إلى {فَوْقَ بَعْضٍ}، يعني به الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر.
وقال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومدخله ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار، فأعلمنا الله بهذه الآيات أمثال المؤمنين وأعمالهم، وأمثال الكفار وأعمالهم، وأن المؤمن يجد عمله عند الله فيجازيه عليه، ويزيده تفضلاً، وأن الكافر لا يجد شيئاً إذ لم يكن معه توحيد تقبل الأعمال معه.
ولا تقف على {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، لأن {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ}، نعت له، وكذا {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ}، لا تقف عليه لأن {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ}،(8/5125)
نعت له، وتقف على {سَحَابٌ} على قراءة من رفع " سحاباً " و " ظلمات " وإن كسرت التاء، وأضفت سحاباً إلى ظلمات لم تقف على سحاب لأنه مضاف إلى الظلمات، فإن نونت وكسرتها، لم تقف على سحاب أيضاً، لأن ظلمات بدل من ظلمات الأول.
ثم قال تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، أي إذا أخرج الناظر يده من هذه الظلمات التي وصفت لم يكد يراها، أي رآها بعد تعب وشدة. رؤية خفية، فإن قيل: كيف رآها مع هذه الظلمات المتضاعفة، فالجواب: أنه كقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة أي ما رأيتك إلا بعد نظر وشدة، وتعب، فكذلك هذا.
وقيل: المعنى إذا أخرج يده رائياً لها لم يكد يراها، أي لم يقرب من أن(8/5126)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
يراها، فهو لم يراها من شدة الظلمة.
وقيل: المعنى: إذا أخرج يده لم يراها، ويكد داخل كدخول الظل فيما معناه اليقين كقوله تعالى: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} [فصلت: 48].
وقيل: المعنى لم يرها ولم يكد أي لم يقرب من الرؤية لشدة الظلمة.
ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}، أي من لم يرزقه الله إيماناً وهدى من الضلالة، ومعرفة بكتابه فما له من هدى ولا إيمان ولا معرفة.
وقال الزجاج: ذلك في الدنيا: أي من لم يجعل الله له هداية إلى الإسلام في الدنيا لم يهتد. وغيره يتأوله في الآخرة، أي من لم يجعل الله له نوراً إلى الجنة، والنور الإيمان بالله.
قال تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ}،(8/5127)
أي أَلَم يا محمد بعين قلبك أن الله يصلي له من في السماوات والأرض من مَلَكٍ، وإنس، وجن، والطير صافات أيضاً في الهواء تسبح لله، كل قد علم الله صلاته وتسبيحه، فال مجاهد: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق.
وقيل: المعنى كل قد علم صلاة الله. أي الصلاة التي فرض الله وتسبيح الله.
وقوله: {والله عَلِيمٌ / بِمَا يَفْعَلُونَ}، يدل على قوة قول من قال: معناه: قد علم الله صلاته وتسبيحه. وإظهار اسم الله في {والله عَلِيمٌ}، يدل على قول كون الضمير في الموضعين لغير الله، إذ لو كان لله لم يظهر الاسم، لتقدم ذكره في قوله تعالى: {أَنَّ الله يُسَبِّحُ}، وكان يلزم أن يكون " وهو عليم ". وإنما يجوز في هذا لأن المعنى لا يشكل، فلا يظن فيه أن الثاني غير الأول، وهو مثل:
" لا أرى الموت يسبق الموت شيء ".(8/5128)
وقيل: معنى التسبيح من الخلق كلهم، في هذا هو أن ما في الخلق من الدلالة على قدرة الله، تنزيه له من كل سوء، ومن أن يعبد غيره، وليس هو تسبيح على الحقيقة، إذ لو كانت الطير تسبح على الحقيقة لكانت مكلفة بالطاعة، ولكانت بمنزلة العقلاء من الناس المكلفين، فهو مجاز في ما لا يعقل. والقول الأول عليه أكثر الناس. ومعنى {عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، أي هو ذو علم بما يفعل كل مصل ومسبح منهم، لا يخفى عليه شيء.
وتقف على {تَسْبِيحَهُ}، إذا جعلت الضمير يعود على المصلي والمسبح، ثم تبتدئ {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، وإن جعلت الضمير يعود على الله أو جعلت الضمير في علم الله، لم تقف إلا على {يَفْعَلُونَ} لأن الاسم قد ظهر وهو أفخم عند سيبويه من إضماره في مثل هذا المعنى لا يشكل.(8/5129)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
قال تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: له سلطانهما وملكهما دون كل من هو دونه من سلطان ومَلِكٍ.
ثم قال: {وإلى الله المصير}، أي: الله مرجعكم بعد موتكم فيوفيكم أجور أعمالكم فأحسنوا العمل تدركوا الأمل.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، يزجي يسوق السحاب حيث يريد {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، أي: يؤلف قطعه أي يلصق بعضها إلى بعض ويقربها، لأن السحاب يحدث قطعاً، قطعاً.
وقيل: معناه يؤلف متفرقة لأن السحاب جمع سحابة.
وقال عبيد بن عمر: " الرياح أربع: يبعث الله الريح الأولى: فَتَقُمُّ(8/5130)
الأرض قَمّاً، ثم يبعث الثانية فتنشئه سحاباً، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً، أي متراكماً بعضه على بعض، ثم يبعث الرابعة فتمطره، والودق المطر ".
ومعنى: {مِنْ خِلاَلِهِ}، أي: من بين السحاب، والهاء من {خِلاَلِهِ} تعود على السحاب والخلال جمع خَلَلٍ.
وقرأ ابن عباس، والضحاك: من خلَلِه بالتوحيد لأنه مثل: جمل وجمال:
ثم قال تعالى ذكره: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ}، فمن يرد صفة للجبال، كما يقول: أعطيتك من طعام من بُرٍٍّ، فالجبال هي من برد مخلوقة، وفيها صفة أيضاً لجبال، كأنه قال: وينزل من السماء من جبال مستقرة في السماء مخلوقة من برد.
وقيل: المعنى: وينزل من السماء قدر جبال أو أمثال جبال، من برد إلى الأرض.(8/5131)
فيكون {مِن بَرَدٍ}، في موضع نصب على البيان كقوله: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} [المائدة: 95].
وقال الزجاج: معناه وينزل من السماء من جبال من برد فيها. كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي وإنما جئت في (هذا) وفي الآية بـ (من) لما فرقت، ولأنك إذا قلت: هذا خاتم من حديد، وخاتم حديد، كان المعنى واحداً، ويجوز أن يكون من برد في موضع نصب كما تقول: مررت بخاتم حديداً على الحال عند سبيويه. وعلى البيان عند المبرد، وإن شئت كان في موضع خفض على البدل كما تقول: مررت بخاتم حديد على البدل.
وقيل: التقدير من جبال برد يتنوينهما، قاله الفراء. كما تقول: الإنسان من لحم ودم، والإنسان لحم ودم، فالجبال عنده هي البرد وليست الآية كالتمثيل الذي مثل، لأن حرف العطف في التمثيل وليس في الآية حرف عطف.(8/5132)
وذهب الأخفش إلى أن من زائدة فيهما، ومن جبال، ومن برد في موضع نصب عنده.
وقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ}، أي: فيصيب بالبرد من يشاء فيهلكه أو يهلك به زرعه، ويصرفه عن من يشاء أي عن إهلاك من يشاء.
ثم قال: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ}، أي: ضوؤه يذهب بالأبصار لشدة لمعانه. وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع: {يَذْهَبُ بالأبصار}، بالضم وخطأه / الأخفش، وأبو حاتم لأن " الباء " تعاقب الهمزة. وقيل: إن " جوازه " على زيادة الباء.(8/5133)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
وقيل: الباء متعلقة بالمصدر. والتقدير: يذهب إذهابه بالأبصار. وكذلك أجازوا أُدِخِلَ بالمُدْخَلِ " السجن " الدار فجمعوا بين الهمزة والباء على أن يتعلق الباء بالمصدر. وهو قول علي بن سلمان عن المبرد.
ثم قال: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار}، أي: يقلب من هذا في هذا، ومن هذا في هذا.
وقيل: معناه يعقب بينهما: إذا ذهب هذا أتى هذا، فيقلب موضع الليل نهاراً وموضع النهار ليلاً.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}، أي: إن في إنشاء السحاب، ونزول المطر والبرد، وتقليب الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر، والكاف من ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى ذكره: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ}، إلى قوله: {أولئك هُمُ الظالمون}،
معناه: والله خلق كا ما يدب من نطفة، فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات، ومنهم من يمشي على رجلين: كبني آدم، والطير، ومنهم من يمشي على أربع كالبهائم.(8/5134)
وجاز أن تأتي {مَّن} هنا لأنه لما خلط من يعقل لمن لا يعقل غَلَّبَ ما يعقل فقوله: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ}، قد يدخل فيه الناس وغيرهم من البهائم ولذلك قال: " فمنهم " ولم يقل: فمنها ولا منهن.
{يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ}، أي: يحدث من يشاء من الخلق {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثم قال تعالى: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}، أي: علامات واضحات دالات على طريق الحق.
وقوله: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ}، أي: يرشد من يشاء من خلقه إلى دين الإسلام وهو الطريق المستقيم.
وقوله: {على أَرْبَعٍ}، تمام. قوله مبينات، قطع حسن.
ثم قال: {وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا}، أي: ويقول المنافقون: صدقنا بالله وبالرسول وأطعناهما. {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك}، أي: ثم تُدْبِرُ طائفة منهم من بعد قولهم وإقرارهم بالإيمان.(8/5135)
ثم قال تعالى: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين}، أي: ليس قائلو هذه المقالة بمؤمنين. {مِّن بَعْدِ ذلك} قطع.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، يعني هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى كتاب الله، وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ}، أي: يعرضون عن قبول الحق.
ثم قال تعالى: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}، أي: إن يكن لهؤلاء المنافقين حق قِبَلَ الذين يدعونهم إلى كتاب الله يأتون إلى رسول الله منقادين لحكمه طائعين غير مكرهين.
يقال: أذعن فلان بالحق إذا أقر به طائعاً.
قال مجاهد: مذعنين سراعاً.(8/5136)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
وقال عطاء: هم قريش. ثم قال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا}، أي: أشكّوا في رسول الله أنه نبي ورسول فيأبوا الإتيان إليه أم يخافون أن يحيف الله عليهم، أن يجور عليهم بحكمه فيهم ومعناه: أن يحيف رسول الله، ولكن بدأ باسمه جل ذكره تعظيماً. كما يقال: قد أعتقك الله ثم أعتقك، وما شاء الله ثم شئت. ويدل على ذلك قوله: {لِيَحْكُمَ}، ولم يقل ليحكما.
ثم قال: {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون}، أي: لم يخافوا أن يحيف رسول الله عليهم فيتخلفون عنه لذلك، بل تخلفوا لأنهم قوم ظالمون لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين}.
قرأ الحسن {قَوْلَ} بالرفع على اسم كان، وهذه الآية تأديب للمؤمنين ليسارعوا إلى طاعة الله ورسوله إذا دعوا إلى حكم. ولفظه لفظ الخبر ومعناه التحضيض أن يفعل المؤمنون كذلك.
وقوله: {وأولئك هُمُ المفلحون}، معناه المدركون طلباتهم بفعلهم. ثم(8/5137)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
قال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ}. قال ابن أبي كُريمة: معناه من يطع الله فيوحده، ورسوله فيصدقه، ويخش الله فيما مضى من ذنوبه، ويتقه فيما بقي من عمره فأولئك هم الفائزون.
الفوز في اللغة: النجاة، والفلاح: البقاء في النعيم.
وقيل: المعنى: من يطع الله فيما أمره به، ونهاه عنه ويسلم لحكمه له / وعليه، ويخشى عاقبة معصية الله، ويتق عذاب الله، فأولئك هم الفائزون أي الناجون من عذاب الله.
قال: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}، أي: وحلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله ورسوله إذا دعوا إليه: جهد أيمانهم، أي: أغلظ(8/5138)
أيمانهم وأشدها لئن أمرتهم يا محمد بالخروج إلى الجهاد ليخرجن. قل لهم يا محمد: لا تقسموا أي لا تحلفوا هذه طاعة معروفة بينكم فيها التكذيب.
وقيل: المعنى لا تحلفوا طاعة معروفة أمثل: من قسمكم.
وقال مجاهد: معنى طاعة معروفة: أي قد عرفت طاعتكم أي أنكم تكذبون.
ثم قال: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، من طاعتكم له ولرسوله وخلاف أمرهما وغير ذلك من أموركم.
وأجاز الزجاج: {طَاعَةٌ} بالنصب على المصدر {لاَّ تُقْسِمُواْ}، تمام. ثم قال: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}، أي: قل يا محمد لهؤلاء المقسمين ليخرجن(8/5139)
معك إذا أمرتهم: أطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعوا الرسول {فَإِن تَوَلَّوْاْ}، يصلح أن يكون ماضياً، ومستقبلاً، ولكن هو هنا مستقبلاً بدليل قوله: {عَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ}، ولو كان ماضياً لقال: عليهم ما حملوا. ومعنى: " عليكم ما حملتم " أي عليكم ما أمركم به الرسول. وعليه ما حمل أي ما كلف من التبليغ.
ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}، أي: إن تطيعوا الرسول فيما أمركم به، ونهاكم عنه: تهتدوا أي ترشدوا وتصيبوا الحق {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين}، أي: ليس على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلغهم رسالات الله بلاغاً بيناً، ويفهمهم ما أراد الله منهم فيما أرسله به إليهم.(8/5140)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
قوله تعالى ذكره: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ}.
أي وعد الله المؤمنين منك أيها الناس، وعملوا الأعمال الصالحات {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} قيل: أرض المشركين بعد النبي. فأخبر الله نبيه ووعده أنه سيمكن من آمن به من ملك أرض العدو، وأنه سيستخلفهم في تلك آمنين، فكان ما وعد به، وهذا من أدل ما يكون على صحة نبوة محمد عليه السلام لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فلا يكون ذلك إِلا عن وحي من الله إليه بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا الإخبار من متخرص يصيب ويخطئ، ويصيب بعضاً ويخطئ في بعض لأنه قد كان كل ما وعدهم به، لم يمتنع منه(8/5141)
شيء، والمتخرص يقع خبره كذباً في أكثر أقواله، وربما وافق بعض ما أخبر به، وأخطأ في بعض، ولا يصيب المتخرص في كل ما وعد به، فلما كان كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتنع منه شيء علمنا أنه بوحى، والوحي لا يكون إلا للنبي والرسول الصادق في أخباره، فكان في ذلك دلالة على نبوة محمد عليه السلام. لأن الله تعالى ذكره قد أنجز له وعده. وفيها دلالة على خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعلى أمانتهم، لأنه لم يستخلف بعد رسول الله أحد ممن خوطب بهذه الآية غيرهم. لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " وهذا موافق للآية
ومعنى: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ}، عني به بنو إسرائيل إذ أهلك(8/5142)
الله الجبابرة بالشام وجعلهم ملوكها وسكانها، فدل ذلك أن الله هو الذي استخلفهم في الأرض، وبأمره صاروا خلفاء وأئمة، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئاً.
ثم قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ}، أي: ليوطنن لهم دينهم وهو الإسلام الذي ارتضاه لهم وأمرهم به، وإنما جاء {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} في جواب {وَعَدَ} لأن الوعد قول فصار بمنزلة: قال لهم: ليستخلفنهم.
ثم قال: {يَعْبُدُونَنِي}، أي: يخضعون لي بالطاعة، لا يشركون في عبادتهم في الأوثان والأصنام، و " يعبدون ": حال أي وعدهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون مستأنفاً على الثناء عليهم. ويروى أن بعض أصحاب النبي عليه السلام شكى إليه ما هم فيه من العدو، وتضييقه عليهم، وشدة الخوف، وما يلقون من الأذى / فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم. فأنجزه الله لهم، وملكهم ما وعدهم وأظهرهم على عدوهم.(8/5143)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قال أبو العالية: مكث النبي عليه السلام عشر سنين خائفاً، يدعو إلى الله سراً وجهراً ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها واصحابه خائفين يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع هنا السلاح.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة معناها: لا تَغْبُرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبياً ليس بيده حديدة، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك}، أي: من كفر بالنعمة لا بالله قاله: أبو العالية.
قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة}، أي: بحدودها {وَآتُواْ الزكاة}، يعني التي فرض الله {وَأَطِيعُواْ الرسول}، يعني فيما أمر به ونهى عنه(8/5144)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، أي: لعل ربكم يرحمكم، ولعل من الله خبر واجب يفعله بفضله.
قال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض}، من قرأه بالياء فالمفعول الأول لحسب محذوف على قول الفراء. والتقدير لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين.
وقال علي بن سليمان: {الذين كَفَرُواْ}، في موضع نصب.
والتقدير لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين. ويجوز أن يكون المعنى: لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين. فأما من قرأ بالتاء فهو الأمر الظاهر، والنبي عليه السلام هو المخاطب، وهو الفاعل، و {الذين كَفَرُواْ}، في موضع نصب. و {مُعْجِزِينَ}، مفعول ثان. ومعنى الآية لا تحسبن يا محمد الذين كفروا(8/5145)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
معجزين في الأرض إذا أراد الله هلاكهم، وتم الكلام على الأرض. ثم ابتدأ بخبر آخر عن عاقبة أمرهم، فقال: {ومأواهم النار}.
قيل: هو معطوف على محذوف تقديره: بل هم تحت القدرة ومأواهم النار بعد هلاكهم. {وَلَبِئْسَ المصير} أي: بئس الذي يصيرون إليه.
قال: {يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم}.
قال ابن عمر: هي محكمة. ودل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، يعني البالغين، أي يستأذن هؤلاء الأطفال إذا بلغوا على كل حال، كما استأذن البالغون في كل وقت، يعني من الرجال خاصة.
وقيل: عني به من مَلَكْتَهُ من الرجال والنساء ألا يدخل عليك في هذه الثلاثة الأوقات إلا بإذن.
وقوله: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ}، يعني من لم يحتلم من الأحرار.(8/5146)
ثم قال: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}، أي: في ثلاث مرات، يعني: بالمرات ثلاث أوقات. ثم بين الثلاث أوقات متى هن فقال: {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر}، إلى قوله: {صلاة العشآء}، ولو حُمِلَ الكلام على ظاهره لوجب ألا يدخل إلا بعد استئذان ثلاث مرات، وليس الأمر كذلك إنما هو إذن واحد.
قال ابن عباس: إن الله رفيق حليم رحيم بالمؤمنين يحب السترة عليهم، وكان القوم ليس لهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم والولد واليتيم على الرجل، وهو مع أهله في حال جماع، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاث، ثم جاء الله باليسر وبسط في الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وعنه أنه قال: الآية محكمة،(8/5147)
والعمل بها لازم، ولكن الناس لا يعملون بها.
وقيل: إنما أمروا بالاستئذان لأنها أوقات يُتجرد فيها من الثياب، وتنكشف العورات، ودلت الآية على أن البالغين من ذوي المحارم عليهم الاستئذان في هذه الأوقات، وفي غيرها، وهؤلاء المذكورون في الآية إنما يستأذنون في هذه الأوقات خاصة.
وقال ابن المسيب: هي منسوخة: لا يُعمل بها اليوم. يعني أن الأبواب قد صنعت، والستور قد منعت من دخول هؤلاء وغيرهم على الإنسان، ودل على ذلك ما قال ابن عباس.
قال ابن عباس: جاء الله باليسر، وبسط الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستيذان الذي أمروا به. فكأنها على هذا القول ندب.
ثم قال: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}، من نصب ثلاث رده على ثلاث مرات.(8/5148)
وقيل: هو ظرف / والتقدير أوقات ثلاث عورات، والرفع على الابتداء وما بعده الخبر، والعورات الساعات التي تكون فيها العورة، والخلوة سميت عورة لكون ظهور العورة فيها، كما قالوا: ليلك نائم: لكون النوم فيه.
وقيل: التقدير: ثلاث أوقات ظهور عورات.
ثم قال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، أي: ليس عليكم معشر أهل البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار إثم في الدخول عليكم بغير استئذان بعد الأوقات.
وهذا يدل على أن على الموالي من الاستئذان في الدخول على العبيد في هذه الأوقات، مثل ما على العبيد. لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، أي: بعد هذه الأوقات في الدخول حرج. ويدل عليه أيضاً قوله: {طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ}، أي: يطوفون عليهم، كما يطوفون عليكم في هذه الأوقات، فعليكم من الاستئذان مثل ما عليهم. لكن خص الله الموالي بالخطاب والذكر، لأنهم هم الذين عرفت لهم الخدمة من عبيدهم.
ثم قال تعالى: {طوافون عَلَيْكُمْ}، أي: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار: طوافون عليكم: أي يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن.
وقوله: {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ}، أي: يطوف بعضكم على بعض في سوى هذه(8/5149)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الأوقات الثلاثة.
ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات}، أي: كما بين لكم أوقات الاستئذان كذلك يبين لكم جميع أعلامه، وأدلته {والله عَلِيمٌ}، أي: ذو علم بمصالح عباده، حكيم في تدبيره إياهم.
ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ}، أي: إذا بلغ الأطفال من أولادكم وأقربائكم الحلم فليستأذنوا أي إذا أرادوا الدخول عليكم في كل الأوقات.
{كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني البالغين.
وقيل: يعني الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار.
قال ابن عباس: أما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، إلا بإذن على كل حال. وهو معنى الآية {وَإِذَا بَلَغَ}.
وقال عطاء: واجب على الناس كلهم إذا بلغوا الحلم أن يستأذنوا على من كان من الناس.
وقال الزهري وابن المسيب: يستأذن الرجل على أمه.
ثم قال: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معناه كالأول.(8/5150)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} قال يعقوب: هو تمام. وقال غيره: التمام العشاء. لأن ما بعد مرات تبيين لها، فأما من قرأ {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ}، بالنصب فلا يكون الوقت على قوله إلا ثلاث عورات لكم، (وبعدهن) تمام.
قوله تعالى: {والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً}.
أي: واللواتي قعدن من النساء عن التزويج وعن الولد من الكبر، ولا يرجون نكاحاً، ولا يرغب في نكاح مثلهن، فلا إثم عليهن، أن يضعن القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء عند أولي المحارم من الرجال غير متبرجات بزينة. خفف الله تعالى عنهن في وضع ثيابهن، إذ لا يرغب في النظر إليهن الرجال، ولا في نكاحهن، والنظر إلى شعورهن وما هو عورة منهن، لا يجوز لأحد فعله بمثل الشابة.
وإنما خفف الله تعالى ذلك عنها ولم يبح للرجال النظر إلى شيء من(8/5151)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
عوراتهن من شعر وغيره، وإن كن لا يرغب في نكاحهن. واحدتهن قاعد بغير هاء وحذفت الهاء عند البصريين على النسبة.
وقال الكوفيون: لما كان لا يقع إلا لمؤنث حذفت الهاء.
وقيل: حذفت منه الهاء ليفرق بينه وبين القاعدة التي هي الجالسة.
وقوله تعالى: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ}، أي: ألا يضعن ذلك خير لهن.
وقال مجاهد: معناه: أن يلبسن جلابيبهن فلا يضعنه خير لهن:
{والله سَمِيعٌ}، أي: يسمع ما تنطق ألسنتهم عليم بما تضمره صدورهم.
قال: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ}، الآية.
هذه الآية نزلت ترخيصاً للمسلمين أن يأكلوا مع العميان والعرج /(8/5152)
والمرضى، وأن يأكلوا في بيوت غيرهم، وعلى بمعنى " في " وذلك أنهم تحرجوا من ذلك لما نزلت {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل}، قاله ابن عباس.
وقال الضحاك: كان أهل المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا أعرج، ولا مريض على طريق التقزز.
وقيل: على طريق التحرج. لأن المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج المحتبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله تعالى إباحة ذلك في هذه الآية.
وقيل: نزلت ترخيصاً لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في(8/5153)
هذه الآية. لأن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله، وكان أهل الزمانة يتحرجون أن يطعموا ذلك الطعام، قال ذلك مجاهد. وقيل: نزلت ترخيصاً لأهل الزمانة أن يأكلوا من بيوت من خلفهم في بيوته من الغزاة. وكان الغزاة يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك. قاله الزهري.
وقيل: بل عني بذلك الجهاد، أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد. ثم ابتدأ كلاماً آخر فقال: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ}، قاله ابن زيد.
وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27]،(8/5154)
فإذا فرض عليهم ألا يدخلوا حتى يستأذنوا، فالدخول والأكل آكد ألا يفعل إلا بعد إذن، ولا يأكل حتى يدخل، وقد فرض عليه ألا يدخل إذا لم يجد فيها أحداً، فالأكل ممتنع لامتناع الدخول فهو ناسخ له.
قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ}، الآية. هذا شيء قد انقطع ونسخ؛ إنما كان هذا في أول الإسلام، ولم تكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت ولا أحد فيه، وهو جائع فيجد طعاماً فسوغه الله أن يأكله، وقد ذهب ذلك، اليوم البيوت فيها أهلها وإذا خرجوا أغلقوها ولا يحل لأحد أن يفتح باب أحد، فليأكل متاعه بإجماع. وأكثر أهل النظر على أن الآية منسوخة بقوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188]، وبقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53](8/5155)
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه ".
وقيل: نزلت ترخيصاً لمن كان يتقي مؤاكلة الزمنى.
فالآية على قول ابن زيد: منسوخة، وهي ناسخة لتحرجهم عن الأكل مع الزمنى على قول ابن عباس المتقدم، وهو قول جماعة من أهل العلم.
وقوله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}، يعني وكيل الرجل وقيِّمه في ضيعته أنه لا بأس أن يأكل من الثمر ونحوه. قال ابن عباس.
قال أبو عبيد: هذا كله إنما هو بعد الإذن لأن الناس توقفوا أن يأكلوا(8/5156)
لأحد شيئاً بإذن أو بغير إذن لما نزلت: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188].
وقيل: عني به منزل الرجل نفسه. أنه لا بأس عليه أن يأكل منه.
وقال مجاهد: يعني خزائن الرجل ومتاعه.
وقرأ قتادة: {مَّفَاتِحهُ} وهي لغة، ومفتح أكثر من مفتاح والمفتح: الخزانة.
وقرأ ابن جبير: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}، على من لم يسم فاعله، ومعنى {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ}، ولا عليكم أيها الناس. ولما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب. فقوله {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ}، وما بعده من المخاطبة، يراد به جميع من ذكر من الأعمى، والأعرج، والمريض، وأصحاب البيوت.(8/5157)
وقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}، قال قتادة: فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره لم يكن بذلك بأس.
وقوله: {أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ}، وما بعده، ولم يذكر بيوت الأبناء يدل على أن بيت الابن داخل في بيت الرجل، فهو داخل في قوله: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ}، فبيت ابن الرجل مثل بيته، ذلك على صحة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك ".
فمال ابن الرجل كمال الرجل، إلا ما أحكمته السنة في غير المأكول في بيت الإبن، وهذه الآية تدل على أن / للرجل أن يأكل من بيت ابنه بغير إذنه، كما يأكل من بيته نفسه، لأن له أن يأخذ ماله ويستحل كسبه، وهو غني عن ذلك، فإن كان الأب فقيراً، فليس له على الابن إلا ما أحكمته السنة من النفقة بالمعروف.
ثم قال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، أي إثم وحرج أن تأكلوا جميعاً أي مع الفقراء(8/5158)
والزمنى {أَوْ أَشْتَاتاً} أي متفرقين، وأشتاتاً نصب على الحال، وكذلك جميعاً.
قال ابن عباس: كان الرجل الغني يدخل على الفقير، من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى الطعام، فيتحرج أن يأكل معه، لأنه فقير، فأمروا أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً.
وقيل: عني بذلك حي من العرب، كان لا يأكل أحدهم شيئاً وحده، ولا يأكل إلا مع غيره، فأذن الله أن يأكل من شاء منهم وحده، ومن شاء مع غيره.
وعن ابن عباس أيضاً قال: كانوا يأنفون أن يأكل الرجل وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم في ذلك.
وقال ابن جريج: كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده،(8/5159)
حتى نزلت الآية.
وقال الضحاك: كانوا لا يأكلون متفرقين ديناً لهم فأنزل الله إباحة ذلك.
وقيل: عني به قوم من الأنصار. كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ذيف إلا مع ضيفهم فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. روي في ذلك عن أبي صالح وعكرمة.
وروى مطرف عن مالك عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: أنه كان يقول في هذه الآية: إنها نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى، والأعرج، والمريض، وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم، إذا احتاجوا إلى ذلك، فكانوا يتقون أن يأكلوا منها، ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم طيبة بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية أباح لهم الأكل منها.(8/5160)
وقوله: {مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ}، ولم يذكر الأبناء، يدل على أن بيت الابن بيت الأب مع قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنت ومالك لأبيك "، ولما كانت بيوت الأب لا يملكها الابن قال: {أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ}، لو كان يملكها لكانت كبيته وبيت أبيه.
وقوله عن أم مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] يدل على أن الرجل يملك أمر ابنه وماله حتى يبلغ، إذ لم تنذر أم مريم إلا فيما تملك، فإذا بلغ الولد فعل بنفسه ما شاء بالإجماع على ذلك.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ}، أي يسلم بعضكم على بعض، أي سلموا على أهليكم وعيالكم.(8/5161)
قال عمرو بن دينار: فإن لم يكن في البيت أحد فقل السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله.
وقال ابن عباس: يقول إذا لم يكن في البيت أحد: السلام علينا من ربنا.
وعن ابن عباس أنه: عني به المساجد تسلم إذا دخلت فإن لم يكن فيها أحد قلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال النخعي: إذا لم يكن في المسجد أحد فقل: السلام على رسول الله، وإذا لم يكن في البيت أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال الحسن معناه: إذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسلمين فليسلم بعضكم(8/5162)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
على بعض.
وقيل معناه: إذا دخلتم بيوتاً لا أحد فيها: فسلموا على أنفسكم.
وقوله: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله}، أي ليحيي بعضكم بعضاً، والتحية البركة، ويكون في غير هذا الملك نعتت بطيبة لأن سامعها يستطيب سماعها.
ثم قال تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات}، أي هكذا يفضل لكم معالم دينكم، لعلكم تعقلون عنه أمره، ونهيه، وأدبه.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}.
أي إنما المؤمنون حق الإيمان: الذين صدقوا الله ورسوله وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجتمع إليه الجميع من حرب، أو صلاة، أو تشاور في رأي / يعم نفعه لم يذهبوا عنه حتى يستأذنوه.
ثم قال: {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} أي إن الذين(8/5163)
يستأذنونك يا محمد في الانصراف، ولا يمضون عنك بغير رأيك أولئك هم المؤمنون بالله ورسوله حقاً.
ثم قال تعالى لنبيه: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي: لبعض حاجاتهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ}، في الانصراف عنك {واستغفر لَهُمُ الله}، أي: وادع لهم الله أن يتفضل عليهم بالمغفرة، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
وقيل: المعنى: واستغفر لهم الله لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذراً.
ويروى: أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال: " يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك "، فأمر الله نبيه بالإذن لمن استأذنه، وأمره، يستغفر لهم، ودل قوله:(8/5164)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ}، على أن العمل بأوامر الله هو من الإيمان، فالعمل بالاستئذان الذي أمرهم به من الإيمان.
قال تعالى يخاطب المؤمنين: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، أي: اتقوا دعاء الرسول عليكم إن مضيتم بغير أمره، فتهلكوا ولا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فإن دعاءه مجاب. قال ابن عباس.
وقال مجاهد: أمروا أن يدعوا الرسول بلين وتواضع، ولا يدعوه بغلظ وجفاء، كما يخاطب بعضكم بعضاً. وهذا مثل قوله: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي، وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ} [الحجرات: 2].(8/5165)
وقال قتادة: أمروا أن يفخموه ويشرفوه، وقول ابن عباس: أليق بما تقدم قبله من المعنى.
ثم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً}، الآية، هذه الآية نزلت في حفر الخندق حول المدينة، وذلك أن اليهود سعت في البلاد على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت قريش وقائدها أبو سفيان، وأتت(8/5166)
غطفان من قيس وقائدها عيينة بم حصن، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق على المدينة، وذلك في شوال من سنة خمس من الهجرة فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق بيده، وعمل معه المسلمون، وتخلف عن العمل رجال من المنافقين، وجعلوا يعتذرون بالضعف ويتسللون إلى أهليهم بغير إذن من رسول الله وجعل المؤمنون يستأذنون النبي عليه السلام غذا عرضت لهم حاجة، فأنزل الله هذه الآية في ذلك.
قال الضحاك: كان يستتر بعضهم ببعض فيقومون. ولواذاً مصدر لاوذ ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي متلاوذين أي مخالفين، يلوذ بعضهم ببعض، فيستتر به لئلا يُرى عند انصرافه.
قال مجاهد: لواذاً خلافاً. ولم يعتل لواذاً، كما اعتل قياماً، لأن الواو صحت في(8/5167)
الفعل، فقيل لاوذ يُلاوذ فصحت في المصدر واعتلت في الفعل من قيام، فقيل: قام يقوم فوجب أن يعتل في المصدر، فقيل: من أجل ذلك قياماً فما عرفه.
ثم قال: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}، أي ليحذر من يخالف أمر النبي عليه السلام أن تصيبه فتنة وهي: أن يطبع على قلبه فلا يؤمن، أي يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه.
قال ابن زيد: هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: اللواذ: الروغان، ثم قال: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي في الدنيا على صنعهم ذلك.
وقال أبو عبيدة: " عن " هنا زائدة. وذلك بعيد، على مذهب سيبويه، وغيره لأن " عن " و " على " لا تزادان. ومعناه يخالفون بعدما أمرهم النبي عليه السلام.
وقال الطبري: المعنى: فليحذر الذين يولون عن أمره، ويدبرون عنه(8/5168)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
معرضين.
قال: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}، أي ملك ما فيها، فلاينبغي لخلوقٍ مملوكٍ أن يخالف أمر مالكه، وخالقه فيستوجب عقوبته.
/ {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} من الطاعة والمعصية والمعنى: قد علم ذلك، فيجازيكم على ذلك.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ}، أي يرجع الذين يخالفون عن أمر الله {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ}، أي يخبرهم بأعمالهم السيئة ويجازيهم عليها. {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}.
أي ذو علم بكل شيء، من عملكم وغيره، وعمل غيركم لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو يجازي كلاًّ بعمله يوم الرجوع إليه وهو يوم القيامة.(8/5169)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
مكية
وقال الضحاك: هي مدنية - وفيها آيتان مكيتان أو ثلاثة.
قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [68] الآيتان، وقيل إلى قوله (كِرَاماً) [72].
قوله تعالى ذكره: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} [1]، إلى قوله (رَجُلًا مَسْحُورًا) [8].
قال ابن عباس تبارك من البركة.
وقال الفراء هي في العربية وتقدس واحد وهما العظمة.(8/5171)
وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خيره.
وقيل: تبارك: تعالى عطاؤه، أي: زاد وكثر.
وقيل: معناه: دام وثبت إنعامه.
وقيل: معناه: دام بقاء {الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ}، وثبتت نعمه على عباده، وهو كله مشتق من برك الشيء: إذا ثبت ومنه برك الجمل.
وقال النحاس، تبارك: تفاعل من البركة. وهو حلول الخير، ومنه فلان: مبارك أي: ألخير يحل بحلوله، مشتق من البرك، والبركة وهما المصدر.
والفرقان: القرآن، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر.
وقوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، أي: الذي أنزل عليه الفرقان ليكون لجميع الجن والإنس.(8/5172)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{نَذِيراً}، أي: منذراً لهم عقاب الله والنذير: المخوف عقاب الله، والنذير هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو القرآن.
وقوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] يدل على أنه: محمد صلى الله عليه وسلم ومثله {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] وأنذركم بالوحي ونذير بمعنى: منذر ولكن تضمن بناء فعيل للتكثير.
قال: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: سلطان ذلك كله وملكه. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}، هذا رد على من أضاف إليه الولد.
ثم قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ}، هذا رد وتكذيب لمن عبد مع الله غيره، ورد على قول العرب فب التلبية: (لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه(8/5173)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
وما ملك).
ثم قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، أي: اخترعه {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، أي: هيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت.
وقيل: معناه: خلق الحيوان وقدَّر له ما يصلحه ويهيئه.
قال: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}، أي: اتخذ مشركو قريش آلهة يعبدونها من دون الله يقرعهم بذلك، ويعجب أهل النهي من فعلهم وعبادتهم ما لايخلق شيئا وهو يُخلق، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً أي: لا يملك الآلهة دفع ضر، ولا استجلاب نفع. ولا يملك إماتة حي، ولا إحياء ميت، ولا ينشره بعد مماته.
وتركوا عبادة من يملك الخير والنفع ويحيي ويميت، خلق كل شيء وهو(8/5174)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
مالك كل شيء، ينشر الأموات إذا أراد، ويرزق الخلق بمشيئته.
قال: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه}،: أي: قال هؤلاء المشركون: ما هذا الذي أتى به محمد إلا كذب وبهتان إخترعه واختلقه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، يعنون أن اليهود هم يعلمون محمداً صلى الله عليه وسلم. ما يأتي به من القرآن قاله مجاهد.
وعن ابن عباس: أنهم عنوا بقولهم {قَوْمٌ آخَرُونَ}، يسارا أبا فُكيهة مولى الحضرمي وعداساً وجبراً.
ثم قال: {فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً}، أي: أتى هؤلاء القائلون: إن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم إفك افتران بظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، إذ وصفوا كلام الله بغير صفته. والزور أصله تحسين الباطل، والمعنى: فقد جاء هؤلاء القائلون: إن القرآن: إفك وزور بكذب مُحَسَّنٍ.(8/5175)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
قال تعالى: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين}، أي: قال أيضاً هؤلاء المشركون: الذي جاء به / محمد صلى الله عليه وسلم: وهو أساطير الأولين أي: أخبارهم، وما سطروا في كتبهم، {اكتتبها}، محمد {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ}، أي تقرأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، أي: غدوة وعشياً.
ويروى أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة.
قال ابن عباس، كان النضر من شياطين قريش، وكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك فارس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً(8/5176)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
فذكر فيه بالله، وحذر قومه، ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقم الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ويقول: ما محمد أحسن حديثا مني، فأنزل الله جل ذكره في النضر ثمان آيات كل ما ذكر فيها {أَسَاطِيرُ الأولين}، ففيه نزل.
وقال ابن جريج {أَسَاطِيرُ الأولين}، أشعارهم وكهانتهم.
وواحد الأساطير أسطورة مثل: أحدوثة وأحاديث.
وقيل واحدها: أسطار كأقوال وأقاويل. وأسطار جمع سطر، فهو جمع الجمع على هذا القول.
قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض}، أي: قل يا محمد(8/5177)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
لهؤلاء المشركين أنزل القرآن الذي يعلم سراً من السماوات والارض، ولا يخفى عليه شيء.
قال ابن جريج: يعلم ما يسر أهل الأرض وأهل السماء.
{إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، أي: لم يزل يصفح عن خلقه ويرحمهم.
قال: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق}.
أي: ما له يأكل ويمشي، أنكروا عليه ذلك، ثم قالوا: {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}، أي: هلا نزل معه ملك من السماء فينذرنا معه {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ}، أي: يطلع على كنز من كنوز الأرض {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}،. أي يحدث الله له جنة يأكل منها.
قال ابن عباس: اجتمع أشراف قريش بظهر الكعبة وعرضوا عليه أشياء يفعلها لهم من تسيير جبالهم، وإحياء آبائهم، والمجيء بالله والملائكة قبيلا، وما ذكر(8/5178)
الله في بني إسرائيل. وقالوا له سل ربك يبعث معك ملكا نصدقك بما تقول، وسله يجعل لك قصورا، وجنانا وكنوزا من ذهب وفضة، تغنيك على ما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق، وتلتمس المعاش، كما نلتمسه حتى يعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ما أنا بفاعل ذلك، فحكى الله ذلك من قولهم له.
ثم قال تعالى ذكره {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي: قال ذلك بعضهم لبعض.
وقيل، قالوه للمؤمنين، أي: تتبعون رجلا له سَحر، والسَّحْر: الرئة أي:(8/5179)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
وما تتبعون إلا رجلاً مخلوقاً مثلكم من بني آدم.
قوله تعالى ذكره: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال}.
أي: انظر يا محمد كيف شبه لك هؤلاء المشركون الأشياء بقولهم: هو مسحور، فضلوا بذلك عن قصد السبيل {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}، أي: لا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثتك به. قال ابن عباس.
وقال مجاهد: لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي ضربوا لك. ومعناه: إنهم ضربوا هذه الأمثال ليتوصلوا بها إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فضلوا بذلك عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا.
قال {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك}، أي: خيراً ممّا قال المشركون لك هلا أوتيته. قاله مجاهد.(8/5180)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
وقال ابن عباس: خيراً من ذلك، أي: من مشيك في الأسواق، والتماسك المعاش. ثم بين ما هو الذي يجعل له فقال: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}، قال خيثمة: " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن يعطوك خيرا من الدنيا ومفاتيحها، ولم يعط ذلك من قبلك، ولا يعطه أحد بعدك، وليس ذلك يناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة.
فقال: يجمع لي ذلك في الآخرة "، فأنزل الله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ / خَيْراً مِّن ذلك} الآية.
قال: مجاهد: قصوراً بيوتا مبنية مشيدة. وكانت قريش ترى البيت من حجارة قصراً كائناً ما كان.
قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً}، أي: ما فعل(8/5181)
هؤلاء المشركون، ما فعلوا من تكذيب يا محمد إلا لأنهم كذبوا بالبعث، والنشر والقيامة.
ثم قال تعالى ذكره: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً}، أي: ناراً تسعر عليهم وتتقد. {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}، أي: إذا رأت النار أشخاصهم من مكان بعيد. {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}، أي: غلياناً وفواراً.
يقال، فلان يتغيظ على فلان: إذا غضب عليه فغلى صدره من الغضب عليه. وزفيراً: أي: صوتها حين تزفر، والتقدير سمعوا صوت التغيظ من التلهب والتوقد.
وقيل: معناه: سمعوا لمن فيها من المعذبين تغيظاً وزفيراً.
وقال المسيب بن رافع: يكون الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، فتخرج عنق من النار. فتقول: إني وكلت بثلاثة بمن دعا مع الله إلهاً آخر وبالعزيز الكريم، وبكل جبار عنيد. فتنطوي بهم فتدخلهم النار قبل(8/5182)
الناس بنصف يوم. ثم ينطلق الفقراء إلى الجنة فتقول لهم خزنة الجنة: أنَّ لكم هذا قبل الحساب؟ فيقولون والله ما أعطيتمونا أموالاً وما كنا أمراء فتصدقهم الملائكة فتأذن، فيدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم ويبقى الحساب على الأغنياء والأمراء، فيقول الرب تبارك وتعالى: (إياكم أعطيت، وإياكم ابتليت) فيحاسبون.
وقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ}، أتى على لفظ التأنيث، والسعير مذكر، فإنما ذلك: لأن التأنيث راجع إلى النار، لأن السعير هي النار وهذا كقول الشاعر:
إن تميما خلقت ملوما ... فقال خلقت لأن تميما قبيلة، ثم رجع إلى لفظ تميم فقال: (مَلُومَاً) ثم رجع إلى الجماعة فقال:
قوما ترى واحدهم صهميما. ... والصهميم: الجمل القوي الشديد النفس.(8/5183)
قال ابن عباس: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي، وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن مالك؟ قالت: إنه يستجيرك مني فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار. فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك. فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهيق البغل إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جأث.
وقيل: معنى {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}، إذا رآه خزانها من مكان بعيد {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}، حرصا على عذابهم رغضبا لله عليهم، فأخبر عن النار والسعير، والمراد خزان النار الموكلون بها، كما قال تعالى {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [الحج: 48]، يريد أهل القرية، وكما قال {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13]، يريد أهل القرية بدلالة قوله بعد ذلك {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] فرجع الخبر عن أهل القرية.(8/5184)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
قال تعالى: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ}، أي: وإذا أُلقِيَ هؤلاء المكذبون بالله من النار مكاناً ضيقاً، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، وقرنوا مع الشياطين. {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً}، أي: هلاكاً، قاله الضحاك.
وقال ابن عباس: ثبوراً: ويلا، وأصل الثبور في اللغة: الانصراف عن الشيء، يقال: ما تبرك عن هذا الأمر؟ أي: ما صرفك عنه. والمثبور المصروف عن الخير.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ".
وقال بعضهم، إنها لتضيق عليهم كما يضيق الرمح في الزج، قال ابن عمر وغيره.(8/5185)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
وقيل الثبور هنا دعاء بالندم، على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا، كقول الرجل واندماه، وكقوله، واحسرتاه على ما / فرطت. وفي الحديث أن أنس بن مالك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول من يكسى حلة من جهنم إبليس فيضعها على جنبه ويسحبها، يقول: واثبورا، وتتبعه ذريته تقول، واثبوراه، فإذا وقفوا على النار دعوا بالثبور، فتقول لهم الملائكة خزان جهنم لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبوراً كثيراً " وفي هذا دليل على طول مُقامهم فيها ريأسهم من النجاة.
قال تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}، أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بالساعة أذلك خير، " وذا " إشارة إلى ما تقدم، من ذكر النار والسعير،(8/5186)
{أَمْ جَنَّةُ الخلد}، والخلد: الذي يدوم ولا ينقطع. {التي وُعِدَ المتقون} أي: وعدها الله من اتقاه فيها أمره ونهاه {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً}، أي: جزاء لأعمالهم في الدنيا {وَمَصِيراً}، أي: يصيرون إليها في معادهم وإنما جاز التفضيل بين الجنة والنار بالخير، وقد علم أن النار لا خير فيها لأن الجنة والنار قد دخلا في باب المنازل في صنف واحد.
حكى سيبويه: عن العرب الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ وقد علم أن الشقاء لا يحبه أحد وإنما جاء ذلك على التنبيه.
وقيل: إنما جاء ذلك في الآية لأن " خيراً " ليس هو أفعل، ولا تأويل فيه لإضمار من، وإنما هو كما يقال، عنده خير، وكما قال:(8/5187)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
فشركما لخيركما الفداء.
وقيل: المعنى: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}، على علمكم وما تعقلون. وقيل: إن قوله: {أذلك خَيْرٌ}، مردود إلى قوله: {أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7]، وما قالوا بعده.
وقيل: هو مردود إلى قوله {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} [الفرقان: 10]، فذلك إشارة إلى هذا المذكور فقال: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}، فهذا يدل على أن قوله: {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} [الفرقان: 10] يعني به في الدنيا التي ينقطع نعيمها، ثم فاضل بين ذلك وبين ما في الآخرة التي لا ينقضي نعيمها.
قال تعالى: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ}، أي: في الجنة {خَالِدِينَ} أي: مقيمين فيها أبداً.
{كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً}، أي: كان إعطاء الله المؤمنين: جنة الخلد في الآخرة وعداً وعدهم على طاعتهم غياه ومسألتهم إياه ذلك، وذلك أن المؤمنين(8/5188)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فقال الله تعالى: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً}، قاله ابن عباس وابن زيد.
وقال محمد بن كعب، وعدا مسؤولا: أي: بمسألة من الملائكة للمؤمنين، وهو قول الملائكة {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8].
وقيل معناه: وعداً واجباً، والعرب تقول: لا أعطينك ألفاً وعداً. {مَّسْئُولاً}، أي: واجباً أي: هو واجب لك فاسأله.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}، أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المكذبين بالساعة. {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}، من الملائكة والانس والجن.(8/5189)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
قال مجاهد وابن جريج: يعني، عيسى، وعزيرا، والملائكة، فيقول: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ}، أي: أزلتموهم عن طريق الهدى، ودعوتموهم إلى الغي. {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل}، أي: أخطأوا سبيل الرشاد والحق.
وقيل: هي الأصنام والأوثان يحييها الله تعالى يوم القيامة فتجيبه بذلك.
قوله تعالى ذكره: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}،
أي قال عيسى صلى الله عليه وسلم وعزيراً، الملائكة تنزيهاً لك يا ربنا وبراءةً مما(8/5190)
أضاف إليك هؤلاء المشركون.
{مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} بل أنت ولينا من دونهم. {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ} بالمال في الدنيا والصحة {حتى نَسُواْ الذكر} أي: ذكرك. {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى.
قيل: إن أعمارهم طالت بعد موت الرسل فنسوا وهلكوا.
قال الحسن: البور الذي ليس فيه خير، وكذلك قال: ابن زيد، والعرب تقول لما فسد وهلك أو كسد: بائر ومنه بارت السوق / " ومن في {مِنْ أَوْلِيَآءَ} زائدة، زيدت للتوكيد بعد النفي، وأولياء في موضع نصب يتخذه، والمعنى: ما كان ينبغي لنا نتخذ من دونك أولياء، فكيف يتخذها أحد أولياء من دونك،(8/5191)
وكيف نرضى بذلك، نحن لا نرضى بذلك لأنفسنا، فكيف نرضاه لغيرنا، ووقع هذا الجواب على المعنى لا على اللفظ، لأنه ليس بجواب لقوله {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} ولكن حمل الجواب على المعنى لأن من عبد شيء فقد تولاه، ومن تولى شيئا فالمتولي ولي للمتولي، فكلاهما ولي للآخر، فلذلك قالوا: {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} فجاء الجواب على المعنى هذا يسمى التدريج عند بعض أهل النظر، ومثله قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] فأتى الجواب على المعنى، فقالوا: {سُبْحَانَكَ} [سبأ: 41] فكأنه قال: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، اتخذوكم أولياء يعبدونكم فقالوا: {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} وكذلك قوله {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} معناه: أنتم اتخذتم عبادي أولياء فضلوا. فقالوا: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}. وقرأ الحسن وأبو جعفر {أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} بضم النون وفتح الخاء.
قال أبو عمرو: لو كانت نُتخذ لحُذفت " من " الثانية: فقلت أن نتخذ من(8/5192)
دونك أولياء. وأجازه الفراء والكسائي: على بُعد وقُبح، وذلك لا يجوز عند البصريين لأن أولياء ليس بمفعول على هذه القراءة واحد في معنى الجمع وإنما تدخل " من " على الواحد الذي في معنى الجماعة، ألا ترى أنك تقول، ما رأيت رجلاً، فإن أردت النفي العام قلت: ما رأيت من رجل، وليس {أَوْلِيَآءَ} في قراءة من ضم النون واحدا في معنى جماعة، ألا ترى أنك لو قلت: ما اتخذت أحداً وليّاً لي جاز أن تقول ما اتخذت من أحد وليا، لأن أحدا في معنى الجماعة، أحداً من ولي لم يجز إذ ليس ولي في معنى الجماعة، فكذلك القراءة بضم النون، تقبح مع ثبات " من " قبل أولياء فافهمه.
ويتمكن على هذه القراءة عند من جوزها أن يكون المحشورون المسؤولون هم: الأصنام والأوثان، يحييها الله فتقول ذلك. ثم قال(8/5193)
تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي: فقد كذبكم أيها الكافرون، من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم. " بما تقولون "، أي: بقولكم فمعناه كذبوكم بكذبكم.
وقال ابن زيد معناه، فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله أي: بما تقولون من الحق.
قال: أبو عبيد تقديره فقد كذبوكم فيما يقولون. هذا كله على قراءة من قرأ بالتاء، فأما من قرأ بالياء فمعناه: فقد كذبوكم بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ} الآية، {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً}.
قال: ابن جريج: معناه: صرف العذاب عنهم ولا ينتصرون.(8/5194)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
وقيل: المعنى: فما يستطيعون لك يا محمد صرفاً عن الحق ولا نصراً لأنفسهم مما هم فيه من البلاء.
وقيل: معناه: فريضة ولا نافلة.
قال ابن زيد: ينادي منادٍ يوم القيامة: مالكم لا تناصرون، أي: من عُبد من دون الله لم ينصر اليوم من عَبده.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} أي: من يشرك بالله فقد ظلم نفسه بذلك.
قال الحسن وابن جريج: الظلم هنا: الشرك
قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام}، الآية: رد على المشركين الذين قالوا: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} أي: لقد علموا يا محمد أنه ما أرسل من قبلك من رسول إلا أنه ليأكل الطعام لأنه بشر من بني آدم، ويمشي في الأسواق فليس عليك في ذلك لا نقص ولا حجة.(8/5195)
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}، أي: بلاءً واختباراً، اختبرنا بعضكم لبعض، فجعلنا هذا نبياً، وهذا ملكاً، وهذا فقيراً، وهذا غنياً.
قال الحسن: في معنى الآية، يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان.
وقال ابن جريج: يمسك عن هذا، ويوسع على هذا فيقول: لم / يعطين مثل ما أعطى فلاناً، ويُبتلى بالوجع كذلك فيقول: لم يجعلني ربي صحيحاً مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء، ليعلم من يصبر ممن يجزع وقيل في معنى الآية، إن الشريف كان يريد أن يسلم فيمنعه من ذلك أن من هو دونه قد أسلم قبله فيقول: أعيّر بسبقه إياي. وإنه بعض الزمنى والفقراء كان يقول لم أكن غنياً صحيحاً فأسلم. ثم(8/5196)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
قال عز وجل: { أَتَصْبِرُونَ}، أي: إن صبرتم فقد علمتم أجر الصابرين.
قال الضاحك: معناه أتصبرون على الحق.
وقيل: معناه: لنعلم أتصبرون، وبه يتم الجواب، لقوله {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}، أي: إن ربكم لبصير بمن يصبر، ويجزع،
قوله تعالى ذكره: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة}،
أي وقال المشركون الذين لا يخافون العذاب، ولا يؤمنون ببعث ولا حساب لمحمد صلى الله عليه وسلم: هلا أنزل علينا الملائكة فتخبرنا أنك رسول حقا(8/5197)
{أَوْ نرى رَبَّنَا}، فيخبرنا بذلك. قاله ابن جريج وغيره.
غلطوا في صفات الله جل ثناؤه، ولم يعلموا أنه لا يُرى في الدنيا فسألوا ما لا يمكن كونه، كما غلط اليهود إذ قالوا {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] وهذا مثل قولهم في سورة " سبحان " {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 92] ثم قال جل ذكره: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ} أي: تعظموا إذ سألوا مثل هذا الأمر الجليل وقوله {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً}، أي: تقول الملائكة لهؤلاء المشركين: حراماً محراماً عليكم اليوم البشرى، قاله الضاحك وقتادة. وأصل الحجر المنع، ومنه حجر القاضي على فلان، ومنه حِجر الكعبة لأنه لا يدخل إليه في الطواف.(8/5198)
وقال: ابن جريج: هو قول من المجرمين، وذلك أن العرب كانت إذا كرهت شيئا قالت: حجرا محجورا. فما رأى المجرمون ما يكرهون يوم القيامة. قالوا حجراً محجوراً. يقولون ذلك للملائكة على عاداتهم في الدنيا أي: لا تعرضوا لنا، وذلك لا ينفعهم. وكذا قال: مجاهد: هو من قول المجرمين يستعيذون من الملائكة.
قال أبو عبيدة: في معنى الآية: كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا لقي رجلا في الشهر الحرام وبينه وبينه تِرة أو طلب، قال: حجراً محجوراً: أي: حرام عليك دمي وأذاي، قال: فإذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة قالوا: حجراً محجوراً: أي: حرام دماؤنا يظنون أنهم في الدنيا، وأن ذلك ينفعهم. وعن ابن عمر أنه قال: إذا كان يوم القيامة تلقت الملائكة المؤمنين بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكفار قالوا لهم بشرونا، فتقول لهم الملائكة: حجراً محجوراً أي: حراماً محرماً عليكم البشرى فيأسون من الخير.(8/5199)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
ثم قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ}، الآية أي: وعمدنا وقصدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون، وأتى لفظ / القدوم بمعنى القصد لأنه أبلغ في الخطاب، وذلك أنه يدل على أنه تعالى عاملهم معاملة القادم من سفر لأجل إمهاله لهم كالغائب، ففي لفظ " قدمنا " معنى التحذير من الاغترار بالإمهال.
وقيل: المراد بالقدوم الملائكة لما كان الله تعالى: هو يقدمهم إلى ذلك أخبر عن نفسه به.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، أي: باطلاً لا ينتفعون به. لأنهم للشيطان عملوا، والهباء الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوة يحسبه الناظر غباراً، وليس بشيء تقبض عليه الأيدي، ولا تمسه، ولا يرى ذلك في الظل. هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، وابن عباس وعكرمة والحسن، ومجاهد.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هو ما تسفيه الرياح من التراب وتذروه من(8/5200)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
حطام الشجر، وكذلك قال قتادة.
وعن ابن عباس: هو الماء المهراق، وهو جمع هبأة فالمعنى أن الله أحبط أعمالهم فلا نفع لهم فيها، كما لا نفع في هذا الغبار.
قال تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}، وإنما أتى أفعل في هذا وقد علم أنه لا خير عند أصحاب النار، على معنى أنكم لما كنتم تعملون عمل أصحاب النار صرتم كأنكم تقولون: إن في ذلك خيراً، فخوطبوا على ظاهر أحوالهم، وما يؤول إليه أمرهم.
وقيل: المعنى: خير مستقراً مما أنتم فيه، وقال نفطويه في كتاب التوبة له:(8/5201)
العرب تجعل هذا على وجهين أحدهما أن يكون في كلا الاسمين فضل والأول أفضل.
والوجه الثاني: أن يكون الكلام إثباتا للأول ونفياً للثاني.
كقوله تعالى {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}، فهذا فيه نفي الخير عن النار وأصحابها، هذا معنى كلامه.
ومذهب سيبويه: أنها لا تأتي إلا لتفضيل اثنين يكون أحدهما أزيد من الآخر، إما في فضل، وإما في شر لا بد عنده أن يكون في الذي معه " من " أو الذي يضاف إليه " أفعل " بعض ما في الأول.
تقول: زيد أفضل من عمرو، وعمرو أفضل القوم، فالثاني فيه بعض ما في الأول.
وقيل: خير ليست من أفعل، إنما هي خير التي في قولك: زيد فيه خير،(8/5202)
فيكون التقدير {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}، أي: لهم خير، فنصب " مستقر " على هذا، على الظرف، وعلى الأقوال الأُوَل على البيان. والمقيل المقام في وقت القائلة وهو النوم نصف النهار، والتقدير: وأحسن قراراً في أوقات القائلة في الدنيا، وليس في الجنة قائلة ولكن خوطبوا على ما يعقلون. فالمستقر لهم: تحت ظل العرش والمقيل لهم: في الجنة، ويراد بالمقيل المقام، إذ لا في الجنة يوم للقائلة.
وقد روي: أن أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار، من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا في الجنة مساكنهم، فذلك معنى قوله تعالى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}،.
قال ابن عباس: قالوا في الغرف في الجنة، وكان حسابهم أن عرضوا على(8/5203)
ربهم عرضة واحدة وذلك الحساب اليسير، فهو قوله جل ذكره: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 8].
وقال: الأعمش: عن ابراهيم في الآية: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة إلى نصف النهار، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار.
وقال ابن جريرج، لم ينتصف النهار حتى قضي بينهم، فقال أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وروى ابن جبير عن ابن مسعود وابن عباس: أنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار ثم قرأ: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}.
وفي بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن يوم القيامة يقصر على المؤمن(8/5204)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ".
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام}، الآية أي: تشقق عن الغمام كما يقال: رميت / بالقوسى، وعن القوس، وعلى القوس بمعنى واحد.
قيل: ذلك غمام أبيض، مثل الغمام الذي ظل على بني إسرائيل.
وقال مجاهد هذا الغمام هو قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} [البقرة: 210].
وقال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه هو غمام في الجنة. وقال ابن عباس: إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجن والإنس وهو يوم التلاق، يلتقي أهل السماوات وأهل الأرض، فيقول أهل الأرض: جاء(8/5205)
ربنا فيقول لم يجيء، وهو آت، ثم تنشق السماء الثانية سماء سماء، وينزل من كل سماء من الملائكة على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة، وينزل منها من الملائكة أكثر ممن نزل من السماوات ومن الجن والإنس. قال: فتنزل الملائكة الكروبيون ثم يأتي ربنا تعالى ذكره في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملكٍ وركبتِه مسيرة سبعين سنة. قال: وكل مَلكٍ منهم لم يتأمل وجه صاحبه قط. وكل ملَكٍ منهم واضع رأسه بين ثدييه، يقول: سبحان الملك القدوس.
وصف الله جل ذكره وثناؤه بالمجيء، والإتيان ليس على جهة الانتقال من مكان إلى مكان، إنما هو ثفة له تعالى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وقد قيل: إن معناه: يأتي أمره، ويجيء أمره، والله أعلم بحقيقة ذلك فلا ينبغي لأَحدٍ أن يعتقد في صفات الله جل ذكره ما يعتقد في صفات المحدثين، وعليه أن يتذكر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ويسلم الأمر إليه، ولا يتعدى في صفات الله(8/5206)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
بالتشبيه، بما يعقله من صفات المخلوقين، فليس الخالق كالمخلوق سبحانه لا إله إلا هو.
قال: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن}، أي: الملك الذي هو حق لا دَخَل فيه، للرحمن يوم القيامة، إذ الملك الزائِلُ كلا مُلكٍ. وأجاز الزجاج، " الحق " بالنصب على معنى أحق الحق وأعني الحق، ولم يقرأ به أحد.
قوله: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً}، أي: كان يوم تشقق فيه السماء بالغمام، وتنزل الملائكة على الكافرين، يوماً ضيقاً شديداً صعباً.
قوله تعالى ذكره: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}.
أي: واذكر يا محمد يوم يعض الظالم نفسه، المشرك بربه على يديه، تندما وأسفا على فرط في جنب الله يقول: يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلاً،(8/5207)
أي: طريقاً إلى الجنة وإلى النجاة من عذاب الله. والظالم هنا: عقبة ابن أبي معيط و (فلاناً) كناية عن (أُبيّ بن خلف). قال ابن عباس: كان أُبيّ بن خلف يحضر عند النبي عليه السلام، فزجره عقبة بن أبي معيط، فالظالم: عقبة، وفلاناً: أبي بن خلف.
وقال: الشعبي: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف. فأسلم عقبة، فقال أمية، وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمداً فكفر، فهو الذي قال: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني أمية بن خلف.
وقال: مقسم: اجتمع عقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف وكانا خليلين، فقال أحدهما: بلغني أنك أتيت محمداً، فاستمعت منه، والله لا أرض عنك حتى تتفل(8/5208)
في وجهه، وتكذبه، فلم يسلطه الله على ذلك، فقتل عقبة يوم بدر صبرا، وأما أُبيّ بن خلف فقتله النبي يوم أحد في القتال، وهما اللذان ذكرا في هذه الآية.
وقال مجاهد دعا عقبة بن أبي معيط مجلساً فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لطعام، فأبى النبي عليه السلام أن يأكل فقال: لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالها، فلقيه أمية بن خلف، فقال: صبوت، فقال، إن أخاك على ما تعلم، ولكني صنعت طعاماً، فأبى أن يأكل حتى أقول ذلك فقتله، وليس من نفسي، فأما(8/5209)
عقبة فكان في الأسرى يوم بدر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فقال: أقتل دونهم، فقال: نعم بكفرك وعتوك، فقال من للصّبية؟ فقال: النار، فقام علي / بن أبي طالب فقتله، وأما أبيّ بن خلف، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وكان قد قال: والله لأقتلن محمداً، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال: أنا أقتله إن شاء الله، فالعاض على يديه هو عقبة.
روي: أنه يعض على يديه يوم القيامة، أسفاً على ما فاته من الإسلام، وما فعل من الكفر، فيأكلها حتى يبلغ إلى المرافق ثم تنبت، فلا يزال هكذا كلما أكلها تنبت، ندامة على ما فرط ويقول: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني: أبي بن خلف الذي رده عن الإيمان.(8/5210)
وقيل، عني بالظالم: كل ظالم ظلم نفسه بالكفر بالله، ولذلك قال {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً}، فأتى بلفظ فلان الذي يصلح أيضا لكل إنسان، فالظالم اسم عام، وفلان اسم عام، فالندم والتحسر يكون من كل ظالم لنفسه بالكفر. ومعنى {لَّقَدْ أَضَلَّنِي} لقد أضللت بقوله ومساعدته على الكفر واتباعي له.
وقال مجاهد: عني بفلان: الشيطان. وهو قول: أبي رجاء، فالظالم كل من كفر بالله، واتبع خطوات الشيطان فيندم على ذلك يوم القيامة، ويعض على(8/5211)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
يديه ويقول: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر} أي: أضلني الشيطان عن الإيمان بالقرآن بعد إذ جاءني من عند الله، ودل على هذا التأويل قوله، بعقب الآية.
{وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}، أي: يسلمه لما ينزله به من البلاء ويخذله فلا ينجيه منه.
وقالت: الرافضة لعنها الله: هما رجلان معروفان، وذكروا رجلين من أجلّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كذباً منهم وبهتاناً.
قال تعالى: {وَقَالَ الرسول يارب}، الآية: أي: يقول الرسول يوم يعض الظالم على يديه: يا رب إن قومي الذين بعثتني إليهم بالقرآن: اتخذوه مهجوراً.
قال مجاهد: يهجرون فيه بالقول فيقولون هو سحر.(8/5212)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
وقال ابن زيد: مهجوراً: أي: لا يريدون أن يسمعوه، أي: هجروه، وأعرضوا عنه فلا يسمعونه.
قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} الآية، أي: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكل نبي عدوا، فلم نخصصك بذلك من بينهم، فعلم النبي أنه جاعل له عدوا من المجرمين كما جعل لمن قبله.
قال ابن عباس، يراد به: أبو جهل.
ثم قال: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً} فمن نصب هادياً على الحال أو على البيان، ومعناه، كفاك ربك هادياً يهديك إلى الحق، ويبصرك الرشد، {وَنَصِيراً}، أي: وناصراً على إهدائك.
قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ} أي: قال(8/5213)
مشركوا قريش: هلا نزل القرآن على محمد عليه السلام: جملة واحدة. كما نزلت التوراة والإنجيل.
قال الله تعالى وجل ذكره: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: فرقنا نزوله، لنثبت به فؤادك فلا بد من إضمار فعلٍ إذا وقفت على كذلك.
وقيل، الوقف على " واحدة "، ثم تبتدئ {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ}.
أي نزل متفرقاً لنثبت به فؤادك.
وقيل، إن " ذا " من كذلك: إشارة إلى التوراة. أي: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة مثل ذلك أي: مثل التوراة، فتقف على {كَذَلِكَ}، وتبتدئ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: فعلنا ذلك لنثبت، أي: ونزلناه متفرقا لنثبت، فتضمر ما يتعلق به اللام، ويكون الكاف في موضع نصب نعت لجملة. ومن ابتدأ بكذلك جعل الكاف في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي: نزلناه تنزيلاً(8/5214)
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: فرقنا نزوله {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، لأنهم سألوا ما الصلاح في غيره، لأن القرآن، كان ينزل متفرقاً جواباً عما يسألون عنه، وكان ذلك من علامات النبوة، إذ لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي.
فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، وبين الله هذا المعنى بقوله: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33]، فكان في نزوله متفرقاً الصلاح، والرشد، ولو نزل جملة لكان قد سبق الحوادث التي ينزل فيها القرآن، ولو نزل جملة واحدة بما فيه من الفرائض لثقل ذلك عليهم، فعلم الله جل ثناؤه ما فيه من الصلاح، فأنزله متفرقاً، ولو نزل جملة لزال معنى التثبيت، ولم يكن فيه ناسخ ولا منسوخ، إذ لا يجوز أن يأتي في مرة واحدة افعلوا كذا ولا تفعلوا.(8/5215)
قال ابن عباس: / نزل متفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه عن ظهر قلب.
وقيل معنى: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لتعيه. لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم: يكتب، فلو نزل مرة واحدة، لصعب عليه حفظه مرة واحدة، ولشق ذلك عليه، فأنزله الله متفرقاً شيئاً بعد شيء، ليسهل عليه حفظه، وليعيه على وجهه.
و" ذا " من كذلك إشارة إلى التفريق، والمعنى أنزلناه متفرقاً {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، فالوقف على هذا على {وَاحِدَةً}،. وقيل: ذا: إشارة إلى التوراة والإنجيل: قاله الفراء وغيره. فيكون الوقف " كذلك "، وفيه بعدٌ لأنه إشارة إلى ما لم يجر له ذكر، فأما القول الاول: فإن معنى التفريق قد تضمنه قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً}، لأن معناه لم نزل متفرقا؟ فقال الله تعالى نزل: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: نزل متفرقاً لنثبت به فؤادك يا محمد.
وقيل: إن " ذا " إشارة إلى التثبيت، أي: تثبيتا كذلك التثبيت.(8/5216)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
ثم قال: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، أي: أنزلناه آية وآيتين، وآيات جوابا لما يسألون عنه، وخبراً ليتعظوا به ووعظا، ليزدجروا به، وكان بين نزول أوله وآخره نحو من عشرين سنة.
قال ابن زيد {وَرَتَّلْنَاهُ}، بيناه، وفسرناه.
قوله تعالى ذكره: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق}.
أي: ليس يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه لك، ليحتجوا به عليك إلا جئناك من الحق أي: من القرآن بما يُبْطِلُ ما جاءوا به. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}، أي: أحسن تفصيلاً.
قال: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ}، أي: الذين يساقون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم شر مستقراً في الدنيا والآخرة، من أهل الجنة في الجنة، وأضل منهم طريقاً في الدنيا.
قال مجاهد: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر أن يمشيهم على وجوههم إلى جهنم.(8/5217)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
وروى أنس: " أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه [وسلم]،: كيف يا رسول الله: يحشر الكافر على وجهه فقال: الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه ".
قال أبو هريرة: يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف. صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم. فقيل له: كيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامه قادر أن يمشيهم على وجوههم.
وقيل: إن هذا تمثيل. كما تقول: ستمضي على وجهك أي: كارهاً.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب}، الآية، اي: آتينا موسى التوراة. كما آتيناك يا محمد القرآن {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} أي: معيناً وظهيراً(8/5218)
{فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} يعني فرعون وقومه {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي: أهلكناهم. وفي الكلام حذف والتقدير: فذهبا فكذبوهما، فدمرناهم، فدخول الفاء تدل على هذا الحذف.
وقال الفراء: المأمور بالذهاب في المعنى موسى وحده، بمنزلة قوله تعالى: {فَنَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] والناسي يوشع وحده. وبمنزلة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرجان من الملح. وهذا قول مردود لأنه قد كرر في كثير من الآيات إرسال هارون مع موسى إلى فرعون، فلا يحتاج فيه إلى هذا المجاز.
والوقف {بِآيَاتِنَا}، وقرئت {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}، على الخبر عن موسى وهارون. وقرئت {فدمِّرانِهم}، على الأمر لموسى وهارون(8/5219)
وتشديد النون، فلا يحتاج في هاتين القراءتين إلى إضمار ولا حذف، وهما قراءتان شاذتان، والوقف على هاتين القراءتين {تَدْمِيراً}.
قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ}، أي: واذكر قوم نوح.
وقيل: هو معطوف على المفعول في {فَدَمَّرْنَاهُمْ} [الفرقان: 36].
وقيل: التقدير: وأغرقنا قوم نوح، لما كذبوا الرسل أغرقناهم وهذا حسن. والمعنى: وأغرقنا قوم نوح من قبل قوم فرعون لما كذبوا الرسل {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً}.
وقوله: {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل}، قيل: إنهم كذبوا رسلاً قبل نوح فلذلك جمع.
وقيل: إن من كذَّب نبياً، فقد كذب جميع الأنبياء. فجمع على المعنى.(8/5220)
ثم قال {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ}، أي: لهم ولمن هو / مثلهم في الظلم والكفر {عَذَاباً أَلِيماً}، في الآخرة سوى الذي حل بهم في الدنيا.
قال: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس}، كل هذا معطوف على قوم نوح أي: واذكر.
وقيل: ذلك معطوف على الضمير في {جَعَلْنَاهُمْ}.
وقيل: التقدير: وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً، وعبنا عاداً وثموداً.
وقوله: {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}، أي: وتبرنا كلاً، أي: أهلكنا كلاً وقوله: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال}، أي: وذكرنا كلاً، ووعظنا كلاً {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال}، فتضمر هذا ونحوه، لأن ضرب الأمثال وعظ وتذكير. وقيل: وعاداً وما بعده معطوف على المفعول في {فَدَمَّرْنَاهُمْ}، أي: دمرنا عاداً وثموداً(8/5221)
وأصحاب الرس.
قال ابن عباس: أصحاب الرس قرية من ثمود.
وقال قتادة الرس: قرية من اليمامة يقال لها الفلج.
وعن ابن عباس وعكرمة: الرس: بئر. وقاله مجاهد.
قال أبو عبيدة الرس: المعدن، وصاحب الرس: نبي يقال له: حنظلة بن صفوان: قتلوه وطرحوه في البئر.
والرس عند جماعة من أهل اللغة: الركية التي لم تصلو.(8/5222)
وروى محمد بن كعب القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة: العبد الأسود وذلك أن الله جل ذكره: بعث نبياً إلى أهل قريته، فلم يؤمن أحد من أهلها إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً وألقوه فيها. ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم، قال: فكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه، فيبيعه فيشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة، ويعينه الله تعالى عليها، فيدلي طعامه وشرابه إليه، ثم يرجعها كما كانت، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه، وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها، وجد سِنَةً فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم إنه(8/5223)
هب فتمطى فتحول لشقه الآخر، فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب فاحتمل حزمته، ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمتة، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع، ثم ذهب إلى الحفرة فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه، فاستخرجوه، وآمنوا به وصدقوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك الأسود، ما فعل فيقولون ما ندري حتى قبض الله النبي، وأتى الأسود بعد ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم، إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة فهؤلاء لا ينبغي أن يكونوا أصحاب الرس لأنهم آمنوا "
، وقد حكى الله عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلآ أن يكونوا أحدثوا حدثاً بعد نبيهم.
وقوله: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}، أي: ودمرنا قروناً بين أضعاف هذه الأمم التي ذكرنا.(8/5224)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
وقال: قتادة أصحاب الأيكة وأصحاب الرس أمتان أرسل إليهما جميعاً شعيب، فكفرتا فعذبتا بعذابين.
قال قتادة: القرن سبعون سنة.
وقيل: القرن أربعون سنة.
قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء}.
أي ولقد أتى هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجوراً على القرية التي أمطرت(8/5225)
مطر السوء وهي سدوم قرية قوم لوط و {مَطَرَ السوء}، الحجارة التي أهلكهم الله بها.
وقال ابن عباس خمس قريات أهلك الله أربعا، وبقيت الخامسة واسمها سفن كان أهلها لا يعملون ذلك العمل، وكانت سدوم أعظمها وهي التي نزل لوط، ومنها بعث، وكان إبراهيم صلى الله عليه [وسلم]، ينادي نصيحة لهم يا سدوم يوم لكم من الله أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله، وكان لوط ابن أخي إبراهيم.
ثم قال {أَفَلَمْ يَكُونُواْ / يَرَوْنَهَا}، أي: أفلم يكن هؤلاء المشركون يرون تلك القرية وما نزل بها، فيحذروا أن ينزل بهم مثل ذلك.(8/5226)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
ثم قال {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً}، أي: لم يكذبوا محمداً، لأنهم لم يكونوا يرون القرية وما حل بها، ولكنهم كذبوه من أجل أنهم قوم لا يخافون نشوراً بعد الموت، أي: لا يؤمنون بالآخرة.
وقيل: المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب الله عند النشور، فاجترأوا على المعاصي.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً}، أي: وإذا رآك يا محمد هؤلاء المشركون ما يتخذونك إلا هزؤاً، أي: سخرياً يسخرون منك يقولون: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً}، من بين خلقه، احتقارا له. {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا}، أي: قد كاد يضلنا {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا}، أي: على عبادتها.
قال الله جل ذكره: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي: سيتبين لهم حين يعاينون عذاب الله، ويحل بهم، من السالك سبيل الردى والراكب طريق الهدى أنت أم هم.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}، أي: جعل إلهه ما يشتهي،(8/5227)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
ويهوى من غير حجة ولا برهان على اتخاذه إياه إلهاً. كان الرجل من المشركين يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به، وأخذ الآخر فعبده. ثم قال: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أي: أفأنت تجبره على ترك ذلك.
وقيل: معناه: أفأنت تكون عليه حفيظاً، في أفعاله مع عظيم جهله.
وقيل: معناه أفأنت يمكنك صرفه عن كفره، ولا يلزمك ذلك، إنما عليك البلاغ والبيان. أي: لست بمأخوذ بكفرهم، ادع إلى الله وبين ما أرسلت به فهذا ما يلزمك لا غير.
قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}، أي: يسمعون ما يتلى عليهم، فيعون أو يعقلون، ما يعاينون من حجج الله فيفهمون {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام}، أي ما هم إلا كالأنعام التي لا تعقل ما يقال لها: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}،(8/5228)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
من البهائم لأن البهائم تهدتي لمراعيها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء الكفار، لا يطيعون ربهم ولا يشكرون نعمة من أنهم عليهم.
وقيل، لأن الأنعام تسيح وتجتنب مضارها.
وقيل: لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، كا، وا كأنهم لم يسمعوا ولم يعقلوا.
قال: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل}،. مد الظل هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقيل له ممدود، لأنه لا شمس معه، ولذلك قال في ظل الجنة: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] أي ليس معه شمس قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة(8/5229)
والضحاك، وابن زيد.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً}، أي: دائما لا تذهبه الشمس ولا تنقصه. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد يعنون كظل الجنة الذي لا تذهبه شمس.
وقال مجاهد: لا تيصبه الشمس ولا يزول. وقال الحسن: لو شاء لتركه ظلاً كما هو.
وقيل: هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها. لأن الظل في هذه المدة يعم الأرض ومن عليها {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً}، أي: لأقامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل، وبدا فيها(8/5230)
النقصان، فبطلوع الشمس يبدو النقصان في الظل، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادته ونقصه. وكلما علت الشمس نقص الظل، وكلما دنت للغروب زاد الظل، فهو قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}، يعني في وقت علو الشمس في السماء ينقص الظل يسيراً بعد يسير، وكذلك زيادته بعد نصف النهار، يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعدم الأرض كلها، فأما زوال الظل كله، فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً}، أي: ثم دللناكم بنسخ الشمس إياه عند طلوعهما / عليه، أنه خلق من خلق ربكم يوجده إذا شاء، ويغيبه إذا أراد، أي: ثم جعلنا الشمس على الظل دليلاً.(8/5231)
وقيل: معنى ذلك: أنه لو لم يكن شمس تنسخه لم يعلم أنه شيء، إذ كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل في أشباه لذلك.
وقوله: جل ذكره: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}، أي: قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظل إلينا قبضاً خفياً سريعاً بالشمس الذي يأتي فتنسخه.
قال مجاهد ثم قبضناه: جري الشمس إياه.
وقيل: إن الهاء في {قَبَضْنَاهُ}، عائدة على الظل، فمعنى الكلام ثم قبضنا الظل إلينا بعد غروب الشمس، وذلك أن الظل إذا غربت الشمس يعود فيقبضه الله بدخول الظلمة عليه قبضاً خفياً، ليس يذهبه مرة واحدة، بل يذهب قليلاً قليلاً.(8/5232)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
وقال ابن عباس {يَسِيراً}، سريعاً. وأصل اليسير أنه فعيل من اليسر وهو السهل اللين.
وقال مجاهد: يسيراً: خفياً.
قال ابن جريج: مثل قول مجاهد وزاد: إنما بين الشمس والظل مثل الخيط.
وقال: {دَلِيلاً} والشمس مؤنثة لأنه ذهب إلى الضوء.
وقيل: ذكر لأن الشمس لا علامة فيها للتأنيث.
وذهب أبو عبيدة: أن العرب تقول: هي عديلي للتي تعادله، وهي وحي.
قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً}.
أي: والذي مد الظل، ثم جعل الشمس عليه دليلاً، هو الذي جعل لكم الليل لباساً أي: ستراً وجُنة تسكنون فيه: فصار ستراً تستترون في ظلمته، كما(8/5233)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
تستترون بالثياب التي تلبسونها.
وقوله: {والنوم سُبَاتاً}، أي: راحة تستريح به أبدانكم، وتهدأ جوارحكم.
وقوله: {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً}، أي: يقظة وحياة من قولهم نشر الميت إذا حيي.
قال تعالى: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، أي: أرسل الرياح الملقحة حياة أمام رحمته، وهي المطر، ثم قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً}، الطهور فعول من أبنية المبالغة، والفرق بين طهور وطاهر: أن الطهور يكون طاهراً مطهراً لما فيه من المبالغة، لأن بناء فعول للمبالغة وضع، ولولا معنى المبالغة التي أحدثت بنيته، مما جاز أن يدل على أنه مطهر لغيره، لأن فعله: طَهَر أو طَهُر وكلاهما غير(8/5234)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
متعد، فكذلك يحب أن يكون اسم الفاعل غير متعد، والطاهر لا يدل على أنه مطهر لغيره، إذ ليس فيه مبالغة في بنائه وإذ هو اسم فاعل من فعل غير متعد تقول: طهر الماء، وطهر فلا يتعدى إلى مطهر، فكذلك اسم الفاع لا يجوز أن يتعدى إلى مطهر إلا أن يحدث فيه بناء يدل على المبالغة فيحسن أن يدل على مطهريه فاعرفه.
قال: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً}، إنما جاء ميتاً على التذكير لأن البلدة والبلد سواء.
وقيل: إنه رده على الموضع لأن البلدة موضع ومكان.
ثم قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً}، أي: نسقي هذا الماء الذي أنزلنا من السماء {أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}.
قال الأخفش: واحد الأناسي: إنسي، ككرسي، وكراسي. قاله المبرد،(8/5235)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
وهو أحد قولي الفراء وله قول آخر. قال واحد الأناسي: إنسان كأن أصله أناسين، ثم أبدل من النون ياء، ثم أدغم الياء التي قبلها فيها.
قال تعالى ذكره ": {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ}، أي: قسمنا هذا الماء بين الخلق ليذكروا نعم الله عليهم ويشكروا {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً}، أي: فأبى أكثرهم إلا جحوداً لنعم الله تعالى عليهم.
وقال ابن عباس: ما عام أكثر من عام مطرا، ولكن الله يصرفه بين خلقه في الأرضين كيف يشاء. ثم قرأ الآية.
وقال ابن مسعود ليس عام أمطر من عام، ولكن الله يصرفه، ثم قرأ الآية.
وقوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً}، يقولون مطرنا بنوء كذا.
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً}، أي: لو شئنا لأرسلنا إلى أهل كل مصر نذيراً ينذرهم بأمر الله / فيخف عنك يا محمد كثير من عبء ما(8/5236)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
حملناك، ولكن حملناك ثقل نذارة جميع القرى. لتستوجب بصبرك، ما أعد الله لك من الكرامة عنده، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ}، أي: بالقرآن حتى ينقادوا. قاله ابن عباس.
وقيل " به ": الإسلام، قاله ابن زيد.
وقيل: معناه: {وَجَاهِدْهُمْ}، بترك الطاعة لهم، لقوله: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين}.
قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ}.
أي: والله الذي خلط البحرين الحلو والملح في رأي: العين، ومرج بمعنى خلط.
وقيل: معناه: خلى.(8/5237)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
وقيل: معناه أدام ماء البحرين جعل إدامته الماء فيهما مرجاً وحبساً للماء، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً}، قال مجاهد: محبساً.
وقال ابن زيد: ستراً.
{وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي: منعاً لئلا يفسد العذب المالح، فبينهما حاجز من قدرة الله تعالى وجلّ ثناؤه.
قال {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}، أي: النطفة: خلق منها الإنسان {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}.
قال ابن عباس: النسب سبع وهي في قوله تعالى ذكره:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم}، إلى {وَبَنَاتُ الأخت} [النساء: 23] والصهر سبع وهي في قوله: {وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] إلى آخر ذكر الصهر.(8/5238)
وقال الضحاك: النسب: الأقرباء، والصهر ذوات الرضاع.
وقيل: النسب الذكور من الأولاد، والصهر: الإناث من الأولاد لأن المصاهرة من جهتهن تكون.
وقال الأصمعي: الختّن كل شيء من قبل المرأة مثل ابن المرأة وأخيها، والأصهار يجمع هذا كله يقال: صاهر فلان إليهم وأصهر.
وقال ابن الأعرابي: الأَختَان: أبو المرأة وأخوها وعمها، والصهر: زوج(8/5239)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
ابنة الرجل، وقرابته، وأصهاره: كل ذي محرم من زوجته.
وقيل: عني بقوله: {خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً}، آدم خلقه من الأرض التي أصلها مخلوقة من ماء. وقد أخبرنا الله جلّ ذكره أنه خلق جميع الحيوان من ماء: فقال: {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ}، أي: يعبد هؤلاء المشركون من دون الله ما لا يحب لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرراً.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً}، أي: معيناً للشيطان على ربه(8/5240)
مظاهراً له على معصيته.
قال ابن جريج: هو أبو جهل ظاهر الشيطان على ربه. وقاله ابن عباس.
وقال عكرمة: الكافر: إبليس وعن ابن عباس أن الكافر يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه. وعنه أنه قال: هو أبو جهل، كان عوناً لمن عادى الله ورسوله.
وقيل معناه: إن الكافر يستظهر بعبادته الأوثان، وبمن يعبدها معه من الكفار على الله عز وجل لأنهم يطمعون أن يغلبوا رسول الله صلى الله عليه [وسلم]، والكافر اسم لجنس جميع الكفار.
وقيل: معناه: وكان الكافر على ربه هيّنا، من قولهم ظهرت به، فلم ألتفت(8/5241)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
إليه، إذا جعلته خلف ظهرك فلم تلتفت إليه. فكأن الظهير أصله مفعول، ثم صرف إلى فعيل وهو قول أبي عبيدة.
أي: لم نرسلك يا محمد إلا لتبشر أهل الطاعة بالجنة، وتنذر أهل المعصية بالنار.
قال {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: ما أطلبكم على إنذاري لكم بأجر، فتقولون: إنما تطلب أموالنا فيما تدعونا إليه فلا نتبعك.
وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}، هو استثناء منقطع أي: من شاء منكم أن يتخذ إلى ربه طريقاً بإنفاقه من ماله في سبيل ربي، فتعطوني من أموالكم وما ينفقه في ذلك، فتتخذوا بذلك طريقاً إلى رحمة ربكم، وقيل ثوابه.
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ}، أي: توكل يا محمد على(8/5242)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
الحي الذي له الحياة الدائمة. . . {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}، أي: واعبده شكراً منك له على نعمه / {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}، أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، و {خَبِيراً} أبلغ من خابر.
قال تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، أي: اخترع ذلك في ستة أيام، وقال: {وَمَا بَيْنَهُمَا}، فأتى بلفظ التثنية وقد تقدم ذكر جمع، لأنه أراد النوعين، والستة الأيام أولها يوم الأحد، وآخرها الجمعة. {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}، وذلك يوم السبت فيما قيل، ولا يجوز أن يتوهم أحد في ذلك: جلوساً ولا حركة ولا نقلة، ولكنه استوى [على]، العرش كما شاء، لا يمثل ذلك، جلوساً ولا يظن له انتقال من مكان إلى مكان، لأن ذلك لمن صفة المحدثات. وقد قال تعالى ذكره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلا يحل لأحد أن يمثل صفات ربه - الذي ليس كمثله شيء - بصفات المخلوقين الذين لهم أمثال وأشباه - فكما أنه تعالى لا يشبهه شيء، كذلك صفاته ليست كصفات المخلوقين. فالاستواء معلوم، والكيف لا نعلمه، فعلينا التسليم لذلك.(8/5243)
وقد قيل: استوى: استولى، والمعنى: ثم استولى بمقدرته على العرش، فرفعه فوق السماوات والأرض المخلوقة هي وما بينهما في ستة أيام، والعرش مخلوق بعد السماوات والأرض. ثم استولى بقدرته عليه، على عظمه، فرفعه فوق السماوات والأرض. والله أعلم بمراده في ذلك، فهذا موضع مشكل وإنما ذكرنا قول من تقدمنا لم نأت بشيء من عندنا في هذا وشبهه.
ثم قال: {الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}، الرحمن مرفوع على البدل من المضمر في استوى أو على: هو الرحمن، أو على الابتداء والخبر: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}، ويجوز الخفض على النعت للحي، ويجوز النصب على المدح، ومعناه: فاسأل عنه خبيراً. الباء بمعنى: عن.
كما قال جلّ ذكره: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]، أي: عن عذاب، ومعناه(8/5244)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
عند الأخفش: فاسأل عن الرحمن أهل العلم يخبروك، فخبير مفعول للسؤال.
وقال علي بن سليمان: الباء على بابها. والتقدير: فاسأل بسؤالك الذي تريد أن تسأل عنه: خبيراً، فخبير مفعول به مثل الأول.
وقيل: خبيراً: حال من الهاء في به: والتقدير: إذا أخبرتك شيئاً يا محمد فاعلم أنه كما أخبرتك أنا الخبير: وهو قول ابن جريج.
قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن}، أي: إذا قيل للكفار اسجدوا للرحمن خالصاً قالوا: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}، وزادهم هذا القول نفوراً من الإيمان، وعن إخلاص السجود لله. ومعنى نفوراً فراراً. وقيل: إنما عتوا هنا بالرحمن: رحمان أليمامة: مسليمة الكذاب لأنه يسمى الرحمن. وقد كانوا مقرين بالرحمن الذي خلقهم. قال الله تعالى عنهم: {لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، وعلى هذا القول يحسن(8/5245)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
القراءة بالياء والتقدير: أنسجد لما يأمرنا رحمان اليمامة، ومن قرأه بالتاء: جعله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن قراءة الياء على معنى: قول بعضهم لبعض: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} محمد صلى الله عليه [وسلم].
قال تعالى ذكره: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً}، أي: قصوراً. كما قال {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
وقيل: البروج: منازل الشمس والقمر؛ قاله مجاهد وقتادة، والنجوم كلها هي في البروج.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً}، يعني الشمس {وَقَمَراً مُّنِيراً} أي:(8/5246)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
مضيئاً. ومن قرأ " سُرُجاً " بالجمع جعل البروج: القصور،، والسروج: النجوم. ومن قرأ سراجاً بالتوحيد جعل البروج المنازل والسراج: الشمس، والضمير في " فيها " على القراءة، من قرأ: " سرجاً " بالجمع يعود على البروج التي هي القصور، ومن قرأ " سرجاً " بالتوحيد كان الضمير يعود على السماء، وإن شئت على البروج.
ويكون السراج يؤدي على الجمع كما قال: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] / أي جعل فيها مضيئة.
وقرأ الأعمش و " قُمرا " بضم القاف وإسكان الميم، جعله جمعاً وهي قراءة شاذة.
قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً}.إلى قوله(8/5247)
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [67].
أي: جعل كل واحد من الليل والنهار خلقاً من الآخر ما فات في أحدهما من عمل الله أدرك قضاؤه في الآخر. قاله عمر رضي الله عنهـ، وابن عباس والحسن قال مجاهد: معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه جعل هذا أسود وهذا أبيض.
وعن مجاهد أيضاً: أن المعنى: أنه جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وكذلك قال ابن زيد، وخلفة: مصدر ولذلك وحد.(8/5248)
قال ابن زيد: لو كان الدهر كله ليلاً لم يدر أحد كيف يصوم، ولو كان نهاراً لم يدر أحد كيف يصلي.
وقيل: المعنى: جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، لمن أراد أن يتذكر نعم الله عليه في ذلك. ويشكره على ما فعل بمعاقبة الليل والنهار، إذ لو كان الدهر كله ليلاً لبطلت المعائش والتصرف فيها، ولم يتم زرع ولا ثمر. ولو كان الدهر كله نهاراً لبطلت الأجساد عند عدم الراحة، ولبطلت الزراع والثمار: لدوام الشمس عليها، فجعل كل واحد يخلف الآخر لمن أراد أن يتذكر نعمة الله في ذلك على خلقه، وحسن تدبيره لهم في منامهم.(8/5249)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}، عباد رفع بالابتداء، والخبر محذوف عند الأخفش.
وقال الزجاج وغيره: الخبر {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 57].
وقيل: الخبر {الذين يَمْشُونَ}، {سَلاَماً}، منصوب على المصدر، وإن شئت " تعالوا ".
وقوله: {قَالُواْ سَلاَماً}، منسوخ بالأمر بالقتال: إنما كان هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ولم يتكلم سيبويه في شيء من الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، وهو من التسليم، لا من التسليم تقول: " سلاماً منك " أي: تسلماً منك.
قال سيبويه في الآية: ولم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين،(8/5250)
ولكنه على قولك لا خير بيننا ولا شر، وقد ردت على سيبويه هذه العبارة. إنما كان حسبه أن يقول: ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يحاربوا المشركين. ومعنى قول سيبويه على الصحة، ولم يؤمر المسلمون يومئذ لأن يُسَلّموا على المشركين، ولكن أمروا أن يَسْلَموا منهم ويتبرءوا ثم نسخ ذلك بالأمر بالحرب. ومعنى الآية: وعباد الرحمن الذين يرضاهم لنفسه عباداً: هم الذين يمشون على الأرض في سكون، وتواضع، وخشوع، واستكانة. وهذا هو ضد مشي المختال الفخور المرح الذي هو مذموم الحال.
ومعنى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}، أي: إذا خاطبهم أهل الجهل من العصاة والكفار بالقبيح صانوا أنفسهم عن مساواتهم في القبيح، قالوا قولاً حسناً يسلمون به من مساواتهم في القبيح.(8/5251)
وهم الذين يبيتون لربهم: يصلون ويقولون كذا وكذا، ما حكى الله عنهم.
قال أبو هريرة: هم الذين لا يتجبرون ولا يتكبرون.
وقيل معنى: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً}، أي بالسكينة والوقار، وغير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين بفساد.
قال ابن عباس: يمشون بالطاعة والعفاف والتواضع.
وقال مجاهد: يمشون بالسكينة والقوقار والحلم.
وقال زيد بن أسلم: التمست تفسير هذه الآية فلم أجدها عند أحد، فأتيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض.
وقال ابن زيد هم الذين لا يتكبرون في الأرض، ولا يتجبرون ولا يفسدون،(8/5252)
وهو قوله تعالى: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} [القصص: 83].
وقال الحسن يمشون حلماء علماء، لا يجهلون، وإن جهل عليهم لم يجهلوا.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}، إذا خاطبهم الجاهلون بالله بما / يكرهون من القول أجابوهم بالمعروف والسداد من الخطاب، فقالوا: تسلماً منكم وبراءة بيننا وبينكم.
قال الحسن: إن المؤمنين قوم ذلل، ذلت والله منهم الأسماع، والأبصار، والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وما بالقوم من مرض وإنهم لأصحاب القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فلما وصلوا إلى بغيتهم قالوا: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] والله ما حزنهم حزن الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم بما طلبوا به الجنة: أبكاهم الخوف من النار، وإنه(8/5253)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
من لا يتعزى بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل عمله وحضر عذابه.
أي يبيتون يصلون.
قال فضيل: هم قوم إذا جنّهم الليل قاموا على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم.
قال: {عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}، أي: يدعون الله أن يصرف عنهم عذابه حذاراً منه. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}، أي: دائماً لا ينقطع.
قال محمد بن كعب القرطبي: إن الله جلّ ثناؤه سأل الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوها فأغرمهم فأدخلهم النار.
وقال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. فيكون(8/5254)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
المعنى على هذين القولين، إن عذابهما لازم لمن حل به، لا يفارقه أبداً، ولم ينصرف جهنم للعجمة والتعريف، وإن شئت للتأنيث والتعريف.
أي: ساءت من المستقرات مستقراً.
قال تعالى: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ}، أي: لم يزيدوا في النفقة، ويبذروا ولم يضيقوا.
حكى الأصمعي: قَتَر يَقْتُر ويقتر وقَتّر يُقَتّر، وأقتر يُقتر: إذا ضيق وقد أنكر أبو حاتم على من جعله من أقتر. وقال: إنما يقال: أقتر إذا افتقر. كما قال:
{وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} وقد غاب عنه وجه ما حكى الأصمعي وغيره.
ثم قال: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، أي: وكان الإنفاق قواماً بين الإسراف والإقتار أي: عدلاً.(8/5255)
وقد أجاز الفراء: أن يجعل بين {ذَلِكَ} اسمَ كان وهو مفتوح، وجاز فتحه في موضع الرفع لأنه أكثر ما يأتي منصوباً، فترك على أكثر أحواله في حال الرفع، ومنه قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11]، دون في موضع الرفع لأنه أكثر ما يأتي منصوباً فترك على أكثر أحواله.
قال ابن عباس: الإسراف: النفقة في معصية الله، والإقتار منع حقوق الله. وقاله مجاهد وابن جريج.
وقال إبراهيم: لا يجيع عياله بالتقتير ولا يغرنهم، ولا يوسع حتى يقول الناس: قد أسرف.
وقال يزيد بن أبي حبيب: كانوا يريدون من الثياب ما يستر عورتهم،(8/5256)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
ويكتنّون به من الحر والبرد، ويريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، لا يلبسون للجمال، ولا يأكلون للذة.
وقال عون بن عبد الله الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق. وقيل: الإقتار: التقصير عما يجب عليك {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، النفقة بالعدل.
وقال مجاهد: لو أنفق رجل ماله كله في حلال، أو طاعة الله لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً في حرام لكان مسرفاً.
قال سفيان الثوري: لم يضعوه في غير حقه، ولم يقصروا به عن حقه، وكل نفقة في معصية الله فهي سرف، وإن قلت، وكل نفقة في غير معصية الله فليست بسرف، وإن كثرت.
قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ}.
أي: والذين يخلصون لله العبادة، والدعاء، ولا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها(8/5257)
إلا بالحق، وهو كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس فيقتل بها، ولا يزنون فيأتون ما حرم الله.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً}، أي: من يفعل / العبادة لغير الله أو يقتل نفساً بغير حق، أو يزني يلق عذاب الآثام أي: عقابها، وعقابها: مضاعفة العذاب، والتخليد في النار مهاناً. قال مجاهد وعكرمة: الآثام: واد في جهنم. وسيبويه وغيره من النحويين: يقدرونه بمعنى يلق جزاء الآثام.
قال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}، الآية وروي: أن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، أرادوا الدخول في الإسلام، وقد عملوا في الكفر أشياء من هذه الذنوب فخافوا ألا ينفعهم مع ما سلف من ذنوبهم. فنزلت هذه(8/5258)
الآية، ونزل: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية، ونزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ}، فهي مخصوصة فيمن أسلم، وقد كان عمل هذه الكبائر في حال كفره، ويدل على أن هذا الاستثناء في الكفار قوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ}، فقرن الإيمان مع التوبة.
وقيل: هذه الآية منسوخة بالتي في النساء قاله زيد بن ثابت وذكر أن آية النساء التي نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر.
وقال الضحاك: بين السورتين ثماني حجج. وذكره تعالى للإيمان مع التوبة يدل على أنه محكم في الكفار، وآية النساء إنما هي في المؤمنين: يقتلون المؤمنين(8/5259)
فكلاهما محكم غير منسوخ في وجه النظر.
وعن ابن عباس أنه قال: قرأنا هذه الآية: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق}، الآية، بسنتين حتى نزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}، الآية قال: فما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء فرحه بها، وبسورة: {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1].
ثم قال تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، قال ابن عباس: معناه: كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرعب الله بهم عن ذلك، فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم الله مكان السيآت حسنات. أي: مكان عمل الحسنات.
وعن ابن عباس أنه قال: يبدل بكل مكان سيئة عملها حسنة يعملها في الدنيا.
وقيل معناه: أولئك يبدل الله قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في(8/5260)
الإسلام فيبدله بالشرك إيماناً.
قال ابن جبير: نزلت في وحشي وأصحابه. قالوا: كيف لنا بالتوبة، وقد عبدنا الأوثان وقتلنا المؤمنين، ونكحنا المشركات؟ فأنزل الله تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ}، الآية.
فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله، وبقتالهم المؤمنين: قتالهم المشركين، وينكاح المشركات نكاح المؤمنات.
وروي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يعطى العبد كتابه بيمينه، فيقرأ سيآته، ويقرأ الناس حسناته ثم يحول صحيفته، فيحول الله سيآته حسنات، فيقرأ هو حسناته ويقرأ الناس من سيئاته حسنات، فيقول الناس: ما كان لهذا العبد من سيئة، قال: ثم يعرف بعمله، ثم يغفر الله له ".
وعن ابن عباس: أبدلوا بالشرك إيماناً، وبالقتل إمساكاً، وبالزنا إحصاناً.(8/5261)
وقال ابن المسيب: روى عطاء عن ابن عباس: تصير سيآتهم حسنات لهم يوم القيامة.
وروى أبو ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة. ثم ثال: يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: نَحُّوا كِبارَ ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت كذا في يوم كذا، وعملت كذا في يوم كذا، قال: فيقول: يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هنا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة ".(8/5262)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة يوم القيامة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدلهم الله إيماناً من الشرك، وإخلاصاً من الشرك، وإحصاناً من الفجور.
قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة حسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة.
واختار الطبري: أن يكون المعنى: يبدل الله أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام ينقلهم عن ما / يسخطه إلى ما يرضاه.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً}، أي: ذا غفر عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها.
أي: ومن تاب من الشرك(8/5263)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
بالله، وآمن بالله ورسوله، وعمل صالحاً فيما أمره الله به {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً}، أي: توبة مؤكدة لأنه إذا تاب من الشرك، فقد تاب من عظيم، فإذا عمل صالحاً فقد أكد توبته.
قال تعالى: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، يعني الشرك، قاله الضحاك.
وقيل: المعنى: فإنه يرجع إلى الله رجوعاً فيجازيه على توبته وعمله. والثاني ليس من الأول لأنه يراد به العبث، والأول يراد به الرجوع عن الكفر، والمعاصي.
وقال مجاهد الزور: الغناء، أي: لا يسمعون الغناء، وهو قول محمد بن الحنفية.
وقال ابن جريج: هو الكذب.
وقيل: إنهم كانوا إذا ذكروا النكاح كَنَّوا عنه.
وعن ابن عباس: أن الزور هنا أعياد المشركين وكنائسهم. والزور الباطل.
وعن ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ الآية، وروي(8/5264)
مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالها في خطبة له. تقديره: يشهدون الشهادة الزور.
وقيل: الزور: الكذب والخنا والسفه، فهو في المعنى: لا يشهدون كل مشهد يكون فيه ذلك، أي: لا يحضرونه، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بغير صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فالشرك يحسن عند متبعه، والغناء كذلك، وكذلك الكذب. فمعنى الآية على هذا المعنى: والذين لا يحضرون شيئاً من الباطل.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}، أي: إذا مروا بمن يلغو عليهم من المشركين ويؤذيهم مروا كراماً، أي: أعرضوا عنهم وصفحوا.
وقيل معناه: إذا مروا في كلامهم بذكر النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد.
وقيل: المعنى: إذا مروا بما كان المشركون فيه من الباطل مروا منكرين له.(8/5265)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قاله ابن زيد.
وقال الحسن: اللغو هنا المعاصي كلها، واللغو في كلام العرب: كلُّ ما يجب أن يلغى ويطرح من كلام، أو فعل باطل.
وقيل: هذه الآية منسوخة بقتال المشركين، لأنه أمرهم بعد ذلك إذا مروا باللغو الذي هو الشرك أن يقاتلوا أهله، وإذا مروا باللغو الذي هو معصية أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة. ومعنى {مَرُّوا كِراماً}، أي: أكرموا أنفسهم عن الجلوس والخوض مع من يلغو.
أي: والذين إذا ذكرهم مذكر بحجج رهم وأدلته، لم يقفوا على تلك الحجج صمّاً لا يسمعونها، وعمياً لا يبصرونها. ولكنهم أيقاظ القلوب فهماء العقول.
والكافر بخلاف ذلك لأنه لا ينتفع بما يسمع وما يبصر، فصار بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر، ومعنى {يَخِرُّواْ} يقيموا على ذلك، كما يقال: شتمت فلاناً فقام يبكي، أي: فظ يبكي، ولا قيام هناك، ولعله كان مضطجعاً. ويقول: نهيت فلاناً(8/5266)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
فقعد يشتمني أي: فجعل يشتمني، ولعله كان قائماً. فجرى ذلك على مخاطبة العرب، ولا خُرور ثَمَّ، وقيل المعنى: لم يتغافلوا عنها ويتركونها فيكونون بمنزلة من لا يسمع ولا يرى.
وقيل المعنى: لم يسجدوا صماً وعمياناً بل سجدوا سامعين، فيكون بمنزلة قول الشاعر:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
أي: إنما أغمدوها بعد أن كثرت القتلى.
وقيل المعنى: إنهم إذا أمروا بمعروف، أو نهوا عن منكر لم يتغافلوا عن ذلك وقبلوه.
قوله تعالى: ذكره {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا / مِنْ أَزْوَاجِنَا}.
أي: والذين يرغبون إلى الله في دعائهم، ومسألتهم أن يهب لهم قرة أعين، من(8/5267)
أزواجهم، وذرياتهم؛ أي: ما تقر به أعينهم من أولادهم، وذلك أن يريهم إياهم يعملون بطاعة الله.
قال الحسن: ذلك في الدنيا وهو المؤمن يرى زوجه وولده مطيعين لله، وأي شيء أقر لعين المؤمن أن يرى زوجته وولده مطيعين لله.
قال ابن جريج: معناه: يعبدونك فيحسنون عبادتك.
وقال ابن زيد: يسألون لأزواجهم وذرياتهم الإسلام.
ثم قال تعالى ذكره: {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}، أي: اجعلنا يقتدي بنا من بعدنا في الخير، قاله ابن عباس، وعنه أيضاً: المعنى اجعلنا أئمة هدى يهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة لأنه قال في السعادة {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقال في أهل الشقاء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41].(8/5268)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قال مجاهد: معناه: واجعلنا أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا.
وقوله {إِمَاماً} وحد لأنه مصدر كالقيام والصيام.
وقيل: هو واحد يدل على الجمع كالعدو.
وقيل: هو جمع آثم وإمام كقائم وقيام.
قال تعالى ذكره: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ}، أي: هؤلاء الذين تقدم ذكرهم يجزون الغرفة أي يثابون على أعمالهم: الغرفة، وهي منزل من منازل الجنة.
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: دائمين المقام، ماكثين فيها.
{حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}، أي: حسنت تلك الغرفة مستقراً، أي: قراراً {وَمُقَاماً}، أي: إقامة.
قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ}، أي: قل يا محمد لهؤلاء(8/5269)
الذين أرسلت إليهم: ما يعبأ بكم ربي، أي: أي شيء يصنع بكم ربي، لولا دعاؤكم إلى الإيمان؟
قال ابن عباس: لولا دعاؤكم: لولا إيمانكم، فأخبر جلّ ذكره الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يجعلهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.
وقال مجاهد: لولا دعاؤكم: أي: لولا دعاؤكم إلى الله لتعبدوه وتطيعوه.
قال الفراء: لولا دعاؤكم: لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. ومعنى: ما يعبأ أي: ما يصنع بكم
قال الزجاج: لولا دعاؤكم. أي لولا توحيدكم إياه. ومعنى: ما يعبأ(8/5270)
بكم أي: وزن لكم عنده من قولك: ما عبأت بفلان أي: ما كان له عندي وزن ولا قدر.
قال: وأصل العبء في اللغة: الثقل.
وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}، هو يوم بدر.
وقيل: هو ما لوزم بين القتلى يوم بدر. والتقدير: فسوف يكون عاقبة تكذيبهم اللزام.
وعن مجاهد أنه قال في معناه: لولا دعاؤه إياكم لتطيعوه فقد كذبتم فسوف يكون عذابكم لزاماً وقد مضى اللزام وهو يوم بدر.(8/5271)
وقيل: المعنى: لا منفعة لله في خلقه إياكم إذ لا يضره فقدكم، لولا ما أراد من دعائه إياكم إلى طاعته، ليجازيكم على ذلك إن قبلتموه ويعاقبكم إن عصيتموه فقد كذبتم فسوف تعلمون.
وقال القتيبي: المعنى: ما يعبأ بعذابكم ربي لولا دعاؤكم غيره، أي: لولا شرككم به.
وقال الضحاك: لولا عبادتكم إياه.
ثم قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}، أي: فقد كذبتم رسولكم فسوف يكون عقاب تكذيبكم لرسولكم لزاماً، أي: ملازماً لكم، أي: عذاباً ملازماً وهو ما حل بكم يوم بدر.
وقال ابن مسعود: اللزام: يوم بدر.
وقال أبي بن كعب: هو القتل يوم بدر: وهو قول مجاهد والضحاك، وقال ابن زيد: اللزام: القتل يوم بدر.(8/5272)
وقال ابن عباس: اللزام: الموت.
وقال أبو عبيدة: فسوف يكون لزاماً أي: جزاء يلزم كل عامل يعمله من خير أو شر.(8/5273)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
مكية
/ قوله تعالى ذكره: {طسم} [1] إلى قوله (يَسْتَهْزِئُونَ) [5].
قال ابن عباس: طَسِم: قسم، أقسم الله جلّ ذكره به، وهو من أسماء الله.
وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن، فالتقدير على قول ابن عباس: والسميع إن هذه الآيات التي أنزلتها على محمد في هذه السورة، آيات الكتاب التي أنزلتها من قبلها الذي يبين لمن تدبره بفهم وفكر فيه. يعقل أنه من عند الله لم ينخرصه محمد، ولا تقوله من عند نفسه والمعنى في {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين}، أي:(8/5275)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
هذه الآية التي كنتم وعدتم بها على لسان موسى، لأنهم قد وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن.
قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي: لعلك قاتل نفسك يا محمد لأجل تأخرهم عن الإيمان بك.
قال تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً}، أي: إن نشأ يا محمد ننزل عليهم لأجل تكذيبهم لك من السماء آية.
{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، أي: فظل القوم ختضعة أعناقهم لها. قال قتادة: معناه لو شاء الله لأنزل آية يذلون بها، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله.
قال ابن جريج: معناه لو شاء لأراهم أمراً من أمره، لا يعمل أحد بعده بمعصية.(8/5276)
وقيل: المعنى: لو نشاء لأنزلنا عليهم عليهم آية تلجئهم إلى الإيمان من غير أن يستحقوا على ذلك ثوابه ولا مدحاً، لأنهم اضطروا إلى ذلك، ولم يفعله الله بهم ليؤمنوا طوعاً. فيستحقوا على ذلك الثواب، إذ لو آمنوا كرهاً بآية لم يستحقوا على ذلك الثواب.
وقال مجاهد: أ'ناقهم: كبراؤهم.
وقال أبو زيد والأخفش: أعناقهم: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي: جماعة، ويقال: جاء في عنق من الناس أي: كبراؤهم. وهذا قول مجاهد.
وقال عيسى بن عمر: خاضعين، وخاضعة هنا واحد وهو اختيار المبرد. فمن قال: خاضعين رده على المضاف إليه. ومن قال: خاضعة رده على الأعناق لأنهم إذا ذلوا ذلت رقابهم، وإذا ذلت رقابهم ذلوا. ثم قال تعالى ذكره {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ}، أي: ما يأتي هؤلاء المشركين من تذكير يحدثه الله(8/5277)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
إليك، ويوحيه إليك إلا أعرضوا عنه ولم يسمعوه، فهو محدث عند النبي عليه السلام، وعند من نزل عليه، وليس بمحدث في الأصل إنما سمي محدثاً لحدوثه عند من لم يكن يعلمه، فأنزل الله إياه، وهو غير محدث لأنه كلام الله، صفة من صفاته، ولو كان القرآن محدثاً لكانت الأخبار التي فيه لم يعملها الله حتى حدثت تعالى الله عن ذلك. ولو كان محدثاً لكان قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] الآية، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] السورة محدثاً فيكون التوحيد لله محدثاً، وتكون صفاته التي أخبرنا بها في القرآن محدثة؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
أي: كذبوا بالذكر الذي أتاهم فسيأتيهم أخبار ما قد كذبوا به واستهزءوا منه، وهذا تهديد من الله لهم أنه سيحل بهم العقوبة على تماديهم على تكذيبهم وكفرهم وإنما أخبر(8/5278)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
عنهم بالكذب، لأنه أخبر عنهم بالإعراض عن القرآن، ومن أعرض عن شيء فقد تركه، ومن ترك قبول شيء فقد كذب به، فلذلك أخبر عنهم بالتكذيب. وهذا من التدريج والإيماء، ودل قوله: {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أن من كذب بشيء فقد استهزأ به، واستخف به.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا}.
المعنى: أَوَلَمْ ير هؤلاء المكذبون بالبعث إلى الأرض كم أنبتنا فيها بعد أن كانت مينة لا نبات فيها {مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، أي: من كل جنس حسن، فكما أحيينا الأرض بهذا النبات، كذلك نحييهم بعد الموت للبعث/ يوم القيامة، لأن أصلهم من الأرض فهم كالأرض.
قال الشعبي: الناس من بنات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم.(8/5279)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قال الفراء: الزوج اللون. قم قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: إن في إنباته النبات في الأرض لدلالة لهؤلاء المنكرين للبعث على كون البعث، وأن القدرة التي أنبت الله بها في الأرض ذلك النبات، ليقدر بها على نشر الموتى بعد مماتهم.
ثم قال {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}، أي: قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون فأخبر عنهم ما سبق في علمه منهم.
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} أي: لا يمتنع عليه شيء يريده {الرحيم}، أي: ذو الرحمة لمن تاب من كفره.
قال ابن جريج: كل شيء في الشعراء من قوله " عزيز رحيم " فمعناه عزيز حين انتقم من أعدائه، رحيم بالمؤمنين حين أنجاهم ممن أهلك.(8/5280)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
قال تعالى: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى أَنِ ائت القوم الظالمين}، أي: واذكر يا محمد، إذ نادى ربك " موسى " بأن إئت القوم الظالمين، ثم بيَّنهم فقال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}، أي: فقل لهم: ألا يتقون، وجاء باليا، لأنهم غيب عن المخاطبة.
ودل قوله: {أَلا يَتَّقُونَ}، على أنهم كانوا لا يتقون، ودل أيضاً على أنه أمر موسى أن يأمرهم بالتقوى، فهذا من باب الإيماء إلى الشيء بغيره، لأنه أمره بأن يأتي القوم الظالمين ولم يبين لأي شيء يأتيهم، فدل قوله {أَلا يَتَّقُونَ}، لأي شيء يأتيهم وهو الأمر بالتقوى والتقوى اسم جامع للخير كله من الإيمان والعمل. فكأنه قال: أن إئت القوم الظالمين ومرهم بالتقوى فهذا مفهوم الخطاب.
ثم قال تعالى: حكاية عن قول موسى: {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}، أي: أخاف من قوم فرعون أن يكذبون بقولي: إنك أرسلتني إليهم، ويضيق صدري(8/5281)
من تكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بالعبارة عما ترسلني إليهم به للعلة التي في لساني.
ثم قال: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ}، يعني أهاه، أي: ليؤازرني ويعينني، فالمعنى اجعله رسولاً لك معي.
ثم قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ}، أي: ولقوم فرعون علي ذنب أذنبته إليهم، وهو قتله القبطي بالوكزة {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}، يعني قود بالنفس التي قتلت منهم. {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}، وقف، و {أَلا يَتَّقُونَ}، التمام و {أَن يُكَذِّبُونِ}، وقف إن رفعت {وَيَضِيقُ} على الاستئناف، فإن رفعت عطفت على {أَخَافُ}، أو نصبت عطفت على {يُكَذِّبُونِ}، كان التمام {أَن يَقْتُلُونِ}.(8/5282)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
ثم قال: {قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ}، أي: لن يقتلوك انزجر عن الخوف من ذلك فإنهم لا يصلون إليك. فاذهب أنت وأخوك بآياتنا، أي: بإعلامنا، وحججنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ}، ووجه قوله: {مُّسْتَمِعُونَ} أنه بمعنى سامعون لأن الاستماع إنما يكون بالإصغاء، وذلك لا يجوز على الله جلّ ذكره، وأخبر عن نفسه بلفظ الجماعة وذلك جائز. وقال: {مَعَكُمْ} وهما اثنان لأن الاثنين جمع، كما قال: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] يريد أخوين ويحتمل أن يكون ثم قال: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين}، وحد رسولاً وهما اثنان لأنه أراد به المصدر بمعنى الرسالة. يقول: أرسلت رسالة ورسولاً. وتقديره: إنا ذوا رسالة.
وقيل: رسول اسم للجمع كالعدو والصديق، فلذلك أتى موحداً.
أي: بأن أرسل معنا بني إسرائيل أي: بأن(8/5283)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
تطلقهم وتخلي سبيلهم.
قال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} أي: قال فرعون لموسى حين قال له: أرسل معنا بني إسرائيل - ألم نربك ميتاً صغيراً، وفي الكلام حذف والتقدير: فلما ذهبا إليه قالا ذلك.
وقوله: / {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}، بمن فرعون على موسى بتربيته عنده إلى أن قتل القبطي.
وروى الخفاف عن أبي عمرو " عُمْرك " بإسكان الميم، وحكى سيبويه فتح العين وإسكان الميم في القسم في " لعمرك " فلا يستعمل في القسم عنده إلا مفتوحاً لخفته، وكثرة استعمالهم له في القَسَم.
قال تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ}، يعني قتله القبطي، يوبخ فرعون موسى بذلك. وقرأ الشعبي {فَعْلَتَكَ} بكسر الفاء يريد به الحال(8/5284)
والهيئة كما تقول: هو حسن المثبه والركبة والجلسة.
وقوله: {وَأَنتَ مِنَ الكافرين}.
قال السدي: معناه: وأنت من الكافرين على ديننا هذا التي تعيب؛ أي: أنت ساتر على ديننا.
قال ابن زيد: معناه: كفرت نعمتنا عليك، وتربيتنا لك فجازيتنا أن قتلت نفساً منا وكفرت نعمتنا. وكذلك قال ابن عباس: يريد كفر النعمة.
وقيل المعنى: وقتلت نفساً منا وأنت الآن من الكافرين لنعمتي، وتربيتي إياك. فقال موسى لفرعون: {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين}، أي: قتلت النفس وأنا من الجاهلين، لأن ذلك قبل أن يأتيه الوحي من الله بتحريم قتله. يقال: جهل فلان الطريق وضل الطريق بمعنى، وفي حرف ابن مسعود من الجاهلين.(8/5285)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
وقال ابن زيد: معناه: وأنا من الخاطئين لقتله لم أتعمده، قال أبو عبيدة: من الضالين: من الناسين.
وقال الزجاج: وأنت من الكافرين لنعمتي ويجوز من الكافرين لقتلك الذي قتلت فنفى موسى الكفر، واعترف بأنه فعل ذلك جهلاً.
وقيل: معنى: الضالين: أي: قتلت القبطي وأنا ضال في العلم بأن وكزتي له تقتله، لم أتعمد قتله ولا قصدت لذلك.
قال تعالى {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}، أي: هربت منك خوفاً أن تقتلوني بقتلي القبطي منكم {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً}، قال السدي: نبوة.
وقال الزجاج: الحكم: تعليمه التوراة التي فيها حكم الله.(8/5286)
{وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين}، أي إلى خلقه.
ثم قال موسى لفرعون {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي وتربيتك إياي، وتركك استعبادي كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ، وفي الكلام حذف، والتقدير: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني لم تيتعبدني.
وقال الأخفش قيل المعنى: وتلك نعمة على الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع.
وقال الفراء: في الكلام حذف والتقدير: هي لعمري نعمة إذ مننت علي فلم تستعبدني، واستعبدت بني إسرائيل.(8/5287)
وقال الضحاك: المعنى إنك تمن علي بأن عبدتني وأنا من بني إسرائيل، لأنه روي أنه كان رباه على أن يستعبده.
وقيل المعنى: وأنت من الكافرين لنعمتي، وتربيتي لك فأجابه موسى فقال: نعم هي نعمة أن هبّدت بني إسرائيل ولم تستعبدني. وأن في موضع رفع على البدل من نعمة.
وقيل: هي في موضع نصب على معنى: بأن عبدت، يقال عبدت الرجل وأعبدته: إذا اتخذته عبداً.
وقيل: وتلك نعمة تمنها عليّ أن استعبدت بني إسرائيل فكلفتهم تربيتي. لأن فرعون لم يربه إنما أمر من يربيه من بني إسرائيل أمه وغيرها. فلما منّ عليه فرعون بتربيته له. قال له موسى أثر بيتك إيأي: باستعبادك بني إسرائيل وتكليفك لهم(8/5288)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
تربيتي نعمة لك علي لا نعمة لك في ذلك علي؛ لأن بني إسرائيل هم الذين تولوا تربيتي باستعبادك إياهم على ذلك.
قوله تعالى ذكره: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين}،
هذا يدل على أن موسى دعاه إلى طاعة رب العالمين. قال فرعون: {وَمَا رَبُّ العالمين}، فهذا حذف، واختصار يدل عليه جواب فرعون. وهذا من إعجاز القرآن، وإيتان اللفظ القليل بالمعاني الكثيرة. ومثل هذا لا يوجد في كلام الناس: أي: قال فرعون: وأي: شيء رب العالمين. قال موسى {قَالَ رَبُّ / السماوات والأرض} أي: مالكهن {وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ}، فأجابه موسى بصفات الله التي يعجز عنها المخلوقون، ولم يكن عنده رد على موسى غير أن قال لمن حوله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ}، أي: ألا تستمعون جواب موسى، لأن فرعون سأل موسى عن الأجناس أي: من أي: جنس رب العالمين فلما لم يكن الله جلّ ذكره جنساً من الأجناس(8/5289)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
المعلومات ترك جوابه، وأجابه بدلالة أفعال الله، ومحدثاته من السماوات والأرض، ولم يخبره أنه جنس إذ لا يجوز، فعجّب فرعون قومه من جواب موسى له فقال لمن حول من القبط: ألا تستمعون إلى قول موسى، فزادهم موسى من البيان ما هو أقرب عليهم من الأول وأقرب إلى أفهامهم، فقال لهم {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين}، أي الذي دعوته إليه وإلى عبادته: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين}، أي: خالقكم، وخالق آبائكم الأولين فدل عليه بأفعاله، وترك ظاهر جواب فرعون، لأنه سأل عن الجنس، والأجناس كلها محدثة، فلم يجبه موسى عن ذلك إذ سؤاله ممتنع، وأجابه بأفعاله الدالة على قدرته، وتوحيده، فأتى بدليل يقرب من أفهامهم فلم يحتجّ فرعون عليه فيما قال بأكثر من أن نسبه إلى الجنون، لأنه قد قرر عند قومه أنه لا رب لهم غيره.
فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، أي: لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولاً لا نعرفه ولا نفهمه؛ يُلبس بذلك على قومه. يريد فرعون أن موسى مجنون إذ(8/5290)
أجابني بغير ما سألته عنه. فلم يجبهم موسى إلا بما يجوز أن يوصف به رب العالمين. فقال موسى عند ذلك محتجّاً على فرعون وزائداً له في البيان {رَبُّ المشرق والمغرب}، أي: مشرق الشمس، ومغربها وما بينهما من شيء.
{إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}، ما يقال لكم فأخبرهم أن ملك الله جلّ ذكره ليس كملك فرعون الذي لا يملك إلا بلداً واحداً، فلما علم فرعون صحة ما يقول موسى وتبين له ولقومه ذلك توعد موسى استكباراً وتجبراً فقال {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين}، أي: لئن أقررت بمعبود غيري لأسجننك مع من في السجن من أهله، فرفق به موسى، وقال له {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ}، أي: بآية ظاهرة تدلك على صدق ما نقول، وما ندعوك إليه إن قبلت، قال له فرعون: فأت بها إن كنت صادقاً، فإني لا أسجنك بعد ذلك {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ}، أي: تحولت ثعباناً ذكراً، وهي الحية. {وَنَزَعَ يَدَهُ}، أي:(8/5291)
أخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع للناظرين من غير برص.
قيل: كان بياضهما يغلب على ضوء الشمس.
وقيل: نزعها من قميصه.
وقال المنهال: ارتفعت الحية في السماء قدر ميل، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها فجعلت تقول: يا موسى: مرني بما شئت، فجعل فرعون يقول: يا موسى أسألك بالذي أرسلك قال: فأخذه بطنه، ثم قال فرعون للملا حوله أي للأشراف من قومه {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، قال ذلك بعدما أراه الآيتين، وأزال عنه ما خاف منه من الثعبان أن يبتلعه فلم بمكنه إنكار ما رأى فقال لقومه، ما قال عند ذلك: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}، أي: يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشام بقهره إياكم بالسحر، فالخطاب منه لأشراف قومه من القبط والمراد بنو(8/5292)
إسرائيل لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل. فالمعنى: يريد أن يخرج خدمكم من أرض مصر إلى الشام، ويبين هذا قوله في طه: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47] وقوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17]، ثم قال فرعون لأشراف قومه من القبط: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} يشاورهم في أمر موسى فهذان كلامان اتصلا باللفظ، وهما من آيتين ومثله: اتصال كلام يوسف بكلام امرأة العزيز في قولها {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [يوسف: 51] انقضى كلام امرأة العزيز فقال / يوسف {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] ومثله اتصال كلام بلقيس بكلام الله جلّ ذكره في قوله: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] تم كرمها فقال الله جل ذكره: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] وقد قيل: إنه من كلام سليمان عليه السلام، ولهذا نظائر(8/5293)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
كثيرة {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، أي: أخرهما {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ}، يجمعون إليك، كل ساحر علم بالسحر.
قال تعالى: {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}، أي: فجمع الحاشرون السحرة لوقت معلوم، تواعد فرعون وموسى بالاجتماع فيه وذلك يوم الزينة.
{وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59]، {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ}، لتنظروا لمن الغلبة ألموسى أم للسحرة؟ وقيل: المعنى: وقال بعض الناس لبعض: هل أنتم مجتمعون لننظر لمن الغلبة لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى.
وروى: أن الاجتماع كان بالاسكندرية قاله ابن زيد.
فبلغ ذنب الحية يومئذ من وراء البحيرة وهربوا وأسلموا فرعون فهمّت(8/5294)
به فقال: خذها يا موسى، وكان مما يلي الناس به منه أنه لا يضع على الأرض شيئاً فأحدث يومئذٍ تحته، وكان إرساله الحية في القبة الخضراء. فكل ذلك قاله ابن زيد.
وقال ابن لهيعة: كان فرعون لحيته خضراء، وكانت تضرب ساقه إذا رهب، وكانت له جمة خضراء مثل ذلك من خلفه، وكان إذا ركب غطى شعره، من خلفه الظهر، ومن بين يديه لحيته.
ثم قال: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً}، أي: لما جاء السحرة فرعون لموسى قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً قبلك على سحرنا إن كنا نحن الغالبين موسى. قال لهم فرعون: نعم لكم الأجر قبلي إن غلبتهم وإنكم إذا غلبتهم لمن المقربين مني، فقالوا عند ذلك لموسى {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 15]، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه وقد نصه تعالى في غير هذا الموضع ولم يحذفه للإفهام وحذفه هنا للاختصار(8/5295)
والإيجاز، ودلالة الكلام عليه. فقال لهم موسى {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ}، يعني من حبالهم وعصيهم، فألقوا ذلك. {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ}، أي: أقسموا بعزة فرعون وسلطانه {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون}، موسى {فألقى موسى عَصَاهُ}، حين ألقت السحرة حبالها وعصيها {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}، أي: تزدري ما يأتون به من القرية والسحر الذي لا حقيقة له.
روي: أن حبالهم وعصيهم كانت حمل ثلاث مائة بعير، فابتلعت العصا جميع ذلك، ثم دنا موسى فقبض عليها بيده فصارت عصا، كما كانت أولاً وليس لتلك الحبال والعصي أثر، فألقي السحرة عند ذلك ساجدين مذعنين(8/5296)
أي تبين لهم كذب ما أتوا به وصدق ما جاء به موسى وإنه لا يقدر على ذلك ساحر، وقالوا في سجودهم {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}، الذي دعا موسى إلى عبادته. {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}، والتقدير: فألقي الذين كانوا السحرة ساجدين لأنهم لم يسجدوا حتى آمنوا، وزال عنهم ذنب السحر فلا يسموا سحرة إلا على ما كانوا عليه. وذكر ابن وهب عن القاسم بن أبي بزة أنه قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل موسى {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى}
[طه: 66] فأوحى الله إليه {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف: 117] فألقى عصاه فغذا هي ثعبانٌ مبين فاغرٌ فاه يبلغ حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك ساجدين، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، قال: وكانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن هي رجعت عن قولها فهي(8/5297)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
امرأته فلما أتوها / رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قوله وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح.
قوله: قال فرعون {آمَنتُمْ لَهُ}، أي: قال فرعون للسحرة آمنتم له أي: بأنّ ما جاء به حق {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}، في ذلك أي: قبل أن آمركم به.
قال ابن زيد خطاياهم: السحر، والكفر اللذان كانوا عليهما. قال ابن زيد: كانوا يومئذ أول من آمن بموسى، وكان قد آمن بموسى ست مائة ألف وسبعون ألفاً من بني إسرائيل، فأول من آمن من عند ظهور الآية السحرة.
قال {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ}، أي: أوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيه، أن اسر ببني إسرائيل من أرض مصر {اإِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} أي: يتبعكم(8/5298)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
فرعون وجنوده ليمنعوكم الخروج من أرض مصر.
أي: جامعين يجمعون الناس لطلب موسى ومن معه، والمدائن يجوز أن يكون مفاعل ويكون همزها سماعاً على غير أصل، فتكون مشتقة من دان يدين. ويجوز أن يكون فعائل، ويكون همزها على الأصل وتكون مشتقة من مدن، وهذا أحسن من الأول.
أي: قال فرعون لمن جمع من الناس: إن موسى ومن معه لشرذمة قليلون. والشرذمة الطائفة، وشرذمة كل شيء بقيته القليلة.
قال أبو عبيدة: كانوا ست مائة ألف وسبعين ألفاً فوصفهم بالقلة.(8/5299)
قال عبد الله بن شداد بن الهاد: اجتمع يعقوب، وولده إلى يوسف وهم اثنان وسبعون وخرجوا مع موسى وهم ست مائة ألف غير من نات، وخرج فرعون على فرس أدهم حصان في عسكره ثمان مائة ألف.
قال الزجاج: كانت مقدمة فرعون: سبع مائة ألف، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة.
وقال قيس بن عباد: كانت مقدمة فرعون ست مائة ألف، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة، في يده حربة وهو خلفهم في الدهم، فلما انتهى موسى ببني إسرائيل البحر، قالت بنو إسرائيل: يا موسى أين ما وعدتنا؟ هذا البحر بين(8/5300)
أيدينا، وهذا فرعون وجنوده قد دهمنا من خلفنا، فقال موسى للبحر: إنفلق يا أبا خالد، فقال: لا أنفلق يا موسى، أنا أقدم منك خلقاً، فنودي موسى {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} فضربه فانفلق البحر، وكانوا اثني عشر سبطاً، فسار لكل سبط طريق، فلما انتهى أول جنود فرعون إلى البحر، هابت الخيل البحر، ومثل الحصان منها وديق فرس، فوجد ريحها فاشتد، واتبعته الخيل فلما تتام آخر جنوده في البحر، وخرج آخر بني إسرائيل، أمر البحر فانطبق عليهم، فقالت(8/5301)
بنو إسرائيل: ما مات فرعون وما كان ليموت أبداً، فسمع الله تكذيبهم لنبيه، فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمر فرآه بنو إسرائيل.
قال مالك: خرج مع موسى رجلان من التجار إلى البحر، فلما أتيا إليه قالا له: ماذا أمرك ربك به؟ قال: أمرني ربي أن أضرب البحر بعصاي هذه فيجف، فقالا / له " إفعل ما أمرك به ربك فلن يخلفك، قال ثم ابتدرا إلى البحر، فألقياه أنفسهما فيه تصديقاً به.
قال ابن جريج: أوحى الله جلّ ذكره إلى موسى قبل أن يسري بهم أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن فأضربوا بدمائها على(8/5302)
الأبواب فإني سآمر الملائكة ألا تدخل بيتاً على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون ثم أخبزوا خبزاً فطيراً، فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنهي البحر، فيأتيك أمري، ففعل فلما أصبحوا، قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه، قتلوا أبكارنا، فأرسل في أثرهم ألف ألف وخمس مائة ألف وخمس مائة ملك مصور، مع كل ملك ألف رجل، وخرج فرعون في الكرسي العظيم، وقال: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}، وكانوا ست مائة ألف، منهم أبناء عشرين سنة إلى الأربعين.
وقال ابن عباس كان مع فرعون يومئذ ألف جبار كلهم عليه تاج، وكلهم أمير على خيل.
قال ابن جريج: كان ثلاثون ألفاً يعني من الملائكة ساقة، خلف(8/5303)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
فرعون يحسبون أنهم معهم، وجبريل عليه السلام أمامهم يرد أوائل الخيل على آخرها، فأتبعهم حتى انتهوا إلى البحر.
أي: بقتلهم أبكارنا.
وقيل: معناه: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} بذهابهم بالعواري التي كانوا استعاروها من الحلي.
وقيل: {لَغَآئِظُونَ} بخروجهم من أرضنا بغير رضانا.
وقال عمرو بن ميمون: قالوا لفرعون: إن موسى قد خرج ببني إسرائيل، فقال: لا تكلموهم حتى يصيح الديك، فلم يصح تلك الليلة ديك فلما أصبح: أحضر شاة فذبحت، وقال: لا يتم سلخها حتى يحضر خمسمائة ألف فارس من القبط فحضروا.(8/5304)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
قوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) من قرأ بألف وبغير ألف فمعناه عند أبي عبيدة واحد، وهو مذهب سيبويه لأنه أجاز أن تعدى بحذراً كما يعدى حاذراً.
وقال الجرمي: لا يجوز حذر زيداً إلا على حذف (من).
وقال الكسائي والفراء والمبرد: رَجُل حَذِرٌ. إذا كان الحَذَرُ في خلقته فهو متيقظ منتبه، فلا يتعدى على هذا المعنى كما لا يتعدى كريم وشريف. ومعنى حاذر عندهم: مستعد فيكون المعنى على قراءة من قرأ بغير ألف: وإنا لجميع قد استشعرنا الحذر حتى صار كالخلقة وقيل معناه: وإنا لجميع حاملون السلاح، وإن بني إسرائيل لا سلاح معهم. ومن قرأ بألف فمعناه: مستعدون بالسلاح، فهو أمر محدث فيهم.(8/5305)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
قال ابن مسعود حاذرون مؤدون في الكراع والسلاح أي: معهم أداة ذلك.
وقيل حاذرون: شاكون في السلاح: وقرأ ابن عمار حادرون بالدال غير معجمة بمعنى: ممتلئين غيظاً. تقول العرب جمل حاذر: إذا كان ممتلئاً غيظاً.
وقيل: حاذرون ممتلئون بالسلاح.
قال تعالى ذكره: {}، أي: أخرج الله فرعون وقومه من بساتين وعيون، وكنوز ذهب وفضة.
{}، أي: حسن، يعني المنابر.
وقال عبد الله بن عمرو: نيل مصر: سيد الأنهار، سخر الله له كل(8/5306)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
نهر بين المشرق والمغرب وذلَّله له، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر يمده، فتمده الأنهار بمائها، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله، أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وقال: كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً من أسوان إلى رشيد.
وقال: المقام الكريم: الفيوم.
أي: هكذا أخرجناهم من ذلك، كما وصفت لكم في هذه الآية.
{وَأَوْرَثْنَاهَا}، أي: أورثنا تلك الجنات، والعيون والكنوز، والمقام(8/5307)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
الكريم: بني إسرائيل.
أي: اتبع فرعون وأصحابه موسى ومن معه وقت الشروق.
وقال أبو عبيدة نحو المشرق، يقال أشرقنا: دخلنا في الشروق، كما يقال: أصبحنا دخلنا في الصباح. ويقال: شرقنا، إذا أخذوا نحو المشرق، وغربنا إذا أخذوا نحو المغرب. فعلى هذا لا يصح قول أبي عبيدة إلا لو كان مُشْرِقين.
قال مجاهد: خرج موسى ليلاً فكسف بالقمر، وأظلمت الأرض وقال أصحابه: إن يوسف أخبرنا أنا سنُنَجَّى من فرعون، وأخذ علينا العهد لنخرجن بعظامه معنا: فخرج موسى من ليلته سأل عن قبره، فوجد عجوزاً بيتها على قبره، فأخرجته له بحكمها، وكان حكمها أن قالت: احملني فاجر بي معك، فجعل عظام يوسف في كسائه، وجعله على رقبته، وخيل فرعون في ملء أعنتها خضراء في(8/5308)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
أعينهم، وهي لا تبرح، حبست عن موسى، وأصحابه حين تراءوا. الوقف عند نافع " كذلك " وعند أبي حاتم {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58].
قال تعالى {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان}، أي: رأى بعضهم بعضاً: قال أصحاب موسى {لَمُدْرَكُونَ}، أي: الملحقون.
وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بالتشديد وهو مفتعلون، ومعنى التخفيف لملحقون، ومعنى التشديد: لمجتهد في لحاقنا، كما(8/5309)
يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت. وأكسبت بمعنى اجتهدت وطلبت.
وروي: أنهم قالوا ذلك تشاءموا بموسى وقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا.
قال: السدي: لما نظرت بنو إسرائيل إلى فرعون، وقد ردفهم قالوا: إنا لمدركون، قالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا، فكانوا يذبحون أبناءنا، ويستحيون نسائنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا، وفرعون من خلفنا.
وعن ابن عباس أنه قال: لما انتهى موسى البحر، هاجت الريح العواصف والقواصف، فنظر أصحاب موسى خلفهم إلى الرهج وإلى البحر أمامهم فقالوا يا موسى: إنا لمدركون. {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، أي: ليس الأمر كما ذكرتم لا(8/5310)
يدركونكم، إن معي ربي سيهدين طريقاً أنجو فيه من فرعون وقومه.
قال عبد الله بن شداد بن الهاد: لقد بلغني أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفاً من دهم الخيل سوى ما في جنده من شية الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف، طلع فرعون في جنده من خلفهم ثم قال تعالى {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} روي: أن الله جلّ ذكره: أمر البحر أن لا ينغلق حتى يضربه موسى بعصاه.
قال السدي تقدم هارون فضرب البحر، فأبى البحر أن ينفتح: وقال: من هذا الحبل الذي يضربني حتى أاه موسى فكناه أبا خالد وضربه فانفلق.(8/5311)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
قال ابن جريج انفلق على اثني عشر طريقاً، في كل طريق سبط وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً فكانت الطريق كجدران، فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى، دعا الله فجعلها لهم بقناطر كهيئة الطيقان ينظر بعضهم إلى بعض، على أرض يابسة، كأن الماء لم يصبها قط حتى عبروا.
وقوله تعالى: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم}، أي: كالجبل العظيم.
قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين}، أي: قربنا " ثم " أي: هنالك الآخرين يعني قوم فرعون من البحر، وقدمناهم إليه.
قال ابن عباس: أزلفنا قدمناهم / إلى البحر.
وقال ابن جرير: قربنا، وكذلك قال قتادة.(8/5312)
وقال أبو عبيدة: أزلفنا: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة. أي: ليلة جمع.
وقيل: أزلفنا أهلكنا: وقرأ أبيُّ بن كعب: " أزلقنا " بالقاف. قال السدي، دنا فرعون وأصحابه بعدما قطع موسى ببني إسرائيل البحر من البحر، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال: ألآ ترون: أن البحر فرق مني، قد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم، فلما قام فرعون على أفواه الطرق أتت خيله أن تقتحم، فنزل جبريل عليه السلام على ما ذيانة فشمت الحُصُ، ريح الماذية، فاقتحمت في إثرها حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم.(8/5313)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
قال تعالى ذكره {وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ}، يعني بني إسرائيل {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين}، يعني فرعون وقومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: إن في فعلنا بهم لعلامة، وحجة، ووعظاً لقومك يا محمد أن ينالهم مثل ذلك على تكذيبهم لك. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، أن أكثر قومك يا محمد لم يكونوا مؤمنين، في سابق علم الله. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز}، أي: عزيز في انتقامه ممن كفر به، رحيم بمن أنجاه من الغرق {لآيَةً}، قطع كاف، و {مُّؤْمِنِينَ} تمام، و {الرحيم} تمام.
قال تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}، أي: واقصص يا محمد على مشركي قومك خبر إبراهيم، حين قال لأبيه وقومه، أي: شيء تعبدون {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}، أي: نثبت خدماً مقيمين على عبادتها.
قال ابن جريج: هو الصلاة لأصنامهم. قال إبراهيم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}، أي: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم.(8/5314)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
قال الأخفش التقدير هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم ثم حذف، وقرأ قتادة: هل يُسمِعونكم بضم الياء، أي: هل يُسمعونكم كلامهم.
وقيل: المعنى: هل يسمعونكم إذا دعوتموهم لصلاح أموركم، وهل يستجيبون لكم، ويعطونكم ما سألتموهم، وهل ينفعونكم إذ عبدتموهم وهل يضرون من لا يعبدهم، كل ذلك توبيخاً لهم وتقريعاً.
وقوله: {أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}، أي: هل تنفعكم هذه الأصنام فترزقكم شيئاً على عبادتكم لها، أو يضرونكم إذا تركتم عبادتها. فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، أي: نحن نفعل ذلك، كما فعله آباؤنا وإن كانت لا تسمع ولا تنفع، ولا تضر، إنما نتبع في عبادتها فعل آبائنا لا غير. وهذا الجواب: حائد على السؤال لأنه سألهم: هل يسمعون الدعاء، أو ينفعون أو يضرون، فحادوا عن الجواب وقالوا: {وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وليس هذا(8/5315)
جوابه، ولكن لما لم يكن لهم جواب، حادوا لأنهم لو قالوا: يسمعون، وينفعون، ويضرون لبان كذبهم عند أنفسهم وعند جماعهم، ولو قالوا: لا يسمعون، ولا ينفعون، ولا يضرون، لشهدوا على أنفسهم بالخطأ والضلال في عبادتهم من لا يسمع، ولا ينفع ولا يضر، فلم يكن لهم يد من الحيدة عن الجواب، فجاوبوا بما لم يسألوا عنه وقالوا: {وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، ولم يُسألوا عن ذلك، وهذا من علامات انقطاع حجة المسؤول، ويبين أنهم حادوا عن الجواب، إدخال بل مع الجواب، وبل للإضراب عن الأولى والإيجاب للثاني فهم أضربوا عن سؤاله، وأخذوا في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً منهم عن جوابه، وإقراراً بالعجز.(8/5316)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
قوله تعالى ذكره: قال {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}.
أي: ما تعبدون من الأصنام انتم وآباؤكم المتقدمون قبلكم.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي}، أي: يوم القيامة كما قال {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] وأخبرنا الله تعالى عن الأصنام، كما يخبر عن من يعقل. جاز أن يقول هنا: عدو لي ". وعدو يقع للجمع والمؤنث بلفظ واحد وقد قالوا: عدوة الله بمعنى معادية.
وقيل: هذا من المقلوب، لأن الأصنام لا تعادي أحداً، ولا تعقل، والمعنى فإني عدو لهم أي: عدو لمن عبدهم. وأصل العداوة، من عدوت الشيء، إذا تجاوزته وتخلفته.(8/5317)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
ثم قال تعالى ذكره: {إِلاَّ رَبَّ العالمين}، هو استثناء ليس من الأول أي: لكن رب العالمين، ويجوز أن يكون من الأول، على أن يكونوا قد كانوا يعبدون الله والأصنام، وتقدير الآية: أفرأيتم كل معبود لكم، ولآبائكم فإني منه بريء لا أعبد إلا رب العالمين.
قال تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}، أي: يهدين للصواب من القول والعمل. {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}، أي: وهو الذي يغذيني بالطعام والشراب، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}، أي: يبرءني ويعافين {والذي يُمِيتُنِي}، إذا شاء {ثُمَّ يُحْيِينِ}، إذا أراد بعد مماتي.
أي: يوم الجزاء على الأعمال، والطمع ها هنا بمعنى اليقين، كما جاء الظن بمعنى اليقين.
وقيل: الطمع على بابه. لكن أراد أنه يطمع أن يغفر الله للمؤمنين ذنوبهم(8/5318)
يوم القيامة بإيمانهم، وهو على يقين من مغفرة الله له، لكن إجراء الخبر عن نفسه، والمراد غيره من المؤمنين.
قال مجاهد: الخطيئة قوله {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} [الأنبياء: 63] وقوله في سارة إنها أختي، حين أراد فرعون من الفراعنة أن يأخذها.
وقرأ الحسن: خطاياي: بالجمع، وقال: ليست: خطيئة واحدة، والخطيئة تقع معنى الخطايا كما يقع الذنب بمعنى الذنوب.
قال تعالى ذكره: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} [الملك: 11] أي: بذنوبهم، وكما(8/5319)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
قال: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] أي: الصلوات.
قال {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً}، أي: نبوة {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}، أي: أرسلني إلى خلقك حتى أكون ممن ائتمنته على وحيك، {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين}، أي: ذِكراً جميلاً، وثناء حسناً باقياً فيمن يجيء من القرون بعدي. قاله ابن زيد.
وقيل: ذلك اللسان الصدق: إيمان جميع الأمم به. فأعطاه ذلك؛ فليس يهودي ولا نصراني ولا غيرهما من أهل الكتاب إلا يؤمن به ويحبه ويثني عليه، ويقول: هو خليل الله، وقد قطع الله تعالى ولاية جميع أهل الكتاب منه لما تولوه وادعوه، فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} [آل عمران: 67] ثم ألحق ولايته بهذه الأمة فقال: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ} [آل عمران: 68] وهذا كله أجره الذي عجل له وهي الحسنة. إذ يقول {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه، هذا كله قول عكرمة. أو معنى قوله.(8/5320)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
وقيل: معنى سؤاله، هو أن يجعل الله من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، ويدعو إليه، وهذا الدعاء هو لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه الذي قام بذلك في آخر الزمان وهو من ولد إبراهيم، فأجاب الله دعاءه، وبعث محمداً من ولده، فأقام الحق وبين الدين، فهو اللسان الصادق الذي أتى في الآخرين.
أي: أورثني من منازل من هلك من أعدائك من الجنة.
{واغفر لأبي} من شركه بك فلا تعاقبه عليه.
{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين}، أي: ممن ضل عن السبيل الهدى، وكفر بك.
أي: لا تذلني بعقابك إيأي: يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب / وعدتني(8/5321)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
ألا تخزني يوم يبعثون. فيقول الله جلّ ذكره: إني حرمت الجنة على الكافرين ".
وروى أبو هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة ".
أي: لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا، ما كان له من مال وبنين.
أي: لا ينفع إلا القلب السليم من الشك في توحيد الله، والبعث بعد الممات. قاله مجاهد.
وقال قتادة: هو السليم من الشرك.
قال ابن زيد: سلم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد.
وقال الضحاك: السليم، الخالص.
وقال سفيان: بلغني في قول الله تعالى {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، إنه الذي(8/5322)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
يلقى ربه وليس في قلبه أحداً غيره.
أي: أدنيت وقربت، أي: قرب دخولهم إياها.
قال تعالى {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ}، أي: أظهرت النار للذين غووا.
يروى: أن جهنم يؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، تتلظى على أعداء الله. {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله}، أي: قيل للغاوين: أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله، هل ينصرونكم من عذاب الله، أو ينتصرون لأنفسهم فينحونها مما يراد بها.
أي: رمي بهم في الجحيم، بعضهم على بعض مكبين على وجوههم. وأصل كبكبوا: كببوا: فأبدل من الباء الثاني كاف، استثقالاً لثلاث باءات.(8/5323)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
وعن ابن عباس: كبكبوا: جمعوا فيها.
قال ابن زيد: كبكبوا: طرحوا، والمعنى: فكبب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوين.
قال قتادة: الغاوون هنا: الشياطين، فيكون معنى الآية: فكبب فيها الكفار والشياطين.
وقال السدي: فكبكبوا: يعني مشركي قريش، والغاوون الآلهة وجنود إبليس. وحقيقة معنى كبكبوا: تكرير الانكباب، كأنه إذا ألقي ينكب مرة، بعد مرة حتى يستقر فيها نعوذ بالله منها.
أي: وكذلك جاث فيها مع(8/5324)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
الأنداد جنود إبليس، وجنوده كل من كان من تباعه، ومن ذريته كان أم من غير ذريته.
وقيل: جنود إبليس هنا: كل من دعاه إلى عبادة الأصنام، فساعد إبليس على ما يريد فهم جنوده.
قال تعالى: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}، أي: في جهنم: يعني قول الغاوين للأنداد، وجنود إبليس، وتخاصمهم في جهنم، {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: إنا كنا لفي ضلال مبين، أي: في حيرة ظاهرة.
وقال الزجاج: المعنى تالله ما كنا إلا في ضلال عن الحق ظاهر.
في العبادة والتعظيم.(8/5325)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
(وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [99]، يعني إبليس وابن آدم القاتل أخاه.
قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ}،
أي: فما لنا من شافع يشفع لنا عند الله من الأباعد، ولا صديق من الأقارب.
قال ابن جريج من شافعين: من الملائكة، ولا صديق حميم من الناس. وقال مجاهد: حميم شقيق.
وقال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع، وأن الحميم إذا كان صالحاً: شفع.
وقال بعض أهل اللغة: الحميم الخاص.
قال تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ}، أي: رجعة إلى الدنيا.
{مِنَ المؤمنين}، بالله.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: لعلامة وذا إشارة إلى ما تقدم ذكره، والكاف خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}، أي: الشديد الانتقام، ممن عبد غيره من دونه ثم لم يتب من، كفره، / الرحيم(8/5326)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
لمن تاب منهم.
أي: كذبت جماعة قوم نوح المرسلين. وإنما جمع المرسلين ولم يرسل إليهم إلا نوح، لأن من كذب رسولاً بمنزلة من كذب جميع الرسل، ويجوز أن تكون قد كذبت الرسل مع تكذيبها لنوح، ولم تؤمن برسول كان قبله.
وقيل: إنما أخبر عنهم: بتكذيب الرسل، لأنهم كذبوا نوحاً فيما أتاهم به عن الله، وكذبوا كل من دعا إلى توحيد الله من سائر المسلمين قبل نوح، الذين بلغهم خبرهم، ودعاتهم إلى توحيد الله، فقد كان قبل نوح رسل، ودعاة إلى الله جلّ ذكره إدريس وغيره.
قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}، سمي نوح أخاهم لأنه كان من قبيلتهم.(8/5327)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{أَلاَ تَتَّقُونَ}، أي: تتقون عقاب الله على كفركم.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، أي: رسول من الله إليكم، أمين على وحيه إلي، ورسالته إيأي: إليكم. {فاتقوا الله}، أي: عقابه على كفركم به {وَأَطِيعُونِ}، وأطيعون في نصيحتي لكم، وأمري إياكم.
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: لا أسألكم على نصحي لكم، من ثواب ولا جزاء.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين}، أي: ما جزائي وثوابي على دعائي لكم إلا على رب العالمين، دونكم، ودون جميع الخلق.
{فاتقوا الله}، أي: عقابه على كفركم، وخافوا حلول سخطه بكم على كفركم.
قال: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون}، أي: كيف نؤمن لك، ونصدقك، وإنما اتبعك منا سفلة الناس، دون الأشراف وذوي الأموال.(8/5328)
روي: أنه إنما اتبعه، وآمن به سفلة الناس، وأصحاب الصناعات الخسيسة مثل الحاكة: فاتقوا أن تكونوا مثلهم، وتفعلوا فعلهم تجبراً على الله وكفراً به. {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، أي: إنما لي منهم ظاهرهم دون الباطن.
وقيل: " كان " زائدة. والتقدير: وما علمي بما يعملون الآن، فأما ما كانوا يعملون فقد كان يعلمه.
وقيل: معنى قوله: {وَمَا عِلْمِي}، وما علمي بما يعملون أي: لست أسأل عما كانوا يعملون، ولا أطلب علم ذلك. ذلك إلى الله يحاسبهم على أعمالهم، ويجازيهم عليها، فقد أظهروا الإيمان فليس لي إلا ما ظهر، والله المطلع على الباطن، فأما فقرهم فلا يضرهم ذلك عند الله، يعني من يشاء، ويفقر من يشاء. ليس الفقر بضار في الدين، ولا الغني بنافع في الدين، إنما ينفع الإيمان ويضر الكفر.
قال مجاهد وقتادة: الأرذلون: الحاكة.
وقيل: هم الحجامون.(8/5329)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
وقرأ يعقوب: وأتباعك
يعني إنه تعالى: يعلم سر أمورهم وعلانيتها.
قال ابن جريج: معناه هو أعلم بما في أنفسهم.
أي: قال لهم نوح: وما أنا بطارد من آمن بي، واتبعني.
أي: ما أنا إلا منذر لكم عذاب الله، مبين عما جئتكم به.
أي: لئن لم تنته عما تقول، وتدعونا إليه، وتعيب به آلهتنا لتكونن من المشتومين أي: لنشتمنك.
وقيل: من المرجومين بالحجارة حتى نقتلك.
أي: كذبون فيما أتيتهم به من الحق.(8/5330)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
{فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي: احكم بيني وبينهم حكماً.
وقال قتادة: معنى ذلك: فاقض بيني وبينهم قضاء. وكذلك قال ابن زيد.
{وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي} أي: نجني من ذلك العذاب، أي يأتي به حكمك: {وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين}، {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} يعني: {فِي الفلك المشحون}، والفلك جمع واحدة فلك، كأسد وأسد.
وقيل: هو واحد وجمع، بلفظ واحد.
قال ابن عباس: كانوا ثمانين رجلاً، فلم يتناسل منهم أحد إلا لولد نوح، عليه السلام.
وهو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] فجميع العالم بعد نوح ليس بنسب إلا لنوح.
قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: لعلامة وحجة على قدرة الله، وتوحيده، وذلك إشارة إلى ما تقدم من ذكر ما فعل بنوح، ومن آمن معه، وما فعل بالكفار من(8/5331)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
الغرق. وبالكاف خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
{ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، يعني قوم نوح.
أي: في انتقامه ممن عطاه.
{الرحيم}، بالتائب منهم أن يعذبه بعد توبته.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين}. قد تقدم ذكر علة الجمع في {المرسلين}. و " عاد " قبيلة وانصرف لخفته.
وقيل: هو اسم الأب لهم {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}، أي: تتقون عقاب الله، ونقمته لكم على كفركم.
أي: رسول من عند الله. أمين على ما أرسلني به، فلا أبلغكم إلا ما أرسلت به، ولا أخفي عنكم منه شيئاً.(8/5332)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
أي: اتقوا عقاب الله، وأطيعوني فيما آمركم به، وأنهاكم عنه.
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: لا أسألكم على تبليغي لكم رسالة الله جعلاً ولا ثواباً. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين}، أي: ما ثوابي وجزائي على نصحي لكم وتبليغي إياكم ما جئتكم به إلا على الله.
أي: قال لهم هود موبخاً لهم: أتبنون بكل مشرف من الأرض بنياناً عَلَمَاً.
قال ابن عباس: بكل ريع: بكل شرف. وعنه: بكل طريق. وقال مجاهد: بكل فج، وعنه: الريع: الشية الصغيرة.(8/5333)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
وعنه: الفج ما بين الجبلين.
وقال عكرمة: بكل فج وواد
وقال الضحاك: بكل طريق.
وقوله: {آيَةً تَعْبَثُونَ}، قال مجاهد هي بروج الحمامات، والرّيع والرَّيْعُ: لغتان.
وقيل الريع: جمع ريعة. ومعنى {تَعْبَثُونَ} تلعبون.
قال تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}، قال مجاهد: هي قصور مشيدة. وقال قتادة وسفيان: هي مصانع الماء. والمصانع جمع مصنعة، وكل بناء تسمية العرب مصنعة.(8/5334)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}، قيل: لعل هنا، استفهام بمعنى التوبيخ والمعنى: أتخلدون ببنياكم لها.
وقيل: هي بمعنى: كما تخلدون أي: كيما تخلدون.
وقيل: هي بمعنى: لأن تخلدوا. قال الزجاج.
أي: إذا غضبتم، وسطوتم، سطوتم، قتلاً بالسيف وضرباً بالسياط. وهذا إنما يكره في الظلم، وهو جائز في الحق.
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}، أي: اتقوا عقاب الله، وأطيعون فيما آمركم به، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، يعني بالبنين والأموال، والبساتين، والعيون، والأنهار.
يوم القيامة.
أي: معتدل عندنا وعظك إيانا، وتركك الوعظ.(8/5335)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين}، أي: دين الأولين: قاله ابن عباس.
وقال قتادة: معناه خلقة الأولين أي: هكذا كانت خلقتهم يموتون ويحيون، فنحن نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا.
وقال الفراء، معناه: عادة الأولين. ومن أسكن اللام فمعناه: تخرص الأولين وكذبهم أن ثم بعثاً، وحساباً، وعقاباً.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.
قوله تعالى ذكره: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ}.
فمعنى قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: فكذبوا هوداً فيما جاءهم به، فأهلكوا بتكذيبهم.
{} أي لعبرة: أي: إن في إهلاكنا عاداً بتكذيبهم رسلنا(8/5336)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
لعظة.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، أي: أكثر عاد لم يكونوا مؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} في انتقامه {الرحيم} بمن تاب وآمن.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين}، ثمود: اسم للقبيلة عند من لم يصرفه، ومن صرفه جعله اسماً للأب، وتفسير قوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ}، إلى قوله {رَبِّ العالمين}، قد تقدم نظيره، وهو مثل ذلك.
قال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ}، أي: أيترككم ربكم في هذه الدنيا: آمنين لا تخافون شيئاً. {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، أي: بساتين تجري فيها العيون.
قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}، قال ابن عباس: هضيم: أي أينع وبلغ فهو هضيم. قال عكرمة: هو الرطب اللين.(8/5337)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
قال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة: فتركب بعضه على بعض فهو حيمئذٍ هضيم.
وقال الزهري: هو الرخص اللطيف، أول ما يطلع وهو الطلع النضيد، لأن بعضه فوق بعض. وأصل الهضيم في اللغة انضمام الشيء، وتكسره، للينه، ورطوبته. ومنه: قولهم: هضيم فلان فلاناً حقه: إذا انتقصه وأبخسه، وهضيم مفعول صرف إلى فعيل.
وقيل: هضيم منه ما قد أرطب ومنه / ما هو مذنب.
وقيل: هضيم أي: هاضم مرئ، فيكون على هذا فهيل، بمعنى: فاعل.
أي: تنقبون في الجبال بيوتاً أشرين بطرين. وقال قتادة: معجبين، وعنه عن الحسن: آمنين.(8/5338)
وقال الضحاك: كيسين.
وقال مجاهد: شرهين
وقال أبو صالح: حاذقين. وكذلك روي أيضاً عن الضحاك. وكذلك، قال معاوية بن قرة، ومنصور بن المعتمر. وقد روي ذلك عن ابن عباس أيضاً.
وقال ابن زيد: فرهين: أقوياء.
وقال أبو عبيدة: مرحين. ومن قرأ: فارهين: بألف، فقيل: الهاء بدل من حاء.
وقيل: هما لغتان. يقال فَرِه: يَفْرَه فهو: فاره، وفَرِه، يَفْرُهُ فهو فَرِهٌ وفاره: إذا(8/5339)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
كان نشيطاً.
قد مضى تفسيره.
أي: المسرفين على أنفسهم، في تماديهم على معصية الله جلّ وعز. يعني الرهط التسعة بينهم.
أي: يسعون في أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل الصالح.
قال مجاهد وقتادة: من المسحرين: من المسحورين.
وقال ابن عباس: من المخلوقين. أي: ممن له سحر، والسِّحْر والسَّحْر: الرئة.
وقيل: السحر: الصدر الذي يجري فيه الطعام إلى المعدة.
وقيل: معناه من المعلَّلين بالطعام والشراب.
{مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}، أي: أنت من بني آدم: تأكل كما نأكل. تقول ذلك(8/5340)
ثمود لصالح.
{فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}، أي: فأتنا بدلالة وحجة تدل على أنك محق فيما تقول، فأتاهم بالناقة تدل على صدقه، وقال لهم: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}.
روي أنه أخرجها لهم من صخرة. وقال لهم: لها يوم تشرب فيه فلا تعترضوا في شربها، ولكم أنتم شرب يوم آخر، لا تشارككم هي فيه.
وروي: أنهم سألوا صالحاً عليه السلام: فقالوا له: إن كنت صادقاً فادع الله يخرج لنا ناقة من هذا الجبل. حمراء عُشَراء فتضع بكراً، ونحن ننظر، ثم ترد الماء فتشربه، وتغدو علينا بمثله لبناً، فجاءهم الله عزّ وجلّ بها، وجعل لها شرباً في يوم، ولهم شرب في يوم. فكانت يوم ترد الماء لا يردونه هم، ولكنهم تسقيهم مثل ما شربت لبناً، ويوم لا ترد هي يردونه هم فيشربون ويدخرون، فحذرهم صالح عقرها فعقروها فأهلكوا.
وروي: أنهم لما سألوه آية قال لهم: أي: آية تريدون؟ فقالوا: أخرج(8/5341)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
لنا من هذا الجبل الذي تنزل بسفحه: ناقة عشراء حتى نؤمن أنك رسول الله، فأمرهم أن يجتمعوا: ليخرج الله لهم الناقة من الجبل، على ما سألوه، فاجتمعوا ودعا صالح بإذن الله له فتحرك الجبل وانصدع، فخرجت منه ناقة، عظيمة الخلق وهي عشراء حاملة من غير فحل، فولدت فصيلاً بعد ذلك، فجعل الله لهم فيها آيات من ذلك خروجها من جبل، وعظم خلقها، وحملها من غير فحل، فلم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات، وأقاموا على كفرهم، ثم نهاهم عن عقرها، فخالفوه فعقروها، فأهلكهم الله أجمعين. والشِّرب: الحظ والنصيب من الماء. والشِّرْب، والشَّرْب، والشُّرْب مصادر كلها بلغات، والمضموم أشبهها بالمصادر، لأن المفتوح والمكسور يشتركان في شيء آخر. فيكون الشرب: الحظ من الماء، ويكون الشرب جمع شارب، كتاجر وتجر، واختار: أبو عمرو والكسائي الفتح في مصدر شرب.
قال تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء}، أي: بعقر، وضرب وشبهه.
{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، أي: يحل عليكم عذاب يوم القيامة.(8/5342)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
أي: فخالفوا أمر صالح، فعقروا الناقة، فأصبحوا نادمين على عقرهم لها، لما أيقنوا بالعذاب، فأخذهم العذاب الذي كان صالح يوعدهم به فهلكوا.
وقيل: إنهم لما ندموا على عقرها. ولم يتوبوا من كفرهم، طلبوا صالحاً ليقتلوه، فتنحى من بين أيديهم، هو ومن آمن معه، فأخذهم العذاب.
قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، إلى قوله {الرحيم}، وقد تقدم تفسيره.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين}، / إلى قوله {رَبِّ العالمين}، قد تقدم تفسيره.
قال: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين}، أي: أتنكحون الذكور الذين حرم الله عليكم نكاحهم، وتَدَعُون النساء اللواتي أحل الله لكم نكاحهن. وعن زيد بن أسلم، أن المعنى: أتأتون أدبار الرجال وتدعون النساء.(8/5343)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
ثم قال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي: تتجاوزون، ما أباحه الله لكم إلى ما حرم عليكم.
وأكثر أهل التفسير: على أن الإشارة في النساء هنا إنما هي الفروج.
وقيل: عادون: معتدون.
قال: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين}، أي: لئن لم تنته عما تقول لنا وتنهانا عنه، لنخرجنك من بين أظهرنا، ومن بلدنا. قال لهم لوط: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ}، يعني من إتيان الذكور {مِّنَ القالين}، أي: من المبغضين المنكرين. ثم قال مستغيثاً لمَّا تواعدوه بالإخراج: {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}، أي: من عقوبتك إياهم على ما يعملون. فاستجاب الله له دعاءه. فنجاه. {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}.
أي: في الباقين: أي: فيمن بقي من العذاب، يعني(8/5344)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
امرأته، لأنها كانت تدل قومها على أضياف لوط عليه السلام.
وقيل: إنما قيل: {فِي الغابرين}، بمعنى أنها بقيت حتى كبرت وهرمت.
وقيل: إنما كانت ممن بقي بعد قومها، ولم تهلك معهم في قريتهم، وإنما أصابها الحجر بعدما خرجت من قريتهم مع لوط فكانت من الباقين بعد قومها، ثم أهلكها الله بما أهلك به بقايا قوم لوط من الحجارة.
وقال قتادة: قيل من الغابرين: لأنها غبرت في عذاب الله أي: بقيت فيه.
وأبو عبيد: يذهب إلى أن المعنى: من الباقين في الهرم. أي: بقيت حتى هرمت.
أي: ثم أهلكنا الآخرين: يعني من بقي من قوم لوط.(8/5345)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً}، يعني من كان غائباً من قوم لوط أرسل عليه حجارة، فأما من كان في المدينة فإنه قلبت عليه عاليها سافلها، وأرسلت الحجارة على من لم يكن في المدينة، فتلقطتهم في الآفاق فأهلكتهم.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، إلى قوله {الرحيم} قد مضى تفسيره.
قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين}.
قال أبو عبيد: ليكة اسم قرية. والأيكة اسم البلد كله. وترك الصرف على قراءة نافع ومن تبعه يدل على ما قاله قتادة: أرسل شعيب إلى قوم أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة.(8/5346)
والأيكة غيضة من شجر ملتف. وكان عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل وكان شعيب من ولد أبي أهل مدين ولذلك قال: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، ولم يكن من ولد أبي أصحاب الأيكة. ولذلك قال {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}، ولم يقل أخوهم شعيب، كما قال في من تقدم ذكره من الأنبياء: أخوهم نوح، أخوهم هود، أخوهم صالح. لأن هؤلاء كانوا من ولد أبي القوم، وشعيب هو ابن ثوبة من ولد مدين بن إبراهيم، وأصحاب ليكة من صنام من العرب،(8/5347)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
وأصحاب مدين من ولد مدين بن إبراهيم.
قال الضحاك: خرج أصحاب ليكة. يعني حين أصابهم الحر، فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة، فاستظلوا بها، فلما تتاموا تحتها أحرقوا.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}، أي: تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه.
أي: أمين على ما جئتكم به.
قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}، إلى {رَبِّ العالمين}، قد تقدم تفسيره.
أي: أوفوا الناس حقوقهم من الكيل، ولا تكونوا ممن ينقصهم حقوقهم.
أي: بالميزان المقوم الذي لا بخس فيه على من وزنتهم لهم به.
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} أي: لا تنقصوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن.
قال ابن عباس ومجاهد: القسطاس: العدل.(8/5348)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ}، أي: لا تكثروا في الأرض الفساد.
أي: وخلق الخلق الأولين. وفي الجبلة لغات: جبلة، وجُبُله، وجُبْلة ومن هذا قولهم: جبل فلان على كذا: أي: خلق عليه. وقد تقدم تفسير.
{إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين}، إلى الكاذبين.
قال / عز وجل: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء}، أي: يقول قوم شعيب له: أسقط علينا جانباً من السماء. ومن قرأ: بفتح السين جعله جمع: كسفة، كسدرة وسدر، وكسرة وكسر. ويجوز أن يكون من أسكن، جعله أيضاً جمع كسفة: كثمرة وتمر، فيكون المعنى: فأسقط علينا قطعاً من السماء، إن كنت صادقاً فيما جئتنا به.
أي: قال شعيب لقومه: ربي أعلم بما تعملون من عملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.(8/5349)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة}، يعني بالظلة السحابة التي ظلتهم فلما تتاموا تحتها التهبت عليهم ناراً.
قال ابن عباس: بعث الله عليهم رمدة وحراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا البيوت، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله جلّ وعزّ عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً. فنادى بعضهم بعضاً، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. ومثل هذا المعنى قال قتادة. وروي: أن الله جلّ ذكره بعث عليهم سموماً فخرجوا إلى الأيكة وهي شجر الدوم، يستظلون تحتها من الحر. فأضرمها الله عليهم ناراً فاحترقوا أجمعين.
وقيل: إن الله بعث عليهم حراً شديداً أو بعث العذاب في ظلة، فخرج رجل(8/5350)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
فوجد برداً تحت الظلة فأنذرهم، فخرجوا بأجمعهم ليجدوا برد الظلة، فأهلكهم الله بها.
قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم}، إلى قوله {الرحيم} قد تقدم تفسير ذلك.
قال: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين}، يعني وإن الذكر، قالها: تعود على الذكر من قوله: {مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} وقال قتادة: تعود على القرآن. والمعنى واحد، أي: إن القرآن لتنزيل الله على جبريل: نزل به جبريل عليه السلام. {على قَلْبِكَ}، أي: تلاه عليك يا محمد. {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين}، أي: من رسل الله الذين ينذرون الأمم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، أي: تنذر به قومك بلسانهم العربي الظاهر لهم، لئلا يقولوا: إنه نزل بغير لساننا، فلا نفهمه، وهذا تقريع(8/5351)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
من الله، وإظهار الحجة عليهم، إذ أعرضوا عنه بغير عذر يعتذرون به.
أي: وإن هذا القرآن لفي كتب الأولين. فهذا لفظ عام ومعناه الخصوص، معناه: وإن هذا القرآن لفي بعض كتب الأولين، أي ذكره، وخبره في بعض ما أنزل على الأنبياء من الكتب.
وقد قيل: معناه: وإن الانذار بمن أهلك لفي كتب الأولين.
أي: أولم يكن لقريش علامة على صدقك، وحجة على أن القرآن من عند الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن علماء بني إسرائيل الذين أسلموا: يجدون ذكر محمد مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. قال ابن عباس: كان ابن(8/5352)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
سلام من علماء بني إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بالقرآن فقال لهم الله: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ}.
قال ابن عباس: الأنبياء كلهم من بني إسرائيل إلا أحد عشر: إدريس، ونوح، وصالح، وهود، وشعيب، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
أي: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق، فنطقت به ما آمنوا، ولقالوا: لولا فصلت آياته حتى نفهمه، والأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يصفح، وإن كان غير أعجمي في(8/5353)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
أصله والعجمي هو الذي أصله من العجم، وإن كان فصيح اللسان.
قوله تعالى ذكره: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: كما ختم على قلوب هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن، ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم، كذلك سلكه التكذيب / والكفر في قلوب المجرمين، ومعنى: سلكناه: أدخلناه. والهاء في سلكناه، تعود على قوله {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، التقدير: كذلك أدخلنا ترك الإيمان في قلوب المجرمين.
قال ابن جريج: سلكناه: يعني الكفر.
وقال ابن زيد: الشرك، فليس يؤمنون حتى يعاينوا العذاب. وكذلك قال الحسن.(8/5354)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
قال: {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: يأتهم العذاب فجأة وهم لا يعلمون بمجيئه. فيقولوا حين يأتهم فجأة: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}، أي: يؤخر عن هذا العذاب وينسأ في آجالنا لتتوب من شركنا.
أي: يستعجل هؤلاء المشركون بالعذاب لقولهم لن نؤمن لك حتى تسقط السماء، كما زعمت، علينا كسفاً.
قال: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ}، أي أرأيت يا محمد إن أخرنا في آجالهم سنين ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون.
" ما " الأول في موضع نصب بأغنى. و " ما " الثانية: الفاعلة ويجوز أن تكون ما الأولى نافية، والثانية فاعلة، وتقدر حذفها من آخر الكلام. والتقدير: لم يغن عنهم الزمان الذي كانوا(8/5355)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
يمتعونه.
وقال عكرمة: عنى بالسنين: عمر الدنيا.
قال: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} أي: وما أهلكنا من قرية من القرى التي تقدم ذكرها، ومن غيرها إلا لها منذرون، ينذرونهم عذاب الله، ويكذرونهم نعمه، " ذكرى " في موضع نصب على المصدر، لأن منذرون بمعنى: مذكرون. فتقف على هذا على " ذكرى " وكذلك إن نصبت " ذكرى " بإضمار فعل: أي جعلنا ذلك ذكرى لهم.
وقيل: " ذكرى " في موضع رفع على إضمار المبتدأ تقديره: تلك ذكرى، وذلك ذكرى، وإنذارنا ذكرى.
{وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}، أي: ما كنا نظلم قرية، فنهلكها من غير إنذار وتذكرة. فتقف على هذا " منذرون " ثم تبتدئ " ذرى " أي: هذا القرآن ذكرى للمتذكرين، ودل على هذا الإضمار قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} [الشعراء: 210] الآية، أي:(8/5356)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
القرآن ذكرى للمتذكرين، لم تنزل به الشياطين {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211].
أي: ما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن نزل به عليه الروح الأمين وهو جبريل صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: الشياطون بالواو وهو غلط لأنه جمع مكسر إعرابه في آخره.
أي: وما يتأتى للشياطين أن ينزلوا بالقرآن، ولا يصلح لهم ذلك ولا يستطيعون أن ينزلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء.
أي: إن الشياطين عن سمع القرآن في المكان الذي هو به لمعزلون، فكيف يستطيعون ان ينزلوا به، والسمع مصدر في موضع الاستماع.(8/5357)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
قال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ}، أي: قل يا محمد: لمن كفر لا تدع مع الله إلهاً آخر.
{فَتَكُونَ مِنَ المعذبين}، وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الخلق. ومعناه إنه خوطب بذلك ليعلمه الله حكمه فيمن عبد غيره كائناً ما كان، ودليل هذا قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}، فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلا اختلاف، والمعنى: أنذرهم لئلا يتكلوا على نسبهم، وقرابتهم منك فيدعوا ما يجب عليهم. " ولما نزلت هذه الآية بدأ النبي صلى الله عليه وسلم ببني جده، وولده فحذرهم " وقالت عائشة رضي الله عنها: " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت رسول الله، يا بني عبد المطلب: إني لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم ".(8/5358)
وقال ابن عباس: " لما نزلت هذه الآية: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه فبين رجل يجيء وبين آخر يبعث رسوله، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني / أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟. . {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} " السورة.(8/5359)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
قال تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك}، أي: ألن لهم جانبك.
أي إن عصاك عشيرتك في إنذارك لهم وأبوا إلا الإقامة على كفرهم أي: من عملكم، وعبادتكم الأصنام.
قال: {وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز}، أي العزيز في نقمته من أعدائه، {الرحيم} لمن تاب من كفره.
أي: تقوم إلى صلاتك.
قال مجاهد: حيت تقوم أينما كنت.
أي: ونرى تقلبك في صلاتك حين تركع وتسجد، وتقوم وتقعد. قاله ابن عباس وعكرمة، وعن ابن عباس معناه: وتقلبك في الطهور من طهر إلى طهر.(8/5360)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
أي: السميع دعاءك، وتلاوتك، العليم بما تعمل أنت وغيرك.
أي: على من تنزل الشياطين من الناس.
أي: كذاب أثيم، أي: آثم.
قال قتادة: هم الكهنة تسرق الجن السمع، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس.
أي: يلق الشياطين ما استمعت إلى الكهنة. قاله مجاهد. وأكثر الكهنة كاذبون. وقيل: المعنى يلق الكهنة السمع أي: يسمعونه ويعقلونه {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}،. يعني الكهنة أيضاً.
قالت عائشة: كانت الشياطين تسترق السمع فتجيء بكلمة حق فتقذفها في(8/5361)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
أذن وليها. قالت: وتزيد فيها أكثر من مائة كذبة.
أي: الشعراء يتبعهم أهل الغي، لا أهل الرشد.
قال ابن عباس: الغاوون: رواه الشعر. وقال مجاهد، وقتادة هم الشياطين. وقال عكرمة، هم عصاة الجن. وقيل: هم السفهاء. وعن ابن عباس: أنها نزلت في رجلين: أحدهما من الأنصار، والآخر من غيرهم، تهاجيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه. أي: سفهاء. وكذلك(8/5362)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
قال الضحاك. وقيل: الغاوون: ضلال الجن والإنس. وقال ابن زيد: الغاوون: المشركون، والشعراء هنا: شعراء، لأن الغاوون لا يتبع إلا غاوياً مثله. قال الطبري: هم شعراء المشركين، يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين، وعصاة الجن.
هذا مثل ومعناه: أنهم في كل فن من القول الباطل يذهبون، يمدحون هذا بما ليس فيه، ويذمون هذا بما ليس فيه، فهم يذهبون، كالهائم على وجهه، قال ابن عباس: معناه في كل لغو يخوضون.(8/5363)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قال: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}، أي: يكذبون، ثم قال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}،. فهذا الاستثناء يدل على أن الأول في المشركين نزل والسورة مكية إلا هذه الآيات نزلت بالمدينة في: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وهم شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي لكل من كان مثلهم. هذا قول ابن عباس، وأدخل الضحاك هذه الآيات في الناسخ والمنسوخ. فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ}، نسخت ما قبلها. والصحيح أنه استثناء والاستثناء عند سيبويه بمنزلة التوكيد لأنه يبين به كما يبين بالتوكيد.
قال قتادة: قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، نزلت في(8/5364)
حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله الأنصاري الذين هاجوا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً}، أي: ذكروه في حال كلامهم، ومحاورتهم ومخاطبتهم الناس / قاله ابن عباس. وقال ابن زيد: وذكروا الله كثيراً في شعرهم. وقيل المعنى: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. إنما ناضلوا من كذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحق الناس بالهجاء {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ}، أي: هجوا من هجاهم، من شعراء المشركين، وجاوبوهم عن هجائهم.
قال ابن عباس: يردون على الكفار الذين هجوا المسلمين.
قال سالم مولى تميم الداري: لما نزلت: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} الثلاث(8/5365)
الآيات: جاء حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآيات أنا شعراء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، إلى {ظُلِمُواْ}.
وقال: أنتم. ثم قال تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، يعنى مشركي مكة، الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله، سيعلمون أي: مرجع يرجعون، وأي: معاد يعودون بعد مماتهم، وأي منصوب ينقلبون على المصدر، وليس بمفعول به، لأن " ينفعل " لا يتعدى: نحو: ينطلق، فإنما نصبه على أنه نعت لمصدر محذوف عمل ما فيه {يَنقَلِبُونَ}، ولا ينتصب " سيعلم " لأن " سيعلم " خبر، أو " أي " استفهام ولا يعمل ما قبل الاستفهام فيه.(8/5366)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النمل مكية
قوله تعالى ذكره: {طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن}.
قال ابن عباس: طس: قسم، وهو من أسماء الله فيكون معناه على هذا التأويل: واللطيف السميع: إن هذه الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم لآيات القرآن، وآيات كتاب مبين، أي يتبين لمن تدبره، وتفكر فيه، يفهم أنه من عند الله، لم تتخرصه أنت يا محمد، ولا أحد سواك، من خلق الله، إذ لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.(8/5367)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
قال تعالى: {هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي هو هدى للمؤمنين به يهديهم إلى سبيل الرشاد ومبشراً لهم بالجنة والمغفرة. ثم نعت المؤمنين فقال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة}، يعني المفروضة يقيمونها بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُونَ الزكاة}، يعني المفروضة ويخرجونها في أوقاتها إلى مستحقها. {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}، أي يصدقون بالبعث والحشر بعد الموت والجزاء.
قال: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}، أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ}، أي حببناها لهم يعني الأعمال السيئة.
وقال بعضهم: يعني الأعمال الجسنة: زينها لهم وبينها لهم، فخالفوا، وهذا مذهب المعتزلة، والأول مذهب أهل السنة. وهو ظاهر التلاوة والنص. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ}، أي يترددون في ضلالهم، ويتحيرون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ثم وصف هذا الجنس أيضاً فقال: {أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب} يعني في الدنيا، عني به الذين قتلوا يوم بدر من مشركي قريش.(8/5368)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون}، أي أخسر الناس لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وفي الآخرة تبيين، وليس يتعلق في الأخسرين، ويجوز أن يكون في الكلام حذف، والتقدير: وهم الأخسرون: في الآخرة هم الأخسرون.
أي وإنك يا محمد، لتحفظ القرآن وتتعلمه من عند رب حكيم بتدبير خلقه، عليم بمصالحهم، والكائن من أمورهم، والماضي من ذلك.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً}، العامل في: {إِذْ} اذكر.
وقيل: العامل في {إِذْ} عليم، والتقدير: عليم، حين قال موسى لأهله: {إني آنَسْتُ نَاراً}، وذلك حين خرج موسى صلى الله عليه وسلم من مدين إلى مصر، وقد آذاهم برد ليلهم، وضاع زنده. {إني آنَسْتُ نَاراً}، / أي أبصرت وأحسست. {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ}، في الكلام حذف، والتقدير: إني(8/5369)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
آنست ناراً، فامكثوا سآتيكم من النار بخبر، أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون بها من البرد.
قال ابن عباس: كانوا شاتين، قد أخطأوا الطريق. وأصل الطاء: ثاء، لأنه من صلى النار فهو يفتعلون، فأبدل من التاء طاء لتكون في الإطباق كالصاد، وأصله: يصتليون، ثم أعلى على الأصول، وأبدلت التاء طاء، كما قالوا: مصطفى، وأصله: مصتفى: لأنه مفتعل من الصفوة.
قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار}، إلى قوله: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}،
معناه: فلما جاء موسى النار نودي أن بورك: أي بأنه بورك، ويجوز أن يكون (أن) في موضع رفع بنودي ولا يقدر جاراً، ومعنى بورك: قدس أي طهر من في النار، قاله ابن عباس.(8/5370)
وعن ابن عباس أنه قال: كان نور رب العالمين في الشجرة.
وقال ابن جبير: ناداه وهو في النور.
وقال الحسن: هو النور.
وقال قتادة: نور الله بورك.
وقيل: من في النار: الملائكة، الموكلون بها، ومن حولها الملائكة أيضاً يقولون: سبحان الله رب العالمين.
وعن مجاهد معناه: بوركت النار. حكاه عن ابن عباس.
قال محمد بن كعب: النار: نور الرحمن، والنور هو الله سبحان الله رب العالمين.
وقال ابن جبير: النار: حجاب من الحجب وهي التي نودي منها وذكر الحجب: فقال: حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار،(8/5371)
وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء.
قال عبد الرحمن بن الحويرث: مكث موسى عليه السلام، أربعين ليلة لا يراه أحد، إلا مات من نور رب العالمين. يعني إذ تجلى إلى الجبل.
قال الطبري: إنما قال: بورك من في النار، ولم يقل: بورك على من في النار، على لغة الذين يقولون: باركك الله. والعرب تقول: باركك الله، وبارك عليك، حكى ذلك الكسائي عن العرب.
وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، يعني من حول النار من الملائكة. قاله الحسن وغيره.
وقال محمد بن كعب القرطبي: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، يعني موسى والملائكة.
ثم قال تعالى: {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين}، أي تنزيهاً لله مما يصفه به الظالمون.
ثم قال تعالى: {ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم}، أي إنّ الآمر أنا الله، العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبير أمر خلقه.(8/5372)
ثم قال: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أخبر عن العصا ها هنا أنها انقلبت كالجان، والجان: صغير الحيات، وأخبر عنها في موضع آخر أنها انقلبت ثعباناً مبيناً، والثعبان: كبير الحيات. ومعنى ذلك أن عصا موسى انقلبت له على ثلاث حالات، آيات من الله، انقلبت حية تسعى وهي الأنثى، وجان وهو الصغير من الحيات، وثعبان مبين: وهو الذكر الكبير من الحيات.
وقيل: إنها انقلبت ثعبان تهتز كأنها جان ولها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه، وهي حية تسعى. والعرب تقول: هذه حية، وهذا حية.
وقيل: إن الله أقلب له العصا في أول مرة جاناً، وهو الحية الصغيرة لئلا يخاف ويجزع، فلما أنس بها وأخذها وأرسلها. أرسله إلى فرعون، فألقاها في الحال الأخرى بين يدي فرعون فصارت ثعباناً مبيناً، والله أعلم، وفي لفظ الآية(8/5373)
اختصار وحذف، والتقدير: فألق عصاك، فألقاها: فصارت حية تهتز، فلما رآها تهتز كأنها جان أي حية، والجان جنس من الحيات معروف.
وقوله: {ولى مُدْبِراً}، أي هارباً خوفاً منها، {وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أي ولم يرجع. يقال: عقب فلان: إذا رجع على عقبيه إلى حيث بدأ.
قال قتادة: ولم يعقب: لم يلتفت.
قال ابن زيد: لما ألقى موسى صلى الله عليه وسلم العصا صارت حية، فرعب منها وجزع، فقال الله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، فلم يركن لذلك فقال الله: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31]، قال: فلم يقف أيضاً على شيء من هذا حتى قال الله جل ذكره: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21]، قال: فالتفت موسى، فإذا هي عصا كما كانت / فرجع فأخذها، ثم قوي بعد ذلك عليها حتى صار(8/5374)
يرسلها على فرعون ويأخذها.
وقوله جل ثناؤه: {لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، أي عندي. ثم قال: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء}، أي من ظلم فعمل بغير ما أذن له في العمل به.
قال ابن جريج: لا يخاف الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه الله حتى يأخذه منه.
وقال الحسن: في الآية إنما أخيف لقتله النفس، وقال الحسن أيضاً: كانت الأنبياء تذنب، فتعاقب ثم تذنب والله فتعاقب.
وقوله: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ}، استثناء منقطع عند البصريين، لأن حق الاستثناء أن يكون ما بعده مخالفاً لما قبله في المعنى.
وقوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، يدل على أمنهم. وقوله: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، يدل على أمن من ظلم، ثم فعل ذلك فقد حصل المعنى فيهما واحد، فوجب أن يكون ليس من الأول و " إلا " بمعنى لكن، والتقدير،(8/5375)
لكن من ظلم من المرسلين وغيرهم ثم تاب فليس يخاف ومثله من كلام العرب ما اشتكى إلا خيراً، فالخير لا يشتكى.
وقوله: ما اشتكى يدل على أنه حل به الخبر. وقوله: إلا خيراً قد صار مثل الأول في المعنى، فوجب أن يكون منقطعاً، و " إلا " بمعنى لكن خيراً، وكأنه قال: ما أذكر إلا خيراً.
وقال الفراء: الاستثناء من محذوف، والتقدير عنده: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، إنما يخاف غيرهم، إلا من ظلم ثم تاب فإنه لا يخاف، وأجاز الفراء أيضاً أن تكون " إلا " بمعنى الواو، ومثله عنده {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150] أي والذين، وقد رد عليه القولان، لأن الاستثناء من محذوف لا يجوز، إذ لا يعلم ما هو، ولو جاز هذا، لجاز: إني لأضرب القوم إلا زياً. على معنى وأضرب غيرهم إلا زيداً. وهذا ضد البيان، ونقض الكلام، ولا يجوز كون " إلا " بمعنى الواو.
لأنه تقلب(8/5376)
المعاني، فيلزم إذا قلت له: عندي عشرة إلا أربعة أن تكون قد أقررت بأربعة عشر وهذا محال.
وقوله: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء}، يريد التوبة. وقرأ: مجاهد {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً}، بالفتح على معنى عملاً محسناً. {فَإِنِّي غَفُورٌ}، أي ساتر لذنوبه. {رَّحِيمٌ}، به إن عاقبته.
وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} وقف إن جعلت {وَسُبْحَانَ الله} لم ينادي به موسى، وإنما هو من قوله: لما خاف. فإن جعلت {وَسُبْحَانَ الله} من النداء، كان الوقف " {رَبِّ العالمين} {وَأَلْقِ عَصَاكَ} وقف {وَلَمْ يُعَقِّبْ} وقف و {لاَ تَخَفْ} وقف. {المرسلون} وقف، إن جعلت {إِلاَّ مَن ظَلَمَ} منقطعاً، فإن جعلته مستثنى على معنى: إن المرسلين لا يخافون إلا أن يذنبوا(8/5377)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
فيخافون العقوبة، كما قال الحسن وغيره. لم تقف إلا على {سواء}، والتمام {رَّحِيمٌ}.
قوله تعالى ذكره: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}.
قال مجاهد: كانت على موسى يؤمئذ مدرعة فأمره الله أن يدخل كفه في جيبه، ولم يكن لها كُمٌّ.
وقيل: أمره أن يدخل يده في قيمصه، فيجعلها على صدره ثم يخرجها بيضاء تشبه شعاع الشمس أو نور القمر.
قال ابن مسعود: إن موسى أتى فرعون حين أتاه في زرمانقة يعني جبة صوف.
وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء}، أي تخرج اليد بيضاء مخالفة(8/5378)
للون موسى من غير برص.
وقيل: من غير مرض. وفي الكلام اختصار وحذف. والتقدير: واجعل يدك في جيبك، وأخرجها تخرج بيضاء.
ثم قال: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}، أي من تسع آيات، و " في " بمعنى " من ".
وقيل: بمعنى " مع ".
وقيل: المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. والمعنى في تسع آيات مرسل أنت بهن إلى فرعون، والتسع الآيات: العصا، واليد، والجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقد تقدم تفسيرها بالاختلاف بأشبع من هذا.
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، يعني فرعون وقومه من القبط. ثم قال: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، أي لما جاءت فرعون وقومه أدلتنا(8/5379)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
وحججنا، وهي التسع الآيات مبصرة أي مبينة: أي يبصر بها من نظر إليها ورأى حقيقة ما دلت عليه.
قال ابن جريج: مبصرة، مبينة.
قال فرعون وقومه {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، أي بين للناظرين فيه أنه سحر.
/ قال: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ}، أي كذبوا بالآيات أن تكون من عند الله، وقد تيقنوا في أنفسهم أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق: قاله ابن عباس.
وقوله: {ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي اعتداءً وتكبراً. والعامل في ظلم وعلو: جحدوا، وفي الكلام تقديم وتأخير.
ثم قال تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين}، أي عاقبة تكذيبهم، كيف أغرقوا أجمعين. هذا كله تحذير لقريش أن تحل بهم ما كان حل بمن كان قبلهم.(8/5380)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ثم قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً}، أي علم منطق الطير، والدواب وغير ذلك. {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين}، أي فضلنا بعلم لم يعلمه أحد في زماننا. وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أوحى الله إلى داود صلى الله عليه وسلم أن العبد من عبيدي ليأتيني بالحسنة، فأحطه في جنتي، قال داود: وما تلك الحسنة، قال: يا داود: كربة فرجها عن مؤمن ولو بتمرة. قال داود: حقيق على من عرفك حق معرفتك أن ييأس ولا يقنط منك ".
قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، أي ورث علمه وملكه.
وقال قتادة: ورث منه النبوة والملك.
وروى أن داود كان له تسعة عشر ولداً، فورث سليمان النبوة والملك دونهم.(8/5381)
ثم قال تعالى ذكره: {وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير}، أي فهمنا كلامها، وسماه منطقاً لما فهمه عنها كما يفهم بنطق الرجل. قال محمد بن كعب: بلغنا أن سليمان كان في عسكره مائة فرسخ: خمس وعشرون منها للإنس، وخمس وعشرون للجن، وخمس وعشرون للوحش، وخمس وعشرون للطير، وكان لع ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة صريحة، وسبع مائة سرية، فأمر الريح لعاصف فرفعته، وأمر الرخاء فسيرته، فأوحى الله عز وجل وهو يسير بين السماء والأرض: أي قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرتك.
قال وهب بن منبه: أرادت الشياطين كيد سليمان، وتحاوروا بينهم في ذلك،(8/5382)
ليخلصوا من السحرة، فأمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد من الخلائق إلا وضعته في اذن سليمان، فبذلك سمع كلام النملة.
وذكر وهب: أن سليمان مر بجنوده من السماء والأرض، فرآه رجل من بني إسرائيل، كان في حرثه يفجر الماء فقال: لقد آتاكم الله آل داود، فاحتملت الريح قوله فقذفته في أذن سليمان. فقال سليمان للريح: إحبسي فحبست، ونزل سليمان متقنعاً ببرد له حتى أتى الرجل فقال له: ما قلت؟ فقال له الرجل: رأيتك في سلطانك الذي آتاك الله، وما سخر لك فقلت: لقد آتاكم الله آل داود. فقال له سليمان: صدقت، ولكن جئتك، خوف الفتنة عليك، تعلم والذي نفس سليمان بيده لثواب سبحان الله كلمة واحدة عند الله يوم القيامة أفضل من كل شيء أوتيته آل داود في الدنيا. فقال له الرجل: فرجت همي فرج الله عنك همك.(8/5383)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
فقال له سليمان: وما همي؟ قال: أن تشكر ما أعطاك الله، قال: صدقت. وانصرف عنه سليمان إلى مركه.
ثم قال تعالى: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ}، يعني من كل شيء من الخيرات، يؤتاه الأنبياء والناس، وهذا على التكثير كما تقول: ما لقيت أحداً إلا كلمته.
ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين}، أي إن الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا الظاهر.
قال: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير}، يقال: إن الجن سخرت له، بأن ملك مضارها ومنافعها، وسخرت له الطير بأن جعل فيها ما تفهم عنه فكانت تستره من الشمس وغيرها.
وقيل: لهذا تفقد الهدهد. ومعنى الآية: وجمع سليمان جنوده في مسير له {فَهُمْ يُوزَعُونَ}.(8/5384)
قال قتادة: أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا.
قال ابن عباس: جعل على كل صنف منهم وزعة يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك.
وقال ابن زيد: يوزعون: يساقون.
وقال الحسن: / يوزعون يتقدمون. والوازع في اللغة: الكاف: يقال: وزع فلان فلاناً عن الظلم، أي كفه عنه، ومنه قيل للذين يدفعون الناس عن القضاة والأمراء: وزعة لأنهم يكفون الناس عنهم، أي يمنعونهم منهم.(8/5385)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
قال {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل}، يعني أتى سليمان وجنوده على واد النمل، وهو واد كان بالشام نمله على قدر الذباب، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} أي بيوتكم {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}، أي يكسرنكم. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي يكسرونكم بوطئهم غير عالمين بكم. فتكون الجملة في موضع الحال من سليمان وجنوده، والعامل في الحال يحطمنكم، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من النملة، ويكون العامل في الحال: قالت. أي قالت نملة ذلك في حال غفلة الجنود، كما تقول: قلت خيراً والناس نيام.
وقيل: إن قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، راجع إلى النمل. أي والنمل لا يشعر أن سليمان يفهم مقالتها، فتكون حالاً من النملة أيضاً والعامل فيه: قالت. كما تقول: شتمتك وأنا غير عالم بك. أي شتمتك في حال جهلي بك. ولما(8/5386)
فهم سليمان قول النمل وصارت بمنزلة من يعقل في الفهم عنها، أخبر عنها كما يخبر عن من يعقل، فلذلك قال: {قَالَتْ}، وقال: {ادخلوا} ولذلك أضاف إلى الطير منطقاً في قوله: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} [النمل: 16].
وروي: أن الله جلّ ذكره: فهم سليمان كلام الإنس باختلاف لغاتها، وفهمه كلام الطير والبهائم، وكان إذا أراد أن يسير على الأرض أمر بالكرسي فوضع له فجلس عليه، ثم أمر بكراسي فوضعت لأصحابه فأجلس عليها من أراد، فالذين يلونه الإنس، ثم الجن، ثم الشياطين ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض، وإذا أراد صار على الخيل في الأرض، فبينما سليمان ذات يوم يسير بين أيدي الناس على الأرض، ورجلان معه أحدهما ختنه: زوج ابنته، والآخر عن يساره من أهل مملكته كريم عليه، ولم يكن أحد يسير بين يديه تواضعاً لله، إذ مر على واد النمل وهو واد فيه نمل، فسمع نملة تقول: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} وكان قد أعطى الله سليمان زيادة في ملكه ألا يذكره أحد إلا حملت(8/5387)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
الريح ذلك الكلام إليه حتى يسمعه، فلما فهم سليمان كلام النمل تبسم ووقف فوقف الناس معه، فقال الرجلان: ما يضحك نبي الله؟ فأخبرهما بكلام النملة، فلم يزل واقفاً حتى دخلت النمل مساكنها ثم سار.
وروى الأعمش عن نوف أنه قال: كانت نمل سليمان أمثال الذباب، وكانت هذه النملة مثل الذيب في العظم.
قوله تعالى ذكره: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا}،
أي فضحك سليمان من قول النملة، وقال: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}، أي ألهمني الشكر على ما أنعمت به علي وعلى والدي وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه.
وقيل: معناه كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك. {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين}، أي مع عبادك الصالحين، يعني الأنبياء، أي أدخلني معهم الجنة.(8/5388)
قال ابن زيد: {عِبَادِكَ الصالحين}: هم الأنبياء والمؤمنون. ثم قال: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد}، سأل ابن عباس، عبد الله بن سلام: لم تفقد سليمان الهدهد من بين سائر الطير؟ فقال عبد الله: إن سليمان نزل منزلة في مسير له، فلم يدر ما بعد الماء، فقيل: من يعلم ما بعد الماء؟ فقالوا: الهدهد، فذلك حين تفقده.
وروي: أن الهدهد كان يدل سليمان على مواضع الماء في أسفاره، فأخذ الناس عطش في مفازة فسألوا سليمان الماء، فسأل عن الهدهد، فقالوا: غاب ولم يكن معه إلا هدهد واحد.
قال ابن عباس: تفقد سليمان - عند سؤالهم الماء - الهدهد، فسأل عنه، ودعا أمين الطير فسأله عنه، ولم يكن معه إلا هدهد واحد. فقال الأمين: ما أدري / أين ذهب ولا استأمرني. فكان الهدهد إذا وضع منقاره في الأرض أخبره كم بعد الماء،(8/5389)
فغضب سليمان عند ذلك، وتألاّ لنعذبنه عذاباً شديداً، أي ينتف ريشه حتى يتركه أقرع لا ريش عليه، فلم يكن إلا يسيراً حتى أتى الهدهد بعذر بين، فقال: اطلعت على ما لم تطلع عليه {فَوَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} [النمل: 22]، أي بخبر صادق.
قال ابن عباس: لما أقبل الهدهد قيل له: إن سليمان قد حلف ليعاقبنك حين فقدك. فقال الهدهد: هل استثنى؟ قالوا: نعم، فأقبل حتى قام بين يديه فأخبره بعذره.
وروي: أن الطير كانت تظله من الشمس في مسيره. فلما غاب الهدهد أصابته الشمس من موضع الهدهد، فسأل عنه إذ فقده.
وقال ابن عباس: كان سليمان يوضع له ست مائة كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس، فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو(8/5390)
الطير فتظلهم، قال: ثم يدعو الريح فتحملهم فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر. قال: فبينما هو في مسيرة إذا احتاج إلى الماء، وهو في فلاة من الأرض قال: فدعا الهدهد، فجاءه فنقر في الأرض فيبصر موضع الماء. قال: فتجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب، ثم يستخرجون الماء. فاعترض على ابن عباس نافع بن الأزرق، فقال له: كيف يبصر الهدهد الماء تحت الأرض، ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
وذكر أن الهدهد كان يرى الماء في الأرض، كما يرى الماء في الزجاجة. ومعنى قوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين}، أي أخطأه بصري فلا أراه، وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق؟ " وكان " ها هنا بمعنى صار لأنه لم يستفهم وهو حاضر، إنما استفهم عنه وهو غائب، وإذا حملت " كان " على لفظها صار المعنى أنه استفهم عنه وهو حاضر، ولم يكن كذلك بل كان غائباً وقت الاستفهام فكان محمولة على معنى صار. وبذلك يتم المعنى.(8/5391)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
وقيل: إن مثله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} [الأنفال: 67] أي أن يصير له أسرى، لأن الأسرى كانوا بالحضرة لم يكونوا غيباً، ولا متوقعين ولا منتظرين و " يكون " يدل على أنه أمر متوقع منتظر، وليس هو كذلك، بل كانوا بالحضرة، فالمعنى أن تصير له أسرى.
قال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً}، في الكلام اختصار وحذف، والتقدير: فقيل له غاب، فقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً}، أي لأنتفن ريشه، وأشتمه. قاله ابن عباس.
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجة ظاهرة يقوم له بها عذر في غيبته عني.
قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} ليس هو بجواب قسم لسليمان. مثل أو (لأعذبنه أو لأذبحنه) هذا جواب قسم لسليمان وليس {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} بجواب قسم له، لأنه لم يقسم على أن يأتيه بحجة تدفع عنه العذاب، لكنه جرى على لفظ ما قبله من قوله: {لأُعَذِّبَنَّهُ} أو {لأَاْذبَحَنَّهُ} على باب المجازات لا أنه مثله.(8/5392)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
ومثله قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 90] فهذا جواب قسم ثم قال: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فليس هذا بجواب قسم ولكن دخلت اللام على طريق المجازات، {لَسَلَّطَهُمْ} لا على الجواب.
قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، أي فمكث سليمان غير وقت طويل من حين سأل عن الهدهد، حتى جاء الهدهد فقال له الهدهد لما سأله سليمان عن علة تخلفه وغيبته: أحطت علماً بما لم يحط به علمك.
قال ابن زيد: معناه علمت ما لم تعلم. {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، أي بخبر صحيح، ومن صرف {سَبَإٍ} جعله اسماً للأب أو للحي أو لرجل أللبلد. ومن لم يصرفه جعله اسماً للقبيلة، أو لامرأة هي أم القبيلة أو للبلدة.
قال أبو إسحاق: سبأ مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين(8/5393)
صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.
/ وروي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن سبإ فقال: يا رسول الله أخبرني سبإ ما هو أرض أم امرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان وأما الذين تيامنوا فكندة، والأشعرون، والأزد ومذحج وحمير، وأنمار. فقال رجل: ما أنمار؟ فقال رسول(8/5394)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
الله صلى الله عليه وسلم: الذين منهم خثعم وبجيلة " وكذلك رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. بهذا المعنى فيجب صرفه على هذا القول. وكل النحويين على أنه إن سمي به رجل صرف فدل على أنه مذكر في الأصل.
قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}، أي قال الهدهد لسليمان مخبراً بعذره في الغيبة: إني وجدت امرأة تملك شيئاً، وأوتيت من كل شيء. . أي من كل شيء يؤتاه الناس في دنياهم.
وقيل: معناه: من كل شيء يؤتاه مثلها من الأموال والعدد والرجال والخصب والنعم، وغير ذلك. فقام له العذر عند سليمان في غيبته لأن سليمان عليه السلام كا لا يرى في الأرض أحداً له مملكة معه، وكان قد حبب إليه الجهاد، والغزو، فلما دله الهدهد على ملك معه ودله على موضع جهاد عذره وترك تعذيبه.
قال قتادة: هي امرأة يقال لها بلقيس بنت شراحيل وكان أحد أبويها(8/5395)
من الجن، وكان مؤخر قدمها كحافر الحمار.
وقوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}، يعني ذا سعة، وحسن صنعة يعني به السرير.
قال ابن عباس: عرش عظيم: سرير كريم حسن الصنعة. وكان سريراً من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
وروي: أنه كان سريراً من ذهب تجلس بلقيس عليه، طوله ثمانون ذراعاً، وعرضه أربعون ذراعاً، وارتفاعه في السماء: ثلاثون ذراعاً، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر، وكان اسم المرأة بلقيس ابنة اليشرح الحميرية. روي: أنه كان سريراً عالياً تجلس عليه، وتكلم الناس من فوقه.
وذكر قوم: أن الوقف {وَلَهَا عَرْشٌ}، ثم تبتدئ {عَظِيمٌ} {وَجَدتُّهَا} وروي ذلك عن نافع، وليس بشيء لأن " عظيماً " من(8/5396)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
نعت العرش، ولو كان متعلقاً بما بعده لقال: عظيم أن وجدتها أي عظيم وجودي لها كافرة.
قال تعالى: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله}، أي يعبدون الشمس {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}، أي حسن لهم عبادة الشمس من دون الله {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل}، أي فمنعهم بتزيينه لهم الباطل، أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله فهم لا يهتدون إلى الحق.
قال: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} أن من {أَلاَّ} في موضع نصب على البدل من الأعمال عند: اليزيدي. وقال: أبو عمرو والكسائي، " أن " في موضع خفض بدل من السبيل، ويجوز أن يعمل فيها " يهتدون ".
وقرأ الكسائي: ألا بالتخفيف، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فجعلها: " ألا " التي للتنبيه، ويا: حرف نداء، واحتج الكسائي أن حرف أبي وابن مسعود:(8/5397)
" هلا يسجدوا " فهلا تحقيق وأن اسجدوا أمر، واحتج أيضاً أن السجود هنا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شدد لا يلزمه سجود، لأنه خبر عن قوم أنهم لم يسجدوا، وليس هو أمر. وليس فيه بمعنى الأمر. ومن الدليل على صحة قراءة الجماعة، حذف الألف من يا من الخط، وحذف ألف الوصل من اسجدوا ويدل على ذلك أنه كله من كلام الهدهد وحكايته. ولم يكن في الوقت أحد يؤمر بالسجود فيكون هذا أمراً له، ولا يلزم ترك السجود على قراءة الجماعة، لأنه لما أخبر أنهم لا يسجدون، وجب لمن يؤمن بالله أن يسجد لله عند ذكر تركهم للسجود تعظيماً لله، وخلافاً لما فعلوا من ترك السجود.
وقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} قيل: هو من قول الله جلّ ذكره ينبه عباده أن(8/5398)
السجود لا يصلح إلا لله.
واختلف العلماء في سجود القرآن، ويقال لها: عزائم القرآن. فكان ابن عمر، وابن عباس يقولان: سجود القرآن إحدى عشرة سجدة: في الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج، أولها، والفرقان / والنمل، وآلم السجدة، وصَ، وحَم السجدة، وهذا مذهب مالك. قال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم: أجمع الناس على أن عزائم سجود القرآن إحدى عشر سجدة ليس في المفصل منها شيء. يعني بقوله أجمع الناس: أهل المدينة.
وقد روي عن ابن عباس: أنه أسقط صَ وجعلها عشرة.
ومذهب الشافعي: أنها أربع عشرة سجدة زاد في الحج آخرها، وفي والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، ونقص سجدة (صَ) وكذلك قال: أبو ثور، إلا أنه أثبت السجود في (صَ) وأسقطه من والنجم.
وقال إسحاق: سجود القرآن خمس عشرة سجدة، زاد على مذهب الشافعي(8/5399)
سجدة أخرى في الحج، واختلفوا في الموضع الذي يسجد فيه في (حَم) السجدة. فقال ابن عباس، وابن عمر والحسن البصري، وابن سيرين: يسجد آخر قوله:
{إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقد حكى ذلك عن مسروق عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال مالك والليث بن سعد.
وقال ابن المسيب، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى وإسحاق: يسجد عند آخر قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} [فصلت: 38]. وقد روي ذلك أيضاً: عن ابن عباس، وابن سيرين، وفي سجود القرآن فضل عظيم.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أمر هؤلاء، أو هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ".
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ".
وكره مالك السجود بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا يسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وإذا كان القارئ في الصلاة فسجد، سجد بغير تكبير،(8/5400)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
ويرفع رأسه بتكبير، فإن كان في غير صلاة لم يكبر في الرفع ولا قبله، وعلى من سمع قراءة السجدة أن يسجد مع الإمام. وقوله: {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض}، أي يخرج المخبوء في السماوات من غيث، والأرض من نبات.
وقال مجاهد: هو الغيث.
وقال ابن زيد: خبء السماوات المطر، وخبء الأرض النبات.
وقال قتادة: الخبء: السر، " وفي " في موضع " من ".
ثم قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، أي يعلم ما يسرون وما يظهرون. ثم قال: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم}، هذا كله من إخبار الله عن قول الهدهد. قاله ابن زيد وابن إسحاق.
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
أي قال سليمان للهدهد: سننظر أصدقت فيما اعتذرت به لغيبتك أم كنت من الكاذبين فيه. وقوله:(8/5401)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{أَمْ كُنتَ} معناه أم أنت، لأن سليمان لم يرد أنه ينظر أن كان فيما مضى من الزمان من الكاذبين، إنما أراد إن كان هو في حاله ذلك الوقت من الكاذبين. ومثله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
قال: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}، أي قال سليمان للهدهد: اذهب بكتابي إليهم فألقه إليهم، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ}، أي منصرفاً، ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم.
وقيل: الكلام على بابه لا تقديم فيه، وانظر فيما انتظر أي فألقه إليهم فانتظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم.
قال ابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها، واستبطأت الشمس فقامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه، وطار حين قامت تنظر إلى الشمس. فهذا التفسير يدل على أنه نظر إليها ماذا ترجع قبل إلقائه الصحيفة، ثم(8/5402)
ألقاها ورجع إلى سليمان.
وقيل: المعنى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} قريباً منهم فانظر ماذا يرجعون؟ ودل على هذا سماع الهدهد قولها لأهل مملكتها بعد إلقائه الكتاب إليهت، وهذا القول هو اختيار الطبري.
واختار الزجاج القول الأول أن يكون على التقديم والتأخير. ثم قال: {قَالَتْ يا أيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}، في الآية اختصار وحذف، والتقدير فذهب الهدهد بكتاب سليمان فألقاه إليها، فلما قرأته قالت: يا أيها الملأ: تريد أشراف قومها.
/ قال ابن عباس: كتب سليمان إليها بسم الله الرحمن الرحيم: من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة اليشرح الحميرية: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، أي لا تتعظموا عن طاعتي وأتوني مسلمين فذهب الهدهد بالكتاب فانتهى إليها ظهيرة وهي قائلة في قصرها، وقد غلقت عليها الأبواب، فلا يصل إليها شيء،(8/5403)
والحرس حول قصرها. وكان لها من قومها اثنى عشر ألف مقاتل، كان كل رجل منهم على مائة ألف سوى نسائهم وذراريهم. وكانت تخرج إلى قومها فتقضي بينهم في أمورهم، وحوائجهم، في كل جمعة يوماً قد جعلت على عرشها أربعة أعمدة من ذهب، ثم جعلت عليه حريرة تجلس خلفها فهي تراهم ولا يرونها، فإذا أراد الرجل منهم قام بين يديها فنكس رأسه ولا ينظر إليها، ثم يسجد ولا يرفع رأسه حتى تأذن له إعظاماً لها. فإذا قضت حوائجهم أمرت بأمرها ودخلت قصرها فلم يورها إلى مثل ذلك اليوم. وكان ملكها ملكاً عظيماً، فلما أتاها الهدهد بالكتاب، وجد الأبواب قد غلقت دونها والحرس حوالي قصرها، فدار الهدهد حوالي القصر يطلب السبيل إليها حتى وصل إليها من كوة في القصر فدخل منها إلى بيت ثم مر من بيت إلى بيت حتى انتهى إليها في أقصى سبعة أبواب على عرشها مستلقية،(8/5404)
نائمة ليس عليها إلا خرقة على عورتها وكذلك كانت تصنع إذا نامت، فوضع الكتاب إلى جنبها على العرش ثم تولى فوقع في كوة ينتظرها حتى تقرأ الكتاب فمكث طويلاً لا تستيقظ، فلما أبطأ عليه ذلك انحط، فنقرها نقرة فاستيقظت، فبصرت بالكتاب إلى جنبها على السرير فأخذته وفزعت، وجعلت تنظر ما حال الكتاب، وكيف وصل الكتاب إليها فإذا الأبواب مغلقة، فخرجت فإذا الحرس حوالي القصر، فقالت هل رأيتم أحداً دخل علي أو فتح باباً؟ قالوا: لا، أما رأيت الأبواب مغلقة كما هي ونحن حوالي القصر، ففتحت الكتاب، وكان مطبوعاً فقرأته ولم تشك أنه من السماء سقط عليها فأرسلت إلى قومها وشاورتهم كما قص الله علينا في كتابه.
قال وهب بن منبه: كتب سليمان مع الهدهد {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}: من سليمان بن داود إلى بلقيس وقومها: أما بعد، فلا تعلوا(8/5405)
علي وأتوني مسلمين. فأخذ الهدهد الكتاب برجله فانطلق به حتى أتاها، وكانت لها كوة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها فسجدت لها، فأتى الهدهد الكوة فسدّها بجناحه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم من ألقى الكتاب من الكوة فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه فأخذته.
وقال قتادة: كان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام. ومعنى وصفها للكتاب بالكريم أنه كان مطبوعاً.
وقيل: وصفته بذلك لحسن ما فيه واختصاره.
وقوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ}، أي لا تتكبروا علي، ولا تتجبروا علي، وأتوني مذعينين مستسلمين. وقال: إنما وصفته بالكريم على معنى كتاب من رجل كريم، رفيع القدر يطيعه الجن، والإنس والطير. لأنها كانت قد سمعت بخبر سليمان، فلما رأت اسمه في الكتاب عرفته، وعرفت قدر ملكه، وأخبرتهم أنه من سليمان وأن فيه بسم الله الرحمن الرحيم.(8/5406)
وهذه جملة من علل بسم الله الرحمن الرحيم: فمن ذلك ما روي عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قعد بين يدي مؤدب، فقال له المؤدب قل: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال عيسى وما بسم الله. فقال المؤدب: لا أدري؟ فقال عيسى: الباء: بهاء الله / والسين سناء الله، والميم ملكه. وكذلك قال الحسن إلا أنه قال: والميم مجده. والباء متعلقة بفعل مضمر، والمعنى: ابدأ بسم الله، فإذا اختلفت الأفعال التي تريد أن تسمي الله عليها، أضمرت لكل معنى فعلاً يشاكله، فإذا أردت القيام فقلت بسم الله: أضمرت أقوم بسم الله، وإذا أردت القعود قدّرت أقعد بسم الله، وكذلك الركوب وشبهه.
وقيل: إن الاضمار في جميع ذلك أبداً وهو أحسن عند الحذاق، وإنما حذف الفعل ولم يذكر إيجازاً واختصاراً، إذ ما بقي من الكلام يدل عليه، وهذا(8/5407)
الحذف كثير في الكلام، وإنما اختيرت الباء لأنها للإلصاق، وأنت تحتاج أن تلصق ابتداءك بالتسمية، فجئت بالباء لأنه موضعها، وإنما سميت الباء، ومن وعن وشبهها بحروف الجر لأنها تجر الأفعال إلى الأسماء: تقول: مررت بزيد وانتهيت إلى عمرو.
فلولا الحروف ما انجرت الأفعال إلى الأسماء. وإنما خفضت هذه الحروف الأسماء لأن معناها الإضافة، تضيف فعلاً إلى اسم، أو معنى إلى اسم. كقولك: مررت بزيد، وعمرو كزيد. وإنما كسرت الباء. لتكون حركتها مثل عملها؛ هذا قول الجرمي. ولم تكسر الكاف لتفرق بين ما يكون حرفاً واسماً، وبين ما لا يكون إلا حرفاً، وإنما عملت الخفض لأنها لا معنى لها في الأفعال فلزمت الأسماء، فلما لزمت الأسماء عملت إعراباً لا يكون إلا في الأسماء، وهو الخفض، وقد فتحوا لام الجر مع المضمر.
ردت إلى أصلها لأنها إنما كسرت مع المضمر ليفرق بينها وبين لام(8/5408)
التأكيد، وتركت الباء على كسرها مع المضمر إذ ليس فيها علة توجب فتحها، وكسرت لام كي لأنها هي لام الجر بعينها، وكسرت لام الأمر للفرق بينها وبين لام التأكيد، والفرق بين لام الجر، ولام الأمر وكلاهما مكسور، أن لام الجر لا تدخل على الأفعال ولام الأمر لا تدخل على الأسماء، فعملت لام الجر إعراباً لا يكون إلا في الأسماء للزومها الأفعال وهو الجزم. وأصل هذه الحروف كلها الفتح، كواو العطف، وفائه، وألف الاستفهام. وكانت في الأصل لا حركة لها ولم يمكن الابتداء بساكن فلم يكن بد من حركة فأعطيت أخفّ الحركات وهي الفتحة، وإذا قلت: بسم الله فهو الله في المعنى كما قال لبيد:(8/5409)
إلى الحلول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد ثم السلام عليكم فرفع اسماً بالابتداء لما قدمه ولم يعمل فيه الإغراء لأنه متأخر لا يتقدم عليه معموله، ومثله قول الشاعر:
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
أي هذا دلوي، ويجوز النصب بإضمار فعل تقديره: ثم الزم اسم السلام. وحذفت الألف من بسم لأن الباء كفت منها، فوصلت اللسان إلى النطق بالسين.
وكان الخليل يسمي ألف الوصل سلم اللسان، وحذفت من الخط لكثرة الاستعمال، هذا مذهب الجرمي، والمبرد، والكسائي والفراء. وقال الاخفش: حذفت(8/5410)
من الخط لما وصلت إلى السين بالباء فألزمه الفراء أن تحذف الألف من الخط في قولهم: فاضرب واضرب ولا يحسن حذف هذا.
وقال الكسائي: في قوله: {بِسْمِ الله مجراها} [هود: 41] إن شئت أثبت الألف في الخط وإن شئت حذفتها. وإنما دخلت ألف الوصل الأسماء، وحقها أن تدخل على الأفعال على التشبيه بالأفعال، كما أضافوا إلى الأفعال وليس بابها أن يضاف إليها على التشبيه أيضاً بالأسماء.
وقيل: إنما دخلت هذه الأسماء اللف لأنهم لما حذفوا من أواخرها أرادوا العوض من المحذوف، فلم يمكن أن يعوضوا منه آخراً، فعوضوا منه أولاً، وسكنوا السين ليسوغ دخول الألف، والعوض في كلام العرب كثير ألا ترى أنهم يقولون: زنادقة وزناديق.
فيعوضون الياء من الهاء، وإنما حذفوا من هذه الأسماء(8/5411)
لأن آخرها / حرف علة ياء، أو واو، وقد كان يجب أن ينقلبا ألفا غذ هما ظرفان، فكان الحذف أخف من الإعلال والإقلاب، فلما حذف من آخرها حرف أشبهت الأفعال، لأن الحذف أكثر ما يكون في الأفعال نحو: لم أبل ولا أدر فلما ضارع الاسم الفعل في باب الحذف آخراً ضارعه في باب الزيادة أولاً فدخلته ألف الوصل، ولم يمكن أن تدخل على متحرك فسكن أوله، وهذا قول حكي عن الخليل.
والمحذوف من اسم عند البصريين واو وأصله سمو على مثال قنو، دليله قولهم: أسماء كأقناء وكذلك أب وأخ. المحذوف منهما واو يدل على ذلك قولهم: الأبوة والأخوة. وقولهم: أبوان وأخوان. وقد كان يجب أن تدخل ألف الوصل على أب، وأخ على ما قدمنا من العلة إلا أنه لما كان في أول أب وأخ همزة ثقل دخول همزة أخرى عليها، والعرب تستثقل الجمع بين همزتين في كلمتين ولا تجيزه في كلمة إلا بالتخفيف، فتركوا ما يستثقلون.(8/5412)
واسم مشتق من السمو.
وقيل: من السمة.
وقيل: هو أمر من قولك اسم فلاناً أي أعله وكذلك ابن أصله الأمر من قولك: ابن البناء يا رجل. وقول ما قال: هو من السمة. قول صحيح في المعنى لأن صاحبه يعرف به كالسمة في البعير يعرف بها، لكنه غير جائز في الاشتقاق، والأصمول، وذلك أنه ليس في كلام العرب مصدر فعل معتل فاؤه واو تدخله ألف الوصل، فيكون هذا مثله، ألا ترى أنك لا تجد مثل أعد وأزن في وعد ووزن وأيضاً فإنه يجب أن يقال في تصغيره وسيم كما تقول في تصغير عدة وعيدة وذلك لا يقال.
وقولك: بسم في موضع نصب عند الكوفيين فبين لأن التقدير أُبدأ بسم.(8/5413)
وقال البصريون: موضعه رفع على إضمار مبتدأ، والتقدير أول ابتداء بسم الله، وقد أجاز النحويون: ابتدأت ببسم الله فأدخلوا الباء على الباء، وليس هذا بجائز في غيره، وإنما ذلك، لأن هذه الباء لما لزمت الاسم ولم تفارقه، وكثر الاستعمال بها صارت كأحد حروف الاسم، فدخلت عليها الباء كما تدخل على سائر الأسماء، وإنما خصت الألف بالزيادة والتعويض من المحذوف في اسم لأن أولى الحروف بالزيادة من حروف المعجم الياء والواو والألف، وهنا حروف المد واللين، ولا يكون الإعراب إلا بواحد منها، أو بحركة هي منها.
قالوا: ولا تزاد أولاً، وكذلك الياء، فزادوا ألفاً، والألف لا تكون إلا ساكنة وبعدها السين ساكنة فكسرت الألف لالتقاء الساكنين وإنما سميت الهمزة ألفاً لأن صورتهما واحدة، ولأن الألف تبدل من الهمزة في يأكل ويأتي، والهمزة تبدل من الألف في رسائل وقلائد، وإنما ردت ألف الوصل في قولك امرئ وهو غير محذوف الآخر لأن آخره وهو الهمزة لا تثبت على حال يكون في الرفع واواً، وفي النصب(8/5414)
ألفاً، وفي الخفض ياء، فضعف فصار بمنزلة المحذوف فزيدت الألف في أوله لضعف الآخر.
وقال المبرد: لما كان امرؤ لا يقوم بنفسه حتى يضيفه إلى غيره. فتقول هذا امرؤ سوء، وشبه الأفعال إذ كانت لا تقوم بنفسها ولا بد لها من فاعل فدخلته ألف الوصل لذلك، وإنما لقبت هذه الألف بألف وصل عند الكوفيين لأنها تذهب في الوصل فلقبت بضد حالها كما سمي اللذيع سليماً، والمخافة مفازة. وقيل: سميت ألف وصل لأنها تصل الكلام الذي قبلها بالذي بعدها ويستغنى عنها. وهذا القول هو القول الأولى في المعنى.
وقال البصريون: لقبت ألف وصل: لأنه يوصل بها إلى الساكن الذي بعدها.
وحكي عن الخليل: أنه كان يسمي ألف الوصل: سلم اللسان.(8/5415)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
قوله تعالى ذكره {قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي}.
أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أشيروا / علي في أمري الذي قد حضرني في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلي. {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ}، أي قالت: ما كنت قاضية أمراً في جواب هذا الكتاب حتى تشهدون أي تحضروني. قال لها أشراف قومها لما شاروتهم في أمرها: {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ}، أي أصحاب قوة في القتال {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي ذوو بأس في الحرب شديد، والأمر أيّتها الملكة إليك في القتال وغيره {فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ}.
روي: أن قومها كانوا أولي قوة، وأن أحدهم كان يركض الفرس حتى إذا امتلأ في جريه ضم فخذيه عليه فحبسه بقوته.(8/5416)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
روى الأعمش عن مجاهد أنه قال: كان مع ملكة سبأ اثنى عشر ألف قيول مع كل قيول مائة ألف.
وعن ابن عباس أنه قال: كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل بلسانهم الملك.
قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}، أي قالت بلقيس لأشراف قومها: إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة وغلبة أفسدوها. {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً}، تم كلامها.
ثم قال الله عز وجل تصديقاً لقولها في الملوك إذا غلبوا على قرية:(8/5417)
{وكذلك يَفْعَلُونَ}، وقد أجاز بعضهم أن يكون ذلك من قولها على التأكيد لصدر ما قالت.
وقيل: هو من قول سليمان. ومثله في اتصال كلامين مختلفين قوله:
{وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في يوسف، فهو من قول امرأة العزيز فاتصل له كلام يوسف. فقال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52]، ومثله في قصة فرعون.
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35]، وانتهى كلام الأشراف من قوم فرعون ثم اتصل به كلام فرعون لهم وهو قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} يخاطب أشراف قومه.
والقرية كل مدينة تجمع الناس مشتقة من قريت الماء: أي جمعته.
ثم قال تعالى عنها: أنها قالت لهم: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ}، أي إني مرسلة إلى سليمان بهدية، لنختبر بذلك سليمان ونعرف أملك أم نبي؟ فإن يكن نبياً لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن يكن ملكاً قَبِل الهدية(8/5418)
وانصرف. قال ذلك ابن عباس.
قيل: إنها لما لم يشر عليها قومها برأي رجعت إلى رأيها فأرسلت الهدية.
قال ابن عباس: بعثت إليه بوصائف ووصف ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت: إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى، ثم رد الهدية فإنه نبي، وينبغي لنا أن نترك ملكنا، ونتبع دينه ونلحق به. وكذلك قال ابن جريج، ومجاهد، والضحاك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: أهدت إليه اثني عشر غلاماً فيهم تأنيت مخضبة أيديهم قد مشطتهم، وألبستهم لباس الجواري، وقالت لهم: إذا كلمكم فردوا عليه كلاماً فيه تأنيث، وأهدت إليه اثني عشر جارية فيهن غلظ، واستأصلت رؤوسهن وأزرتهم، وألبستهن النعال، وقالت لهن: إذا كلمكن فردوا عليه كلاماً(8/5419)
صحيحاً وأرسلت إليه بعود يخرج بالمسك والعبير والحرير في الأطباق على أيدي الوصفاء والوصائف، وأرسلت إليه اثني عشر بختية، كل بختية تحلب كذا وكذا من اللبن. وأرسلت إليه بخرزتين إحداهما مثقوبة ملتوية الثقب، والأخرى غير مثقوبة، وأرسلت إليه بقدح ليس فيه شيء، وأرسلت ذلك كله مع امرأة، وتقدمت إليها أن تحفظ جميع أمره وكلامه حتى تخبرها عنه، وقالت لهم: قوموا بين يديه قياماً، ولا تجلسوا حتى يأمركم، فإنه إن كان جباراً لم يأمركم بالجلوس وأرضيناه بالمال فيسكت عنا، وإن كان نبياً أمركم بالجلوس، وأمرتها أن تقول له أن يثقب الخرزة الصحيحة بغير حديدة، ولا علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له: أن يميز الغلمان من الجواري، وأمرتها أن تقول له: يدخل في الخرزة المثقوبة المعوجة / خيطاً بغير علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له أن يملأ القدح ماءً مزبداً ليس من الأرض ولا من السماء.
قال: وكتبت إليه تسأله عن ألف باب فانطلقت المرأة بهديتها، حتى أتت بها سليمان، فوضعتها بين يديه، وقاموا قياماً ولم يجلسوا، فنظر(8/5420)
إليهم سليمان لحظاً لم يحرك يداً ولا رجلاً، ثم رفع رأسه إلى رسولها فقال: إن الله رفع السماء ووضع الأرض، فمن شاء قام ومن شاء جلس، فجلسوا، فقدمت إليه الخرزتين وقالت: إنها تقول لك: أدخل في هذه الخرزة المثقوبة خيطاً ينفذ إلى الجانب الاخر من غير علاج إنس ولا جان، وأن تثقب الأخرى ثقباناً فذاً من غير علاج إنس ولا جان، ثم قربت إليه القدح، وقالت: تقول لك أن تملأ هذا القدح من ماء مزبد رواء ليس من الأرض ولا من السماء، ثم قربت إليه الوصفاء والوصائف، وقالت: تقول لك: أن تفرق بين الغلمان والجواري ففرق بينهم بالوضوء فبدأ الجواري بالمرافق، وبدأ الغلمان بالإيدي، وملأ لهما القدح من عرق الخيل، ودخلت دودة الثمرة بالخيط في الخرزة حتى خرجته من الجانب الآخر، وتولت دودة الخشب ثقب الخرزة الأخرى حتى نفذتها، ورد الهدية عليها.(8/5421)
وقال ثابت البُناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ سليمان ذلك أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقي في الطرق، فلما جاءوا رأوه ملقى لا يلتفت إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به.
قال ابن زيد: قالت: إن هذا الرجل إن كانت همته الدنيا فسنرضيه، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره.
وقال ابن جبير: أرسلت بمأتي وصيف ووصيفة وقالت: إن(8/5422)
كان نبياً فسيعلم الذكر من الأنثى، فأمرهم فتوضأوا، فمن توضأ منهم، فبدأ بمرفقه قبل كفه قال: هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال: هو من الذكور.
وروى أنها: وجهت إليه بمائة وصيف، ومائة وصيفة، وألبست الجواري ثياب الغلمان، وألبست الغلمان ثياب الجواري، وقالت: إن كان ملكاً لم يعرف حتى يعريهم، وإن كا نبياً علم ولم يعريهم، فلما قدموا على سليمان أمر فوضع لهم ماء يتوضأون، فكل من بدأ بالمرفق فغسله إلى اليد علم أنها جارية، وكل من بدأ باليد إلى المرفق علم أنه غلام، فأمر بنزع ثياب الغلمان فردها على الجواري، ونزع ثياب الجواري وردها على الغلمان، ثم ردَّ ما أهدت إليه.
وقوله: " إليهم " تريد به سليمان وحده لأن الملوك يخاطبون مخاطبة الجماعة، كما يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة.
وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون}، أي فأنظر بأي شيء يرجع رسلي(8/5423)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
بقبول الهدية أم بردها؟
قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} إلى قوله: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}،
أي فلما جاء رسولها سليمان بالهدية، قال سليمان: أتمدونني بمال، فالذي أعطاني الله من الملك في الدنيا {خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}، أي ما أفرح بما أهديتم إلي بل أنتم تفرحون بها، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا، ومكاثرة بها.
روي: أن رسولها لما رجع إليها بالهدية وأخبرها خبر سليمان، قالت لقومها: هذا أمر من السماء لا ينبغي لنا معاندته فعمدت إلى عرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات، وأقامت عليه الحرس، ثم أقبلت إلى سليمان فرجع الهدهد وأخبر سليمان بذلك، فقال عند ذلك: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}، أي بسريرها {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، فيحرم علي ما لهم.
وقوله: {فَلَمَّا جَآءَ}، فوحد وقد قال عنها {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35]،(8/5424)
فجمع فمعناه: فلما جاءوها سليمان.
وقيل: إن الرسول كان واحداً، وإنما قالت هي: {المرسلون}، فجمعت لأن الرسول لا بد له من خدمة وأعوان، فجمعت على ذلك المعنى.
وقد قيل: إن الرسول الذي وجهته إلى سليمان كانت امرأة.
وقيل: بل كانوا جماعة، وإنما قال " جاء " فوحد على معنى الجمع ودل / على ذلك أن في حرف ابن مسعود {فَلَمَّا جَآءَ} بالجمع وقوله: {ارجع إِلَيْهِمْ}، يدل على أنه كان واحداً والله أعلم.
ثم قال تعالى: {ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا}، أي قال سليمان لرسول المرأة: ارجع إليهم بهديتهم فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها.
{وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً}، أي لنخرجنهم من بلدتهم صاغرين إن لم يأتوني مسلمين.(8/5425)
ثم قال تعالى: {يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.
قال ابن عباس: كان إتيان العرش إليه قبل أن كتب إليها. لأنه لما أتاه الهدهد فأخبره بملك سبأ وعرشها، أنكر سليمان أن يكون لأحد سلطان في الأرض غيره، فقال لمن عنده من الجن والإنس: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} قال سليمان أريد أعجل من هذا. {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، وهو رجل من الإنس كان عنده علم من الكتاب فيه اسم الله الأكبر، فدعا بالاسم، فاحتمل العرش احتمالاً حتى وضع بين يدي سليمان بقدرة الله، فلما أتاه العرش صدّق الهدهد في قوله، ووجهه بالكتاب وكذلك روى الضحاك. وقال وهب بن منبه وغيره: بل كتب معه الكتاب قبل أن يأتيه العرش. والكلام في التلاوة على رتبته ووصل إليه العرش بعد رده الهدية.
قال وهب بن منبه: لما رجعت إليها(8/5426)
الرسل بالهدية، وأ'لموها بما كان من أمر سليمان.
وقوله: قالت: قد والله علمت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة وبعثت إليه إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك؟ وما تدعو إليه من دينك؟ ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مفصص بالياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما يخدمها النساء، معها ست مائة امرأة يخدمنها، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا ترينه حتى آتيك، ثم شخصت إلى سليمان في إثني عشر ألف قيل، معها من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه(8/5427)
بمسيرها، ومنهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت، جمع من عنده من الإنس والجن ثم قال: {يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، أي بسريرها، وذلك أنه خشي أن تسلم فيحرم عليه أخذه، وقد وصف له، وأعجب به، فأراد أن يأخذه قبل إسلامها فيحل له. قاله قتادة.
قال قتادة: كان السرير من ذهب وقوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ. قال ابن جريج: كان من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
وقيل: إنما فعل ذلك ليختبر عقلها به هل تنتبه إليه إذا رأته أم لا؟ قاله ابن زيد.(8/5428)
قال ابن عباس: معنى {مُسْلِمِينَ}، طائعين أي مستسلمين لي. وقال ابن جريج: معناه قبل أن يدخلوا في الإسلام فتمتنع علي أموالهم. وهو قول قتادة المتقدم. وإنما خص سليمان السرير دون غيره من مملكتها لأنه أعجب به.
فعل ذلك لإعجابها به، واحتياطها عليه، فأراد أن يريها قدرة الله عجزها، وأن السبعة الأبيات التي قفلت عليه لا تنفع شيئاً، فيكون ذلك حجة عليها في نبوته. وقوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ}، العفريت النافذ في الأمور المبالغ فيها الذي معه خبث ودهاء، وفيه لغات:(8/5429)
عفريت وعفرية وعفر وعفارية.
وقرأ أبو رجاء: قال: " عفرية " وجمع عفرية على عفار وجمع: عفريت على عفاريت، وإن شئت عفار لأن التاء زائدة كما تقول في طاغوت طواغ، وإن شئت عوضت فقلت عفاري.
/ قال مجاهد: عفريت من الجن: أي ما ورد من الجن.
وقال قتادة ومعمر: داهية من الجن.
وقيل: عفريت: رئيس من الجن.
قال وهب: كان اسم العفريت: كودتا.(8/5430)
وعن ابن عباس: أنه صخر الجني. فالمعنى: قوي على حمله، أمين على فرج هذه.
وعن ابن زيد: نحوه.
وقوله {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ}، قال مجاهد: مقعدك الذي تقضي فيه.
وقال قتادة: يقال مقام ومقامة: للمكان الذي يقام فيه قيل: كان سليمان يجلس للناس إلى وقت نصف النهار، ثم يقوم إلى عبادة ربه، وإلى أهله.
قال ابن عباس: كان من قوة العفريت حين وصف نفسه بالقوة: أنه كان يضع قدمه حيث ينال طرفه، فقال سليمان: أنا أحب أعجل من ذلك: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} قيل: هو جبريل عليه السلام. وقيل هو سليمان نفسه.
وذهب ابن وهب: أنه الخضر.
وقيل: هو أصف بن برخيا.(8/5431)
وقوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}، أي لقوي على حمله: أمين على ما فيه من الذهب والجوهر لا أخون فيه.
وعن ابن عباس: أمين على فرج المرأة.
ثم قال: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، أي قال الإنسي الذي عنده علم من كتاب الله جلّ ذكره.
قال مجاهد: فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم.
قال الزهري: دعا الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت: إيتني بعرشها. قال: فتمثل له بين يديه.
قال قتادة: كان اسمه يلجا.(8/5432)
وقيل: كان اسمه آصف بن برخيا.
وقال النخعي: هو جبريل صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو سليمان نفسه. ودل على ذلك قوله: {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي}. ومعنى: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، أي قبل أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك، أي قبل أن يأتيك أقصى ما ترى.
وقال وهب معناه: أنا آتيك به قبل أن تمتد عينك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى آتيك فأمثله بين يديك فدعا فغاص العرش تحت الأرض ثم نبع إليه.
وقال وهب: توضأ آصف، وركع ركعتين، ودعا فنبع السرير من تحت الأرض، فقال سليمان: {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي}، أي هذا النصر من فضل ربي ليختبرني أشكر أم أكفر، ومن شكر فلنفسه يشكر، لأن النفع إليه يرجع، ومن(8/5433)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
كفر فإن ربي غني عنه، ونفسه ظلم. كريم أي تفضل على من كفر ويرزقه.
قال مالك: كانت باليمن وكان سليمان بالشام.
وروى ابن وهب عن ابن لهيعة قال: بلغني أن الذي قال لسليمان {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أنه الخضر.
قال الأعمش: قال الذي عنده علم من الكتاب لا إله إلا أنت رب كل شيء إيتني به. قال: فإذا هو بين يديه.
قوله تعالى ذكره: {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي}.
أي قال سليمان لما أتي بالعرش وقدمت إليه بجندها: غيروا سريرها. قاله قتادة.
قال ابن عباس: زيد فيه ونقص منه. وقال الضحاك.
" ننظر أتهتدي " أي ألها عقل تهتدي به إلى عرشها، أم لا تهتدي إليه؟.(8/5434)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
قال الفراء: كان الشياطين قد قالوا لسليمان: إنها لا عقل لها، وإن رجلها كحافر حمار، فأراد أن يعرف صحة ذلك، فغير السرير وصنع الصرح من زجاج تحته ماء فيه حيتان.
وقيل: المعنى ننظر أتهتدي لهذه العظمة التي أتت بسريرها مع عظمه وبعد موضعه، وأن الناس لا يتهيأ لهم حمل مثله، فتعلم أنه لا يأتي به إلا نبي من عند الله، فتدع الضلالة وترجع إلى الإيمان بهذه المعجزة التي رأتها من حمل سريرها من موضعه، وهي لا تشعر به ولا قومها، أم تكون من الذين يجهلون ذلك.
قال: {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}، أي فلما جاءت بلقيس سليمان أخرج لها العرش، وقال لها: أهكذا عرشك؟ فشبهته به وقالت: / {كَأَنَّهُ هُوَ}، ولم تقطع أنه هو، لأنها تركته خلفها وغلقت عليه الأبواب.
وقوله تعالى {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا}، هذا خبر من قول سليمان، أي قال سليمان: وأعطينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء جل ذكره من قبل هذه المرأة(8/5435)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}، من قبلها، قاله مجاهد وغيره.
وقيل: العلم هنا التوحيد.
قال: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله}، أي وصدها عبادتها الشمس من دون الله عن أن تعلم ما علمنا، وعن أن تسلم " فما " في موضع رفع بفعلها على هذا التقدير.
وقيل: المعنى: وصدها الله أو وصدها سليمان عما كانت تعبد. ثم حذفت " عن " فتعدى الفعل إلى " ما " في موضع نصب على هذا التقدير، ومثله في الحذف ما أنشد سيبويه:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت ... مواليها لئيماً صميمها
أي عن عبد الله.(8/5436)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
وقرأ ابن جبير: " أنها كانت " بفتح أن وموضعها نصب على البدل من " ما " على مذهب من جعل " ما " في موضع نصب، ويجوز أن تكون في موضع نصب على حذف اللام، وفي موضع خفض على إرادة اللام. وهو قول الكسائي. وفي موضع رفع على البدل من " ما " على مذهب من جعل " ما " في موضع رفع.
والوقف لمن كسر " إن " {مِن دُونِ الله}، ومن فتحها وقف على {كَافِرِينَ}.
قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح}، قال وهب بن منبه: أمر سليمان بالصرح فعملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً، ثم أرسل الماء تحته، ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعطفت عليه الطير، والجن، والإنس.
وقيل: إنه ألقى في الماء الحوت، فنظرت إلى ماء فيه حوت على ظهره سرير، ولم تر الزجاج لصفائه، فرفعت ثيابها، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء إلى سليمان.
فقيل: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ}، أي من زجاج، والممرد: الأملس، ومنه الأمرد.(8/5437)
وقيل: إنما فعل ذلك ليختبر عقها بذلك على نحو ما اختبرته يعني في توجيهها إليه الوصائف والوصفاء، ليميز بين الذكور والأناث يعاتبها بذلك.
فقال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً أعز من ملكها، وسلطاناً أعظم من سلطانها. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا}، لا تشك أنه ماء تخوضه، فقيل لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ}، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعابها في عبادة الشمس من دون الله، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت، وسجد معه الناس، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع رأسه قال: ويحك ما قلت؟ فأنسيت ما قالت، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين}، فحسن إسلامها.(8/5438)
وقيل: إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح، لأن الجن خافت سليمان أن يتزوجها، فأرادوا ان يزهدوه فيها فقالوا: إن رجلها رجل حمار، وإن أمها كانت من الجن. فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجن به. قاله محمد بن كعب القرظي.
وقال: إن سليمان لما عمل له الصرح سخر فيه دواب البحر: الحيتان والضفادع، فلما نظرت إلى الصرح، قالت: ما وجد ابن داود عذاباً يقتلني به إلا الغرق. فحسبته لجة وكشفت عن ساقيها، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً. قال: فضن سليمان بساقيها عن الموسى، فأحدثت النورة لذلك السبب لسيلمان.
قال مجاهد: والصرح: بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير(8/5439)
ألبسها إياه.
قال: وكانت بلقيس هلباء شعراء قدمها كحافر حمار وأمها جنية.
وعن ابن عباس قال: سمعت الجن بشأن بلقيس فوقعوا فيها عند سليمان ليكرهوها إليه، وخافوا أن يتزوجها، فتظهره على أمورهم، وكانت تعلم ذلك لأن أحد / أبويها كان جنياً. فقالوا: أصلح الله الملك إن في عقلها شيئاً، ورجلها كحافر حمار، فلما قالوا له ذلك، أراد أن يرى عقلها، ويرى قدميها، فأمر بالصرح وأجرى تحته الماء وجعل فيه الضفادع والسمك، وأمر بعرشها فزيد فيه ونقص منه، فلما نظرت إليه جعلت تعرف وتنكر، وقالت في نفسها: من أين تخلص إلى عرشي، وهو تحت سبعة أبواب والحرس حوله؟ فلم تعرف ولم تنكر وقالت {كَأَنَّهُ هُوَ} فقيل لها {ادخلي الصرح}، إلى القصر فظنته ماء، وكشفت عن ساقيها لتخوض(8/5440)
الماء إلى سليمان، فرأى سليمان أحسن ساق بخلاف ما قيل له فيها.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنياً ".
ومعنى: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً}، أي لما رأت الماء تحت الزجاج الأبيض، ودواب الماء تحته، ظنته لجة بحر وكشفت عن ساقيها لتخوض إلى سليمان.
قال مجاهد: لما كشفت عن ساقيها، فإذا هما شعراوان فقال سليمان: ألا شيء من يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، قال الموسى له أثر، فأمر بالنورة، فصنعت، فكان أول من صنع النورة.(8/5441)
وقيل: إنه لما تزوجها قالت له: إني لم يمسني حديد قط، فعملت النورة.
ومعن: " ممرد " أي مشيد.
{مِّن قَوارِيرَ}، أي من زجاج.
وقيل: الصرح: القصر.
وقيل الصحن: هو ساحة الدار.
وأصل الممرد: الأملس. ومنه: الأمرد، ومنه قولهم: شجرة مرداء: إذا سقط عنها ورقها.
وقيل: الممرد: الطويل. ومنه قيل لبعض الحصون: مارد. ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}.
وقد تقدمت قصة صالح في مواضع، فأغنى عن إعادتها.(8/5442)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
وقوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}، إنما جمع لأن كل فريق جمع، ويجوز يختصمان، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما دعاهم صار قومه فريقين يختصمون: مؤمن وكافر، ومصدق له ومكذب يختصمون في أمره فيما جاءهم به.
قوله تعالى ذكره: {قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة}،
أي قال صالح لقومه: لم تستعجلون بعذاب الله قبل رحمته؟.
قال مجاهد: وقيل السيئة: العذاب، والسنة: العافية، وهذا يدل على أنه طلبوا منه أن يحل بهم العذاب الذي توعدهم به، واستعجلوه لوقوعه أنهم تكذيباً منهم للعذاب، ولما جاءهم به.
قوله: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} أي هلا تسألون الله المغفرة من كفركم ليرحمكم.
قال تعالى: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ}،. أي قالت ثمود لصالح(8/5443)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
تشاءمنا بك وبمن معك لما يصيبنا من القحط والشدة، وقلة نماء الأموال، وذلك من اتباعك، فقال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِندَ الله}، أي ما يصيبكم مما تكرهون عند الله علمه، ومن عند الله يأتيكم.
قال قتادة: معناه: علمكم عند الله.
وقال الفراء: عند الله، ومعناه: أي في الوح المحفظ ما يصيبكم. مثل: قوله {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 19]، أي ما يصيبكم من خير وشر لازم لكم في رقابكم.
وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، أي تختبرون، أي يختبركم ربكم برسالتي إليكم، فينظر طاعتكم له فيما بعثني به إليكم.
قال تعالى: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ}، أي كان في مدينة قوم صالح تسعة أنفس {يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ}، أي يكفرون بالله ولا يؤمنون به، وخص هؤلاء بالذكر، وقد علم أم جميعهم كافرون، لأنهم هم الذين سعوا في عقر الناقة، وتعاونوا عليها، وتحالفوا على قتل صالح من بين ثمود.(8/5444)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
قال ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً وما لنا به علم، فدمرهم الله أجمعين.
قال عطاء بن أبي رباح: بلغني عنهم أنهم / كانوا يقرضون الدراهم.
وقال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون، ويأمرون بالفساد، فجلسوا تحت صخرة عظيمة على نهر، فقلبها الله عليهم فقتلهم.
قال تعالى: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ}، أي تحالفوا كأنه أمر بعضهم بعضاً أن يتحالفوا بالله، ويجوز أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في معنى الحال والتقدير: قالوا: متقاسمين بالله، والمعنى: قال تسعة الرهط: تحالفوا بالله أيها القوم،(8/5445)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
أي ليحلف بعضكم بعضاً لنبيتن صالحاً الليلة، وأهله فلنقتلنه {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ}، أي ولي دمه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.
قال مجاهد: تحالفوا على إهلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا هم وقومهم أجمعون.
قال أبو إسحاق: قال التسعة الرهط الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً أي فيما يوعدنا به من العذاب بعد الثلاث عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته. فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم متشادخين قد رضخوهم بالحجارة.
وقوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، أي نقول لوليه: وإنا لصاقون أنا ما شهدنا مهلك أهله.
أي مكر هؤلاء التسعة بسيرهم إلى صالح ليلاً ليقتلوه، وصالح لا يشعر بذلك. {وَمَكَرُواْ مَكْراً} أي فأخذناهم بالعقوبة وهم لا يشعرون بمكر الله. فالمعنى: ومكروا مكراً بما عملوه، ومكرنا مكراً أي جازيناهم على مكرهم.
وقيل: مكر الله بهم هو: إعلامه لصالح ومن آمن به بهلاكهم، وأمره لهم بالخروج من بين أظهرهم، ففعلوا، وأخذ العذاب الكفار دون غيرهم.(8/5446)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
وقيل: المكر من الله الإتيان بالعقوبة المستحقة من حيث لا يدري العبد.
وقيل: المكر من الله: أخذه من أخذ منهم على غرة وغفلة.
قال إبراهيم بن عرفة: المكر من المخلوقين هو إظهار غير ما في النفوس ليوقعوا الحملة، ويبلغوا ما يريدون، والمكر من الله إظهار النظرة وترك العقوبة عاجلاً حتى يأخذه على غرة. ألم تسمع إلى قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182] أي أطيل لهم المدة.
روي في خبر صالح مع قومه: " أنهم قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه، ومن أهله قبل ثلاث. وكان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فخرجوا إلى كهف وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صخرة من أهضب جبالهم فخشوا أن تشدخهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم في ذلك، فلا يدر قومهم أين هم؟ ولا يدرون ما فعل بقومهم؟ فعذب الله هؤلاء هنا، وهؤلاء هنا، وأنجى صالحاً ومن معه.
قال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}، أي فانظر يا محمد بعين قلبك إلى عاقبة غدر ثمود لنبيهم صالح كيف كان.
{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ}، أي أهلكناهم وقومهم أجمعين.(8/5447)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
ومن فتح {أَنَّا} ففيه خمسة أوجه:
الأول: أن يقدر اللام معها ثم يحذفها فتكون " أن " في موضع نصب على حذف حرف الجر منها.
الثاني: أن تكون " أن " في موضع رفع بدل من عاقبة، وكيف خبر كان في الوجهين.
الثالث: أن تكون في موضع نصب على خبر كان: أي كيف كان عاقبة مكرهم، تدميرهم، وتكون " كيف " ظرفاً عمل فيه جملة الكلام بعده، كما تقول: اليوم كان زيد منطلقاً.
الرابع: أن تكون " أن " فيوضع رفع على إضمار مبتدأ للعاقبة والتقدير للعاقبة والتقدير هي إنا دمرناهم.
الخامس: ذكره الفراء: أن يجعل " أن " بدلاً من كيف، وهذا الوجه بعيد.
فأما من كسر " إنا " فإنه يجعل " كيف ": خبر كان و " عاقبة " اسم كان / ثم يستأنف فيكسر.
قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا}، خاوية نصباً على الحال، ويجوز الرفع من خمسة أوجه:
الأول: أن ترفع " تلك " بالابتداء " وبيوتهم " بدل من تلك " وخاوية " خبر الابتداء.(8/5448)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
والثاني: أن ترفع " تلك " بالابتداء و " خاوية " و " بيوتهم " خبر ثاني عن الابتداء كما يقال هذا حلو حامض.
الثالث: أن ترفع " خاوية " على إضمار مبتدأ: أي هي خاوية.
الرابع: أن تجعل " خاوية " بدلاً من بيوتهم كأنك قلت: فتلك خاوية.
الخامس: أن تقدر في بيوتهم الانفصال، فتجعل خاوية نعتاً للبيوت تقديره فتلك بيوت لهم خاوية.
والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية منهم ليس فيها منهم أحد، قد أهلكوا بظلم أنفسهم. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، أي إن في فعلنا بثمود ما قصصنا عليك لعظة لمن يعلم.
وروي: أن بيوتهم هذه المذكورة: هي بوادي القرى: وهو موضع بين المدينة والشام معروف.
أي أنجينا من عذابنا، ونقمتنا التي حلت بثمود صالحاً والمؤمنين به، وكانوا يتقون العذاب والنقمة، فآمنوا خوفاً من ذلك، فكذلك ننجيك يا محمد، ومن آمن بك عند حلول عقوبتنا بمشركي قومك.
وروي: أن صالحاً صلى الله عليه وسلم لما أحل الله تعالى ذكره بقومه ما أحل من العذاب، خرج هو والمؤمنين به إلى الشام فنزل رملة فلسطين.
قال: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة}، أي واذكر لوطاً وإن(8/5449)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
شئت، وأرسلنا لوطاً: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} يعني نكاح الرجال في أدبارهم. {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}، أي تبصرون أنها فاحشة، إذ قد علمتم أنه لم يسبقكم إلى من تفعلون أحد. {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال}، أي في أدبارهم شهوة منكم لذلك، من دون فروج النساء التي أباح الله لكم بالنكاج {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، أي تجهلون حق الله عليكم فخالفتم أمره.
قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ}، أي فلم يكن جواب قوم لوط له لما نهاهم عن نكاح الرجال، إلا قول بعضهم لبعض: {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، عما نفعله نحن من إتيان الذكران. قال ابن عباس: أي يتطهرون من إتيان النساء والرجال في أدبارهم. وقاله مجاهد.
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا}، يعني أنجاهم من العذاب. {إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا}، أي جعلناها بتقديرنا {مِنَ الغابرين}، أي من الباقين في العذاب. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً}، أي حجارة من السماء، أي(8/5450)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
أمطرنا الحجارة على من لم يكن حاضراً في المدائن المنقلبة على من فيها منهم. {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} أي فساء المطر مطر القوم الذين أنذرهم الله عقابه على معصيتهم إياه.
قال: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} أي قل يا محمد الحمد لله.
وقال الفراء معناه: قل يا لوط الحمد لله على هلاكهم. {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} والقول الأول أحسن لأن القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم نزل، فهو المخاطب والمعنى: قل يا محمد لله على نعمه وتوفيقه لكم. {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ}، أي وأمنه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط، وصالح، على عباده الذين اجتباهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم له أصحاباً ووزراء على الذين الذي بثه بالدعاء إليه.
قال ابن عباس: {على عِبَادِهِ الذين اصطفى}، أصحاب محمد عليه السلام وقاله الثوري.(8/5451)
ثم قال: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أجاز أبو حاتم تحقيق الهمزتين في " ءالله " ولم يوافقه على ذلك أحد، والمعنى: أثواب الله خير أم ثواب ما تشركون؟
وقيل: " خير " هنا ليست أفعل. والمعنى: الله ذو خير ما تشركون؟ وقيل: إنما أتى هذا لأنهم كانوا يعتقدون، ويظنون أن في عبادة الأصنام خيراً، وفي عبادة غيرها شراً، فخوطبوا على ما كانوا يظنون، ويعتقدون، لا على غير ذلك.
وقيل: المعنى الخير في هذا الذي تشركونه به في العبادة.
وحكى سيبويه: الشقاء أحب / إليك أم السعادة؟ وهو يعلم أن السعادة أحب إليه.
وقيل: لفظ الاستفهام في هذا مجاز، ومعناه التبيين لهم أن الله خير لهم مما يشركون به من الأصنام، وهذا النص يدل على أن الدعاوى في الديانات لا تصح إلا ببرهان وحجة تدل على صحة ذلك، ولو كان الأمر على غير ذلك لم يطلب(8/5452)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
من هؤلاء برهان وحجة على ما يدعون.
والمعنى: عند الطبري: قل يا محمد للمشركين، الله الذي أنعم على أوليائه بالنعم التي قصها عليكم: {خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} من أوثانكم التي لا تنفعكم، ولا تضركم، ولا تدفع عن أنفسها، ولا عن أوليائها شراً، ولا تجلب نفعاً.
قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}، أي أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض فهو مردود على ما قبله على المعنى الذي تقدم ذكره. وفيه معنى التوبيخ، والتقريع لهم، وفيه أيضاً معنى التنبيه على قدرة الله، وعجز آلهتهم، وكذلك معنى ما بعده في قوله " أمن "، " أمن " هو كله مردود على الله {خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وفيه من المعاني ما ذكرنا من التوبيخ، والتقريع، والتنبيه فافهمه كله.(8/5453)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
والحدائق: جمع حديقة وهي البستان عليه حائط محوط، فإذا لم يكن عليه حائط فليس بحديقة.
وقال قتادة: هي النخل الحسان.
قال عكرمة: الحدائق: النخل، والبهجة: الزينة والحسن.
ثم قال: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا}، أي لم تكونوا قادرين على إنبات شجرها، لولا ما أنزل الله من الماء {أإله مَّعَ الله}، أي أمعبود مع الله خلق ذلك؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، أي يعدلون عن الحق ويجورون على عمد منهم لذلك، ويجوز أن يكون المعنى: بل هو قوم يعدلون بالله الأوثان.
قال: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً}، أي أعبادة ما تشركون خير أم عبادة من جعل الأرض قراراً أي تستقرون عليها لا تميد بكم. {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً}، أي وجعل بين أبنيتها أنهاراً. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}، وهي الجبال. {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} أي بين الملح والحلو، لئلا يفسد أحدهما صاحبه.
{أإله مَّعَ الله}، أي أمعبود يعبد مع الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي(8/5454)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
لا يعلمون قدر عظمة الله جل ذكره، وما عليهم من الضرر في إشراكهم مع الله غيره.
قال: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوء}، أي أعبادة ما تشركون خير أم عبادة من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به.
قال ابن جريج: السوء: الضر
ثم قال تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض}، أي سيتخلفكم بعد أمواتكم في الأرض {أإله مَّعَ الله}، أي أمعبود مع الله {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}، أي قليلاً ما تذكرون عظمة الله، وقبيح ما تفعلون.
قال تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر}، أي أعبادة أوثانكم خير، أم عبادة من يهديكم في ظلمات البر والبحر، إذا ضللتم فيهما الطريق، وخفيت عليكم السبيل فيهما. {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً} أي يرسلها حياة للأرض {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، أي قدام الغيث الذي يحيي الأرض.(8/5455)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
ثم قال: {أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي أمعبود مع الله، تعالى الله عن شرككم به.
قال تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ}، أي أعبادة أوثانكم خير أم عبادة من يبدأ الخلق من غير أصل، ثم يفنيه، ثم يعيده إذا شاء كهيئته {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض}، أي بالبعث والنبات.
{أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي إن زعمتم أن مع الله إلها غيره يفعل ذلك، فقل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم على ذلك، ودليلكم عليه إن كنتم صادقين في دعواكم.
وقد وقعت أمن في السواد موصولة، وكان حقها أن تكون مفصولة، ولكن كتبت على لفظ الإدغام.
قوله تعالى ذكره: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله}،
أي قل يا محمد لمن سألك عن الساعة متى هي: لا يعلم غيبها إلا الله.
وعن عائشة أنها قالت: " من زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم الله(8/5456)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
الفرية، والله يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} الآية.
وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} ويقول:
{عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ}.
ثم قال: {وَمَا يَشْعُرُونَ / أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، أي لا يدري أحد متى يبعث لقيام الساعة.
قال تعالى: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة}، أي بل تكامل علمهم في الآخرة، أي يتكامل ذلك يوم القيامة، والماضي بمعنى المستقبل، فالمعنى: أنهم يتكامل علمهم بصحة الآخرة، إذا بعثوا وعاينوا الحقائق. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} يعني في الدنيا لأنهم إذا بعثوا وعاينوا الحقائق يوم القيامة، رأوا كل ما وعدوا به معاينة.
وقيل المعنى: يتابع علمهم اليوم بعلم الآخرة. وفي: بمعنى الباء، ومن قرأه: إدرك على وزن إفعل: فمعناه: كمل في الآخرة كالأولى.(8/5457)
وقيل: معناه: الإنكار، فدل ذلك قوله: {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}، وقيل: المعنى بل إدارك علمهم بالآخرة فأيقنوا بها، وعلموها حين لم ينفعهم يقينهم بها، إذ كانوا بها في الدنيا مكذبين. وقاله ابن عباس وهو اختيار الطبري. في معنى هذه القراءة.
وعن ابن عباس: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أي غاب علمهم، وقال ابن زيد: ضل علمهم في الآخرة. أي بالآخرة: فليس لهم فيها علم هم منها عمون.
وقال قتادة: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ} أي لم يبلغ لهم فيها علم، وقال مجاهد: {بَلِ ادارك} معناه: إم إدارك.
وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا}، أي هؤلاء المشركون في شك من الآخرة لا يوقنون بها. {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}، أي بل هم من العلم بقيامها عمون.(8/5458)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
وعن ابن عباس: أنه قرأ " بل أدارك " بلفظ الاستفهام وبلى بالألف، وفيها بعد عند النحويين، لأن بلى إيجاب، والاستفهام في هذا الموضوع إنكار.
وقرأ ابن محيصن: بل بغير ألف أدارك بالاستفهام، وفيها أيضاً بعد. ومعنى الاستفهام هما: التوقيف، وتقديرها: أدرك علمهم في الدنيا حقيقة الآخرة لم يدرك.
وفي حرف أبي: " بل تدارك " أتى به على الأصل ولم يدغم التاء في الدال.
قال: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ}، أي قال(8/5459)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
الكافرون بالله المنكرون للبعث: أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل محمد، فلم نر لذلك حقيقة.
{إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي ما هذا الوعد إلا ما سطره الأولون من الأحاديث في كتبهم، والعامل في إذ فعل مضمر، والتقدير: أنبعث إذا كنا تراباً.
قال تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض}، أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من أخبار الأمم قبلهم: سيروا في الأرض فانظروا آثار من كان قبلكم من المكذبين رسل الله مثل ما كذبتم أنتم، واعتبروا بهلاكهم، وقطع آثارهم، واحذروا أن يحل عليكم بتكذيبكم إياي مثل ما حل عليهم.
قال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، أي لا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المشركين عنك وكفرهم بما جئتهم به {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}، أي لا يضيق صدرك يا محمد عن مكرهم بك، فإن الله ناصرك عليهم، ومهلكهم قتلاً بالسيف.
ثم قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي يقول مشركو(8/5460)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
قومك يا محمد: متى يأتي هذا الوعد الذي تعدنا به من العذاب الذي يحل بنا على ما تقول؟ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، في ما تعدنا به.
قال: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} أي قل يا محمد لهم: عسى أن يكون اقترب لكم ودنا بعض الذي تستعجلون من عذاب الله.
وقال ابن عباس: ردف لكم: اقترب لكم.
وقال مجاهد: أعجلكم. وعنه أيضاً: أزف لكم، وهو قوله الضحاك.
وقال أبو عبيدة: جاء بعدكم، وهو من ردفه: إذا جاء في إثره.
وقيل: تقدير الآية: قل يا محمد: عسى أن يكون بعض الذين تستعجلون ردف لكم لأنه ليس من الجائز أن يلي فعل فعلاً.
وقيل: إن بعد يكون إضمار القصة، أو الحديث وشبهه. و " بعض " مرفوع بردف، ودخلت اللام في ردف لكم حملاً على المعنى لأن معناه: اقترب لكم ودنا لكم.(8/5461)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
وقيل: هي زائدة. والمعنى: ردفكم.
وقيل: هي متعلقة بمصدر ردف.
ثم قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}. أي لذو فضل عليهم بتركه معاجلتهم بالعقوبة على / معصيتهم، وكفرهم به. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}، أي لا يشكرون نعمه عندهم، بل كثير منهم يشركون معه في العبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ولا فضل له عندهم ولا إحسان. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}، أي ما يضمرون فيها، {وَمَا يُعْلِنُونَ}. أي وما يظهرون، فهو يعلم الخفي والظاهر.
أي وما من مكتوم وخفي أمر في السماء والأرض {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يعني في أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من لدن ابتداء الخلق إلى يوم القيامة.(8/5462)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
قال ابن عباس: معناه: ما من شيء في السماء والأرض سراً وعلانية إلا يعلمه.
أي يخبرهم بالحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، وفي غير ذلك، كاختلافهم في عيسى ونحوه.
أي وإن القرآن لبيان من الله ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه.
قال تعالى: {إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ}، أي يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه، فينتقم من المبطل، ويجازي المحسن، وهو العزيز في انتقامه العليم بالمحق منهم والمبطل. ثم قال تعالى ذكره: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله}، أي ثق به في جميع أمورك {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين}، أي الظاهر.(8/5463)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
قوله تعالى ذكره: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء}.
المعنى: إنك يا محمد لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلبه فأماته، ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصم الله سمعه {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} أي إذا هم أدبروا معرضين عنه، فأما قراءة ابن كثير " ولا يسمع " بالياء " الصم " بالرفع، فمعناها: ليس يسمع الصم الدعاء في حال إعراضهم، وتوليتهم عنه.
قال: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ}، أي وما أنت يا محمد بهادي من أعماه الله جل ذكره عن الهدى فجعل على بصره غشاوة {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا}، أي ما يقدر أن يفهم الحق أحد إلا من يصدق بآياتنا {فَهُم مُّسْلِمُونَ}.
قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم}، أي إذا وجب على المختلفين من بني إسرائيل والمشركين من العرب وغيرهم، غضب من الله جل ذكره، إذا لم يكن في علم الله منهم راجع عن كفره، ولا تائب من ضلاله(8/5464)
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ}. أي تخبرهم وتحدثهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري وطلحة: {تُكَلِّمُهُمْ} بفتح التاء وتسكين الكاف من كلمه إذا جرحه أي تسمهم.
قال مجاهد: وقع القول: حق القول.
وقال قتادة: وجب القول.
وقال ابن جريج: القول: العذاب.
وقال قتادة: القول: الغضب.
وخروج الدابة في قول جماعة من العلماء، إنما يكون حين لا يأمر الناس بمعروف، ولا ينهون عن منكر.(8/5465)
قال ابن عمر وغيره: وخروجها والله أعلم بعد خروج الدجال، لأن الدجال يخرج فيفتتن الناس به إلا من شاء الله، ثم يقتله عيسى ابن مريم، وتصير الأديان ديناً واحداً وهو الإسلام، ثم تحدث الحوادث، وتتغير الأمور بعد موت عيسى عليه السلام، فتخرج الدابة فتسم الكافر بسواد في وجهه، والمؤمن ببياض في وجهه.
وقد قال الضحاك - في صفة الدجال: إنه وافر الشارب، لا لحية له رأسه كالقلة العظيمة طول وجهه ذراعان، وقامته في السماء ثمانون ذراعاً، وعرض ما بين منكبيه ثلاثون ذراعاً، ثيابه، وخفاه، وسيفه وسرجه، ولجامه: بالذهب والجوهر على رأسه تاج مرصع بالذهب والجوهر، في يده طبرزين هيئته هيئة المجوس، قوسه الفارسية، وكلامه بالفارسية، تطوى له(8/5466)
الأرض ولأصحابه طياً طياً، يطأ مجامعها، ويرد مياهها إلا المساجد الأربعة: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد بين المقدس، ومسجد الطور، فخروج الدابة هو آخر الآيات / وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] وهو خروج الدابة.
وروي أنه ترفع عند ذلك التوبة، وتخبر الكافر أنه كافر، والمؤمن أنه مؤمن.
وروي: أنه يجعل الله لها من الطول ما تشرف به على الناس(8/5467)
لتكلمهم بكلام يفهمونه، ويسمعونه، وتخبرهم أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، وينغلق عند ذلك باب العمل ويجهل فلا ترى عالماً بالدين، ويحصل كل امرئ على ما قدم من خير أو شر. وهو معنى قوله: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} أي وجب عمله كل امئ لنفسه إن خيراً فخير. وإن شراً فشر.
قال ابن عمر: تخرج الدابة من صدع في الصفا.
وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تخرج الدابة من أعظم(8/5468)
المساجد حرمة على الله، بينما عيسى بن مريم يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم، تحرك القنديل، وينشف الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يبدو رأسها، ملصقة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب ولا يفوتها هارب، تسم الناس مؤمن وكافر، أما المؤمن فتترك زجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه نكتة بيضاء مؤمن، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء كافر ".
روى أو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتختم أنف الكافر بخاتم، ثم إن أهل الدار يجتمعون فيقولون هنا يا مؤمن ويقول هنا يا كافر ".
وقد كثرت في ذلك الأخبار عن حذيفة وابن عمر كلها ترجع إلى معنى هذا الحديث.(8/5469)
ويروى أن موسى صلى الله عليه وسلم: " سأل الله تعالى أن يريه الدابة، فمكث ثلاثة أيام، وثلاث ليال لا يظهر منها إلا رأسها، وعنقها، وظهرها ".
وعن ابن عمر أنه قال: تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب، ورجلاها في الأرض ما خرجتا، فتمر بالإنسان يصلي فتقول: ما الصلاة من حاجتك فتخطمه، قال: وتخرج ومعها خاتم سليمان وعصا موسى. فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان فيسود، وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيض.
قال ابن عباس: هي والله تكلمهم وتكلمهم، تكلم المؤمن وتكلم الكافر.(8/5470)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
قال تعالى ذكره: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً}، أي واذكر يا محمد يوم نحشر من كل قرن وملة فوجاً، أي جماعة منهم وزمرة {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا}، أي يجحدها {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على آخرهم فيجتمع جميعهم ثم يسافرون إلى النار.
قال ابن عباس: يوزعون: يدفعون.
قال مجاهد: يحبس أولهم على آخرهم.
وقال قتادة: لهم وزعة: ترد أولهم على آخرهم.
قال تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي}، أي جاء الأفواج واجتمعوا، قال لهم الله جل ذكره: {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي}، أي بحججي وأدلتي {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً}، أي ولم تعرفوها حق معرفتها أماذا {كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيها من تصديق أو تكذيب. وقوله: {وَلَمْ تُحِيطُواْ}، معطوف(8/5471)
على {أَكَذَّبْتُم} فيه معنى التوبيخ والتقدير. على معنى: {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} " أي أكذبتم بها وقد أحطتم بها علماً، لأن الألف إذا دخلت على النفي نقلته إلى الإيجاب بمنزلة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 7] أي قد شرحناه لك، ودل على حذف الألف من ولم تحيطوا. قوله: " أما ذا كنتم ". ولو لم تقدر الألف ويجري على معنى الإيجاب الذي أصله النفي وردته الألف إلى الإيجاب لكان ذلك عذراً لهم إنهم إنما كذبوا لما لم يحيطوا بعلمها، وليس الأمر كذلك بل كذبوا بعد إحاطتهم بعلمها ونزولها، والدعوة إلى الإيمان بها.
وقد قيل إنه لا إضمار ألف في هذا، والمعنى: أنهم كذبوا وهم غير محيطين(8/5472)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
بالعلم وبالآيات، ودليله قوله: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] فإذا أجريته على هذا المعنى: كانت " أم " عديلة الألف في " أكذبتم " فإذا أجريته على المعنى الأول كانت " أم " عديلة الألف المحذوفة في " أولو " ودالة عليها، ومعنى الكلام: التقريع، والتوبيخ، والتقدير على ما قدموا، ولفظه لفظ الاستفهام، ومعناه على غير ذلك.
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل / لِيَسْكُنُواْ فِيهِ}، أي ألم ير هؤلاء المكذبون تصريف الله جل ذكره الليل، والنهار، وجعله الليل يسكنون فيه، أي يهدءون فيه لراحة أبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهاراً.(8/5473)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
ثم قال {والنهار مُبْصِراً}، أي مضيئاً يبصرون الأشياء فيه، ويتقلبون فيه لمعاشهم، فيعلموا أن مصرف ذلك هو الإله الذي لا يعجزه شيء أراده.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي إن في تصرف الليل والنهار لعلامات ظاهرة لقوم يؤمنون بالله وقدرته.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور}، أي واذكر يا محمد يوم نفخنا في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل.
روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هو قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهو الذي ذكر الله في قوله:(8/5474)
{وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي ما لها من راحة فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترتج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول:
{يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة} فتكون الأرض كالسفينة المرنقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها أو كالقنديل المعلق بالوتر ترجحه الأمواج فيميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين يوالي بعضهم بعضاً وهو الذي يقول:
{يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من(8/5475)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك، قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله عز وجل إذ يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} قال: أولئك الشهداء ".
وإنما يصل الفزع إلى الأحياء {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، ويجوز أن يكون العامل في " يوم ينطقون ". وقال مقاتل: إلا من شاء الله ": جبريل وإسرافيل، وميكائيل، وملك الموت صلى الله على جميعهم وسلم، ومعنى داخرين: صاغرين.
قال تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، أي وترى يا محمد الجبال يؤمئذ(8/5476)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
تحسبها جامدة.
قال ابن عباس: قائمة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب}، أي تسير سيراً حثيثاً مثل سير السحاب {صُنْعَ الله} أي صنع الله ذلك صنعاً.
وقيل: المعنى: انظروا {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، أي أحكمه وأوثقه.
ومن نصب {صُنْعَ الله} على المصدر لم يقف على السحاب، لأن الجملة دلت على الفعل العامل، ومن نصبه على انظروا نع الله، جاز الوقف على السحاب.
قال تعالى. {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، أي من جاء بالحسنة فله من ثواب الله ما هو خير من عمله، وله أفضل من ثواب عمله، لأن الله جل ذكره يعطي من الثواب فضلاً لا يستحقه العبد بعمله، زيادة منه وتفضلاً وإحساناً.
وقوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة}، أي بالسيئات التي فيها الشرك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار}، ولم يذكر زيادة لأنه تعالى إنما يعذبهم على قدر كفرهم.(8/5477)
وقيل: من جاء بالتوحيد والإيمان فله عند الله خير من أجل ما جاء به وهو الجنة.
{وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، من نون " فزعاً " فمعناه: أنهم آمنون من كل فزع؛ فزع ذلك اليوم، وفزع ما يخافون العقوبة عليه من أعمالهم السالفة.
ومن لم ينون فمعناه: وهم من فزع ذلك اليوم آمنون.
ثم قال تعالى. {وَمَن جَآءَ بالسيئة}، أي بالشرك / {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار}.
قال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك.
وقال قتادة: الحسنة: الإخلاص، والسيئة: الشرك.
قال عكرمة: كل شيء في القرآن، السيئة: فهو الشرك
قال علي بن الحسين: أنا في بعض خلواتي حتى رفعت صوتي، أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. قال: فرد علي رجل: ما تقول يا عبد الله؟ قال: قلت: أقول ما تسمع،(8/5478)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
قال: فها إنها الكلمة التي قال الله تعالى. {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}.
قال ابن عباس: {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، أي فمنها وصل إليه الخير.
وقال ابن زيد: أعطاه الله بالواحدة: عشراً فهدأ خير منها.
قال: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة}، أي قل ذلك يا محمد.
البلدة: مكة، والذي حرمها نعت للرب: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين}، أي أمرني ربي بذلك {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن}، أي وأمرني ربي بتلاوة القرآن. {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، أي من آمن بي نفع نفسه لدفعه عنها العذاب في الدنيا والآخرة. {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] أي ومن كفر بي وجحد نبوتي، وما جئت(8/5479)
به فإنما يضر نفسه، إذ يوجب لها العذاب والسخط عند الله بكفره وضلاله عن الهدى.
وقوله: {فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين}، أي إنما أنا ممن ينذر قومه عذاب الله وسخطه، وقد أنذرتكم ذلك. {وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}، أي وقل يا محمد لهؤلاء القائلين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين: الحمد لله على نعمه علينا، وفقنا للإيمان، وللإسلام الذي أنتم عنه عمون {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي آيات عذابه فتعرفونها أي يريكم علامات عذابه فتعرفونها، يعني في أنفسكم، وفي السماء، والأرض، والرزق.
ثم قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، أي وما ربك يا محمد بغافل عما يعمل هؤلاء المشركون، ولكن يؤخرهم إلى أجل هم بالغوه.
ومن قرأ بالتاء فجعل المخاطبة للمشركين.(8/5480)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القصص
مكية
قوله تعالى ذكره: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) [1]، إلى قوله: (كَانُوا خَاطِئِينَ) [7].
قد تقدم تفسير " طسم "، والمعنى هذه آيات الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد المبين: أنه من عند الله، لم تتقوله ولا تخرصته، وفي هذا إشارة إلى أن الله قد أعلم من قبل محمد من النبيين أنه سينزل على نبي كتاباً مبيناً، فذلك معنى الإشارة في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ}، أي هذه الآيات التي وعد الله أن ينزلها وكذلك ما شابهه مثله.(8/5481)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وقال قتادة: المعنى: المبين بركته ورشده وهداه.
وقيل: المعنى: المبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد عليه السلام.
يقال: أبان الشيء وبان.
قال تعالى: {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ}.
أي نقرأ عليك يا محمد رسولنا، ونقص عليك من خبر موسى وفرعون {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي لقوم يصدقون بهذا الكتاب، فيزدادون عند سماع ما لم يكونوا يعلمون تصديقاً وإيماناًَ ويعلمون أن من عاداك مصيره كمصير من عادى موسى.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض}، أي تجبر وتكبر، لم يرد علو مكان، وعلى ذلك ما وصف الله بالعلو، ليس هو علو مكان {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً}، أي فرقاً(8/5482)
يذبح طائفة، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين}، أي ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره بغير حق.
قال السدي: رأى فرعون في / منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه، يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه ذهاب مملكتك، وكان بنو إسرائيل لا يولد لهم غلام إلا ذبحه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة، فجعل بنو إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلهم غلمانهم، فذلك قوله: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً}(8/5483)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
وواحد الشيع: شيعة، وهي الفرقة التي يشيع بعضها بعضاً أي يعاونه.
قال أبو إسحاق: إنما فعل ذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن مولوداً يولد مع ذلك الحين يكون سبب زوال ملكه. فالعجب من حمق فرعون إن كان الكاهن عنده صادقاً فما يغني القتل، وإن كان كاذباً فما يصنع بالقتل.
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض}، يعني نبي إسرائيل الذين استضعفهم فرعون، فكان يذبح أبناءهم ويستحس نساءهم، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً، بالسبط الذي كان منهم موسى الذي كان فرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم. وهم سبط النبوة، وكان فرعون جعل على نساء ذلك السبط حفظة من النساء، فإذا حملت المرأة دونها عنده في الدواوين فإن وضعت ذكراً ذبحه، وإن وضعت أنثى تركها، وكان الكهان يأتون فرعون كل يوم فيخبرونه بما يرون في كهانتهم.
قوله: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي ولاة وملوكاً. {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين}، قال قتادة: يرثون الأرض من بعد فرعون وقومه.(8/5484)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض}، أي نوطئ لهم في أرض الشام ومصر. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ}، أي: نريهم زوال ملكهم على يد الرجل الذي قد حذروا أمره، وقتلوا الولدان من جهته، وهو موسى صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن وهب عن رجاله: أن فرعون ولي بني إسرائيل أربعمائة عام وأربعين عاماً، فأضعف الله ذلك لبني إسرائيل، فولاهم على آل فرعون بعده ثمانمائة عام وثمانين عاما. قال: وإن كان الرجل ليعمر ألف سنة في القرون الأولى، وما يحتلم حتى يبلغ عشرين ومائة سنة.
وروى ابن زيد عن أبيه، قال: كان في الزمان الأول يمر بالرجل أربعمائة سنة قبل أن يرى فيها جنازة. فقوله: {أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا} إلى قوله: {الوارثين} هو قوله: {مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}، فهذا هو الذي كان فرعون يحذر، كان يحذر أن يمن الله على الذين استضعفوا في الأرض عند فرعون، وأن يجعلهم أئمة، وأن يجعلهم الوارثين لأرض فرعون وملكه.(8/5485)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
قال تعالى ذكره: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، أي وقذفنا في قلب أم موسى، إذ ولدته أن ترضعه، وقيل: هي رؤيا رأتها.
قال السدي: أمر فرعون أن يذبح الأولاد من بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة فعلت بموسى في السنة التي يذبحون فيها الأولاد، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه فأوحى الله إليها أن أرضعيه. الآية.
قال ابن جريج: أمرت أن ترضعه ما أمنت عليه، فإذا خافت عليه ألقته في البحر.
فلما بلغ أربعة أشهر وصاح، وابتغى من الرضاع أكثره، ألقته حينئذ في(8/5486)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
اليم إذ خافت عليه.
وقال السدي: وضعته وأرضعته ثم دعت له نجاراً فعمل له تابوتاً، وجعلت مفتاح الثابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل.
ثم قال: {وَلاَ تَخَافِي}، أي لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه {وَلاَ تحزني} لفراقه. قال ابن زيد: لا تخافي البحر عليه، ولا تحزني لفراقه. {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ}، للرضاع فترضعيه أنت {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} أي باعثوه رسولاً إلى هذه الطاغية.
قال تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}، يعني التقطه من النيل جواري امرأة فرعون آسية. خرجن يغتسلن فوجدن التابوت، فأدخلنه إلى آسية، فوقعت عليه رحمتها وحنينها، فلما أخبرت به فرعون، أراد أن يذبحه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.
وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل /، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، ولذلك قال تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}.(8/5487)
وقال محمد بن قيس: كانت ابنة فرعون برصاء، فجاءت إلى النيل فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج، فأخذته ابنة فرعون، فلما فتحت التابوت، فإذا هي بصبي، فلما نظرت إلى وجهه برأت من البرص، فجاءت إلى أمها، وقالت: إن هذا الصبي مبارك، لما نظرت إليه برأت. فقال فرعون: هذا من صبيان بني إسرائيل، هلم حتى أقتله فقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ}.
وقال ابن إسحاق: وأجمع فرعون في مجلس له على شفير النيل، كان يجلسه على كل غداة فبينما هو جالس إذ مر النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا الشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه، حتى جاءوا به، ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه. قالت امرأته آسية: {لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}.(8/5488)
وحكى الكسائي: في تصغير آل: أويل والأكثر على رده إلى الأصل، فيقولون: أهيل وإذا أضيف إلى اسم صحيح ليس بموضوع لمعرفة ردوه إلى الأصل. فقالوا: هم أهل الرجل، وأهل المرأة. وكذلك إن أضافوا إلى مضمر أو إلى بلد. قالوا: هم أهلك، وأهل الكوفة، وقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}.
اللام لام كي، والمعنى أنه لما كان في علم الله أن يكون لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم إنما التقطوه لكي يصير لهم عدواً وحزناً، فصاروا كأنهم التقطوه لذلك، وإن لم يقصدوا ذلك إنما آل أمرهم إلى أن كان لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم التقطوه لذلك، ومثله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20]. لم يعرف إبليس أنهما إذا أكلا بدت لهما سوآتهما، ولا قصد لذلك إنما قصد ليوقعهما في الخطيئة، فبدت لهما سوآتهما عند مواقعة الخطيئة فصار كأنه فعل ذلك ليبدي لهما سوآتهما وإن(8/5489)
لم يكن قصده لذلك. وهي لام العاقبة ولام الصيرورة وهذا كما قال: " فللموت ما تلد الوالدة " لم تلد المولود ليموت ولا للموت، ولكن كانت العاقبة إلى الموت، تكون صارت كأنها ولدته لذلك والحُزن والحَزن لغتان، كالسُقم والسَقم.
وقيل: الحَزَن: الاسم، والحُزن المصدر.
وقوله تعالى: {كَانُواْ خَاطِئِينَ}، أي آثمين بفعلهم، يقال خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب.
ويروى: أن فرعون كان له رجال مخضبة أيديهم بالحناء قد شدوا أوساطهم بالمناطق وفيها السكاكين يذبحون الأطفال، فولدت أم موسى موسى، ولا علم عندهم به، فأوحى الله إليها أن ترضعه، فإن خافت عليه ألقته في اليم يعني النيل، فخافت عليه، فجعلته في تابوت وغلقت عليه، وعلقت المفاتيح في التابوت، وألقته في النيل، وكان لامرأة فرعون جوار يسقين لها الماء من موضع من النيل لا(8/5490)
تشرب من غيره، فلما أتى الجواري يستقين وجدن التابوت، فأردن فتحه، ثم قال بعضهم البعض: إن فتحناه قبل أن تراه سيدتنا اتهمنا. وقالت: وجدتن فيه شيئاً غير هذا، ولكن دعنه على حاله حتى تكون هي التي تفتحه وهو أحصى لكن عندها، فذهبن بالتابوت إليها، فتحت التابوت فإذا موسى، فكان من قصته ما ذكره الله لنا، وقد تقدم من قصته في مريم نحو هذا أو أشبع منه.
قوله تعالى ذكره: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ}.
أي قالت آسية لفرعون: هذا الغلام قرة عين لي ولك، لا تقتلوه.
ومعنى: قرة عين: أي برد لعيني وعينك (لا تستحر) أعيننا بالبكاء،(8/5491)
فهو من القر، وهو البرد.
وقيل هو من قر بالمكان أي لم يبرحه.
وروي: أن امرأة فرعون لما قالت له هذا قال: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كما قال.
قال ابن عباس: لما أتت امرأة فرعون بموسى فرعون قالت: قرة عين لي ولك، قال فرعون: يكون لك /، وأما لي فلا حاجة لي فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي يحلف به لو أقر فرعون أنه يكون له قرة عين كما أقرت لهاده الله جل ذكره به كم هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك " وقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوهُ}،(8/5492)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
بلفظ الجماعة إنما ذلك لأنها خاطبته كما يخاطب الجبار، وكما يخبر الجبار عن نفسه بلفظ الجماعة. ويروى: أنها إنما قالت لفرعون ذلك، يوم نتف موسى لحية فرعون، فأراد فرعون قتله.
وقيل: بل قالته له حين التقطه آل فرعون فأراد فرعون قتله. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي لايشعرون أن هلاكهم على يديه، وفي زمانه.
قال قتادة. وقال مجاهد: أَنَّه عَدُوٌ لَهُمْ. وقيل: هذا الضمير على بني إسلائيل يعود، والمعنى: وبنو إسرائيل لا يشعرون ذلك.
قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} أي أصبح فارغاً من كل شيء سوى ذكر موسى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة والضحاك. وقال ابن زيد معناه أصبح فارغاً من الوحي الذي قال لها الله فيه: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7]،(8/5493)
فحزنت عليه وخافت. قال: جاءها إبليس فقال: يا أم موسى: كرهت أن يقتل فرعون موسى، فيكون لك أجره، وثوابه، وتوليت قتله، وألقيته في البحر وغرقته. قال الحسن: أصبح فارغاً من العهد الذي عهد إليها والوعد الذي وعدت أن يرد عليها ابنها، فنسيت ذلك كله، حتى كادت أن تبدي به لولا أن ربط الله على قلبها بالصبر لأبدت به.
قال ابن إسحاق: كانت أم موسى ترجع إليه حين ألقته في البحر، هل تسمع له بذكر حتى أتاها الخير بأن فرعون أصاب الغداة صبياً في النيل في التابوت، فعرفت القصة، ورأت أنه قد وقع في يدي عدوه الذي فرت به منه، فأصبح فؤادها فارغاً من عهد الله جل ثناؤه إليها فيه، قد أنساها عظيم البلاء، ما كان من العهد عندها من الله فيه.
قال ابن زيد: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، أي بالوحي.
وقال ابن عباس: كادت تقول: وابناه. وكذلك قال قتادة.(8/5494)
قال أبو عبيدة: فارغاً من الحزن لما علمت أنه لم يغرق.
قال السدي: لما أخذ ثديها في الرضاع كادت تقول: هو ابني، فعصمها الله.
وعن ابن عباس: أن معناه: أصبح فؤاد أم موسى فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، كادت أن تخبر به، فتقول: الذي وجدتموه في التابوت هو ابني، ونسيت ما وعدها الله به أنه يرده عليها، فثبتها الله، وربط على قلبها بالصبر، حتى رجع إليها كما وعدها الله.
وروى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك: أنه قال: فارغاً هو ذهاب العقل في رأيي، يقول الله تعالى: {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا}.
وعن ابن عباس: إن كادت لتبدي به، قال: إن كادت لتقول: يا بنياه.
وقال زيد بن أسلم: معناه: فارغاً من الوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر.(8/5495)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
وقال الأخفش: لتبدي به بالوحي، كقول ابن زيد:
وقوله: {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا}، أي عصمناها من إظهار خبره.
وقال قتادة: ربطنا على قلبها بالإيمان لتكون من المؤمنين.
قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي قصي أثره أي اتبعي أثره، فانظري أخرجه أحد من البحر، ومن التابوت أم لا؟ فإن أخرج فانظري ماذا يفعلون به ..
وقيل معناه: انظري أحي هو أم أكلته دواب البحر؟ ثم قال: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} وفي الكلام حذف، والتقدير: فقصت أخت موسى أثره، فبصرت بموسى عن بعد، ولم تقربه لئلا يعلم أنها من قرابته، يقال: بصرت به وأبصرته، ويقال: عن جنب وعن جنابة، ومنه قولهم: فلان أجنبي.
قيل عن جنب: أي أبصرته عن شق عينها اليمنى. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، بها أنها أخته.(8/5496)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
وعن ابن عباس: على جنب والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه/، لا يشعر به.
وحكى بعض المفسرين: عن جنب: عن شوق.
قال أبو عمرو: وهي لغة لجذام، يقولون: تجنبت إليك أي تشوقت. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي وآل فرعون لا يشعرون أنها أخته جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده.
وقيل معناه: وهم لا يشعرون ما يصير إليه أمر موسى، ولا يعلمون كرامته على الله.
قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ}. أي ومنعنا موسى المراضع أن يرتضع منهن من قبل رده إلى أمه. وقيل: من قبل أمه.
وقيل معناه: منعناه قبول ذلك.(8/5497)
وقيل: هو من المقلوب. ومعناه: وحرمنا على المراضع رضاعه، والتحريم بمعنى المنع، معروف في اللغة، وواحد المراضع: مرضع، ومن قال: مراضع، فهو جمع: مرضاع، ومفعال، بناء للتكثير، ولا تدخل الهاء في مؤنثه إذ ليس بجار على الفعل، وقد قالوا: مرضاعة، فأدخلوا الهاء للمبالغة لا للتأنيث، كما قالوا: مطرابة.
ثم قال: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}.
قال السدي: أرادوا له المرضعات فلم يأخذ من ثدي أحد من النساء وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع. ويروى: أن فرعون بلغ منه الغم بامتناعه من الرضاع كل مبلغ حتى كان أخذه فرعون على يديه وجعل يطلب له الرضاع بنفسه ويشفق عليه من البكاء، فلما قالت لهم أخته ما قالت استراح فرعون إلى قولها، وطمع أن يقبل موسى رضاعها فقال: جيئني بها، فذهبت(8/5498)
إلى أمها فجاءت بها، فأمرها فرعون برضاعه، فقبل ثديها، وسكت، فسر بذلك فرعون وهذا من عجيب لطف الله. ومعنى: يكفلونه: يضمونه.
وقالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}، روي: أنها لما قالت ذلك، قالوا لها: ومن هي؟ قالت: أمي، قالوا لها: أو لأمك لبن؟ قالت: نعم، لبن أخي هارون.
وكان هارون ولد في سنة لم يكن فيها ذبح.
روي: أن فرعون كان يذبح سنة ويترك سنة.
وروي: أنه كان ترك الذبح أربع سنين، فولد هارون في آخرها، فأرسلت امرأة فرعون إلى أم موسى، وقالت لها: هذا الصبي أرضعيه، ولك عندنا الكرامة، مع ما لك من القدر عندنا، ولزوجك، فأخذته وأتم الله وعده لها برده إليها، فلما صار موسى إليها لم يبق أحد من خاصة فرعون إلا أكرمها، وكان زوجها عمران قد احتبسه فرعون عنده، فرده عليها.
ويروى أن فرعون قال لأم موسى: كيف ارتضع هذا الصبي منك؟ ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت: لأني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، فلا أكاد أوتى(8/5499)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
بصبي إلا ارتضع مني.
وروي: أنها لما قالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}، أخذوها، فقيل لها: قد عرفته، فقالت: إنما عنيت أنهم للملك ناصحون، قال السدي وابن جريج.
قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ}، أي رددنا موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن عليه، وليتم الوعد الذي وعدها الله به في قوله جل ذكره: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} [القصص: 7]، وهو قوله: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق، ولا يصدقون به.
قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى}، أي استكمل نهاية قوة الرجل.
قال مجاهد وقتادة: واستوى: بلغ أربعين سنة.(8/5500)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
وقيل: الاستواء: ستون سنة.
وقال ابن عباس: الأشد: ثلاث وثلاثون سنة، وقاله مجاهد وقتادة.
وقيل: هو اثنان وعشرون سنة، فبها تبلغ الزيادة في الطول حدها في الاستواء.
{آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}، أي فهماً في الدين ومعرفة به.
قال مجاهد: هو الفقه، والعقل، والعمل. وذلك قبل النبوة. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}، أي كما جازينا موسى على طاعته، كذلك نجزي كل من أطاع، وإنما جعل الله إتيانه العبد الحمك والعلم جزاء على الإحسان، لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين.
واختلفت في الأشد: فقيل: هو جمع أشد.
وقيل: لا واحد له.
/ وقيل: هو جمع: شدة.
قوله تعالى ذكره: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}، إلى قوله:(8/5501)
(مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [18].
أي ودخل موسى مَنْفَا من مصر على حين غفلة من أهلها، وهو نصف النهار.
وقيل: بين المغرب والعشاء.
قال السدي: كان موسى حين كبر، يركب مراكب فرعون، ويلبس ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون، ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب موسى في إثره، فأدركه المقيل بمنف فدخلها نصف النهار، وليس بطرقها أحد.
وقال ابن إسحاق: كانت لموسى لما كبر وفيهم شيعة من بني إسرائيل، يسمعون منه، ويقتدون به، ويطيعونه، ويجتمعون إليه، فلما اشتد رأيه، وعرف ما هو(8/5502)
عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقاً في دينه، فتكلم، وعادى، وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه، وخافهم، وحتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا مستخفياً، فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها.
وقال ابن زيد: معناه: على حين غفلة من ذكر موسى، ليس غفلة ساعة، وذلك أن فرعون خاف موسى، فأخرجه عنه، فلم يدخل عليهم حتى كبر، فدخل وقد نسي ذكره، وغفل عن أمره.
قال ابن عباس: دخل نصف النهار وقت القائلة، وعنه: دخل بين المغرب والعشاء.
ثم قال: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ}، أي أحدهما إسرائيلي من أهل دينه، والآخر قبطي من قوم فرعون وعلى دينه، وذكر أنهما اقتتلا في الدين الإسرائيلي على دين موسى والقبطي على دين فرعون، فعند ذلك حميت نفس موسى في الدين، فوكز القبطي، فأتى عليه ومات من وكزته.
وعدو عنا بمعنى أعداء، وكذلك يقال في المؤنث. ومن العرب من يدخل(8/5503)
الهاء يجعله بمعنى: معادية.
ثم قال: {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ}.
قال ابن جبير: مر موسى برجل من القبط قد سخر رجلاً من المسلمين فلما رأى المسلم موسى استغاث به، فقال: يا موسى، يا موسى، فقال موسى: خل سبيله، فقال القبطي: قد هممت أن أحمله عليك، فوكزه موسى فمات، قال: حتى إذا كان الغد نصب النهار، خرج ينظر الخبر، فإذا ذاك الرجل قد أخذه آخر، فقال: يا موسى، فاشتد غضب موسى على القبطي فأهوى إليه، فخاف المسلم أن يكون إنما أتاه يريده، فقال له: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس}.
فقال القبطي: يا موسى أراك أنت الذي قتلت بالأمس.
قال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا بسخرة، حتى امتنعوا كا الامتناع. فبينا هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان: أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى، فوكز الفرعوني فقتله، ولم يرهما أحد إلا الله جل ذكره، فقال موسى لما مات:(8/5504)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}، وفي هذا الحديث اختصار.
قال مجاهد: وكزه بجمع كفه.
وقال قتادة: وكزه بالعصا ولم يتعمد قتله فقضى عليه أي ففزع منه. وروى أنه دفنه لما مات في الرمل. ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ}.
أي قال موسى: يا رب إني أسأت إلى نفسي بقتلي القبطي، فاستر علي ذنبي فستره الله عليه.
قال ابن جريج: إنما قال: ظلمت نفسي بقتلي، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر. {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}، أي الساتر الذنب من آمن به واستغفره. {الرحيم}، للتائبين أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد أن تابوا منها.
أي قال موسى: يا رب بعفوك عني في قتل هذه النفس فلن أكون عويناً للمجرمين.(8/5505)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وتقدير الكلام عند الفراء أنه بمعنى الدعاء، كأنه قال: اللهم فلن أكون عويناً للمجرمين.
وقيل: معنى الكلام الخبر، وتقديره /، لا أعصيك لأنك أنعمت علي، وهذا معنى قول ابن عباس.
قال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} أي أصبح موسى خائفاً من قوم فرعون، يترقب الأخبار، أن يعرفوا القصة فيقتلوه بالقبطي. {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ}، أي فإذا الإسرائيلي الذي استنصر موسى بالأمس على الفرعوني، يستصرخ موسى، أي يصيح وهو من الصراخ. ثم قال له موسى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، يوبخ الإسرائيلي، لأن موسى نادم على ما قد سلف منه من قتله القبطي بالأمس. ومعنى: {لَغَوِيٌّ}، أي لذو غواية {مُّبِينٌ}، أي أبنت غوايتك بقتالك أمس رجلاً، واليوم آخر.
قال ابن عباس: أتي إلى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً(8/5506)
من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوا لي قاتله ومن شهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة، ولا ثبت فاطلبوا ذلك. فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئاً، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي بقاتل فرعوني، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمد يده وهو يريد الفرعوني، فقال للإسرايئلي لما فعل بالأمس واليوم {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالإمس، فخاف أن يريده موسى، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً} الآية. فسمع كلامه فطلب موسى.
قال السدي: قال موسى للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، ثم أقبل لينصره(8/5507)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
فظن الإسرائيلي أنه إياه يريده فأشهره، هذا معنى كلام السدي.
وقال ابن أبي نجيح: أراد الإسرائيلي أن يبطش بالقبطي فنهاه موسى ففرق الإسرائيلي من موسى، فقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي}، الآية. فسعى بها القبطي. وكذلك قال ابن عباس: إن القبطي هو الذي أفشى الخبر على موسى، ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المدينة يسعى}،
أي جاء مخبر لموسى يخبره أن فرعون قد أمر بقتله، وأنهم يطلبونه، وذلك أن قول الإسرائيلي سمعه سامع فأمشاه فأمر فرعون بطلب موسى وقتله.
قال ابن عباس: انطلق الفرعوني الذي كان يقاتل الإسرائيلي إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي حين قال لموسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} [القصص: 18]. فأرسل فرعون الذباحين لقتل موسى، فأخذوا الطريق الأعظم وهم لا(8/5508)
يخافون أن يفوتهم، فكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر.
قال قتادة: كان الرجل مؤمناً من آل فرعون.
وقيل: كان اسمه شمعون.
وقيل: شمعان.
وقيل: هو حزقيل مؤمن آل فرعون أنذر موسى أن أشراف آل فرعون يطلبونه، فخرج موسى إلى مدين خائف يترقب، وإنما خرج إلى مدين للنسب الذي بينهم وبينه، لأن مدين ولد إبراهيم، وموسى من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم. ومعنى يسعى: تعجل ويسرع من أقصى مدينة فرعون.
وقوله: {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، أي إن قوم فرعون يتآمرون بقتلك، أي يأمر بعضهم بعضاً بذلك.
قال أبو عبيدة: يأتمرون: يتشاورون في قتلك.(8/5509)
وقيل: معناه: يهمون بك وكذلك قوله تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] أي هموا به وأعزموا عليه.
ثم قال: {فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين}، أي من الناصحين في مشورتي عليك بالخروج، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ}، أي خائفاً منقتله النفس أن يقتل به، يترقب: أي ينتظر الطلب أن يدركه.
قال ابن إسحاق: خرج على وجهه خائفاً يترقب لا يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين}. وقال: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ}، أي ولما جعل موسى وجهه قبل مدين قاصداً إليها {قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ / السبيل}، أي قصد الطريق إلى مدين، ولم يكن يعرف الطريق إلى مدين.
قال: ويروى أنه لما دعا الله بذلك، قيض له ملكاً سدده للطريق(8/5510)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
وعرفه إياها.
قال ابن عباس: خرج موسى متوجهاً نحو مدين وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بريه، فإنه قال: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل}.
قال ابن جبير: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينهما مسيرة ثمان، فلم يكن له طعام إلا ورق الشجر. قال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ}، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه وكان بمدين يومئذ قوم شعيب.
قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ}، أي لما ورد موسى ماء مدين: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ}، أي جماعة يسقون غنمهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ}، أي تحبسان غنمهما عن ورود الماء حتى يسقس الناس غنمهم إذ لم يتهيأ لهما مزاحمة الرجال على الماء.
يقال: ذاد فلان غنمه: إذا حبسها أن تتفرق وتذهب. وكذلك ذاده إذا قاده.(8/5511)
ومعنى قاده: حبسه على ما يريد، فكانتا تحبسان غنمهما لأنهما لا طاقة لهما بالسقي، وكانت غنمهما تطرد عن الماء. وقيل: المعنى كانت تذودان غنمهما عن الماء حتى يصدر الناس ثم تسقيان لضعفهما.
وقيل: المعنى: كانت تذودان الناس عن غنمهما. {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}، أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما وما أمركما في ذودكما غنمكما عن الماء.
قال ان عباس: قال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس.
قال ابن إسحاق: وجد لهما رحمة ودخلته فيهما خشية لما رأى من ضعفهما، وغلبة الناس على الماء دونهما، فقال لهما: ما خطبكما؟ أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما. {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي لا يقدر يحضر فيسقس، فاحتجنا أن نخرج ونحن نساء.(8/5512)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
ومن قرأ " يصدر " بفتح الاياء: فمعناه يصدر الرعاء عن الماء، ومن ضم فمعناه: حتى يصدر الرعاء مواشيهم عن الماء.
قال تعالى: {فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل}، أي فسقى لهما موسى قبل الوقت الذي تسقيان فيه ثم تولى إلى الظل، وهو الموضع الذي لن يكن عليه شمس.
والفيء: الموضع الذي كانت عليه شمس، ثم زالت، والظل ها هنا: ظل الشجرة.
وقال السدي: الشجرة: سمرة. روي أنه فتح لهما عن رأس بئر كان عليه حجر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ثم استقى {فسقى لَهُمَا}، قال مجاهد والسدي.(8/5513)
قال السدي: أروى غنمهما فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان. من فُضول الحياض.
قال عمر بن الخطاب: لما فرغ الناس من سقيهم أعادوا الصخرة على البئر، ولا يصير لرفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23]، فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا دلوا واحداً حتى رويت الغنم، ورجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه و {تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء} [القصص: 25]، واضعة ثوبها على وجهها {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]، قال لها: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فيصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها {وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} [القصص: 25]. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26].
قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته: فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته، فقال لي: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني(8/5514)
أكره أن يصيب الريح ثيابك، فيصف لي جسدك.
قال عبد الرحمن بن أبي نعيم: قال لها أبوها: ما رأيت من قوته؟ قالت: رأيته يملأ الحوض بسجل واحد، قال: فما رأيت من أمانته؟ قالت: لما دعوته: مشيت بين يديه، فجعلت الريح تضرب ثيابي فتلتصق إلى جسدي فقال لي: كوني خلفي فإذا بلغت الطريق فآذنيني. وروى عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن سئلت /، أي الجلين قضى موسى، فقل: خيرهما وأوفاهما، وإن شئت أي المرأتين تزوج، فقل الصغرى منهما: وهي التي جاءت إليه، وهي التي قالت: {يا أبت استأجره} ".
قال ابن عباس: سأل النبي جبريل صلى الله عليه وسلم: " أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما ".
وروى عتبة بن المنذر السهمي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أراد(8/5515)
موسى فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها من نتاج غنمه، ما يعيشون به فأعطاهما ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلما وردت الحوض، وقف موسى بإزاء الحوض، فلم تمر به شاة إلا ضرب جنبها بعصاً، فوضعت قوالب ألوان كلها، ووضعت اثنين وثلاث كل شاة ووصفت النبي عليه السلام أنه لا عيب في شيء منها من عيوب الغنم، وقال: إذا فتحتم الشام وجدتم بقايا منها "
، وهي السامرية.
قال ابن عباس: فجعل يغرف لهما في الدلو ماءً كثيراً حتى كانتا أول الرعاء رياً فنصرفتا إلى أبيهما بغنمهما.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: لما سقى الرعاء غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها، فسقى لهما دلواً واحداً لم يحتج إلى غيرها.(8/5516)
ثم قال تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، أي محتاج، سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ولم يطلب أجراً على سقيه.
روي أنه كان صلى الله عليه وسلم بجهد شديد فأسمع ذلك المرأتين تعريضاً لهما أن يطعماه مما به من شدة الجوع.
والخير هنا شبعة من طعام، قاله ابن عباس وغيره.
قال ابن عباس: جاع موسى عليه السلام حتى كادت ترى أمعاؤه من ظاهر الصفاق. وقال: ورد الماء وإن خضرة البقل لترى في بطنه من الهزال.
قال مجاهد: ما سأل ربه إلا الطعام.
قال ابن عباس: لقد قال موسى {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، وما أحد أكرم على الله جل ذكره منه، ولقد افتقر إلى شق ثمرة، ولقد لزق بطنه بظهره من الجوع، والفعل من فقير، فقر، وافتقر.(8/5517)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قوله تعالى ذكره: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء}،
أي فجائته موسى إحدى المرأتين تمشي على استحياء.
قيل: أتته مستترة بكم ذرعها، واضعة يدها على وجهها.
وقيل: على استحياء منه، وفي الكلام حذف. والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما قبل وقتهما، فخبرتاه بخبر موسى وسقيه، فأرسل وراءه بإحداهما فجاءته تمشي على استحياء، فقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ}، أي ليثيبك أجر سقيك غنمنا.
{فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص}، أي فمضى موسى معها، فلما جاءه وأخبره خبره مع فرعون وقومه من القبط، قال له شعيب: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين}، ولم يكن لفرعون يومئذ سلطان على مدين وناحيتها.
وقيل: إنه لم يكن شعيباً، إنما كان مؤمناً جد أهل ذلك الماء والأول أشهر،(8/5518)
وفيه اختلاف سنذكره.
قال ابن عباس: استنكر شعيب سرعة صدورهما بغنمهما، فقال: إن لكما اليوم لشأناً، فأخبرتاه الخبر، فأرسل إحداهما خلفه.
قال السدي: أتته تمشي على استحياء منه فقالت له:
{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، فقام معها، وقال لها: امشي فمشت بين يديه، فضربتها الريح، فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، فلما جاء الشيخ، وقص عليه خبره قال له. {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين}.
وروي: أنه قال لها: إنا لا ننظر في أدبار النساء، فأخبرت أباها بقوله.
قال مالك: مشى خلفها ثم قال لها: امشي خلفي، فإني عبراني لا أنظر في أدبار النساء، فإن أخطأت فصفي لي الطريق، فمشى بين يديها وتبعته، ثم قالت إحداهما لأبيهما {يا أبت استأجره}، أي لرعي غنمك، والقيام عليها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين}.(8/5519)
وروي عن ابن عباس: أنه قال: لما قالت له {القوي الأمين} اختطفته الغيرة فقال لها أبوها: وما يدريك ما قوته، وأمانته؟ فقالت له: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا لم أر رجلاً/، قط أقوى في ذلك السقاء منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه، وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب برأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حين بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فلم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فسري عنه وصدقها، فمعناه القوي على حفظ ماشيتك وإصلاحها، الأمين عليها، فلا تخاف منه فيها خيانة.
وقيل: إنه رفع عن البئر حجراً لا يرفعه إلا فئام من الناس، فتلك قوته. قاله مجاهد.(8/5520)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وقيل: استقى بدلو لم يكن يرفعه إلا جملة من الناس.
واسم إحدى المرأتين " ليا " والأخرى " صفور " وهي امرأة موسى، وهي الصغيرة.
وقيل: اسمها صوريا.
قال ابن إسحاق: اسم إحداهما صقورة والأخرى شرقا.
ويقال: ليا، واختلف في أبيهما. فقال الحسن: يقولون هو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عبيدة: هو بيرون بن أخي شعيب.
وهن ابن عباس: أن اسمه يثرى.
قال تعالى: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ}.(8/5521)
أي قال أبو المرأتين لموسى: إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، أي على أن تثيبني من تزويجكها رعي ماشيتي ثماني سنين، فجعل صداقها خدمته ثمانية أعوام، وقد استشهد بعض العلماء على أن الاختيار أن يقال في الصدقات أنكحه إياها بقوله: {أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي}، وهو عنده أولى من أنكحها إياه. ومنه قوله تعالى: " زوجناكها " ولم يقل زوجناها إياك. وقد قال مالك: إن من غيره نكاح البكر ما في القرآن، قال الله عز وجل: { إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي} ولم يذكر في هذا استشاراً.
ثم قال له: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ}، أي أن زدتني في الخدمة عامين حتى تصير إلى عشر فبإحسان منك، وليس مما اشترطه عليك {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}، باشتراطي ذلك عليك {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، أي ستجدني في إتمام ما قلت لك والوفاء به، وفي حسن الصحبة من الصالحين.
وفي هذا النكاح أشياء هي عند أكثر العلماء خصوص لموسى ومن زوجه، من ذلك قوله {إِحْدَى ابنتي}، ولم يعينها، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين. ومن ذلك أن(8/5522)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
الأجرة لم تعين في خدمة ثمانية أعوام أو عشرة فهذا خصوص لموسى ومن زوجه عند أهل المدينة.
وكذلك النكاح على عمل البدن لا يجوز لأنه غرر، وفيه أنه دخل ولم ينقد شيئاً وقد أجازه مالك إذا وقع، والأحسن أن ينقد شيئاً من جملة الصداق المعلوم المتفق عليه.
قال تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ}، ما من " أيما " زائدة أي مضافة إلى الأجلين، ومعناه أي قال موسى لأبي المرأتين ذلك واجب علي في تزويجي إحدى ابنتيك، فما قضيت من هذين الأجلين فليس لك علي مطالبة بأكثر منه: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}، هذا من قول أبي المرأة، والتقدير: والله على ما أوجبه كل واحد منا على نفسه شهيد وحفيظ. قال ابن عباس: الجارية التي دعته هي التي تزوج.
قال السدي: أمر أبو المرأتين إحدى ابنتيه أن تعطي موسى عصاً، فأتته بعصاً كان قد استودعها عنده ملك في صورة رجل، فلما رآها الشيخ قال: لا، إيتيه(8/5523)
بغيرها، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها، فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها فلا يخرج في يدها غيرها، فأعطاها له، فخرج موسى معه فرعى بها، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة، وخرج يتلقى موسى، فلما لقيه قال: أعطيني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يقضي بينهما، فقال: ضعوها في الأرض، فمن حملها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ فرعاها له عشرة سنين.
قال ابن عباس: كان موسى أحق بالوفاء.
قال كعب: تزوج موسى التي تمشي على استحياء وقضى أوفى الأجلين.
وقال ابن زيد: قال أبو الجارية لموسى: ادخل ذلك البيت، فخذ عصاً تتوكأ عليها، فدخل موسى، فلما وقف على باب البيت، طارت إليه تلك العصا فأخذها، فقال /، الشيخ: أرددها وخذ أخرى مكانها، فردها ثم ذهب ليأخذ أخرى فطارت إليه كما هي، فقال: أرددها حتى فعل ذلك ثلاثاً، فقال: أرددها، فقال: لا آخذ(8/5524)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
غيرها اليوم، فالتفت إلى ابنته، فقال: يا بنية إن زوجك لنبي.
قال عكرمة: كان آدم قد خرج بعصا موسى من الجنة، ثم قبضها بعد ذلك جبريل صلى الله عليه وسلم فلقي بها موسى ليلاً، فدفعها إليه.
قال تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل}، أي العشر سنين. وروي: أنه زاد مع العشر عشراً. قاله مجاهد، وابن جريج.
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سألت جبريل عليه السلام: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما " ومعنى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي انصرف بامرأته شاخصاً إلى مصر {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً}، أي أحس وأبصر من جانب الجبل الذي اسمه الطور ناراً {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا}، أي تمهلوا وانتظروا لعلي آتيكم من النار بخبر، أي أعلم لم أوقدت {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار}، أي قطعة غليظة من الحطب فيه نار لكم. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، أي تتسخنون من البرد الذي بكم.(8/5525)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
وروي أن موسى عليه السلام كان رجلاً غيوراً لا يصحب الرفاق، فأخطأ الطريق بالليل للأمر الذي أراده الله، فرأى بالليل ناراً فقال لأهله: أقيموا لعلي آتيكم من عند هذه النار بخبر يدلنا على الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، كان بهم برد بالليل، {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ. . . ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 30]، وأمر أن يلقي عصاه على ما أعلمنا الله به.
قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن}،
أي فلما أتى موسى النار، نودي من شاطئ الوادي أي من عدوته وجانبه الأيمن، أي مِن على يمين موسى {فِي البقعة المباركة}، أي المطهرة، لأن الله كلم(8/5526)
موسى فيها وقوله {مِنَ الشجرة} سئل بعض العلماء عن هذا فقال: كلمة من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة.
قال قتادة: من عند الشجرة وهي عوسج.
وقال وهب بن منبه: هي العليق.
وقيل: هي سمرة.
وقيل: كانت عصا موسى من عوسج، والشجرة من عوسج.
وقوله: {أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين}، أي نودي بهذا ثم قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ونودي بأن إلق عصاك، فألقاها موسى، فصارت حية تسعى، فلما رآها موسى تهتز، أي تتحرك كأنها جان، الجان نوع معروف من الحيات،(8/5527)
وهي منها عظام {ولى مُدْبِراً}، أي هارباً منها {وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أي لم يرجع على عقبيه.
قال قتادة: لم يلتفت من الفرق.
روي أنه ألقاها صارت ثعباناً، فلم تدع صخرة ولا شجرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى صريف أسنانها، فحينئذ ولى مدبراً خائفاً، فناداه ربه لا إله إلا هو: {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين}، فذهب عنه الخوف، وكان سنة في ذلك الوقت أربعين سنة، ثم أمر بأن يدخل يده في جيبه، ففعل، فخرجت نوراً ساطعاً، وأمر بضم يده إلى صدره من الخوف، ففعل فذهب خوفه.
وروي: أنه ليس من خائف يضم يده إلى صدره إلا نقص خوفه، وقوله: {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ}، أي قال الله: يا موسى أقبل إلي ولا تخف(8/5528)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
من الذي تهرب منه {إِنَّكَ مِنَ الآمنين}، من أي تكون تضرك إنما هي عصاك.
قال وهي: قيل له: ارجع إلى حيث كنت، فرجع، فلف ذراعته على يده فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله جل ثناؤه أن يصيبك بما تحذر، أينفعك لفك يدك؟ فقال: ولكني ضعيف خلقت من ضعف، فكشف يده، فأدخلها في فم اليحة، فعادت عصاً.
وقيل: إنه أدخل يده في فم الحية بأمر الله فعادت عصاً.
قال تعالى: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء}، أي أدخل يدك في جيب قميصك تخرج بيضاء من غير برص، قاله قتادة.
قال الحسن: فخرجت كأنها المصباح، فأيقن موسى أنه لقي ربه. {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب}، قال ابن عباس ومجاهد: يعني يده.
وقال ابن زيد: الجناح: الذراع، والعضد والكف، واليد.(8/5529)
قال الضحاك عن ابن عباس: معناه أدخل يدك فضعها على صدرك حتى يذهب عنك الرعب.
قال/، ابن عباس: فليس من أحد يدخله رعب بعد موسى، ثم يدخل يده فيضمها إلى صدره، إلا ذهب عنه الرعب.
وقال الفراء: الجناح هنا: العص، وهذا قول شاذ.
وحكى أهل اللغة أن الجناح من أسفل العضد إلى آخر الإبط، وربما قيل لليد: جناح.
وقد قال أبو عبيدة: جناحك: يدك.
وقوله: {مِنَ الرهب} أي من الخوف والفزع الذي داخلك من الحية.
ثم قال: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} أي فهذان اللذان أريناك برهنان من ربك، أي آيتان وحجتان إلى فرعون وملإه على نبوتك يعني اليد والعصا.(8/5530)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
وحكى بعض أهل اللغة: في " ذا " المد والقصر، ذاء وذا.
ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، أي خارجين عن الإيمان.
و" من " في قوله: " من الرهب " متعلقة " بيعقب: أي ولم يعقب من الرهب.
وقيل: هي متعلقة " يولى مدبراً من الرهب ".
قال تعالى ذكره: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}، أي إني أخاف إن آتيتهم فلم أين عن نفسي أن يقتلون بالنفس التي قتلت، وكانت في لسانه عقدة لا يبين معها ما يريد من الكلام فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً}، أي أحسن مني بياناً {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}، أي عوناً يصدقني. قاله مجاهد وقتادة، وهو قول أهل اللغة.
يقال أردأته: أي أعنته ومن فتح الدال فعلى تخفيف الهمزة. وقيل: إنما سأل موسى في إرسال أخيه معه، لأن الاثنين إذا اجتمعا على الخبر(8/5531)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
كانت النفس إلى تصديقهما أسكن منها إلى تصديق خبر الواحد. قال ابن زيد.
وعن ابن عباس {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}: كي يصدقني.
وقال مسلم بن جندب: الردة: الزيادة.
وقال السدي: كيما يصدقني إني أخاف أن يكذبون فيما أرسلتني به إليهم، ومن جزم " يصدقني " جعله جواباً للطلب، ومن رفع فعلى الاستئناف. وتقف على " ردءاً " ويجوز الرفع على أن تجعله نعتاً لردءاً، أي ردءاً مصدقاً، ويجوز أن تجعله حالاً من الهاء في " فأرسله " ولا تقف على هذين الوجهين على رداً.
قال تعالى ذكره: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}، أي قال الله جل(8/5532)
ذكره لموسى: سنشد عضدك بأخيك أي نقويك، ونعينك بأخيك. وذكر العضد لأن قوة اليد بالعضد {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً}، أي حجة فلا يصلون إليكما، أي لا يصل فرعون وقومه إليكما بضر.
وقوله: " بآياتنا " متعلقة " بسلطان " والمعنى: ونجعل لكما حجة بآياتنا يعني العصا واليد. فلا تقف على هذا التقدير على " إليكما ".
وقيل: التقدير فلا يصلون إليكما بآياتنا تمتنعان بآياتنا فلا تقف أيضاً على " بآياتنا " إلا أن تقدر الفعل في ابتدائك فتقف على " إليكما ".
وقال الأخفش والطبري: التقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، ثم قدمت الآيات، وهذا لا يجوز لأنه تقديم صلة على موصول، وقد أجازه الأخفش، على أن يكون بياناً مثل: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} فعلى هذا تقف على(8/5533)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{إِلَيْكُمَا}.
ويروى: أن الله جعل في الحية التي انقلبت من العصا عِظمَاً وقوة، ما لو تركت على فرعون وقومه لأهلكتهم، فكانوا من خوف هذه الحية، ولما شاهدوا من عِظمها لا يتجرءون على قتل موسى وهارون ولا يطمعون في الوصول إليهما بسوء، فذلك قوله عز وجل: { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ}، أي لا يتجرءون على قتلكما مع ما ظهر إليهم من عظم الآيات والخوف منها على أنفسهم، يشغلهم الخوف من عظيم ما عاينوا عن أن يقدروا على أذى موسى وهارون.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى}، أي قال فرعون وقومه: ما هذا الذي جئتنا به يا موسى إلا سحر افتريته، أي تخرصته من عند نفسك، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الأولين. قال لهم موسى: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ}، أي ربي أعلم بالمحق من المبطل وبمن جاء(8/5534)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
بالرشاد {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار}، أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة منا {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}، وهذه مخاطبة جميلة من موسى عليه السلام لفرعون، فترك موسى أن يقول له: بل الذي غر قومه، وأهلك جنده، وأضل أتباعه، أنت لا أنا، ورجع إلى ملاطفته فقال: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ / عَاقِبَةُ الدار}، فبالغ موسى بهذا في ذم فرعون وقومه بخطاب جميل.
قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي}، أي قال ذلك فرعون لأشرف قومه لئلا يصدقوا موسى فيما جاءهم به من عبادة الله.
{فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين}، يريد عمل الآجر، وهو أول من عمله وبنى به {فاجعل لِّي صَرْحاً}، ابن لي بنياناً مرتفعاً {لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} أي انظر إلى معبود موسى الذي يدعونا إلى عبادته {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين}، أي أظن موسى فيما يقول: إن له معبوداً، كاذباً. والظن هنا شك، فكفر الملعون بالشك.(8/5535)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
قال السدي: فبنى له هامان الصرح، وارتقى فوقه فأمر بنشابة، فرماها نحو السماء فردت عليه وهي ملطخة دماً، فقال: قد قتلت إله موسى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله تعالى ذكره: {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}،
أي تجبَّر فرعون وقومه، في أرض مصر عن تصديق موسى واتِّباعه على توحيد الله وعبادته بغير الحق أي تعدياً وعنواً على ربهم وظنوا أنهم لا يبعثون بعد مما تهم، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم}، أي أخذنا فرعون وجنوده فأغرقناهم في البحر، فانظر يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين}، أي انظر بعين قلبك، وفكر بفهمك، فكذلك نفعل بمن كذبك فقتلهم الله بالسيف.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار}، أي جعل الله فرعون وقومه(8/5536)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
أئمة للضلال، يأتم بهم أهل العتو على الله، يدعون الناس إلى الضلال الذي هو سبب الدخول إلى النار. {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ}. أي لا ينصرهم من عذاب الله أحد، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون.
قال تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً}. أي ألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا حزناً وغضباً، وبعداً من الله {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين}.
قال قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة وهو مثل قوله:
{وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود} [هود: 99].
ق ابن جريج: {هُمْ مِّنَ المقبوحين} مستأنف " فأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة ". فيجب على قوله: أن يقف القارئ على {القِيَامَةِ}،(8/5537)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
والوقف عند نافع: " لعنة ". ومعنى {مِّنَ المقبوحين}، أي من الذين قبحهم الله وأهلكهم بتكذيبهم رسوله موسى عليه السلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى}،. أي ولقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، وغير ذلك من الأمم. {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ}، أي ضياء لبني إسرائيل في أمر دينهم. {وَهُدًى}، أي وبياناً {وَرَحْمَةً} لمن عمل به منهم. {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، أي تذكرون نعم الله بذلك عليهم فيشكرونه، ولا يكفرون.
قال أبو سعيد الخدري: ما أهلك الله جل ذكره بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مسخ أهلها قردة، ألم تر أن الله يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}.
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر}، هذا الكلام(8/5538)
تضمن إضماراً دل عليه المعنى. والمعنى: لم تكن يا محمد في جانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمرك، وذَكَرْنَاكَ بخير ذكر، لأن هذا الكلام لا يستعمل إلا في رجل جرى ذكره إما بخير أو بشر، ولا يذكر الله نبيه إلا بخير، ووصى باتِّباعِهِ إذا بعث، دل على ذلك قوله: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر}، فنسوا الوصية وتركوها لطول الزمان عليهم.
وقوله: {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}، أي لم تكن يا محمد بحاضر لما وصاهم الله به في أمرك.
وقيل: الشهود بمعنى الشهادة أي لم تكن بشاهد عليهم فيما وصاهم به من أمرك /، والإيمان بك.
وقوله: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر}، إيماء إلى نقضهم العهد، وتركهم للوصية بالإيمان بمحمد عليه السلام وما يأتيهم به، وقد أخبرنا أن محمداً(8/5539)
تجده اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ويجدون صفته.
يروى: أن الله أعلم موسى صلى الله عليه وسلم أنه يبعث نبياً من ولد إسماعيل يسمى محمداً، وأنه أخذ ميثاقه على أمة موسى أن يؤمنوا به، فطالت عليهم الأزمنة فنسوا ما عهد إليهم به. فالمعنى: أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، أي فرغنا إلى موسى الأمر، يعني ما ألزم الله تعالى موسى وقومه، وعهد إليهم من عهده. {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}، أي لم تشهد يا محمد ذلك ولم تحضره.
قال قتادة وابن جريج: {بِجَانِبِ الغربي} أي بجانب غربي الجبل.
وقيل: المعنى: لم تكن يا محمد في ذلك المكان إذ أعلمنا موسى أن أمة محمد خير الأمم.
{وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}، أي لم تشهد يا محمد ذلك ولم تحضره. وقال أبو عبيدة: {بِجَانِبِ الغربي} حيث تعغرب فيه الشمس والقمر والنجوم.
ثم قال تعالى: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر}، أي خلقنا أمماً من بعد ذلك فتطاول عليهم العمر. {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ}، أي مقيماً فيهم.(8/5540)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، أي لم تشهد يا محمد شيئاً من ذلك، أي ما ابتليت يا محمد بشيء من ذلك بل الثاوي شعيب وهو المبتلى بهم.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا}، أي إذ نادينا موسى بقولنا: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} [الأعراف: 156] إلى قوله: {المفلحون} [الأعراف: 157].
وقيل: نادى الله جل ذكره: يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني، فقال موسى: يا رب جعلت وفادتي لغيري. وذلك حين اختار موسى قومه سبعين رجلاً للميقات.
وقال أبو زرعة: رواه الأعمش عن علي بن مدرك عنه: نادى أمة محمد: أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني. وأسند أبو زرعة هذه الألفاظ عن أبي هريرة، وأسنده إبراهيم بن عرفة إلى أبي هريرة أيضاً.(8/5541)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
ثم قال: {ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} رحمة نصب على المصدر عند الأخفش والتقدير: ولكن رحمة ربك رحمة، وهو مفعول من أجله عند الزجاج أي فعلنا ذلك للرحمة وهو عند الكسائي خبر كان مضمره، والتقدير: ولكن كان ذلك رحمة، والمعنى: لم نشهد ذلك يا محمد، فتعلمه، ولكن: عرفناكه، وأنزلنا عليك، واقتصصنا ذلك كله عليك في كتابنا، وابتعثناك بما أنزلنا إليك من ذلك رسولاً إلى من ابتعثناك إليه رحمة لك ولهم: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ}، يعني العرب. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، فيظهر لهم خطأ ما هم عليه من الكفر.
قال تعالى: {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، جواب(8/5542)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
لولا محذوف. والتقدير: لولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم يا محمد إذا حل عليهم العذاب على كفرهم قبل إرسالك إليهم، هلا أرسلت إلينا رسولاً من قبل أن يحل بنا سخطك {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين}، لعاجلهم العذاب.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} أي فلما جاء هؤلاء الذين لم يأتهم من قبلك يا محمد رسول الحق من عندنا وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة من الله إليهم.
قالوا تمرداً على الله وتمادياً في الغي: هلا أوتي محمد مثل ما أوتي موسى من الكتاب، فقال الله جل ذكره لنبيه: قل لهم يا محمد أو لم يكفر الذين علموكم هذه الحجج من اليهود بما أوتي موسى من قبل.
قال مجاهد: يهود تأمر قريشاً أن تسأل محمداً مثل ما أوتي موسى عليه السلام. يقول الله جل ذكره لمحمد: قل لقريش تقول لهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ}.(8/5543)
وقيل: معنى {مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى}، يعنون به العصا وانفلاق البحر /، {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}، أي قالت اليهود موسى وهارون عليهما السلام ساحران تعاونا على السحر، قاله مجاهد.
وقال الحسن: عيسى ومحمد عليهما السلام.
ومن قرأ: " سحران " فمعناه: التوراة والفرقان. قاله ابن عباس وابن زيد.
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل.
وقال الضحاك: الإنجيل والقرآن.(8/5544)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}، أي بما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم وغيره نكفر. يقول ذلك أهل الكتاب.
قوله تعالى ذكره: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله}،
أي قل يا محمد للقائلين في التوراة والإنجيل إنهما {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أو محمد وموسى، أو موسى وهارون إنهما ساحران، {فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى}، من هذين الكتابين أو من هذين الرسولين، وإذا جعلت " منهما " للرسولين، فعلى قراءة من قرأ لساحران لا بد من حذف، والتقدير هو أهدى من كتابيهما {أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي إن جئتم بالكتاب أتبعه إن كنتم صادقين في قولكم: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}.
قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ}، أي إن لم يجيبوك إلى ما تدعوهم إليه من الإتيان بكتاب، فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم في كفرهم وجحدهم لكتب الله وأنبيائه.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله}، أي من أضل عن(8/5545)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
طريق الرشد ممن اتبع هواه بغير بيان عنده من الله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}، أي لا يوفقهم لإصابة الحق، أي لا أحد أضل ممن هذه صفته.
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
أي ولقد وصلنا يا محمد لقومك من قريش، ولليهود من بني إسرائيل القول بأخبار الماضين، والنبأ عما أحللنا بهم من العقوبات، إذ كذبوا الرسل {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، أي يتفكرون، ويعتبرون. وأصل " وصلنا " من وصل الجبال بعضها ببعض.
قال أبو عبيدة: وصَّلْنا أتممنا.
قال قتادة: معناه: وصَّلْنا لهم خبر من مضى بخبر من يأتي.
وقال ابن عيينة وصَّلنا: بَيَّنَّا.(8/5546)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
وقال ابن زيد: وصّلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة وشهدوها وهم في الدنيا، بما نريهم من الآيات في الدنيا.
قال مجاهد: وصّلنا لهم: يعني قريشاً.
وقيل: عني به اليهود.
وقرأ الحسن: " وصلنا " بالتخفيف.
وقيل: معنى {وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} أي جعلنا بعضه ينزل إثر بعض مشاكلاً بعضه لبعض في باب الحكمة وحسن البيان.
قال تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}، يعني من آمن بمحمد عليه السلام من أهل الكتاب.
قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب، كانوا على شريعة من الحق(8/5547)
يأخذون بها وينتهون، حتى بعث الله جل ثناؤه محمداً آمنوا به وصدقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بصبرهم على الكتاب الأول، واتباعهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وصبرهم على ذلك.
وقيل: أعطاهم الله أجرهم مرتين بإيمانهم ببعث محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثه، وإيمانهم به بعد بعثه، فبصبرهم على ذلك أعطوا أجرهم مرتين.
ويقال: إن منهم سلمان، وعبد الله بن سلام.(8/5548)
قال الضحاك: هم ناس من أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل، ثم أدركوا محمداً فآمنوا به، فآتاهم الله أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد قبل أن يبعث، وباتباعهم إياه حين بعث، فذلك قوله عنهم: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
وقال الزهري: هم النجاشي وأصحابه وجه بثني عشر رجلاً، فجلسوا مع النبي عليه السلام، وكان أبو جهل وأصحابه قريباً منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قاموا من عنده، تبعهم أبو جهل ومن تبعه فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركباً أحمق ولا أسفل منكم، فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشداً {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
وقوله: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}، أي من قبل إتيان محمد لأنا وجدنا صفته في كتابنا فآمنا به، ثم بعث فآمنا به. والهاء في " قبله " تعود على /، النبي عليه السلام، أو على(8/5549)
القرآن، فالتقدير: وإذا يتلى عليهم القرآن قالوا: آمنا به إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبل هذا القرآن - أي من قبل نزوله - مسلمين.
وقيل: نزلت في عشرين رجلاً من النصارى، قدموا على النبي عليه السلام وهو بمكة حين بلغهم خبره، فوجدوه في المجلس، فجلسوا إليه، وكلموه وساءلوه. ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا عن مسألتهم له فيما أرادوا، دعاهم النبي عليه السلام إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا، وصدقوا، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه، اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم وصدقمتوه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً.(8/5550)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
وقيل: كانوا ثمانين رجلاً، منهم أربعون من نصارى نجران واثنان وثلاثون من نصارى الحبشة، وثمانية من الروم، وفيهم نزل من قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} إلى قوله: {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55].
قال تعالى: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ}، وقد تقدم تفسير هذا في الآية التي قبل هذه.
ثم قال: {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة}، أي ويدفعون بالحسنة من أعمالهم السيئة، أي يدفعون بالاستغفار والتوبة: الذنوب.
وقال الزجاج: ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات.
وقوله: {بِمَا صَبَرُواْ} قال قتادة: صبروا على الكتاب الأول، وعلى اتباع محمد، وهو قوله ابن زيد.
وقيل: صبروا على الإيمان بمحمد قبل أن يبعث، وعلى اتباعه بعد أن بعث،(8/5551)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
قاله الضحاك.
وعن مجاهد: في قوله: {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ}، أنها نزلت في قوم مشركين أسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فأعطوا أجرهم مرتين بصبرهم.
قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ}، أي وإذا سمع هؤلاء الذين أوتوا الكتاب اللغو: وهو الباطل من القول، أعرضوا عنه.
وقيل: المعنى إذا سمعوا ما زيد في كتاب الله وغير مما ليس منه، أعرضوا عنه، قاله ابن زيد.
وقال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب أسلموا، فكان المشركون يؤذونهم، فكانوا يصفحون عنهم ويقولون: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} فمعنى {أَعْرَضُواْ عَنْهُ} لم يصغوا إليه ولا التفتوا.
{لَنَآ أَعْمَالُنَا} أي قد رضينا بها لأنفسنا {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، أي قد رضيتم بها لأنفسكم {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، أي أمنة لكم منا أن نسابكم أو تسمعوا منا ما لا(8/5552)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
تحبون {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين}، أي لا نريد محاورة أهل الجهل.
وقيل: معناه: لا نطلب عمل أهل الجهل.
وقال بعض العلماء: الآية منسوخة، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الابتداء بالسلام على الكفار. وهذا لا يصح لأن الآية ليست من السلام الذي هو تحية، إنما هو من المتاركة والمباراة.
وقال جماعة: هي منسوخة بالأمر بالقتال.
وقيل: الآية محكمة، وإنما هذا قول حسن ومخاطبة جميلة.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}،
أي إنك يا محمد لا تهدي من أحببت هدايته، ولكن الله يهدي من يشاء هدايته(8/5553)
من خلقه، فيوفقه للإيمان. {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}، أي والله أعلم بمن سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد. ويروى: أن هذه الآية: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع عمه أبو طالب من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان.
روى أبو هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب عند الموت: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. قال: لولا أن تعيرني /، قريش. يقولون ما حمله إلا جزع الموت أقرت عينك بها؟ فنزلت {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، الآية ".
وروى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن(8/5554)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
المغيرة، فقال رسول الله: يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه، ويعيد تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما والله لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك " فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. وأنزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآيات ".
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: نزلت في أبي طالب على ما ذكرنا.
قال تعالى: {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ}، أي وقال كفار قريش: إن نتبع الذي جئتنا به، ونتبرأ من الأنداد والآلهة: يتخطفنا الناس من أرضنا، لاجتماع جميعهم على خلافنا، وحربنا، يقول لهم الله جل ذكره: {إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} أي نوطئ لهم بلداً: حرم فيه سفك الدماء، ومنع من أن يتناول سكانه فيه بسوء، وأمن أهله من أن تصيبهم فيه غارة أو قتل أو سبي. قال ابن عباس: كان من أحدث حدثاً في بلد غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم أمن إذا دخله، ولكن لا ينبغي لأهل مكة أن يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكسوه، فإذا خرج(8/5555)
من الحرم أخذ وأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث فيه حدثاً أخذ بحدثه فيه.
قال مجاهد: إذا أصاب الرجل الحد في غير الحرم، ثم أتى الحرم، أخرج من الحرم، فأقيم عليه الحد، وإن أصاب الحد في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم.
وقال ابن جبير: نحوه، وأكثر الفقهاء: على أن الحد يقام في الحرم على من وجب عليه حد أحدثه في الحرم أو غير الحرم، ولا يمنع الحرم من الحق من حقوق الله، ولا من حق أوجبه الله، فالمعنى: أن من مكن لكم حرماً آمناً، لا يتعدى على أحد فيه، قادر على أن يمنع منكم من خالفكم في الدين إن آمنتم، لأنهم اعتذروا أنهم يخافون أن تجتمع عليهم العرب، فتقتلهم إن آمنوا أو خالفوا دين العرب، فأعلمهم أن من جعل لكم الحرم آمناً يقدر على أن يمنعكم من العرب إن آمنتم.
قال ابن عباس: " الحارث بن نوفل هو الذي قال:(8/5556)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ}.
قوله: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}، أي تجبى إليه من كل بلد. {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا}، أي رزقاً لهم من عندنا. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، نعم الله عليهم.
قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}، أي وكثير من القرى أهلكنا أهلها، و {كَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا}، و {مَعِيشَتَهَا}، نصب على حذف " في ". والتقدير عند " المازني " بطرت في معيشتها، ونصبه عند الفراء على التفسير، ونظيره {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} [النساء: 4]. والبطر: الأشر في النعمة {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ}، أي دورهم: {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً}، أي إلا وقتاً قليلاً، فتلك إشارة إلى مساكن عاد بناحية الأحقاف واليمن. وإلى منازل ثمود بناحية وادي القرى، ومساكن قوم لوط بالمؤتفكات وغير ذلك من مساكن الأمم المهلكة. وقيل: المعى لم يسكن منها إلا القليل، وباقيها خراب، والمعنى: إلا قليلاً منها فإنه سكن. {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين}، أي لا وارث لهم فيها.(8/5557)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
ثم قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً}، أي لم يكن ربك يا محمد مهلك القرى التي حوالي مكة في زمانك وعصرك {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً} أي في مكة / لأنها أم القرى.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}، أي القرآن، والرسول محمداً صلى الله عليه وسلم.
{ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}، أي لم نكن مهلكي القرى وهي بالله مؤمنة، إنما نهلكها بظلمها أنفسها.
قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا}، أي ما أعطيتم من شيء من مال وأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه {الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا}.
ليس مما يغني عنكم شيئاً، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم، {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ}، مما متعتم به في الحياة الدنيا، وإبقاء لأهل طاعته وولايته لأنه دائم لا نفاذ له.
وقيل معناه: خير ثواباً وإبقاء عندنا.(8/5558)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشر، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين.
قال تعالى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ}، أي أفمن وعده الله من خلقه على طاعته إياه أن ينجز له ما وعده {فَهُوَ لاَقِيهِ} لاق ما وعد به، كمن متعه الله في الدنيا متاعاً زائلاً {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين}، أي من المشهدين عذاب الله وأليم عقابه.
وقال قتادة: هو المؤمن يسمع كتاب الله جل وعز وصدق به، وآمن بما وعده الله فيه. {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا}، وهو الكافر {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين}، عذاب الله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي جهل بن هشام لعنه الله.(8/5559)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
وعن مجاهد أيضاً: أنها نزلت في حمزة، وعلي، وأبي جهل،. وقيل: نزلت في حمزة وأبي جهل.
أي ويوم ينادي رب العزة الذين أشركوا به في الدنيا، فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، في الدنيا أنهم لي شركاء، فالمعنى: أين شركائي على قولكم وزعمكم؟ وهذا النداء إنما هو على طريق التوبيخ لهم، وإلا فقد عرفوا في ذلك اليوم بطلان ما كانوا عليه، وعرفوا أن أولئك الشركاء الذين كانوا يعبدون لا ينفعونهم بشيء.
قوله تعالى: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول}، أي وجب عليهم العذاب(8/5560)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
والغضب واللعنة.
قال قتادة: هم الشياطين يعني الذين يغوون الناس.
وقيل: {حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وجبت عليهم الحجة فعذبوا.
{رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ}، أي دعوناهم إلى الغي، {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}، أي أضللناهم كما ضللنا. {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ}، أي تبرأ بعضنا من بعض وعاداه، وهو قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
قوله: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، أي ما كانوا يعبدوننا.
وقيل: هم دعاة الكفار إلى الكفر من الإنس.
قوله تعالى ذكره: {وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ}،
أي وقيل للمشركين: ادعوا شركاءكم الذين كنتم تدعون في الدنيا من دون الله، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ}، أي لم يجيبوهم لحجة، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم(8/5561)
اختلقوهم وأضافوهم إلى العبادة.
وقوله: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ}، أي فودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون للحق في الدنيا.
وقيل: المعنى لو أنهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم لما رأوا العذاب.
وقيل: التقدير لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لأنجاهم الهدى. ثم قال تعالى:: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}، أي يوم ينادي الله لهؤلاء المشركين فيقول لهم: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}، الذين أرسلوا إليكم يدعونكم إلى توحيد الله. ثم قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ}، أي خفيت عليهم الأخبار.
وقيل المعنى: فعميت عليهم الحجج فلم يدروا بما يحتجون. قاله مجاهد.
وقال ابن جريج: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}: بلا إله إلا الله / هي التوحيد.(8/5562)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
وقيل: إنهم تجبروا فلم يدروا ماذا يجيبون لما سئلوا.
وقوله: {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ}، أي بالأنساب والقرابة، قالهه مجاهدد. ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، أي من تاب من شركه، وآمن وعمل بما أمره الله ورسوله: {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين}، أي من المنجيين المدرركين طلبتهمم عند الله الخالدين في جنانه، و " عسى " من الله واجب.
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ}، أي يخلق ما يريد، ويختار الرسل، {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي ليس يرسل الرسل باختيارهم: أي باختيار المشركين، فالوقف على هذا المعنى {وَيَخْتَارُ}، و " ما " نافية.
قال علي بن سليمان: لا يجوز أن تكون " ما " في موضع نصب، لأنه لا عائد عليها. وفي كون ما للنفي رد على القدرية، ولو كانت " ما " في موضع نصب لكان ضميرها اسم كان، في كان مضممراً، وللزم نصب {الخيرة}، على خبر كان.(8/5563)
وأجاز الزجاج: أن تكون " ما " في موضع نصب بيختار وتقدر حذفاً من الكلام، والتقدير: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة، فلإتمام على هذا القول على و {يَخْتَارُ}، ولا يقف إلا على {الخيرة}. وجعل " ما " نافية، والوقف على {وَيَخْتَارُ}. وهو مذهب أكثر العلماء.
وكان الطبري ينكر أن تكون " ما " نافية، ولا يحسن عنده أن تكون " ما " إلا في موضع نصب بمعنى الذي، والتقدير عنده: ويختار لولاية الخيرة من خلقه من سبقت له منه السعادة، وذلك أن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم، فيجعلونها لآلهتهم. فقال الله: وربك يا محمد {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}، أن يخلقه، ويختار للهداية من خلقه من سبق له في علمه. السعادة نظير ما كان من اختيار هؤلاء المشركين لآلهتهم خيار أموالهم وقد قال ابن عباس في الآية: كانوا يجعلون لآلهتهم خيار أموالهم.
فالطبري: يجعل " ما " لمن يعقل بمعنى " الذي " ويقدر رفع " الخيرة "(8/5564)
بالابتداء {لَهُمُ الخيرة}، والجملة خبر كان وشبهه بقولك: " كان زيد أبوه منطلق " وهذا كلام لا وجه له ولا معنى لأنه عائد يعود على اسم كان، فإن قدرت فيه محذوفة جاز على بعد، وكان هو خبر " الخيرة "، ولهم: ملغى وأحال الطبري كون " ما " للنفي لأنها لو كانت للنفي لكان المعنى: أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى قبل نزول الآية، ولهم ذلك فيما يستقبلون، لأنك إذا قلت: " ما كان لك هذا " كان معنى الكلام: لم يكن فيما مضى وقد يكون له فيما يستقبل.
قال أبو محمد مؤلفه رضي الله عنهـ: وهذا لا يلزم، بل هي نفي عام في الماضي والمستقبل، وقد أجمع اللغة على أن " ما " تنفي الحال والاستقبال كليس. ولذلك عملت عملها. دليله: قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} [البقرة: 114]. وقوله: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} [الأحزاب: 38] فهذا نفي عام في الماضي والمستقبل، ولو كان الأمر على ما أصل الطبري لكان لهم دخولها فيما يستقبل غير خائفين، ولكان على النبي الحرج فيما فرض الله له فيما يستقبل، وهذا كثير في القرآن على خلاف ما تأول الطبري(8/5565)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
وأحاله أيضاً، لأنه لم يتقدم كلام يكون هذا نفي له، وهذا لا يلزم لأن الآي إنما كانت تنزل على ما يسأل النبي عليه السلام عنه وعلى ما هم عليه مصرون من الأعمال السيئة. وعلى ذلك أكثر أي القرآن، فلا يلزم أن يكون قبل كل آية تفسير ما نزلت فيه ومن أجله.
أي ما يسرون وما يظهرون، أي يختار من شاء من خلقه للرسالة، لأنه يعلم سرهم وظاهرهم، فهو يختارهم من خلقه على علم بهم.
قال تعالى: {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ}، أي والمعبود هو الله لا معبود غيره {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة}، أي في الدنيا والآخرة {وَلَهُ الحكم}، أي فصل القضاء بين خلقه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي تردون بعد مماتكم فيقضي بينكم بالحق.
قال تعالى ذكره: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة}، أي دائماً لا نهار إلى يوم القيامة.
والعرب تقول لكل ما كان متصلاً لا ينقطع من رخاء أو بلاء: هو سرمد.(8/5566)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
وقوله: {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} /، أي من معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ}، ما يقال لكم فتتعظون.
قال أبو إسحاق: بضياء: أي بنهار تتصرفون فيه في معاشكم. وكذلك قوله في النهار فمن {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}، أي تهدءون وتستريحون من حركاتكم، فلو كان أحدهما دائماً لهلك الخلق، ولكنه تعالى خلق للخلق الليل والنهار رحمة للخلق، وهو قوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}، أي في الليل، ولتبتغوا من فضله، يعني في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فعل ذلك، أي خلق لكم ذلك لتنتفعوا به ولتشكروا على ما فعل بكم من الرفق.
أي ويوم يناديهم ربك يا محمد فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم(8/5567)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
شركائي؟ والمعنى: أين شركائي على زعمكم وقولكم؟.
قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}، أي أخرجنا من أمة شهيداً منهم ليشهد عليهم بأعمالهم. يقال: إنهم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا.
ويروى: أن كل قرن لا يخلو من شهيد يشهد عليهم يوم القيامة بأعمالهم.
وقيل المعنى: أحضرنا من كل أمة نبيها الذي يشهد عليها بما فعلت.
قاله قتادة ومجاهد.
{فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}، أي حجتكم على إشراككم بالله مع مجيء الرسل إليكم بالحجج، والآيات {فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ}، أي أيقنوا أن الحجة لله عليهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، أي اضمحل وذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا فلم ينتفعوا به بل ضرهم وأهلكهم.(8/5568)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
قوله تعالى ذكره: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى}،
" قارون " فاعول اسم أعجمي معرفة فلذلك لم ينصرف ومعنى {كَانَ مِن قَوْمِ موسى} أي من عشيرته، وكان ابن عمه لأبيه وأمه، وكان عند موسى من عباد المؤمنين. وهو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى: هو موسى بن عمران بن قاهث. قاله ابن جريج، والنخعي، وقتادة، ومالك ابن دينار.
وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى لأب وأم.
وقوله: {فبغى عَلَيْهِمْ}، أي تجاوز حده في التكبر عليهم.
وقيل: كان بغيه أنه أحدث زيادة شبر في طول ثيابه، قاله شهر بن حوشب.(8/5569)
وقال قتادة: كان بغيه عليهم بكثرة ماله.
قيل: إنه لكثرة ماله استخف بالفقراء، وازدرى بني إسرائيل، ولم يرع لهم حق الإيمان بالله.
وقيل: إنه كان ابن عم موسى، وكان عالماً بالتوراة فبغى على موسى، وقصد إلى الإفساد عليه والتكذيب له، وكان من طلبه للإفساد أن بغيّاً كانت مشهورة في بني إسرائيل فوجه إليها قارون، وكان أيسر أهل زمانه، فأمرها أن تصير إليه، وهو في ملإ من أصحابه، فتكذب على موسى، وتقول: إن موسى طلبني للفساد، وضمن لها قارون إن هي فعلت ذلك أن يخلطها بنسائه، وأن يعطيها على ذلك عطاء كثيراً، فجاءت المرأة، وقارون جالس مع أصحابه ورزقها الله التوبة، وقالت في نفسها: مالي مقام توبة مثل هذا، فأقبلت على أهل المجلس وقارون حاضر، فقالت لهم: إن قارون هذا وجه إلي يأمرني ويسألني أن أكذب على موسى وأن أقول: قد أرادني للفساد، وأن قارون كاذب في ذلك. فلما سمع قارون كلامها تحير وأبلس، واتصل الخبر بموسى عليه السلام فجعل الله أمر قارون إلى موسى، وأمر الأرض أن تطيعه فيه، فورد موسى على قارون، فأحس قارون بالبلاء، فقال: يا موسى ارحمني، فقال: يا أرض(8/5570)
خذيه، فخسفت به إلى سرته، ثم قال: يا أرض خذيه، فخسفت به إلى عنقه، واسترحم موسى فقال: يا أرض خذيه، فخسفت به حتى ساخت الأرض به وبداره، وه قوله جل ذكره: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81].
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز}، أي كنوز الأموال {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ}، أي خزائنه.
وقيل: هي التي يفتح بها الأبواب، والواحد في الوجهين: مفتاح، وروى الأعمش عن خيثمة أنه قال: كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلاً، كل مفتاح منها /، لباب كنز معلوم مثل الإصبع من جلود.
قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل.
وقال أبو صالح: كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً.
وقال الضحاك: مفاتحه: أوعيته.(8/5571)
وقيل: كانت مفاتح أقفال خزائنه لا تنقل من مكان إلى مكان إلا بعشرة أنفس من أهل القوة.
قال ابن عباس: {لَتَنُوءُ بالعصبة}، أي لتثقل بالعصبة.
وقال أبو عبيدة: مجازه ما إن العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه، والصحيح عند أهل اللغة أنه يقال: نؤت بالحمل: أي نهضت به على ثقل، ونأنى، وأنأني: إذا أثقلني.
وقيل المعنى: لتنيء العصبة: أي تميلهم من ثقلها، كما يقال: ذهبت به، وأذهبته.
والعصبة عند ابن عباس: أربعون، وكذلك قال الضحاك وأبو صالح.
وقال قتادة: هي ما بين العشرة إلى الأربعين.(8/5572)
وقال خيثمة: هم ستون، وقال: كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلاً.
وقيل: كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة.
وروى الضحاك عن ابن عباس: {لَتَنُوءُ بالعصبة} قال: العصبة: ثلاثة، وعنه: العصبة ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: العصبة ما بين عشرة إلى خمسة عشر.
وروى ابن جريج عن مجاهد: العصبة خمسة عشر رجلاً.
وحكى الزجاج: أن العصبة هنا: سبعون رجلاً، والعصبة في اللغة: الجماعة، يتعصب بعضهم لبعض.
وقوله: {أُوْلِي القوة}، أي ذوي الشدة.
قال مجاهد: {أُوْلِي القوة} خمسة عشر رجلاً.(8/5573)
ثم قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله}، أي لا تبطر ولا تأشر {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين}، أي البطرين الأشرين الذين لا يشكرون على ما آتاهم الله من فضله، أمروا بالتواضع والاستكانة لله.
قال قتادة: {الفرحين}، المرحين، وكذلك قال ابن عباس.
وقال مجاهد: المتبذخين.
وقيل: {الفرحين} المستهزئين.
وذكر الفراء: أن موسى الذي قال له ذلك وحده، فأخبر عنه بلفظ الجماعة كما قال: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود.
وفرق الفراء بين الفرحين والفارحين، فقال: الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين: الذين يفرحون فيما يستقبل، ومثله عنده طمع وطامع، وميت(8/5574)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
ومايت، وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] يدل على خلاف ما قال الفراء، لأن هذا للمستقبل، ولم يكونوا في حال موت إذ خوطبوا بهذا، ولم يقل: مايت ومايتون.
وقال الزجاج: معنى {لاَ تَفْرَحْ} أي تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي فيه الحق.
قال تعالى: {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة}، أي وقال قوم قارون له: التمس في المال الذي أعطاكه الله الدار الآخرة بالعمل الصالح فيه {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا}.
قال ابن عباس: معناه لا تترك العمل في الدنيا لله بطاعته وهو معنى قول مجاهد وغيره.
قال ابن زيد: لا تنس أن تقدم من دنياك لآخرتك.
وقيل معناه: بل من لذات الدنيا المحللة، لأن ذلك ليس بمحظور عليك.
وقيل: معناه لا تترك أن تطلب بدنياك الآخرة فهو حظك من دنياك.(8/5575)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
وقال قتادة: معناه لا تخسر ما أحل الله لك فيها فإن لك فيها غنى وكفاية
وقال الحسن: معناه قدم الفضل وأمسك ما يبلغك.
وقال ابن جريج: الحلال فيها.
وعن مالك رضي الله عنهـ: أنه الأكل والشرب في غير سرف.
ثم قال تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ}، أي وأحسن في الدنيا بإنفاق مالك في وجهه، كما وسع الله عليك. {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض}، أي لا تلتمس ما حرم الله عليك من البغي على قومك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين}، أي لا يحب بغاة البغي والمعاصي.
قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي}، أي قال قارون لقومه لما وعظوه: إنما أوتيت هذا المال: {على عِلْمٍ عندي} أي بفضل علم عندي علمه الله مني، فرضي بذلك عني، وفضلني عليكم بالمال لذلك، فلم يرض بأن يكون الله هو(8/5576)
المنعم عليه بذلك، فأضاف اكتساب ذلك إلى نفسه لا بشكر الله عليه، فصار كافراً بذلك، وببغيه على بني إسرائيل، وكان قارون أقرأ الناس للتوراة.
/ قيل: كان يعرف عمل الكيمياء، وأنكره الزجاج، وقال: الكيمياء باطل.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ}، أي بطشاً {وَأَكْثَرُ جَمْعاً}، أي جمعاً للأموال فلم تغن عنه أمواله شيئاً، فلا فضل لمن أوتيها.
ثم قال: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون}.
قال قتادة: يدخلون النار يغير حساب.
وقيل: المعنى أن الملائكة لا تسأل عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم، كقوله جل ذكره: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] قاله مجاهد، وسيماهم: زرقة العيون، وسواد الوجوه.
وقيل: المعنى ولا يسأل هلاء عن ذنوب من مضى وأهلك من الأمم الكثيرة الأموال.(8/5577)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
وقيل المعنى: لا يسألون سؤال اختيار فيختلف الضمير في ذنوبهم على مقدار المعاني المذكورة.
قوله تعالى ذكره: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}.
قيل: خرج في ثياب الأرجوان.
قال جابر: خرج في القرمز.
وقال مجاهد: خرج في ثياب حمر على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات.
قال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن ثياب حمر.
وقال الحسن: خرج في ثياب حمر وصفر.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة عليهم وعلى دوابهم الأرجوان.(8/5578)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات.
وقال شهر بن حوشب: زادوا على الناس في طول ثياب أربعة أشبار.
{قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا}، أي يحبون زينة الدنيا من قوم قارون {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ}، من زينة الدنيا.
{إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو نصيب عظيم في الدنيا.
قال تعالى: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم}، أي اليقين والإيمان {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله}، أي اتقوا الله وأطيعوه، فثواب الله لمن آمن به وبرسله {خَيْرٌ} مما أوتي قارون من زينته وماله. {وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون} أي لا يوفق لقول هذه الكلمة وهي {ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، إلا الصابرون. أي إلا الذين صبروا عن زينة الحياة الدنيا، وآثروا ما عند الله من النعيم على شهوات الدنيا.
قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} أي فخسفنا بقارون وأهل داره الأرض.
روي: أن موسى عليه السلام أمر الأرض أن تأخذه، ومن كان يتبعه من جلسائه في داره، وكان معه جماعة وهم على مثل حاله من النفاق على موسى.
قال ابن عباس: لما نزلت الزكاة أتى موسى قارون فصالحه على كل ألف دينار ديناراً، وعلى كل ألف درهم درهماً، وعلى كل ألف شاة شاة. ثم أتى قارون بيته(8/5579)
فحسبه فوجده كثيراً، فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً فتقذفه بنفسها، فدعوها فجعلوا لها جعلاً على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى، فقال لموسى إن بني إسرئيل قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، فقال يا بني إسرائيل: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه بثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت أو رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت، قال لها موسى: يا فلانة، قالت: لبيك، قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا وقد كذبوا، وقد جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي فوثب وسجد وهو بينهم فأوحى الله إليه: مر الأرض بما شئت، فقال يا أرض خذيهم، فأخذتهم /، إلى أقدامهم، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم كذلك حتى أخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، ويتضرعون إليه، فقال: يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، يقول لك عبادي يا موسى، يا موسى لا ترحمهم، أما لو إياي دعوا لوجدوني قريباً مجيباً.
قال ابن عباس: خسف به وبداره إلى الأرض السابعة.
قال ابن جريج: بلغنا أن قارون يخسف به كل يوم قامة، ولا يبلغ إلى أسفل(8/5580)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
الأرض إلى يوم القيامة.
وقال مالك بن دينار: بلغنا أن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة. ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ}، أي من فرقة ترد عنه عذاب الله. وما كان ممن ينتصر من عذاب الله.
قال: {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}، أي قال الذين قالوا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] لما أن خسف به، وبداره، وأمواله {وَيْكَأَنَّ الله}.
قال الخليل، وسيبويه، والأخفش والكسائي: في {وَيْكَأَنَّ}: إن القوم تنبهوا أو انتبهوا فقالوا: وي.
والمتندم من العرب يقول في حال تندمه: وي.
قال الخليل: هي " وي " مفصولة من كأن.
والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم أو ما يشبه أن يكون ذلك عندكم هكذا. فالمعنى على هذا القول أن القوم تندموا على ما سلف من قولهم: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] الآية.(8/5581)
ومن شأن المتندم إذا أظهر ندامته أن يقول " وي " فالوقف على هذا المعنى " وي ".
وقال المفسرون: معناها: ألم تر.
وحكى الفراء: أن أصلها " ويلك " ثم حذفت اللام، فيكون الوقف.
" ويك "، وهذا بعيد عند كل النحويين، لأن القوم لم يخاطبوا أبداً، ويلزم على قوله أن تكون أن مكسورة إذ لا شيء يفتحها مع أن حذف اللام من " ويلك " غير معروف. وقدره بعض من يقول بقول الفراء " ويلك " إعلم أنه وهو بعيد لما ذكرنا، ولأن العرب لا تعلم العلم مضمراً.
وقال بعض الكوفيين: فيه معنى التقرير: ومعناه: أما تروا أنه لا يفلح.
وحكي: أنه سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال لها: ويكأنه وراء البيت، على معنى أما ترى أنه وراء البيت؟
وحكى يونس عن العرب: وي ما أغفله.
وحكى قطرب: " وي " لأمه.(8/5582)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
وقال معمر: معناه: أو لا يعلم أنه لا يفلح.
فالمعنى: أن القوم لما عاينوا ما نزل بقارون، قالوا: ألم تر أن {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ويضيقه على من يشاء، ليس يعطي أحد الفضل فيه ولا يمنع أحد لنقص فيه، بل يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء.
وكتبت " ويكأن " متصلة لكثرة الاستعمال، كما كتبوا يا ابن أم متصلة. وروي عن الكسائي: أنه يقف " وي " ويبتدئ كأن.
وحكي عن أبي عمرو: أنه يقف " ويك ". والمستعمل وصل ذلك اتباعاً للمصحف، ولا يوقف على بعضه دون بعض.
قال: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً}، أي لا يريدون تكبراً عن الحق، ولا ظلم الناس بغير حق.
قال عكرمة: العلو: التجبر.(8/5583)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قال ابن جبير: العلو: البغي.
وقال ابن جريج: علواً، تعظماً وتجبراً، {وَلاَ فَسَاداً}، عملاً بالمعاصي.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله: {تِلْكَ الدار الآخرة}.
وقوله تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}،.
قال قتادة والضحاك معناه: والجنة للمتقين: يعني الذين اتقوا المعاصي وأدوا الفرائض.
قال تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، أي من جاء يوم القيامة بالإخلاص فله منه خير.
قال عكرمة: ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله. وإنما المعنى: من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير أي حظ خير.(8/5584)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
وقيل المعنى: من جاء يوم القيامة بالحسنات فله ما هو خير له من ثوابها، وهو التفضل الذي يزيده الله على ثوابها، لم يستحقه لعمله، وإنما هو تفضل من الله عليه، فيكون الثواب على عمله، والتفضل خير له من الثواب وحده.
وقيل: ذلك الخير: الجنة.
{وَمَن جَآءَ بالسيئة}، يعني الشرك بالله {فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ}، أي لا يثابون إلا جزاءَ / أعمالهم لا يزاد عليهم.
قال تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}،.
هذا مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن الذي أنزل عليك القرآن يا محمد. قاله مجاهد وغيره.
وقيل معنى: فرض عليك العمل بما فيه.
{لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}، أي إلى الجنة، قاله ابن عباس، والخدري، وأبو مالك، وأبو صالح، لأن أباه منها خرج، فجاز أن يقال للنبي: إلى معاد فيها، وإن كان هو(8/5585)
لم يخرج منها.
وقيل: إنما جاز ذلك لأنه دخلها ليلة الإسراء، فالله تعالى يرده إلى الموضع الذي دخله، ويعود به إليه.
وقال عكرمة، وعطاء، ومجاهد: إلى معاد: إلى يوم القيامة.
وكذلك قال الحسن: معاده الآخرة.
وعن ابن عباس: إلى معاد: إلى الموت، وقاله ابن جبير.
وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد: إلى معاد: إلى مكة، وهو الموضع الذي خرج منه، فكان ذلك بعد مدة، وهذا من دلالات نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بمكة أنه إذا خرج منها سيعود إليها، فكان ذلك. والسورة مكية ورجع إلى مكة بعد هجرته إلى المدينة وبقائه بها تسعة أعوام أو نحوها، وذلك كله بوحي الله جل ذكره إليه بذلك في كتابه بقوله: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}.(8/5586)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
واختار الزجاج قول من قال: إلى يوم القيامة، لأن المعنى لرادك إلى الحياة التي كنت فيها.
ثم قال تعالى: {قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى}، أي: من جاء بالهدى منا ومنكم {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، منا ومنكم، أي في جور عن قصد السبيل.
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب}، أي لم تكن يا محمد تظن أن القرآن ينزل عليك فتعلم به أخبار الأمم قبلك، وما يحدث بعدك، إلا أن ربك رحمك فأنزله عليك ف {إِلاَّ رَحْمَةً} استثناء منقطع، فهذا تذكير من الله لنبيه بنعمه عليه.
{فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ}، أي عوناً لمن كفر بربه على كفره.
قال تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ}، أي لا يصرفك يا محمد الكفار عن تبليغ آيات الله وحججه بعد إذا أنزلت إليك بقولهم:(8/5587)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} [القصص: 48]، {وادع إلى رَبِّكَ}، أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين}، أي ولا تترك تبليغ ما أرسلت به، فتكون كالمشركين في ترك ما أمرت به.
قال: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ}، أي لا تعبد يا محمد صلى الله عليه وسلم مع معبودك الذي له عبادة كل شيء معبوداً آخر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، أي لا معبود تصلح له العبادة إلا له، الذي {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، أي إلا إياه.
وقال سفيان معناه: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه.
وحكى بعض أهل اللغة أن معناه: إلا جاهه، يقال: فلان وجه القوم أي جاه القوم، فالتقدير: كل شيء في العباد هالك إلا الوجه الذي يتوجهون به إلى الله جل ذكره.(8/5588)
{لَهُ الحكم}، أي بين خلقه دون غيره، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي تردون بعد مماتكم، فيقضي بينكم بالعدل.(8/5589)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ
المجلد التاسع
العنكبوت - الصافات
1429 هـ 2008 م(8/5590)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العنكبوت
سورة العنكبوت مكية
قوله تعالى ذكره:
{الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} إلى قوله: {فِي صُدُورِ العالمين}.
معن الاستفهام هنا التقرير والتوبيخ.
والمعنى أنا الله أعلم. أحسب الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى(9/5595)
المشركين أن نتركهم بغير اختبار وامتحان.
قال أبو إسحاق: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا: إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما يتبيّن به حقيقة إيمانهم.
قال مجاهد: لا يفتنون: لا يبتلون في أنفسهم وأموالهم.
وقال قتادة: لا يقتلون.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ}.
أي ولقد اختبرنا الذين من قبل قومك يا محمد، بإرسال الرسل وبالأذى من المشركين كأذى القبط وفرعون لبني إسرائيل، فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم إنا(9/5596)
مؤمنون وليعلمنّ الكاذبين في قتيلهم ذلك. وقد كان الله جلّ ذكره عالماً بهم في كل حال/، ولكن معناه فليظهرن الله ذلك بالابتلاء والاختبار.
وقيل: المعنى: فليعلمنّ الله الذين ثبتوا في الحرب من الذين انهزموا فيكون " صدقوا " مأخوذاً من الصَّدْقِ وهو الصَّلْبُ.
وكذبوا من كذب إذا انهزم.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين عذّبهم المشركون مثل عمار بن ياسر، وعياش بن [أبي] ربيعة، والوليد بن الوليد، وهشام بن عمار، وسمية(9/5597)
أم عمارة، وغيرهم، ففتن بعضهم وصبر بعضهم على الأذى حتى فرّج الله عنهم.
وقيل: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وتخلفوا عن الهجرة، فالفتنة تخلفهم عن الهجرة.
وقال الشعبي: نزلت في قوم أقروا بالإسلام في مكة فكتب إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فابتعهم المشركون فردوهم، فنزلت هذه الآية فيهم، فكتبوا إليهم أنه قد أنزلت فيكم آية كذا وكذا. . فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل، ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ} [النحل: 110] الآية.(9/5598)
ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} أي: أحسب الذين يشركون بالله أن يعجزونا فلا تقدر عليهم، ساء الحكم الذي يحكمونه وقوله " ساء ما " يجوز أن تكون " ما " نكرة على تقدير ساء كثيراً يحكمون، كنعم رجلاً زيد.
ويجوز أن تكون معرفة على تقدير ساء الشيء يحكمون.
وأجاز ابن كيسان أن تكون ما والفعل مصدراً، أي: ساء حكمهم. ولكن لا يقع لفظ المصدر بعد ساء وإن كان الكلام بمعنى ذلك، كما نقول عسى أن تقوم، ولا يجوز عسى القيام، وهو بمعناه. فأجاز أن تكون ما زائدة، ولكنها سدت مسد اسم ساء.
ثم قال تعالى ذكره: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} أي: من كان يخاف يوم لقاء الله.
وقيل من كان يخاف الموت فليقدم عملاً يقدم عليه.
{فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} فهو الموت لا بدّ منه. وعمل يرجو على بابها بمعنى الطمع.(9/5599)
والمعنى: من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله الذي أجله لبعث خلقه لآت قريباً، وهو السميع لقوههم آمنا بالله، العليم بصدق قولهم.
ثم قال: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي: من جاهد واجتهد في الأعمال الصالحة فإنما ينفع نفسه، ليس لله في ذلك نفع لأنه تعالى ذكره عني عن جميع الخلق.
وقيل: المعنى ومن جاهد عدوه، لنفسه لا لله ولا ابتغاء ثوابه على جهاده، فليس لله في جهاده حاجة لأنه غني عن جميع خلقه.
ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}.
أي: والذين مع إيمانهم عند الاختبار والابتلاء وعملوا الأعمال الصالحة، لنكفرنّ عنهم ما سلف من ذنوبهم في شركهم.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: ولنثيبنهم على صالحات أعمالهم في إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون في حال شركهم مع تكفير سيئاتهم.
ثم قال {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي: وصيناه أن يفعل حسناً.
وقيل: في وصينا مضمر مكرر ناصب لحسن.
وقيل: التقدير: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن.(9/5600)
ومن قرأ " إحساناً " فمعناه أن يحسن إحساناً.
ثم قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ} أي: خالفهما في ذلك.
{إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: معادكم فأخبركم بأعمالكم في الدنيا من صالح وسيئ، ثم أجازيكم عليها.
روي أن هذه الآية نزلت بسبب سعد بن أبي وقاص لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني ظل بيت حتى يرجع، فأمره الله بالإحسان إليها، وأن لا يطيعها في الشرك.
وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة كان قد هاجر مع عمر رضي الله عنهـ حتى وصلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما أخوا عياش لأم(9/5601)
وأمهم امرأة من بني تميم. فلما وصلا المدينة قبل هجرة النبي عليه السلام قالا: لعياش: ألست تزعم أن من دين محمد صلة الرحم وبرّ الوالدين، وقد جئناك ونحن/ إخوتك وبنو عمك، وأنّ أمُّنا قالت ألاّ تطعم طعاماً ولا تأوي بيتاً حتى تراك وقج كانت لك أشدّ حباً منا، فاخرج معنا حتى ترضي والدتك، ففي رضاها رضى ربك ورضا محمد، ومع هذا تأخذ مالك. واستشار عمر فقال: هم يخادعونك ويمكرون بك. ومعي مال، ولك الله عليّ عز وجل، إن أقمت معي ولم ترجع عن هجرتك أن أقسِّم مالي بيني وبينك نصفين، فما زالوا به حتى أطاعهم وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذا عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها.
فإن رابك منهم أمر فارجع، فمضى معهم حتى أتى البيداء فقال أبو جهل لعياش: إن ناقتي قد كَلّتْ فاحملني معك، قال له: نعم، قال: فانزل حتى أوطئ لنفسي ولك، فلما سار معهم في الأرض وهم ثلاثة كان معهم الحارث بين يزيد العامري شدوه وثاقاً، ثم جلده كل وحد منهم مائة جلدة، ثم(9/5602)
ذهبوا به إلى أمه، فقالت له: والله لا تزال في العذاب حتى ترجع عن دين محمد فأنزل الله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ}. الآيات.
ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي: ندخل الصالحين، وذلك الجنة.
ثم قال: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} أي: ومن الناس من يقول أقررنا بالله (فوحّدناه)، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة فارتد عن إيمانه.
ثم قال: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ}.
يعني نصر لك يا محمّد وللمؤمنين، {لَيَقُولُنَّ} أي: ليقول هؤلاء المرتدّون عن الإيمان، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أيها المؤمنون ننصركم على أعدائكم، كذباً منهم وإفكاً.
يقول الله تعالى: {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} أي: يعلم ما في صدر كل واحد من خلقه، فكيف يخادع من لا يخفى عليه خافية ولا يستترعنه سر ولا علانية؟
قال ابن عباس: فتنته أن يرتد عن الإيمان إذا أوذي في الله.
قال مجاهد: هم أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في(9/5603)
أنفسهم افتتنوا فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.
وقال الضحاك وابن زيد: هم منافقون كانوا بمكة إذا أوذو أو جاءهم بلاء رجعوا إلى الكفر. وقال ابن عباس: كان نقوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم أهل مكة يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. فكتب بها إلى (من) بقي بمكة من المسلمين فلم(9/5604)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
يكن لم عذر فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيه هذه الآية: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا} الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ونزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} [النحل: 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إن الله جلّ ثناؤه قد جعل لكم مخرجاً فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وقال قتادة في الآيتين إلى {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}، هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ها هنا وسائرها مكي.
قال مجاهد: جعل فتنة الناس كعذاب الله، أي: جعل أذى الناس له في الدنيا كعذاب الله على معصيته، فأطاعهم كما يطيع الله من خاف عقابه.
وقيل: المعنى: خاف من عذاب الناس كما خاف من عذاب الله. ثم قال {لَيَقُولُنَّ} فردّه على المعنى فجمع، ورده أولاً على اللفظ فوحد.
وقوله: {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} أي: يعلم أنهم لكاذبون في قولهم: إنا كنا معكم.
قوله تعالى ذكره: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ} إلى قوله: {عَلَى الله يَسِيرٌ}.(9/5605)
فمعنى قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}.
أي: وليعلمنّ أولياء الله وحزبه أهل الإيمان بالله منكم من أهل النفاق وهو قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}.
ثم قال تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا} أي: كونوا على ما نحن عليه من الكفر {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} إن بعثتم وجوزيتم، فنحن نحمل/ آثام خطاياكم عنكم.
وذلك قول الوليد بن المغيرة: قال للمؤمنين: كونوا على ما نحن عليه من الكفر ونحن نحمل خطاياكمز
قيل: هو من الحمالة وليس من الحمل على الظهر. فالمعنى اتبعوا ديننا ونحن نضمن عنكم كل ما يلزمكم من عقوبة ذنب، وما هم بحاملين: أي: بضامنين ذلك.
وقيل: ذلك قول كفار قريش لمن آمن منهم: أنكروا البعث والجزاء فقالوا للمؤمنين أنكروا ذلك كما ننكره نحن، فإن بعثتم وجوزيتم فنحن نحمل عنكم خطاياكم.(9/5606)
قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم.
ثم قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} أي: وليحملنّ هؤلاء المشركون أوزارهم وأوزار من أضلّوا وصدوا عن سبيل الله.
{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون. ومثله قوله تعالى:
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} [النحل: 25].
قال قتادة: في حديث رفعه " من دعا إلى ضلالة كُتبَ عليه وزرها ووِزرُ من عَمِل بها ولا يَنْقُصُ منه شيء ".
وقال أبو أمامة الباهلي: " يُؤْتى بالرّجل يومَ القيامة يكونُ كثيرَ الحسناتِ فلا يزَالُ يقتصُّ منه حتى تَفْنى حسانته، ثم يُطالبُ فيقولُ الله جلّ وعزّ: اقتصُّوا من عبدي فتقول الملائكة، ما بقيَتْ له حسناتٌ، فقولُ خذوا من سيّئاتِ المظلومِ واجعلوها عليه. قالَ أبو أمامة: ثم تلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} ".(9/5607)
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}.
وهذه الآية وعيد من الله للمشركين من قريش القائلين للمؤمنين منهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم. فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما لحقه من قومه.
فالمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإن مصيرك ومصير من آمن بك إلى النجاة، ومصير من كفر بك إلى البوار والهلاك كفعلنا بنوح وقومه.
ذكر عون بن أبي شداد: أن الله جلّ ذكره أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً.
ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة.
وروى ابن وهب عمّن سمع عبد الوهاب بن مجاهد يقول: مكث نوح(9/5608)
يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله يسره إليهم.
قال: ثم يجهر به إليهم، قال: فيأخذونه، فيخنقونه حتى يُغشى عليه فيسقط مغشياً عليه، ثم يفيق فيقول: اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون قال: ويقول للرجل ابنه: يا أبه، ما لهذا الشيخ يصبح كل يوم لا يفيق، فيقول له: أخبرني جدي أنه لم يزل على هذا منذ كان.
وقوله تعالى ذكره: {فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
أي أهلكهم الماء الكثير في حال كفرهم وظلمهم لأنفسهم. وكل ماء كثير فاش فهو عند العرب طوفان. وكذلك الموت الذريع الكثير، يقال له: طوفان. مشتقّ من طاف يطوف وهو اسم موضوع لما أحاط بالأشياء.
ثم قال تعالى ذكره: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} أي: أنجينا نوحاً ومن معه في السفينة من ولده وأزواجهم. {وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي: وجعلنا السفينة عبرة وعظة للعالمين وحجة عليهم.
قال قتادة: أبقاها الله آية للناس على الجودي.(9/5609)
وقيل: المعنى: وجعلنا عقوبتنا آية.
ثم قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله}.
قال الكسائي: " وإبراهيم " عطف على الهاء في " انجيناه " وهي: نوح. أي: أنجينا نوحاً وإبراهيم.
وقيل: المعنى: وأرسلنا إبراهيم.
وقيل: المعنى: واذكر إبراهيم.
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه} أي: اتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.(9/5610)
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: هذا الفعل خير لكم من غيره {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً} أي: أصناماً. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي: توقولون كذباً.
وقال ابن عباس: معناه: تصعنون كذباً. وعن ابن عباس: تخلقون: تنحتون، أي: تصورون إفكاً. وقاله الحسن.
فالمعنى أن الذين تعبدمون من دون الله أصنام وأنتم/ تصنعونها.
ثم قال: {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} يعني الأصنام التي عبدوها من دون الله لا تقدر لهم على نفع فترزقهم.
{فابتغوا عِندَ الله الرزق} أي: التمسوا من عند الله الرزق لا من عند الأوثان.
{واعبدوه} أي: ذلوا له.
{واشكروا لَهُ} على رزقه إياكم.
{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: تردون من بعد مماتكم فيجازيكم على أعمالكم ويسألكم(9/5611)
على شكر نعمه عندكم.
ثم قال تعالى: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} أي: إن تكذبوا أيها الناس محمدّاً فيما دعاكم إليه، فقد كذب جماعات من قبلكم رسلها فيما أتتهم به من الحق، فحلّ بهم سخط الله، فكذلك سبيلكم سبيل الأُمم فيما هو نازل بكم، إذا كذبتم رسولكم.
{وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} أي: ما على محمد إلاّ أن يبلغكم من الله رسالته الظاهرة لمن سمعها.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: ألم يرَ هؤلاء المنكرون للبعث كيف يُبدئ الله خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم ينقله حالاً من بعد حال حتى أن يصير رجلاً كاملاً.
فمن قدر على هذا فهو قادر على إعادة المخلوق بعد موته، وذلك عليه هيّن لأن الإعادة عندكم أسهل من الابتداء، إذ الابتداء كان على غير مثال والإعادة هي على مثال متقدم، فذلك أسهل وأيسر فيما يعقلون.
وقيل: معناه: كيف يُبدئ الله الثمار وأنواع النبات فتفنى بأكلها ورعيها وشدّة الحرّ عليها، ثم يعيدها ثانية أبداً أبداً، وكيف يُبدئ الله خلق الإنسان فيهلك، ثم يحدث منه ولداً، ثم يحدث للولد ولداً، وكذلك سائ الحيوان يبدئ الله خلق الوالد ثم يعيد منه خلق الولد، ويهلك الوالد، وهكذا أبداً. . فاحتجّ الله عليهم بذلك لأنه أمر لا ينكرونه، يقرون به فمن قدر على ما تقرون قادر على إعادته بعد موته، وذلك أهو عليه فيما تعقلون، وكل عليه هيّن. ومعنى {يَرَوْاْ}: يعلموا.(9/5612)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا} إلى قوله: {مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين}.
أي: قل يا محمد للمنكرين للبعث: سيروا في الأرض فاستدلّوا بأنواع صنع الله، وانظروا إلى آثار كان قبلكم. وإلى ما صاروا إليه من الموت والفناء، فتعلموا أن الله بدأ الخلق في الأرض وأفناهم، ثم أحدثكم بعدهم. فكذلك سيفنيكم بالموت ثم يحييكم في الآخرة كلكم. فكما خلقكم في الدنيا بع أن لم تكونوا كذلك فيها وخلق من كان قبلكم بعد أن لم يكونوا فيها كذلك يحييكم بعد موتكم، فاعلموا أن الله على كل شيء قدير. وانظروا كيف بدأ لله الخلق للأشياء وأحدثها، فكما أنشأها وابتدأها، كذلك يقدر على إعادتها بعد إفنائها. وليس يتعذّر الإعادة على من ابتدأ الشيء.
وقوله: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ [النشأة] الآخرة}. يعني البعث بعد الموت.
ومن مده جعله اسماً في موضع المصدر كما قالوا: (عطاء) في موضع: " إعطاء ".
ولم يمد جعله مصدراً جرى على غير المصدر لأنه لو جرى على المصدر لقال ينشئ الإنشاء الآخر. ولكنه على تقدير: ثم الله ينشئ الخلق بعد موتهم فينشئون النشأة الآخرة.(9/5613)
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: إن الله على إنشاء جميع خلقه بعد فنائه كهيئته قبل ذلك قادر، لا يعجزه شيئ أراده. وقيدر أبلغ من قادر.
ثم قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي: يعذّب من يشاء ممن سبق له الشقاء، ويرحم من يشاء ممن سبق له السعادة، وإليه تردون.
وقيل: يعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، ويرحم من يشاء ممن يستحق الرحمة. ثم قال: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء بمعجزين في السماء، أي: ليس يفوت الله أحد. وقيل: المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها.
وقال المبرد: التقدير: ولا من في السماء، على أن تكون (من) نكرة، وفي السماء من نعتها، ثم أقام النعت مقام المنعوت.
وقد ردّ عليه هذا/ القول علي بن سليمان، وقال: لا يجوز، لأن (من) إذا كانت نكرة فلا من صفتها، فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك(9/5614)
الصلة. والمعنى عنده: أن الناس خوطبوا يعقلون - من في السماء الوصول إليه أبعد - وأما المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولو كنتم في السماء ما أعجزتم، ومثله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
فالمعنى: لا تعجزوننا هرباً ولو كنتم في السماء.
قال ابن زيد: معناه: لا يعجزه - تعالى ذكره - أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه.
فالتقدير على هذا: وما أنتم بمعجزين الله في الأرض ولا من في السماء بمعجزي الله. على حرف (من) مرة واحدة، كما قال: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: إلاّ من له مقام.
وقيل: المعنى: وما أنتم معجزين من في الأرض من الملائكة ولا من في السماء منهم، على إضمار (من) في الموضعين، وهو بعيد.
ثم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي: ليس يمنعكم من عذاب الله ولي ولا نصير ينصركم إن أراد بكم سوءاً.
ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أي: كفروا بالقرآن وبالبعث: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أي: في الآخرة لمّا عاينوا لهم ما أعد لهم من العذاب.
{وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم موجع.(9/5615)
قال قتادة: إن الله جلّ ذمّ قوماً هانوا عليه فقال: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي}، وقال: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87].
فينبغي للمؤمن ألاّ ييأس من رحمة الله، وأن لا يأمن عذابه وعقابه. وصفة المؤمن أن يكون راجياً خائفاً. ثم قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يعني: قوم إبراهيم.
وهذا جواب لقوله عن إبراهيم: إنه قال لقومه اعبدوا الله واتقوه. وجميع ما جرى بين ذلك إما أتى به تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وعظة لقريش، وتذكيراً لهم وتوبيخاً. {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ}. أي: قال بعضهم لبعض اقتلوه أو حرّقوه بالنار ففعلوا، فأنجاه الله منها ولم يسلط [عليه]، بل جعلها برداً وسلاماً.
قال كعب: ما أحرقت منه إلاّ وثاقه.(9/5616)
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من النار وتصييرها عليه برداً وسلاماً، لدلالة وحجة لقوم يصدقون بما آتاهم من عند الله.
ثم قال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً} أي: قال لهم إبراهيم: اعبدوا الله واتّقوه، وقال لهم: إنما اتخذتم من دون الله آلهة هي أوثاناً للمودة، أي: فعلتم ذلك للمودة.
وهذا على قراءة من نصب. و (ما) مع (إن) حرف واحد. والمعنى: إنما اتخذتموها مودة بينكم، أي: تتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.
فأما من رفع المودة فإنه جعلها خبر إن، وما بمعنى الذي. أو على إضمار مبتدأ، أي: هو مودة أو تلك مودة. أي: إلفتكم وجماعتكم مودة بينكم. وإن شئت(9/5617)
جعلت (مودة) مبتدأ، وفي الحياة الدنيا الخبر. ومن أضاف المودة إلى بين أخرجها عن أن تكون ظرفاً، ولا يجوز أن تكون ظرفاً وهو مضاف.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي: يكون أمركم بعد هذه المودة في الدنيا على عبادة الأوثان إلى أن يتبرأ بعضكمم من بعض، ويلعن بعضكم بعضاً.
{وَمَأْوَاكُمُ النار} أي: مصير جميعكم إليها أيها العابدون الأوثان. {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي: ما لكم من نصنير من الله فينقذكم من عذابه.
" أوثاناً " وقف إن رفعت مودة على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ.
ثم قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} أي: صدقه لوط وقال إبراهيم: إني مهاجر إلى ربي، يعني إلى الشام. قل ابن عباس: هاجرا جميعاً إلى الشام.
قال قتادة: كانا بكوثى قرية من سواد الكوفة فهاجرا إلى الشام. وقيل:(9/5618)
الذي قال إني مهاجر إلى ربي هو لوط، لما انفرد بالإيمان بإبراهيم لم يقم بين أظهر الكافرين، فقال: إني مهاجر لقومي وبلدي، أخرج (من) بين أظهر الكفار إلى حيث يأمرني ربي. فهاجر من سواد الكوفة إلى الشام.
ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم} أي: الذي لا يذل من نصره، الحكيم في تدبيره/.
ثم قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي: وهب الله لإبراهيم ولده إسحاق وولده يعقوب بن إسحاق {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} أي: والكتب فدلّ الواحد على الجمع. يعني الكتاب الذي أنزل على موسى وداود وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم، كلهم من ذرية إبراهيم.
{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} أي: أعطيناه ثواب بلائه فينا في الدنيا {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي: في المجازاة لا ينقص من أجره شيء والأجر هنا الثناء الصالح والولد الصالح، قاله ابن عباس.
قال عكرمة: أجره في الدنيا هو أن أهل كل ملة يتولاه وهو عند الله من(9/5619)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
الصالحين في الآخرة.
وقال قتادة: أجره في الدنيا عافية وعمل صالح وثناء حسن، فلست تلقى أحداً من الملل إلاّ يرضى إبراهيم ويتولاه.
وقيل: أجره في الدنيا أن الله لم يبعث نبياً بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلاّ من ذريته، وليس من أهل دين إلاّ (وهم) يتحلون حب إبراهيم صلى الله عليه وسلم يدعون دينه، وذلك كله لا ينقصه من ثوابه في الآخرة، فلذلك قال: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي: إن له في الآخرة منازل الصالحين. ومثله قوله تعالى:
{إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} [ص: 46 - 47]. يعني في الآخرة لم ينقصهم ما تفضل به عليهم في الدنيا من أجرهم في الآخرة شيئاً.
ثم قال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} أي: واذكر لوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة، وهي إتيان الذكور.
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين} أي: لم يتقدمكم أحد إلى إتيان الذكور.
قوله تعالى ذكره: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} إلى قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
أي: تأتون الرجال في أدبارهم، وتقطعون الطريق على المسافرين.
روي أنهم كانوا يفعلون ذلك بمن يمر بهم من المسافرين، ومن يرِدُ ديارهم من(9/5620)
الغرباء، قاله ابن زيد.
روي أنهم كانوا - مع فسقهم - يقطعون الطريق ويقتلون ويأخذون الأمول حتى انقطعت الطريق فلا يسلكها أحد.
وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر}. روي عن عائشة أنه الفراط، يعني أنهم كانوا يتفارطون في مجالسهم.
" وروت أم هانئ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ذكره: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} قال: " كانوا يَخْذِفون أهلَ الطريقِ ويَسْخَرُونَ منهم، فهوَ المنكر الذي كانوا يأتون "، وقاله عكرمة والسدي.(9/5621)
وقل مجاهد: المنكر هنا أنهم كانوا يجامع بعضهم بعضاً في المجالس. وهو قول قتادة وابن زيد. والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع.
وروي ذلك عن ابن شهاب: " إنّ على مَنْ عمِلَ عمَلَ قومِ لوطٍ الرجم أُحْصِنَ أو لم يُحْصَن ".
قال مالك: إذا شهدَ على الفاعل والمفعول به أربعة شهداء عدول رُجما، ولا يرجمان حتى يُرى كما يرى المِرْوَد في المِكحلة أُحْصِنَا أو لم يُحْصَنَا إذا كانا قد بلغا الحُلمَ.(9/5622)
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الفاعلَ والمفعولَ بهِ ".
وقال عليّ بن أبي طالب: يحرق الفاعل والمفعول به في النار. وروي أن أبا بكر شاور علياً في هذا فأمر بحرقها.
وفعل ابن الزبير مثل ذلك في أيامه، وفعله هشام ابن عبد الملك. وقيل إنما فعلوا الحرق بعد القتل.(9/5623)
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر برجمِهما " وأكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك " القتل لهما جميعاً " وفي بعض الحديث: " ومن وقَعَ على ذاتِ مَحْرَمٍ قاتلوهُ ".
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا علا الذّكرَ الذّكَرُ اهتزّ العرشُ وقالت السماوات: يا ربّ مُرْنا أن نَحْصِبَهُ، وقالتِ الأرضُ: يا ربِّ مُرْنَا نَبْتَلِعَهُ، فيقولُ:(9/5624)
دعوهُ فإنّ ممرَّهُ بي ووقوفَهُ بينَ يديَّ ".
ثم قال تعالى ذكره: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله} أي: ما جاوب لوطاً قومه لما نهاهم عن المنكر، وخوفهم من عذاب الله إلاّ أن قالوا: جئنا بعذاب الله الذي توعدنا به إن كنت صادقاً في قولك.
{قَالَ رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} أي: قال لوط مستغيثاً لما استعجله قومه بالعذاب: يا ربّ انصرني على القوم المفسدين/.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} أي: جاءته الملائكة من الله بالبشرى بإسحاق ومن ولده بيعقوب.
{قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} وهي: سدوم قرية قوم لوط.
{إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي: ظالمين أنفسهم بمعصيتهم الله.
ثم قال تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أي: قال ذلك إبراهيم عليه السلام.
قال ابن عباس: فجادل إبراهيمُ الملائكة في قوم لوط عليه السلام أن يتركوا، فقال أرأيتم إن كان فيها عشرة أبيات من المسلمين أتتركون؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة أبيات ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا اثنان، فقال إبراهيم: إن فيها لوطاً.(9/5625)
{فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي: من الباقين في العذاب.
وقيل: المعنى كانت من الذين أبقتهم الدهور والأيام وتطاولت أعمارهم، فإنها هالكة مع قوم لوط. وحسن وصفها بلفظ المذكور، فقال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لما كانت مع الرجال، فجعل صفتها كصفتهم.
وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال للملائكة: إن كان فيهم مائة يكرهون هذا أتهلكونهم؟ قال: لا قال: فإن كان فيهم تسعون قالوا: لا، إلى أن بلغ إلى عشرين. قال: إن فيها لوطاً. قالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها. روي أنه كان في المدينة أربع مائة ألف.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} أي: ساءته الملائكة بمجيئهم إليه، وذلك أنهم تضيفوه فرأى جمالهم وحسنهم فخاف عليهم من قومه، إذ قد علم أنهم كانوا يظلمون مثلهم في حسنهم وجمالهم فساؤوه بذلك.
قال قتادة: ساء ظنّه بقومه وضاق وبضيفه ذرعاً لما علم من حيث فعل قومه.
قال ابن أبي عروبة: كان قوم لوط أربعة آلاف ألف، فلما رأت الرّسل غمّه(9/5626)
وخوفه عليهم من قومه، قالت الرسل للوط: لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك ولا تحزن مما أخبرناك من أنا مهلكوهم، فإنا ننجيك وأهلك إلاّ امرأتك.
ثم قال تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء} أي: عذاباً بفسقهم.
ثم قال تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أي: أبقينا فعلتنا بهم عبرة وعظة ظاهرة لقوم يعقلون عن الله حججه وتلك الآية: اندراس آثارهم ومعالمهم. ونتبع الحجرة إياهم حيث كانوا.
ثم قال تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} أي: وأرسلنا إلى مديَن أخاهم شعيْباً.
فقال لهم يا قوم اعبدوا الله وحده وارجوا بعبادتكم إياه اليوم الآخر، أي: جزاء اليوم الآخر وهو يوم القيامة.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي: لا تكثروا الفساد في الأرض بمعصية الله تعالى وإقامتكم عليها.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي: فكذب أهل مدين شعيباً فيما جاءهم به عن الله جلّ ذكره، فإخذهم العذاب، فأصبح بعضهم على بعض جثوماً موتاً في ديارهم.
قال قتادة: أرسل شعيب مرتين إلى أمتين، إلى أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكان شعيب من ولد مدين، وأهل مدين من ولده أيضاً، فلذلك قال: أخاهم، ولم(9/5627)
يكن بين شعيب وأصحاب الأيكة نسب فلذلك لم يقل أخاهم.
قال قتادة: جاثمين: ميتين. وأصله المد والسكون وقطع الحركة.
ثم قال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} نصب عاد وثمود عند الكسائي على العطف على قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] وفتنا عاداً وثموداً.
وقال الزجاج: التقدير: وأهلكنا عاداً وثموداً.
وقال الطبري: التقدير: واذكر عاداً وثموداً، وقد تبيّن لكم من مساكنهم، يعني خرابها وخلاءها منهم.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي: حسّنها لهم فتمادوا على كفرهم وتكذيبهم. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} أي: عن سبيل الله.
{وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} أي: في ضلالتهم، أي: معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى(9/5628)
وصواب، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة.
وقيل: المعنى: كانوا قد عرفوا الحق من الباطل. فهو مثل قوله تعالى ذكره:
{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14].
قال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ}. هذا معطوف على عاد على الاختلاف المتقدم.
{وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات} أي: الآيات الواضحات. {فاستكبروا فِي الأرض} أي: عن التصديق بالآيات.
{وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} أي: فائتين بأنفسهم، بل القدرة عليهم غالبة من الله.
ثم قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أي: فأخذنا جميع هذه الأمم المذكورة بذنوبهم وأهلكناهم.
{فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} أي: حجارة من سجيل والعرب تسمي الريح التي تحمل الحصى حاصباً. وهم قوم لوط.
{وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} قال ابن عباس: هم ثمود. وقال قتادة هم قوم(9/5629)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
شعيب.
{وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض} قال ابن عباس وقتادة: هو قارون. {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} قال ابن عباس: هم قوم نوح. وقال قتادة هم قوم فرعون.
{وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي: وما كان الله ليهلك هذه الأمم بغير ذنب.
{ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: بعبادتهم غير من ينعم عليهم ويرزقهم.
ثم قال تعالى: {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} أي مثل من اتخذ من دون الله آلهة في ضعف ما يرجون منها كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها اتخذت بيتاً ليُكِنّها، فلم يغن عنها شيئاً عند حاجتها، فكذلك هؤلاء الذين عبدوا الأوثان لتنفعهم عند حاجتهم إليها. قال ابن عباس: هو مثلٌ ضربه الله لمن عبد غيره.
ثم قال تعالى ذكره: {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: إن أضعف البيوت لبيت العنكبوت لو علموا ذلك يقيناً.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلى قوله: {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون}.
أي: يعلم حال ما تعبدون من دون الله أنه لا ينفعكم ولا يضركم، وأن مثله في(9/5630)
قلة غنائه عنكم مثل بيت العنكبوت في قلة غنائه عنها. {وَهُوَ العزيز} أي: في انتقامه ممن كفر به. {الحكيم} في تدبيره. و " من " في قوله: " من شيء " للتبعيض، ولو كانت زائدة للتوكيد بعد النفي لا نقلب المعنى. فما ليست نفياً، وهي بمعنى الذي.
ثم قال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي: وتلك الأشباه والنظائر نضربها للناس، أي: نمثلها للناس وتحتج بها عليها. {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} أي: وما يعقل الصواب لما ضرب له من الأمثال إلاّ العالمون بالله وآياته. ثم قال تعالى: {خَلَقَ الله السماوات وَالأَرْضَ بالحق} أي: انفرد بخلق ذلك للحق.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: لعلامة وحجة على خلقه في توحيده وعبادته لمن آمن به. ثم قال تعالى: {اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} أي: اقرأ يا محمد ما أنزل عليك من القرآن. {وَأَقِمِ الصلاة} أي: أدّها بفروضها وفي وقتها. {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الْفَحْشَآءِ والمنكر}.
قال ابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله جلّ ذكره. وقال ابن مسعود: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها إلاّ بعداً من الله جلّ ذكره.(9/5631)
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قول ابن مسعود. وهو قول قتادة وغيره. وقيل: المعنى: إن الصلاة تنهى من كان فيها عن الفحشاء والمنكر فتحول بينه وبين ذلك لشغله بها.
وروي عن ابن عمر أنه قال: الصلاة هنا: القرآن. قال: القرآن الذي يقرأ في المساجد ينهى عن الفحشاء والمنكر. والفحشاء الزنى، والمنكر المعاصي.
ثم قال: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} قال ابن عباس في معناه: ولذكر الله أكبر إذا ذكرتموه عندما أمركم به، ونهى عنه أكبر من ذكركم إياه. وهو قول مجاهد وعكرمة وغيرهما. وروي ذلك عن أبي الدرداء. وقيل: المعنى: ولذكر الله إياكم أفضل من(9/5632)
ذكركم أياه. وهو اختيار الطبري.
وقيل: المعنى: ولذكركم الله أفضل من كل شيء. أي: ذكركم الله في الصلاة والدعاء وغير ذلك أفضل من الصلاة وسائر العبادات بلا ذكر.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس يتحسَّرُ أهلُ الجنّة على شيءٍ إلاّ على ساعاتٍ مرّت بهم لم يذكُروا الله عز وجل فيها " وقال ثبت البُناني: " بلغني أن أهل ذكر الله يجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام مثل الجبال، وإنهم ليقومون منها عطلاً ما عليهم منها شيء ".
وسئل سلمان عن أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن،(9/5633)
{وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} لا شيءَ أفضل من ذكرِ الله.
وقالت أم الدرداء: إن صليت فهو من ذكر الله، وإن صمتَ فهو من ذكر الله، وكل خير فعلته فهو من ذكر الله، وكل شيء تجنبته لله فهو من ذكر الله، وأفضل من ذلك تسبيح الله جلّ وعزّ.
وقال قتادة: ولذكر الله أكبر، لا شيء أكبر من ذكر الله. وقيل: المعنى: ولذكر الله العبد في الصلاة أفضل من الصلاة. قاله السدي.(9/5634)
وقيل: المعنى: والصلاة التي أنت فيها، وذكرى الله فيها أكبر مما نهتك الصلاة عنه من الفحشاء والمنكر. وقيل: المعنى: ولذكر الله الفحشاء والمنكر كبير.
{والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي: ما تفعلون في صلاتكم من إقامة حدودها وغير ذلك من ترككم الفحشاء والمنكر.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي: لا تجادلوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى إلاّ بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله والتنبيه على حججه.
{إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} هذا بدل من " أهل "، ويجوز أن يكون استثناء.
والمعنى: إلاّ الذين امتنعوا من إعطاء الجزية ونصبوا دونها الحرب فلكم قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. قاله مجاهد وغيره، وهو اختيار الطبري.(9/5635)
وقال ابن جبير: هم أهل الحرب ومن لا عهد له، فلك أن تجادله بالسيف.
وقيل المعنى: لا تجادلوا من كفر منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبرونكم به من نص كتابهم إلاّ بالقول الجميل، وأن تقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم، إلاّ الذين ظلموا منهم. يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأقاموا على كفرهم.
فالآية محكمة على هذا القول. روي هذا القول عن ابن زيد.
وقال قتادة: هي منسوخة بالأمر بالقتال لأنها مكية.
وقال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبهم، وقولوا آمنّا بالَّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا. . " الآية.(9/5636)
ومعنى: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} أي: ظلموكم في منعهم الجزية ومحاربتكمم. والكل ظالمون لأنفسهم بكفرهم من أدى الجزية ومن لم يؤد.
{وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} أي: معبودنا ومعبودكم واحد.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: خاضعون ومتذللون بالطاعة له.
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} أي: وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد، كذلك أنزلنا إليك الكتاب.
{فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: من كان من بني إسرائيل قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ} يعني: الذين كانوا من أهل الكتاب على عهد النبي عليه السلام، منهم من لم يؤمن بما أنزل على محمد.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} أي: بأدلتنا وحججنا، {إِلاَّ الكافرون} أي: إلاّ الذين جحدوا نعمتنا بعد معرفتهم بها.
قال قتادة: إنما الجحود بعد المعرفة.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} أي: ما كنت يا محمد تقرأ قبل هذا الكتاب كتاباً آخر. {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: تكتبه، بل كنت أمياً لا علم عندك من ذلك حتى أنزل الله عليك الكتاب وعلمك ما لم تكن تعلم، ولو كنت تقرأ قبل ذلك كتابا وتخطّه بيمينك. {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} أي: لشكّ فيك من أجل ذلك القائلون إنه سجع(9/5637)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
وإنه كهانة وأساطير الأولين، هذا معنى قول ابن عباس وقتادة وغيرهما.
وقال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبي عليه السلام لا يخطّ بيمينه ولا يقرأ كتاباً، فنزلت هذه الآية.
قال مجاهد: {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} أي: إذاً لقالوا إنما هذا شيء تعلمه محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه، ويعني بالمبطلين: كفار قريش. فكأنّ كونه لا يقرأ ولا يكتب، ثم أتاهم بأخبار الأنبياء، والأمم دليل على نبوته وأن ذلك/ من عند الله جل ذكره.
قوله تعالى ذكره: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} إلى قوله جلّ ذكره وثناؤه: {وَهُوَ السميع العليم}.
قال الحسن: معناه بل القرآن آيات ظاهرات في صدور المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ قتادة: " أية بيّنة " بالتوحيد على معنى بل النبي بينة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.(9/5638)
وفي حرف عبد الله " بل هو آيات " أي: بل آيات القرآن آيات بينات.
وقال ابن عباس والضحاك وابن جريج: كان الله جلّ ذكره أنزل بشأن محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعل لهم آية فقال: إن آية نبؤته أن يخرج حين يخرج لا يعلم كتاباً ولا يخطه بيمينه. والمعنى: بل العلم بأنه لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات في صدور العالمين من أهل الكتاب.
وروي ذلك أيضاً عن قتادة. وهو اختيار الطبري.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون} أي: ما يجحد نبوة محمد وينكر العلم به إلاّ الذين ظلموما أنفسهم يكفرهم بالله ونبيه.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله}. أي: وقال المشركون من قريش: هلاّ أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيات من ربّه. وهوقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى(9/5639)
تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} إلى قوله: {كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93].
هذا على قراءة من جمع، ويؤكد الجمع أن بعده: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} فوجب أن يكون السؤال مثل الجواب، ويؤكده أيضاً أن الخط بالتاء. فأما من قرأ آية، معناه: هلاّ أنزل على محمد آية تكون حجة علينا كالناقة لصالح، والمائدة لعيسى، ويؤكد التوحيد أجماعهم على التوحيد في يونس: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ}. وفي الرعد: {آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ}.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} أي: لا يقدر على الإتيان بها إلاّ الله.
{وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم بأس الله وعذابه مبين لكم إنذاره.(9/5640)
ثم قال تعالى ذكره: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} أي: أوَ لم يكفِ هؤلاء القائلين لولا أنزل عليه من ربه من الآيات والحجج أنّا أنزلنا عليك الكتاب يقرأ عليهم.
{إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في هذا الكتاب لرحمة للمؤمنين وذكرى يتذكرون به ويتعظون.
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين استحسنوا أشياء من بعض كتاب أهل الكتاب.
ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} أي: قل يا محمد لهم: كفى الله بيننا شهيداً لأنه يعلم المحق من المبطل، ويعلم ما في السماوات والأرَ ولا يخفى عليه فيهما شيء.
ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ بالباطل} أي: بالشرك.
{وَكَفَرُواْ بالله} أي: جحدوا توحيد الله فعبدوا معه غيره.
{أولئك هُمُ الخاسرون} أي: المغبونون في صفقتهم.
ثم قال تعالى ذكره: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} أي: يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب، وهو قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} إلى قوله " {أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].(9/5641)
{وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} أي: لولا أن لهم وقتاً يستوفونه لجاءهم العذاب عاجلاً.
{وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة وهم لا يشعرون بوقت مجيئه.
هذا كله معنى قوله قتادة.
ثم قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} أي: محدقة بالكافرين ولم يبق لهم إلا دخولها.
قال عكرمة: هو البحر محيط بهم.
ثم قال: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قال قتادة: في النار أي: جهنم محيطة بالكافرين في هذا اليوم.
فلا يوقف على " بالكافرين " على هذا التأويل.
ويجوز أن ينتصب على واذكر يوم يغشاهم فيبتدئ به على هذا القول.
{وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: جزاء عملكم.
وأصل الذوق باللسان ولكن اتسع فيه فاستعمل في كل شيء يصل إلى البدن منه ألم أو لذة.(9/5642)
ثم قال تعالى: {ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} أي: أنها لم تضق عليكم، فغيروا الموضع الذي لا يحل لكم فيه المقام، ولكن إذا عمل في مكان منها بمعاصي الله فلم تقدروا على تغييره فأهربوا منها قاله ابن جبير.
وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا إن أرضي واسعة.
وقال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا.
وقال ابن زيد: يريد بهذا من كان بمكة من المؤمنين.
وقال مُطَرِّف بن الشِّخِّير: معناه إن رزقي لكم واسع، أي: فابتغوه في(9/5643)
الأرض.
وقيل: المعنى: ما خرج لكم من أرضي من الرزق واسع لكم.
وقيل: المعنى: إن أرض الجنة واسعة فأعبدوني حتى أعطيكموها.
وقوله: {فَإِيَّايَ فاعبدون} أي: أخلصوا لي عبادتكم.
ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} أي: أخلصوا لي العبادة فإنكم لا بد لكم من الموت والرجوع إليّ فأجازيكم على أعمالكم وإخلاصكم.
ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً}.
أي: والذين صدقوا بكتبي ورسلي وعلموا الأعمال الصالحة لنسكننهم غرفاً جارية من تحتها الأنهار في الجنة.
{خَالِدِينَ فِيهَا} أي: دائمين فيها.
{نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي: نعم الجزاء جزاء العاملين بطاعة الله الجنة.
ومن قرأ: لَنثوِيّنهم " فمعناه: لنعطينهم ولننزلنهم.(9/5644)
حكى الفراء: بوأته منزلاً وأثويته منزلاً بمعنى: وأصل الثواء الإقامة.
ومعنى: {مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها.
ثم قال تعالى: {الذين صَبَرُواْ} أي: على أذى المشركين في الدنيا. {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: في أرزاقهم وجهاد عدوهم.
ثم قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} هذا تعزية للمؤمنين المهاجرين الذين فارقوا أموالهم في الله، فقيل لهم: وكم من دابة لا تحمل رزقها ولا تدخره من اليوم إلى غد؟ الله يرزقها، فلا تخافوا أنتم عيلة ولا فقراً، فإن الله رازقكم.
{وَهُوَ السميع العليم} لأقوالكم: نخشى بفراقنا أَوْطَانَنَا الفقر والعيلة.
{العليم} بما في أنفسكم وتصير إليه أموركم. وليس يدخر من جميع الحيوان إلا الإنسان والنملة والفأرة.
وهو من الحمالة، أي: لا تحملم لنفسها رزقها، وليس هو من الحمل على الظهر ونحوه.(9/5645)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} إلى آخر السورة.
أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قريش، من ابتدع السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح الخلق؟ ليقولن الله.
{فأنى يُؤْفَكُونَ} أي: فمن أين يصرفون عن عبادة من فعل ذلك بإقرارهم، فيعبدون معه من لم يخلق شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً.
ثم قال تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي: يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيق على من يشاء منهم فلا تتخلفوا عن هجرة وجهاد عدوكم بخوفكم العيلة والفقر. {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: عليم بمصالحكم فيوسع على من لا يصلحه إلا التوسع في الرزق، ويضيق على من لا يصلحه إلا لضيق في الرزق.
ثم قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا}.
أي: ولئن: سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قريش عَنْ مَنْ نزّل من السماء مطراً فأحيا بذلك المطر الأرض بعد جدوبها وقحطها {لَيَقُولُنَّ الله}، فقل يا محمد: {الحمد لِلَّهِ}، أي: على نعمه.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي: لا يعقلون ما لهم فيه النفع من أمر دينهم وما لهم فيه الضرر.
ثم قال تعالى: {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي: ما يتمتع به هؤلاء المشركون في الدنيا إلا تعليل النفوس بما تلتذ به، ثم ينقضي ويضمحل عن قليل، فهو اللهو واللعب والزائل من ساعته.(9/5646)
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} أي: لفيها الحياة الدائمة والنعيم المقيم الذي لا أنقطاع له. والحية والحيوان واحد، يقال نهر لاحيوان ونهر الحياة، وأصل الحيوان: الحييان ثم أبدلوا من إحدى الياءين واواً ومثله حيوة أصله حيية. ثم أبدل.
ويقال حييت حياً كعييت عياً. فالحي المصدر، والحيوان والحياة اسمان.
قال العجاج/:
" وقد نَرَى الحياةُ حييّ ". يريد: إذِ الحياة حياة ".
وقد قيل: إن الحيي جمع على فِعُول كعِصي.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: فإذا ركب هؤلاء(9/5647)
المشركون في السفينة في البحر فخافوا الغرق والهلاك أخصلوا لله الدعاء، وتركوا آلهتهم التي يعبدون.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي: يعبدون مع الله غيره.
ثم قال تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}.
أي: لما نجاهعم الله من الغرق إلى البَرِّ عبدوا غيره ليجحدوا نعمه عليهم.
فاللام لام كي لأنها شرط لقوله {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
ثم قال: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ}.
هذه اللام لام الأمر، فمن كسر لم يعتد بالواو ووجعلها كالمبتدأ بها.
ومن أسكن أعتد بالواو.
ويحسن أن تكون عند من كسر، لام كي عطف على {لِيَكْفُرُواْ} والأحسن أن تكون لام أمن لأن الكلام فيه معنى التهديد، فالأمر به أولى ليكون وعيد وتهدد بعقبة وعيد وتهدد.
وأيضاً فإن تمتعهم بدنياهم ليس من شرط قوله: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} إذا لم يشركوا(9/5648)
ليتمتعوا، إنما أشركوا ليكفروا.
فأما من أسكن اللام، فلا يجوز إلا أن تكون لام أمر لأن لام كي لا تسكن، إذ قد حذف معها أن، فلا يحسن حذف حركتها، فيجتمع في الكلمة حذفان وفي حرف أبي: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ}، بغير لام، فهذا يدل على التهدد والوعيد.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} أي: ألم ير هؤلاء المشركون من قريش، ما خصصناهم به من النعم عليهم دون سائر الخلق إذ جعلنا بلدهم محرماً على الناس أن يدخلوه بغارة أو حرب، يأمن فيه من سكنه وآوى إليه من السِّبَاءِ والخوف والجذام.(9/5649)
{وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} أي: ويستلب الناس من حولهم قتلاً وسبباً.
{أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} أي: بالشرك بالله يقرون، وبنعمة الله التي خصهم بها يكفرون، أي: يجحدون.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي: لا أحد أظلم ممن أختلف الكذب على الله، فقال إذا فعل فاحشة: الله أمرنا بها. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} أي: منزلاً ومسكناً لمن كفر بالله وجحد نعمه عليه.
وهو تقرير وتوبيخ ووعيد.
ثم قال تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} أي: والذين قاتلوا المشركين في نصر دين الله، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي: لنوفقهم لاصابة الحق والطريق المستقيم، وهو الاسلام.
{وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} أي: من أحسن فجاهد أعداء الله. ومع هنا حرف، ويجوز أن تكون اسماً، وهي إذا فتحت حسن أن تكون اسماً وحرفاً وإذا سكنت لم تكن إلا حرفاً.(9/5650)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
مكية
قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} إلى قوله {بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} قد ذكر تقدم ذكر " ألَمَ ".
قال الفراء: في قوله " غَلَبِهِمْ ": الأصل غَلَبَتِهِم ثم حذفت التاء كما حذفت من " وإِقَامِ الصّلوَاتِ " والأصل وإقامة الصلاة وهذا غلط عند البصريين لأن التاء في وإقامة عوض من الحذف الذي وقع في المصدر لأن أصله إِقْوَام مثل إكرام ثم أُعِلَّ وحذف، فدخلت التاء عوضاً من المحذوف. وليس في غلبهم حذف فيجب أن يكون أصله التاء، يقال غلبته غَلَباً حكاه الأصمعي وغيره.(9/5651)
وسنين جَمعٌ مُسَلّم أتى فيما لا يعقل على الشذوذ.
وقيل: جعل له الجمع المسلم عوضاً عن مما حذف منه.
ويجوز أن يجعل الإعراب في النون كالمُكَسَّر. والأول أكثر، وكسرت السين لتدل على أنه جمع على غير بابه وأصله.
والمحذوف من سنة واو، وقيل: المحذوف هاء.
والمعنى غلبت فارس الروم على بيت المقدس، والروم بعد غلب فارس لهم سيغلبون فارساً على بيت المقدس في بضع سنين. وأدنى الأرض، أي في أدنى الأرض من أرض الشام إلى فارس.(9/5652)
وقرأ ابن عمر وأبو سعيد الخدري " غلبت " الروم بفتح الغين. وسئل ابن عمر على أي: شيء غلبت؟ فقال: على ريف الشام.
والبِضْعُ عند قتادة أكثر من الثلاث ودون العشر.
وعند الأخفش/ والفراء من دون العشرة.
وعند أبي عبيد ما بين ثلاث إلى خمس.(9/5653)
وحكى أبو زيد فتح الباء فيه.
وهو مشتق من بَضَعه إذا قطعه، ومنه بَضْعةٌ من لحم. وهو يملك بُضعَ المرأة يريد أنه يملك قطع فرجها.
وقال ابن عباس: " كان المسلمون يحبون أن تغلِبَ الروم لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثانكَهُمْ، فذكر المشركون ذلك لأبي بكر رضي لله عنه، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه السلام: أما إنهم سَيُهْزَمُون - يعني فارساً -، فذكر ذلك أبو بكر للمشركين فقالوا أفتجعل بيننا وبينك أجلاً فإن غلبوا كان لك كذا وكذا، وإن لم يغلبوا كان لك كذا وكذا، فجعلوا بينهم وبينه أجلاً خمس سنين، فمضت ولم يغلبوا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي عليه السلام فقال له: أفلا جعلته دون العشرة " قال أبو سعد الخدري: التقينا مع مشركي العرب يوم بدر، والتقت(9/5654)
اليوم الروم فارساً فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر الروم على فارس، فذلك قوله جل ذكره:
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله}.
قال ابن عباس: لقي النبي صلى الله عليه وسلم مشركي العرب يوم التقت الروم فارساً فنصر الله أهل الكتاب على العجم.
" وروي أنه جرى بين أبي بكر وبين أمية بن خلف في ذلك كلام حتى وقع بينهما رهان على ثلاث قلائص إلى أجل ثلاث سنين.
قال أبو بكر: إن الروم ستغلب فارساً إلى ثلاث سنين، وأنكر ذلك ابن خلف، فأتى أبو بكر النبي عليه السلام فأعلمه بما جرى بينهما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجع واسْتَزِدْ في القَلائِصِ والسّنِين فَصَيّرِ الرّهَانَ إلى سَبع قلائِص وإلى سبع سنين ". فكان أول رهان في الإسلام وآخره ثم حرم الله الرهان "، فأخرج أبو بكر رضي الله عنهـ في حين(9/5655)
عقد الرهان ثم القلائص، وأخرج أمية بن خلف ثم القلائص فاشتروا قلائص بنصف المال فنحروها وقسموها جزورً وأخروا نصف المال حتى غلبت لروم فارساً فرجع ذلك إلى أبي بكر.
وروي: " أنهم جعلوا الأجل ست سنين، فمضت الستُّ، والفُرسُ ظَاهِرُونَ عَلَى الرُّوم، فأخذ المشركون رهان أبي بكر وارتاب ناس كثير وفَرِحَ بذلك المشركون. فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فكَبَّرَ المسلمون تكبيرة واحدة بمكة فآمن عند ذلك خلقٌ كثيرٌ من المشركين ".
وإنما تعلق قريش بالفرس لأنهم مثلهم في التكذيب بالبعث، وتعلق المسلمون بالروم لأنهم مثلهم في الإيمان بالبعث.
وقيل: كان ذلك لأن الفرس لا كتاب لهم كالمشركين، والروم لهم كتاب كالمسلمين.
وروي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الروم ستغلب فارساً، وأنكر ذلك المشركون فخاطرهم أبو بكر على ذلك، وكان الذي خاطره على ذلك أمية بن خلف الجمحي فأعلم النبي بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر " ارجع فَزِد في الخَطِر وَالأَجَلِ " ففعل.(9/5656)
وضمن أبا بكر عن الخطر ولده عبد الرحمن وضمن أمية بن خلف صفوان ابن أمية، فغلبت الروم فارساً على بيت المقدس، وأخذ الخطر من قريش.
قال ابن مسعود " خَمس " قَد مَضَينَ: الدخان واللّزَام والبطشة والقمرُ والرومُ ".(9/5657)
قال عكرمة: " اقتتل الروم وفارس في أدنى الأرض، وأدنى الأرض يومئذ أذْرِعَات بها التقوا، فهزمت الروم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم. وفرح الكفار بمكة فلقوا المؤمنين من أصحاب النبي فقالوا له: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن واثبتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله جل ذكره: {الم * غُلِبَتِ الروم} الآيات، فخرج أبو بكر إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهرو إخوانكم الكفار على أخواننا، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله لتظهرن الروم على فارس، أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال أبي بن خلف: كذبت يا أبا فضيل. فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: أنا حِبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمَت إلى ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ما هكذا ذَكَرتُ إِنَّما البِضعُ مَا بَينَ(9/5658)
الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فَزَايِدْهُ في الخَطَرِ وَمَادَّهُ فِي الأَجَلِ " فخرج أبو بكر فلقي أُبَيَّا فقال: لعلك ندمت فقال: لا تعال - ازايدك في الخطر وأمادك في الأجل فأجعلها مائة قلوص بمائة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت ".
قال قتادة وذلك قبل أن ينهي عن القمار.
وقال قتادة: قغلبت الروم فارساً عند رأس التسع سنين.
وكان قد تم الأجل وطلب المشركون قمارهم فزايدهم المسلمون في القمار ومادوهم في الأجل، فغلبت الروم.
وكان ذلك من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم عما يكون قبل أن يكون بسنين على ما أوحى الله إليه وأعلمه فكان في ذلك دلالة على صدقه فيما يأتي به وما يقول في أمور الغيب وغيرها، وهذا إنما كان قبل أن تُحَرَّمَ المخاطرة، فأما الآن فقد(9/5659)
حَرَّمَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا تجوز المخاطرة لأنها من أكل الأموال بالباطل.
وقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}.
أي: من قبل غلبة الروم فارس ومن بعد غلبة فارس اليوم، يقضي ما شاء في خلقه.
وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله} أي: يوم ستغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بنصر الله، لأن في ذلك، دليلاً على صحة نبوة من أخبرهم بغلبة الروم فارساً في بضع سنين، ولأن فيه ظفراً بالمشركين إذا كان يكرهون أن تغلب الروم فارساً.
ثم قال: {وَهُوَ العزيز} أي: الشديد في انتقامه من أعدائه.
{الرحيم} بمن ناب من خلقه وراجع طاعته.(9/5660)
ثم قال تعالى ذكره: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} أي: وعد الله المؤمنين وعداً أن تغلب الروم فارساً، فلا يخلف الله وعده.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أكثر قريش لا يعلمون أن الله سينجز المؤمنين ما وعدهم من غلبة الروم فارساً وأنه لا خلف في وعده.
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} أي: يعلم هؤلاء المشركون أمر معاشهم وما يصلحهم في الدنيا وتدبير ذلك، وهم في غفلة عن امر آخرتهم وما فيه النجاة من عذاب الله.
قال ابن عبس: المعنى يعلمون متى يحصدون، ومتى يدرسون، ومتى يزرعون. وقال الحسن.
وقال عكرمة: هم الخرازون والسراجون.
وقيل: ما يزيدهم من الكذب على متأتيهم به الشياطين من استراق السمع.
وقيل الظاهر هنا الباطل قال تعالى {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} [الرعد: 33] أي: باطل وقيل:(9/5661)
الظاهر البادي. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق}.
أي: أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث في (خلق) أنفسهم وأنهم لم يكونوا شيئاً ثم صاروا رجالاً، وينظروا في لطف الصنع وإحكام تدبير خلقهم فيدل ذلك على توحيد الله، وعلى أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، فيعلموا أن الذي فعل ذلك يقدر على أن يعيدهم بعد إفنائهم خلقاً جديداً، فيجازيهم بأعمالهم.
وقوله {إِلاَّ بالحق} أي: بالعدل وإقامة الحق. {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: مؤقت معلوم عنده، فإذا بلغ آخره أفنى ما أراد منه، وبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبعث الأموات فبرزوا لله جميعاً.
ثم قال تعالى ذكره: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}.
أي: الجاحدون منكرون البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، غفلة منهم وتفريطاً في أمر معادهم.
قوله تعالى ذكره: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ}. " في أنفسهم " ظرف للتفكر، وليس بمفعول به للتفكر تعدى إليه بحرف جر.(9/5662)
فالمعنى: أولم يتفكروا في أنفسهم فيعلموا أن ما تقدم ذكره حق.
أي: يُسِرُّوا التَّفَكُّر في أنفسهم فهما معنيان.
وفي أنفسهم: تمام الكلام.
وقيل: بل ما بعده متصل به أي: يُسِرُّوا التفكر في أنفسهم أن ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
فأن مضمرة كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق} [الروم: 24] أي: أن يريكم، وكما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات} [الروم: 22] أي: أن خلق السماوات.
قوله تعالى ذكره: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [8] إلى قوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [18].
أي: أولم يسير هؤلاء المكذبون بالبعث في الأرض/ فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة رسلها، كيف كان عاقبة أمرها، فقد كانوا أشد من هؤلاء قوة، (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: استخرجوها وحدثوها وعمروها أكثر مدة مما عمر هؤلاء الأرض، (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) فكذبوهم، فأهلكهم الله وما كان الله ليظلمهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعصيتهم ربهم.
ثم قا ل تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).(9/5663)
أي: ثم كان آخر من كفر من هؤلاء الذين أثاروا الأرض السوأى: أي الخلة التي هي أسوأ من فعلهم: البوار والهلاك في الدنيا، والنار في الآخرة خالدين فيها.
قال ابن عباس: السوأى جهنم والحسنى الجنة.
قال قتادة: كان عاقبة الذين أشركوا النار.
والسوآى اسم. وقيل مصدر كالتقوى.
قال مجاهد: السوآى: الإساءة.
ثم قال: (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) أي: عاقبتهم النار لأن كذبوا ومن أجل أن كذبوا بحجج الله ورسله.
(وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) أي: بحجج الله وأنبيائه يسخرون.
ثم قال تعالى: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي: ينفرد بإنشاء جميع خلقه من قدرته، ثم يعيده بعد إفنائه له خلقا جديدا.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي: يردون فيجازيهم بأعمالهم.
ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي: واذكر يا محمد يوم تقوم الساعة ييأس الكافرون من كل خير.(9/5664)
وأصل الإبلاس: انقطاع الحجة والسكوت والحيرة.
قال قتادة: "يبلس المجرمون" أي: في النار.
وقال ابن زيد: المبلس الذي قد نزل به الشر.
وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة.
(ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ).
أي: ولم يكن للمجرمين من شركائهم في الكفر والمعصية وأذى الرسل شُفَعَاء ينقذونهم من عذاب الله.
وقيل: شركاؤهم هنا الأصنام والأوثان التي عبدوها من دون الله، أضيفت إليهم لأنهم هم اخترعوها وابتدعوا عبادتها.
(وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ)
أي: جاحدون ولا يتهم متبرئين منهم وهو معنى قوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية.
ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي: يتفرق المؤمنون من(9/5665)
الكافرين.
قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها.
ثم بين تعالى ما يؤول إليه الافتراق.
فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ).
أي: هم في الرياض والنبات الملتف بين أنواع الزهر في الجنات يسرون ويلذذون بطيب العيش والسماع.
وذكر الله جل ذكره الروضة لأنهم لم يكن عند العرب شيء أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض وعبقها.
"أما" عند سيبويه: مهما يكن من شيء فالذين آمنوا.(9/5666)
وقال أبو إسحاق: معناها دع ما كنا (فيه) وخذ في غيره.
وقال أبو عبيدة: الروضة ما كان في سفل، وإن كان مرتفعاً فهي ترعة.
وقال الضحاك: "في روضة" في جنة، والرياض الجنان. والحبرة في اللغة كل نعمة حسنة، والتحبير التحسين وقال ابن عباس: يحبرون: يكرمون.(9/5667)
وقال مجاهد: ينعمون.
قال الكسائي: حبرته: أكرمته ونعمته.
ثم قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا توحيد الله وكذبوا وسله، وأنكروا البعث.
(فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي: في عذاب الله مجموعون، قد أحضرهم الله إياه.
ثم قال تعالى ذكره: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) سبحان مصدر يؤدي عن معنى سبحوا الله تسبيحاً في هذه الأوقات الأربعة، أي: نزهوه من السوء.
وقيل: سبحان مأخوذ من السبحة، والسبحة الصلاة، وسبحة الضحى: صلاة الضحى.
وقرأ عكرمة: "حيناً تمسُون وَحِيناً تُصْبِحُون" بتنوين حين ونصبه في الوجهين على الظرف. والتسبيح هنا الصلاة، فالمعنى صلوا أيها المؤمنون حين تمسون(9/5668)
صلاة المغرب والعشاء الآخرة، وحين تصبحون صلاة الصبح، وعشياً صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). أي: له الحمد من جميع خلقه دون غيره من سكان السماوات والأرض.
قال ابن عباس: هذه الآية في الصلوات الأربع: الظهر والعصر والصبح والمغرب، وصلاة العشاء في قوله تعالى/ (وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) هذا معنى قوله.
روي عنه: وعشياً: المغرب والعشاء.
وقال زِرٌّ: "خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس في شيء، ثم قال نافع لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله؟ قال ابن عباس: نعم ثم قرأ عليه: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ): المغرب، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا): العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): الظهر، "ومن بعد صلاة العشاء": العشاء.
وعن ابن عباس قال: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس وقال "حين تمسون":(9/5669)
المغرب والعشاء.
وقال مجاهد: "حين تمسون": المغرب والعشاء، "وحين تصبحون": الفجر، "وعشياً": العصر، "وحين تظهرون": الظهر.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ هذه الآية وقال: "هذا حين افترض وقت الصلاة". وأول وقت الظهر زوال الشمس إجماعاً.
وآخر وقتها عند مالك: إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الزوال وهو قول الثوري والشافعي وأبي ثور.(9/5670)
وقال يعقوب ومحمد بن الحسن: آخر وقتها أن يكون الظل قامة.
وقال عطاء: آخر وقتها إلى أن تصفر الشمس.
وقال طاوس: لا يفوت الظهر والعصر حتى الليل.(9/5671)
وقال النعمان: آخر وقتها ما لم يصر الظل قامتين.
وأول وقت العصر: إذا كان ظل كل شيء مثله. هذا قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور.
وقال النعمان: أول وقتها أن يصير الظل قامتين بعد الزوال.
وآخر وقتها أن يصير [ظل] كل شيء مثليه على الاختيار، فإن صلى بعد ذلك فقد فاته الاختيار ولم يفته وقت الصلاة، قاله الثوري والشافعي وقال أحمد وأبو ثور: آخر وقتها ما لم تصفر الشمس.(9/5672)
وقال إسحاق بن راهويه: آخر وقتها غروب الشمس قبل أن يصلي المرء منها ركعة.
وعن ابن عباس وعكرمة: أن آخر وقتها غروب الشمس على الإطلاق.
ووقت المغرب غروب الشمس وقتاً واحداً، هذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: وأحمد وإسحاق: آخر وقتها الشفق.
وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق إجماعاً.
والشفق الحمرة في قول مالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وأبي ثور ويعقوب ومحمد. وهو قول أهل اللغة، يقال ثوب مشفق أي: محمر.(9/5673)
وروي عن أنس وابن عباس وأبي هريرة أن الشفق: البياض وهو قول النعمان وزفر.
وقال النخعي: آخر وقتها إلى ربع الليل.
وعن عمر وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز: أن آخر وقتها ثلث الليل.
وبه قال الشافعي وقد كان يقول آخر وقتها نصف الليل ولا يفوت إلى الفجر.
وعن عمر أيضاً أن آخر وقتها نصف الليل، وبه قال الثوري وابن المبارك.(9/5674)
وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي:
وعن ابن عباس وعطاء وعكرمة وطاوس: أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر.
وأول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر إجماعاً.
وأجمعوا على أن من صلى بعد الفجر وقبل طلوع الشمس أنه قد صلى الصبح في وقتها.
ثم قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي: صلوا ما أمرتم به لله الذي يفعل هذا لا يقدر على فعله أحد غيره، يخرج الإنسان الحي من الماء الميت، ويخرج الماء الميت من الإنسان الحي، ويحيي الأرض بالماء فينبتها ويخرج زرعها بعد موتها.
(وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أيها الناس من قبوركم للبعث والمجازاة.
وقال الحسن: معناه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وذكر أبو عبيد أن سهل بن معاذ بن أنس روي عن أبيه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(9/5675)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
قوله تعالى ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} إلى قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}.
أي: ومن علاماته وحججه على وحدانيته وأنه لا شريك له وأنه يحييكم بعد موتكم، أنه خلقكم من تراب، أي: خلق أصلكم وهو آدم من تراب.
{إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ} أي: من ذرية من خلق من تراب.
{تَنتَشِرُونَ} أي: تنصرفون وتنبسطون في الدنيا.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض}.
أي: ومن أدلته وحجته/ في قدرته على إحيائكم بعد موتكم أنه خلق السماوات والأرض، وهن أعظم خلقاً منكم فاخترعها وأنشأها، وجعل ألسنتكم مختلفة في الأصوات واللغات، وجعل ألوانكم مختلفة على كثرتكم، وهذا ألطف خلقا من خلق أجسامكم، فأتى تعالى ذكره بتمثيل الخلق العظيم واللطيف.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} أي: لعلامات وأدلة في قدرة الله تعالى ووحدانيته، يعني: الجن والإنس.(9/5676)
وهذا على قراءة من فتح اللام.
ومن كسرها فمعناه لم علم قدرة الله وأيقن بها.
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا}.
أي: خلق لأبيكم آدم من ضلعه زوجة ليسكن إليها.
وقيل: خلق الزوجة من نطفة الرجل.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي: بالمصاهرة والختونة يعطف بعضهم على بعض.
قال ابن عباس: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن لا يمسها بسوء.
وقال مجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: لمن تفكر في الله ووحدانيته، أي: من قدر(9/5677)
على هذا فهو قادر على إحياء الموتى، وأنه واحد لا شريك له.
ثم قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ} أي: ومن حججه وأدلته على توحيده وقدرته على إحياء الموتى، أنه يقدر الساعات والأوقات، ويخالف بين الليل والنهار، فجعل النهار تبتغون فيه الرزق والمعاش، وجعل الليل سكناً لتسكنوا فيه وتناموا.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالنهار، وحذف حرف الجر من النهار لا تصاله بالليل وعطفه عليه. والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة.
ومثله في التقديم والتأخير قوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: فيما نص من قدرته لدلالة وحججاً وعبرة وعظة لمن سمع مواعظ الله فيتعظ بها ويعتبر.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} أي: ومن آياته أنه يريكم البرق. " وخوفاً وطمعاً " مفعولان من أجلهما.
وقيل التقدير: ويريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته.(9/5678)
والمعنى: من حججه وأدلته على توحيده وإحياء الموتى أنه يريكم البرق خوفاً للمسافر أن يؤذيه المطر، وطمعاً للمقيم أن يسقي زرعه وتخصب أرضه.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: وينزل من السحاب مطراً فيحيي بذلك الماء الأرض الميتة التي قد يبست ولم تنبت نبتاً، فتنبت بعد جدوبها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعقلونَ عن الله حججه وأدلته.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} أي: ومن حججه وأدلته على توحيده وقدرته قيام السماوات والأرض بأمره خضوعاً له بالطاعة بغير عمد.
{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: إذا دعاكم للبعث خرجتم من بطن الأرض مستجيبين لدعائه إياكم.
روي عن نافع أنه وقف " دعاكم دعوة ". وكذلك قال يعقوب.
ثم يتبدئ " من الأرض ".(9/5679)
{إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: إذا أنتم تخرجون من الأرض.
والوقف عند أبي حاتم: من الأرض ". أي: دعاكم وأنتم في الأرض، كما تقول دعوت فلاناً من بيته. أي: وهو في بيته.
والأحسن عند أهل النظر أن على " تخرجون "، لأن إذا الثانية جواب للأولى على قول الخليل وسيبويه، كأنه قال: إذا دعاكم خرجتم.
ثم قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي: هم عبيد له ومُلك له، لا إله إلا هو.
{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي: مطيعون. وطاعة الكفار منهم انقيادهم على ما شاء من صحة وسقم وفقر وغنى، روى الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرآنِ(9/5680)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
فَهُوَ طَاعَة ".
قال ابن عباس: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي: مطيعون في الحياة والنشوز من الموت وإن كانوا عاصين له في غير ذلك. وهو اختيار الطبري وقيل: معناه أنهم مقرين/ كلهم بأنه ربهم وخالقهم، دليله قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87].
وقيل: معنى الآية الخصوص: يريد بها المؤمنين بالله خاصة.
قال ابن ز يد: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون وليس شيء إلا هو قانت مطيع لله إلا ابن آدم، كان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. قال: والقنوات في القرآن الطاعة إلا في قوله جل ذكره: {وَقُومُواْ للَّهِ قانتين} [البقرة: 238] معناه: ساكتين لا يتكلمون كما يفعل أهل الكتاب.
قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلى قوله: {بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
أي: والذي له هذه الصفات هو الذي يبدؤ الخلق من غير أصل وأمثال ثم يفنيه ثم يعيده بعد إفنائه كما بدأ.(9/5681)
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: وإعادته هين عليه، قال ابن عباس.
وقيل: المعنى: الإعادة أهون على المخلوق لأنه يقوم بشراً سوياً، وقد كان في الابتداء ينقل من حال إلى حال.
روي ذلك أيضاً عن ابن عباس.
وعن ابن عباس: أن معناه: وهو أيسر عليه. وقاله مجاهد.
فيكون هذا بمنزلة قوله: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 30].
وقال عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية.
فالمعنى عنده: إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه.
وقال قتادة: إعادة أهون عليه من بدايته، وكل شيء عليه هين.(9/5682)
وفي حرف ابن مسعود: " وَهُوَ عَلَيَّ هَيّن ".
وقيل أهون على بابها، على معنى أسهل عليه من الابتداء.
وجاز ذلك في صفات الله كما قال: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 30].
وحسن ذلك كله لأن الله خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء، فجعله مثلاً لهم لأنهم كذلك يعرفون في عادتهم أن إعادة الشيء مع تقدم مثال أسهل من اختراع الشيء بغير مثال تقدم، فهو مثل لهم على ما يفهمون، ألا ترى أن بعده: {وَلَهُ المثل الأعلى}، معناه: أنه لا إله إلا هو لا مثال له.
قال ابن عباس: {وَلَهُ المثل الأعلى} ليس كمثله شيء.
وقال قتادة: مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره.(9/5683)
وقيل: المعنى ما أراد كان. وحقيقته في اللغة أن المثل الوصف.
فمعنه وله الوصف الأعلى من كل وصف.
{وَهُوَ العزيز} في انتقامه من أعدائه {الحكيم} في تدبيره خلقه على ما يشاء.
ثم قال تعالى ذكره: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: مثل الله لكم أيها القوم مثلاً من أنفسكم.
ثم بيّن ذلك المثل فقال: {هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: هل من مماليككم شركاء في أموالكم أنتم وهم في المال سواء.
{تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: تخافون من عبيدكم في أموالكم أن يرثوكم بعد وفاتكم كما يرث بعضكم بعضاً.
وقيل: المعنى تخافونهم كما يخاف الشريك شريكه إذا تعدى في المال بغيره - أي: شريكه -.
وقيل: المعنى تخافونهم أن يقاسموكم كما يقاسم الشريك شريكه فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسهم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم شركاء لله في العبادة، وأنتم وهم عبيد الله وخلقه، وهو تعالى ذِكْرُهُ مالك الجميع، فجعلتم له شركاء من مماليكه وخلقه، ولا ترضون أنتم أن يكون لكم شركاء من مماليككم.
هذا معنى قول قتادة.(9/5684)
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: نفصل الآيات تفصيلاً، كذلك، أي: نفصلها في كل سورة ونبينها كما فصلنا هذه الآيات في هذه السورة لمن يعقل عن الله حججه.
ثم قال تعالى: {بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: عبدو الأصنام وأحدثوا لله شركاء اتباعاً منهم لما تهوى أنفسهم جهلاً منهم بطريق الحق.
{فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله} أي: من يسدد للصواب ويوفق للإسلام من أضله الله عن الاستقامة والرشاد.
{وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي: وما لمن أضل الله من ناصر ينصره من الضلالة.
ثم قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}. أي: اتبع الذي أمرك الله به حنيفاً أي: مستقيماً.
{فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} انتصب " فطرت " على معنى اتبع فطرة الله وقيل: هو مصدر عمل فيه الجملة التي قبله. والمعنى فطر الله الناس/ على ذلك فطره.
فالحَنَفُ: الاستقامة، ولذلك قيل للمعوج الرِّجل: (أحنف) على التفاؤل، كما قيل للمهلكة مفازة، والمفازة: النجاة، وقيل للأعمى بصير على التفاؤل في ذلك.(9/5685)
قيل معنى حنيفاً: مائلاً عن كل الأديان إلى الإسلام. فيكون الحَنَف على هذا: الميل، كما قيل للمائل الرِّجل: أحنف وقيل: على بمعنى اللام، والتقدير: التي فطر الناس لها، أي: لاتباعها، أي: دين الله خلق الناس لاتباعه.
كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فالمعنى دين الله المفطور له الناس، أي: المخلوق الناس له أي: خلقوا لاتباع الدين.
قال ابن زيد " فطرت الله " الإسلام، منذ خلقهم يقرون بذلك، وقرأ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172] الآية.
وهو قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} [البقرة: 213] وقاله مجاهد أيضاً.
وفي الحديث: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَى يَكُونَ أبَواهُ هُمَا اللَّذَانَ يُهَوِّدَانِهِ(9/5686)
أَوْ يُنَصّرَانِهِ ".
قال الأوزاعي وحماد بن سلمة: هذا الحديث مثل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ} الآية فالمعنى: كل مولود يولد على العهد الذي أخذ عليه.
وفي الحديث: " أَخْرَجَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ عَلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ يُولَدُ " وقيل: معنى الآية: خلقة الله التي لا يعرفونها لا تميز شيئاً.(9/5687)
وقال ابن المبارك: هذا لمن يكون مسلماً، يذهب إلى أنه مخصوص.
وقال محمد بن الحسن: هذا قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر بالجهاد.
وقوله جلّ ذكره: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}. معناه: لا تبديل لدين الله، أي: لا ينبغي لك أن تفعل ذلك، قاله مجاهد وعكرمة قتادة والضحاك والنخعي وابن زيد.
وقال ابن عباس: معناه لا تغيير لما خلق الله من البهائم، لا تخصى، وكره خصاء البهائم وقرأ الآية.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الدين القيم} أي: هذا الذي تقدم ذكره هو الدين المستقيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
ثم قال تعالى ذكره: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه} أي: أقيموا وجوهكم للدين حنفاء منيبين إليه، أي: راجعين إلى طاعته.
وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته فلذلك جاء الحال بلفظ الجمع. فلا تقف على يعلمون.
وقيل: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين إليه.(9/5688)
قال ابن عباس: " منيبين ": مقبلين بكل قلوبكم.
قال ابن زيد: المنيب: المطيع. وأصله في اللغة الراجع عن الشيء.
{واتقوه} أي: وخافوه أن تفرطوا في طاعته.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي: بحدودها في أوقاتها.
{وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} أي: ممن عبد مع الله غيره وضيع فرائضه. ثم بينهم فقال تعالى ذكره: {مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} يعني اليهود والنصارى، قاله قتادة.
وقال ابن زيد: هم اليهود.
وقالت عائشة رضي الله عنهـ وأبو هريرة: هي في أهل القبلة.
ومعنى {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي: أحزاباً.
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: كل طائفة تفرح بما هم عليه من الدين وتظن أن الصواب معها.
وهذا أمر من الله جل ذكره بلزوم الجماعة وترك تفريق الكلمة وتنبيه منه أن(9/5689)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
الفرقة معها الضلالة.
قوله تعالى ذكره: {وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} إلى قوله {أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ}.
أي: وإذا مس هؤلاء المشركين وغيرهم ضر من مرض أو جدب ونحوه {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: أخصلوا له الدعاء والتضرع، {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً}، إي: فرج عنهم الضر {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} يعني المشركين.
ثم قال تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}.
إن جعلت اللام لام كي لم تقف على " يشركون "، ولكن تقف على {آتَيْنَاهُمْ}، وإن جعلتها لام أمر لأن الكلام فيه معنى التهديد ابتدأت بها إن شئت، ووقفت على {يُشْرِكُونَ}، ولم تقف على {آتَيْنَاهُمْ}.
وقوله: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يدل على أنها لام أمر لأن هذا وعيد وتهديد لا شك فيه، فحمل الكلام على معنى واحد أحسن. والمعنى على الأمر: اكفروا وتمتعوا بالصحة والرخاء فسوف تعلمون عاقبتكم إذا أوردتم على ربكم.
ثم قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي: كتاباً وحجة في عبادتهم الأوثان.
{فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: فذلك الكتاب ينطق بصحة شركهم.
فالمعنى: لم ننزل عليهم شيئاً من ذلك إنما اختلفوا من عند أنفسهم اتباعاً لأهوائهم.(9/5690)
قال ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو عذر وحجة/.
ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا} أي: وإذا مس الناس خصب ورخاء وصحة فرحوا بذلك.
{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: وإن تصبهم شدة جدب أو مرض أو إتلاف مال بذنوبهم المتقدمة {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي: يئسون من الفرح، والقنوط: اليأس.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ} أي: ألم ير هؤلاء الذين ييأسوا عند الشدة ويفرحون عند الرخاء أن الله يوسع على من يشاء في رزقه، {وَيَقْدِرُ} أي: ويضيق على من يشاء في رزقه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في توسيعه الرزق على بعض خلقه وتضييقه على بعض، لدلالات وحججاً على قدرة الله لمن آمن بالله.
ثم قال تعالى: {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ}.
قال مجاهد وقتادة: هو قريب الرجل، صلة الرحم له فرض من الله جل ذكره.
وقال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجه.
وقال قتادة: إذا لم تعط ذا قرابتك وتمش إلأيه برجليك فقد قطعته.(9/5691)
وقيل: القربى هنا قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. مُنَزَّلة مَنْزِلة قوله تعالى ذكره: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الأنفال: 41] فيكون المعنى: فأعط يا محمد ذا القربى منك حقه عليك.
وقوله: {والمسكين وابن السبيل} أي: وَفِّيهم حقهم إن كان يُسْر، وإن لم يكن عندك شيء فقل لهم قولاً معروفاً. وابن السبيل: الضيف.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي: إتيان هؤلاء حقوقهم التي ألزمها الله جل ذكره عباده خير للذين يريدون بما يعطون ثواب الله.
{وأولئك هُمُ المفلحون} أي: الباقون في النعيم الفائزون.
ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} أي: ما أعطى بعضهم بعضاً ليرد الآخذ على المعطي أكثر مما أخذ منه فلا أجر فيه للمعطي لأنه لم يبتغِ في إعطائه ثواب الله، إنما ابتغى الازدياد من مال الآخذ، فذلك حلال لكم ولا أجر لكم فيه.(9/5692)
وهو محرم على النبي عليه السلام خاصة بقوله تعالى {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي: لا تعط عطية لتأخذ أكثر منها.
قال ابن عباس: هو الرجل يهدي الهدية فيطلب ما هو أفضل منها.
فليس له أجر ولا عليه إثم، وهو معنى قول مجاهد والضحاك وقتادة.
وقيل: هو الرجل يعطي الرجل العطية ليخدمه ويعينه لا لطلب أجر.
وقيل: هو الرجل يعطي الرجل ماله ليكثر مال لآخذ للثواب.
وقيل: هو الربا المحرم.
ومعنى: {فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} عند من قال: هو المحرم، لا يحكم به لأحد، بل هو للمأخوذ منه.
قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} أي: وما(9/5693)
أعطيتم من صدقة تريدون بها ثواب الله لا الازدياد من مال الآخذ ولا الثناء عليها، فأولئك الذين يكون لهم الأضعاف من الأجر، يضاعف لهم الحسنات.
وقيل: المعنى يضاعف لهم الخير والنعيم.
ويلزم من قال هذا التفسير أن يكون اللفظ: {المضعفون} بفتح العين لأنهم فعول بهم. لكن تحقيق المعنى مع كسر العين: فألئك هم الذين أضفعوا لأنفسهم حسناتهم، أي: هم المضعفون لأنفسهم الحسنات، لأن من اختار عمل الحسنة فقد اختبار عمل عشر حسنات لنفسه، ويضاعف الله لمن يشاء أكثر من عشر على الحسنة الواحدة.
ثم قال تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ} أي: اخترعكم ولم تكونوا شيئاً، ثم رزقكم وخولكم ولم تكونوا تملكون شيئاً، ثم هو يميتكم ثم هو يحييكم ليوم القيامة، فالعبادة لا تصلح إلا لمن هو هكذا.
{هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذلكم مِّن شَيْءٍ} أي: هل يفعل شيئاً من خلق أو موت أو بعث أو رزق أو ضر أو نفع، آلهتكم التي تعبدون، فلا بُدَّ لهم أن يقروا أنها لا تفعل شيئاً من ذلك فيعلمون أنهم على باطل.
ثم قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيها لله وبراءة له عما يشركون به.
ثم قال تعالى: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} أي: ظهرت المعاصي لله في الأرض وبحرها بذنوب الناس.
قال مجاهد وعكرمة: البحر هنا الأمصار، والبر: الفلوات، ظهرت/ فيها معاصي ابن آدم.(9/5694)
وقال قتادة: هذا قبل مَبْعَثِ النبي صلى الله عليه وسلم، امتلأت الدنيا ضلالة والظلمة، فلما بُعِثَ النبي عليه السلام رجع راجعون من الناس، قال أما البر فأهل العَمُود وأما البحر فأهل القرى والريف.
والتقدير على هذه الأقاويل: ظهر الفساد في مواضع البر والبحر.
وقيل: المعنى ظهر الفساد في مدن البر ومدن البحر.
والفساد: الجدب بذنوب بني آدم.
وقيل: الفساد ظهور المعاصي فيها وقطع السبيل والظلم وعن مجاهد: أن البر القرى والأمصار، والبحر بحر الماء المعروف قال: في البر: ابن آدم الذين قتل أخاه، وفي البحر: الذي كان يأخذ كل سفينة غضباً.
وهو قول ابن أبي نجيح.(9/5695)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
وقال قتادة: الفساد الشرك.
وعن ابن عباس أنه قال: الفساد نقصان البركة بأعمال العباد حتى يتوبوا.
فالمعنى على هذا: ظهر الجدب في البر والبحر، وظهور الفساد في البحر انقطاع مادة صيده وذلك بذنوب بني آدم.
وقال الحسن: أفسد الله بذنوبهم بَرَّ الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة لعلهم يرجعون، أي: يرجع من يأتي بعدهم.
ثم قال تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} أي: ليصيبهم بعقوبة بعض ذنوبهم.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: ينيبون إلى ترك المعاصي ويتوبون.
ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا} الآية. هي مثل " أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ " في أول السورة. وقد تم تفسيرها.
ومعنى {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} أي: مثلكم يا قريش.
قوله تعالى ذكره: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القيم} إلى قوله: {فَهُمْ مُّسْلِمُونَ}.
أي: اتبع يا محمد الدين أمرك الله به فهو المستقيم.
فالمعنى: أسلم على الدين القيم واعمل به أنت ومن اتبعك من قبل ان ينقطع وقت العمل بالموت وقيام الساعة. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.(9/5696)
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي: لا بد من إتيانه وهو يوم القيامة.
{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي: يتفرقون في ذلك اليوم، فريق في الجنة وفريق في السعير.
يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع لأنه تفرق شعب الرأس.
ثم قال تعالى ذكره {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: إثم وزره.
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} أي: من آمن وأدى ما افترض الله عليه.
{فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي: فلأنفسهم يستعدون ويوطئون.
قال مجاهد: يمهدون في القبر.
ثم قال: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ} أي: يومئذ يتفرقون ليجزي المؤمنين من فضله، أي: يومئذ يتفرقون لهذا الأمر، فيخص بالجزاء المؤمنين خاصة لأنه لا يحب الكافرين.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} بالغيث.
{وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} أي: ولينزل عليكم من رحمته، وهي الغيث الذي يحيي به البلاد.
{وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ} أي: السفن في البحر بأمره إياها.(9/5697)
{وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: تلتمسوا من رزقه الذي قسمه في سفركم في البحر.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون على هذه النعم.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات} هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كذبه قريش، فأعمله الله أنه قد أَرْسَل من قبله رسلاً إلى قومهم كما أرسله إلى قومه، وأن أولئك الرسل أَتَوْا أقوامهم بالبينات، أي: بالحجج الظاهرة كما جئت أنت يا محمد قومك بذلك.
{فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} في الكلام حذف والتقدير فكذبوا الرسل فانتقمنا من المكذبين، فكذلك تفعل بقومك يا محمد في تكذيبهم إياك.
{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} أي: ونجينا المؤمنين إذ جاء بأسنا، وكذلك نفعل بك يا محمد ومن آمن بك.
وقيل: المعنى: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين على الكافرين، فكذلك ننصرك ومن آمن بك على الكافرين من قومك.
وفي الحديث: " مَنْ رَدَّ عَلَى عِرْضِ صَاحِبِهِ رَدَّ الله عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ ثُمَّ تَلَى رَسُولُ الله: " وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤمِنِينَ " والتمام عند نافع آخر واو.(9/5698)
وقف بعض الكوفيين، " وَكَانَ حَقًّا " أي: فكان انتقامنا/ حقاً، ثم يبتدئ " عَلَيْنَا نَصْرُ المؤُمِنِينَ ". نصر ابتداء، وخبره علينا.
والوقف عند أبي حاتم: " نَصْرُ المُؤمِنِينَ ".
ثم قال تعالى: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي: ينشئ الرياح سحاباً، {فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ} ويجمعه.
قال قتادة: يبسطه: يجمعه.
ثم قال تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} أي: ويجعل الله السحاب في السماء قطعاً متفرقة، وهو جمع كسفة، وهي القطعة منه.
ومن أسكن السين فمعناه: أنه يجعل السحاب قطعة واحدة ملتئمة.
ويجوز أن يكون معناه كالأول على التخفيف.
ثم قال تعالى: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي: المطر يخرج من بين السحاب.
قال عبيد بن عمير: الرياح أربع: يبعث الله جل ذكره ريحاً فتعم الأرض(9/5699)
قماً، ثم يبعث الريح الثانية فتثير سحاباً فتجعله كسفاً، أي: قطعاً متفرقة، ثم يبعث الريح الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً، ثم يبعث الرابعة فتمطر.
ومعنى {مِنْ خِلاَلِهِ}: من خلال الكسفة، لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء فالتذكير فيه حسن.
وخلال جمع خلل.
وقد قرأ الضحاك: " يَخْرُجُ مِنْ خَلَلِهِ ".
ثم قال تعالى: {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ} أي: بالمطر {مَن يَشَآءُ} أي: أرض من يشاء من عبادة استبشروا وفرحوا.
ثم قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي: وإن هؤلاء الذين أصابب بالغيث أرضهم كانوا يئيسين من الخير قبل أن ينزل عليهم الغيث.
وقوله: {مِّن قَبْلِهِ} تأكيد للأول عند الأخفش.(9/5700)
وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر.
وقيل: التقدير من قبل تنزيل الغيث [من قبل رؤية السحاب.
وقيل: المعنى وإن كانوا من قبل تنزيل الغيث] عليهم من قبل أن يزرعوا لمبلسين، ودل المطر على الرزع لأنه خرج بسبب المطر، ودل على ذلك أيضاً {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} يعني الزرع.
ثم قال تعالى: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله} أي: انظر يا محمد إلى أثر المطر في الأرض كيف حييت بعد موتها، وأنبتت بعد قحطها، واهتزت بعد جدبها، فكذلك يحيي الله الموتى بعد فنائهم.
ومن قرأ " أَثَرِ رَحْمَةِ اللهِ " بالتوحيد ورده على التوحيد في: " فَيُبْسِطُهُ "، و " يَجْعَلُهُ "، و " مِنْ خِلاَلِهِ "، " وَأَصَابَ بِهِ "، " وَمِنْ قَبْلِهِ ".(9/5701)
ومن قرأ بالجمع رده على الأسباب المتقدمة وهي: إرسال الريح، وإثارتها السحاب، وبسطه آياه في السماء، وجعله إياه كسفاً، وإخراجه الودق، فهذا كله آثار جليلة وليست بأثر واحد فجمع على ذلك.
ثم قال: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الموتى} أي: إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها لمحيي الموتى بعد موتهم.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: لا يمتنع عليه فعل شيء أراده.
والمضر في " يحيي الأرض " يجوز أن يكون للمطر، ولله جل ذكره، وللأثر.
وقرأ محمد اليماني " كَيْفَ تُحْيِي " بالتاء رده على الرحمة، أو على الآثار.
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} أي: ولئن أرسلنا ريحاً مفسدة لما أنبت الغيث فرأوا ما أنبت الغيث مصفراً قد فسد بتلك الريح.
{لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} أي: لصاروا من بعده فرحهم واستبشارهم بالغيث(9/5702)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
يفكرون، أي: يجحدون نعم الله، فالهاء في " رَأَوْهُ " للنبات من زرع وغيره.
وقيل: الهاء للسحاب.
وقيل: للريح.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} الآية.
أي: إنك يا محمد لا تقدر أن تسمع من مات قلبه، ولا من أصم الله أذنه عن سماع الإيمان وهو الكافر لأنه كالميت الأصم. وهذا مَثَلٌ [ضربه] الله للكفار.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ} الآية.
أي: لست يا محمد تقدر أن تهدي من أعماه الله تعالى عن الهدى.
{إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ} أي: تسمع إلا من وفقه الله للإيمان، وقد تقدم تفسير الآيتين بأشبع من هذا في " الأنبياء ".
قوله تعالى ذكره: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} إلى آخر السورة.(9/5703)
هذه الآية احتجاج على من أنكر البعث، فتقرر عندهم أنه تعالى خلفهم من ضعف وهو النطفة، فجعله بشراً قوياً، ثم رد القوي إلى الضعف وهو الهرم والشيب، فمن فعل هذا يقدر على إحيائكم بعد موتكم.
والضعف بالفتح: المصدر، والضعف بالضم الاسم.
وروى عطية عن ابن عمر أنه قال: " قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الَّذي خَلَقَكُم مِنْ ضَعْفٍ " فقال لي: " مِنْ ضُعْفٍ ".
وقرأ عيسى بن عمر " مِنْ ضُعُف " بضمتين/.
وأجاز الكوفيون ضَعَفٍ بفتح الضاد والعين لأجل حرف الحلق.
ثم قال: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}.(9/5704)
أي: يخترع ويحدث ما يشاء.
{وَهُوَ العليم} أي: بخلقه، {القدير} أي: القادر عليهم.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون} أي: ويوم تجيئ ساعة البعث فيبعث الله الخلق، يحلف الكفار ما لبثوا فيب قبورهم غير ساعة واحدة.
قال قتادة: لما عاينوا الآخرة هان عندهم ما لبثوا.
{كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} أي: كما كذبوا في قولهم في الآخرة ما لبثها في قبورنا غير ساعة، كذلك كانوا في الدنيا يكذبون، أي: يصرفون الصدق إلى الكذب.
وقيل معنى ذلك: أن الكفار لابد لهم من خمدة بين النفختين فلم يدروا مقدار ذلك فقالوا: ما لبثنا غير ساعة.
وقيل: معناه: ما لبثنا في الدنيا غير ساعة، هان عليهم مكثهم في الدنيا لا نقطاعه وزواله، فادعوا أنهم ما لبثوا فيها غير ساعة.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث فهذا يَوْمُ البعث}.
هذا رد من المؤمنين على الكفار يوم القيامة دعواهم أنهم ما لبثوا غير ساعة، تقديره عند قتادة: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث.(9/5705)
وقال ابن جريج " تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله وبكتابه لقد لبثتم إلى يوم البعث.
وقيل: المعنى على غير تقدير ولا تأخير، والتقدير: وقال الذين أعطاهم الله العلم به والإيمان لقد لبثتم في اللوح المحفوظ إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، أي: يوم يبعث الناس من قبورهم، ولكنكم كنتم لا تعلمون في الدنيا أنه يكون وأنكم تبعثون بعد الموت، ولذلك كذبتم به.
وقيل: التقدير: لقد لبثتم في حكم الله وتقديره إلى يوم البعث.
ثم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ}.
أي: لا ينتفعون بعذر يعتذرون به من كفرهم وجحودهم ونفيهم للبعث.
{وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يقيمون في أنفسهم ولا يسترجعون.
روي أنه لما رد المؤمنون عليهم سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذرا ولا استعتبوا.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي: مَثَّلْنَا للناس في القرآن من كل مثل يدلهم على الهدى احتجاجاً عليهم وتنبيهاً لهم.
ثم قال تعالى: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} أي: وإن جئتم يا محمد بدلالة على صدق ما تقول لهم. {لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا} أي: الذين جحدوا آيات الله ورسله.(9/5706)
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} فيما جئتم به.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}.
أي: كتم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله.
ثم قال جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}.
أي: اصبر على أذاهم وتكذيبهم إياك، إن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم حق لا بد منه.
{وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} أي: لا يستخفن حلمك هؤلاء المشركون بالله الذين لا يوقنون بالمَعَاد، ولا يصدقون بالبعث.(9/5707)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة لقمان
سورة لقمان مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) إلى تمام الثلاث الآيات.
قوله تعالى ذكره: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} إلى قوله: {عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
أي: هذه الآيات آيات الكتاب المحكم هادياً وراحماً الله به من آمن بالله وكتبه ورسله. وإن رفعت " رحمة ". فالتقدير هو هدى ورحمة لمن أحسن لنفسه فآمن بالله(9/5709)
وكتبه ورسله.
ثم قال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي: يقيمونها بحدودها في أوقاتها.
{وَيُؤْتُونَ الزكاة} أي: التي افترض الله عليهم.
{وَهُمْ بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} أي: يصدقون بالبعث بعد الموت والجزاء.
ثم قال تعالى: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أي: على إيمان.
{وأولئك هُمُ المفلحون} أي: الباقون في النعيم/ الفائزون.
ثم قال جل ذكره: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
قال قتادة: معناه: من يختاره ويستحسنه يعني الغناء.
وروي عنه أنه قال: لعله لا ينفق مالاً ولكن اشتراؤه استحبابه. وكذلك قال مطرف.
وقال ابن مسعود في الآية: " الغِنَاءُ والله الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، يُرَددِّهُهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ".(9/5710)
" والغِنَاءُ يُنْبِتُ فِي الْقَلْبِ النِّفَاق ".
وقال ابن عباس: " هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الجَارِيَّةَ المُغَنِّيَة تُغَنِّيهِ لَيْلاً وَنَهَاراً ".
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاَ يَحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ بِِهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ، وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية " وَمِنَ النَّاسِ. . . "
روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ جَلَسَ إِلَى قَيْنَةٍ يٍسْتَمِعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
وروى مالك عن ابن المنكدر أنه قال: " إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ(9/5711)
الْقِيَامَةِ: " أَيْنَ الذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَنِ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، أَدْخِلُوهُمْ فِي رِيَّاضِ المِسْكِ. ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ: أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَثَنَأءً عَلَي وأَخْبِرُوهُمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ".
روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلاَ تُصَلُّوا عَلَيْهِ " رواه مكحول عنها.
وقال ابن عمر: هو الغناء، وكذلك قال عكرمة ومكحول وغيرهم.
والتقدير: على هذا: ومن الناس من يتشتري ذات لهو أو ذا لهو.
وعن الضحاك: إن لهو الحديث: الشرك. ورواه عنه جويبر أنه قال:(9/5712)
الغناءُ مَهْلَكَةُ للمال مَسْخَطَةٌ للرب مَعْمَاة للقلب.
وسئل القاسم بن محمد عنه فقال: الغناء باطل، والباطل في النار.
وقال معمر: هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يشتري الكتب التي فيها أخبار فارس والروم، ويقول: محمد يحدثكم عن عناد وثمود وأنا أحدثكم عن فارس والروم، ويستهزئ بالقرآن إذا سمعه.
وروى ابن جريج عن مجاهد في لهو الحديث: أنه الطبل.(9/5713)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
ثم قال: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن دين الله، وما يقرب إليه.
وقال ابن عباس: عن القرآن وَذِكْرِ الله، وهو رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: جعلا منه بأمر الله فعل ذلك.
ثم قال: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} أي: ويتخذ سبيل الله هزؤاً. قاله مجاهد.
وقال قتادة: ويتخذ الآيات هُزُؤاً.
{أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: في الآخرة.
قوله تعالى ذكره: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِءَايَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً} إلى قوله: {إِلَيَّ المصير}.
أي: وإذا يتلى على الذي يشتري لهو الحديث القرآن أدبر يستكبر عن سماع الحق، {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} أي صمماً وثقلاً فهو لا يستطيع أن يسمع ما يتلى عليه.
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم، يعني في يوم القيامة، وذلك عذاب النار.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم}.
أي: إن الذين صَدَّقُوا محمداً وما جاء به وعملوا الأعمال الصالحة، لهم بساتين النعيم ما كثين فيها إلى غير نهاية.
{وَعْدَ الله حَقّاً} أي: وعدهم الله ذلك [وعداً] حقاً لا خلف فيه.(9/5714)
{وَهُوَ العزيز} أي: الصنيع الشديد في انتقامه من أهل الشرك.
{الحكيم} في تدبيره لخلقه.
ولا يحسن الوقف على: " خالدين فيها " عند سيبويه، لأن الجملة عاملة في: " وَعْدَ الله " إذ هو عنده مصدر مؤكد.
وأجازه أبو حاتم لأنه يضمر فعلاً ينصب به " وعداً الله "، وتقديره: وعدهم الله بذلك وعداً حقاً.
ثم قال تعالى ذكره: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}.
قال ابن عباس: عمدها قاف، وهو الجبل المحيط بالدنيا، وهو من زبرجدة خضراء. من زبرجد الجنةن وخضرة السماء منه، وخضرة البحار من السماء، والسماء مقبة على الجبل الذي اسمه قاف، ولكنكم لا ترونه.
وروي عنه أنه قال: لعلها بعمد لا ترونها. وقاله عكرمة.
فيكون ترونها على هذا القول في موضع خفض نعتاً للعمد، والتاء متعلقة(9/5715)
بخلق.
وقال الحسن: لا عمد لها البتة. فيكون " ترونها " على هذا القول في موضع نصب على الحال من السماوات والباء متعلقة بِتَرَوْنها.
ويجوز أن يكون " ترونها " مستأنفاً، أي أنتم ترونها/ فتقف على: " بعير عمد " ولا تقف على القولين الأولين إلا على: " ترونها "، فإذا كان الضمير في ترونها للعمد، فترونها نعت للعمد، وليس ثم عمد، والمعنى فلا عمد مرئية البتة ويحتمل على هذا الوجه، فلا عمد مرئية لكم، أي ثم عمد ولكن لا ترونه.
[فإذا جعلت الضمير في ترونها يعود على السماوات، كان ترونها] حالاً من السماوات.
والمعنى ترون السماوات بغير عمد تمسكها، فلا عمد ثم البتة، كالتأويل الأول.
ثم قال تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: أن تحرك بكم يميناً وشمالاً، أي: حمل على ظهر الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بكم.
قال قتادة: لولا ذلك ما أقرت عليها خلقاً.(9/5716)
{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} أي مطراً.
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي في الأرض بذلك الماء.
{مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي: نوع من البنات.
{كَرِيمٍ} قال قتادة: حسن.
وقال ابن عباس: من كل لون حسن.
وتأوله الشعبي على الناس لأنهم مخلوقون من الأرض، فمن كان منهم إلى لاجنة فهو الكريم، ومن يصير إلى النار فهو اللئيم.
وتأويله غير في النطفة لأنها مخلوقة من تراب في الأصل.
ثم قال تعالى ذكره: {هذا خَلْقُ الله} أي فرق في الأرض من كل أنواع الدواب، ثم قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} أي: هذا الذي تقدم ذكره خلق الله الذي لا تصلح العبادة والألوهية إلاّ له، فأروني أيها المشركون أي شيء خلق الذي عبدتم من دونه.
ثم قال تعالى: {بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: هؤلاء المشركون في عبادتهم الأصنام في جور عن الحق وذهاب عن الاستقامة ظاهر لمن تأمله.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَنِ اشكر للَّهِ}.(9/5717)
قال مجاهد: كان لقمان رجلاً صالحاً ولم يكن نبياً.
وروي عنه أنه كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً غليظ الشفتين مصمفح القدمين قاضياً على بني إسرائيل.
وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسوداً من سودان مصر.
وقال ابن عباس: كان عبداً حبشياً.
وروي أنه كان في وقت داود.
وعن عكرمة أنه قال: كان نبياً.(9/5718)
قال مجاهد: الحكمة التي أوتي لقمان: الفقه والعقل، والإصابة في القول في غير نبوة.
وقال قتادة: الحكمة التي أوتي: الفقه في الإسلام.
قال قتادة: لم يكن نبياً ولم يوح إليه.
وعن مجاهد: أن الحكمة التي أوتي: القرآن.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: قال لقمان لابنه: إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنك قد استدبرت الدني منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن داراً تصير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها، يا بني ليس غنى كصحة ولا نعيم كطيب نفس.
وروى أشهب عن مالك: أن لقمان كان يقول لابنه: اتق الله جهد نفسك.(9/5719)
قال: وكان يقول له: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشيهم، (اتق لا ينزل) عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم، يا بني جالس العلماء وماشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم.
وروي عنه: أنه كان عبدً حبشياً نجاراً. وقيل: كان خياطاً.
وقيل: كان راعياً، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، فقال له: أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخر اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال له: اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، فقال له: أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه في ذلك منكراً عليه وممتحناً له: [أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فأخرجتهما وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخجرتهما]، فقال لقمان: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
وروي أنه أتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال: ألست الذي كنت(9/5720)
ترعى معي الغنم في موضع كذا؟ قال: نعم.
[قال]: فما بلغ بك ما أمرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني.
قال وهب بن منبه: قرأت من حكمته أرجح من عشرة آلاف باب.
وقوله: {أَنِ اشكر للَّهِ} أن بمعنى أي: لا موضع لها.
وأجاز سيبويه أن كون في موضع نصب على معنى بأن أشكر، كما تقول كتبت إليه أن قم، أي: بأن قم.
والمعنى: أن أحمد الله على ما آتاك من الحكمة، فقوله: " أَنْ أشْكُرْ " بيان عن الحكمة لأن من الحكمة التي أوتيها شكر الله على ما أتاه.
ثم قال: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي: من شكر نعم الله عليه فإنما يشكر(9/5721)
لنفسه لأنه يتزيد لنفسه من/ النعم بالشكر، ويؤدي ما على نفسه من الشكر، ويكتب له الأجر والذخر، بالشكر فلنفسه يعمل وأياها ينفع.
ثم قال: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ} أي: ومن كفر نعمة الله فلنفسه أساء، إذ الله تعالى معاقبه على ذلك، وهو غني عن شكره، ولا يزيده شكر العبد في سلطانه ولا ينقص تركه منه.
{حَمِيدٌ} أي: محمود على كل حال.
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} أي: واذكر يا محمد إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك، أي: لا تعبد معه غيره.
{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي: الخطأ كبير.
وروي أن اسم ابنه ثاران.
ثم قال: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} أي: يبرهما.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} أي: ضعفاً على ضعف وشدة على شدة، ومنه: " وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ".
قال ابن عباس: شدة بعد شدة وخلقاً بعد خلق.
وقال الضحاك: ضعفاً على ضعف.(9/5722)
وقال قتادة: جهداً على جهد.
فهذا كله يعني به الحمل، يعني: ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف النفاس.
وعن ابن عباس أنه قال: مشقة وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها.
والوهو في اللغة الضعف: يقال: وَهَنَ يَهِنُ وَوَهُنَ يُوْهَنُ، وَوَهِنَ يَهِنُ مثل وَرِمَ يَرِمُ.
ثم قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي: وفطامه من الرضاع في انقضاء عامين مثل وسئل القرية.
{أَنِ اشكر لِي} أن بمعنى أي: أو في موضع نصب على ما تقدم.
وكونها بمعى (أي) أحسن.
والمعنى: وعهدنا إليه أن أشكر نعتمي عليك، وأشكر لوالديك تربيتهما لك، ومحنتهما فيك.(9/5723)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{إِلَيَّ المصير} أي: مصيرك فسائلك عن شكرك لي ولهما وعن غير ذلك. وروي أن هذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه، وذلك أن أمه حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يتحول عن دينه، فأبى عليها، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها فلما أفاقت دعت عليه، فنزلت الآية.
قوله تعالى ذكره: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي} إلى قوله: {وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور}.
أي: وأن جاهداك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في العبادة ما لا تعلم أنه لي شريك، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك.
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} أي: بالطاعة لهما فيما لا إثم عليك فيه.
{واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أي: واسلك طريق من تاب ورجع عن شركه إلى الإسلام.
قال قتادة: " مَنَ أَنَابَ إِلَيّ " أقبل إلي.
قال الليث: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، كان بَرّاً بأمه، فلما أسلم كلمها بعض قومها أن تكلمه أن يرجع إلى دينه، فقالت: أنا أكفيكموه، فكلمته في(9/5724)
ذلك، فقال: أما في هذا فلا أطعيك ولكن أطعيك فيما سوى ذلك.
قال الليث: فصارت له ولغيره وأن لا يطاع أحد في شرك ولا في معصية لله.
وروي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنهـ فهو الذي أناب إلى الله، وأمر الله أن يتبع سبيله، وذلك أن أبا بكر حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأتاه قبل ذلك عثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فسألوه هل أسلم؟ فقال: نعم، فنزلت {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة} الآية إلى قوله:(9/5725)
{أُوْلُواْ الألباب} [الزمر: 10]. فلما سمعوا ما نزل الله في أبي بكر أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فنزلت فيهم: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى} إلى قوله: {أُوْلُواْ الألباب} [الزمر: 17 - 18].
قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: مصيركم بعد مماتكم.
{فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فأخبركم بجميع ما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه.
وهذه القصة كلها معترضة فيما بين كلام لقمان لابنه، وإنما جاز الاعتراض هنا لأنها أيضاً مما كان وصى به لقمان ولده، فجعلها الله جل ذكره خبراً من عنده لنا لنتبعها ونعمل بها، مما دعل على ذلك قوله تعالى عن لقمان أنه قال لولده: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} أي: إن القصة التي سألتني عنها/ أو المسألة.
روي أنه كان يسأل والده عن ذكل، فجرى الإضمار عن سؤال ولده له.
وقيل: التقدير: إن الخطيئة أو المعصية إن تكن مثقال حبة. هذا على قراءة من نصب " مثقال حبة " فأما من رفع. فلا إضمار في " كان " عنده، ورفع إلقاء ثبت في(9/5726)
" تك " حملاً على المعنى لأن المقصود الحبة، فكأنه قال: إنها إن تك حبة. يقال: عندي حبة فضة ومثقال حبة فضة بمعنى واحد، وقد قالوا: اجتمعت أهل اليمامة.
فالمعنى على الرفع: إن الخطيئة إن تك حبة، أي إن وقعت حبة من خرذل. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً -، والتقدير: إن تك حبة خرذل في موضع يأت بها الله.
والتقدير في هذا كله: زنة حبة من خير أو شر.
ثم قال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض}.
روي أن ابن لقمان سأل لقمان فقال: أرأيت الحبة تكون في مثل البحر أمن يعلمها الله فأعمله أن يعلمها في أخفى الموضع لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في السماء.
وهذا مثل لأعمال العباد، أن الله يأتي بأعمالهم يوم القيامة.
روي أن لقمان لما وعظ ابنه هذه الموعظة أتى بحبة خرذل فألقاها في اليرموك -(9/5727)
في عرضه -، ثم مكث ما شاء الله ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته. من رواية ابن وهب وروي عن ابن عباس [أنه] وزن رطل لحم وجعله للذَّرِّ حتى اسود من كثرة الذر عليه، ثم أخذه بما عليه من الذر ووزنه فلم يزد شيئاً، فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره أراد أن يرغبكم وأن يحضكم على ثواب الآخرة، وأما الذر والخرذل. فلا مثاقيل لها، ولكن في عظمة الله وقدرته وعلمه ما يعلم به مثاقيل الذر والخرذل.
ويروي أن عائشة رضي الله عنها: " تصَّدقَتْ بحبة عنب فقالت لها مولاتها بُرَيْرَةُ يا أُمَّ المؤمنين: أي شيء حبة عنب؟ فقالت لها عائشة: كم ترين فيها من مثقال ذرة ".
ويقل: إن الصخرة هنا هي الصخرة الخضراء التي على ظهر الحوت وهو النون الذي ذكره الله عز وجل في قوله: نون والقلم والحوت في السماء والسماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي(9/5728)
ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض.
وقال قتادة: " فتكن في صخرة " أي: في جبل من الجبال.
وقيل: معنى {يَأْتِ بِهَا الله} بعلمها الله.
{إِنَّ الله لَطِيفٌ} أي: باستخراجها.
{خَبِيرٌ} أي: يمكن ومستقرها لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: {يابني أَقِمِ الصلاة} أي: بحدودها في أوقاتها.
{وَأْمُرْ بالمعروف} أي: آمر الناس بطاعة الله.
{وانه عَنِ المنكر} أي: إنه الناس عن معصية الله.
{واصبر على مَآ أَصَابَكَ} أي: من أذى الناس ومحن الدني في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالطاعة ونهيتهم عن المصعية.
{إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} أي: إن الصبر على ذلك مما أمر الله له من الأمور عزماً.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي: لا تعرض بوجهك، على من كلمك تكبراً واستخفافاً.
وأصله من الصعر وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها. ورؤوسها، تلتوي منه(9/5729)
أعناقها فقيل هذا للمتكبر لأنه تكبر لوى عنقه على من تكبر عليه.
قال ابن عباس: معناه لا تتكبر فتحقر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك، إذا كلموك وهو معنى قول مجاهد والضحاك.
وعن مجاهد أنه قال: هو الرجل يكون بينه وبين أخيه إحْنَةٌ فيراه فيعرض عنه فنهاه عن ذلك.
وقال النخعي: هو التشدق.
ثم قال: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً}.
قال الضحاك: لا تمش بالخيلاء.(9/5730)
وقال قتادة: نهاه عن التكبر.
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: كل متكبر مفتخر بما أعطى وهو لا يشكر الله.
ثم قال تعالى ذكره: {واقصد فِي مَشْيِكَ} أي: تواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر ولا تستعجل ولكن اتئد.
قال مجاهد: واقصد في مشيك التواضع.
وقال قتادة: نهاه عن الخيلاء.
وقال يزيد بن أبي حبيب: نهاه عن السرعة.
ثم قال: {واغضض مِن صَوْتِكَ} أي: اخفض منه واجعله قصداً إذا/ تكلمت.
وقيل: معناه إذا ناجيت ربك لا تصح، وبالخفاء دعا زكرياء ربه.
قال قتادة: أمره بالاقتصاد في صوته.
ثم قال: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير}.(9/5731)
قال مجاهد والضحاك والأعمش وقتادة: معناه إن أقبح الأصوات.
قال قتادة: أوله زفير وآخره شهيق.
قال عكرمة: معناه إن شر الأصوات.
وقال الحسن: معنها إن أشد لاأصوات.
قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله للحمير.
ووحج الصوت لأنه مصدر.
وفي الحديث: " ما صاح حِمَارٌ ولا نَبَحَ كَلْبٌ إلا أن يرَى شَيْطَاناً ".(9/5732)
ثم قال: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يعني: شمسها وقمرها ونجومها وجبالها وعيونها وبحرها وجميع منفعها التي هي صلاح للعباد في أنفسهم وفي معاشهم وتصرفهم.
ثم قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}.
[من جمع النعم ظهرة وباطنة حالا]. ومن وحد جعلها نعتاً.
وقال ابن عباس في توحيد النعمة: هي الإسلام.
وقال مجاهد: هي لا إله إلا الله.
وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس.
فيكون المعنى: ظاهرة على الألسن وعلى الأبدان والجوارح عملاً، وباطنة في القلوب اعتقاداً ومعرفة.
وروى الضحاك، عن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " الظاهرة(9/5733)
الإسلام وما أحسن من خَلْقِكَ، والباطِنَةُ ما سَتَرَ عليك من سيئ عَمَلِكَ ".
ثم قال تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله}.
أي: يخاصم في تويحد الله وإخلاصه العبادة له بغير علم عنده لما يخاصم به {وَلاَ هُدًى} أي: ولا إيمان يبين به صحة ما يقول {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أي: ولا تنزيل من الله عنده بما يدعي يبين به صحة دعواه.
قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله} أي: وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في الله بـ غير علم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من القرآن.
{قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} من عبادة الأوثان.
قال الله جل ذكره: {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير}. هذا على التوبيخ له: أي: أَوَلَوْ كان الأمر هكذا أكان يجب لهم أن يتبعوه.
ثم قال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: من يتذلل إلى الله بالعبادة وهو مطيع لما أمره الله به فقد استمسك بالأمر الأوثق الذي لا يخاف معه، أي: يمسك من رضى الله تعالى بما لا يخاف معه غداً عذاباً.
قال ابن عباس: العروة الوثقى: لا إله إلا الله.
{وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور} أي: إليه ترجع أمور الخلق فيجازيهم بأعمالهم.(9/5734)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله تعالى ذكره: {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} إلى آخر السورة.
أي: لا يغمك يا محمد كفر من كفر ولم يؤمن، فإن رجوعه إلى الله فيخبره بسور عمله ويجازيه عليه، وهذا مثل قوله " {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] ".
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: يعلم ما تكنه صدورهم من الكفر بالله.
ثم تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} أي: يمهلهم في الدنيا إمهالاً قليلاً ووقتاً قليلاً.
{ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي: يلجئهم إلى الدخول في عذاب النار - نعوذ بالله منها -.
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} أي: إن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك من خلق السماوات والأرض؟ أقروا بأنه الله، فقل يا محمد عند إقرارهم بذلك: الحمد لله: أي الذي خلق ذلك وتفرج به لأنهم لم يخلقوا شيئاً.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون من يجب له الحم والشكر.
ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} أي يملكها.
{إِنَّ الله هُوَ الغني}: أي: عن خلقه. {الحميد} أي المحمود على نعمه.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ}. أي: ولو أن شجرة الأرض كلها بريت أقلاماً، والبحر لها مداد، ويمدها سبعة أبحر مداداً - أي الأقلام - {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله}.(9/5735)
وفي الكلام حذف، والتقدير: يكتب بذلك كلام الله لتكسرت الأقلام وجفت وفرغ المداد ولم تنفذ كلمات الله. ومن رفع " البحر " فعلى الابتداء، أو على موضع أن.
" وما " عملت فيه، أو على موضع " ما "، إذ لم يظهر فيه الإعراب.
قال قتادة: قال المشركون: هذا الكلام يوشك أن ينفد/ فنزلت هذه الآية. وروي أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في سبب مجادلة كانت من اليهود له.
قال ابن عباس: " قالت أحبار يهود للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد أرأَيْتَ قَوْلُكَ " وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمُكَ؟ فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: " كَلاَّ "، قالوا: ألسْتَ تَتْلُو فِيما جَاءَك أنَّا قَد أوتينَا التَّوراة فيها بيان كل شيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(9/5736)
" فإنَّها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما تكفيكم " فأنزل الله في ذلك: " ولو أنما في الأرض من شجرة " إلى تمام الثلاث الآيات.
وهذا معنى قول عكرمة.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ق قال لهم: " وَقَدْ أَتَاكُم اللهُ ما أن عَمِلْتُم بِهِ انْتَفَعْتُم وهو في عِلْمِ الله قَلِيلٌ ".
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي: ذو عزة في انتقامه ممن أشرك به وادعى معه إلهاً غيره، {حَكِيمٌ} في تدبيره خلقه.
ثم قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: ما خلقكم إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون قليلاً كان أو كثيراً. هذا معنى قول مجاهد.
ثم قال: {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي: سامع لما يقوله المشركون وغيرهم، {بَصِيرٌ} بأعمال الخلق كلهم.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل}. أي يزيد من كل واحد في الآخر، فينقص من أحدهما بمقدار ما زاد في الآخر.(9/5737)
ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي: سخرهما لمصالح العباد. {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: يجري بإذن الله إلى وقت معلوم، إذا بلغاه كورت الشمس والقمر.
{وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: ذو خبر بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها. والمراد بها الخطاب المشركون.
ثم قال عالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق}. أي: هو الخالق الحق لا ما تعبدون. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي: ما تعبدون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي يضمحل ويفنى.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله هُوَ العلي} أي: ذو العلو على كل شيء، وكل من دونه متذلل منقاد له، {الكبير} أي: الذي كل شيء يتصاغر له.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله} أي: السفن تجري في البحر بنعمة الله على خلقه. {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} أي: من حججه وقدرته فتتعظوا.
وقد قيل: نعمة الله ها هنا الريح التي تجري السفن بها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: إن في جري الفلك في البحر لعلامات وحججاً على قدرة الله وضعف ما تدعون من دونه.
{لِّكُلِّ صَبَّارٍ} أي: لكم من صبر نفسه عن محارم الله وشكر على نعمة. قال مطرف: إن من أحب عباد الله إليه الصبور الشكور.(9/5738)
وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.
وقال قتادة: إن من أحب عباد الله إليه من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل}. أي: وإذا غشي هؤلاء الذين يشركون بالله غيرهم في حال ركوبهم لابحر موج كالظلم، شبه سواد كثرة الماء وتراكب بعضه على بعض بالظلم، وهي الظل جمع ظلة.
وقال الفراء: الظل هنا: السحاب.
{دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: إذا غشيهم الموج فخافوا الغرق فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له لا يشركون به هنا لك شيئاً، ولا يستغيثون بغيره.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر} أي: نجاهم من ذلك الموج والغرق فصاروا في البر.
{فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي: في قوله وإقراره بربه، وهو مضمر للكفر بعد ذلك، وقال أبن زيد: المقتصد على صلاح من الأمر. وفي الكلام حذف، كأنه قال: ومنهم كافر بربه الذي نجاه من الغرق. ودل على ذلك قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} أي: وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلا كل غدار عنيد. فدل الجحود المذكور على الكفر المحذوف.(9/5739)
وقيل: التقدير: ومنهم جائر لأن الاقتصاد ضده الجور، فدل على ضده، قال معنى ذلك مجاهد والحسن وقتادة والضحاك/.
والختر عند العرب أشد.
ثم قال {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ}. أي: اتقوه في قبول طاعته والعمل بمرضاته، {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} يعني: وخافوا يوم القيامة فإنه يوم لا يشفع فيه أحد لأحد إلا بالإيمان والأعمال الصالحة.
{إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: إن مجيء هذا اليوم الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم حق.
{فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} أي: لا يخدعنّكم نُزهَتُها ولذاتها فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عذاب الله تعالى ونعيمكم أبداً.
{وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور}. أي: ولا يخدعكم بالله خادع، فالغرور هو كل ما غر من إنسان أو شيطان. ومن ضم الغين جعله مصدراً.
وقيل: هو أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، قاله أبن جبير.(9/5740)
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة}. أي: يعلم متى تكون، فاتقوا أن تأتيكم بغتة.
{وَيُنَزِّلُ الغيث}: أي: لا يعلم متى ينزله.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} أي: لا يُعْلَمُ ذلك غيره.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أي: ما تعمل من خير وشر.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي: في أي مكان يلحقها أجلها فتموت فيه، كل ذلك لا يعلمه إلا الله.
{إِنَّ الله عَلَيمٌ} أي: ذو علم بكل الأشياء، {خَبِيرٌ} بما هو كائن وما كان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " مفاتح الغَيب خَمْسة. ثم قرأ هذه الآية. . ".(9/5741)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدة
سورة السجدة مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في رجلين من قريش. وهن
قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا) إلى آخر الثلاث الآيات.
قوله تعالى ذكره: {الم * تَنزِيلُ الكتاب} إلى قوله: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}.
من رواية أبن وهب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَرَأَ آلم تَنْزِيلُ السِّجْدَةِ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ فَكَأَنَّمَأ وَافَقَ لَيْلَةَ القَدْرِ ".(9/5743)
وعنه أنه قال: " آلم تنْزِيلُ السَِّجْدَةِ وَتَبَارَكَ يَفْصُلاَنِ عَلَى السُّوَرِ بِسِتِّينَ حَسَنَة ".
وقال جابر بن عبد الله: " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ حَتَّى يَقْرَ آلم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكِ " قد تقدم ذكر {الم}.
وقوله: {تَنزِيلُ} رُفِعَ بالابتداء، و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} الخبر. ويجوز أن يكون خبر الابتداء محذوف، أي: ها المتلوا تنزيل الكتاب. ويجوز أن يكون [التقدير]: هذه الحروف تنزيل الكتاب، {الم} بدل من الحروف دالة عليها فهي موضع الابتداء، و {تَنزِيلُ} الخبر. ويجوز: " تنزيل " بالنصب على المصدر. والمعنى: تنزيل الكتاب المنزل على محمد لا شك فيه أنه من رب العالمين، وليس بسحر ولا سجع ولا كهانة ولا كذب. وهذا تكذيب لمن قال ذلك في القرآن من المشركين.(9/5744)
ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه}.
قال أبو عبيدة: معناه: بل يقولون. وهو خروج من حديث إلى حديث.
وقال الزجاج: التقدير: أيقولون. والتقدير عند الطبري: أيقولون، يعني المشركين أيقولون اختلق محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن من قبل نفسه، وأم عنده تقرير كالألف.
ثم أكذبهم الله في قولهم فقال: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ} أي: هو الصدق من عند ربك أنزله عليك، لتنذر قوماً بأس الله أن يحل بهم على كفرهم لم يأتهم نذير من قبلك.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: يهتدون إلى طريق النجاة من عذاب الله. أجاز بعض النحويين الوقف على {رَّبِّكَ}، على أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف، والتقدير: وأنزله عليك لتندر. وأجاز أبو حاتم الوقف على {افتراه}.
ثم قال تعالى ذكره: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الآية.
أي: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش في اليوم/ السابع، قاله(9/5745)
قتادة.
ثم قال [تعالى]: {مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ}.
[أي]: يلي أمركم [فينصركم] منه إذا أراد بكم ضراً، {وَلاَ شَفِيعٍ} أي: يشفع لكم إن عاقبكم على كفركم، فاتخذوه أيها الناس ولياً واستعينوا بطاعته على أموركم.
{أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي: تتذكرون هذه الموعظة فتعلموا أنه لا معبود لكم غيره/ فتفردوا له العبادة وتخلصوا له العمل.
(في) ستة أيام تمام عند نافع، وعلى العرض أتم منه.
ثم قال تعالى [ذكره]: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض}.
أي: هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.
{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}.
قال مجاهد: يعني نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في(9/5746)
يوم واحد، وذلك اليوم مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمس مائة عام.
وهو معنى قول قتادة والضحاك وعكرمة، وقاله ابن عباس. وهو اختيار الطبري.
وقال ابن عباس: إن المعنى أن هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض وما بينهما كألف سنة من سني الدنيا.
وعن ابن عباس: أن المعنى ثم تعرج إليه الملائكة بالأمر في يوم مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدنيا.
وعن مجاهد: أن المعنى: كان مقدار ذلك التبدير ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: التقدير: كان مقدار ذلك العروج ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: المنى: يدبر الله أمر الدنيا وما حدث فيها مما يجازي عليه الناس وغيرهم(9/5747)
من أهل السماء إلى أن تقوم الساعة ويبعث الناس إلى الحساب، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، وهو يوم القيامة.
وقيل: معناه يدبر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض لأنها على أهل الأرض تطلع، وفوق الأرض تطلع إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم [كان] مقداره في المسافة ألف سنة.
والهاء في يَعْرُجُ إليه: قيل تعود على السماء لأنها تذكر.
وقيل: تعود على الله جل ذكره. فأما قوله في " المعارج ".
{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
فمعناه على قول ابن عباس: أنه يوم القيامة يراد [به] قال: جعله الله على الكفار مقدار خسمين ألف سنة/.
وقال وهب بن منبه: [ما] بين أسفل الأرض إلى العرش مقدار خمسين ألف(9/5748)
سنة من أيام الدنيا.
وقيل عنه: الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم [كم] مضى منها ولا كم بقي.
وقيل: يوم القيامة أيام، فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة.
واليوم في اللغة بمعنى الوقت.
فالمعنى تعرج الملائكة والروح إليه [في وقت مقدار ألف سنة و] في وقت آخر مقدار خمسون ألف سنة.
" إلى لأرض " تمام عند الأخفش.
ثم قال تعالى: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة}. أي: الذي تقدمت صفته في قدرته(9/5749)
وسلطانه هو علم الظاهر والباطن والسر والجهر، وهو الله (الذي) لا إله إلا هو. {العزيز} أي: الشديد في انتقامه ممن كفر به، {الرحيم} بمن تاب من كفره.
ثم قال تعالى: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}. أي: وهو الذي أعطى كل شيء خلقه، الإنسان للإنسان، والفرس للفرس، فقرن كل جنس بشكله.
قاله مجاهد.
" وأحسن " على هذا القول بمعنى أعلم، تقول [العرب] فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه. هذا على قراءة من أسكن اللام من " خلقه " فيكون " خلقه " مفعولاً به.
ويجوز عن سيبويه أن ينتصب على المصدر المؤكد. مثل {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وقيل: هو منصوب، على التفسير، كقولك: زيد أوسعكم(9/5750)
داراً، والتقدير: أحسن كل شيء خلقاً.
وقيل: أحسن على هذه القراءة بمعنى أعلم وألهم. فيكون خلقه مفعولاً به.
وهو القول الذي ذكرنا عن مجاهد أولاً. ومن فتح اللام جعله فعلاً ماضياً. والمعنى الذي أتقن كل شيء خلقه وأحكمه. والهاء في موضع نصب، والفعل في موضع خفض على النعت لشيء.
فالمعنى على قول ابن عباس: الذي أحكم كل شيء خلقه. أي: جاء به على ما أراد لم يتغير عن إرادته.
وروي عنه أنه كان يقرأ بفتح اللام، ويقول: أما إن أَسْتَ القرد ليست بحسنة ولكنه أحكمها.(9/5751)
وعن مجاهد في الفتح: أحسن بكل شيء خلقه.
وعن ابن عباس: في معنى الإسكان أحسن كل شيء في خلقه، أي: حعل كل شيء في خلقه حسناً.
وأجاز الزجاج " خَلقُه " بالرفع على معنى: ذلك، خلقه، ولم يقرأ به أحد.
ثم قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} يعني: آدم صلى الله عليه وسلم.
{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أي: جعل ذريته من سلالة، والسلالة ما ينسل من الشيء. فالمعنى جعل/ ذريته من الماء الذي ينسل منه/ ومعنى {مَّهِينٍ} حقير ضعيف.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ} يعني آدم، أي سوَّى خلقه معتدلاً سوياً.
{وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} أي: من روحه الذي يحيى به [الموتى] فصار حياً ناطقاً.
ثم قال [تعالى]: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي أنعم عليكم بسمعكم وأبصاركم وقلوبكم تنتفعون بمها وتسمعون وتبصرون وتفهمون ووحد السمع لأنه مصدر.(9/5752)
ثم قال [تعالى]: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: أنعم عليكم بهذه النعم، وشكركم قليل عليها.
ثم قال [تعالى]: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} أي: وقال المشركون: أئذا صارت لحومنا وعظامنا تراباً في الأرض أَنُبْعَثُ؟ إنكاراً للبعث.
وقال مجاهدك: " ضللنا ": هلكنا، لأن كل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك.
وقرأ أبو رجاء وطلحة: " ضِللْنا " بكسر اللام، وهي لغة شاذة.
وقرأ الحسن: " صَلَلْنَا " بالصادر غير معجمة وفتح اللام.(9/5753)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
وروي عنه بكسر اللام. والمعنى أنتنا، وكسر اللام شاذ، يقال صلَّ اللحم وأصَلَّ إذا أَنْتَنَ وَتَغَيَّر، وكذلك. خَمَّ وَأَخَمَّ.
ثم قال الله تعالى: {هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي: جاحدون للبعث بعد الموت والرجوع إلى الله (جلّ وعزَّ).
قوله تعالى ذكره: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} إلى قوله: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين للبعث: يتوفاكم ملك الموت.
أي: يستوفي عددكم بقبض أرواحكم، ثم إلى ربكم بعض قبض أرواحكم تردون يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم.
قال قتادة: ملك الموت يتوفاكم ومعه أعوان من الملائكة. ودليله قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]. وملك الموت اسمه: عزرائيل، وهو بالعربية عبد الجبار صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع الملائكة والنبيين والمرسلين.(9/5754)
قال مجاهد: جوبت لملك الموت الأرض، فجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}.
أي: لو رأيت يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ناكسوا رؤوسهم عند ربهم حياء منه للذي سلف من كفرهم وإنكارهم للبعث يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}.
أي: أبصرنا ما كنا نكذب به من عذابك، ومعادنا إليك، وسمعنا منك، وتصديق ما كانت الرسل تأتنا به وتأمرنا به.
{فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} أي: أرددنا إلى الدنيا نعمل فيها/ بطاعتك.
{إِنَّا مُوقِنُونَ} أي: قد أيقنا الآن منا كنا به في الدنيا جهالاً من توحيدك وإفرادك بالعبادة.
وقيل: المخاطبة هنا للمجرمين.
والمعنى: قل يا محمد للمجرم: لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك.
وجواب لو محذوف، والتقدير: لرأيت ما تعتبر به اعتباراً شديداً.
ومعنى: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} أي: يقولون يا ربنا أبصرنا ما كنا نكذب به.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي: رشدها وتوفيقها إلى الإيمان،(9/5755)
وهذا مثل قوله: {لَهَدَى الناس جَمِيعاً} [الرعد: 31]. و {لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].
{ولكن حَقَّ القول مِنِّي} أي: وجب العذاب مني.
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس} يعني: من أهل الكفر والمعاصي.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنه قال: سألني رجل أمس عن القدر؟ فقلت له: نعم قال الله عز وجل في كتابه {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى (قوله): {أَجْمَعِينَ} حقت كلمة ربك لأملأن جهنم منهم، فلا بد أن يكون ما قال:
قال قتادة: لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، لو شاء لأنزل عليهم آية من السماء تضطرهم إلى الإيمان. فالمعنى: لو شئنا لأعطينا كل إنسان توفيقاً يهتدي إلى الإيمان في الدنيا.(9/5756)
وقيل المعنى: لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا كما سألوا فيعملوا بالطاعة. ولكن حقَّ القول مني لأعذبنَّ من عصاني، وقد علم الله أنهم لو ردوا لعادوا إلى كفرهم كما قال في " الأنعام ".
ثم قال تعالى (ذكره): {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} أي ذوقوا عذاب الله بترككم العمل للقاء يومكم.
{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} إي: تركناكم في النار.
وقيل: إن الأول من النيسان لأنهم لما لم يعملوا/ ليوم القيامة كانوا بنزلة الناسي له.
ثم قال [تعالى]: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاباً تخلدون فيه إلى مَا لاَ نِهَايَة له بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي.
ثم قال [تعالى ذكره]: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} أي: إذا ذكروا ووعظوا خروا لله سجداً تذللاً واستكانة لعظمته وإقراراً له بالعبودية.(9/5757)
{وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: سبحوا لله في سجودهم بحمده وَبَرَؤَّه مما وصفه به الكافرون. {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}: أي: عن السجود له والتسبيح.
وروي أن هذه الآية/ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لأن قوماً من المنافقين كانوا يخرجون من المسجد إذا أقيمت الصلاة.
ثم قال تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} أي: ترتفع وتنبوا جنوب هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من المؤمنين عن مضاجعهم.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي: خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته. قاله قتادة.
و {تتجافى}: تتفاعل من الجفاء [وهو] النَّبْؤ.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي: يزكون ما يجب عليهم في أموالهم.
قال أنس في قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]. قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وكذلك {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}.(9/5758)
وقال عطاء بن أبي سلمة: عني بذلك صلاة العتمة.
وقال الحسن: عني بذلك قيام الليل.
وقاله الأوزاعي.
وهو قول مالك بن أنس.
وعن أنس: أنه عني بذلك أيضاً صلاة العتمة.
وقال ابن عباس: عني بذلك ملازمة ذكر الله، فكلما انتبهوا ذكروا الله، إما في صلاة، وإما في قيام، وإما في قعود، أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
وهو قول الضحاك.(9/5759)
وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " ألاَ أدُلُّكَ عَلَى أبْوَابَ الْخيرِ؟ [قال]: الصَّوْمُ جنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِئَةَ، وَقِيَّامُ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وتَلاَ هذِهِ الآية: {تتجافى جُنُوبُهُمْ} ".
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
أي: ما خبئ لهؤلاء الذين تصدمت صفتهم في الآيتين مما تَقِرُّ به أعينهم في الجنة جزاء بأعمالهم.
وقرأ ابن مسعود: " ما نُخْفِيَ لَهُمْ " بالنون. فهذا شاهد لقراءة حمزة بإسكان الياء، فالقراءتان جرتا على الإخبار عن الله جلَّ ذكره، و " ما " في موضع نصب(9/5760)
ب " تعلم " إن جعلتها بمعنى الذي في جميع القراءات وإن جعلتها استفهاماً كانت في موضع رفع على قراءة الجماعة، وفي موضع نصب على قراءة حمزة وابن مسعود بأخفي.
وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلّم] " قرأ " (مِنْ قرَّاتِ أعيْنٍ) بالجمع ".
وروى أيضاً عن النبي عليه السلام أنه قال:
" قَالَ رَبُّكُمْ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ. بَشَرٍ، فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أخْفِيَ (لَهُمْ) الآية ".(9/5761)
وقال ابن مسعود: " مَكْتُوبٌ فِي التَّوْراةِ: لَقَدْ أعدَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمُ عَنِ المَضَاجِع مَا لَمْ تَرَ/ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْبِ بَشرٍ، وَلَمْ تَسْمعْ أٌُذُنُ وَمَا لاَ يُعْلَمُه ملَكٌ مُقَرَّبٌ. قَالَ: وَنَحْنُ نَقْرَؤهَا: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سَأَلَ موسَى ربَّه فَقَال: أيّ ربِّ أخبِرْنِي بِأدْنَى أهل الجنة مَنْزِلةً فَقَالَ: رَجُلٌ أَتى بَعدمَا أُنْزِلَ، أهل الجَنَّةِ مَنَازِلَهُم وأخَذُوا أخَذَاتِهِم، فَقِيلَ له: ادخل الجنة، فقال: أيْ رَبّ، وقد نَزَل النَّاسُ مَنَازِلَهُم وَأخَذُوا أخَذَاتِهُم، فقيل له: أترضى مثل مُلْكِ مَلِكٍ من مُلُوكِ الدنيا؟ قال: رَضِيتُ أي ربِّ، فَقَالَ: فَإِنَّ لَكَ ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَمِثْلُه [معه]، وِمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ إنْ رَضيتَ، فقال: رَضيتُ أيْ ربِّ، قال: فإن لَكَ ما اشتهت نفسك وَلَذَّت عينك، قاغل: أي رب، فأخْبِرنِي بأعْلَى أهل الجنة مَنزِلَةً، فقال: أولئك الذِينَ أَرَدْتُ وَسَوفَ أخْبِرُكَ عَنْهُمْ، إنّي غَرَسْتُ كَرَامَتَهُم بِيَدي وَخَتَمْتُ عليها، وَلَمْ تَدْرِ نفسٌ وَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذْنٌ وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَرٍ وَمِصْداقٌ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل(9/5762)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم} الآية ".
وقيل: إن معنى الآية في ثواب الجهاد، أي: لا تعلم نفس ما أخفي لها من ثواب الجهاد في سبيل الله، ذكره ابن وهب عن رجاله.
قال سليمان بن عامر: الجنة مائة درجة فأولها درجة من فضة، أرضها فضة ومساكنها فضة، وآنيتُها فضة، وترابها مسك، والثانية ذهب، وأرضها ذهب، ومساكنها ذهب وآنيَّتُها ذهب وترابها مسك، والثالثة لؤلؤ (و) أرضها لؤلؤ ومساكنها لؤلؤ وآنيَّتُها لؤلؤ وترابها مسك، وسبعة وتسعون درجة بعد ذلك ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم} الآية.
وعن ابن سيرين أنه قال في الآية: إنه النظر إلى الله عز وجل.
قوله تعالى ذكره: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} إلى قوله:(9/5763)
{أَفَلاَ يَسْمَعُونَ}.
أي: أيكون الكافر المكذب كالمؤمن المصدق، لا يستوون عند الله.
قال قتادة: لا والله ما يستوون في الدنيا ولا في الآخرة ولا عند الموت. وإنما جمع يستوون لأن " مَنْ " تؤدي عن جمع فحمله على المعنى.
وقيل: إن المراد به أثنان بأعيانهما، وذلك أن الآية نزلت في قول ابن عباس وعطاء وغيرها في المدينة في عل ي بن أبي طالب رضي لله عنه، والوليد بن عقبة بن أبي معيط قال عطاء: كان بين الوليد وعلي كلام، فقال/ [الوليد] " أنا أبْسطُ منك لساناً وأحَدُّ منك سِنَاناً، فقال له علي [اسكت] فإنك فاسق، فنزلت {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} الآية فيهما.
فيكون يستوون على هذا قد جمع في موضع التثنية، لأن التثنية جمع في الأصل.(9/5764)
ويجوز أن تكون لما نزلت في اثنين بأعيانهما، ثم هي عامة في جميع الكفار والمؤمنين حمل الكلام على معنى العموم، فجمع يستوون لذلك.
ثم قال تعالى [ذكره] {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى} أي: الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله ورسوله فلهم بساتين المساكن التي يكسنونها في لجنة ويأوون إليها.
ويجوز أن يكون التقدير: فلهم بساتين جنة المأوى.
{نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: أنزلهم الله فيها نزلاً بعملهم.
ثم قال: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي: كفروا بالله.
{فَمَأْوَاهُمُ النار} أي: مساكنهم في النار في الآخرة.
ثم قال: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا}. قد تقدم هذا في " الحج ".
ثم قال: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: في الدنيا.
ثم قال [تعالى]: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى} أي: لنذيقن هؤلاء الفسقة من مصائب الدنيا في الأنفس والأموال في الدنيا دون عذاب النار في الآخرة. قاله ابن عباس وأُبي بن كعب والضحاك.(9/5765)
وقال ابن مسعود: " العذاب الأدنى " يوم بدر.
وقال مجاهد: هو الجوع والقتل لقريش في الدنيا. روي أنهم جاعوا حتى أكلوا العِلْهِزَ، وهو القُرَدُ يفقأ دمها في الوبر ويحمل على النار فيؤكل.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه الحدود.
وعن مجاهد أيضاً: أنه عذاب القبر وعذاب الدنيا.
وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار.
وقيل: هو القتل يوم بدر.(9/5766)
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ}.
أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بحجج الله وآي كتابه فأعرض عن ذلك وكذب به.
ثم قال: {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} أي: من الذين اكتسبوا السيئات منتقمون في الآخرة.
وقيل: عني بالمجرمين [هنا] أهل القدر، وكذلك قوله:
{إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] الآيات في أهل القدر أيضاً.
[وقال] / معاذ بن جبل: سمعت النبي صلى الله عليه [وسلّم] يقول(9/5767)
" ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهنَّ فقَدْ أجْرَمَ: مَنِ اعْتَقَدَ لِواءً في غير حقٍّ، أوْ عَقَّ وَالِِدَيْه، أو مَشَى مَعَ ظَالِم يَنْصُرُ فَقَدْ أجْرَمَ، يقولُ اللهُ جلَّ ذِكرُهُ {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} ".
ثم قال تعالى [ذكره]: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} أي التوراة.
{فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أي: في شك من أنك لقيته أو تلقاه ليلة الإسراء، قاله قتادة.
وبذلك أتى الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقيه ليلة الإسراء، روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال: " أرِيتُ لَيْلَةَ أسْرِي [بي] موسى بن عِمْرِان رَجلاً آدَمَ(9/5768)
طوَّالاً جَعْداً، كَأنَّهُ مِنْ رِجَال شَنوءةَ، وَرَأيت عِيسَى رَجُلاً مَربُوعَ الخَلْق، إلى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأسِ، وَرَأيتُ مَالِكاً [خَازِنَ] النَّارِ والدَّجَّال " فالهاء لموسى، وقيل: الهاء عائدة على الكتاب.
والتقدير: فلا تكن في شك من تلقي موسى الكتاب بالقبول، وتكون المخاطبة على القول الأول للنبي خاصة، وعلى القول الثاني لجميع الناس.(9/5769)
وعن الحسن أنه قال في معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب، فأوذي وكذب فلا تكن في شك يا محمد من أنه سيلقاك مثل ما لقيه موسى من التكذيب والأذى.
فالهاء عائدة على معنى محذوف كأنه قال: من لقاء ما لاقى، والمخاطبة على هذا للنبي عليه السلام خاصة.
ويجوز أن يكون هذا خطاباً للشاك في إتيان الله موسى الكتاب، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والهاء في {لِّقَآئِهِ} تعود على الرجوع إلى الآخرة والبعث، والتقدير: قل يتوفاكم ملك المت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون، {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أي: من لقاء البعث والرجوع إلى الحياة بعد الموت فهو خطاب للنبي عليه السلام، والمراد به من ينكر البعث.
وقوله: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} كلام اعترض بين كلامين.
ثم قال بعد ذلك: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ}.
أي: الكتاب جعله الله هادياً لهم من الضلالة إلى الهدى.
وقال قتادة: {وَجَعَلْنَاهُ} أي: جعلنا موسى هدى لهم.(9/5770)
ثم قال (تعالى ذكره) {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.
أي: وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير يؤتم بهم.
قال قتادة: {أَئِمَّةً} رؤساء الخير.
{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: أي يرشدون أتباهم بإذننا هم وتقويتنا إياهم على ذلك. {لَمَّا صَبَرُواْ} أي: حين صبروا على طاعة الله وعلى أذاء فرعون لهم، فيكون المعنى: إنهم إنما جعلوا أئمة حين وُجِدَ منهم الصبر.
ومن قرأ " لِمَا " بكسر اللام فمعناه فعلنا بهم ذلك لصبرهم على طاعة الله.
فيكون المعنى: فهل بهم ذلك الجزاء لهم الصبرهم المتقدم في الله.
ثم قال (تعالى): {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أيك بحججنا وكتابنا يصدقون.
وفي قراءة أُبي: " كَمَا صَبَروا ".
وفي قراءة أبن مسعود: " بِمَا صَبَروا ". فهذا شاهد لمن كسر اللام، وهو حمزة والكسائي.(9/5771)
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة}.
أي: يحكم بين جميع خلقه فيما اختلفوا فيه في الدنيا من أمور الدين، فيوجب للمحسن الجنة وللمسيء النار.
ثم قال تعالى [ذكره]: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون}.
قال الفراء: كم في موضع رفع فاعل ليهدي.
ولا يجيزه البصريون لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
وقال المبرد: الفَاعِل المَصَدر مَحْذُوف لأِن يَهْدِي يَدُلُّ عَلَى مَصْدرِهِ، تقديره: أَوَ لَمْ يَهْدِ الهُدَى لَهُم.
وقيل التقدير: أولم يهد الله لهم. وهذا إن شاء الله أحسنها. ويقوي ذلك أن أبا عبد الرحمن السلمي وقتادة قرأ: أو لم نهدِ بالنون.(9/5772)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وكم في موضع نصب " أهلكنا ". ومعنى الآية على قول ابن عباس: " أَوَلَمْ يتبين لهم، أي لقريش كم أهلكنا من قبلهم من القرون فيتعظوا ويزدجروا. وقدر بعض النحويين الآية على قول الفرء فقال: التقدير: أو لم يتبين لهم كثرة من أهلكنا من قبلهم من الأمم فيتعظوا.
ثم قال تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي: تمشي قريش في مساكن الأمم الخالية، فكيف لا تتعظ وتزدجر وتعلم أن مصيرها إن كفرت إلى ما صارت إليه هذه الأمم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} أي: إن في خلاء مساكن من مضى، وأهلاك الله إياهم لعبرا وحججاً لقريش، أفلا يسمعون عظات الله وتذكيره إياهم وتعريفه مواضع حججه عليهم.
وقيل: {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ}، معناه: أفلا يعقلون، مثل " سَمِع اللهُ لِمَنْ حَمِدَه ".
قوله تعالى [ذكره]: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز} إلى آخر السورة.
أَلَم يرَ هؤلاء المكذبون بالبعث [بعد الموت] أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها/.(9/5773)
وأصل الجِّرزِ من قولهم: رجل جَرُوزٌ، إذا كان لا يُبقي شيئاً إلا أكله.
وحكى الفراء وغيره فيه أربع لغات: أرض جُرْزٌ، وَجُرْزٌ وَجَرَزٌ وَجَرْزٌ، وكذلك حكوا في البُخل والرُّعب والرُّهب، هذه الأربع على أربع لغات، قال ابن عباس: هي أرض باليمن. يروى أنه ليس فيها أنهار وأنها بعيدة من البحر يأتها كل عام واديان عظيمان بسيل عظيم من حيث لا يعلمون فيزرعون عليه ثلاث مرات في السنة.
وقال مجاهد: هي أَبْين.
وقال عكرمة: هي الظَّمأى.
وقال ابن عباس: الجرز: التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً.(9/5774)
وقال الضحاك: هي الميتة العطشى.
وقال أهل اللغة: هي التي لا نبات فيها.
ثم قال [تعالى] {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} أي: بالماء.
{تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} اي: ترعاه مواشيهم، ويأكلون منه هم.
وقوله: {وَأَنفُسُهُمْ} أي: وهم يأكلون منه. والنفس يراد بها جملة الشيء وحقيقته، منه قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، أي: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وتكون النفس الجزء من الإنسان كقولك [خرجت] نفسه.
ثم قال: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} أي: أفلا يرون ذلك بأعينهم فيعلمون أن من قدر على ذلك هو قادر على إحيائهم بعد موتهم.
ثم قال [تعالى]: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
أي: يقول لك يا محمد هؤلاء المشركون: متى يجيئ هذا الحكم بيننا وبينك، أي: متى يكون هذا الثواب والعقاب.(9/5775)
قال قتادة: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن لنا يوماً يوشك أن نستريح فيه ونتنعم، فقال المشركون: {متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وقال القتبي: يعني فتح مكة.
وقال مجاهد وغيره: هو يوم القيامة.
وقوله تعالى [ذكره]: {قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ} يدل على أنه يوم القيامة لأنه قد نفع من آمن من الكفار إيمانهم يوم فتح مكة.
وروي أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على التهزي: متى هذا الفتح؟، أي: هذا الحكم.
يقال للحاكم فاتح وفتاح لأن الأحكام تنفتح على يديه. وفي القرآن: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 88] أي احكم.
ثم قال تعالى: {قُلْ يَوْمَ الفتح} أي: قل لهم يا محمد: يوم الفتح لا ينفع من كفر(9/5776)
بالله وآياته إيمانه في ذلك الوقت، وذلك يوم القيامة.
قال ابن زيد " يوم الفتح "، أي: إذا جاء العذاب.
وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون للتوبة/ والرجوع إلى الدنيا.
ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن هؤلاء المشركين.
وهذا منسوخ نسخة آية السيف قوله جل ذكره {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية، قاله ابن عباس وغيره.
ثم قال: {وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أي: انتظر ما الله صانع بهم. إنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب ومجيئ الساعة.(9/5777)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزاب
سورة الأحزاب مدنية.
قوله تعالى ذكره: {يا أيها النبي اتق الله} إلى قوله: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل}.
النبي عند جميع النحويين نعت لأي، إلا الأخفش فإنه جعله صلة لأي. وهو غلط لأن الصلة لا تكون إلا في جملة.
وأكثر النحويين على منع جواز النصب في {النبي} لأنه نعت لا بد منه، فهو المقصود بالنداء.(9/5779)
وأجاز بعضهم النصب على الموضع، وهذا في الكلام لا في القرآن.
والمعنى: يا أيها النبي اثبت على تقوى الله، لأنه كان متقياً.
وقيل: هو مخاطبة للنبي والمراد به أمته.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين}.
إن جعلته خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فمعنه: لا تطعهم في قولهم لك: اصرف عنا أتباعك من فقراء المؤمنين حتى نجالسك، ولا تطع المنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة وهم لا يسألونك وأصحابك خبالاً فلا تقبل لهم رأياً.
ومن جعله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته فمعناه: لا تطيعوهم فيما نهيتم عنه فتفعلوه/ ولا فيما أمرتم به فتتركوه.
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} أي: بخلقه وما في نفوسهم واعتقادههم.
{حَكِيماً} في تدبيره إياهم.
ثم قال: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} أي: اعمل بما ينزل إليك من وحي الله.
{إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: ذو خبر وعلم باعمالكم في هذا القرآن وفي غيره،(9/5780)
ومن قرأه بالياء رده على المنافقين والكافرين، أي بما يعمل هؤلاء خبيراً.
ثم قال تعالى ذكره {وَتَوَكَّلْ على الله} أي: فوض أمرك إلى الله.
{وكفى بالله وَكِيلاً} أي: وحسبك بالله في أمرك حفيظاً.
ثم قال تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه}.
هذا تكذيب لقوم من المنافقين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذو قلبين. قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضاً أنه نزلت في رجل من قريش يسمى من حدة ذهنه ذا القلبين فنفى الله ذلك عنه.
وقال مجاهد: قال رجل من بني فهر. إن في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فكذبه الله.
وقال الحسن: كان رجل يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني، فأنزل الله فيه ما(9/5781)
تسمعون.
وقال قتادة وعكرمة: كان ارجل يمسى ذا القلبين، فأنزل الله فيه هذه الآية.
وعن قتادة أنه قال: كان رجل لا يسمع شيئاً إلا وعاه، فقال الناس: ما يعي هذا إلا أن له قلبين، فكان يسمى ذا القلبين فأنزل الله ذلك ونفاه.
وقال الزهري: نزلت في زيد بن حارثة. ضرب الله له مثلاً يقول: ليس ابن رجل هو ابنك يا محمد.
وقيل: المعنى: ما جعل الله لرجل قلباً يحب به، وقلباً يبغض به، وقلباً يكفر به، وقلبً يؤمن به.
ثم قال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}.
أي: ولم نجعل أزواجكم بقولكم: هي على كظهر أمي أمهاتكم، بل جعل ذلك قولكم كذباً، فألزمكم الكفارة عليه عقوبة على كذبكم.(9/5782)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ}.
أي: ولم يجعل ابن غيرك هو ابنك بدعواك ذلك وقولك.
ونزل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تبنيه لزيد بن حارثة، قاله مجاهد وغيره.
ثم قال: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} أي: دعواكم يا بُنَيَّ لمن ليس هو ابن لكم قول منكم لا حقيقة له.
{والله يَقُولُ الحق} أي: الصدق.
وقيل: المعنى قولكم لأوزاجكم: هي علي كظهر أمي، قول منكم لا حقيقة له لأنها ليست بأم لكم.
ثم قال: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} أي: يبين لعباده طريق الحق والرشاد.
وقوله تعالى ذكره: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} إلى قوله: {مِّيثَاقاً غَلِيظاً}.
أي: انسبوا أدعياءكم إلى آبائهم فهو أعدل عند الله.
{فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ} أي: تعرفوا أسماء آبائهم فتنسبوهم إليهم.
{فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين} أي: فهم إخوانكم في الدين إذا كانوا أهل ملتكم.
{وَمَوَالِيكُمْ} أي: وهم مواليكم أي: أوليائهم، أي بنو عمكم.
ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي: لا إثم عليكم في الخطإ يكون(9/5783)
منكم في نسب من تنسبونه إلى غير أبيه إن كنتم ترون أنه أبوه، وليس بأبيه.
{ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. أي: ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتم من ذلك فنسبتم الرجل إلى غير أبيه معتمدين ذلك، هذا معنى قول قتادة ومجاهد وغيرهما.
و" ما " في موضع جر عطف على " ما " الأولى.
ويجوز أن تكون في موضع رفع على خبر ابتداءٍ محذوف، والتقدير: ولكن الذي تأثمون فيه ما تعمدت قلوبكم.
وقد أجرى بعض الفقهاء الفتيا في غير التعمد على ظاهرة هذه الآية، فجعلها عامة في كل شيء لم يتعمده فاعله.
قال عطاء: إذا حلف رجل أنه لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأخذ منه ما يرى أنه حقه فوجدها زائدة أو ناقصة، إنه لا شيء عليه لأنه لم يتعمد. وكذا إذا حلف أنه لا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعلم، إنه لا حنث عليه لأنه لم يتعمد ذلك. وأكثر الفقهاء على خلافه، فالآية عندهم مخصوصة في هذا بعينه. إنما كان هذا قبل(9/5784)
النهي عندهم، أو في دعاء الرجل الرجل لغير أبيه مخطئاً. فهي مخصوصة في أحد الحكمين لا عامة في كل ما لم يتعمد الإنسان، دليله ما أوجبه الله جل ذكره/ على القاتل خطأ.
ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً} أي ذا ستر على ذنب من دعا إنساناً بغير اسم أبيه وهو لا يعلم.
ومن قال: إن الآية مخصوصة فيما كان قبل النهي، أو هي مخصوصة في أن يدعو الإنسان الرجل إلى أب وهو عنده أبوه، وليس هو كذلك، لم يقف على " ومواليكم " لأن ما بعده متصل به، ومن جعل {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} عاماً في هذا وغيره جعله مستأنفاً، حسن الوقف على {وَمَوَالِيكُمْ}، ثم استأنف ما بعده لأنه عام.
فإذا جعلت (ما) في موضع خفض لم تقف على {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [لأن ما بعده معطوف عليه.
فإن جعلت (ما) في موضع رفع على ما تقدم وقفت على " أخطأتم به "].
ثم تستأنف: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
ثم قال تعالى ذكره: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
أي: أولى بهم من بعضهم لبعض، مثل: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85](9/5785)
وقيل: المعنى: أمر النبي أولى بالاتباع مما تأمر به النفس.
وقال ابن زيد: المعنى: ما قضى فيهم النبي من أمر جاز، كما كلما قضيت على عبدي جاز.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاس بِه فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤْوا إِنْ شِئْتُمْ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم "، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلَوَرَثَتِهِ وَلِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَو ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ ".
وحكى قتادة والحسن: بأنه كان يقرأ في بعض القراءات: " مِنْ أنفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ "، ولا ينبغي أن يقرأ بذلك الآن لمخالفته المصحف والإجماع.
ثم قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الحرمة كالأم، فلا يحل تزوجهن من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يحل تزويج الابن الأم، وهن في الحق والتعظيم والبِرِّ كالأم.(9/5786)
ويروى أنه إنما فعل ذلك بهم لأنهن أزواجه في الجنة.
ثم قال تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} أي: وأولوا الأرحام الذين ورثت يا محمد بعضهم من بعض أولى بالميراث من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون بالهجرة دون الرحم. هذا قول الطبري.
قال قتادة: لم يزل المؤمنون زماناً يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فخلط المسلمون بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملل.
وقيل: التقدير: وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين أولى بالميراث من غيرهم ممن لا رحم بينهم من المؤمنين المهاجرين.
وقال ابن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين المهاجرين والأنصار أول ما كانت الهجرة، فكانوا يتوارثون على ذلك. قال فلما ظهر الفتح انقطعت الهجرة وكثر الإسلام وتوارث الناس على الأرحام، فنسخ التوارث بالهجرة، قال ذلك في كلام طويل تركته إذ الفائدة فيما ذكرت منه.
فمعنى الآية على هذا التأويل: وأولوا الأرحام من المهاجرين والأنصار بعضهم أولى ببعض بالميراث من أن يتوارثوا بالهجرة.(9/5787)
ثم قال تعالى: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً}.
أي: إلا أن توصوا لقرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة.
وقال مجاهد: معناه إلا أن تمسكوا بالمعروف والإحسان بينكم وبين حلفائكم من المهاجرين والأنصار.
وقيل: المعنى: إلا أن توصوا لمن حالفتموه واخيتموه من المهاجرين والأنصار، قاله ابن زيد.
وقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً}.
أي: كان أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مكتوباً، قاله ابن زيد وغيره.
وقيل: المعنى: كان منع أن يرث المشرك المسلم مكتوباً في الكتاب، قاله قتادة.(9/5788)
ثم قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ}.
المعنى عند الطبري: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً}، أي كتبنا ما هو كائن في اللوح المحفوظ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ}، كان ذلك أيضاً، في الكتاب مسطوراً، يعني العهد والميثاق.
فالعامل في " إذ " على هذا: " كان ".
والعامل فيها عند أبي إسحاق/ " اذكر " مضمرة، أي: واذكر إذ أخذنا. قال ابن عباس: أخذ منهم الميثاق على قومهم.
وقال ابن أبي كعب: هو مثل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية فأخذ ميثاقهم على الأنبياء منهم الذين كانوا السراج، ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة على الرسالة.
روى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُنْتُ أَوَّلَ الأَنْبِياءِ فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ ".
فلذلك وقع ذكره هنا مقدماً قبل نوح وغيره لأنه أولهم في الخلق.(9/5789)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
وقيل: المعنى: إن الله جل ذكره أخذ الميثاق على النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.
قال مجاهد: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ}: في ظهر آدم، فالمعنى أخذ الله عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام كالذَّرّ.
قوله تعالى ذكره: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} إلى قوله: {بالله الظنونا}.
أي: أخذنا من النبيين ميثاقهم ليسأل الله المؤمنين منهم عما أجابتهم به أمهاتهم.
ومعنى سؤال الله جل ذكره عن ذلك الرسل، وهو عالم به، أنه على التبكيت والوبيخ للذين كفروا كقوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ} [المائدة: 116] الآية.
ثم قال: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} أي: أعد للمذكبين الرسل عذاباً مؤلماً، أي موجعاً.
ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي: اذكروا تفضل الله علكيم فاشكروه على ما فعل بكم.(9/5790)
{إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} يعني جنود الأحزاب من قريش وغطفان. ويهود بني قريظة وغيرهم.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} كانت الريح التي نُصِِرَ بها النبي صلى الله عليه وسلم: الصبا.
قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي تنصري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل. قال: فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا.
قال أبو سعيد الخدري: " قُلْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ، قَال: قُولُوا اللهُمَّ اسْتُر عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. قَال: فَضَرَبَ اللهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ باِالرّيحِ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ بِالرّيح ".
قال ابن عمر: كانت معي يوم الخندق تُرْسٌ وكان فيها حديد فضربتها الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد.(9/5791)
قال مجاهد: أُرْسِلَتْ على الأحزاب يوم الخندق ريح حتى كفأت قدورهم على أفواهها ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم.
قال قتادة: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} يعني: الملائكة، قال: نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، فخندق رسول الله حوله وحول أصحابه خارج المدينة، وأقبل أبو سفيان بقريش من تبعه من الناس حتى نزلوا بِعُصْرَةِ رسول الله.
[وأقبل عيينة بن حصن أحد بني بدر ومن تبعه من الناس حتى نزل بعصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم] . وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه بذلك، حيث يقول تعالى ذكره: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} فبعث الله عليهم الرعب والريح فذكر لنا أنهم(9/5792)
كل ما بنوا بناء قطع الله أطنابه، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها، وكلما أوقدوا ناراً. أطفأها الله حتى لقد ذكِرَ لنا أن سيد كل حي يقول: يا بني فلان هَلُّم إِلَيَّ، حتى إذا اجتمعوا عنده قال: النَّجَاءُ أتيتم، لِمَا بعث الله عليهم من الرغب.
قال ابن إسحاق: كانت الجنود قريشاً وغطفان وبني قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح: الملائكة، وكانت الريح مع قوتها شديدة البد، وكان في ذلك أعظم آية النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت سبب الأحزاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير إلى خيبر، وكانوا قد سادوا العرب وعرفوا بكثرة المال، وهم من بني هارون النبي عليه السلام، فلما انتقلوا إلى خيبر، وحول خيبر من العرب أسد وغطفان حزبت اليهود على النبي العَرَبُ من أسد وغطفان وغيرهم.
وخرجوا في ستة آلاف، ثم تدرج كبراء اليهود إلى مكة فحزبوا قريشاً على النبي عليه السلام، وأتبعتهم كنانة واجتمعوا في نحو عشرة آلاف وأتوا المدينة، فنزلوا عليها، فخندق النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وكان إخوة بني/ النضير من قريظة وَادَعُوا النبي عليه السلام فلم يزل بهم بنو النضير حتى نقضوا العهد وعاونوهم على النبي عليه السلام، وفيهم نزل:(9/5793)
{وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26]، أي من حصونهم فأرسل الله على جميعهم الريح فزعزعتهم وانقلبوا خائبين، ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم إلى محاصرة قريظة الذين أعانوا عليه ونقضوا عهده فحاصرهم ونزلوا على حكم سعد، وكانوا ست مائة، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار.
قال مالك: كانت وقعة الخندق سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: فكانت وقعة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة خمس.
قال ماك: كان الخندق وقريظة في يوم واحد، انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من وقعة(9/5794)
الخندق، وقد انصرف المشركون، فاغتسل فأتاه جبريل، فقال له: أَوَضَعْتَ الَّلأْمَةَ ولم تضعها الملائكة، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، فخرج إليهم، فحكموا سعداً فيهم، فحكم بسبي الذراري وقتل الرجال ففعل بهم ذلك.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كانت وقعة أحد على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة، وعند منصرف النبي عليه السلام من أحد خرج إلى بني النضير وأجلاهم إلى خيبر وإلى الشام على صلح وقع بينهم قد ذكر في غير هذا الموضع.
ثم قال: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي: بأعمالكم في ذلك اليوم وغيره، بصير لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}.
العامل في إذ عند الطبري {تَعْمَلُونَ}، أي: وكان الله بصيراً بعملكم إذ جاؤوكم.
وقيل: التقدير: اذكر إذ جاؤوكم.
وقيل: هي بدل من إذ الأولى.(9/5795)
والاختيار لمن قرأ " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا " بألف أن يقف عليها لأنها إنما جيئ بالألف في هذا على التشبيه بالقوافي والفواصل التي يوقف عليها بالألف فيجب أن تجرى مجرى ما شبهت به. وهي مع ذلك تمام ووقف حسن.
وقيل: إن هذه الألِفَات إنما جيئ بها لبيان حركة ما قبلها كهاء السكت، فهذا مؤكد الوقف عليها لمن أثبتها في الوصل والوقف. ويدل على قوة الوقف عليها لمن أثبتها، قراءة الكسائي وابن كثير وحفص بألف فيهن في الوقف دون الوصل.
ومعنى الآية: واذكروا إذ جاءتكم جنود الأحزاب من فوقكم ومن أسفل منكم.(9/5796)
قال يزيد بن رومان: الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاؤوهم من أسفل منهم قريش وغطفان. ومعنى {وَمِنْ أَسْفَلَ} من ناحية مكة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بني قريظة ولم يؤذهم وكتب لهم عهوداً، وكتبوا له في الموادعة والصلح، فنقضوا العهود وجمعوا الجموع ونافقوا [عليه] مع قريش، وكان المتولي لذلك حُيي بن أخطب، استمد علكى النبي صلى الله عليه وسلم بقريش ومن اتبعه من العرب، واستمدت قريش بعيينة بن بدر فأقبل بمن أطاعه من غطفان.
" واستمدت غطفان بحلفائهم من بني أسد، واستمدوا الرجال من بني سليم فخرجوا في جمع عظيم، فهم الذين سمّاهم الله الأحزاب، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروجهم(9/5797)
أخذ في حفر الخندق، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في العمل فعملوه مستعجلين يبادرون قدوم العدو، ورأى المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بطش معهم في العمل ليكون أجد لهم وأقوى بإذن الله. فذكر أنه عرض لهم حجر في محفرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولاً من أحدهم فضرب به ثلاثاً، فكسر الحجر في الثالثة، فذُكِر أن سلمان الفارسي أبصر عن كل ضربة بُرْقَةً ذَهَبَتْ ثَلاَثَةَ وُجُوهٍ، كل مرة يتبعها سلمان بصره، فذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قد رأيتُ كهيئة البرق وموج الماء عند كل ضربة ضربتها يا رسول الله، ذهبت إحداهن نحو المشرق، والأخرى نحو اليَمَن، والأخرى نحو الشام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلمَان؟ قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ ذَلِكَ/ قَالَ: فَإِنَّهُ ابْيَضَّ إِحْدَاهُنَّ مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَدَائِنُ تِلْكَ البِلاَجِ، وَفِي الأُخْى مَدِينَةُ الرُّومِ والشَّامِ، والأخْرَى مَدَائِنُ اليَمَنِ وقُصُورُهَا، والتِي رَأَيْتُ [بِالبَصَرِ] تَبْلُغُهُنَّ الدَّعْوةُ إِنْ شَاءَ اللهُ ".
وكان حفر الخندق في شوال في سنة أربع من الهجرة، فلما تم الحفر أقبل أبو(9/5798)
سفيان ومن معه من المشركين فنزلوا بأعلى وادي [فينا] من تلقاء الغاية فحاصروهم قريباً من عشرين يوماً. وقيل أكثر من ذلك.
فلما اشتد البلاء على المسلمين نافق كثير من الناس وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما الناس فيه من البلاء جعل يبشرهم ويقول: " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُفَرِّجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ، وَإِنِي لأَرْجُوا أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ العَتِيقِ آمِناً، وَأَنْ تُدْفَعَ إِلَيَّ مَفَاتِيحُ الكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ قَيْصَراً وَلَنُنْفِقَنَّ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ". فقال رجل من المنافقين: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب لغائط، ما يعدنا إلا غروراً. وقال آخرون منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال آخرون: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ليذكرهم حلفهم ويناشدهم، فسبوا الرسل وعندوا عن الحق وأبو إلا نقض العهد والخلاف عليه فشقَّ ذلك على النبي عليه السلام والمسلمين، فلما اشتدّ الأمر على المسلمين قال النبي عليه السلام: " اللهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ عَهْدكَ وَوَعْدَكَ، اللهُمَّ إِنْ تَشَاء لاَ تُعْبَد ".(9/5799)
وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي، من المشركين على فرس له ليقحمه على الخندق، فوقع في الخندق فقتله الله وَكَبتَ به المشركين، وعظم في صدورهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يعطوه الدية على أن يدفعه إليهم ليدفنوه فأبى أن يأخذ منهم شيئاً، ولم يمنعهم من دفنه. ورمي يومئذ سعد بن معاذ رمية فطعت الأَكْحَلَ من عضده، فقال: اللهم اشْفِنِي من بني قريظة قبل الممات، فرقاً الدم بعدما انفجر. وكان هو الذي وجهه النبي عليه السلام إلى بني قريظة يذكرهم العهد ويناشدهم الله فيما عقدوا مع النبي، فسبوه وأبلغوا فيه، فرجع إلى النبي مغضباً عليهم، فلما فرج الله تعالى عن المسلمين وتفرقت الأحزاب عنهم، أمر الله نبيه بقتال بني(9/5800)
قريظة، فخرج النبي عليه السلام إليهم فقاتلم، فتحصنوا في حصونهمه، فحاصرهم بضع عشر ليلة فعظم عليهم البلاء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم رجلاً، وأن يختاروا من شاؤوا من أصحابه، فاختاروا سعداً فنزلوا على حكمه، فحكم فيهم سعد بأن يقتل مقاتلهم وتسبى نساؤهم وذراريهم وتقسم أموالهم، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: " حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ ". فقتل رسول الله مقاتلهم - وكانوا ست مائة مقاتل -، وسبى ذراريهم، ثم أعقب الدم على سعد فلم يَرْقأ حتى مات رضي الله عنهـ، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام حَيْثُ قُبِضَ سَعْدٌ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ مُعْتَجِراً بِعِمَامَةٍ مِنِ اسْتَبْرَقٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدَ مَنْ هَذَا الحَبِيبُ الِّي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ السَّمَاءِ واهْتَزَّ العَرْشُ، فَقَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيعاً يَجُرُّ ثَوْبَهُ إِلى سَعْدِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ، وقَالَ حَمَلَةُ نَعْشِ سَعْدٍ: إِنْ كَانَ لَبَادِناً وَمَا حُمِلَتْ جَنَازَةٌ أَخَفَّ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرُكُمْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ اسْتَبْشَرَتِ المَلاَئِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ واهْتَزَّ لَهُ العَرْشُ ".(9/5801)
ابن القاسم عن مالك قال: حدثني يحيى بن سعيد: لقد نزل الموت سعد سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبلها.
ثم قسم رسول الله أموالهم بين من حفر من المسلمين المهاجرين خاصة، وكان جميع الخيل التي مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة وثلاثين فرساً، فقسم لكل فرس سهمين، وأخرج حيي بن أخطب فقال له النبي عليه السلام/: " هَلْ أَخْزَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: قَدْ ظَهَرْتَ عَلَيَّ، وَمَا لمتُ نَفْسِي فِي جِهَادِكَ والشِّدَّةِ عَلَيْكَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، كُلُّ ذَلِكَ بَعَيْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ".
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كاتبهم، وذلك أنه دس على الأحزاب من قال لهم: إن بني قريظة أرسلوا إلى النبي يدعونه إلى الصلح على أن يرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم ويدفعون إليه الرهن الذي عندهم من رجال قريش، وذلك أن بني النضير قالت لقريش: لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين رجلاً منكم رهناً عندنا، فلما بلغ ذللاك قريشاَ عظم عليهم الأمر ووجهونما إلى بني النضير أن يقاتلوا معهم، فقالت بنو النضير: وجهوا إليها الرهن، ونقاتل، فتحقق الأمر عند قريش، فعملوا على الانصراف [عن] النبي عليه السلام مع ما حلَّ بهم من الريح، وما دخل قلوبهم من الرعب، فكان ذلك كله من(9/5802)
سبب تفرقهم عن النبي لطفاً من الله بالمؤمنين.
وروي أن الرجل الذي مضى بذلك إلى قريش هو نعيم بن مسعود، فلما قضى الله قضاءه في بني قريظة وصرف المشركين عن النبي نزل القرآن يعرف الله المؤمنين نعمته التي أنعم عليهم من الريح والجنود التي أرسل على عدوهم.
وقوله: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} هو ما كان المنافقون يخوضون فيه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقولهم: ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً، وقولهم: لا مقام لكم، فأمر بعضهم بعضاً بالانصراف عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الله تعالى المسلمين وصبرهم على البلاء، وأن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يبدلوا ديناً ولا نية على ما كانوا عليه.
وروي أن قوله: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ}، نزلت في قوم من المؤمنين تخلَّفوا عن بدر لعذر منعهم، فعاهدوا الله لئن جاءهم مثل يوم بدر ليرين مكانهم، فلما كان يوم أحد قاتل بعضهم حتى مات، ووفى بعهده، فهو قوله جل ذكره: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ}، وبقي بعضهم سالماً، وهو قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ}، ثم أخبر عنهم أنهم ما بدلوا، يعني:(9/5803)
عهدهم بم ينقصوه.
ثم ذكر أنه تعالى رد الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأنه كفى الله المؤمنين قتالهم، ثم ذكر بني قريظة ونصره للمؤمنين عليهم، فقال: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب} أي: عاونوا قريشاً ومشركي العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، واصحابه. {مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: من حصونهم، يعني بني قريظة، وأنه قذف في قلوبهم الرعب.
{فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي تقتلون المقاتلة، وتسبون النساء والأطفال، وأنه أورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم وأنزل الله في ذلك تسعاً وعشرين آية أولها: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ}.
ومعنى: {زَاغَتِ الأبصار}: شخصت من الخوف.
والبصر الناظر، وجملة العين المقلة وهي شحمة العين: البياض والسواد، وفي المقلة الحدقة، وهي السواد الذي في وسط المقلة، وفي الحدقة الناظر، وهو موضع البصر يسمى الإنسان، والعين كالمرآة يرى فيها الوجه وفيها الناظر، وهما عرقان على حرف الأنف يسيلان من المؤقين إلى الوجه، وفيها أشياء كثيرة قد ذكرت في خلق الإنسان.
وقوله: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} أي نَبَتْ عن أماكنها من الرعب.
قال قتادة: لولا أن الحلقوم ضاقت عنها لخرجت.(9/5804)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
والمعنى كادت تبلغ الحناجر.
وقيل: المعنى بلغ وجفهَا من شدة الفزع الحلوق، فهي بالغة الحلوق بالوجيف.
ثم قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} أي: ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغلب.
هذا خطاب للمنافقين، ظنوا ظنوناً كاذبة فأخلف الله ظنهم بنصره للمؤمنين.
قوله تعالى ذكره: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} إلى قوله {وَذَكَرَ الله كَثِيراً}.
هنالك ظرف زمان، والعامل فيه " ابتلي ".
والتقدير: وقت ذلك اختبر المؤمنون فعرف المؤمن من المنافق، والابتداء به حسن على هذا.
وقيل: إن العامل فيه " {وَتَظُنُّونَ} " أي: وتظنون بالله الظنون الكاذبة هنالك/، والابتداء به على هذا التقدير.
ثم قال تعالى: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} أي: حركوا وأزعجوا بالفتنة إزعاجاً شديداً.
ثم قال: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: شك في الإيمان وضعف في الاعتقاد.
{مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}.(9/5805)
يروى أن قائل ذلك معتب بن قشير، قاله يزيد بن رومان، وقد تقدم ذكر هذا.
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} أي: قال طائفة من المنافقين: يا أهل يثرب لا تقيموا مع النبي وارجعوا إلى منازلكم، ويثرب اسم أرض ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية من يثرب.
ثم قال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} أي: يستأذن طائفة من المنافقين النبي في الانصراف إلى منزلهم اعتلالاً بالخوف على منزله من السرق، وليس به إلا الفرار والهرب.
قال ابن عباس: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا مخلاة نخاف عليها السرق.
قال قتادة: يقولون بيوتنا مما يلي العدو وإنا نخاف عليها السرق.
ففضحهم الله، وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أي: ما يريدون إلا الهرب.
يقال: أعور المنزل إذا ضاع ولم يكن له ما يستره أو سقط جداره. وقرأ يحيى بن(9/5806)
يعمر وأبو رجاء " عَوِرَةٌ " بكسر الواو، فمعنى عورة: ضائعة.
وقيل: معنى قراءة الإسكان: إن بيوتنا ذات عورة، يقال للمرأة: عورة، فالمعنى ذات نساء نخاف عليهن العدو.
ويجوز أن تكون عورة مسكنة من " عَوِرَة ".
ويجوز أن تكون مصدراً.
ويجوز أن تكون اسم فاعل على السعة، كما يقال: رجل عَدْلٌ أي عَادِلٌ.(9/5807)
ثم قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا}. [أي: لو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين: إن بيوتنا عورة من جوانبها قاله قتادة.
{ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا}] أي: لو سئلوا الشرك لأعطوه من أنفسهم طائعين، ومن قطر لأتوه، فمعناه: لجاؤوا الكفر طوعاً.
وقيل: المعنى: ولو دخلت عليهم البيوت من نواحيها ثم سئلوا الشرك لقبلوه وأتوه طائعين.
ثم قال تعالى: {وَمَا تَلَبَّثُواْ} أي بالمدينة. قاله القتبي. وقيل: المعنى: وما تلبثوا بالفتنة.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} أي: ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله في الانصراف عنه عاهدوا الله من قبل لا يولون عدوهم الأدبار فما أوفوا بعهدهم.
{وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} أي: يسأل الله ذاك من أعطاه إياه من نفسه. وذكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة، وهو قوله جل ذكره: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} [آل عمران: 122]، ثم عاهدوا الله لا يولون العدو الأدبار ولا يعودون لمثلها فذكر الله لهم ما قد أعطوا من أنفسهم ولم يفوا به.(9/5808)
قال قتادة: كان ناس غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضل فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، فساق الله إليهم ذلك حتى كان ناحية المدينة.
ثم قال تعالى: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل} أي: قل لهم يا محمد لا ينفعكم هروبكم إن هربتم من الموت أو القتل لأن ذلك إن كان كتب عليكم فلا ينفعكم فراركم شيئاً، لا بد لكم مما كتب عليكم.
{وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لا يزيد لكم فراركم في أعماركم شيئاً بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم، لا تجاوزوه، هو قليل لأن الدنيا كلها متاع قليل، فما بقي من أعماركم أقل من القليل.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله} أي: يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً في أنفسكم أو عاقبة وسلامة، فليس الأمر إلا ما قدر الله.
ثم قال: {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي: لا يجدون لأنفسهم من يليهم بالكفالة مما قدر الله عليهم من سوء، ولا نصيراً ينصرهم مما أراد بهم.
ثم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} اي: قد يعلم الله الذين يعوقون الناس فيصدونهم عن رسول الله في حضور الحرب. وهو مُشتق من عاقني عن كذا، أي: صرفني عنه ومنعني، وعوق على التكثير لعاق فهو مُعَوِّقٌ.(9/5809)
ثم قال: {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي تعالوا إلينا ودعوا محمداً فإنا نخاف عليكم الهلاك.
{وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} أي: الحرب والقتال، لا يشهدون ذلك إلا تعذيراً، ودفعاً للمسلمين عن/ أنفسهم ورياءً، وهذا كله في المنافقين.
قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لأخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أُكْلَةُ رأسٍ ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه دعوا هذا الرجل فإنه هالك.
وقال ابن زيد: نزلت في آخوين أحدهما مؤمن والآخر منافق، جرى بينهما كلام في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المنافق للمؤمن: هلمَّ إلى الطعام فقد نعق بك وبصاحبك والذي يحلف به، لاستقبلهما محمداً أبداً، فقال له المؤمن: كذبت والذي يحلف به، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت: {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}.
ثم قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}.
قال الفراء: هو منصوب على الذم، وأجاز نصبه على الحال، وقدره: يعوقون أشحة.
وقيل: هو حال، والتقدير: والقائلين لأخوانهم أشحة.(9/5810)
وقيل: التقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً، يأتونه أشحة، أي أشحة على الفقراء بالغنيمة جبناء.
وقال الطبري: التقدير هلمَّ إلينا أشحة.
وقال السدي بنصبه على الحال، والتقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً بخلاً عليهم بالظفر والغنيمة.
ومن جعل العامل في أشحة " المُعَوِّقِينَ " أو " القائلين " فقد غلط لأنه تفريق بين الصلة والموصول.
قال قتادة: معنا أشحة عليكم في الغنيمة.
وقال مجاهد: أشحة عليكم في الخير.
وقيل: التقدير: أشحة عليكم بالنفقة على الضعفاء منكم.
والتأويل: جبناء عند الناس أشحاء عند قسم الغنيمة.
وقال يزيد بن رومان: أشحة عليكم للضغن الذي في أنفسهم.(9/5811)
ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} أي: فإذا جاء يا محمد القتال وخافوا (الهلاك) رأيتهم ينظرون إليك لواذاً عن القتال تدور أعينهم خوفاً من القتال.
{كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي يُغشى عليه من الموت النازل به.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي: فإذا زال القتال عفوكم بألسنة ذربة.
يقال للرجل الخطيب: مِسْلَقٌ وَمِسْلاقَ وَسَلاقٌ بالسين والصاد فيهن، أي: بليغ. والمعنى: أنهم عند قسم الغنيمة يتطاولون بألسنتهم لشحهم على ما يأخذ المسلمون، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا شهدنا معكم، وهم عند البأس أجبن قوم، هذا معنى قول قتادة.
ويدل على صحة هذا التأويل قوله بعد ذلك: {أَشِحَّةً عَلَى الخير} أي: على الغنيمة إذا ظفر المسلمون.
وقيل: بل ذلك أذى المنافقين للمسلمين بألسنتهم عند الأمان. قاله ابن عباس(9/5812)
ويزيد بن رومان.
ثم قال تعالى ذكره: {أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ} أي: هؤلاء المنافقون الذين تقدمت صفتهم لم يصدقوا بالله ورسوله بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم، أي: أذهبا وأبطلها.
ويروى أن الذي وُصِفَ بها كان بدرياً فأحبط الله عمله، قاله ابن زيد.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} أي: وكان إحباط أعمالهم على الله هيناً حقيراً.
وتقف على " {إِلاَّ قَلِيلاً} " إذا نصبت " أشحة " على الذم، ولا تقف عليه على غير هذا التقدير.
قال تعالى: {يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي: يحسب هؤلاء المنافقون من جبنهم وخوفهم أن الأحزاب لم ينصرفوا وأنهم باقون قريباً منهم.
ثم قال تعالى: {وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب} أي: وإن يأتكم الأحزاب لحربكم ودّ هؤلاء المنافقون لو أنهم في البادية غيب عنكم يسألون عن أخباركم من بعيد جبناً منهم وهلعاً من القتل، يقولون: هل هلك محمد وأصحابه؟ يتمنون أن يسمعوا هلاكهم.
وقرأ طلحة: " لَو أَنَّهُمْ بُدًّى " فِي الأَعْرَابِ مثل: غُزىًّ.(9/5813)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
ثم قال تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لو كانوا معكم لم يقاتلوا معكم إلا تعذيراً لكم لأنهم لا يحتسبون في ذلك ثواباً ولا جزاءً.
ثم قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} هذا عتاب من الله للمستخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة من المؤمنين، أي: كان لكم أن تتأسوا به، وتكونوا معه حيث كان ولا تتخلفوا عنه.
ثم قال: {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله} / أي: ثواب الله في الآخرة.
{واليوم الآخر} أي: ويرجوا عاقبة اليوم الآخر.
{وَذَكَرَ الله كَثِيراً} أي: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء.
قوله تعالى ذكره: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} إلى قوله: {غَفُوراً رَّحِيماً}.
أي: ولما عاين المؤمنون جماعة من الكفار، وقالوا تسليماً منهم لأمر الله وتصديقاً بكتابه: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} يعنون قوله تعالى ذكره: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214].
ثم قال: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} أي: ما زادتهم الرؤية لذلك إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره، وإنما ذكِرَ " زادهم " لأن تأنيث الرؤية غير حقيقي. ودل " رأي " على الرؤية، هذا قول الفراء وعلي بن سليمان.(9/5814)
وقال غيرهم: التقدير: وما زادهم اجتماع المشركين عليهم إلا إيماناً، هذا كله مأخوذ من قول ابن عباس وقتادة وغيرهما.
قال الحسن: معناه ما زادهم البلاء إلا إيماناً بالرب وتسليماً إلى القضاء.
ثم قال تعالى: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} أي: أوفوا بالصبر على البأساء والضراء إذ قد عاهدوا الله أن يصبروا إذا امتحنوا.
ثم قال: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} أي: فرغ من العمل الذي قدره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بَدْر وبعض يوم أُحُد وبعض في غير ذلك من المواطن.
{وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} قضاءه والفرغ منه على الوفاء لله بعهده.
وأصل النحب في كلام العرب النذر، ثم يستعمل في الموت والخطر العظيم، وقيل: النحب: العهد.
قال الحسن: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} موته على الصدق.
وقال قتادة: على الصدق والوفاء.
قال ابن عباس: نحبه هو الموت على ما عاهد الله، ومنهم من ينتظر الموت على(9/5815)
ما عاهد الله عليه.
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدو بدراً، فعاهدوا الله إن لقوا قتالاً للمشركين مع رسول الله أن يبلوا من أنفسهم، فشهدوا ذلك مع رسول الله، فمنهم من وفى فقضى نحبه، ومنهم من بدّل وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 15] الآية، ومنهم من وفى ولم يقض نحبه فهو منتظر للموت.
قال أنس: تغيَّب أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: تغيَّبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن رأيت قتالاً ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وهزم الناس لقي سعد بن معاذ فقال: والله إني لأجد ريح الجنة فتقدم فقَاتَل حتى قُتِلَ، فنزلت هذه الآية: {مِّنَ المؤمنين}، وقال أنس: فوجدناه بين القتلى به بعضاً وثمانين جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه حتى عرفته أخته.(9/5816)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
وقيل: معنى {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} الإسلام.
وقوله: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أي: ما غيّروا العهد ولا الذين كما غيره المعوقون القائلون لأخوانهم هلم إلينا.
قال قتادة: معناه ما شكوا ولا ترددوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره.
ثم قال تعالى: {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} أي: صدقوا ليثبت أهل الصدق منهم بصدقهم الله على ما عاهدوا عليه.
{وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ} بكفرهم ونقضهم ما عاهدوا الله عليه، أو يتوب عليهم، أي يخرجهم من النفاق إلى الإيمان به.
ومعنى الاستثناء في هذا أن المعنى: ويعذب المنافقين بأن لا يتوب عليهم، ولا يوفقهم للتوبة، فيموتوا على نفاقهم إن شاء، فيجب عليهم العذاب، فعذاب المنافق لا بد منه لأنه كافر، والاستثناء إنما هو من أجل التوفيق لا من أجل العذاب، ويبين ذلك قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فالمعنى ويعذب المنافقين إن لم يهدهم للتوبة، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم.
ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي: أن الله لم يزل ذا ستر على ذنوب التائبين، رحيماً بهم أن يعذبهم بعد توبتهم.
قوله تعالى ذكره: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً}.
أي: ورد الله الأحزاب بغيظهم أي بِكَرْبِهِم وعمهم لفوتهم ما أملوا من الظفر لم(9/5817)
ينالوا من المسلمين مالاً ولا غيره.
{وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالريح/ والجنود التي أنزل الله من الملائكة.
روى عبد الرحمن بن أبي سعدي الخدري عن أبيه أنه قال: حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلاةِ فَلَمْ نُصَلِّ الظُّهْرَ وَلاَ العَصْرَ وَلاَ المَغْرِبَ وَلاَ العِشَاءَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ العِشَاءِ بِهَويٍّ فَكَفَيْنَا فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى: {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} الآية " فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلالاً فَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصلَّى الظُّهْرَ فَأَحْسَنَ صَلاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ كَذَلِكَ، لِكُلِّ صَلاَةٍ إِقَامَةٌ.
وقوله: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} أي: قوياً في أمره عزيزاً في نقمته.
ثم قال تعالى: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ} يعني بني النضير وبني قريظة عاونوا المشركين على النبي وأصحابه، فأنزلهم الله من حصونهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} يعني المُقَاتِلَةَ.
{وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} يعني النساء والصبيان كما حكم فيهم سعد، لأنهم حكموه في أنفسهم لحلف كان بينهم وبين قوم سعد فطمعوا أن يميل معهم، فلم تأخذه في الله(9/5818)
لومة لائم، وحكم بقتل ماقتلهم وسبي ذراريهم، وقد مضى ذكر ذلك.
وأصل الصَّيْصَّةِ ما تمنتع به، فلذلك قيل للحصن صيصية لأنه يمتنع به، ولذلك يقال لقرون البقر صياصي لأنها يمتنع بها.
وذكر قتادة وغيره: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذهاب الأحزاب عنه دخل بيت زينت بنت جحش يغسل رأسه فبينما هو يغسله إذ أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة فإني قطعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبَلْبَالِ فاسْتَلأَمَ صلى الله عليه وسلم، ثم سلك شق بني غنم، فاتَّبَعَهُ الناس، فأتاهم رسول الله فحاصرهم، وناداهم يا أخوة القرود، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشاً، فنزلوا على حكم سعد فحكم بقتل مقاتلهم - وكانوا ست مائة -، وسبي ذراريهم، وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار، فقال(9/5819)
قومه: أَأَثَرْتَ المهاجرين بالعقار علينا، قال: فإنكم كنتم ذوي عقار وأن المهاجرين لا عقار لهم ".
ثم قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أي: ملككم ذلك بعد مهلكهم.
ثم قال: {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا}.
قال الحسن: هي أرض فارس والروم ونحوهما من البلاد.
وقال قتادة هي مكة.
وقال يزيد بن رومان: هي خيبر. وكذلك قال ابن زيد.
ثم قال: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي: لا يعتذر عليه ما أراد.
ثم قال: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} الآية أي: إن كنتن تَخْتَرنَ الحياة الدنيا على الآخرة.
{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} بما أوجب الله على الرجال لنسائهم من المتعة عند مفارقتهن بالطلاق.(9/5820)
ومعنى {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}: أطلقكن طلاقاً جميلاً، أي: على ما أذن الله به وأدب به عباده، وهو قوله {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
ثم قال: {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ} رضي الله ورسوله، {فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} أي: للعاملات منكن بأمر الله ورسوله أجراً عظيماً.
روي أن هذه الآية نزلت من أجل عائشة سألت رسول الله شيئاً من عرض الدنيا، واعتزل رسول الله لذلك نساءه شهراً، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر والرضى بما قسم لهن والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يخرج لصلوات فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأَْعْلَمَنَّ لكم ما شأنه، فأتى النَّبِيَّ فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيَّ شيء أكلم به رسول الله لعله يَنْبَسِطُ؟ قال: فقلت يا رسول الله لو رَأَيْتَ فُلاَنَةَ وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال: ذَلِكَ حَبَسَنِي عَنْكُمْ، فأتى عمر حفصة فقال لها: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ما كانت لك من حاجة فإليّ، ثمَّ(9/5821)
تتبع نساء النبي فجعل/ يكلمهن، فقال لعائشة: أَيَغُرُّكِ أنك امرأة حسناء وأن زوجك يحبك، لتنتهين أو لينزلن الله فيكن القرآن، فقالت له أم سلمة: يا ابن الخطاب أو ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، من يسأل المرأة إلا زوجها، ونزل القرآن: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً}، فبدأ بعائشة وخيرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدَأْتَ بأحد من نسائك قبلي؟ قال: لا، قالت: فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ولا تخبرهن بذلك، ثم تتبعهن فجعل يخبرهن ويقرأ عليهن القرآن ويخبرهن بما صنعته عائشة فتتابعن على ذلك ".
قال قتادة والحسن: خيَّرهن بين الدنيا والآخرة والجنة والنار في شيء كُنَّ أَرَدْنَهُ من الدنيا.
وقال عكرمة: في غَيْرَةٍ كانت غارتها عائشة، وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة ابنة أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم(9/5822)
سلمة بنت أبي أمية، وكانت تحته صفية بن حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بن الحارث من بني المُصْطَلِق، فبدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله، فرُئِيَ الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك.
قال الحسن وقتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال: لاَ(9/5823)
يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ " الآية، فقصره الله عليهن.
وقال ابن زيد: كان سبب ذلك الغيرة.
وقد روي في ذلك أخبار كثيرة يختلف لفظها والمعنى يرجع إلى ما ذكرنا في جميعها.
قال ابن شهاب: امرأة واحدة اختارت نفسها فذهبت وكانت بدوية.
قال ربيعة: فكانت البتمة.
قيل كان اسمها عمرة بنت يزيد الكلابية، اختارت الفراق وذهبت، فابتلاها الله تعالى بالجنون. ويقال: إن أباها تركها ترعى غنماً له فصارت إحداهن، فلم يعلم(9/5824)
ما كان من أمرها وخبرها إلى اليوم.
ويقال: إنها كِنْدِية، ويقال: إنها لم تختر، وإنما استعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّها، وقال: " لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمُعَاذٍ ".
ويقال إنه دعاها، فقالت: إنا قوم نُؤتى ولا نأتي.
وإذا خيّر الرجل امرأته فاختارت نفسها فهي البتة، وإن اختارت واحدة أو اثنتين أو لم تختر شيئاً، أو قالت: أخترت زوجي، فلا شيء في ذلك كله بالمدخول بها، وهي زوجة على حالها.(9/5825)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
قال ابن عبد الحكم: معنى خيّرهن: قرأ عليهن الآية. ولا يجوز أن يخيّرهن بلفظ التخيير لأنا لتخيير إذا قُبِلَ ثلاثاً، والله أمره أن يطلق النساء لعدتهن، وقد قال: سَرَاحاً جَمِيلاً، والثلاث ليس مما يَجْمُلُ مِنه، فالسراح الجميل هو واحدة لا الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير.
قوله تعالى: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} إلى قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
قال الطبري: الفاحشة هنا الزنا.
{يُضَاعَفْ لَهَا العذاب} أي: على فعلها، وذلك في الآخرة.
{ضِعْفَيْنِ} أي: على عذاب أزواج غير النبي عليه السلام إذا أتين بفاحشة. وقيل: إذا أتت الفاحشة المبينة فهي عصيان الزوج ومخالفته، وكذلك معناها في هذه الآية لا الزنى.
فإذا أتت الفاحشة بالألف واللام فهي الزنا واللواط.
وإذا أتت نكرة غير منعوتة ببينة فيه تصلح للزنا وغيره من الذنوب.
قال قتادة: يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.(9/5826)
وقال ابن عباس: يعني به عذاب الآخرة.
وقال أبو عبيدة: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} يجعل ثلاثة أضعاف، أي: ثلاثة أعذبة.
وقال أبو عمرو: {يُضَاعَفْ} للمرار الكثيرة ويَضَعَّفُ مرتين.
ولذلك قرأ " يُضَعَّفُ ".
وأكثر أهل اللغة على خلافها لأن يضاعف ضعفين ويضعف ضعفين واحد، بمعنى مثلين كما تقول: إن دفعت إلي درهماً دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه يعني درهمين، ويدل على صحة هذا قوله: {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} فلا يكون العذاب أكثر من الأجر، وقد قال تعالى: {[رَبَّنَآ] آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 68] أي مثلين.(9/5827)
ثم قال تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: ومن/ يطع منكن الله ورسوله وتعمل بما أمرها الله به، {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي ثواب عملها مثلي ثواب غيرها من نساء المؤمنين.
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي في الآخرة، يعني به: في الجنة.
ثم قال تعالى: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن} أي: لستن في الفضل والمجازاة كأحد من نساء هذه الأمة، إن اتقيتن الله بالطاعة له ولرسوله.
ووقع أحد في موضع واحدة لأنه أعم إذ يقع على المؤنث والمذكر الواحد والجمع بلفظ واحد.
فقوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} أي: لا تُلِنَّ القول للرجال.
{فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: شك ونفاق، أي يطمع في الفاحشة استخفافاً بحدود الله.
قال عكرمة {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي شهوة الزنا.
قال قتادة: {مَرَضٌ} نفاق.
ثم قال تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي: قولاً أَذِنَ الله لكن فيه وأباحه لكن.
قال ابن زيد: معناه: قولاً جميلاً معروفاً في الخير.
ثم قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي: اثبتن في بيوتكن.(9/5828)
هذا على مذهب من قرأ بكسر القاف، يكون عند الفراء وأبي عبيد من الوقار، يقال وَقَرَ يَقِرُّ وُقُوراً إذا ثبت في منزله.
وقيل: هو من قَرَّ في المكان إذا ثبت أيضاً، فيكون الأصل: واقْرِرْنَ فحذفت الراء الثانية استثقالاً للتضعيف، وألقيت حركة الأولى الباقية على القاف فاستغني عن ألف الوصل، فصار وَقِرْنَ كما تقول ظِلْتُ أفعل بكسر الظاء.
فأما قراءة من فتح القاف، وهي قراءة نافع وعاصم، فهي لغة لأهل الحجاز، يقولون: قَرَرْتُ بالمكان أَقَرَّ، بمنزلة قَرِرْتُ به عيناً أَقَرُّ، حكاه أبو عبيد في(9/5829)
" المصنف " عن الكسائي.
فيكون التقدير: واقْرِرْنَ [في بيوتكن]، ثم أُعِلَّ في الأولى فيصير: وَقَرْنَ.
ويجوز أن يكون من قرة العين هذا على الحذف، والاعتلال أيضاً، وشاهده قوله: {ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] فيكون التقدير: واقررن عيناً في بيوتكن.
وروي أن عماراً قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرِك أن تَقَرّي في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، زا زلت قَوَّالاً بالحق، فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} أي: إذا خرجتن من بيوتكن.
قال قتادة: التبرج في هذا الموضع التبختر والتكسر، وكانت الجاهلية الأولى(9/5830)
مشية فيها تكسير وتغنج فنهاهن الله عن ذلك. وقيل التبرج إظاهر الزينة للرجال. وحقيقتها إظهار ما ستر الله، وهو مأخوذ من السعة. يقال في أسنانه بَرَجٌ إذا كانت متفرقة.
والجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد عليه السلام.
وروي أن هذه الفاحشة كانت ظاهرة في هذا الوقت، وكانت ثم بغايا يقصدن للفاحشة.
وقيل: ما بين نوح وآدم عليه السلام كان بينهما ثمان مائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم أحسن ما يكون، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه.
وقال ابن عباس هو ما بين إدريس ونوح عليه السلام، وكان ذلك ألف سنة، وأن بطنين من وُلْدِ آدم أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبال(9/5831)
صِبَاحاً والنساء قباحاً، وكان نساء السهلِ صِباحاً والرجال قباحاً، وأن إبليس أتى رجلا من السهل في صورة غلام فأجر نفسه منه فكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئاً من الذي يرمز فيه الرِّعَاء فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون له في السنة، فتبرج الرجال حسناً، وتبرج النساء للرجال وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوةا إليهن، فنزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهم فهو قوله جل ذكره: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى}.
وقوله: {الجاهلية الأولى} يدل على أن ثم جاهلية أخرى في الإسلام، دل على ذلك/ قول النبي صلى الله عليه وسلم " ثَلاثَ مِنْ عَمَلِ أهلِ الجَاهِلِيَّة لا يَدَعْهُنَّ النَّاسُ: الطَّعْنُ بِالأنْسابِ، والاسْتِمْطارُ بالكَواكِبِ وَالنِياحَةُ ".
(وقال ابن عباس لعمر لما سأله عن الآية، فقال له: وهل كانت الجاهلية إلا(9/5832)
واحدة؟)، فقال ابن عباس: هل كانت أولى إلا ولها آخرة؟ فقال له عمر: لله دَرُّكَ يا ابن عباس/، كيف قلت؟ فأعاد ابن عباس الجواب. وقال النبي صلى الله عليه سلم لأبي الدرداء وقد عيّر رجلاً فوعاه يا ابن فلانة، فقال له:
" يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ فِيكَ جَاهِليَّةٌ، فَقَالَ أَجَاهِليَّةُ كُفْرٍ أَوْ إِسْلامٍ؟ قَالَ: بَلْ جَاهِليَّةُ كُفْرٍ "، قَالَ أَبُو الدَّردَاء: " فَتَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ ابْتَدَأْتُ إِسْلامِي يَوْمَئِذٍ ".
ثم قال [تعالى]: {وَأَقِمْنَ الصلاة} أي: المفروضة.
{وَآتِينَ الزكاة} يعني الواجبة في الأموال.
{وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي: فيما أمركن به ونهاكن عنه.
ثم قال (تعالى): {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} أي: الشر والفحشاء يا أهل بيت محمد.
{وَيُطَهِّرَكُمْ} أي من الدنس والمعاصي تطهيراً.
قال ابن زيد: الرجس هنا الشيطان.(9/5833)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
وقيل: عُنِيَ بأهل البيت هنا النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما لسلام، رواه الخدري. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " نَزَلَتِ الآيَةِ فِي خَمْسٍ: فِيَّ وَفِي علي وحَسَنٍ وحُسَينٍ وَفَاطِمَةَ " وهو قول جماعة من الصحابة.
وقال عكرمة أن يقرأ عنكن.
وقيل عني بذلك: نساؤه وأهله.
قوله تعالى (ذكره): {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً}.
أي: واذكرن نعمة الله عليكن إذ جعلكن في بيوت تتلى فيها (آيات) الله والحكمة، أي: اشكرن الله على ذلك.(9/5834)
والحكمة هنا: ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أمر دينه مما لم ينزل به قرآن، وذلك السنة.
قال قتادة: الحمكة السنة امتَنَّ (الله) عليهن بذلك.
وقيل: معناه الحكمة من الآيات.
ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً} أي (ذا) لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي يتلى فيها القرآن والسنة.
{خَبِيراً} بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجاً.
ثم قال تعالى (ذكره) بعقب (ذِكِرُ) ما أَمَرَ به أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم.
{ إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية، أي: (المتذللين) بالطاعة والمتذللات.
وأصل الإسلام/ التذلل والانقياد والخضوع.
{والمؤمنين والمؤمنات} أي: المصدقين الله ورسوله والمصدقات.
وأصل الإيمان التصديق.(9/5835)
{والقانتين والقانتات} أي: والمطيعين والمطيعات الله ورسوله، فيما أمروا به ونهوا عنه. وأصل القنوت الطاعة.
{والصادقين والصادقات} أي صدقوه فيما عادهوه عليه.
{والصابرين والصابرات} أي: صبروا لله في البأساء والضراء على الثبات على دينه.
{والخاشعين والخاشعات} أي خشعوا لله وجلاً من عقابه وتعظيماً له.
{والمتصدقين والمتصدقات} أي: تصدقوا بما افترض الله عليهم في أموالهم.
{والصائمين والصائمات} أي: صاموا شهر رمضان الذي افترضه الله عليهم.
{والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} أي: حفظوها إلا عن الأزواج أو ما ملكت أيمانهم.
{والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} أي: ذكروه بألسنتهم وقلوبهم.
{أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أي: ستراً لذنوبهم وثواباً في الآخرة من أعمالهم وهو الجنة.
قال مجاهد: لا يكون ذاكراً لله حتى يذكره قائماً وجالساً ومضطجعاً.
وقال أبو سعيد الخدري: من ايقظ أهله وصَلَّياً أربع ركعات كُتِباَ من الذاركين الله كثيراً والذاكرات.
قال قتادة: دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن قد ذكركن الله في القرآن ولم(9/5836)
نذكر بشيء، أما فينا من يذكر؟ فأنزل الله جل ذكره: {إِنَّ المسلمين} الآية.
وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟
فنزلت الآية: " إن المسلمين " الآية.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: أن يتخيروا من (أمرهم غير) الذي قضى الله ورسوله، ويخالفوا (ذلك) فيعصونهما، {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} أي: فيما أُمِرَ أو نُهِيَّ.
{فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} أي: جار عن قصد السبيل، وسل: غير طريق الهدى.
ويروى أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله على فتاة زيد بن حارثة فامتنعت من إنكاحه (نفسها).
قال ابن عباس: خطبها رسول الله على فتاه زيد بن حارثة فقالت: لسْتُ بِناكِحَتِهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَلَى فانْكَحِيهِ، فقالت يا رسول الله/ أؤامِرُ نفسي؟(9/5837)
فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله فقالت رَضِيتَهُ/ لي يا رسول الله منكحاً، قال: نعم، قالت: إذاً لا أعْصِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أَنْكَحْتُه نفسي ".
قال قتادة: لما خطب رسول الله زينب بنت جحش، وهي بنت عمته، ظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد امتنعت، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} الآية، فأطاعت وسلمت.
وقيل: ننزلت في [أم كلثوم] بنت عقبة بن أبي معيط وذلك أنها وهبت نفسها للنبي فزوجها زيد بن حارثة، قاله ابن زيد.
قال: وكانت أول من هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده، فنزلت الآية.(9/5838)
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبها لزيد قالت: لا أرضى به، وأن أَيِّمُ نساء قريش، فقال لها النبي عليه السلام: قد رضيته لك، فأبت عليه فنزلت الآية، فرضيت به وجعلت أمرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحها من زيد بن حارثة، فمكثت عند زيد ما شاء الله، ثم أتاه رسول الله زائراً له فأبصرها قائمة فأعجبته، فقال: سبحان الله مقلب القلوب، فرأى زيد أن رسول الله قد هويها، فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن بها كبرة وأنها تؤذيني بلسانها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله وأمسك عليك زوجك "، وفي قلبه ما في قلبه، ثم إن زيداً طلّقها بعد ذلك، فلما انقضت عدتها أنزل الله نكاحها من السماء على رسوله وأنزل عليه الآيات: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} إلى: {مَّقْدُوراً}.
وعن عائشة أنها قالت: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية.
قال أنس: " لما انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ مِنْ زَيْدٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذكُرْنِي لَهَا، فَأنْطَلَقَ زَيْدَ إِلَى زَيْنَب فقال لها: أَبْشِرِي أَرْسَلَ رسول الله يَذْكُرُكِ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ(9/5839)
شَيْئاً حَتَّى أُؤمِرَ رَبِّي فَقَامَتْ إلى مَسْجِدِهَا وَصَلَّتْ، وَنَزَلَ القُرآنُ عَلَى رَسُولِهِ: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} الآيتان. فجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذنها ".
وروي أنها كانت تقول لرسول الله: لست كأحد من النساء لأن الله زوجنيك.
ثم قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله}، هذا عتاب من الله للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق - وهو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أمسك عليك زوجك واتق الله في مفارقتها للفرار.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب بنت جحش وهي ابنة عمته بعد أن تزوجها زيد فأعجبته، فألقى الله نفس زيد كراهتها لما علم ما وقع في نفس النبي منها، فأراد زيد فراقها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: " {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} فيما عليك لها " وهو يحب لو قد بانت منه لينكحها، وهو الذي أخفى غي نفسه، فقد أبداه الله كما ذكره.
ثم قال تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} أي: وتخاف أن يقول الناس أمَرَ رجلاً(9/5840)
بطلاق امرأته ثم نَكَحَها حين طَلَّقها، والله أحق أن تخشاه مِنَ الناس، هذا كله معنى قول قتادة وابن زيد.
قال الحسن: ما أنزلت عليه آية أشد منها، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها.
وقال علي بن الحسين: كان الله جل ذكره أَعْلَمَ نبيه عليه السلام أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها، قال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله}، وهو يخفي في نفسه ما قد أعلمه الله من تزويج زينب، والله مبديه، أي مظهره بتمام التزويج، وطلاق زيد لزينب.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} أي حاجته وأربه.
{زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} أي لِئَلاَّ يكون على المؤمنين ضيق/ وإثم في نكاح أزواج من تبنوا بعد طلاقهم إياهن، إذا قضوا منهن حاجتهم، وهو قوله جل ذكره: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [النساء: 23]، فدل على أن اللاتي من الأبناء من غير الأصلاب حلال نكاحهن.(9/5841)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
وفي قوله: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} إشارة إلى أيقاع الطلاق، وكذلك في قوله: {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً}.
ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: ما قضى الله من قضاء كائناً لا محالة، ذلك ما قضى الله من تزويج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت عمته.
وقال الشعبي: كانت زينب تقول للنبي عليه السلام: إني لأَدِلُّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تَدِلُّ بهن: إن جَدِّي وَجَدُّكَ وَاحِدٌ، وإنّي أنْكَحَنِكَ الله مِنَ السَّماءِ، وإنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم.
وروى أنس بن مالك أن زيداً كان مسبباً من الشام ابتاعه حيكم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة زوج النبي، فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فتبناه النبي.
قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ} إلى قوله: {سَرَاحاً جَمِيلاً}.
أي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم إثم في نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه أياها.
قال قتادة: ما فرض الله له، أي ما أحل الله. وفي الكلام معنى المدح كقوله:(9/5842)
{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ثم قال: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}. انتصبت " سُنَّة " على المصدر، والفاعل فيه ما قبله لأنه بمعنى سن الله له ذلك سنَّة، والمعنى لا إثم عليه في ذلك كما لا إثم فيه على من خلا قبله من النبيين فيما أحل الله لهم.
قال الطبري في معناه: لم يكن الله لِيُؤُثِمَ نبيه فيما أحل الله له مثالَ فِعْلِه بمن قَبْلَهُ مِنَ الرسل. ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي: قضاء مقضياً. [وقيل: قَدَرُ أحَدٍ قَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قبل خلق الأشياء كلها مقدوراً] أي أنه ستكون الأشياء على ما تقدّم علمه. ولا تقف على: {فَرَضَ الله لَهُ} لأن " سنة " انتصبت على عامل قام ما قبلها مقامه.
ثم قال تعالى: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ} أي: سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل الذين يبلغون رسالات الله إلى من أُرْسِلوا إليه؟ {وَيَخْشَوْنَهُ}: أي: يخافون الله.
{وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} أي: لا يخافون غيره، فَمِن هؤلاء فَكُن يا محمد، فإن الله يمنع منك وينصرك كما فعل بمن قبلك من الرسل.
" الذين " بدل من " الدين " في قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين} أو نعت لهم أو عطف(9/5843)
بيان.
ثم قال: {وكفى بالله حَسِيباً} أي: وكفاك يا محمد حافظاً لأعمال خلقه ومحاسباً لهم عليها.
ويجوز أن يكون (حسيب) بمعنى محاسب، كما تقول آكِيلٌ وشَرِيب، معنى مُواكِل وُمَشَارِب. ويجوز أن يكون بمعنى محسب، أي مكف كما قالوا السميع بمعنى المسمع وأليم بمعنى مؤلم. يقال: أحسبني الشيء بمعنى كفاني.
ثم قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} أي: لم يكن محمد أبا زيد ابن حارثة، ولا أباً لغيره لأنه لم يكن له ابن وقت نزول هذه الآية.
قال قتادة: نزلت في زيد بن حارثة أنه لم يكن بابنه، ولعمري لقد ولد له ذكور وإنه لأبو القاسم وإبراهيم والمطهر. فالمعنى على هذا: لم يكن محمد أباً لِمَنْ تَبَنَّى من رجالكم، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم.
ثم قال تعالى: {ولكن رَّسُولَ الله} أي: ولكن كان رسول الله. {وَخَاتَمَ النبيين} أي: آخرهم. هذا على قراءة من فتح التاء. ومن كسرها فمعناها: أي طبع على النبوة فلا(9/5844)
تفتح لأحد بعده.
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: " أَنَا خَاتِمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ ". والخاتم الذي يلبس، فيه أربع لغات: خَاتَمٌ وخَاتِمٌ وخَاتَامٌ وخَيْتَامٌ.
ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} أي: اذكروه بقلوبكم وجوارحكم ولا تخلوا أنفسكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم.
ثم قال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: صلوا له غدوة وعشياً، يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، والأصيل العَشِيُّ وجمعه أصائل. والأصيل بمعنى الأُصُل وجمعه آصال، هذا لفظ المبرد. وقال غيره: أُصُل عنده جمع أَصِيل كرغيف ورغف.(9/5845)
ثم قال تعالى: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} أي: ربكم الذي أمرتم بذكره كثيراً هو الذي يرحمكم ويثني عليكم فيشيع عنكم الذكر الجميل وملائكته تدعو لكم.
روي أنه لما نزل/: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] أتاه المؤمنون يهنؤنه بذلك، فقال أبو بكر يا رسول الله: هذا لك خاصة فَمَا لَنا؟ فأنزل الله جل ذكره: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ}، أي: يدعون لكم بالرحمة.
وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: " إِنَّ الله قالَ لمُوسَى: أَخْبِرْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ صَلاَتِي عَلى عِبَادِي لَتَسْبِقُ رَحْمَتِي غَضَبِي وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَهْلَكْتُهُمْ ".
وقال عطاء بن أبي رباح: " صلاته على عباده: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ لَتَسْبِقُ رَحْمَتِي غَضَبِ ".
وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ".
ثم قال: {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} أي: تدعو ملائكة الله ليخرجكم الله من(9/5846)
الكفر إلى الإيمان. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء. وسمي الركوع والسجود صلاة للدعاء الذي يكون في ذلك.
وقال المبرد: أصل الصلاة الترحم، فالصلاة من الله رحمة لعباده، ومن الملائكة رقة لهم واستدعاء للرحمة من الله لهم، والصلاة من الناس سميت صلاة لطلب الرحمة بها.
قال أبو عبيدة: الأصِيلُ ما بين العصر إلى الليل: وقال: {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} أي: يبارك عليكم.
قال ابن عباس: لا يقضي الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غَيرَ الذِّكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله.
ثم قال: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} أي: ذا رحمة أن يعذبهم وهم له مطيعون.
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} أي: تحية بعد هؤلاء المؤمنين في الجنة سلام، أي أمنة لنا ولكم من عذاب الله.
قال البراء بن عازب: معناه يوم يلقون ملك الموت يسلم عليهم لا يقبض(9/5847)
روح مؤمن حتى يسلم عليه.
قال قتادة: تحية أهل الجنة السلام.
وقال البراء بن عازب في معناه: إن (ملك) الموت لا يقبض روح المؤمن/ حتى يسلم عليه.
قال الزجاج: هذا في الجنة، واستشهد عليه بقوله تعالى: وَ {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23] ودليله أيضاً قوله جل ذكره: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23].
وفرق المبرد بين التحية والسلام، فقال: التحية تكون لكل دعاء، والسلام مخصوص، ومنه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً} [الفرقان: 75].
ثم قال تعالى ذكره: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} أي: أعد لهم الجنة على طاعتهم له في الدنيا.(9/5848)
ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها النبي إِنَّآ أرسلناك شاهدا وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا} أي: أرسلناك يا محمد شاهداً على أمتك بإبلاغك إياهم ما أرسلت به، ومبشراً لمن أطاعك بالجنة، ونذيراً لمن عصاك بالنار، قاله قتادة وغيره.
ثم قال: {وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ} أي: إلى توحيد الله، وطاعته. قال قتادة: " ودَاعياً إلَى الله " إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
{بِإِذْنِهِ} أي: بأمره إياك بذلك. {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أي: مضيئاً للخلق يبين لهم أمر دينهم ويهتدون به كما يُهْتَدَى بالسرج المضيء.
ثم قال تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً} أي: من ثواب الله أضعافاً كثيرة. وقيل: المعنى: وذا سراج: أي ذا كتاب بين مضيء.
قال ابن عباس: " لما نزلت هذه الآية: {يا أيها النبي إِنَّآ أرسلناك شاهدا} الآية، دعى النبي صلى الله عليه وسلم علياً ومُعاذاً فقال: " انْطلِقَا فَيَسِّرا وَلاَ تُعَسِّرَا فَإِنَّه قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ: {إِنَّآ أرسلناك شاهدا} الآية وقرأ الآية ".
ثم قال: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} أي: لا تسمع دعاءهما إليك على التقصير في(9/5849)
تبليغ رسالات الله.
{وَدَعْ أَذَاهُمْ}. قال مجاهد أعرض عنهم. وقال مجاهد: دع الأذى لا تجازهم عليه حتى تؤمر فيه بشيء. وقيل: المعنى لا تؤذيهم، وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسخ ذلك بالقتال.
قال قتادة: معناه: اصبر على أذاهم.
ثم قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي: فوِّض إلى الله أمرك وثق به، فإن الله كافيك. {وكفى بالله وَكِيلاً} أي: وحسبك بالله فيما يأمرك به حافظاً لك وكَالِئاً.
ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} الآية، أي إذا تزوجتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن والمجامعة - والنكاح هنا العقد - فلا عدة لكم عليهن/ {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين.
{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي: خلوا سبيلهن تخلية بمعروف.
قال ابن عباس: إذا طلق التي لم يدخل بها واحدة بانت منه ولا عدة عليها،(9/5850)
تتزوج من شاءت، فإن كان سمى لها صداقاً فلها نصفه، وإن كان لم يسم متعها على قدر عسره ويسره.
وقيل: منسوخة بقوله جل ذكره: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، قاله ابن المسيب وقتادة: وهذه الآية خصصت آية البقرة وبينتها وهي قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] فظاهر الآية أن ذلك في كل مطلقة.
فبينت آية الأحزاب أن آية البقرة في المدخول بها. وكذلك آية الأحزاب خصصت وبينت آية الطلاق، وهي قوله: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فبينت آية الآحزاب أن الثلاثة الأشهر لهذين الصنفين، إنما ذلك للمدخل بها، كذلك أيضاً الطلاق خصصت وبينت أن آية البقرة في غير الصنفين المذكورين في سورة الطلاق فصار في آية البقرة تخصيصان وبيانان من سورتين. وصارت آية الأحزاب مخصصة ومبينة لآيتين من سورتين فآية الأحزاب أحكم إذ لا تخصيص فيها.
فالإعتداد للرجال، أي: هم يستوفون من النساء ما عليهن من العدة. فالعدة(9/5851)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
على النساء، والاعتداد للرجال أن العدة التي على النساء حق للأزواج ليستْبرِءوا أرحامهن لئلا يلحق أولادهم بغيرهم، أو يلحق بهم غير أولادهم.
قوله تعالى: {يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً}.
أي: أحل لك يا محمد أزواجك اللاتي أعطيتهن صدقاتهن، وأحل لك ما ملكت يمينك من السبي، وأحل لك بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك من هاجر منهن معك دون من لم يهاجر. هذا معنى قول الضحاك.
قال ابن زيد: كل امرأة أتاها مهرها فقد أحلها الله له.
وروى أبو صالح عن أم هانئ أنها قالت: " خَطَبَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي، ثمَّ أَنْزَلَ الله تعَالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إِلى قَوله: {هَاجَرْنَ مَعَكَ}، وَلم أَكُنْ هَاجَرْتُ وَإِنَّمَا كُنْتُ منَ الطُّلَقَاءِ، فَكُنْتُ لا أَحِلُّ لَهُ ".(9/5852)
وفي قراءة ابن مسعود: " واللاتي هاجرنَ معك " بالواو فهذا يدل على أنه قد أحل له من هاجر ومن لم يهاجر.
وقوله: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} أي: وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بغير صداق. {إِن وَهَبَتْ} شرط، وجوابه محذوف، والتقدير: إن وهبت نفسها حلت له، أي: إن تهب نفسها تحل.
ويجوز أن يكون الجواب هو المحذوف الناصب لامرأة.
وقرأ الحسن: " أنْ وَهَبَتْ " بفتح أن. أي لأن وهبت، أي: من أجل أن وهبت.
وقيل: هي بدل من " امرأة " على بدل الاشتمال.(9/5853)
وفي قراءة ابن مسعود: " وامْرأَةً مُؤمِنَةً وَهَبَتْ " بغيرِ إِنْ. والمعنى على ما مضى نقول: كُلْ طعاماً إِنْ ملكته، وكل طعاماً ملكته، اي: ملكته في ما مضى.
ثم قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي: ينكحها فحلال له نكاحها إذا وهبت له نفسها بغير مهر.
{خَالِصَةً لَّكَ} أي: لا يحل ذلك لأحد غيرك.
قال قتادة: ليس لأمرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم كانت له خاصلة دون سائر أمته. وروي أنها نزلت في ميمونة بن الحارث وهبت نفسها للنبي عليه السلام، قاله الزهري وعكرمة ومحمد بن كعب وقتادة. وقيل: لم يكن عند النبي أمرأة وهب له نفسها بغير صداق، وإنما المعنى: إِنْ وقع ذلك فهو حلال لك يا محمد قاله مجاهد وابن عباس. وقال علي بن الحسين وعروة والشعبي: هي أم شريك وقيل: هي زينب بنت(9/5854)
خزيمة ولا تكون إلا مكسورة على قول ابن عباس ومجاهد لأنها بمعنى: إن وقع ذلك فيما يستقبل. ويجب أن تكون مفتوحة على قول غيرهما لأنه شيء قد وقع وكان على قولهم.
وقوله: {خَالِصَةً لَّكَ} يرجع على المرأة التي وهبت نفسها دون ما قبلها من قوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ} / وما بعده. وإنما قال تعالى للنبي ولم يقل لك، لئلا يتوهم أنه يجوز ذلك للغير كما جاز ذلك في: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ}.
أي: بنات العم والعمة والخال والخالة يحللن للناس.
وقيل: إنما جاز ذلك لأن العرب تخبر عن الحاضر بأخبار الغائب ثم ترجع فتخاطب.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول الآية يتزوج أن النساء شاء فقصره الله على هؤلاء، فلم يعداهن وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورباع.
ثم قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ} يعني المؤمنين لا يحل لأحد نكاح إلا بولي وعقد وصداق وشهود عدول، وأن لا يزوج الرجل أكثر من أربع وما ملكت اليمين، قاله قتادة وغيره (فالمعنى) قد علمنا ما في ذلك من الصلاح.(9/5855)
وقال أبي بن كعب في معناها: هو مثنى وثلاث ورباع.
ثم قال تعالى: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي: أحللنا لك ما تقدم ذكره لئلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف المسميات لك في هذه الآية.
ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: غفوراً لك ولأهل الإيمان بك، رحيماً بك وبهم أن يعاقبهم على ذنوب تابوا منها.
ثم قال تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} أي: تؤخر يا محمد من تشاء من أزواجك وتضمّ من تشاء.
يقال: أرْجَأْتُ الأمْرَ: أَخَّرْتَهُ. ومن ترك الهمزة في " ترجي " فيحتمل أن يكون أبدل من الهمزة ثم أسكنها استثقالاً للضمة.
وقيل: هي لغة، يقال: أرْجَيْتُ بمعنى أرْجَأْتُ. كما يقال قريْتُ. بمعنى قَرَأتُ.
وقال المبرد: هو من رجا يرجو، يقال: رجاء وأرَجَيْتَهُ إذا جَعَلْتَه يَرْجُو.
قال مجاهد في معنى الآية: تعزل يا محمد بغير طلاق من أزواجك من تشاء(9/5856)
وتؤدي إليك من تشاء، أي تردها إليك.
قال قتادة: جعله الله في حل من ذلك أن يدع من يشاء منهم بغير قسم وكان صلى الله عليه يقسم.
وقال أبو رزين: لما أشفق النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن، قلن يا رسول الله: اجعل لنا في مالك ونفسك ما شئت فكان ممن أرجأ منهم سودة بنت زمعة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان ممن أوى عائشة وأم سلمة وحفصة زينب. فالمعنى على هذا القول أنه صلى الله عليه أخر هؤلاء فلم يقسم لهن ولم يطلقهن، وضم هؤلاء فقسم لهن، وهو قول الضحاك.
وعن ابن عباس أن المعنى من شئت خليت سبيله منهم ومن شئت أمسكت منهن.
وقال الحسن: المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها(9/5857)
حتى يتركها أو يتزوجها.
فالمعنى: اترك نكاح من شئت من أمتك، وانكح من شئت.
وقال ابن زيد في ذلك كلاماً معناه: إن الله جل ذكره أمر نبيه أن يخير نساءه بين الدنيا والآخرة في قوله:
{قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28 - 29] فلما اخترن الآخرة واخترنه أبيح له أن يعزل من شاء منهم فلا يقسم لها، ويضم من شاء فيقسم لها، ومن ابتغى ممن عزل عن نفسه، فله أن يرجع ويقسم لها، فخيرهن أيضاً في الرضى بهذا أو يفارقهن فرضين بذلك إلاَّ امرأة بدوية ذهبت.
فقال الله جل ذكره: {ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي: أن يسكن ولا يغرن ويرضين كلهن بما فعلت من ضم أو عزل، إذ ذلك كله من حكم الله لك فيهن، وذلك إشارة إلى ما تقدم مما أباحه الله لرسوله عليه السلام فيهن.
قال قتادة: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ " أي: لك أن تأتي من شئت منهم لا إثم عليك في ذلك، وهو قول الحسن.
وقال ابن عباس: معناه من مات من نسائك اللواي عندك، أو خليت سبيله فلا إثم عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك، ولا يحل أن تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك شيئاً.(9/5858)
قال الزجاج: معناه إن أردت أن تؤوي إليك من عزلت فلا جناح عليك. وهو القول الأول بعينه، وهو أحسنها إن شاء الله تعالى.
ثم قال تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} أي: من ميلكم إلى بعض من عندكم من النساء دون بعض بالهوى والمحبة فلذلك وضع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرج في ذلك لأن القلب لا يملك، والهوى سلطان غائب عن الإنسان.
ثم قال: {وَكَانَ/ الله عَلِيماً} أي: ذا علم بأعمالكم وغيرها. {حَلِيماً} أي: ذا حلم عن عباده أن يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة.
ثم قال تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} أي: من بعد من عندك من النساء.
قال قتادة: لما اخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن تسع.
وقيل: المعنى: لا يحل لك النساء بعد اللواتي أحللنا، يعني في قوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} قاله أُبي بن كعب والضحاك.
وقال مجاهد: المعنى: من بعد المسلمين، فحرم عليه نكاح اليهوديات والنصرانيات. وهو قول ابن جبير وعكرمة.(9/5859)
وروي عن عائشة أنها قالت: " ما مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أحَلَ اللهُ لَهُ النِّسَاءَ "، فتكون الآية منسوخة بالسنة.
وقد روي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك. وقيل: الآية محكمة، ولا يحل له النساء بعد نزول هذه الآية، وهو قول أُبي بن كعب، اختيار الطبري.
ثم قال تعالى: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا يحل لك أن تستبدل من عندك غيرهن من المسلمات، قاله الضحاك.
وقال مجاهد: لا تستبدل بمن عندك من المسلمات كتابية.
وقال ابن زيد: لا تبدل زوجتك بزوجة رجل آخر، وهو فعل كان في الجاهلية وقوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: فذلك حلال.
وقال ابن زيد: إلا ما ملكت يمينك، فلك أن تبادل غيرهن ولا تفعل ذلك في(9/5860)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
الحرائر.
قوله تعالى ذكره: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} إلى قوله: {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
المعنى: أن الله جل ذكره أمر أصحاب النبي عليه السلام ألا يدخلوا عليه إلا أن يأذن لهم إلى طعام لم يكونوا منتظرين وقته وإدراكه.
وإنّاه مصدر أنَّى يَأْتِي إِنّاً وَإِنْياً وَأَنًّا ممدود، وفيه لغة أخرى، يقال: أن يَئين أنْياً، ويقال في معناه: نَالَ لَك وأنَالَ لكَ. ومعنى آن: حان. " وغير " منصوب على الحال من الكاف والميم في " لكم "، ولا يحسن خفضه على النعت لطعام لأنه لا يلزم منه إظهار الضمير، فتقول: غير ناظرين أنتم إناه، لأن اسم الفاعل إذا جرى صفة على غ ير من هو له، أو خبراً لم يكن بد من إظهار الضمير الذي فيه. والمعنى غير منتظرين حينه ونضجه.
ثم قال: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا} أي: إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته لطعام فادخلوا.
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} أي: فتفرقوا إذا أكلتم من بيته.
{وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: لا متحدثين بعد فراغكم من أكلكم.
وكان نزول هذه الآية في قول أكلوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب بنت(9/5861)
جحش، ثم جلسوا يتحدثون في مجلس رسول الله، ولرسول الله إلى أهله حاجة، فمنعه الحياء أن يأمرهم بالخروج من منزله.
روى معنى ذلك أنس بن مالك، قال أنس: وكان قد أَوْلَمَ رسول الله بتمر وسَوِيقٍ.
وكان أنس ذلك اليوم ابن عشر سنين.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله جل ذكره: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ}.
وهذا أدب لأصحاب النبي عليه السلام ولمن بعدهم.
وقال قتادة: كان هذا في بيت أم سلمة أكلوا وأطالوا الحديث، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج، ويستحي منهم والله لا يستحي من الحق.(9/5862)
ثم قال: {إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي} أي: دخولكم في بيت النبي من غير أن يؤذن لكم، وجلوسكم فيها مستأنسين لحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له كان يؤذي النبي فيستحي منكم أن يخرجكم منها. وأن يمنعكم من الدخول إذا دختلم بغير إذن مع كراهته لذلك منكم. {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} أن يبينه لكم.
ثم قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أي: وإذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً أو غيره فخاطبوهن من وراء حجاب، أي: من وراء ستر/ ولا تدخلوا عليهن بيوتهن.
ثم قال جل ذكره: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي: مخاطبتكم لهن من وراء حجاب أطهر لقلوبكم، وقلوبهن من عوارض الفتن.
وذكر مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره ذلك النبي، فنزلت آية الحجاب.
وروى أنس أن عمر قال: " قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ أنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، قال فنزلت آية الحجاب " وروي: " أنَّ سُودَة خرجَت ليلاً لِلبِرازِ عشاءً، وكانت طويلة فناداها عُمَر بِصَوْتِهِ الأَعلى: " قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا(9/5863)
سُودَة حِرْصاً على أن يَنْزِلَ الحِجَابُ فنزلَت آيةُ الحِجَابِ ".
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} أي: ما ينبغي ولا يصلح لكم أذى نبيكم ولا نكاح أزواجه من بعده لأنهن أمهاتكم، فلهن حرمة الأمهات.
روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت آية الحجاب قال رجل من أصحاب رسول الله: أينهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على بنات عمنا، أما والله لئن مات رسول الله وأنا حَيٌّ لأتزوجن عائشة، فأنزل الله تعالى وجل ذكره: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} إلى: {عَلِيماً}. فأعلمهم أنه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يبدون.
قال قتادة: قال رجل من أصحاب رسول الله عليه السلام: إن مات رسول الله تزوجت فلانة، امرأة من أزواج النبي.
قال معمر: الذي قال هذا طلحة لعائشة.
ثم قال: {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} أي: إن أذاكم نبيكم ونكاحكم أزواجه من(9/5864)
بعده عند الله عظيماً من الإثم.
ثم قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي: إن تظهروا شيئاً بألسنتكم من جميع الأمور أو تخفوه في قلوبكم فلا تظهروه، فإن الله كان بكل شيء ذا علم لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ} أي: لا إثم على أزواج النبي في الظهور إلى آبائهم ولا إلى من ذكر بعد ذلك من ذوي المحارم. قال مجاهد: معناه: لا إثم عليهن في أن تضع الجلباب ومعها من ذكر. وقال قتادة: رخص لهؤلاء أن لا يحتجبن منهم.
وهذا القول أليق بسياق الآية. والآية عامة في أزواج النبي عليه السلام وأزواج المؤمنين ألا يحتجب من الآباء ولا من الأبناء ولا من الإخوة ولا من أبناء الإخوة.
قال الشعبي: ولم يذكر في ذلك العم حذاراً من أن يصفهن لأبنائه.
وكره الشعبي وعكرمة أن تضع خمارها عند عمها وخالها، لأنهما يصفانها إلى ابنيهما، ونكاحها إلى كل واحد من ابنيهما يحل. وقيل: إنما لم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقوله: {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} أي: ولا يحتجبن من نساء المؤمنين.
وقال ابن زيد: هذا كله في الزينة، وقوله: {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} يعني المؤمنات الحرائر،(9/5865)
قال: ولايجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من عورات المرأة.
ثم قال تعالى: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني المماليك.
قال ابن زيد: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من المماليك.
قيل: إن ذلك في النساء من المماليك خاصة.
وقيل: في النساء والرجال من المماليك.
ثم قال تعالى: {واتقين الله} أي: وخفنَ الله أن تتحدَّيْنَ في ما حدّ الله لكن في الحجاب.
{إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} هو شاهد على ما تفعلنه من حجابكن وغير ذلك من أموركن.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي}. أجاز الكسائي رفع الملائكة. وأجاز: إن زيداً وعمرو متطلقان. ومنعه جميع النحويين في البسملة.
وأجازه بعضهم في الآية على حذف، والتقدير: إن الله يصلي على النبي وملائكته(9/5866)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
يصلون على النبي، ثم حذف من الأول لدلالة الثاني وقد قرد بعض النحويين هذا التقدير في الآية مع النصب، وقال: يبعد أن يجتمع ضمير الله جل ذكره مع غيره إجلالاً له وتعظيماً، ثم استدل على ذلك بإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال: ما شاء الله وشئت فقال: " ما شاء اللهُ، ثُمَّ شِئْتَ " فالواو كالجمع. فالمعنى/: إن الله وملائكته يباركون على النبي، قاله ابن عباس.
وقيل: إن الله يرحم على النبي وملائكته يدعون له، فهذا التقدير أيضاً مما يقوي تقدير الحذف من الأول، ويكون يصلون للملائكة خاصاً لأن الصلاة من غير الله دعاء، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليه، فقال: " قُولُوا اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محَمد وعلَى آلِ مُحَمَدٍ كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ، وبَارك عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمدٍ كَمَا بَارَكتَ عَلَى إبْراهيم في العَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجيدٌ، والسَّلاَمُ كَمَا قَد عَلمتُم ".
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} إلى آخر السورة.
أي: إن الذين يؤذون أولياء الله، قاله الشعبي.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل: " شَتَمَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ(9/5867)
يَشْتُمَنِي، وَكَذَبَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي فَأَمَا شَتْمُهُ إِيَّيَ فَقَوْلُهُ: إِنِّي اتَّخَذْتُ وَلَداً، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ. وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَنْ يُبْعَثَ - يَعْنِي بَعدَ المَوْتِ - " وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير.
وقيل: إنهم يعصون الله ويركبون ما حرم عليهم فذلك أذاهم.
ثم قال تعالى: {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا}.
قال مجاهد: يَقْفُونَ فيهم بغير ما عملوا.
وقيل: إنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين نكح صفية بنت حُيي.
ثم قال: {لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة} أي: أبعدهم من رحمته.
ثم قال: {فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} أي: وزر كذب وفرية شنعية، {وَإِثْماً مُّبِيناً} أي: بَيِّنٌ لسامعه أنه إثم وزور. والبهتان أفحش الكذب.(9/5868)
ثم قال تعالى: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين} الآية. أي: قل لهن يرخين عليهن أرديتهن لئلا يشتبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن فيكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن يدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق.
قال ابن عباس في معناها: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، وبيدين عيناً واحدة.
وعنه أيضاً أنه قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب أن تقنع به وتشده على جبينها.
وقال أبو مالك والحسن: كان النسء يخرجن بالليل في حاجاتهن فيؤذيهن المنافقون ويتوهمون أنهن إماء فأنزل الله الآية. وكان عمر رضي الله إذا رأى أمة قد تقنعت علاَهَا بالدِّرَة.
وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فقال: تغطي(9/5869)
حاجبها بالرداء أو ترده على أنفها حتى يغطي رأسها ووجهها وإحدى عينيها.
وقال مجاهد: يتجلببن حتى يعرفن فلا يؤذين بالقول.
وقال الحسن: {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} أي: يعرفن حرائر فلا يؤذين.
قال ابن عباس وابن مسعود: الجلباب الرداء.
وقال المبرد: الجلباب كل ملحفة تستر من ثوب أو ملحفة.
ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلف منهم من ترك إدنائهن جلابيبهن عليهن، {رَّحِيماً} بهن أن يعاقبهن بعد موتهن.
ثم قال تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: لئن لم ينته الذين يسرون الكفر.
{والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: شهوة من الزنى من المنافقين.
{والمرجفون فِي المدينة} أي: أهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل يشيعون(9/5870)
ما يخوفون به المؤمنين، وهم المافقين، أيضاً هم أجناس قد جمعوا هذه الأسماء كلها.
قال قتادة: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فتوعدهم الله بهذه الآية فكتموا نفاقهم وستروه.
ثم قال تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم، وقد أغراه بهم بقوله جل ذكره: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وأمره بلعنهم.
وقال المبرد: قد أغراه بهم في قوله: {أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} قال: وهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم، أي: هذا حكمهم إذ قاما على النفاق والإرجاف في المدينة. وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " خَمسٌ يُقتَلْنَ فِي الحَرَمِ " ففيه معنى الأمر ولفظه خبر.(9/5871)
وقيل: إنهم انتهوا عن الإرجاف/.
وقيل: إنه لقوم بأعيانهم.
قال ابن عباس: " لنغرينك " لنسلطنك.
وقال قتادة: لنحرشنك.
وقد استشهد من قال بجوار ترك إنفاذ الوعيد بهذه الآية، وقال: قد تواعدهم الله بأن يغري نبيه عليهم ولم يفعل.
وقال من يخالفه: قد أغراه بهم، وأنفذ وعيده فيهم. وبقاء المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى أن توفي يدل على أن الله لم ينفذ الوعيد فيهم لأن من تمام وعيده فيهم: قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} وهو مذهب أهل السنة. إذ المعروف من عادات الكرماء وأهل الفضل والشرف إتمام وعدهم وتأخير إنفاذ وعيدهم بالعفو والمعروف بالإحسان، ولا أحد أكرم من الله ولا أبين فضلاً وشرفاً منه فهو أولى بالعفو والإحسان وترك إنفاذ وعيده في المؤمنين.
ثم قال: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إن لم ينتهوا عن الإرجاف سلطتك عليهم(9/5872)
ولا يقيموا معك في المدينة إلا وقتاً قليلاً. وهذا وقف إن جعلت {مَّلْعُونِينَ} نصباً على الذم. فإن جعلته حالاً وقفت على {مَّلْعُونِينَ}. وهو قول الأخفش وغيره وهو حال من المضمر في {يُجَاوِرُونَكَ}.
وأجاز بعض النحويين أن يكون حالاً من المضمر في {أُخِذُواْ}، وذلك لا يجوز لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله. ولا يحسن الوقف على " تقتيلاً "، لأن " سُنَّةَ " انتصبت على فعل دل عليه ما قبله، فما قبله يقوم له مقام العامل.
ومعنى {مَّلْعُونِينَ} أي: مطرودين ومبعدين.
{أَيْنَمَا ثقفوا} أي: وجدوا، {أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ} لكفرهم بالله.
ثم قال تعالى: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي: سن الله ذلك سنة في الذين ينافقون على الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقَتَّلوا حيث ما وجدوا.
ثم قال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي: ولا تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييراً.(9/5873)
ثم قال تعالى: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة} أي: عن قيامها ومتعى تكون.
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} أي: علم وقت قيامها عند الله لا يعملها إلا هو.
ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} أي: وما يشعرك يا محمد، لعل قيام الساعة يكون منك قريباً قد دنا وحان. وذكر قريباً على معنى الوقت والقيام.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أي: أبعدهم من كل خير وأعدَّ لهم في الآخرة ناراً ماكثين فيها أبداً، لا يجدون ولياً يمنعهم منها، ولا نصيراً ينصرهم فيخرجهم من عذابها.
ثم قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} أي: لا يجدون ولياً ولا نصيراً في هذا اليوم الذي تقلب فيه وجوههم في النار. قائلين: {ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} أي: في الدنيا ندامة وحسرة ما فات.
ثم قال: {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} أي: وقال هؤلاء الذين تقدمت صفتهم في النار: يا ربنا إنا أطعنا في الكفر سادتنا، أي أئمتنا وكبراءنا.
{فَأَضَلُّونَا السبيلا} أي: أزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى.
{رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي: عذّبهم مثلي عذابنا.
{والعنهم لَعْناً كَبِيراً} أي: أخزهم خزياً كبيراً.
ففي هذه الآية زجر عن التقليد لأنهم لو نظروا لظهر لهم أنهم على ضلال، ولكنهم قلدوا ضلالاً فضلوا.
ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى} أي: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم(9/5874)
بقول يكرهه، فتكونوا أمثال بني إسرائيل الذين رموا موسى بعيب كذب، فبراءه الله مما رموه به.
{وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} أي: ذا منزلة ودرجة رفيعة كلمه تكليماً.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كانَ مُوسَى رَجُلاً حَيِيّاً فَكَانَ لا يُرَى مُتَجَرِّداً، فقالَ بَنُو إِسْرائيلَ: إنَّهُ آدرُ، فذَهَبَ مُوسَى يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَمَرَّ الحَجَرُ يَسْعَى بِثِيَابِهِ فَتَبِعَهُ مُوسَى فقالَ: ثِيابِي حَجرٌ! ومرَّ بمجلسِ بني إسرائيل فَرَأَوْهُ فبرَّأه الله مما قالوا " وكذلك ذكر ابن عباس وابن زيد وغيرهما.
وعن أبي هريرة أنه رموه بالبرص فبرأه الله من ذلك.
وروي عن البي عليه السلام أنه قال: " إنَّ موسى كانَ رجلاً حَيِياً سِتِّيراً لا يكاد يُرى من جِلدِهِ شَيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل/، وقالوا: ما استَتَرَ هذا إلاَّ من عَيبٍ بِجلدِهِ، إِمَّا أَدْرَة وإِمَّا بَرَصٌ، وإمَّا آفة، فبرَّأه الله مما قالوا بِالحَجَرِ ".(9/5875)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته وكان أشد حُبّاً لنا منك وأَلْيَنَ لنا منك، فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته، حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرأه الله من ذلك فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع أحد من خلق الله على قبره إلا الرَّخم فجعله الله أصَمَّ أَبْكَمَ ".
ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} أي: لا تعصوه.
{وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أي: قولوا في رسول الله قولاً عدلاً حقاً. قال مجاهد.
وقال عكرمة: " قولاً سديداً " لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق.
ثم قال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: يوفقكم لصالح الأعمال.(9/5876)
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: لا يعذبكم عليها بعد توبتكم منها.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} أي: فيما أمر به ونهى عنه.
{فَقَدْ فَازَ} أي: نجا وظفر بالكرامة.
{فَوْزاً عَظِيماً} أي: نجا نجاة عظيمة.
{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض} الآية.
قال ابن جبير والحسن الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على عباده، فلم تقدر على حملها، وعرضت على آدم فحملها. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً} أي لنفسه، {جَهُولاً}. أي جاهلاً بالذي له فيه الحظ. قال جويبر: فلما عرضت على آدم، قال: أي رب [وما الأمانة]؟ فقيل له: إن أدّيتَها جُزِيتَ وإن أضَعتَها عُوقِبْتَ، قال أي رب، حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية فأُخْرِجَ منها.
وروي هذ القول عن ابن عباس، قال ابن عباس: عرضت الفرائض على السماوات والأرض والجبال فكرهن ذلك وأشفقن من غير معصية، ولكن تعظيماً(9/5877)
لدين الله ألا يقيمن به، ثم عرضها على آدم فقبلها. والحمل ها هنا من الحمالة والضمان، وليس من الحمل على الظهر ولا في الصدر.
وقيل: الأمانة ها هنا أمانات الناس والصلاة والصوم والوضوء. وهذا القول كالأول لأنه كله فروض وأداء أمانات الناس فرض فهو القول الأول بعينه.
وقيل: هو ائتمان آدم ولده قاببيل على أخيه هابيل فقتله، رواه السدي عن ابن عباس في حديث مرسل.
وقيل: المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة والجن والإنس، فأبين أن يحملنها، أي يحملن وزورها، وحملها الإنسان، يعني الكافر والمنافق.
وذكر القتبي: أن الله جل ذكره عهد إلى آدم وأمره حرم عليه وأحل له فعمل بذلك، فلما حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من سيخلفه بعده ويقلده من الأمانة ما قلد، فأمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال بالشرط الذي شرطه الله عليه من الثواب إن وفى والعقاب إن عصى، فأبين أن يقبلن ذلك شفقاً من عقاب(9/5878)
الله، ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فقبله بالشرط لجهله لعاقبة ما تقلد. ولذلك ظهر إيمان المؤمن ونفاق المنافق وكفر الكافر، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات} إلى آخر السورة.
فقال أبو إسحاق في الأمانة: إن الله جل ذكره ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأما السماوات والأرض والجبال فأعلمتا بطاعتهن له، قال تعالى:
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} الآية،
{قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]. وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم (والملائكة) يسبحون لله، فأعلمنا أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وتأديتها، - وأداؤها طاعة الله فيما أمر به وترك المعصية - وحملها الإنسان.
قال الحسن: الكافر والمنافق حملا الأمانة، أي: خاناها ولم يطيقاها. وتصديق(9/5879)
ذلك قوله: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين} الآية.
وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره عرض على السماوات أن ينزل قطرها في إبَّانِه بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الأرض أن يخرج نباتها وأنهارها وما يكون/ منها في آجاله بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الجبال أن تفجر أنهارها وتخرج ثمارها وأشجارها على أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت وأشفقت الجميع من العقاب، وعَرض على آدم أداء الفرائض على أنه له الثواب وعليه العقاب، قال: بين أذني وعاتقي فولك معه ملائكة يسددونه ويوفقونه.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.
قال الضحاك: ظلوماً لنفسه، جاهلاً فيما احتمل بينه وبين ربه.
وقال قتادة: ظلوماً لها - يعني الأمانة - جهولاً عن حقها.
ثم قال: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات} إلى آخر السورة، أي: حملها الإنسان كي يعذب الله هؤلاء، ويتوب على هؤلاء. وقرأ الحسن: " وَيَتُوبُ " بالرفع.
ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً} أي: ساتراً لذنوب المؤمنين والمؤمنات.(9/5880)
{رَّحِيماً} أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها.
قال قتادة: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ": هما اللذان خاناها اللذان ظلماها - يعني الأمانة - هما المنافق والكافر " ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات " هما اللذان أدياها. وكذلك كان الحسن يقول.(9/5881)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبأ
مكية
قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات} إلى كقوله: {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}.
معناه: جميع الحمد من جميع الخالق لله الذي هو مالك السماوات والسبع والأرضين السبع والذي له الحمد في الآخرة كالذين له في الدنيا.
وقيل: معناه: هو قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10].
وقيل: هو قول أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74].
ثم قال: {وَهُوَ الحكيم الخبير} أي: الحكيم في تدبير خلقه، الخبير بهم.(9/5883)
ثم قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} أي: مايدخل فيها من قطر وغيره.
[{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من نبات وغيره.
{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} أي من وحي ومطر وغيره].
{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: من أمر وملائكة وغير ذلك. ويعرج: يصعد، ويلج: يدخل.
فالمعنى في ذلك: أنه تعالى ذكره العالم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض مما ظهر ومما بطن.
ثم قال: {وَهُوَ الرحيم} أي: بأهل التوبة من عباده، لا يعذبهم بعد توبتهم. {الغفور} لذنوبهم إذا تابوا منها.
ثم قال تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} أي: لا نبعث بعد موتنا، إنكاراً منهم للجزاء وتكذيباً.
ثم قال تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي: قل لهم يا محمد: بل وحق ربي لتأتنيكم الساعة ولتبعثن للجزاء بأعمالكم.
ثم قال تعالى: {عَالِمِ الغيب} أي: هو عالم الغيب، أي: ما غاب عنكم من إتيان الساعة وغيرها.
ومن رفعه. فعل إضمار مبتدأ، أي: هو عالم الغيب. ومن خفضه. جعله(9/5884)
نعتاً لربي.
ثم قال: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أي: لا يغيب عنه شيء وإن قَلَّ أوْ جَلَّ، وهو قوله: {وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} أي: لا يغيب عنه ما هو أصغر من زنة ذرة ولا ما هو أكبر منها أين كان ذلك.
ثم قال: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: كل ذلك (مثبت) في كتاب بَيِّنٍ للناظر فيه الله قد أثبته وأحصاه وعلمه، فلم يغب عنه منه شيء.
وأجاز نافع الوقف على: قُلْ بَلى.
وقال الأخفش: الوقف " لتأتِيَنكُمْ " على قراءة من رفع " عالم " ومن قرأ بالخفَ في " عالم " لم يقف على " لتأتينكم ".
ثم قال: {لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: لا يغيب عنه شيء من الأشياء إلا وهو في كتاب مبين، ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة.
وقيل: التقدير: لتأتينكم ليجزي المؤمنين.
ثم قال: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي: ستر على ذنوبهم التي تابوا منها.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: وعيش هنيء في الجنة.(9/5885)
ثم قال: {والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}.
قال قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه.
فالمعنى: ظنوا أنهم يفوتونه ويسبقونه فلا يجازيهم.
يقال عاجزه وأعجزه إذا غلبه وسبقه.
ومن قرأ " مُعَجّزِيَن ". فمعناه: مثبطين للمؤمنين، قاله ابن الزبير.
فالمعنى: أثبتَ الله ذلك في الكتاب ليثيب المؤمنين، وليجيز الذين سعوا في آيات معاجزين، أي: سعوا في إبطال/ أدلته وحججه مفاوتين يحسبون أنهم يسبقون الله فلا يقدر عليهم.
وقيل: معاندين مشاقين.(9/5886)
قال ابن زيد: معجزِين: جاهدين في بطلان آيات الله، وهم المشركون، وهو قوله تعالى عنهم: أنهم قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ثم قال تعالى ذكره: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}.
قال قتادة: الرجز: سوء العذاب، والأليم: الموجع.
ثم قال تعالى ذكره: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق} أي: أثبت ذلك في كتاب مبين ليجزي المؤمنين وليرى الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك يا محمد هو الحق، وهو القرآن، وهم المسلمون من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه الذين قرءوا الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن كالتوراة والإنجيل.
قيل: عني بالذين أوتوا العلم: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.
ثم قال: {ويهدي إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} أي: وهو يهدي إلى طريق الله ودينه.
ولا يحسن أن يُعطف " يهدي " على " ويرى "، لأنه لم يثبت ذلك ليهدي جميع الخلق إلى دين الله.(9/5887)
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} الآية أي: قال بعض الكفار لبعض، متعجبين من البعث بعد الموت، منكرين له، هل ندلكم أيها الناس على رجل يخبركم بالبعث بعد الموت، وكونكم ممزقين بَعْدُ قد أكلتكم الأرض وصرتم عظاماً ورفاتاً. والعامل في " إذا " فعل مضمر، أي: إذا مزقتم تبعثون.
وقيل: العامل " مُزّقتم " على أن يكون هذا للمجازاة فلا تضاف إلى ما بعدها.
وإذا لم تقفْ عمل ما بعدها فيها. وأكثر ما يجازى بإذا في الشعر، ولا يجوز أن يعمل فيها " يُنَبِئكُم " لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، ولا يعمل فيها ما بعد أن، لأن " أن " لا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولة.
ثم قال: {أفترى عَلَى الله كَذِباً} أي: قال المشركون: افترى محمد في قوله: إنا نبعث.
{عَلَى الله كَذِباً} أي: اختلق هذا القول من عند نفسه وأضافه إلى الله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي: به جنون، فتكلم بما لايكون ولا معنى له.
ثم قال تعالى: {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب} أي: ما الأمر كما قال هؤلاء المشركون في محمد، ولكن هم في عذاب الآخرة وفي الضلال البعيد عن الحق، فمن أجل ذلك يقولون هذا المنكر.
ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض} أي: ألم ينظر(9/5888)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
هؤلاء المكذبون بالبعث إلى ما قدامهم من السماء والأض وما خلفهم من ذلك، فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن الأرض والسماء محيطان بهم من كل جانب، فيرتدوا عن جهلهم وتكذيبهم بآيات الله حذاراً أن يأمر الله الأرض فتخسف بهم، أو يسقط عليهم قطعة من السماء فتهلكهم، وهو قوله: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} هذا كله معنى قول قتادة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي: إن في إحاطة السماء والأرض لجميع الخلق لدلالة على قدرة الله لكل عبد أناب إلى الله بالتوبة.
قال قتادة: المنيب: المقبل التائب.
وقيل: المعنى: أو لم يتأملوا ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض من عظيم القدرة في خلق ذلك فيعلموا أن الذي خلق ذلك يقدر على بعثهم بعد موتهم، وعلى أن يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم قطعة من السماء.
قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} إلى قوله: {مِّنْ عِبَادِيَ الشكور}.
أي: وقد أعطينا داود منا فضلاً، وقلنا للجبال {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} أي: سبحي معه إذ سبح، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد.
والتأويب في كلام العرب: الرجوع، ومبيت الرجل في منزله وأهله، وأصله من(9/5889)
سرعة رجع أيدي الإبل وأرجلها في السير الحثيث، وهو التأويب.
وَقُرِئَتْ " أوبِي " بالتخفيف. من آب يؤوب، بمعنى تصرفي معه.
ثم قال: {والطير} فمن نصب فعل معنى: سخرنا له الطير، هذا قول أبي عمرو.
وقال الكسائي: هو معطوف على " داود " أي: وآتيناه الطير.
ونصبه عند سيبويه على موضع يا جبال.
ويجوز أن يكون مفعولاً معه، فيكون المعنى: يا جبال أوبي معه ومع الطير.
وقد قرئ بالرفع/ على العطف على لفظ الجبال أو على المضمر في " أوبي "(9/5890)
وحسن ذلك لما فرقت بـ معه.
وقوله: {أَنِ اعمل} أن لا موضع لها بمعنى أي: ويجوز أن تكون في موضع نصب على معنى: لأن اعمل.
وقيلأ: التقدير: وعهدنا إليه بأن أعمل، وقاله الطبري.
ثم قل: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد}.
قال قتادة: سخر الله له الحديد بغير نار، فكان يسويه بيده ولا يدخله ناراً ولا يضربه بحديد.
وروي أنمه كان في يده بمنزلة الطين. وهو أول من سخر له الحديد.
وقيل: أعطاه الله قوة يثني به الحديد.
قال الحسن: كان داود يأخذ الحديد فيكون في يده بمنزلة العجين.
وقوله: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} أي: دروعاً كوامل توام.
قال قتادة: كان داود أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح.(9/5891)
ثم قال تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السرد}.
قال قتادة: كان يجعلها بغير نار ولا حديد، والسرد: المسامير.
وقال ابن عباس: السرد حَلَق الحديد.
وقال ابن منبه.
والسرد في اللغة كل ما عمل متسقاً متتابعاً يقرب بعضه من بعض ومنه سرد الكلام. ومنه قيل للذي يعمل الدروع زَرَّادٌ وسِرَّاد.
قال وهب بن منبه: كان داود يخرج متنكراً يسأل عن سيرته في الناس فيسمع حسن الثناء عليه، فيزداد تواضعاً لله، وعلى الخير حرصاً، قال: فخرج ذات يوم وبعث الله ملكاً إليه في صورة آدمي، فقال له داود: كيف ترى سيرة هذا العبد داود - صلى الله عليه وسلم -، وهو يظن أنه آدمي، فقال له الملك: نِعْمَ العبد داود، ما أنصحه لربه وأقربه من المساكين، لولا خصلة في داود ما كان لله عبد مثل داود، قال له داود: وما تلك الخصلة؟ قال: إنه يأكل من بيت المال وما من عبد أقرب إلى الله جل ذكره من عبد يأكل من كد يمينه، فانصرف داود ودخل محرابه وابتهل إلى ربه وسأله أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال، فعلمه الله صنعة الدروع، فكان أول من عمل الدروع وألان(9/5892)
الله له الحديد فكان في يده بمنزلة العجين.
والمعنى على قول مجاهد: وقدر المسامير في حلق الدروع حتى تكون بمقدار لا يضيق المسمار وتضيق الحلقة فتقسم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتصغر المسمار وتدقه فتسلى الحلقة.
ثم قال: {واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أيْ اعمل يا داود أنت وأهلك عملاً صالحاً، إني بعملكم بصير.
والطير وقف ولا تقف على الحديد أن مابعده متعلق به. ولا تقف على " بصير " إلاّ على قراءة من رفع. " الريح ". فإن نصبته فهو معطوف عند الكسائي، على " وألنا ".
والتقدير عن الزجاج: سخرنا له الريح.(9/5893)
ثم قال: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} أي: سيرها به إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، وسيرها به من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر، قاله قتادة وغيره.
قال ابن يد: كان لسليمان مركب من خشب، وكان له فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت، يركب معه فيه الإنس والجن، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ظل المركب هم والعُطَّارُ - والعصار الريح العاصف - فإذا ارتفع ظله أتت الرُّخاء فسارت به وصاروا معه، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويسمي عند قوم بينهم وبينه شهر فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلم معه الجيوش والجنود.
ثم قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي: وأذينا له عين النحاس كانت بأرض اليمن، قاله قتادة، قال: وإنما ينتفع الناس اليوم مما أخرج الله لسليمان.
ثم قال: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: منهم من يطيعه، يأتمر لأمره فيعمل بين يديه لما يأمره به طاعة لله جل ذكره.
فمعنى {[بِإِذْنِ] رَبِّهِ}: أمر الله له بذلك، وتسخيره له إياه. فأمن في موضع رفع الابتداء والمجرور المتقدم الخبر ويجوز أن تكون " من " في موضع نصب على(9/5894)
العطف على ما قبله.
والتقدير: وسخرنا له من الجن من يعمل. فتقف على " القطر " في القول الأول، ولا تقف عليه في القول الثاني.
ثم قال: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي: ومن يزل ويعدل من الجن عما أمر به من طاعة سليمان.
{نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} في الآخرة وهو عذاب النار المتوقدة.
ثم قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ} أي: من كل شيء مشرف.
والمحراب في اللغة كل شيء مشرف مرتفع، وكل موضع شريف، ومنه قيل/ للموضع الذي يصلي فيه الإمام محرام لأنه يعظم ويشرف ويرفع. وقيل: المحراب مقدم كل بيت ومسجد ومصلى.
قال مجاهد: المحاريب في الآية: بنيان دون القصور.(9/5895)
وقال قتادة: " محاريب ": قصور ومساجد.
قال الضحاك: " محاريب ": مساجد.
وقال ابن زيد. محاريب مساكن وقراء قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب} [آل عمران: 39]. أي: في مسكنه، وقد تقدم ذكره.
ثم قال: {وَتَمَاثِيلَ} قال مجاهد: تماثيل من نحاس.
وقال الضحّاك تماثيل: تماثيل الصور.
وهذا عند أكثر العلماء منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل الصورة، وتوعده لمن عملها أو اتخذها. وكان في ذلك صلاح في الدين أنه بعث على الله عز وجل والصور تعبد،(9/5896)
فكان الأصلح إزالتها.
وقد قال قوم: عمل الصور جائز بهذه الآية وبما صح عن (المسيح) عليه السلام.
ثم قال تعالى: {وَجِفَانٍ كالجواب} أي كالحياض. كانوا ينحتون له ما يشاء من جفان كالحياض، وهو جمع حابيَّة يجيبى فيها الماء، أي يجمع.
وروي عن مجاهد أن الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها الماء.
وقاله أيضاً ابن عباس.
وعنه: كالحياض.(9/5897)
وهو قول الحسن وقتادة والضحاك.
وقيل: إنها كانت تُعمل له كهيئة الطير.
ثم قال: {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} أي: ثابتات لا تحرك من موضعها لعظمها قال ابن القاسم: قال مالك: " وجفان كالجواب: " كالجوبة من الأرض.
قال: وقدور راسيات " هي قدرو لا تحمل ولا تحرك.
والجوبة من الأرض: الموضع يستنقع فيه الماء.
قال ابن زيد: قدور أمثال الجبال من عظمها يعمل فيها الطعام لا تحرك ولا تنقل، كما قال الجبال راسيات.
وعن ابن زيد أيضاً: أنها قدور من نحاس تكون بفارس.
وقال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من الجبال حجارة.
ثم قال تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} أي: اعملوا لله الشكر، أي: من أجل الشكر على نعمه عليكم، فيكون شكراً مفعولاً من أجله.(9/5898)
ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: اشكروا له شكراً، وقام " اعملوا " مقام اشكروا.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد يوماً إلى المنبر قائلاً: " اعملوا آل داود شكراً " فقال: ثلاثة مَنْ أُوتيهن فقد أُوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وَخَشية الله في السرو العلانية ".
وقال مجاهد: لما قال الله جل ذكره: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}، قال داود لسليمان: إن الله قد ذكر الشركر، فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا قدر، قال: فكافني صلاة الظهر قال: نعم، فكفاه.
قال الزهري: اعملوا آل داود شكراً، قولوا: الحمد لله.
وروي أن داود عليه السلام كان قد جزأ الصلاة على أهل بيته وولديه ونسائه وأهله، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داود يصلي فعمتهم هذه الآية(9/5899)
{اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}.
وروي أن محرب داود صلى الله عليه وكان لا يخلو من مصل، فإذا أراد المصلي حاجة لا يخرج حتى يأتي غيره من آل داود يصلي في المحراب.
وقال محمد بن كعب: الشكر تقوى الله والعمل بطاعته. وقيل: كل عمل من الخير شكر.
وروي أن داود صلى الله عليه قال: إلهي كيف لي أشكرك ولا أصل إلى شكرك إلا بمعونتك، فأوحى الله إليه: يا داود، ألسْتَ تَعْلَمُ أن الذي بك من النعم مني؟ قال بلى يا رب، قال: [فإن الرضى بذلك منك، شكر].
ثم قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} أي: قليل منهم الموحدون المخلصون(9/5900)
العمل لله.
وذكر أبو عبيد في كتاب " مواعظ الأنبياء " أنه لما نزل على داود {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} قال داود: يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر، فالنعمة منك والشكر منك، فكيف أطيق شكرك؟ مقال: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي.
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر والصوم شكر، وكل عمل يعمل لله شكر، وأفضل الشكر الحمد.
قال محمد بن كعب: كل عمل يبتغى به وجه الله فهو شكر.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " داود "، ويبتدئ/ بـ " شُكْراً "، على معنى: أشكروا شكراً.(9/5901)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
ولا يجوز عند غيره لأن اعملوا قام مقام اشكروا فلا يفرق بينهما.
قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} إلى قوله: {إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين}.
أي: فلما جاء أجل سليمان فمات، ما دّلَّ الجن على موته إلا دابة الأرض، وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها، وهي المنسأة.
قال قتادة: أكلت عصاه حتى خر.
وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وأصل المنسأة الهمز لأنها مشتقة من نسأت الدابة إذا ضربتها بعصا أو غيرها لتسير.
ولكن نافعاً وأبا عمرو أبدلا من الهمزة ألفاً لغة مسموعة. وليس البدل في وحو هذا بالمطرد إلا في الشعر.(9/5902)
وقد كان أبو عمرو يقول: لست أدري مِمَّ هي إلا أنها غير مهموزة. فرأى ترك همزها على طريق الاحتياط مع نقله ذلك عن أئمته أولاً وإنما كان ترك الهمزة للاحتياط، إذ جهل الاشتقاق لأن كل ما يهمز يجوزك ترك همزة، وليس كل ما لا يهمز يجوز همزه.
ثم قال: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} أي: فلما سقط سليمان عند انكسار الصعا تبينت الجن.
{أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} أي: علم أن الجن لم تكن تعلم الغيب، لأنها لو كانت تعلم الغيب ما بقيت في العمل والتعب لسليمان وهو ميت.
قال قتادة: كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب، فلما مات سليمان ولم تعلم الجن بموته وبقيت في السخرة بجهد طائعة لميت عاملة له، فعند ذلك تبينت الجن للإنس أنهم لا يعلمون الغيب. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان سليمان نبي الله إذا صلى، رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسْمُكِ؟ فإن كانت(9/5903)
تُغرَسُ غُرِسَتْ وإن كانت لِدَواءٍ كُتِبَتْ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه فقال: ما اسمك؟ قالت الخروب فقال لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب أهل هذا البيت، فقال: اللهم عَمّ على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولاً، ومات وهو متوكئ وهم لا يعلمون، فسقطت فعُلِمَ أن الجن لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة فشكرت الجن الأرضة ".
وفي مصحف عبد الله: " تبيَّنَتِ الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وأن في قوله: " أن لو كانوا " في موضع رفع على المبدل من الجن. وقيل: هي في موضع نصب على معنى بأن.(9/5904)
قيل: المعنى: فلما خرَّ تبين أمر الجن، فأن بدل من الأمر على المعنى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: " أن سليمان كان يَتَجَرَّد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر، يُدْخِلُ طعامَه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فمات متكئاً على عصاه لا يعلم أحد بذلك، والشياطين يعملون له يخافون أ، يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تَجتَمِع حول المِحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه ومن خلفه فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق، فمر ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع لم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا مِنْسَأَتَهُ - وهي العصا بلسان الحبش - قد أكلتها الأرضة. ولم يعلموا منْذُ كَمْ مات، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة ".
وروي أن الجن كانت تظن أن الشياطين كانوا يعلمون الغيب، فأحب الله أن يبين لهم أن الغيب لا يعلمه غيره، فمات سليمان صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على عصاه، والشياطين(9/5905)
دائبة في العمل له وفي الطاعة، فأقام أربعين يوماً متكئاً على العصا فبعث الله عز وجل الأرضة - وهي السُّوسَة - فأكلت العصا فانكسرت فخر سليمان، فلما خر تبينت الجن أن الشياطين لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وقت موت سليمان، ولم يتمادوا في العمل والسُخرة له وهو ميت.
ويروى أن الشياطين قالت للأرضة لو كُنْتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب/، ولكننا سننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون لها ذلك حيث كانت، وذلك هو الطين الذي يكون في جوف الخشب تأتيها به الشياطين شكراً لها.
وذكر ابن وهب عن أبي شهاب: أنه لما توفي داود عليه السلام أقبلت الطَّيْرُ فصفت عليه حتى حبست عن الناس الرَّوْحَ، ووجدوا غماً شديداً، فقالوا لسليمان: يا نبي الله هلكنا الغنم، وأمر سليمان الطيرَ فقبضت جناحاً وأرسلت جناحاً فدخل عليهم الرَّوْح.
ثم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}.
أي: كان لهم في ذلك دلالة وعلامة أنه لا رب لهم إلا الذين أنعم عليهم تلك النعم " وجنتين " بدل من آية.(9/5906)
وسبأ في فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو اليَمَنِ، " كان لَه عشرة من الولد، تَيامن منهم سِتَّةٌ: كندة وَحِمْيَرُ والأزْدُ وَالأشْعَرِيُّونَ ومَذحِجُ وَأنْمَارُ الذين منهم بجيلة وخثعم، وتشاءم منهم أربعة: عَامِلَةُ وجُذام ولخم وغسان ".
قال قتادة: كانت لهم جنتان بين جبلين، وكانت المرأة تخرج بمكتلها على رأسها تمشي بين جبلين، فيمتلئ مِكتَلُها وما مسّت بيدها شيئاً، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها حدث فنقبت عليهم - يعني السد - فغرقتهم، فما بقي لهم إلا أثلٌ وشيء قليل من سدرٍ.
وقيل: إن قربتهم كان لا يُرى فيها ذبابة ولا بعوض ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرّكْبُ يأتون في ثيابهم القمل والذباب فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتهم(9/5907)
فيموت ذلك، قاله ابن زيد قال: وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت القفة بأنواع الفاكهة ولم يتناول شيئاً بيده.
ثم قال: {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ} إي: كلوا مما أنعم عليكم به من هاتين الجنتين وغيرهما، واشكروا نعمه على ذلك.
ثم قال: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: هذه بلدة طيبة لا سبخة. {وَرَبٌّ غَفُورٌ} لذنوبكم إن أطعتموه.
ثم قال تعالى: {فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} أي: فأعرضت سبأ عن طاعة الله وقبول ما أتاهم به الرسل، فأرسلنا عليهم سيل العرم.
قال وهب بن منبه: بعث الله جل جلاله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً، فكذبوهم فأرسله عليهم سيل العرم.
قال ابن عباس: " العرم " الشديد السيل.
وقال عطاء اسم الوادي.(9/5908)
وروي ذلك عن ابن عباس قال: وَادٍ كان باليمن وكان يسيل إلى مكة. قال قتادة: ذكر لنا أن العرب وادي بسبأ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية فعمدوا فَسَدُّوا ما بين الجبلين بالقارِّ والحجارة، وجعلوا عليه أبواباً وكانوا يأخذون من مائة ما احتاجوا ويسدون ما لا يحتاجون. قال الضحاك: كانت أودية اليمن تسيل كلها إلى وادي سبأ وهو العرم فسَدُّوا ما بين الجبلين فحجزوه بالصخر والقار، فاستد زماناً من الدهر.
قال قتادة: فأرسل الله عليهم جُرَذَاً فهدم عرمهم، أي سدهم، ومزق الله جناتهم وخرب أرضهم عقوبة لهم.
وقيل: بل كثر الماء عليهم وغلب حتى هدم السد فغرق الجنات وأفسدها.
وعن ابن عباس: أنه إنما حاد السيل الذي يسقي جنتيهم عن مجراه فلم يسقها فهلكت.
وروي أن العرم مما بنته بلقيس صاحبة سليمان، وذلك أن قومها اقتتلوا على(9/5909)
الماء فاعتزلتهم، فسألوها الرجوع على أن يطيعوها فرجعت وأمَرَتْهُم فسدوا ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض، وبَنَتْ من دونه بِرْكَةً ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، فإذا أتى المطر احتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فيجري ماؤه في البركة، ثم كذلك حتى ينتفعوا بجميع الماء.
والعرم بكلام اليمن المِسْنَاة.
وقال المبرد: العرم كل ما حاجز بين شيئين.
وروي أن الله جل ذكره أرسل عليهم ماء أحمر فشق السد وهدمه وحفر الوادي، فارتفعت حفتاه عن الجنتين فغاب عنهما الماء فيبستا، ولم يكن الماء الأحمر من السد، إنما كان عذاباً أرسله الله عليهم من حيث شياء.
ثم قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} أي: جعلنا/ لهم مكان الجنتين اللتين كانتا تثمر عليهم أطيب الفواكه {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ}.
قال ابن عباس: هو الأراك. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.(9/5910)
وقال ابن زيد: أُبْدِلُوا مكان العنب أرَاكاً، ومكان الفاكهة أثْلاً، وبقي لهم شيء من سدر قليل. فالأثل على هذا ثمر الأراك.
وقال الخليل: الخَمْطُ الأراك، فهذا يدل على قطافه كأنه قل ثم أراك. ومن نون جعل الثاني بدلاً من الأول.
قال المبرد: الخَمْطُ كل ما تغير إلى ما لا يشتهى، يقال خمط اللبن إذا حمض.
وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة فيها مرارة ذات شوك.
وقال القُتَبِي: يقال للحامضة خمطة، وقيل: الخمطة التي قد أخذت شيئاً من الريح.
والأثْلُ: الطْرفاء، قاله ابن عباس.
وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء.(9/5911)
وقيل: هو السَّمُرُ.
ثم قال: {ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} أي: عاقبناهم بكفرهم بالله ورسله، أي: هذا الذي فعلنا بهم جزاءً منا لهم بكفرهم.
وقيل: التقدير: وجزيناهم ذلك بكفرهم.
ف {ذلك} في موضع نصب على هذا، وفي موضع رفع على القول الأول على الخبر للابتداء المحذوف.
ثم قال: {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} أي: وهل يكافأ إلا من كفر بالله، فأما جاء المؤمنين فهو تفضل من الله لا مكافأة، لأنه جعل لهم بالحسنة عشراً، فذلك تفضل منه، وجعل للمسيء بالواحدة واحدة مكافأة له على جرمه، فالمكافآت لأهل الكبائر. والكفر، والمجازاة لأهل الإيمان مع التفضل.
قال مجاهد: {نجازي} يعاقب.
قال قتادة: إذا أراد بعبد كرامة يقبل حسناته، وإذا أراد بعيد هواناً أمسك عليه(9/5912)
ذنوبه حتى يوافى بها يوم القيامة.
وقيل: المعنى: ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصْطِلاَمُ والهلاك إلا من كفر.
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ، قالت: فقلت يا ني الله، فأين قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الإنشاق: 8] قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقِش الحِسَابَ هَلَكَ ".
ثم قال تعالى ذكره: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} أي: مما أنعم الله به على هؤلاء، أي: جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها - وهي الشام - قرى ظاهرة، قاله مجاهد وقتادة.(9/5913)
قال ابن عباس: هي الأرض المقدسة.
وقوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: متصلة متقاربة تتراءة من كان في قرية رأى القرية التي تليها لقربها منها.
قال الحسن: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح إلى قرية أخرى.
قال الحسن: كانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها تشتغل بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار، يرقد من غير أن تحترف شيئاً، بل يمتلئ الزنبيل مما يتساقط من الثمار في حال مسيرها تحت الثمار لاتصال بعض الثمار ببعض.
وقال ابن عباس: {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: عربية بين المدينة والشام، وهو قول الضحاك.
وقال ابن زيد: كان بين قريتهم وبين الشام قرى ظاهرة.
قيلأ: وإن كانت المرأة لتخرج ومعها مغزلها ومِكْتَلها على رأسها، تروح من قرية إلى قرية وتغدوا أو تبيت في قرية، لا تحمل زاداً ولا ماءً فيما بينها وبين الشام.(9/5914)
وقال المبرد: الظاهرة: المرتفعة.
ثم قال: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي: جعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها مسيراً مقدراً من منزل إلى منزل، لا ينزلون إلا في قرية ولا يغدون إلا من قرية.
وقال الفراء: جعل الله لهم بين كل قريتين نصف يوم.
ثم قال: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي: سيروا في هذه القرى التي قدرنا فيها المسير إلى القرى التي باركنا فيها - وهي بيت المقدس - آمنين، لا تخافون ظلماً ولا جوعاً ولا عطشاً.
قال قتادة: آمنين لا يخافون ظلماً ولا جوعاً، إنما يغدون فيقيلون في قرية ويروحون، فيأتون قرية أهل خير ونهر، حتى لقد ذكر لنا: أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها وتمتهن بيدها فيمتلئ مكتلها من الثمرة قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئاً، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً ولا سِقاءً مما بسط الله للقوم.
فهذا الذي ذكر الله من قصة سبأ وغيرها، إنما ذكره لنا ليبين لنا إحسان المحسن وثوابه، وإساءة المسيء وعقوبته/، ليتجافى الناس عن المعاصي ويرغبوا في الطاعة ويسارعوا إلى ما رغَّبهم فيه، ويزدجروا عن ما نهاهم عنه ويخافون أن يحل بهم ما حل بمن قص عليهم عقوبته، ويبادروا إلى فعل من قص عليهم كرامة لهم، فهي مواعظ وأمثال تكرر في القرآن ليتنبه لها الغافل ويجتهد المتنبه إحساناً من الله تعالى ونعمة علينا،(9/5915)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]. وقال: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45]. وهذا كثير مكرر للأفهام في القرآن.
ثم قال تعالى: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}.
قرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأبو صالح: (رَبُّنا) بالرفع " بَاعَدَ بالفتح وألِفِ على الخبر.
وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر: (رَبُّنَا) بالرفع " بَعَّدَ " بالتشديد وفتح العين والدال. وقد رويت عن ابن عباس وهو خبر أيضاً.
وقرأ سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن: " رَبَّنَا " بالنصب " بَعُدَ " بضم العين وفتح الدال بين بالرفع.(9/5916)
ورواه الفراء وأبو إسحاق الزجاج بَيْنَ وهو خبر أيضاً، ومعانيها ظاهرة، والمعنى على قراءة من جزم الفعل أنهم بطروا وجهلوا قدر النعمة عليهم، فسألوا أن يجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا لها، فعجل لهم الإجابة كما عجل للقائلين: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} [الأنفال: 32] الآي فتقلهم يوم بدر، فكذلك هؤلاء مزقوا بين الشام وسبأ.
قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام، والأزد بعمان وخزاعة بتهامة، وفرقوا أيادي سبا وتقطعوا في البلدان بظلمهم لأنفسهم وكفرهم بنعمة الله.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: فما تقدم من النعم على هؤلاء والانتقام منهم لما بطروا النعمة وكفروا، لدلالات وعظات لكل من صبر على طاعة الله ومحبته وشكر على نعمته.(9/5917)
قال مُطَرِّف: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. وصبار شكور بناءان للمبالغة.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي: صدق عليهم في ظنه، وذلك أنه ظن ظناً على غير يقين فكان ظنه كما ظن بكفر بني آدم وطاعتهم له، منهم أهل الجنتين وغيرهم.
ومن شدد " صدق " ونصب " ظنه " بوقوع صدق عليه، لأن ظنه كان غير يقين، فصدقه بكفر بني آدم واتباعهم له.
قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصاً، وإنما ظن ظناً فكان كما ظن بوسوسته لهم.
والمعنى: أن إبليس لما أنذره الله قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولأحتنكن ذرية آدم، وذلك ظن منه أنه يكون، لم يتيقن ذلك. فلما وصل من بني آدم إلى ما أراد من(9/5918)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
إضلالهم صدق ظنه فيهم.
وقرئ " صدق " بالتخفيف، و " إبليس ظنّه " بالرفع فيهما على أن الظن بدل الاشتمال من إبليس.
وقوله: {إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين} أي: لم يصدق فيهم ظنه ولا أطاعوه، وثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
قال ابن عباس: هم المؤمنون كلهم.
وقيل: هم بعض المؤمنين لقوله: " إلا فريقاً " ولم يقل إلا المؤمنين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد اتبعوا إبليس فصدق عليهم (ظنه) لأنه لم يصدق عليهم ظنه حتى اتبعوه.
ومن خفف صدق ونصب الظن فعلى تقدير حرف الجر، أي في ظنه.
قوله تعالى ذكره: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} إلى قوله: {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.(9/5919)
أي ما كان لإبليس على أصحاب الجنتين وغيرهم ممن اتبعه من حجة يضلهم بها إلا سلطناه عليهم لنعلم من يطيعه فينكر الجزاء والبعث ممن يعصيه فيؤمن بالجزاء البعث، وذلك أمر قد علمه الله جل ذكره، ولكن المعنى: لنعلم ذلك علم مشاهدة، فعليها يقع الجزاء والثواب.
وقيل: المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم كما قال: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [القصص: 62]، أي على/ قولكم وزعمكم.
فقوله: " إلا لنعلم " ليس في الظاهر بجواب لقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي: من حجة لكنه محمول على المعنى، لأن المعنى {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ}: ما جعلنا له عليهم من سلطان إلا لنعلم. فبهذا يتصل بعض الكلام ببعض ويظهر المعنى.
ثم قال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} أي: وربك يا محمد على أعمال هؤلاء الكفرة وغير ذلك من الأشياء كلها حفيظ لا يغرب عنه علم شيء، مجاز جميعهم بما كسبوا، أي في الدنيا من خير وشر.
ثم قال تعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله} أي: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من قومك: ادعوا من زعمتم أنه شيك لله فاسئلوهم يفعلوا بكم بعض ما فعل بهؤلاء الذين تقدم ذكرهم من خير ونعمة فإنهم لا يملكون زنة مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: فليس يملكون شيئاً على الانفراد ولا على الشركة، فكيف يكون من هذه حالة شريكاً لمن يملك جميع ذلك، وإذا لم تقدر ألهتكم على شيء من ذلك، فأنتم مبطلون في دعواكم. فمفعول زعمتم جملة محذوفة دل عليها الخطاب، والتقدير: الذين زعمتم أنهم ينصرونكم من دون الله،(9/5920)
يعني الملائكة لأنهم عبدوهم من دون الله وزعموا أنهم ينصرونهم.
ثم قال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} أي: وما لله جل ذكره من آلهتهم من عوين على خلق شيء.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لا تنفع شفاعة شافع لأحد إلا لمن أذن الله له في الشفاعة، والله لا يأذن بالشفاعة لأحد من أهل الكفر، وأنتم أهل كفر فيكف تعبدون من تعبدون من دون الله زعماً منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله وليشفع لكم عند ربكم، " فَمَنْ " على هذا التأويل للمشفوع له، والتقدي: إلا لمن أذن له أن يشفع فيه.
وقيل: هي للشافع - يراد به الملائكة، أي لمن أذن له أن يشفع في غيره من الملائكة مثل قوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28].
قيل: من قال لا إله إلا الله.
ودل على ذلك قوله: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ}.
ثم قال تعالى: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي: كشف عنها الفزع. ومن فتح فمعناه: إذا كشف الله عن قلوبهم الجزع.
وقرأ الحسن: " فُزِّعَ " الراء والعين غير معجمة.
وروي عنه بالراء وعين معجمة.(9/5921)
والمعنى أزيل عن قلوبهم الفزع.
قال ابن عباس: " فزع عن قلوبهم " جُلِيَ.
وقال مجاهد: كشف عنهم الغطاء. وهم الملائكة، وذلك أن ابن مسعود قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش، سمع من دونه من الملائكة صوتاً كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم نادوا ماذا قال ربكم؟ فيقول من شاء الله: قال الحق وهو العلي الكبير.
وروى أبو هريرة أن نبي الله قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ".
وقال ابن جبير: ينزل الأمر من عند رب العزة إلى سماء الدنيا فيسمعون مثل وقع الحديد على الصفا، فيفزع أهل السماء الدنيا حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه فيقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير.(9/5922)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أراد الله جل ذكره أن يُوِحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رَجْفَةٌ - أو قال رعدة شديدة - خوفاً من الله، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعِقُوا وَخَرُّوا لله سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل صلى الله عليه وسلم، فيكلمه الله جل وعز من وَحْيِهِ بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة صلى الله عليهم، كلما مرَّ بسماء سألته ملائكتها ماذا قال ربنا جبريل؟ فيقول جبريل صلى الله عليه وسلم: قال الحق وهي العلي الكبير. قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله عز وجل ".
قال قتادة: يوحي الله جل ذكره إلى جبريل/ صلى الله عليه وسلم فتفرق الملائكة مخافة أن يكون شيئاً من أمور الساعة، فإذا أجلي عن قلوبهم وعلموا أن ذلك ليس من أمور الساعة قالوا: ماذا قال ربكم.
وقال الضحاك: زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، فإذا أرسلهم الرب وانحدروا سمع لهم صوت شديد(9/5923)
فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً، وهذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف الله.
وذكر ابن سحنون محمد. حدثنا بسنده إلى ابن عباس أنه قال: إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صوتاً كصوت الحديد وقع على الصفا فيخرون سجداً، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالو: الحقَّ وهو العلي الكبير.
وروى محمد حدثنا بسنده إلى ابن مسعود أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فإذا قاموا نادوا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحقَّ، فينادون الحق الحق وهو العلي الكبير. وقال ابن زيد: هذا في بني آدم عند الموت أقروا بالله حين لم ينفعهم الإقرار.
فالمعنى فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وما كان يضلهم، أي: قالوا: ماذا قال ربكم، فيكون هذا الكلام مردوداً على من تقدم ذكره من الذين صدق عليهم(9/5924)
إبليس ظنه، وتكون الأقوال المتقدمة مردودة على {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي لمن أذن له من الملائكة أن يشفع. و {العلي} الجبار و {الكبير} السيد.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماوات والأرض؟، أي: من ينزل عليكم الغيث من السماء ويخرج النبات من الأرض لأقواتكم ومنافعكم؟
ثم قال تعالى: {قُلِ الله} وفي الكلام حذف، أي: فإن قالوا لا ندري فقل: الله، وكذلك كل ما كان مثله قد حذف منه الجواب لدلالة الكلام عليه.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: أحدنا على خطأ في مذهبه، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ثم حذف " هدى " وقد علم المعنى في ذلك كما تقول، أنا أفعل كذا وأنت تفعل كذا وأحدنا مخطىء، وقد عُرف من هو المخطئ.
و {لعلى هُدًى} خبر عن إياكم، وخبر الأول محذوف لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون خبراً للأول، وهو اختيار المبرد.
فيكون خبر الثاني هو المحذوف.
ولو عطفت على الموضع فقلت: وأنتم لكان لعلى هدى خبراً للأول لا غير.
وقيل: المعنى، وإنا لعلى هدى وإياكم لفي ضلال مبين. " أو " بمعنى الواو.(9/5925)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
وهو قول أبو عبيدة.
وقال البصريون: أو على بابها: وليست للشك، وإنما تكون في مثل هذا في كلام العرب تدل على أن المخبر لم يرد أن يبين، وهو عالم بالمعنى لكنه لم يرد أن يبين من هو المهتد.
وقيل: أو على بابها، ولكن معنى الكلام الانتقاص للمشركين والاستهزاء بهم، أي: قد بين أن آلهتهم لا ترزق شيئاً لا تنفع ولا تضر، وهو مثل قولك للرجل: والله إنَّ أحدنا لكاذب، وقد علمتَ من هو الكاذب، ولكن أردت توبيخه واستنقاصه وتكذيبه فدللت عن ذلك بلفظ غير مكشوف. فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يكذبهم ويعيرهم في دينهم بلفظ غير مكشوف.
قوله تعالى ذكره: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} إلى قوله: {فِي الغرفات آمِنُونَ}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا تسئلون أنتم عن ذنوبنا ولا نسأل عن ذنوبكم، وقل لهم يا محمد: يجمع بيننا ربنا في الآخرة ثم يفتح بيننا بالحق، أي يحكم ويقضي بيننا بالحق فيظهر عند ذلك المهتدي هنا من الضال.
ثم قال: {وَهُوَ الفتاح العليم} أي: والله الحاكم القاضي بين خلقه لا يخفى عليه حالهم ولا يحتاج إلى شهود، العليم بجميع الأمور/.(9/5926)
ثم قال تعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ} أي: قل لهم يا محمد أروني الذين جعلتم لله شركاء في عبادتكم إياه هل خلقت شيئاً، أو رزقتكم شيئاً، أو نفعتكم، فعرفوني ذلك وإلاَّ فلِمَ عبدتموها؟
{كَلاَّ} أي: كذبوا، ليس الأمر كما ذكروا من أن لله شركاء في ملكه، بل هو الله المعبود وحده، العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبيره خلقه.
وقيل: إن " كلا " رد لجوابهم المحذوف، كأنهم قالوا هي هذه الأصنام، فرد عليهم قولهم، أي: ليس الأمر كما زعمتم، أي: ليست شركاء له بل هو (الله) العزيز الحكيم. وأروني هنا من رؤية القلب. والمعنى عرفوني ذلك، فشركاء مفعول ثان، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فيكون شركاء حالاً.
ثم قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} أي: ما أرسلناك يا محمد إلا جامعاً لإنذار الناس وتبشيرهم، العرب والعجم. ومعنى كافة اللغة الإحاطة.
ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن الله أرسلك كذلك إلى جميع الخلق.(9/5927)
قال قتادة: أرسل الله جل ذكره محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعُهُم له.
قال قتادة: ذكر لنا أن النبي عليه السلام قال: " أنَا سابقُ العرب، وَصُهَيْبٌ سابقُ الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس ".
ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: متى يأتي العذاب الذي تعدنا به يا محمد؟ قل لهم يا محمد: لكم أيها القوم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون، أي: لا يؤخرون للمؤنة إذا جاءكم ولا يتقدم العذاب إليكم قبله.
ثم قال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لن نؤمن بما جاء به محمد ولا بما أتى قبله من الكتب، أي لا نصدق بذلك كله.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} أي: لو تراهم يا محمد موقوفين يتلاومون يحاور بعضهم بعضاً، يقول الذين استضعفوا في الدنيا للذين كانوا يستكبرون عليهم في الدنيا: لولا أنتم لكنا في الدنيا للذين كانوا يستكبرون عليهم في الدنيا: لولا أنتم لكنا من الدنيا مؤمنين.
{قَالَ الذين استكبروا} أي: في الدنيا للذين استضعفوا فيها.
{أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى} أي: منعناكم من اتباع الحق بعد إذ جاءكم من عند الله.
{بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} بإيثاركم الكفر بالله على الإيمان.(9/5928)
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين استضعفوا} أي: في الدنيا للذين استكبروا فيها عليهم.
{بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ} أي: بل مكركم بالليل والنهار صدنا عن الهدى إذ تأمروننا أن نكفر بالله.
{وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} أي: أمثالاً وأشباهاً في العبادة والألوهية.
وأضيف المكر إلى الليل والنهار على الإتساع، لأن المعنى معروف لا يشكل كما يوقلون: نهارك صائم وليلك قائم.
وقال ابن جبير: معنه بل مر الليل والنهار فغفلوا.
وقال الأخفش: رفعه على معنى بل هذا مكر الليل.
ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي: أظهروها. وقيل: المنى: تبينت الندامة في أسرار وجوههم لأن الندامة إنما هي في القلوب فلا تظهر، إنما تظهر بما توليد عنها.
والمعنى: ندموا على ما فرطوا فيه من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعده لهم.
وقال قتادة: وأسروا الندامة بينهم لما رأوا العذاب.(9/5929)
ثم قال: {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي: أغللنا أيدي الكافرين بالله في جهنم إلى أعناقهم جزاء بما كانوا في الدنيا يكفرون بالله.
قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب، ولكن إذا طفى بهم اللهب ترسبهم في النار.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} أي: ما بعثنا في أهل قرية نذيراً ينذرهم بأس الله أن ينزل بهم على كفرهم.
{إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} أي: كبراؤها ورؤوسها في الضلالة.
{إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} كما قال لك مشركوا قومك يا محمد.
ثم قال: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} أي: وقال أهل الاستكبار على الله ورسله من كل قرية أرسلنا فيها نذيراً: نحن أكثر من الأنبياء أموالاً وأولاداً وما نحن في الآخرة بمعذبين/، لأن الله لو لم يكن راضياً عنا في ديننا لم يعطنا ذلك ويفضلنا به، كما قال قومك يا محمد لك.
ثم قال تعالى ذكره لنبيه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي: يوسع على من يشاء في رزقه ويضيق على من يشاء. وليس التوسع في الرزق بفضل ومنزلتة وقربة لمن وسع عليه، ولا التضييق في الرزق لبغض ولا مقت ولا إهانة لمن ضيق عليه، بل ذلك كله لله تعالى، يفعل ما يشاء محنة لعباده وابتلاء منه ليعلم الشاكر من الكافر، علما ً يجب عليه الجزاء، وقد كان علمه قبل أن يبلتي أحداً بذلك، ولكن يريد أن يعلمه علم مشاهدة يقع عليها الجزاء.
ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن الله إنما يفعل ذلك اختباراً وامتحاناً فيظنون أنه إنما وسع على قوم لفضلهم ومحبتهم، وضيق على قوم لبغضهم ومقتهم.
ثم قال: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} أي: ليس ما كسبتم من(9/5930)
الأموال والأولاد مما تقربكم إلى الله، إنما يقرب من الله تعالى الإيمان والعمل الصالح، فلا فائدة لكم في احتجاجكم أنكم أكثر أموالاً وأولاداً من الرسل.
وقوله: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ} نصب الاستثناء.
وقال الزجاج: من في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في تقربكم. وهو غلط لأن الغائب لا يبدل من المخاطب. لو قلت: رأيتك زيداً، لم يجز. وهو معنى قول الفراء.
وأجاز الفراء أن تكون " من " في موضع رفع بمعنى ما هو إلا من آمن. وهو بعيد في المعنى، وإنما وحد " التي " وقد تقدم ذكر أموال وأولاد لأنه على حذف، والتقدير: وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالتي تقربكم، ثم حذف الأول لدلالة الثاني.
وقال الفراء: التي تكون للأموال والأولاد جميعاً.(9/5931)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
ثم قال تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} أي: إلا من آمن وعمل صالحاً وأنه تقربه أمواله وأولاده بطاعتهم لله في ذلك وأدائهم حق الله فيه دون أهل الكفر، فيضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها وفي سبيل الله إلى سبع مائة ضعف.
وقال ابن زيد: إلا من آمن فلن تضره أمواله ولا أولاده في الدنيا، وقرأ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقال: الحسنى: الجنة والزيادة: ما أعطاهم الله في الدنيا لا يحاسبهم كما يحاسب الكفار.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} أي: من العذاب، ومعنى " زلفى " قربى، قاله مجاهد وغيره.
قوله تعالى ذكره: {والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} إلى قوله: {عَلاَّمُ الغيوب}.
أي: والذين سعوا في إبطال حجج الله وأدلته معاجزين، أي: يظنون أنهم يفوتون الله ويعجزونه فلا يجازيهم على فعلهم.
{أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ} أي: في عذاب جهنم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: يوسع في الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وليس ذلك لفضل في أحد ولا لنقص ولا لمحبة ولا لبغض.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: ما أنفقتم في طاعة الله فإن الله يخلفه عليكم.(9/5932)
قال ابن جبير: ما كان في غير إسراف ولا تقتير.
قال ابن عباس: في غير إسراف ولا تقتير.
وقال الضحاك: يعني النفقة على العيل وعلى نفسه، وليس النفقة في سبيله الله.
قال مجاهد في قوله: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}: أي: إن كان خالفاً فمنه، وربما أنفق الرجل ماله كله ولم يخلف حتى يموت.
قال مجاهد: إذا كان بيد الرجل ما يقيمه فليقتصد في النفقة، ولا تؤوَّلُ هذه الآية فإن الرزق مقسوم، ولا يدري لعل رزقه قليل. يعني: وأجله قريب.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي: خير من يرزق. وجاز ذلك لأن من الناس من يسمى برازق على المجاز، أي: رزق غيره مما رزقه الله، والله يرزق عباده لا من رزق رزقه غيره، فليس رازق مرزوق كرازق غير مرزوق.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ} الآية أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء الكفار، ثم نقول للملائكة: أهؤلاء الكفار كانوا يعبدونكم من دوني؟ فتبرأ منهم الملائكة، فقالوا: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} أي: تنزيهاً لك وبراءة من السوء الذي أضافه هؤلاء إليك، " أنت ولينا من دونهم " أي: لا نتخذ ولياً من دونك.(9/5933)
{بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم} أي: بالجن.
{مُّؤْمِنُونَ} أي: مصدقون، أي بعبادتهم.
وقيل: المعنى: أكثر هؤلاء الكفار بالملائكة مصدقون أنهم بنات الله.
قال قتادة في قوله تعالى للملائكة: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} هو كقوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116].
ثم قال تعالى/: {فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي: لا تملك الملائكة للذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ضراً ولا نفعاً.
ثم قال: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: عبدوا غير الله.
{ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي: في الدنيا.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: وإذا تقرأ على هؤلاء الكفار آيات القرآن ظاهرات الدلائل والحجج في توحيد الله وأنهن من عنده.
{قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} أي: قالوا: لا تتعبدوا محمداً فما هو إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان آباؤكم يعبدون من الأوثان ويغير دينكم.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} أي: وقال بعضهم ما هذا الذي أتانا به محمد إلا كذب مختلف متخرص.(9/5934)
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم وما جاء به: هذا سحر مبين، أي: ما جاء إلا بسحر ظاهر.
ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: لم يعط هؤلاء الكفار كتباً قبل كتابك يا محمد يقرؤونها وفيها ما يقولون لك من البهتان.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} أي: لم نبعث إليهم قبلك من ينذرهم من عذاب الله.
قال قتادة: ما أنزل الله جل ذكره على العرب كتاباً من قبل القرآن ولا بعث إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} يعني من الأمم الماضية كعاد وثمود كذبت رسلها، ولم يبلغوا هؤلاء معشار ما أوتي إليك من القوة والبطش والنعم أي عشر ذلك.
وقيل عشر عشر ذلك.
والمِعْشَارُ قيل هو عشر العشر جزء من مائة.
أي: لم يبلغ قومك يا محمد في القوة والبطش والأموال عشر عشر من كان قبلهم، فقد أهلك من كان قبلهم بكفرهم، فكيف تكون حال هؤلاء الذين هم أقل قوة وبطشاً من أولئك. وهذا كله تهديد ووعيد وتنبيه لقريش، فالمعنى: فلم ينفع(9/5935)
أولئك ذلك وأهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم الرسل.
فإذا كان أولئك الأمم على ما فضلهم الله به من القوة والبطش والأموال والدنيا قد أهلكوا لما كذبوا الرسل، فكيف تكون حال هؤلاء على ضعفهم وقلة أموالهم وَوَهَنِهِمْ إذا كذبوا الرسل.
وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: كيف كان إنكاري لهم بالهلاك والاستئصال.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك: إنما أعظكم بواحدة.
قال مجاهد: " " بواحدة " بطاعة الله.
وروى ليث عنه " بواحدة ": بلا إله إلا الله.
وقيل: المعنى: إنما أعظكم بخصلة واحدة، وهي: " أن تقوموا لله مثنى وفرادى " أي: اثنين اثنين وواحداً واحداً، فأن بدل من واحدة، وهو قول قتادة واختيار الطبري.(9/5936)
قال قتادة: الواحدة التي أعظكم بها أن تقوموا لله.
وقيل: " أنْ " في موضع رفع على معنى: وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى اثنين اثنين وواحداً واحداً، أي: يقوم الرجل منكم مع صاحبه، ويقوم الرجل وحده فيتصادقوا في المناظرة فيقولوا: هل علمتم بمحمد صلى الله عليه جنوناً قط؟ [هل علمتموه ساحراً قط؟]، هل علمتموه كاذباً قط؟
وقيل: " مثنى "، أي: يقوم كل واحدة مع صاحبه فيعتبرا هل علما بمحمد جنوناً أو سحراً أو كذباً؟.
ومعنى " فرادى ": أي ينفرد كل واحد بعد قيامه مع صاحبه فيقول في نفسه هل علمت بمحمد شيئاً من جنون أو سحر أو كذب؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك وتصادقتم علمتم أن الذي ترمونه به من الجنون والسحر والكذب باطل، وأن الذي أتى به حق، فاعتبروا ذلك وتفكروا فيه فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم لا جنون به.
وقوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} أي: تفكروا فيه في أنفسكم فتعلموا - إذا أعطيتكم الحق من أنفسكم - أنه ليس به جنون، وأنكم مبطلون في قولكم إنه مجنون.
ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي: ما محمد إلا ينذركم على كفركم بالله عقابه.
وروي عن نافع أنه وقف " بواحدة ".(9/5937)
وهو جائز على معنى: وتلك الواحدة أن تقوموا، أو هو أن تقوموا، ولا يجوز على غير هذا التقدير/.
والوقف عند أبي حاتم " ثم تتفكروا ".
وخولف في ذلك لأن المعنى: ثم تفكروا هل جربتم على محمد كذباً أو رأيتم به جنة، فتعلمون أنه نبي.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين ردوا إنذارك: الذي سألتكم - على إنذاري لكم عذاب الله - هو لكم لا حاجة بي إليه، إني لم أسألكم جُعْلاً على ذلك فتتهموني وتظنوا أني إنما أنذركم لِمَا آخذه منكم من الجُعْل. قال قتادة: المعنى: لم أسألكم على الإسلام جُعْلاً.
ثم قال تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي: ما ثوابي على إنذاري لكم إلا على الله.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد، شهد به لِي وعليَّ غير ذلك من الأشياء كلها.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق} أي: يأتي بالحق وهو الوحي ينزله من السماء فيقذفه إلى نبيه.(9/5938)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{عَلاَّمُ الغيوب} أي: ما غاب عن الأبصار.
قوله تعالى: {قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل} إلى آخر السورة.
أي: قل لهم يا محمد جاء الحق وهو الوحي. {وَمَا يُبْدِىءُ الباطل} أي: وما يبتدي الشيطان خلقاً ولا يعيد خلقاً بعد موته. والباطل هنا الشيطان، وهو إبليس اللعين، أي وما يخلق إبليس أحداً ولا يعيد خلقاً بعد موته. والوقف على " الحق " حسن إن رفعت " علم " على إضمار مبتدأ أو نصبته على المدح وهي قراءة عيسى بن عمر.
فإن رفعت على أنه خبر، أو خبر بعد خبر، أو على النعت على الموضع، أو على البدل من المضمر، لم تقف على " بالحق ".
ثم قال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي} أي: على نفسي يعود ضرره.
{وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فبالذي يوحيه إليَّ من الهدى اهتديت، وإن شِئْتَ جَعلتَ والفعل مصدراً.
والتقدير: وإن اهتديت إلى الحق فبوحي ربي اهتديت.
{إِنَّهُ سَمِيعٌ} أي: سميع لِمَا أقول لكم، حافظ له مجازٍ لي عليه، {قَرِيبٌ} أي: قريب مني غير بعيد لا يتعذر عليه سماع ما أقول لكم ولا غيره.
ثم قال {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} اختلف في وقت هذا الفزع، فقيل: ذلك في(9/5939)
الآخرة، وقيل: في الدنيا.
فالمعنى على قول ابن عباس: أي لو ترى يا محمد إنّ فزع هؤلاء المشركون عند نزول العذاب بهم فلا فوت لهم من العذاب.
{وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي: من الدنيا بالعذاب.
قال ابن عباس: هذا من عذاب الدنيا.
قال ابن زيد: هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر، وهم الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
وقال ابن جبير: هم الجيش الذين يخسف بهم بالبيداء، يبقى منهم رجل يخبر الناس بما لقي أصحابه.
وروى حذيفة بمن اليمان " أن النبي صلى الله عليه وسلم " ذكر فتنة " تكون بين أهل الشرق والمغرب، قال: فَبَيْنَمَا هم كذلك إذْ خَرجَ عليهم السّفْيَانِيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشاً إلى المشرق، وجيشاً إلى المدينة، حتى ينزلوا بابِلَ في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاث آلاف، ويبقرون(9/5940)
فيها أكثر من مائة امرأة، ويقتلون بها ثلاث مائة كبْشٍ من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج رَايَةُ هُدىَ من الكوفة: فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقلتونهم لا يفلت منهم مخْبِرٌ، ويَسْتَنْفِذُونَ ما في أيديهم من السَّبْيِ والغنائم، وَيَحُلُّ جيشه الثاني بالمدينة فَيَنْتَهِبونَهَا ثلاثة أيام ولياليها، ثم يخرجون متوجيهن إلى مكة حتى إذا كانوا بالبَيْداءَ بعث الله عليهم جبريل عليه السلام، فيقول: يا جبريل اذهب فأبِدْهُمْ، فيضربها برجله ضربة يَخْسِفُ الله بهم، فذلك قوله تعالى ذكره: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} فلا يفلت منهم إلا رجلان، أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، فذلك جاء المثل: " وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليقِينُ ".
وقال الحسن وقتادة: معنى الآية: ولو ترى يا محمد إذ فزع المشركون يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم.
قال قتادة: " وأخذوا من مكان قريب " حين عاينوا العذاب.(9/5941)
وجواب لو محذوف والتقدير: لو رأيت ذلك يا محمد لعاينت أمراً عظيماً ولرأيت عبرة.
وقوله {فَلاَ فَوْتَ} / أي: فلا سبيل لهم أن يفوتوا بأنفسهم وينجوا من العذاب.
قال ابن عباس " فلا فوت " فلا نجاة.
وقال علي بن سعيد: " فلا فوت " قال: جالوا جولة.
وقال إبراهيم بن عرفة: " فلا فوت " أي: لم يسبقوا ما أريد منهم.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولو ترى إذ فزعوا وأخذوا من مكان قريب فلا فوت، أي: فلا يفوتونا.
وقال الضحاك: " فلا فوت " فلا هرب.
{وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي: أخذوا بعذاب الله من مكان قريب لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب.(9/5942)
وقال مجاهد: أخذوا من تحت أقدامهم.
ثم قال: {وقالوا آمَنَّا بِهِ}. قال: مجاهد: " به " بالله.
وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين عاينوا العذاب. وقال ابن زيد: ذلك بعد القتل قالوه.
ثم قال: {وأنى لَهُمُ التناوش} أي: من أي وجه لهم تناول التوبة؟ {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي: من الآخرة.
وقيل: من بعد القتل.
ومن هَمز " التناوش "، أخذه من النئيش وهو الحركة في إبطاء.
فيكون المعنى: ومن أين لهم الحركة فيما قد بَعُدَ ولا حيلة فيه، ويجوز أن يكون همز الواو لا نضمامها، فيكون من ناش ينوش إذا تناول كقراءة من لم يهمز.(9/5943)
قال أبو عبيدة: " وأني لهم " أي: كيف ومن أين.
وقيل: من مكان فوتت من تحت أقدامهم.
قال ابن عباس: {وأنى لَهُمُ التناوش} يسألون الرد وليس بحين رد.
وقال مجاهد وقتادة: التناوش تناول التوبة.
وقال ابن زيد: التناوش من مكان بعيد وقرأ {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. وقال: ليس لهم توبة. وقرأ {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] ": الآية، وقرأ: {رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا} [السجدة: 12] الآية. وقال الضحاك: التناوش: الرجعة.
قال مجاهد: من مكان بعيد ": من الآخرة.
ثم قال تعالى: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي بمحمد، من قبل في الدنيا قبل موتهم.
وقيل: وقد كفروا بما يسألون ربهم عند نزول العذاب بهم.
قال قتادة: " كفروا به " أي بالإيمان في الدنيا.(9/5944)
ثم قال تعالى: {وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي: يقذفون محمداً اليوم بالظنون والأوهام، فيطعنون عليه وعلى ما جاءهم به، فيقول بعضهم: ساحر وبعضهم: شاعر. قاله مجاهد وقتادة.
وقال ابن زيد: {بالغيب} أي بالقرآن.
والعرب تقول لكل من يتكلم بما لا يحقه ولا يصح عنده هو يقذِف بالغيب ويرجم بالغيب.
وقوله: {مَّكَانٍ بَعِيدٍ} مثل لمن يرجم ولا يصيب ويقول ويخطئ.
ثم قال تعالى ذكره: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي: وحيل بين هؤلاء المشركين وبين الإيمان في الآخرة لأنها ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء، فلا سبيل لهم إلى توبة ولا إلى إيمان. قال ذلك الحسن.
وقال مجاهد: حيل بينهم وبين الرجوع.
وقال قتادة: عمل الخير.
وقيل: حيل بينهم وبين أموالهم وأولادهم وزهرة الدنيا، روي ذلك عن مجاهد أيضاً.(9/5945)
وقيل: المعنى: وحيل بينهم وبين النجاة من العذاب.
ثم قال تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} أي كما فعل بهؤلاء المشركين من قومك يا محمد في المنع من الرجوع والتوبة كما فعل بنظرائهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، قلم تقبل منهم توبة ولا رجوع عند معاينة العذاب.
والأشياع جمع شِيَّع، وشِيَّع جمع شِيعَةٍ، فهي جمع الجمع.
ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ} أي: كانوا في الدنيا في شك من نزول العذاب بهم.
{مَّرِيبٍ} أي: يريب صاحبه.
يقال أراب الرجل إذا أتى ريبة وركب فاحشة.(9/5946)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطر
مكية
قوله تعالى ذكره: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} إلى قوله: {كَذَلِكَ النشور}.
أي: الشكر الكامل والثناء الجميل لله الذي ابتدع خلق السماوات والأرض وابتدأهما.
قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر حتى اختصم أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها.
ثم قال: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} أي: أرسلهم إلى من يشاء من خلقه وفيما شاء وبما شاء من أمره ونهيه، والرسل هم ها هنا: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت صلى الله عليهم وسلم.
ومعنى {أولي أَجْنِحَةٍ} أي: أصحاب أجنحة، منهم من له اثنان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، أربعة من كل جانب، وهو قوله/: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، قاله قتادة وغيره.(9/5947)
وإنما تتصرف هذه الأعداد لعلتين، وذلك أنه معدول عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة، والثانية أنه عدل في حال النكرة. وقيل: العلة الثانية أنه صفة.
ثم قال تعالى: {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ} أي: يزيد في خلق الملائكة وفي عدد أجنحتها وغير ذلك ما يشاء.
وقال الزهري: هو حُسْنُ الموت. فيكون {وَرُبَاعَ} وقفاً كافياً على القول الأول، وتماماً على القول الثاني.
وقال قتادة: هو مَلاحَةٌ في العينين.
وروي عن ابن شهاب أنه قال: " سأل رسول الله جبريل صلى الله عليه وسلم أن يتراءَى لَهُ في صُورَته، فقال له جبريل: لا تُطيقُ ذلك، إِنِّي أحبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَخَرَجَ رسول الله إلى المصلّى فأتاهُ جبريل على صورته فَغَشِيَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه. ثم أفاق وجبريل صلى الله عليه وسلم مُسْنِدُهُ واضِعٌ إِحْدَى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول(9/5948)
الله: سبحان الله ما كنت أرَى شَيْئاً مِنَ الخَلْقِ هَكَذا. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: فكيف لو رأيْتَ إِسْرَافِيل صلى الله عليه وسلم، إنَّ لهُ لاثني عشر جناحاً منها جناح في المشرق وجناح في المغرب، وإن العرش لعلى كاهليه وأنه ليتضاءل الأحيان من عظمة حتى يعود مثل الوَصَعِ - وَالوَصَعُ عُصْفُورٌ صَغيرٌ - حتى ما يحمِلُ عرْشَهُ إلاّ عظمَته " ذكر هذا الحديث علي بن سعيد.
وقال ابن عباس في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38]: إنّ الرّوح ملك يقوم وحده صفاً مثل جميع ملائكة السماوات، له ألف وجه، في كل وجه ألف لسان، كل لسان يسبّح الله بثنتين وسبعين لغة، ليس منها لغة تشبه الأخرى، لو أن الله تعالى أَسْمَعَ صوته أهل الأرض لخرجت أرواحهم من أجسامهم من شدّة صوته، ولو سُلِّطَ على السماوات السبع والأرضين السبع لأدخلهنّ في فيه من أحد شدقيه، يذكر الله في كل يوم مرتين فإذا ذكر الله خرج من فيه من النور قطع كأمثال الجبال العظام، لولا أن الملائكة الذين من حول العرش يذكرون الله لا حترقوا من ذلك النور الذي يخرج من فيه، موضع قدميه مسيرة سبعة آلاف سنة، له ألف جناح، فإذا كان يوم القيامة قام هو(9/5949)
وحده صفاً وقامت الملائكة صفاً واحداً فيكون مثل صفوفهم.
وقد روى مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ اللهَ أَذِنَ لي أنْ أتحدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ الملائِكَةِ: إنّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ ليَخْفِقُ الطَّيْرُ سبعِينَ عاماً ".
ثم قال: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: يقدر على ما يشاء من الزيادة في الخلق والنقص منه وعلى غير ذلك من الأشياء كلها.
ثم قال تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي: ما يعطي الله للناس من خي فلا ممسك له، وما يحبس من ذلك فلا مرسل له من بعده، له الأمر ومفاتيح الخير بيده يفعل ما يشاء. وقيل: هو في المطر يرسله متى يشاء.
وقيل: هو في الدعاء.
ثم قال: {العزيز} أي: في نقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبسه رحمته عنه.
{الحكيم} في تدبيره خلقه. وقيل: الرحمة هنا الغيث.
ثم قال تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} هذا خطاب للمشركين، أي: اذكروا تفضُّلَ الله عليكم وتدبّروا أنه لا يرزقكم من السماء والأرض أحد غيره فيجب لكم ألاّ تعبدوا غيره. {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود غيره، يرزقكم المطر من السماء والنبات من الأرض. ومن رفع " غير " جعله نَعْتاً لخالقٍ " على الموضع.(9/5950)
وقد ذكر اليزيدي أنه على التقديم والتأخير، وأن المعنى: هل غَيْرُ الله من خالق. ويجوز أن يرفع " غير " بفعله فيكون تقدير الكلام: هل من خالق إلاّ الله. فلما جعلت " غير " موضع إلاّ، رفعت كإعراب الاسم الذي بعد إلاّ.
ومن خفض جعله نَعْتاً ل " خالقٍ " على اللفظ. ويجوز النصب على الاستثناء.
ثم قال: {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: فمن أي وجه تصرفون عن خالقكم ورازقكم، أي: من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث.
قال حميد الطّويل: قلت للحَسَنِ: من خلق الشّر؟ فقال: سبحان الله/ هل من خالق غير الله. قال: خلق الخير والشّر.(9/5951)
ثم قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك، فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرةِ الأمم من قبلهم في تكذيبهم الرُّسُلَ.
قال قتادة: يُعزِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم كما تسعمون.
ثم قال: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي: يرجع أمرك وأمرهم فيجازيهم على فعلهم.
ثم قال: {يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} أي: إن وعدَ الله لكم بالعذاب على كفركم حق فلا يعرّنكُمْ ما أنتم فيه من العيش والمال في الدنيا، أي: لا يخدعنكم ذلك.
ثم قال: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} أي: لا يخدعنّكم بالله الشيطان فيُعَنِّيكم بأن لا حساب ولا عقاب ولا بعث، فيحملكم ذلك على الإصرار على الكفرة، قاله ابن عباس وقتادة.
وقال ابن جبير: الغرور الحياة الدنيا ونعيمها، يشتغل الإنسان بها عن عمل الآخرة حتى يقول: {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]. وقُرِئَ " الغُرورُ " بالضمّ على أنه جمغ غارّ، كما يقال جالس وجُلوس فيكون معناه كمعنى الأول.(9/5952)
وقيل: هو جمغ غرّ وغَرّ مصدر.
وقيل: هو مصدر، وفيه بُعْدٌ لأن الفعل مُتعدٍّ ولم يأتِ في مصدر المتعدّي فعومل إلاّ في أشياء مسموعة مثل لزمته لزوماً ونهكه المرض نهوكاً.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} أي: إن الشيطان الذي نهيتكم ألاّ يخدعكم ويغرّكم لكم عدو.
{فاتخذوه عَدُوّاً} أي: أنزلوه منزلة العدو لكم واحذروه ولا تطيعوه، فإنما يدعو من أطاعه وهم حزبه.
{لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} أي: من المخلّدين في نار جهنّم.
ويقال: السعير: الطبقة السادسة من جهنم لأنها سبع طباق، وطبقة تحت طبقة، لكل طبقة باب، كما قال: لها سبعة أبواب. فكل باب تحت الباب الذي فوقه أعاذنا الله منها.
وعدو هنا بمعنى معاد، فيجوز تثنيته وجمعه وتأنيثه، فإن جعلته بمعنى النسب لم تجمع ولم تثن ولم يؤنث.
وعلى هذا قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77].
ثم قال تعالى: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يعني عذاب النار.(9/5953)
ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، أي: آمنوا بالله ورسله وكتبه وعملوا بطاعته. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أي: ست على ذنوبهم. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: الجنة، قاله قتادة وغيره.
ثم قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ [فَرَآهُ حَسَناً} مَنْ: رُفِعَ بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: أفمن زين له سوء عمله] فرآه حسناً ذهبت نفسك عليهم حسرات.
والمعنى: أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يغتمّ بمن كفر به وألاّ يحزن عليهم، وهذا مثل قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] أي: قاتلها.
وقال الأصمعي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ أَرَقُ قُلُوباً وَأَبْخَعُ طَاعَةً " إنّ معنى " أبخع ": أنصح، قال: وباخع نفسك من هذا، كأ، هـ من شدّة نصحه لهم قاتل نفسه.(9/5954)
قيل: التقدير في خبر الابتداء: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً كمن هداه الله، ودلّ على هذا المحذوف قوله بعد ذلك: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}.
ويدل على المحذوف في القول الأول: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ}. فلا يحسن الوقف على هذين القولين على " حسناً "، وتقف على القول الثاني على {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}.
ولا تقف على القول الأول إلاّ على {حَسَرَاتٍ}. والمعنى زين له الشيطان سوء عمله فأراه إياه حسناً.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي: ذو علم بعملهم ومحصيه عليهم ومجازيهم به.
ثم قال تعالى: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي: الله الذي أرسل الرياح فتجمع سحاباً وتجيء به وتخرجه، قاله أبو عبيدة.
ثم قال تعالى: {فَسُقْنَاهُ} أي نسوقه.
{إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي: مجدب لا نبات فيه. {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: فنحيي به الأرض بعد جدوبها وننبت فيها الزرع بعد المَحْلِ.
{كَذَلِكَ النشور} أي: كذلك ينشر الله الموتى بعد ابتلائهم في قبورهم فيحييهم.
روى أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يكون بين النفختين ما شاء الله أن(9/5955)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يكون، فليس من بني آدم خلق إلاّ وفي الأرض منه شيء، قال فيرسل الله جلّ ذكره ماء من تحت العرش مَنِيًّا كَمَنِيِّ الرّجلِ فتَنْبَتُ أجسادهم وَلحُمانُهُم/ من ذلك ما تَنبُتُ الأرض من الثرى، ثم قرأ: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} [الروم: 48] الآية. قال: ثم يقوم ملك الصُّورِ بين السماء والأرض فينفخ فيها فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه.
قوله تعالى ذكره: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أي: من كان يريد العزّة بعبادة الأوثان والأصنام فإن لله العزّة جميعاً، قاله مجاهد.
وقال قتادة: معناه: من كان يريد أن يتعزز فليتعزز بطاعة الله. وقال الفراء: معنه من كان يريد علم العزة فإنها لله جميعاً، أي: كلها له.
وقيل المعنى: من كان يريد العزّة التي لا ذلة تعقبها فهي لله، لأنّ العزّة إذا أعقبتها ذلة فهي ذلة إذ قصاراها للذلة.(9/5956)
و " جميعاً " منصوب على الحال. أي: إن العزة في حال اجتماعها، له في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى ذكره: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} أي: إلى الله يصعد ذكر العبد ربّه، ويرفع ذكر العبد ربَّه العمل الصالح، وهو العمل بطاعة الله.
ويُقال: الكلم الطيب هو لا إله إلاّ الله، يرفعه عمل الفرائض، فإذا قال العبد لا إله إلاّ الله نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان عمله موافقاً لقوله صعدا جميعاً ولهما دوي كدوي النحل حتى يقف بين يدي الله تعالى، فنظر إلى قائلها نظرة لا يَيْؤُسُ بعدها أبداً، وإذا كان عمله مخالفاً لقوله، وقف حتى يموت من عمله.
قال عبد الله: إنّا إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله عز وجل، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده الحمد لله لا إله إلاّ الله والله أكبر تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهنّ تحت جناحه ثم يصعد بهنّ إلى السماء فلا يَمُرُّ بِهِنَّ على جَمْعٍ نم الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهنّ، ثم قرأ عبد الله:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ}.
وقال كعب: إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر لدويًّا حول العرش كدويّ النحل يذكرن بصاحبهنّ. والعمل في الخزائن.
قال ابن عباس: {الكلم الطيب} ذكر الله، و {والعمل الصالح} أداء فرائضه فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عمله ذكر الله فصعد به إلى الله سبحانه.(9/5957)
ومن ذكر الله ولم يؤدّ فرائضه رُدَّ كلامه على عمله فكان أولى به. وكذلك قال الحسن وابن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وقال شهر بن حوشب: " الكلم الطيب " القرآن، و " العمل الصالح " يرفع القرآن. أي التوحيد يرفع القرآن.
روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا حدثناكم بحديث آتيناكم بتصديقه من كتاب الله عز وجل: خمس ما قالهنّ عبد مسلم إلاّ قبض عليهن ملكٌ فجعلهنّ تحت جناحه فيصعد بهن لا يمر بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها الرحمن: الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر وتبارك وتعالى، ثم قرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ}.(9/5958)
وعن قتادة أنه قال: العمل الصالح يرفعه الله. ويجب على القول أن يكون الاختيار نصب " العملَ الصالحَ ".
وقيل: إن المعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب. ويجب أيضاً على هذا التأويل أ، يكون الاختيار نصب " العمل الصالح "، ولم يقرأ به أحد غير عيسى بن عمر.
وما تقدم عند هذين من التأويلات لا يلزم فيها نصب " العمل " لأن الضمير لا يعود على العمل.
ثم قال: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} أي يكتسبونها.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يعني عذاب جهنم.
ثم قال: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي: وعمل هؤلاء المشركين هو يبطل ويهلك لأنه لم يكن لله.
قال قتادة: يبور: يفسد. يقال بار، يبور إذا هلك.
وقال شهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء.(9/5959)
وقال أبو اسحاق: وقد بيّن الله مكرهم في سورة الأنفال فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
" الكلم الطيب " وَقْفٌ إلاّ على قراءة من نصب " والعمل ".
ثم قال تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي: خلق آدم الذي هو أبوكم من تراب، ثم خلقكم يا ذرّيته من نطفة الرجل والمرأة {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أي أجناساً. / وقيل: معناه: زوج الأنثى للذكر. قاله قتادة وغيره.
ثم قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أي: هو عالم يوقت حمله ووقت وضعه وما هو أذكر أم أنثى.
ثم قال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أي: ما يطول في عمر أحد ولا ينقص غيره من مثل ما عمره إلاّ في كتاب قبل أن تحمل به أمة، وقبل أن تضعه، يجعل عمر هذا طويلاً وعمر هذا أنقص منه، فلا يزاد في ذلك ولا ينقص منه.
وقال ابن عباس قولاً معناه: ليس أحد قضى الله له طول عمر ببالغ دون ذلك، ولا أحد قضى الله له قصر عمر ببالغ أطول من ذلك، كل في كتاب مبين. يعني اللوح المحفوظ، وهذا هو القول الأول بعينه.(9/5960)
وكذلك قال الضحاك وابن زيد.
قال ابن زيد: أن الإنسان يعيش مائة سنة، والآخر يموت حين يولد.
وهو مذهب الفراء، فالها تعود على غير المعمر، والمعنى: وما يعمر من إنسان تعمر ولا ينقص من ذلك العمر من عمر إنسان آحر إلاّ وهو في كتاب مبين.
ويجوز أن تكون تعود على المعمر على حذف، والتقدير: وما يعمر من معمّر ولا ينقص آخر من مثل عمر المعمر الأول إلاّ في كتاب. وقال ابن عباس وابن جبير: المعنى: ما يعمر من إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان إلاّ في كتاب، أي كلّما نقص من عمر ابن آدم فهو في كتاب، أي يكتب نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، في كتاب آخر إلى أن يستوفى أجله فيموت.
قال ابن جبير: ما مضى من عمره فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره، وهذا اخيار أبي إسحاق وقوله.
وكان كعب الأحبار يذهب إلى أن الإنسان يجوز أن يزاد في عمره ما لم يحضر الأجل.
وروي أنه لما طُعِنَ عُمر رضي الله عنهـ قال: لو شاء الله لزاد في أجله فأنكر عليه ذلك(9/5961)
المسلمون، وقالوا: إن الله جلّ ذكره يقول: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، فقال: وإن الله يقول: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}.
وقيل: إن معنى الآية: لن يكون بحكم أن عمرَ الإنسان مائة سنة إن أطاع الله وتسعون إن عصاه فأيّهما بلغ فهو في كتاب.
ثم قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ}. أي ما يعتدلان. والفرات: أعذب العذب، والملح الأجاج: ماء البحر.
والأجاج: المر وهو أشد المياه ملوحة في مرارة.
ثم قال: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} أي: ومن كل البحار، يعني الحم الحوت وغيره من صيد البحرين.
ثم قال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يعني اللؤلؤ والمرجان.
فقال: {وَمِن كُلٍّ}، فَعَمَّ، هما إنما يخرجان من الملح، كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أي من أحدهما، هذا قول أبي اسحاق.
وقيل: إن الأصداف التي منها الدُّرُّ وغيره إنما تستخرج من المواضع التي فيها(9/5962)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
الماء العذاب والملح نحو العيون.
وقال المبرد: قوله: {وَمِن كُلٍّ} يراد به الملحق خاصة كما قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73]، وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيراً كثيراً تريد به الحسن خاصة.
والمعنى على قول المبرد: ومن كل الملح تستخرجون.
ثم قال تعالى: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ}.
قال قتادة: تجري مقبلة ومدبرة. يقال: مخَرَتِ السفينة مَخْراً إذا خرقت الماء.
قال ابن عباس: " مواخر " جواري، يعني في الملح خاصة، فلذلك قال " فيه ".
والفُلْكُ جمع فَلَك كأسَدٍ وأُسُدٍ، وَوَثَنٍ وَوُثْنٍ.
ثم قال تعالى: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: في السفن يطلبون الرزق بالأسفار فيها.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون على تسخيره إياها لكم وعلى غير ذلك.
قوله تعالى ذكره: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار} إلى قوله: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}.(9/5963)
أي: يزيد من الليل في النهار، ومن النهر في الليل. وأصل الإيلاج الدخول. فالمعنى يدخل مِنْ هذا في هذا، وَمِنْ هذا في هذا.
قال ابن عباس: هو انتقاص أحدهما من الآخر.
ثم قال: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: سخرهما في الجري نعمة منه وفضلاً لتعلموا عدد السنين/ والحساب، والليل من النهار، يجريان لوقت معلوم لا يتقدمانه ولا يتأخران عنه.
قال قتادة: لا يقصر دونه ولا يتعداه.
وقيل: الأجل المسمى هنا: القيامة.
ثم قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} أي: الذي يفعل هذه الأفعال هو الله معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلاّ له.
ثم قال: {لَهُ الملك} أي: له الملك التام، كل ما في سلطانه وملكه يفعل ما يشاء.
ثم قال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} أي: الأوثان والأصنام التي تعبدون من دون الله لا تملك شيئاً من ذلك ولا مقدار قطمير فما فوقه، وهي القشرة الرقيقة التي على النواة.
وقال ابن عباس: قَطمير هو الجلد الذي يكون على ظهر النواة.(9/5964)
وقال مجاهد: لفافة النواة كسحاة البيضة.
وقال قتادة: هو الذي على رأس النواة.
وقال جرير عن بعض رجاله: هو القمع الذي على رأس الثمرة ثم ق ل: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ} يعني الأصنام لأنها جمادات لا روح لها.
ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} أي: لو كان لها روح فسمعت لم تستجب، إذ هي ليست ممن ينطبق وليس كل ما سمع ينطق. فكيف تعبدون من هذه حالة وتتركون عيادة من خلقكم وأنعم عليكم بتسخير الليل والنهار والشمس والقمر وغير ذلك من نعمه.
قال قتادة: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} أي: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه.
ثم قال: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي: تتبرأ آلهتكم التي كنتم تعبدون في الدنيا من أن تكون لله شركاء.
قال قتادة: معناه يكفرون بشرككم إياهم، ولا يرضون به ولا يقرّون به. وهو(9/5965)
قوله: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28].
ثم قال: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فالله جلّ ذكره هو الخبير أن هذا سيكومن في القيامة.
ثم قال: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد} أي: أنتم ذووا الحاجة إلى الله فإياه فاعبدوه، والله هو الغني عن عبادتكم إياه وعن غير ذلك، (المحمد) على نعمه فله الحمد والشكر بكل حال.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي: يهلككم لأنه أنشأكم من غير حاجة به إليكم. {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: بخلق سواكم يطيعونه.
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بعزيز على الله، أي شديد عليه، بل ذلك هيّن سهل.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: لا تحمل نفس حاملة حِمْلَ نفس أخرى، يعني من الذنوب والآثام.
روي أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، قال لمن أسلم من بني مخوم: ارجعوا إلى دينكم القديم وأنا أحمل عنكم أوزاركم. وفيه نزلت:(9/5966)
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [النجم: 36 - 38].
ثم هذا كله عام في من ادّعى أن يحمل ذنب غيره لا يجوز له شيء من ذلك ولا ينتفع به المحمول عنه.
ثم قال: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} أي: إن تدع نفس مثقلة بالأوزار والذنوب إلى أن يحمل غيرها عنها من ذلك شيئاً، لا يحمل أحد عنها من ذلك شيئاً، ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي.
قال بن عباس: لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
قال عكرمة: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل يوم القيامة فيقول: [" ألم أكن قد أسديت إليك يداً؟]، ألم أكن قد أحسنت إليكم؟، فيقول: بلى، فيقول: انفعني، فلا يزال المسلم حتى ينقص من عذابه، وإن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً؟ وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمّل عني سيئة، فيقول: إن الذي سألتني ليسير ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك، فيرد عليه نحواً من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن حسن العشرة لك؟ فتحمّلي عني خطيئة لعلي ألْحق، فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه، ثم تلا عكرمة: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا} الآية. وهذا القول أيضاً هو قول مجاهد وقتادة.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} أي: إنما تنذر يا محمد الذين(9/5967)
يخافون/ عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، لكن آمنوا بما جئتهم به من الخير بذلك عن الله وصدقوا به.
قال قتادة: معناه يخشون النار والحساب، وإنما خصّ هؤلاء بلإنزار، وإن كان صلى الله عليه وسلم نذيراً لجميع الخلق لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك.
ثم قال تعالى: {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: أدوا فروضها في أوقاتها بحدودها.
ثم قال: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} أي: ومن تطهر من دنس الكفر والمعاصي بالتوبة إلى الله، فإنما يتطهر لنفسه، أي على نفسه يعود نفع تزكيته لأنه يكسبها رضى الله جلّ ذكره والفوز بالنجاة من النار والحلول بالجنة.
قال قتادة: ومن يعمل صالحاً فإنما يعمل لنفسه، فهو مثل قوله: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}
[فصلت: 46].
ثم قال: {وَإِلَى الله المصير} أي: رجوع كل عامل عملاً إلى الله تعالى فيجازيه عليه.
ثم قال تعالى ذكره: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} أي: الكافر والمؤمن.
أي: {وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} الكفر والإيمان.
{وَلاَ الظل وَلاَ الحرور}. أي: الجنة والنار.(9/5968)
قال الأخفش: لا زائدة في " ولا النور " و " لا الحرور ".
وقيل: إن " لا " لها فائدة في دخولها مع الواو خلاف خروجها وذلك أنها تدل على أن كل واحد من الاثنين لا يتساويان، فإذا قلت لا يستوي الأعمى ولا البصير، فمعناه لا يساوي الأعمى البصير ولا البصير الأعمى.
وإذا قلت [لا يستوي الأعمى والبصير، فمعنها لا يساوي الأعمى البصير].
وليس فيه دلالة على أن البصير لا يساوي الأعمى، وهذا القول فيه دخَلٌ. لأن من لم تساوه لم يساوك، فدخول لا مثل خروجها.
قيل: معنى الآية: لا يستوي الأعمى عن دين الله الكافر به، والبصير في دين الله المتبع له، ولا ظلمات الكفور ونور الإسلام.
وقال ابن عباس: الظل الجنة، والحرور: النار، والظلمات: الضلالة، والنور: الهدى.
وقيل: الظل ضد الحر، والحرور الحر الدائم، والسموم لا يكون إلاّ بالنهار،(9/5969)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
والحر بالنهار والليل، هذا قول الفراء.
وقال رؤبة: الحرور بالليل، والسموم بالنهار.
قال: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات} أي: الأحياء القلوب بالإيمان، والأموات القلوب بغلبة الكفر عليها، فلا تعقل عن الله شيئاً ..
قال ابن عباس: هذا كله مثل ضربه الله لأهل الطاعة والمعصية.
ثم قال: {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} أي: يوقف من يشاء لقبول كتابه فيتعظ به.
{وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} أي: لست يا محمد تسمع الموتى كتاب الله فتهديهم به، فكذلك لا تقدر أن تسمعه من أمات قلبه فيهتدي به.
ثم قال تعالى: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي: تنذر من أُرسِلت إليه ليس عليك غير ذلك.
قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً} إلى قوله: {الفضل الكبير}.(9/5970)
أي: أرسلناك يا محمد بالدين الحق بشيراً بالجنة لمن أطاعك فآمن، ونذيراً تنذر بالنار من عصاك فكفر بك.
ثم قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي: وما من أمة كانت قبلك يا محمد إلاّ وقد جاءها نذير ينذرها عذاب الله على الكفر.
قال قتادة كل أمة كان لها رسول.
ثم قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: إن يكذبك يا محمد مشركوا قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم، جاءتهم الرسل بالبينات، أي بحجج الله الواضحة {وبالزبر} أي: بالكتاب من عند الله.
{وبالكتاب المنير} أي: منير لمن تبينه وتدبره.
ثم قال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} اي: أهلكتهم بكفرهم.
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي انظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وإنكار لكفرهم، وحلول عقوبتي بهم.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي: منها الأحمر والأسود والأصفر.
ثم قال: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ} أي: طرائق، وهي الجدد جمع جُدّة، وهي الطريقة في الجبل.
قال الأخفش: ليس جُدَد يجمعك على جديد لأنه يلزم أن تقول فيه جُددٌ بالضم،(9/5971)
قال: والجُدَد
ُ جمع جُدَّة.
والجُدَدُ الخطوط تكون في الجبال بيض وسود وحمر. فلذلك قال: {مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي: ألوان الجدد.
ثم قال/: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي: وسود غرابيب، فهو مؤخر يراد به التقدم.
والعرب تقول: هو أسود غربيب إذا وصفوه بشدة السواد.
ثم قال: {وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي: خلق مختلف ألوانه.
{كَذَلِكَ} أي: مثل الجدد، أي كما اختلفت ألوان الطرائق في الجبال، كذلك تختلف ألوان الناس والأنعام وغيرهم، قدرة من الله تعالى ينبه خلقه عليها.
ومن أجل حذف الموصول قال: " ألوانه "، أي: خلق مختلف ألوانه، ولم يقل ألوانهم ولا ألوانها.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أي: إنما يخاف الله ويتقي عقابه العلماء بقدرته على ما يشاء وأنه يفعل ما يريد، لأنّ من علم ذلك أيقن بالمعاقبة على المعصية فخاف الله واتقاها.
قال ابن عباس: هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.(9/5972)
وقال قتادة: كفى بالرهبة علماً.
قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله.
وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً والاغترار به جهلاً.
قال ابن منصور بن زاذان: نُبِّئتث أن بعض من يُلقَى في النّار يتأذى الناس بريحه، فيقال: ويلك ما كنت تعمل؟ أما يكفي ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وينتن ريحك؟ فيقول: كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي.
وقال عمران القصير: بلغني أن في جهنّم وادياً تستعيذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة مخافة أن يرسل عليها فيأكلها، أعد الله ذلك الوادي للمرائين من القراء.
ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي: عزيز في انتقامه.
{غَفُورٌ} للذنوب لمن تاب وأطاع.(9/5973)
{كَذَلِكَ} تمام حسن عند الجميع، و {أَلْوَانُهَا} تمام، و {العلماء} تمام.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: يقرؤون القرآن ويدومون على أداء الصلاة لمواقيتها بحدودها. ومعنى أقاموا: يقيمون.
ثُمّ قال: {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} يعني: الزكاة المفروضة يعطونها خفية وجهاراً. وأنفقوا بمعنى ينفقون.
وقل: المعنى: أنهم يتصدقون بعد أداء الفرض الواجب عليهم.
ثم قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} أي: يطلبون بفعلهم تجارة لن تبور، أي: لن تكسد ولن تهلك.
ثم قال: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} أي: طلبوه ذلك ورجوه لكي يوفيهم أجورهم على فعلهم ذلك ويزيدهم من فضله، وهو ما زاد على الحسنة بحسنة، وذلك تسع حسنات إلى ست مائة وتسع وتسعين، هو تفضل من الله على عباده.
قال قتادة: كان مُطرِّف إذا مرَّ بهذه الآية: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله} قال: هذه آية(9/5974)
القراء.
ثم قل: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي: غفور لهؤلاء الذين تقدمت صفتهم، شكور لحسناتهم، قاله قتادة.
ثم قال تعالى: {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} أي: من القرآن، يخاطب محمّداً صلى الله عليه وسلم. { هُوَ الحق}، أي: هو الحق عليك وعلى أمتك، أن تعملوا به وتتبعوا ما فيه دون غيره من الكتب التي نزلت قبله.
ثم قال: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما قبله من الكتب: التوراة والإنجيل وغيرها.
ثم قال: {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي: ذو خَبَرٍ بِهِمْ وعلم، بصيرٌ بما يصلحهم.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} أي: الذين اخترنا، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم. واختُلِفَ في هذه الثلاثة الأصناف المذكورين في هذه السورة وفي سورة " الواقعة ".
فقيل: الأصناف في هذه السورة هم الأصناف في سورة " الواقعة "، فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد هم أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه هم أصحاب المشئمة. وأكثر الناس على أن الثلاثة الأصناف في هذه السورة، هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم،(9/5975)
لأنه قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا}، وأصحاب المشئمة المذكبين الضّالين لم يورثوا كتاباً، ولا اصطفاهم الله ولا اختارهم، وقد أخبرنا في هذه السورة أنه إنما أورث الكتاب من اختباره واصطفاه. فالظالم لنفسه ليس هو من أصحاب المشئمة، والثلاثة الأصناف في " الواقعة " يراد بها جميع الخلق من الأولين والآخرين، والثلاثة الأصناف في هذه السورة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لقوله: / {أَوْرَثْنَا الكتاب} ولقوله: {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا}، ولما نذكره من قول الصحاب والتابعين وما روي في ذكل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من ذلك قول ابن عباس، قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} أي: الذين اخترنا من عبادنا، قال: معناه اخترنا منهم، فالظالم لنفسه هو الذي يموت على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد هو الذي مات على صغائر - ولم يصب كبيرة - لم يتب منها، والسابق هو الذي مات تائباً من كبيرته وصغيرته، أو لم يصب ذلك فيحتاج إلى توبة. ولا يسلم من الصغائر واحد إلاّ يحيى بن زكريا، فأمّا الكبائر فالأنبياء معصومون منها، وسائر الخلق غير معصومين منها إلاّ من شاء الله أن يعصمه. ومعنى " اصطفينا ": اخترنا منهم، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فالظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وروى ابو الدرداء: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يَجِيءُ هَذَا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ، وَيَجِيءُ هَذَا الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ، وَيَجِيءُ هَذَا الظَّالِمُ فَيُوقَفُ وَيُعَيَّرُ وَيُجْزَى وَيُغَرَّف ذُنُوبَهُ يُدْخِلُهُ اللهُ الجَنَّةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ(9/5976)
فَهُمْ الّذِينَ قَالُوا (الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي غفر الذنب الكبير وشكر العمل القليل ".
وروى أيضاً أبو الدرداء: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَمَّا السَّابِقُ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالْمُقْتَصِدُ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَأَمَّا الظَّالِمُ فَيُحْبَسُ فِي طُولِ المَحْبَسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ ".
وقال عمر رضي الله عنهـ: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له.
وقال ابن مسعود: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوبهم عظام فيقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء؟ وهو أعلم، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب جلّ ثناؤه: أدخِلوا هؤلاء في سعة رحمتي. ثم تلا عبد الله هذه الآية.
وقال كعب لما قرأ هذه الآية أو قُرئت عليه: دخلوها وربّ الكعبة. وقال: الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة. ألم ترَ أن الله يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، ثم قرأ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} إلى قوله:(9/5977)
{كُلَّ كَفُورٍ}.
وقال محمد بن الحنيفة: إنّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم مرحومة: الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات عند الله جلّ ذكره وثناؤه، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله جلّ ذكره.
وروي عن عمر وعثمان وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنها أنهم قالوا: الثلاثة في الجنة ما لم يكن الظالم كافراً أو فاسقاً، أو منافقاً.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الكتاب الذي أورث هؤلاء: شهادة أن لا إله إلاّ الله وهو قول مجاهد.
وروي أن كعب الأحبار لما أسلم قالت يهود: ما حملك على رأيك الذي رأيت؟ ألم تكن سيدننا وابن سيدنا في أنفسننا؟، قال لهم: أتلوموني إن كنت من أمة وجت مجتهدهم يدخل الجنة بغير حساب، ووجدت مقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً،(9/5978)
ووجدت ظالمهم يغفر له ذنبه.
وعن عائشة أنها قرأت هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا} فلما بلغت: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، قالت: دخلت - ورب الكعبة - هذه الأصناف الثلاثة الجنة، فلما دخلوها واستقروا بها قالوا: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن}، أي: حزن ما عيانوه من أهوال الموقف. وقيل: قالوا ذلك حين أيقنوا بذهاب الموت وأمنوا، فذهاب الموت وفقده حسرة على أهل النار وفرحة لأهل الجنة.
وقيل: الحزن أنهم علموا أعمالاً في الدنيا كانوا في حزن ألاّ تقبل منهم، فلما قبلت زال الحزن.
وقال ابن عباس: المصطفون/ أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: فالظالم لنفسه: المنافق وهو في النار، والمقتصد والسابق في الجنة.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: جعل الله أهل الآية على ثلاث منازل، كقوله: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال} [الواقعة: 41]. {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27]. {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10 - 11] قال عكرمة اثنان في الجنة وواحد في النار.(9/5979)
وقال مجاهد والحسن وقتادة: " فمنهم ظالم لنفسه ": هذا المنافق، " ومنهم مقتصد ": هذا صاحب اليمين، و " منهم سابق بالخيرات ": هذا المقرب. وروى ابن وهب أن عثمان بن عفان قال: سابقنا أهل الجهاد منا. ومقتصدنا أهل حاضرنا، وظالمنا أهل بدون.
وقال قتادة: الناس ثلاث منازل في الدنيا، وثلاث منازل عند الموت، وثلاث منازل في الآخرة. أما الدنيا فمؤمن ومنافق ومشرك، وأما عند الموت فمقرب وصاحب يمين وضال. وقرأ: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين} إلى: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88 - 94]، وأما في الآخرة فصاحب يمين وصاحب شمال وسابق. ثم قرأ: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون} [الواقعة: 8 - 11].
فالضمير المرفوع في {يَدْخُلُونَهَا} على هذه الأقوال يعود على المقتصد والسابق. وعلى الأقوال الأولى يعود على الأصناف الثلاثة.
وقد قيل: إن المصطفين هنا: الأنبياء، والظالم لنفسه: المكتسب منهم الصغائر، وهذا قول شاذ، والأول أشهر.(9/5980)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
قال المبرد: المقتصد: الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها.
وقيل: الظالم هنا صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فيكون ضمير يدخلونها يعود على السابقين بالخيرات لا غير.
وروي عن بن عباس: أن الكتاب هنا كل كتاب أنزل.
ثم قال: {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} أي: هو الذي وفق هذا، له من عمل الخيرات فضل كبير من الله عليه.
ويجوز أن يكون المعنى هذا الذي أورث الله هؤلاء من الكتاب فضل كبير من الله عليهم.
قوله تعالى ذكره: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ} إلى قوله: {مِن نَّصِيرٍ}.
أي: بساتين إقامة لا زوال منها، يدخل هؤلاء المتقدمون ذكرهم، على ما ذكرنا من الاختلاف في الآية التي قبلها، ورجوع الضمير على الكل أو على البعض.
ثم قال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أي: يلبسون ذلك في هذه البساتين. وأساور جمع الجمع واحده أَسْوِرَة، وواحد أَسْوِرَة سَوار وسِوَار لغتان فيه. وحكي إِسْوَارٌ، وجمعه أساوير. وفي حرف أُبَيّ: " أساوير " على هذا المعنى.(9/5981)
وقال بعض أهل اللغة: قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} عام في النساء والرجال، وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يعني به النساء خاصة، وهو غلط لأنه كان يجب أن يقول يحلين، ولكن هو للرجال.
ويجوز أن يكون لها جميعاً فيغلب المذكر على المؤنث.
ثم قال: {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} من خفض فعلى العطف على " أساور ". ومن نصب فعلى مومضع " أساور ".
وروي أن كل واحد يحلّى في يده ثلاث أسوِرة: واحد من فضة، وآخر من ذهب، وآخر من لؤلؤ، والذهب في الوسط في كل يد.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن}.
قال ابن عباس: الحزَن: حزن دخول النار، وهو قول الحسن. وقال عطية الحزنَ: الموت.
وقال شمر: الحزنَ: حزن الخبر.(9/5982)
وقال قتادة: كانوا في الدنيا يعملون وينصبون وهم في حزن فحمدوا الله على ذهاب ما كانوا فيه.
وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَيُصِيبُهُ فِي ذَلِكَ المَكَأنِ مِنَ الغَمِّ وَالحُزْنُ فَذَلِكَ قَوْلُهُم: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ " يعنون ما كانوا فيه - في الموقف - من الخوف.
وقال الزجاج: معناه الذي أذهب عنا الغم بالمعيشة، والخوف من العذاب وتوقع الموت. وقيل: هو عام في جميع الحزن.
وقيل: الحزن هو أعمال عملوها من الخير فكانوا تحت خوف منها أن تقبل منهم أولا تقبل، فلما قبلت حمدوا الله على ذلك.
وروى زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلاّ الله وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِم وَلا يَوْمَ نُشُورِهِمْ، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لا إِلَهَ إلاَّ اللهَ(9/5983)
يَنْفُضُونَ التُّرابَ/ عَنْ رُؤُوسِهِمْ يَقُولُونَ: الحَمْدُ للهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ ".
ثمّ قال: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} قيل: إنه من قول الثلاثة الأصناف.
قال قتادة: غفور لذنوبنا شكور لحسناتنا.
قال شمر: غفر لهم ما كان من ذنب وشكر لهم ما كان من عمل. وقيل: هو من قول الظالم لنفسه، أي: غفر الذنب الكثير وشكر العمل القليل.
رواه أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ذكره في قوله: {أَوْرَثْنَا الكتاب}.
وذكر ابن وهب عن أبي رافع أنه قال: بلغنا أنه يُجاء لابن آدم يوم القيامة بثلاثة دواوين، ديوان فيه الحسنات، وديوان فيه النِّعم، وديوان فيه السيّئات، فيقال لأصغر تلك النّعم: قومي فاستوفي ثمنك من الحسنات فتستوعب عمله ذلك كله فتبقى ذنوبه والنّعم كما هي، فمن ثم يقول العبد: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
وعن ابن عباس أنه قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد(9/5984)
يُحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يحاسب حساباً شديداً ويحبس حبساً طويلاً. فإذا أدخل هؤلاء الظلمة لأنفسهم الجنة قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزَنَ - الذي كنا [فيه] حين حبسنا - إنّ ربنا لغفور شكور، غفر الذنوب العظيمة وشكر العمل القليل.
ثم قال تعالى ذكره: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} أي: أنزلنا وأدخلنا دار الإقامة. والمقامة والإقامة سواء، وهي الجنة. {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي: تعب ولا وجع.
{وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي: عياء. يقال: لغب يلغبُ لُغُوباً.
قال ابن عباس: اللغوب: العياء. والنَّصبُ بفتح النونو والصاد التعب والنُّصْبُ بضم النون وتسكين الصاد: الشَّرُّ، والنُّصُبُ بضمّتين: ما يُنصَبُ لذبح أو غيره.
وقرأ أبو عبد الرحمن: " لَغوب " بفتح اللام جعله مصدراً كالوَقود والطَّهور.
وقيل: هو ما يغلب منه.(9/5985)
ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} قال قتادة: لو ماتوا استراحوا، ولكن لا يموتون.
ثم قال: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} أي: لا ينقص عنهم من النوع الذي هم فيه من العذاب.
ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي: نكافئ كلّ جَحُود لنعمة ربه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي: يستغيثون فيها ويضجون، ويسألون الرجعة إلى الدنيا ليعلموا صالحاً، فيقال لهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}.
قال ابن عباس: هو أربعون سنة أعذر الله فيه لابن آدم، وقاله مجاهد.
وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله جلّ ثناؤه.(9/5986)
وقيل: هي ثماني عشر سنة.
وعن ابن عباس أيضاً: إنها ستون سنة، وهو قول علي بن أبي طالب.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نُودِيَ أَيْنَ أَبْنَاءُ السِّتِّينَ وَهُوَ العُمْرُ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعالَى ذِكرُهُ: أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ".
وروى أبو هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ فِي العُمْرِ إِلَى صاحبِ السِّتِّينَ سنَة والسَّبْعِينَ ".
ثم قال: {وَجَآءَكُمُ النذير}.
قال ابن زيد: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ: {هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى} [النجم: 56]. وقيل: هو الشّيب.(9/5987)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
والمعنى عمرتهم هذا العمر فلم تتعظوا ولم تعملوا ولم تؤمنوا.
ثم قال: {فَذُوقُواْ} أي: عذاب جهنّم.
{فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أي: ما لهم من ينصرهم من عذاب الله فيستنقذهم منه.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات} إلى قوله: {لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً}.
أي: يعلم ما يخفى جميع الخلق وما يسرّون، وما لم يخفوه.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: ما تخفون في أنفسكم.
ثم قال: {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} أي: استخفلكم في الأرض بعد الأمم الماضية.
قال قتادة: أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن.
وفيه معنى التنبيه والتخويف أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم قبلهم.
ثم قال تعالى: {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: على نفسه ضرر كفره راجع، مثل: {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]. وقيل: معناه: فعليه جزاء كفره.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} أي: بعداً من الله ورحمته.
{وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} أي: هلاكاً.
والمقت/ عن أهل اللغة أشد البغض.(9/5988)
ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله، {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض}، أي: هل خلقوا شيئاً، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} - إن لم يكونوا خلقو في الأرض شيئاً - أم أعطاكم الله كتابً أن تشركوا بها، وتعبدونها من دون الله، فأنتم على حجج من عبادتكم لها إن كان معكم شيء من ذلك، فهل عبدتموها لأمر من هذه الأمور: فيقوم لكم بذلك عذر، أم عدبتموها لا لمعنى، فتظهر لكم خطايكم. وكذلك فعلوا، ألا ترى أنهم لم يجدوا حجة من عبادتهم لها إلا أن {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53].
ومعنى " أرأيتم " عند سبيويه: أخبروني عن كذا، على (معنى) التوقيف، وأجاز سيبويه: " قد عَلِمْتُ زَيْدٌ أبو مَنْ هُوَ " بالرفع لأن زيداً في المعنى مستقفهم عنه، ولو جعلت موضع علمت أرأيت، لم يجز الرفع لأنه بمعنى أخبرني عن زيد، فلا يصلح أن يعلق، إذْ خرج عن حد ما يدخل على الابتداء والخبر، وحسن تعليق علمت لأنها داخلة على الابتداء والخبر.
ثم قال: {بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} أي: ليس لآلهتهم شيء من هذه الخِلال،، فقولهم: ما نعبد آلهتنا إلا لتقربنا إلى الله زلفى خداع من بعضهم لبعض، وحس إضافة الشركاء إليهم لأنهم هم اختلقوها وجعلوها شِرْكاً لله.
و" بَيّنَت " في الحظ بالتاء، وذلك يدل على أنه جمع لأنه لو كان واحداً لم يكتب(9/5989)
بالتاء لأنه مُنَوَّنٌ، وإنَّ ما وقع بالتاء من هذا النوع ما كان غير منونٍ نحو " رَحْمَتِ رَبّي ". و [. . .] الله وشبه ذلك.
وأيضاً فإن كثيراً من المصاحف كتبت " بيِّنَاتِ " فيه بألف قبل التاء فمن قرأ بالتوحيد فلا يخلو من أن يكون خالف الخط، ومخالفته لا يتجوز، أو تكون قراءة على لغة الذين قالوا في طلحة: طلحت فوقفوا بالتاء، هي لغة شاذة.
ثم قال: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} أي: لئلا تزولا عن مكانهما.
{وَلَئِن زَالَتَآ} قال الفراء: " لئن " بمعنى لو.
والمعنى: ولو زالتا. وحسن ذلك عنده لأن: (لئن ولو) تجابان بجواب واحد فشبيهتان في المعنى.
قال قتادة: " أن تزولا ": أي من مكانهما.
وروي أن رجلاً جاء إلى عبد الله، فقال له: من أين جئت؟ فقال من الشام، فقال: مَنْ لَقِيتَ؟ قال: لقيت كعباً، قال: ما حدثك كعب؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك، قال: فصدقته أو كذبته؟ قال: ما صدقته ولا كذبته، قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله يقول:(9/5990)
{إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات} الآية.
وروي عنه أن الرجل قال له: قال كعب: إن السماء في قطب كقطب الرحى، [والقطب عمود]، والعمود على منكب ملك.
وقيل: إن المعنى أن النصارى لما قالت: إن المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزي ابن الله كادت السماوات أن تنفطر، وكادت الجبال أن تزول، وكادت الأرض أن تنشق، فأمسك الله جل ذكره ذلك حِلْماً منه وأنَاةً وتفضلاً، وهو قوله تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91].
وقوله جل ذكره: {وَلَئِن زَالَتَآ} يعني به يوم القيامة لأنها تزول فيه. س
وقيل: إن المعنى: لو وقع هذا، على ما ذكرنا عن الفراء.
ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي: حليماً عن مَنْ عصاه أن يعالجه بالعقوبة، فإمساكه السماوات والأرض والجبال عند قولهم ذلك، وإضافتهم الولد إليه مِن حلمه، غفوراً لمن تاب من كفره.
ثم قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أقسم هؤلاء المشركون أشد(9/5991)
الإيمان وأبلغها.
{لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} ينذرهم بأس الله {لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم} أي: ليكونن أسلك لطريق الحق واتباع الرسول من إحدى الأمم الماضية، فلما جاءهم نذير وهو محمد صلى الله عليه وسلم ازدادوا في كفرهم وغيهم ونفروا عن الأيمان أكثر مما كانوا قبل أن يأتيهم، استكباراً منهم في الأرض وأنفة أن يُقِرُّوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَمَكْرَ السيىء} أي: وخدعة سيئة، وذلك أنهم صدوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به.
قال قتادة: " ومكر السيء " هو الشرك.
وأصل المكر السيء في اللغة الكذب/ والخديعة بالباطل. وقوله " جهد " نصبه على المصدر، أي: جهدوا في مبالغة الإيمان جهداً. " واستكباراً " ومكراً " انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما، أي فعلوا ذلك لهذا أي للاستكبار والمكر.
وأكثر النحويين على رد قراءة حمزة بإسكان همزة " السَّيِّءْ في الوصل ".
وقال قوم: هو جائز في كلام العرب سائغ، وإنما فعل ذلك في الوقف، فوصل على نبية الوقف كما أثبت هاء السكت وألف " أنا " في الوصل من أثبتهما على نية الوقف.(9/5992)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
وقال قوم: إنما أسكن استخفافاً لأنه قد اجتمع في الكلمة ياءان: الثانية مكسورة، والكسرة مقام ياء، وبعد ذلك همزة، وهي ثقيلة، فأسكن لاجتماع هذه الثقل.
وقد خففت العرب كسرتين نحو: إِبِلٍ " " وإِطِلٍ "، فقالوا: إِبْلٍ وإِطْلٍ، وخففوا ضمتين فقالوا: " رُسُلٍ وسُبُلٍ ". فشبهوا حركة الإعراب بحركة البناء عند اجتماع كسرتين على حرفين ثقيلين قبلهما حرف ثقيل.
وقيل: إنه إنما كان يخفي الحركة وليس يسكن.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي: لا يحل مكروه الباطل وعقوبته إلاّ بمن فعله.
ثم قال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين} أي: سنتنا في إهلاكه الأمم الماضية على كفرهم.
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً} أي: لا تجد يا محمد لعادة الله في إهلاك الكفار تغييراً.
{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} أي: انتقالاً: بل ينتفقم منهم، وينزل عليهم سخطه، فإن أمهلهم وأملى لهم فلا بد من عادة الله فيهم بالانتقام كما مضت فيمن كان قبلهم من الأمم.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} إلى آخر السورة.(9/5993)
أي: أولم يسر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد في الأرض، فينظروا عاقبة الأمم الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فيتعظوا ويزدجروا عن إنكارهم لنبوتك وتكذيبك فيما جئتهم به، ويخافوا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك الأمم من العقوبات.
والمعنى: أنهم قد ساروا ونظروا لأنهم كانوا تجاراً إلى الشام، فيمرون على مدائن قوم لوط وغيرها من المدن التي أهلك الله قومها لكفرهم بالرسل، كما تقول للرجل ألم أحسن إليك؟ أي: قد أحسنت إليك.
ثم قال: {وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي: وكان أولئك الأمم أشد من هؤلاء قوة في الأبدان والأموال والأولاد، فلم ينفعهم ذلكإ ذ كفروا، فأحرى أن لا ينتفع هؤلاء بقوتهم وكثرة أموالهم وأولادهم إذ هم دون أولئك.
ثم قال: {قُوَّةً وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض} أي: لم يكن شيء يفوت الله بهرب ولا غيره، بل كان تحت قبضته فلا محيص عنه ولا مهرب في السماوات ولا في الأرض.
بل هذا وعيد وتهديد وتخويف لمن أشرك بالله وكذب محمداً عليه السلام.
ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أي: بخلقه وما هو كائن، ومَنِ المستحق منهم تعجيل العقوبة، ومن هو راجع عن ضلالته ممن يموت عليها. {قَدِيراً} أي: قادراً على جميع ذلك لا يتعذر عليه شيء.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} أي: لو عجل الله عقوبة بني آدم الآن بظلمهم لم يبق أحد إلا هلك، ولكن يؤخر عقابهم إلى وقت معلوم، وهو الأجل المسمى الذي لا يتجاوزونه ولا يتقدمون قبله.
قال قتادة: فعل الله ذلك بهم مرة في زمن نوح فأهلك ما على ظهر الأرض من(9/5994)
دابة، إلا ما حمل نوح في السفينة.
قال أبو عبيدة: " مِنْ دَابَّةٍ " يعني الناس.
وقيل: هو الناس وغيرهم مما يدب.
قال ابن مسعود، كاد الجُعَلُ يعذب بذنب بني آدم ثم تلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} الآية.
وذكر ابن وهب عن الليث بن سعد أنه قال: إن رجلاً زنى بامرأة في عهد (موسى) عليه السلام فمات في تلك الليلة لذنبهما مائة ألف من بني إسرائيل، فدل الله هارون على مكانهما فاتنظمهما بحربة، ثم أقبل بهما على بني إسرائيل، وأقبل الدم حتى إذا دنا من يد هارون استدار حتى عاد كالترس ولم يصب الدم مِنْ يَدِ هارون.
ثم قال: {فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} أي: إذا جاء وقتهم فهو تعالى بصير بمن يستحق العقوبة ومن يستوجب الكرامة.(9/5995)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يس
مكية
قوله تعالى (ذكره): {يس * والقرآن الحكيم} إلى قوله: {فَهُم مُّقْمَحُونَ}.
قال ابن أبي ليلى: لكل شيء قلب وقلب القرآن يس، من قرأها نهاراً كُفِي همه، ومن قرأها ليلاً كُفِي ذنبه.
وقال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة وطه ويس فقط.(9/5997)
روى عن عقبة بن عامر أنه كان يحدث: (أن) النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَرَأَ يَس فَكَانَّما قَرَأَ القُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ " من رواية ابن وهب.
قرأ عيسى بن عمر: " يَاسِينَ " بفتح النون، جعله مبنياً على الفتح، ويجوز أن يكون فتح لالتقاء السكانين، وأراد به الوصل واختار الفتح، كما قالوا: كيف وأين.
وأجاز سيبويه أن يكون مفعولاً به على معنى: اقرأ ياسين، أو: اذكر ياسين. لكنه لم ينصرف لأنه اسم للسورة، فهو اسم أعجمي عنده كهابيل.(9/5998)
وذكر الفراء: كسر النون لالتقاء الساكنين كما قالوا: جَيْرٍ لا أَفْعَل.
قال ابن عباس: " يس " قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى ذكره.
وعنه أيضاً: " يس " يا إنسان يريد محمداً صلى الله عليه وسلم.
وروى عكرمة عنه: " يس ": يا إنسان بالحبشية.
وقال مجاهد: " يس " مفتاح كلام افتتح الله جل ذكره به كلامه.
وقال قتادة: (كل هجاء) في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن.(9/5999)
وقال الزجاج: جاء في التفسير " يس " معناه: يا إنسان، وجاء (يا) رجل، وجاء: يا محمد.
وقوله: {والقرآن الحكيم} قسم، والحكيم: المحكم آياته.
{إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جواب القسم، (أي) لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده.
{على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على طريق لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، قاله قتادة.
وقيل: على طريق الأنبياء قبلك.
والوقف على {يس} جائز إذا جعلته اسماً للسورة، أو تنبيهاً.(9/6000)
ولا يحسن الوقف على {المرسلين} لأن ما بعده متعلق به.
و (قد) أجازه أبو حاتم. وهو غلط.
ثم قال (تعالى): {تَنزِيلَ العزيز الرحيم} من رفعه جعله خبراً ثانياً لإنَّ. ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ، أي: هذا القرآن تنزيل المنيع بسلطانه وقدرته، الشديد في انقامه ممن كفر به الرحيم بخلقه.
ومن نصب " تنزيل " فعلى المصدر، أي: نزله تنزيلاً.(9/6001)
ولا يحسن الوقف على " الرحيم "، لأن اللام بعده متعلقة بما قبله، أي نزله تنزيلاً لتنذر.
ويجوز أن يتعلق بالمرسلين، أي: إنك لمن المرسلين لتنذر.
(والمعنى لتنذر) يا محمد قوماً لم يُنْذَر آباؤُهم من قبلهم، قاله قتادة فما جحد.
وقال عكرمة: قد أُنْذِرَ آباؤهم. فتكون " ما " والفعل مصدراً [أي إنذاراً مثل إنذار آبائهم. ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي على هذا القول]، أي لتنذر قوماً الذي أُنْذِرَ آباؤهم، أي: الذي أُنْذِرُوا.
{فَهُمْ غَافِلُونَ} أي: غافلون عن دين الله وما لله صانع بهم إن ماتوا(9/6002)
على كفرهم به.
وهذا يدل على أن (ما) نافية، لأنهم لو كان آباؤهم أنذِروا لم يكونوا غافلين. ويدل على ذلك أيضاً قوله (تعالى): {وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44].
ثم قال: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} أي: وجب عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون.
وقيل: معناه: وجب (عليهم العذاب)، كما قال: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71].
وهذا إثبات للقدر، وأن الأمر كله قدره الله وفرغ منه، فحق وقوعه على ما قدره وعلمه.
وكذلك: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} [يس: 9] الآية. كله يدل على أن القدر قد سبق في علم الله، يضل من يشاء فَيَخْذِلُهُ، ويهدي من يشاء فيوفقه.(9/6003)
ثم قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان} قال الضحاك: منعناهم من النفقة في سبيل الله (كما) قال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29].
وقيل: ذلك يوم القيامة إذا دخلوا النار.
فجعل (بمعنى يجعل).
قال الطبري: التقدير: إن جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال فلا تنبسط لشيء (من) الخير.
وفي قراءة ابن/عباس وابن مسعود: ((إنَّا جَعَلْنَا) فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلالاً)(9/6004)
وقرأ بعضهم: " في أَيْدِيهِمْ ".
والكناية في (فهي) ترجع إلى الإيمان، (لأن) الكلام دل على الأيمان، لأن الغل لا يكون في العنق دون اليد ولا في اليد دون (العنق).
فالمعنى: فالأيدي إلى الأذقان. والذَّقْنُ مُجْتَمَعُ اللِّحْيَيْنِ. ثم قال: {فَهُم مُّقْمَحُونَ}.
قال مجاهد: رافعوا رؤوسهم [و] أيديهم على أفواههم.
وقال قتادة: {مُّقْمَحُونَ} مغللون عن كل خير.
(و) قال أبو عبيدة: (هو الذي) يحدث وهو رافع رأسه.(9/6005)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قال الفراء: هو الرافع رأسه الغاض بصره.
وقيل: المقمح: الرافع رأسه لمكروه نزل به.
وأراهم علي بن أبي طالب الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألقصهما ورفع رأسه.
(وحكى) الأصمعي: أكْمَحْتَ الدابة إذا أَخَذْتَ لجامها لترفع رأسها/ والكاف بدل من القاف وقالوا: (الكانونين) شَهْرَا قِمَاحٍ لرفع الإبل فيهما رؤوسها عند الماء لبرده.
قوله (تعالى ذكره): {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إلى قوله {قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} قد تقدم ذكر السَّدِّ والسُّدِّ في الكهف، والمعنى: جعلنا من بين أيدي هؤلاء الكفار حاجزاً ومن خلفهم حاجزاً.(9/6006)
{فَأغْشَيْنَاهُمْ} أي: جعلنا على أعينهم غشاوة.
وروي عن ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر: " فَأَعْشَيْنَاهُمْ "، بالعين غر معجمة من عَشَى العين.
قال الطبري في " سُدّاً ": من فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضم.
وقيل: معناه أنهم زين لهم سوء أعمالهم فهم يعمهون فلا يبصرون شيئاً.
قال مجاهد: سداً عن الحق فهم يترددون.
وقال ابن زيد: جعل هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان فهم لا يخلصون(9/6007)
إليه. وقرأ: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}، وقرأ: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، وقرأ شبه ذلك.
وقيل: هو تمثيل، والمعنى: أنه تعالى منعهم من الهدى بالضلال فلم ينتفعوا بالإنذار.
قال ابن إسحاق: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية من خلف يترصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم فقرأ أول {يس} وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إلى رأس العشر، فأطرقوا حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس: أقسم أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي لأدمغنه، فأخذ حجراً(9/6008)
والنبي عليه السلام يصلي ليرميه به، فلما أومأ به إليه رجعت يده إلى عنقه والتصق الحجر بيده، فهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 8].
قال عكرمة: كانوا يقولون: هذا محمد، فيقول أبو جهل: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره.
ثم قال: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أي: الإنذار وتركه على هؤلاء الذين حق عليهم القول سواء، فيهم لا يؤمنون لما سبق لهم في أم الكتاب، وهو قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179].
قال ابن عباس: ما آمن منهم أحد، يريد من القوم الذين تقدم ذكرهم.
ثم قال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} أي: من آمن بالقرآن.
{وَخشِيَ الرحمن بالغيب} أي: وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناس لأن(9/6009)
المنافق يستخف بدين الله إذ خلا.
ويجوز أن يكون المعنى: وخاف الله من أجل ما أتاه من الأخبار التي غابت عنه فلم يعاينها، ولكنه صدقها فخاف من عواقبها، فهو مثل قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3].
ثم قال: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي: بستر من الله لذنوبه إذا اتبع الذكر وخاف الله.
{وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: وثواب في الآخرة حسن، وذلك الجنة.
ثم قال: (تعالى ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} يعني في الآخرة للنشور.
{وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي: من أعمالهم في الخير والشر. وتقديره: ونكتب ذكر ما قدموا.
{وَآثَارَهُمْ} أي: ما أخروا بعدهم من الأعمال والسنن التي يتبعون عليها (ويقتدى بهم فيها). فهو ما أبقى الرجل بعده من عمل يجري عليه ثوابه أو إثمه.(9/6010)
وقيل/ هو تصرفهم وتقلبهم في (الدنيا) وخطاهم مكتوب (كله).
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرب عليهم. فيكون المعنى: ونكتب ثواب خطاهم ومشيهم إلى المسجد على بعد مساكنهم وقربها.
قال ابن عباس: كانت (منازل) الأنصار متباعدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فنزلت {وَنَكْتُبُ مَاَ (قَدَّمُواْ) وَآثَارَهُمْ} فقالوا: نثبت مكاننا.
وقال جابر: أَرَادَ بَنُوا سَلِمَة قُرْبَ المَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَّارَكُمْ إِنَّهَا تُثْبِتُ آثَارُكُمْ ".
وقال مجاهد (والحسن) وقتادة: آثارهم خطاهم.
قال جابر بن عبد الله: " هَمَمْنَا أَنْ نَنْتَقِلَ إِلَى قُرْبِ المَسْجِدِ، واسْتَشَرْنَا رَسُولَ الله(9/6011)
صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: امْكُثُوا (مَكَانَكُمْ)، فَإِنَّ لَكُمْ فَضِيْلَةٌ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً ".
وروى جابر " أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ الله أَرَدْنَا نَتَحَوَّلَ إِلَى قُرْبِ المَسَجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: " لا تَفْعَلُوا فَإِنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ (حَسَنَةً) ".
وروى عقبة بن عامر عن النبي أنه قال: " يُكْتَبُ لَهُ بِرِجْلٍ حَسَنَةً وَيُحَطُّ عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئَةً/، ذَاهِباً وَرَاجِعاً إِذَا خَرَجَ إِلَى المَسْجِد ".
ثم قال (تعالى): {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: ما كان وما هو كائن(9/6012)
أثبتناه في أم الكتاب. ومعنى {مُّبِينٍ} أي: بَيّنٍ عن حقيقة ما أثبت فيه، وهو اللوح المحفوظ. قاله مجاهد وقتادة وابن زيد.
ثم قال (تعالى): {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون} أي: اذكر لهم يا محمد مثلاً لهم مثلاً.
يقال هذا من ضرب هذا، أي: من أمثاله وجنسه.
أصحاب القرية بدل من مثل، والتقدير مثل أصحاب القرية.
قال عكرمة: هي أَنْطَاكِيَة.
وقاله الزهري.(9/6013)
وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن عيسى بن مريم عليهما السلام بعث رجلين من الحواريين إلى أنْطاكِيَة مدينة الروم فكذبوهما، فقواهما الله بثالث فكذبوهم.
وقال وهب بن منبه: كان بمدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يعبد الأصنام، يقال له: أنطيخس بن أنطيخس، فبعث الله (إليه) المرسلين وهم ثلاثة صَادِقٌ وصَدُوقٌ وَشَلُومٌ، فقدم الله إليه وإلى أهل مدينته اثنين منهم فكذبوهما، وهو قوله: {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي: لستم بملائكة، إنما أنتم بنو آدم مثلنا فلا نقبل منكم، {وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} قالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}.
(أي من عنده)، {وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين} أي: ليس يلزمنا إلا أن(9/6014)
نبلغ إليكم ما أُرْسِلْنا به (إليكم) ونبينه لكم. قال وهب: ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وعابت دينه قالوا لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: تَشَاءَمْنا بِكُمْ، {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ}، أي: لئن لم تسكتوا عما تقولون لنقتلنكم رجماً ولنعذبنكم عذاباً (أليماً).
وتأول الفراء: أن الثالث أرسل قبل الاثنين، وأنه شمعون ولو كان كما قال لكان القرآن: فعززنا بالثالث.
ومعنى: {فَعَزَّزْنَا} فقوينا وشددنا، وأصله من عَزَّنِي إذا غلبني، ومنه قوله: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23]، أي غلبني.
ثم قال (تعالى): {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أي: قالت لهم الرسل لما تشاءموا(9/6015)
بهم أعمالكم معكم وحظكم من الشر والخير معكم ليس ذلك من شؤمنا، أَمِنْ أجل أَنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ بالله وبعقابه تطيرتم بنا.
وقيل: التقدير: قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم فمعكم طائركم، يقدره على التكرير، وهو مذهب بعض البصريين.
وقرئت {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزتين مفتوحتين.
والمعنى: لأن ذُكِّرْتُم تطيرتم بنا فهو على ما مضى، وقراءة الجماعة على ما يأتي.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: في المعاصي.(9/6016)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
قوله (تعالى ذكره): {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا المدينة رَجُلٌ (يسعى)} إلى قوله: {إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه: أن رجلاً من أهل أنطاكية، اسمه حبيب النجار، (كان) يعمل الجرير، وكان مقيماً (قد أسرع فيه) الجذام/، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة (قاصياً)، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه عن عمل ربه، فلما اجتمع قومه. يعني أهل أنطاكية - على قتل الرسل بلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم الله ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال لهم ما قص الله علينا.(9/6017)
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن اسمه حبيب وكان يعبد ربه في غار.
ويروى أنه كان نجاراً، وقيل: (إنه) كان حطاباً، لما بلغه أمر الرسل أتى مسرعاً بحزمته فآمن، وقال للناس: {ياقوم اتبعوا المرسلين}.
ثم أقبل على المرسلين فقال: أتريدون مالاً نعطيكم، فقالو: لا، فأقبل على الناس يقول: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} فقيل له: أَفأَنْتَ تتبعهم، فقال: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي}، إلى قوله: {ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، ثم أقبل على المرسلين فقال لهم: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} فتألب عليه الناس فقتلوه.
قال ابن عباس: هو حبيب النجار.
ويروى أنه لما سمع بخبر الرسل جاء يسعى فقال لهم: أتطلبون (على) ما جئتم به أجراً، قالوا: لا، فأقبل على قومه فقال: {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين} إلى قوله:(9/6018)
{إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} يقول هذا للرسل.
قال قتادة: فرجمه قومه، فقال: اللهم اهد قومي، أحسبه قال: فإنهم لا يعلمون فقتلوه رجماً، فأدخله الله الجنة، فلم ينظر الله قومه حتى أهلكهم.
روي أن جبريل صلى الله عليه وسلم وضع جناحاً في أقطارها فقبلها عليهم فبقوا خادمين ساكنين.
وعن كعب الأحبار أنه قال: الرسولان والذي جاء يسعى خُدَّ لهم أُخْدود وحرقوا بالنار فيه.
وأكثر الناس على أنس الرسل كانوا من حواريي عيسى عليه السلام، تنبأهم الله بعد/ عيسى، وأرسل منهم اثنين إلى أنطاكية فكذبوهما وضربوهما وحبسوهما،(9/6019)
فقواهم الله برسول ثالث.
وقد قيل: إن الثالث شمعون، (وهو) من أصحاب عيسى، وأنه أرسل قبل الاثنين إلى أنطاكية فكذبوه، وإلى ذلك ذهب الفراء.
قال كعب ووهب: وثبوا على الذي جاء يسعى وثبة رجل واحد فقتلوه. وقوله: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} أي: على استقامة من الحق، فاهتدوا بهداهم.
ولا يحسن الوقف على " المرسلين " لأنَّ مَنْ بدل " من " المرسلين بإعادة الفعل.
وقوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} (أي): وأَي شيء لي في ترك عبادة خالقي.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: تصيرون أيها القوم.
قال ابن إسحاق على روايته عن ابن عباس وكعب ووهب: فنادى قومه(9/6020)
بخلاف ما هم عليه وأظهر لهم دينه، وعاب آلهتهم فقال: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ}.
أي: لا شفع لي آلهتكم عند ربي إذا عذبني على الكفكر ولا ينقذون من عذابه ولا تدفع عني ضراً ولا تجلب إليَّ نفعاً.
ثم قال: (تعالى): {إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: لفي جور عن الحق ظاهر، إن اتبعت آلهتكم وعبدتها من دون الله.
ثم قال: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون}.
قال بن إسحاق: هذا مخاطبة لقومه.
والمعنى: أني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي.
[وقيل بل خاطب بذلك الرسل قال لهم: اسمعوا قولي فاشهدوا لي] بما أقول(9/6021)
لكم عند ربي، فعندما قال هذا وثبوا عليه فقتلوه.
قال ابن مسعود وابن عباس وكعب ووهب: وثبوا عليه فرطؤوه بأقدامهم على سقمه ومرضه حتى مات.
ثم قال: {قِيلَ ادخل الجنة قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} قال هذا بعد أن قتل.
وقوله: {فاسمعون} هو آخر قوله لقومه في الدنيا، وبه تم كلامه. ثم حكي الله عنه حاله في الآخرة وما قال وما قيل له بقوله: {قِيلَ ادخل الجنة}.
وقد قيل: إنه إخبار من الله عما يقال له يوم القيامة وما يقول، (أي): فلما قتلوه قيل: له: ادخل، (فلما) دخلها وعاين ما أكرمه (الله به)، قال: يا ليت قومي يعملون بغفران ربي لي، وجعله إياي من المكرمين. (أي): فعل ذلك على إيماني،(9/6022)
فلو عاينوا ذلك لآمنوا واستوجبوا مثل ما استوجبت.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نَصَحَ قَوْمَهُ حَيّاً وَمَيِّتاً ".
قال قتادة: فلما دخلها، قال ذلك، فلا تلقى المؤمن إلا ناصحاً.
(فما) والفعل مصدر، ويجوز أن تكون بمعنى الذي.
ثم قال (تعالى): {وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء} أي: من رسالة ولا نبي بعد قتله، قاله قتادة ومجاهد.
وعن ابن مسعود: أن المعنى: أن الله غضب لقتله غضبه فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه فلم يبعث إليهم جنوداً من السماء بعد قتله، وما كانت إلا صيحة واحدة فلم يبقَ منهم باقية قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى(9/6023)
أهلكم. وقوله: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} ظاهر الكلام أن " ما " نافية.
وقال بعض النظر: " ما: اسم في موضع خفض على " جند " على اللفظ، أو في موضع نصب عطف على موضع جند لأن " من " زائدة. وتقديره: وما أنزلنا على قومه من جند من السماء، وما كنا منزلين على الأمم الكافرة من نحو الحجارة والغرق والمسخ والريح وغير ذلك، إنما أخذتهم صيحة فهلكوا.
وقوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي: ما كانت عقوبتهم على قتله إلا صيحة واحدة.
وقيل: التقدير: وما كانت هلكتهم إلا صيحة.
وقرأ أبو جعفر: برفع الصيحة الواحدة، على أنه اسم كان، والتقدير: أن(9/6024)
كانت عليهم إلا صيحة واحدة.
وقيل: التقدير: إن وقعت إلا صيحة.
ومنعه أبو حاتم لأجل التأنيث الذي في الفعل، وقال: لا يجوز: ما جاءتني إلا جاريتاك وإنما يقال: ما جاءني (لأن التقدير ما جاءني) أحد. وهذا الذي منع جائز على أن يكون التقدير: ما جاءتني امرأة إلا جاريتاك.
وقول أبي حاتم أولى لأنه نفي عام فلا يضمر إلا أحد.
وفي حرف ابن مسعود: " إِنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةَ واحدة " بالرفع. (وزقية) في موضع صيحة.
والمعروف في اللغة: زقا يزقو زقوة: إذا صاح، ويُقْرَأُ به لأنه مخالف لخط(9/6025)
المصحف.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي: هالكون وساكتون بمنزلة الرماد الخامد.
ثم قال (تعالى): {ياحسرة عَلَى العباد} أي: تعالي يا حسرة فهذا إبانك/ ووقتك يَتَحَسَّرُ بِكِ العباد على أنفسهم. هذا مذهب سيبويه. ونصبت لأنها نكرة.
وقال الطبري: معناه: يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله.
وذُكِر أن بعض القراءات: " يا حسرة على العباد على أنفسها ".
روي عن قتادة: يا حسرة العباد على أنفسها ما ضيعت من أمر ربها وفرطت في(9/6026)
جنب الله.
قال ابن عباس: " يا حسرة على العابد " معناه: يا ويلاً على العباد.
وقال أبو العالية: العباد هنا الرسل. والمعنى أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: يا حسرة على العباد، أي: على الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم، تحسروا عليهم أن يؤمنوا بهم.
ثم قال جل ذكره: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
وقال بعض أهل اللغة: (المعنى): يا لها حشرة على العباد. وحقيقة الحسرة أن يحلق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً، أي منقطعاً.
ثم قال (تعالى): {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} أجاز الفراء أن تكون(9/6027)
" كم " في موضع نصب يروا، واستدل على ذلك أن في حرف ابن مسعود: " أَلَمْ يَرَوا مَن أهلكنا ".
ولا يجوز هذا عند البصريين لأن " كم " استفهام، ولا يعمل فيها ما قبلها. والعامل فيه أهكلنا، وأنها عند سيبويه بدل من كم. ورد ذلك عليه المبرد، والتقدير عنده: بأنهم.
والمعنى: الم ير هؤلاء المشركون من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم من القرون بتكذيبهم الرسل، فيخافوا أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك، أي: ألم يعلموا ذلك.(9/6028)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
وقرأ الحسن: " إِنَّهُم " بالكسر على الاستئناف.
{لاَ يَرْجِعُونَ}: لا يعودون بعد موتهم وهلاكهم.
قوله (تعالى ذكره): {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} إلى كقوله: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
أي: الكل محضرون يوم القيامة.
و" ما " زائدة عند أبي عبيدة، والتقدير: وإن كل الجميع محضرون.
و" إِنْ " مخففة من الثقيلة، وكل مبتدأ، (والجميع) الخبر.
ويجوز/ أن يكون جميع بدلاً من ما، أو نعتاً لها، والتقدير: وإن كل لخلق أو لبشر جميع، وحسن كون " ما " لذلك لأن من يعقل وما لا يعقل أن يحضر يوم القيامة منه بهيمة وإنسان.(9/6029)
ومن شدد فهي بمعنى إلا، حكى سيبويه: سألتك بالله لّما فعلت، بمعنى: إلا فعلت.
وأنكر الكسائي هذا.
وقال الفراء: المعنى لِمَنَ مَا جميع، ثم أدغم وحذفت إحدى الميمات تخفيفاً كما يقال: " عَلْمَاءِ بنو فلان). فيحذفون ويدغمون، والأصل: عَلَى المَاءِ.
ثم قال (تعالى): {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} أي: دلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله وتوحيده: إحياؤنا للأرض الميتة بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
ثم قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي: في الأرض التي أُحْيِيَتْ بالمطر، {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} أي: عيون الماء ليشربوا منها ويسقموا ثمارهم.(9/6030)
ثم قال: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} الهاء في ثمره تعود على ماء العيون، لأن الثمر من الماء اندرج وتَكَوَّنَ، فأضيف إليه، أي: فعلنا لهم ذلك ليأكلوا ثمرة النخيل والأعناب. ووحد الثمر في قوله {ثَمَرِهِ} فوحد الضمير، لأن العرب تأتي بالاثنين وتقتصر على خبر أحدهما.
ومن فتح الثاء جعله جمع ثَمَرَةٍ وثَمَرٍ كَخَشَبَةٍ وَخَشَبٍ.
ومن ضم جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثماراً على ثُمُرٍ كحمار وحُمُرٍ، ويجوز أن يكومن جمع ثمرة أيضاً كخشبة وخشب.
وقوله (تعالى): {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي: ومن ثمر الذي عملته أيديهم، يعني الذي غرسوا وزرعوا.
ويجوز أن تكون " ما " نافية، أي لم يعمل ذلك الذي أحياه المطر أيديهم.(9/6031)
ومن حذف الهاء في " عملته " جعل " ما " والفعل مصدراً، او نافية، أو بمعنى الذي لا غير.
ومن أثبتها جعلها بمعنى الذي لا غير.
{أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي: يشكر هؤلاء على هذه النعم.
ثم قال (تعالى): {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} (أي): تنزيهاً وتبرئة لله جل ذكره مما يضيف إليه هؤلاء المشركون من الشركاْ، وهو الذي خلق الألوان كلها والأجناس كلها من نبات الأرض.
{وَمِنْ أَنفُسِهِمْ}، أي: وخلق من أولادهم ذكوراً وإناثاً.
{وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: وخلق أجناساً من الأشياء التي لم يطلعهم الله عليها.
ثم قال (تعالى): {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار}، أي: وعلامة أيضاً لهم على قدرة الله وتوحيده: الليل ينزع منه ضياء النهار.(9/6032)
{وَمِنْ} هنا بمعنى (عن)، أي: ينزع عنه ضياء النهار، ومثله:
{فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175] أي/: عنها وتركها.
وقوله: {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي: صاروا في ظلمة.
وقال قتادة: معناه: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
وهذا بعيد في التأويل ليس هذا موضعه ولا يدل عليه الكلام. وحقيقة سلخت: أزلت الشيء من الشيء وخلصته منه حتى لم يبق منه شيء.
ثم قال: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} أي: لموضع قرارها.
قال القتبي: مستقرها أقصى منازلها في الغروب لا تتجاوزه، يعني إلى أبعد مغاربها ثم ترجع.
وروى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَا أَبَا ذَرّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟ فقلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ، إِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا جَلَّ ثَنَاؤُهْ ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ بِالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّها قَدْ قِيْلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ،(9/6033)
فَتَطْلَعُ مِنْ مَكَانِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرُّها ".
وروى أبو ذر أيضاً قال: " سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} فقال: مستقرها تحت العرش ".
قال قتادة: لمستقرها وقت واحد لا تعدوه.
وقيل: المعنى: (إنها) تجري إلى أبعد منازلها في الغروب ثم ترجع فلا تتجاوزه، وذلك أنها لا يتزال تتقدم كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مطالعها ثم ترجع.
وعن أبي ذر قال: " قُلْتُ (يا) رَسُولَ الله {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ/ لَّهَا} قَالَ: بَيْنَ يَدَيْ العَرْشِ ".(9/6034)
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " لا مُسْتَقَرُّهَا "، على معنى: هي جارية لا تثبت في موضع واحد: أي هي كل ليلة في موضع لا تكون فيه في الليلة التي تليها تتقدم أو تتأخر.
ثم قال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} أي: هذا الذي تجري عليه الشمس من التقدير، هو تقدير العزيز في انتقامه العليم بمصالح خلقه.
ثم قال (تعالى): {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [أي: وآية لهم القمر قدرناه منازل.
وقيل: التقدير: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام واتصل الضمير، كمنزلة: " كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ " [المطففين: 3]، والمعنى: قدرناه منازل في النقص والزيادة(9/6035)
والتمام، فهو منذ يطلع كل ليلة في منزلة - ومنازله ثمانية وعشرون منزلة (معروفة) - ثم يستتر ليلتين فلا يُرى.
{حتى عَادَ كالعرجون} أي: في النقص كالعذق اليابس من القدم لأن العذق كلما قدم يبس وتقوس وانحنى، ولا يوجد مستوياً أبداً لا أخضر ولا يابس، فكذلك القمر في آخر الشهر ينقص ويتقوس وينحني. هذا قول ابن عباس وقتادة والحسن وغيرهم.
والعِذق بكسر العين هو الكِبَاسَة والقنو. وأهل مصر يسمونه(9/6036)
الإسْبَاطَة.
والعَذَقُ بفتح العين هو النخلة.
ثم قال (تعالى): {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} أي: لا ينبغي ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر فيذهب ضوؤه بضوئها (فتكون الأوقات كلها نهاراً.
{وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} أي: ليس يفوته بظلمته). فتكون الأوقات كلها مظلمة ليلاً. وفي هذا - لو كان - إبطال التدبير الذي بنيت عليه الدنيا، ألا ترى أن الدنيا إذا ذهبت، وزال تدبير الشمس والقمر جمع بينهما. قال الله جل ذكره في حال يوم القيامة: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9]، ففي جمعهما زوال تدبير الدنيا بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، فليس في الآخرة ليل يدخل على النهار، ولا شمس ولا قمر، وذلك تدبير أخر، تبارك الله أحسن الخالقين.
قال الضحاك: معناه: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم(9/6037)
يكن للشمس ضوء. وهو معنى قول ابن عباس.
قال قتادة: لِكُلِّ (حد) وعلم لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا.
وعن ابن عباس في الآية: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر، وإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر.
وقيل: المعنى: إن القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فلا يدرك أحدهما الآخر.
وقيل: المعنى: إن سير القمر سير سريع، والشمس سيرها بطيء فهي لا تدركه.
وَسُئِلَ ابن عمر، فقيل له: ما بال الشمس تصلانا أحياناً، وتبرد أحياناً؟ فقال: أما في الشتاء فهي في السماء السابعة تحت عرش الرحمن، وأما في الصيف فهي في السماء الخامسة، قيل له: ما كنا نظن إلا أنها في هذه السماء، قال: لو كانت كذلك ما قام لها(9/6038)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
شيء إلا أحرقته.
وقوله: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار}. استدل به بعض العلماء على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بالخلق.
وقيل: المعنى: إن كل واحد/ منهما يجيء في وقته ولا يسبق صاحبه.
ثم قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (أي): وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون.
قال ابن عباس: في فَلَكٍ كَفَلَكِ المغزل. وجاء يسبحون بالواو لأنه لما أخبر عنهن بلفظ من يعقل أجرى ضميرهم مجرى ضمير من يعقل ولم يقل يسبحن، ولو قيل لَحَسُنَ، ولكن جاء على هذا المعنى.
قوله (تعالى ذكره): {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ (فِي الفلك)} إلى قوله: {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}.(9/6039)
أي: وآية لأهل مكة أنا حملنا ذريات نوح في الفلك المشحون، أي: الموقر. فالضميران على هذا مختلفان.
وقد قيل: إن المعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا أولادهم وضعفاءهم ومن لا يقدر على المشي في السفينة في البحر. فالضميران متفقان، والفلك في القول الأول سفينة نوح واحد في المعنى.
وقيل: المعنى: إن الآباء يسمون ذرية. فالمعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا آباءهم في الفلك المشحون، وهي سفينة نوح. وإنما جاز ذلك لأن الذرية مِنْ: ذَرَأَ الله الخلق. (فسمي الولد/ ذريه لأنه ذري من الأب، ويسمى الأب ذرية لأن الابن ذري منه. فكما جاز أن يقال للابن ذرية لأبيه) لأنه ذري منه، فكذلك يجوز أن يقال للأب ذرية للابن لأن ابنه ذري منه.
فالمراد بها سفينة نوح، ويراد بها في القول الثاني: سفينة من السفن، وهي المَرْكَبُ، فيجوز أن يكون واحداً وجمعاً، فإذا كان جمعاً فواحده فَلَكٌ كُوَثَنٍ وَوُثْنٍ.(9/6040)
قال الحسن: (المشحون) المحمول.
وقيل: الممتلئ، قاله ابن عباس.
ثم قال (تعالى): {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}.
قال ابن عباس: هي السفن الصغار، ودل على ذلك: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ}.
وقال الضحاك: يعني السفن التي أتُّخِذَتْ بعد سفينة نوح.
وقاله قتادة وابن زيد وأبو صالح وغيرهم.
وعن ابن عباس: أنها الابل، قال: فالإبل سفن البر.
وقال مجاهد: يعني الأنعام.
وقال الحسن أيضاً: هي الإبل.(9/6041)
واختيار الطبري قول من قال هي السفن، لقوله (تعالى): {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} إذ لا غرق في البر، والمعنى: إِنْ نشأ نغرق هؤلاء المشركين إذا ركبوا الفلك في البحر.
{فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي: لا مغيث لهم إذا نحن أغرقناهم.
{وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أي: ينجون من الغرق.
وصريخ بمعنى مُصرخ: أي مغيث. يقال صرخ الرجل إذا صاح، وأصرخ إذا أغاث وأعان، فهو مُصْرِخ والأول صارخ.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا}.
فنصب " رحمة " عند الزجاج لأنه مفعول من أجله.
وهي عند الكسائي نصب على الاستثناء.
والمعنى: ولا هم ينقذون إلا الأجل الرحمة والإمتاع بالحياة إلى وقت، هذا(9/6042)
التقدير على قول الزجاج. والتقدير على قول الكسائي: ولا هم ينقذون إلا أن يرحمهم فيمتعهم إلى أجل.
قال قتادة: {إلى حِينٍ} إلى الموت.
ثم قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ [وَمَا خَلْفَكُمْ} أي: إذا قيل لهؤلاء المشركين من قومكم يا محمد اتقوا ما بين أيديكم]، أي: احذروا ما تقدم قبلكم من نقسم الله في الأمم الماضية بكفرهم وتكذيبهم الرسل أن يحل بكم مثل ذلك. {وَمَا خَلْفَكُمْ} أي: وما أنتم لا قُوهُ من عذاب الله تعالى إن هلكتم على كفركم وتكذيبكم.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لتكونوا على رجاء من الرحمة. هذا قول سيبويه، وقال الطبري: معناه: ليرحمكم ربكم.
قال قتادة: " ما بين أيديكم ": وقائع الله جل ذكره فيمن خلا من الأمم، " وما(9/6043)
خلفكم " أي: من أمر الساعة.
وقال مجاهد: ما بين أيديهم، ما مضى من ذنوبهم، وما خلفهم: (قال): ذنوبهم لتي (هم) عاملوها.
وقال ابن جبير: " ما بين أيديكم " الآخرة. وما خلفكم ": الدنيا.
وجواب إذا محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أَعرضوا.
ثم قال (تعالى): {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي: ما يأتي هؤلاء المشركين من حجة من حجج إلا أعرضوا عنها لا يفكرون ولا يتدبرون.
ثم قال (تعالى): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي: أَدُّوا زكاته لأهل الضعف منكم.
{قَالَ الذين كَفَرُواْ} أي: كفروا بالله ورسوله {لِلَّذِينَ آمنوا} بهما.(9/6044)
{أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} قالوه على التهزي.
وقوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يجوز أن يكون من قول الكفار للمؤمنين.
ويجوز أن يكون من قول الله جل ذكره (وثناؤه) للمشركين الذين قالوا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ}.
قال الحسن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ} هم اليهود.
[ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: متعى نبعث ونعذب، استعجالاً بالعذاب وتكذيباً للبعث، يقوله المشركون للمؤمنين وللنبي صلى الله عليه وسلم] .
ثم قال (تعالى ذكره): {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً} أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون وعيد الله إلا صيحة واحدة، وذلك نفخة الفزع عند قيام الساعة، وهي النفخة الأولى تأخذهم وهم في بيعهم وشرائهم.
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: لا يقدرون أن يوصوا ولا يرجعوا إلى أهلهم.
وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} قيل: هي النفخة الثالثة، وقيل: هي الثانية يقوم بها(9/6045)
الأموات.
وقيل: هي ثلاث نفخات، و (قد) ذكرناها في غير موضع من كتابنا هذا، روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله جل ثناؤه لما فَرَغَ من خَلْقِ السماوات والأرض خَلَقَ الصُوْرَ فأعطاه إسْرَافِيلَ، فهو واضعه على فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ ينتظر متى يُؤْمَرُ ".
قال أبو هريرة: " يا رسول الله، وما الصّور؟ قال: قَرْنُ. قال: وكَيْفَ هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فيه ثلاثُ نَفَخَاتٍ، الأُولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَّامِ لِرَبِّ العَالَمِينَ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَيَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الأُوْلَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ الله، وَيَأْمُرُهُ(9/6046)
الله فَيُدِيمُهَا ويُطَوِّلُهَا فَلاَ تَفْتُرُ، وهي التي يَقُولُ: مَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ثُمَّ يَأْمُرُ الله إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْقَقُ: أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ الله فَإِذَا هُمْ فِيهَا خَامِدُونَ، ثم يُميتُ مَنْ بَقِيَ فإذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الله الوَاحِدُ الصَّمَدُ بَدَّلَ الأَرْضَ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، فَيَبْسُطُهَا وَيَسْطَحُهَا وَيَمُدُّهَا مَدَّ الأدِيمِ العُكَاضِيّ لا تَرَى فِيهَا عِوَجَاً وَلاَ أَمْتاً، ثُمَّ يَزْجُرُ الله الخَلْقَ زَجْرَةً فإِذَا هُمْ فِي (هَذِهِ) المُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الأُولَى مَا كَانَ في بَطْنِهَا وَمَا كَانَ عَلى ظَهْرِهَا ".
قال قتادة: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ (الله) صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: " تَهِيجُ السَّاعَةُ بِالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَا شِيَّتَهُ، وَالرَجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ،(9/6047)
والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَتَهِيْجُ بِهِهْ وَهُمْ كَذَلِكَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} ".
قال عبد الله بن عمر: وَلَيُنْفَخَنَّ في الصّورِ، والنَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ وأَسْوَاقِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، (و) حَتَّى إِنَّ الثُّوْبَ لَيَكُونَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَتَسَاوَمَانِ فما يُرْسِلُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَهِي التِي قَالَ الله عز وجل:
{ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} الآية.
ومعنى قوله: {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي: لا يرجعون إلى أهلهم بعد موتهم أبداً.
وقيل: لا يرجعنن من أسواقهم إلى أهلهم، يموتون مكانهم، وهو اختيار الطبري.
وهو قول قتادة.(9/6048)
وقيل: المعنى: ولا إلى أهلهم يُرجِعُونَ قَوْلاً، يُشْغَلُونَ بأنفسهم.
ومعنى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: لا يمهلون حتى يوصوا بما في أيديهم.
ثم قال (تعالى): {وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}.
قال قتادة: الصور هنا جمع صُورَةٍ، أي: نَفَخَ في الصُّوَرِ الأَرْوَاحَ.
وهو قول أبي عبيدة كَبُسْرَةٍ وَبُسْرٍ.
وقرأ ابن هرمز " في الصُّوَرِ " جعله كظُلْمَةِ وَظلْمٍ.
وقيل: هو القرن على ما تقدم. وهذه النفخة هي الثالثة، وهي نفخة البعث.(9/6049)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
والأجْدَاثُ: القُبُور، يقال جَدَثٌ وَجَدَفٌ.
ومعنى: {يَنسِلُونَ}: يخرجون سراعاً. والنَّسَلاَنُ: الإسراع في المشي.
وقال الحسن في الآية: وثب القوم من قبورهم لمَّا سمعوا الصرخة ينفضون التراب عن رؤوسهم يقول المؤمنون: سبحانك ويحمدك وما عبدناك حق عبادتك.
قال وهب بن منبه: (يبلون) في قبورهم، فإذا سمعوا الصرخة عادت الأرواح إلى الأبدان، والمفاصل بعضها إلى بعض، فإذا سمعوا النفخة الثانية، وثب القوم قياماً على أرجلهم ينفضون التراب عن رؤوسهم.
(قوله تعالى ذكره): {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} إلى/ قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}.
أي: يقول ذكل المشركون إذا نُفِخَ في الصَّورِ نفخة البعث.(9/6050)
قال أُبَيٌّ بن كعب: ناموا نومة قبل البعث. وكذلك قال قتادة.
قال مجاهد: يهجع الكفار قبل يوم القيامة هجعة يذوقون فيها النوم، فإذا قامت القيامة قالوا: {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}.
ثم قال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن}.
قال قتادة: قال لهم أهل الهدى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}.
وقال مجاهد: قال ذللك لهم المؤمنون (المرسلون).
وقال ابن زيد: هو من قول بعضهم لبعض، صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به من البعث بعد الموت.
وقال الفراء: هو من قول الملائكة لهم.
وهذا القول موافق لقول قتادة، لأن الملائكة أهل هدى. وكذلك يتأول قوله:(9/6051)
{إِنَّ الذين آمَنُواْ/ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7].
وكذلك الحديث: " المُؤْمِنُ عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا خَلَقَ " وهو قول القتبي.
والوقف على " مَرْقَدِنَا " إجماع إلا ما حكى أحمد بن جعفر أنه يوقف على " هذا "، ثم يتبدئ: {مَا وَعَدَ الرحمن}، أي: بعثكم ما وعد الرحمن.
وقرأ ابن عباس: " مِنْ بَعْثِنَا " بكسر الميم وخفض البعث.
فالوقف على {ياويلنا} جائز إلا على هذه القراءة لأن من متعلقة بما قبلها.(9/6052)
ثم قال تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي: قد حضروا للعرض على الله. وقد تقدم ذكر هذا.
ثم قال (تعالى): {فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} لا يُنْقَصُ من أجرها ولا يُحْمَل عليها وزر غيرها.
{وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولا تكافؤون إلا مكافأة أعمالكم في الدنيا.
ثم قال (تعالى): {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}.
قال مجاهد: شغلهم افتضاض (الأبكار).
[وقال ابن مسعود: افتضاض العذارى].
وهو قول ابن المسيب.(9/6053)
وقال أبو قِلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهل إذ قيل له تحول إلى أهلك.
وقيل: " فِي شُغْلٍ " في نعمة.
وقيل: في شغل عما فيه أهل النار.
والشُّغْلُ والشُّغُلُ لغتان كالبُخْلُ والبُخُلُ.
وقرأ أبو جعفر: (فَكِهُونَ).
وهو عند الفراء مثل فاكهين في المعنى كَحَذِرٍ وحَاذِرٍ.
وقال أبو زيد: رجل فَكِهٌ إذا كان طيب النفس ضَحُوكاً.(9/6054)
وقال قتادة: " فكهون " معجبون.
قال ابن عباس: " فاكهون " فرحون.
وقال بعض أهل اللغة: الفاكه الكثير الفاكهة، وكذلك تَامِرٌ وَلاَ حِمٌ وَشَاحِمٌ إذا كثر ذلك عنده.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف: " فَاكِهِينَ " بالنصب على الحال، وجعل في شغل الخير.
ثم قال: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ} يعني أزواجهم من أهل.
وظلال جمع ظُلُةٍ كقُلَّةٍ وَقِلاَلٍ، ويجوز أن يكون جمع ظِل.
ومن قرأ " ظُلَلٍ " جعله أيضاً جمع ظُلَّة. كغُرفة وغُرَف، وظلْمَةٍ وظُلَمٍ، وَحُلَّةٍ وَحُلَلٍ.(9/6055)
وقوله: {عَلَى الأرآئك} أي: على السُّرُرِ في الحجال، واحدها أريكة.
وقيلأ: (كل) فراش أريكة.
والقول الأول هو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة.
قال أبو إسحاق: {الأرآئك} الفرش في الحجال، (وقيل الفرش)، وقيل: الأسرة. واختار أن تكون الفرش كانت في حجال أو فيغير حجال.
وقيل: الأرائك أسرة الذهب مكللة بالزَّبَرْجَدِ والدُّرِّ واليَاقُوتِ.
والأريكة الواحدة مثل ما بين صَنْعَاءَ إلى أَيْلَةَ، وليس في الجنة نوم، إنما هو(9/6056)
الاتكاء عليها.
ثم قال: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} أي: يتمنون، ويدعون: يفتعلون من دعا، و " ما " في موضع رفع بالابتداء، و " لهم " الخبر.
ثم قال: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} سلام بدل من " ما "، ومعناه: ولهم أن يسلم الله عليهم، وذلك غاية أمنيتهم.
ويجوز أن تكون " ما " نكرة، " وسلام " نعت لها، بمعنى مسلم لهم.
ويجوز أن يكون " سلام " خبراً عن " ما ".
وفي حرف ابن مسعود: " سَلاَماً "، نصب على المصدر أو في موضع الحال بمعنى مسلماً لهم. " وقولاً " مصدر، أي: يقولونه قولاً يوم القيامة، أو يقوله الله لهم قولاً.(9/6057)
قال محمد بن كعب القرظي لعمر بن عبد العزيز: إذا فَرَغَ الله (من) أهل الجنة وأهل النار، أقبل في ظل من الغمام والملائكة إلى أول درجة، فيسلم عليهم فيردون السلام/، وهو في القرآن {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، فيقول: اسألوا، فيقولون: ما نسألك وعزتك وجلالك لو أنك قسمت بيننا أرزاق الثقلين لأطعمناهم وسقيانهم وكسوناهم، (فيقول: سلوني)، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: رضائي أَحَلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي. فيفعل ذلك بأهل كل درجة. قال: ولو أن امرأة من الحُورِ تَطَلَّعَتْ لأَهْلِ الأرض لأطفأ ضوء سِوَارِهَا الشمس والقمر، فكيف بِالمُسَوَّرَةِ.
وأجاز أبو حاتم الوقف على: " سلام " وهو لا يجوز، لأن الجملة التي قبل قَوْلٍ عملت فيه فقامت مقام العامل.
ثم قال (تعالى) " {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} (أي): اعتزلوا وانفردوا(9/6058)
أيها الكافرون عن المؤمنون.
قال قتادة: عزلوا عن كل خير.
وروى محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَمَرَ الله جَلَّ ذِكرُهُ جَهَنّمَ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ/: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} إلى قوله: {كُنتُمْ] تُوعَدُونَ} ثم يقول: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون}، فَيَتَميَّزُ النَّاسُ ويَحْثُونَ، وهو قوله (تعالى ذكره):
{وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} (كُلُّ أُمَّةٍ) {تدعى إلى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28].
وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} أي: (ثم قال): ألم أوصيكم وآمركم في الدنيا ألا تطعيوا الشيطان في المعاصي، وأعلمتكم أنه لكم عدو مبين، وأنه أخرج أبويكم من(9/6059)
الجنة لِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا.
ثم قال: {وَأَنِ اعبدوني} أي: ألم أعهد إليكم أن اعبدوني وأخلصوا العبادة لي.
{هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: عبادتكم إياي خالصاً هو الصراط المستقيم.
ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} أي: أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً فأطاعوه، وجِبِلاًّ بكسر الجيم، والتشديد جمع جِبِلَّة.
و (من) قرأ بضم الجيم والباء والتخفيف جعله جمع جَبِيلٍ كَسَبِيلٍ وَسُبُلٍ.
وَجَبِيلٍ معدول عن مَجْبُولٍ كَجَريحٍ بمعنى مَجْرُوحٍ.
وكذلك قراءة من أسكن الباء وضم الجيم وخفف، إنما أراد الضم ولكن أسكن استخفافاً.(9/6060)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
ثم قال: {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون أنه لا ينبغي أن يطاع من هو عدو، والكلام كله بمعنى التوبيخ والتقرير، أي قد عهدت إليكم ذلك.
ثم قال: {هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي: في الدنيا، فتكذبون (بها). (و) جهنم أول باب من أبواب النار.
ثم قال: {اصلوها اليوم} (أي): احترقوا فيها، وَرَدُوهَا جزاء بكفرهم في الدنيا بها وبالله ورسله.
قوله (تعالى ذكره): {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} إلى آخر السورة.
أي: نطيع (على) أفواه المشركين.
{وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: بما عملوا في الدنيا.
{وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} أي: بما سعت فيه من المعاصي.
روي أن الذي ينطبق (من) أرجلهم أفخاذهم من الرجل اليسرى.(9/6061)
قال أبو موسى: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم إني عملته، قال: فيغفر الله (منه) ذنوبه ويستره منها. ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله، فيجحده فيقول: أي: ربي وعزتك لقد كتب عَليَّ هذا المَلَكُ ما لم أعمل، فيقول له المَلَكُ: أما عملت كذا يوم كذا؟ فيقول: (لا) وعزتك، (أي): رب ما عملته، فإذا فعل ذلك ختم الله على فِيهِ. قال أبو موسى: فإني أحسب أول ما ينطق منه لفخذه اليمنى ثم تلى الآية: {اليوم نَخْتِمُ. . .}.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أَوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الإنْسَانِ يَوْمَ يُخْتَمُ عَلَى الأَفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى "، رواه عقبة بن عامر عنه.
ثم قال (تعالى): {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} أي: لأعميناهم عن الهدى فلا(9/6062)
يهتدون إلى طريق الحق أبداً. قاله ابن عباس.
وقال الحسن: (معناه): لو شاء لتركهم عمياً يترددون.
وكذلك قال قتادة.
وهو اختيار الطبري، لأن القوم كانوا كفاراً، فلا معنى لعماهم (عن) الهدى وهم كذلك كانوا، والمعنى عنده: لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم فأعميناهم فلا يبصرون طريقاً في تصرفهم إلى منازلهم ولا إلى غيرها.
وقيل معنى: {فاستبقوا الصراط} أي: فبادروا إذا حدث بهم العمى إلى منازلهم/ ليلحقوا بأهلهم.
والأَطْمَسُ هو الذي لا يكون بين عينه شق.
وحكى الكسائي طَمَسَ يَطْمِسُ وَيَطْمُسُ.(9/6063)
ثم قال (تعالى): {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ} أي: لأفقدناهم جزاء على كفرهم، فلا يستطيعون أن يمضوا إلى أمامهم ولا يرجعون إلى ورائهم، هذا قول الحسن وقتادة.
وقال ابن عباس: معناه: لأهلكناهم في منازلهم.
وقيل: المعنى: لو شاء الله لمسخهم في الموضع الذي اجترؤوا فيه على معصية الله، فلا يقدرون على المضي ولا على الرجوع.
وقال ابن سلام: هذا كله في القيامة، قال إذا كان يوم القيامة مُدَّ الصِّرَاطُ، ونادى مُنادٍ لِيَقُمْ محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيقومون بَرُّهم وفَاجِرُهُمْ يتبعونه فيتجاوزوا الصراط فإذا صاروا عليها، طمس الله أعين فُجَّارهم، فاستبقوا الصراط فمن/ أين يبصرونه حتى يجاوزوه، (قال): ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته فيقومون فيتبعونه بَرُّهُمْ وفاجِرُهُم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذلك سائر الأنبياء. والعرب تقول(9/6064)
مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ، وَدَارٌ وَدَارَةٌ.
وحتى ابن الأعرابي: أن العرب تجمع مكاناً على أمكنة ومكنات.
ثم قال (تعالى): {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} أي: نرده إلى مثل حاله الأولى من الضعف وقلة العلم والفهم، بمنزلة قوله:
{لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70].
ثم قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر} أي: لم نُعَلِّمَ محمداً الشعر، بل علمناه القرآن، وليس هو شعر كما قال المشركون.
{وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أي: ما ينبغي له أن يكون شاعراً.
وقيل: معناه: ما يسهل له قول الشعر.
وقالت عائشة: " لَمْ يَتَمَثَّلْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبَيْتِ شِعْرٍ قَطُّ إِلاَّ بِبَيْتِ طَرَفة(9/6065)
فَجَعَلَ آخِرَهُ أَوَّلَهُ وأَوَّلَهُ آخِرَهُ، وهو قول طرفة: " سَتُبْدِي لَكَ الأَّيَّاُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً " البيت. فكان يقول: وَيَأْتِيكَ مَنْ لمَمْ تُزَوِّدِ بِالأَخْبَارِ.
فأما ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم:
" أنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَ ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ".
فإنه فيما ذُكِرَ أنه كان يعرب: (كذباً) و (المطلب)، وإذا أعربها لما يكن شعراً.
ثم قل: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أي: ما هذا القرآن إلا ذكر وليس شعر، أنزله على محمد لينذر من كان حياً، وهو المؤمن، مثل قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11].(9/6066)
وقال الضحاك: مَنْ كَانَ حَيَّاً هو العاقل.
ثم قال: {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} أي: ويجب عليهم العذاب الذي تقدم لهم في علم الله أنهم صائرون إليه بكفرهم.
ثم قال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} أي: أو لم ير هؤلاء المشركون أنا خلقنا لهم من خَلْقِنَا أنعاماً، وهي المواشي والإبل، ومعنى {أَيْدِينَآ} أي: بقوتنا وقدرتنا كان خَلْقُنَا لَهُمْ.
[ثم قال: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي: مصرفون لهم كيف شاؤوا].
ثم قالوا: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} (أي): سهلناها لهم فلا تعدو عليهم.
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي: ما يركبون.
وقرأت عائشة " رَكُوبَتُهُمْ ".
قال أبو عبيدة: الرَّكُوبَة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا(9/6067)
للجماعة.
قال البصريون: حذفت الهاء من " ركوبهم " على النسب، والأصل الهاء.
قال الكوفيون: العرب تفرق في فَعُول بين ماله الفعل، وبين ما الفعل واقع عليه، فيقولون: امرأة صبور وشكور، بغير هاء، ويقولون: شاة حَلُوبَةٌ ونَاقَةٌ رَكُوبَةٌ. ثم قال (تعالى): {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (أي): لحوم الإبل والمواشي.
(ثم قال تعالى): {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} يعني في أصوافها وأوبارها وجلودها وغير ذلك.
ثم قال: {وَمَشَارِبُ} يعني ألبانها.
{أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي: يشكرون الله على هذه النعم التي خلق (لهم).(9/6068)
ثم قال [تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً}] يعني: هؤلاء المشركين اتخذوا الأصنام آلهة.
{لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}، (أي): طمعاً أن ينصروهم من عقاب الله.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي: من عقاب الله، أي لا تستطيع الآلهة نصر هؤلاء المشركين ولا غيرهم.
ثم قال: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [أي: هؤلاء المشركون] لآلهتهم جند محضرون عند الحساب، قاله مجاهد.
وقال قتادة: معناه محضرون في الدنيا يغضبون إذا ذكرت/ آلهتهم بسوء.
وقيل: المعنى: أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون يوم القيامة فيتبعونه إلى(9/6069)
النار، فهم جند لهم محضرون معهم في النار.
ثم قال (تعالى): {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تحزن من قولهم: إنك شاعر، ولا من تكذيبهم لك.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي: نعلم إنما يدعوهم إلى ذلك الحسد وأنهم يعلمون أنك جئتهم بالحق، ونعلم ما يعلنون من كفرهم وجحودهم لما جئتهم به.
ثم قال (تعالى ذكره): {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} قيل: " عني به أمية بن خلف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففته ثم ذراه في الريح، فقال: مَنْ يُحِيي العظام وهي رميم، قاله قتادة ومجاهد.
وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه، فقال له: " الله يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ "، فَقَتَلَهُ رَسُولُ الله يَوْمَ أُحْدٍ ".(9/6070)
وقال ابن جبير: وهو العَاصِي بنُ وائِل السَّهْمِي.
وقيل: عني به عبد الله بن أُبَيّ. قاله ابن عباس.
وفي هذا نزلت: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} إلى آخر السورة.
قال ابن عباس: " جاء أُبي بن خلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل بَالٍ فكسره وفته بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا (وهو رميم)؟ (فقال له) (النبي صلى الله عليه وسلم) : " يَبْعَثُ الله هَذضا ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ ".(9/6071)
وكذلك ذكر ابن جبير في العاصي بن وائل.
وروى ابن وهب: أن الذي قال ذلك هو أبي بن خلف الجمحي. وهو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده فمات من طعنة رسول الله بالحربة بعد أن رجع إلى مكة.
وعن ابن عباس: أنه عبد الله بن أبي. والسورة مكية وعبد الله بن أبي لم [يكن بمكة إنما كان بالمدينة، فأُبي بن خلف أشبه به لأنه بمكة] كان معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: ألم يَرَ هذا الذي قال: من يحيي العظام وهي رميم، أنا خلقناه من نطفة، وهي أضعف من العظم، فسويناه بشراً سوياً، فيعلم أن من فعل هذا قادر على إحياء العظام بعد كونها رميماً.
وقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي: ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه: إني فاعله، فينكره.(9/6072)
ثم قال: [تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ}].
أي: ضرب مثلاً بالعظم الرميم، فقال من يحييه؟ وأنكر إحياءه، ونسي أنه خلق من نطفة من ماء معين حقير، فجعله الله بشراً سوياً ناطقاً.
ثم قال (تعالى): {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: قل له يا محمد: الذي خلق هذه العظام من ماء حقير مهين، هو الذي يحييها بعدما تكون رميماً.
ثم قال (تعالى): {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي: ذو علم بجميع خلقه، يُحيي ويُميت، ويُبدئ ويُعيد، لا يخفى عليه شيء. يعلم ما تنقص الأرض (من) لحومهم وعظامهم وسائر جثمانهم، فيعيدها كما كانت أول مرة.
ثم قال (تعالى ذكره): {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً} يعني: المَرَخُ(9/6073)
والعُفَّارُ، يستعمل منه الأعراب الزنود. فالذي خلق النار واستخرجه لكم من شجر أخضر مائي - والماء ضد النار بِحَرِّهِ وَيُبْسِهِ - هو الذي يقدر على أن يحيي العظام وهي رميم.
وهذه الآية تدل على جواز القياس لأنه جَعَلَ خلق الشيء دليلاً على خلق غيره.
ثم قال (تعالى): {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}.
هذا كله تنبيه للمُنْكِرِ للبعث، والمعنى: أوليس الذي خلق السماوات والأرضين على عظمهن وسعتهم، وما في السماوات من الآيات كالشمس والقمر والنجوم، وما في الأرض من الآيات كالبحار والجبال والشجر بقادر على أن يعيد مثل هؤلاء الذين قد صاروا رميماً، فليس إعادة الخلق بعد الموت بأعظم من (خلق) السماوات والأرض وما فيهن من الآيات، فمن لم يتعذر عليه خلق العظيم كيف يتعذر عليه خلق اليسير؟!
ثم قال (تعالى): {بلى وَهُوَ الخلاق العليم} أي: بل يخلق مثلهم، وهوالخلاق(9/6074)
لما يشاء، العليم بكل (ما) خلق.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} قال قتادة: ليس من كلام العرب شيء هو أخف من كُنْ ولا أهون، فأمر الله كذلك.
ثم قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: فتنزيه للذي بيده ملك/ كل شيء وخزائنه (يفعل) ما يشاء وإليه تردون بعد مماتكم وتصيرون.
قال قتادة: ملكوت كل شيء: مفاتيح كل شيء. وملكوت وملكوتي في العرب بمعنى مِلْك.
قال نافع: " بَلَى " تمام.(9/6075)
وكذلك قال محمد بن عيسى والقتبي.
وقل: " مِثْلَهُمْ " التمام، والأول أحسن.
(و) " فيكون " تمام.(9/6076)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصافات
مكية
وقوله (تعالى ذكره): {والصافات صَفَّا} إلى قوله: {(بَلْ عَجِبْتَ) وَيَسْخَرُونَ}.
أي: ورب الصافات، وهي الملائكة بإجماع. وهو جمع صافة، كأنها جماعات مصطفة لذكر الله وتسبيحه.
قال ابن عباس: الملائكة صفوف، لا يعرف كل منهم مَنْ إلى جانبه لم يتلفت منذ(9/6077)
خلقه الله. يسبحون ويهللون ويحمدون الكله (ويمجدونه).
والزاجرات: جمع أزجرة، أي: تزجر عن معاصي الله، وهي الملائكة، قال ذلك ابن مسعود والسدي.
وقيل: الزاجرات: الملائكة تزجر السحاب، تسوقه إلى المواضع التي يريد الله سقيها، قال مجاهد والسدي أيضاً.
وقال قتادة: الزاجرات: ما زجر الله (عنه) في القرآن. فهي أي القرآن(9/6078)
التي زجرنا الله بها.
قال قتادة: الزاجرات كل ما زجر عنه.
ثم قال (تعالى): {فالتاليات ذِكْراً}.
يعني: الملائكة تتلو ذكر الله وكلامه، قاله مجاهد والسدي.
وقال قتادة: هو يُتْلَى عليكم في القرآن من أخبار الأمم قبلكم.
ثم قال: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} أي: إن معبودكم واحد. وإن جواب القسم.
ثم قال: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: مالك ذلك ومدبره.
{وَرَبُّ المشارق} أي: مَالِكُ مشارق الشمس، ومدبرها في الشتاء والصيف، وحذف ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه لأن ذكر المشارق يدل على أن ثم مغارب.
قال السدي: المشارق ستون وثلاث مائة مشرق، والمغارب مثلها عدد أيام(9/6079)
السنة.
قال ابن عباس: للشمس كل يوم مشرق، وكل يوم مغرب، فتلك المشارق والمغارب، وللصيف مشرق ومغرب، وللشتاء مشرق ومغرب، فذلك كقوله: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17].
ثم قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} من أضاف زينة فمعناه تتزين الكواكب، أي بحسنها. ومن نوّن زينة وخفض " الكواكب "، جعل الكواكب بدلاً من زينة. ومن نون زينة ونصب " الكواكب " أعمل زينة في الكواكب، وإن شئت جعلت " الكواكب " بدلاً (من زينة) على الموضع.(9/6080)
وإن شئت نصبت على إضمار: أعني.
وقرئت بتنوين " زينة " ورفع " الكواكب "، على تقدير بأن زينتها الكواكب.
ثم قال: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي: وحفظناها حِفْظاً. فحِفْظٌ نصب على المصدر.
وقال بعض الكوفيين: هو مفعول من أجله، والواو زائدة.
والتقدير عنده: إنا زينا السماء الدنيا حفظاً لها، أي للحفاظ. معنى: {السمآء الدنيا} السماء التي تليكم، وهي أدنى إليكم من غيرها من السماوات، ودل على ذلك على أن سائر السماوات ليس فيها من الكواكب ما في هذه السماء القريبة منا. والمارد: العاتي الخبيث.
ثم قال (تعالى): {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} أي: لا يميلون بسمعهم إلى ما تقول الملائكة (في) السماء للحفيظ الذي في السماء. تقول: سَمِعْتُ إليه يقول كذا، أي أملت بسمعي إليه.(9/6081)
قال ابن عباس: (هم) لا يسمعون وهم (لا) يتسمعون.
فهذا شاهد للتخفيف.
ويدل على قوة قراءة التخفيف قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] ولم يقل عن التسمع.
ومن قرأ بالتشديد فمعناه: أنهم مُنِعُوا من السَّمع ومن التَّسَمُّعِ، وإذا مُنِعوا من السمع فهم عن التَّسَمُّعِ أعظم منعاً. فالتسمع في النفي أبلغ.
قال ابن عباس: " كانت للشياطين مقاعد في السماء، وكانوا يسمعون الوحي، وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا تُرْمَى. قال: فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً. قال: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه سهاب فلم/ يُخْطِئه حتى يحرقه. قال: فَشَكُواْ ذلك إلى إبليس فقال: ما هو(9/6082)
إلا من حَدَثٍ. قال: " فَبَثَّ جُنودَه فإذا رسول الله قائم يصلي. قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث ".
ثم قال (تعالى): {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً} أي: ويُرْمون من كل جانب من السماء دحوراً، ودحوراً مصدر دحرته (أي) دفعته وأبعدته، قال اللهمَّ ادْحَرْ (عَنَّا) الشَّيْطَانَ، أي: ادفعه عنّا وأبعِده.
قال قتادة: " دحوراً " قذفاً بالشّهب.
وقال مجاهد: من كل مكان مطرودين.
فيقذفون مستأنف، وليس بمعطوف على يسمعون، لأنه نفي ويقذفون أيجاب.
ثم قال: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي: وللشيطان من الله عذاب دائم، قاله ابن(9/6083)
عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد.
وقال أبو صالح والسدي: " واصب " موجع. وعلى القول الأول أهل اللغة.
ثم قال: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} مَنْ في موضع رفع على البدل من المضمر في " يسمعون "، أو في موضع نصب على الاستثناء من المنفي عنه السمع، والبدل أحسن.
وقيل: هو في موضع نصب على الاستثناء من قوله: " ويقذفون "، لأنه إيجاب. ويجوز أن تكون في موضع (رفع) على معنى: لكن من خطف.
ومعنى الآية: من استرق السمع من الشياطين.
{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي: مضيء متوقد.
ق ابن عباس: تحرقهم الشهب من غير موت ولا قتل.(9/6084)
قال السدي: يحرقه حين يرمى به.
قال الضحاك: للشياطين أجنحة بها يطيرون إلى السماء.
يقال: إذا أخذ الإنسان الشيء بسرعة خَطَفَه وخَطِفَهُ واخْتَطَفَهُ وتَخَطَفَه. وأصله: اختطفه، ثم أدغمت التاء في الطاء (وأُلْقِيَت حركتها على الخاء فاستغني عن ألف الوصل، ويقال: خطفه وأصله أيضاً اختطفه وأُدْغِمت التاء في الطاء) وحُذِفَتْ حركتها. ثم حُرِّكَت الخاء إلى الكسر لإلتقاء الساكنين واستغني عن ألف الوصل أيضاً، ويقال: خطفه على هذا التقدير، إلا أنه كسر الطاء اتباعاً لكسرة الخاء.
أجاز يعقوب (أن نقف على:) " من كل جانب ".
ومنعه غير لأنه قام مقام العامل في دحوراً. التمام " دحوراً ".(9/6085)
والشهب التي يرمون بها ليست من الكواكب الثابتة، لأنها نراها ونرى حركتها، فهي أقرب إلينا من الكواكب الثابتة، ولذلك لا نرى حركات الكواكب الثابتة، وهي تجري بلا شك، لكن لا يُرى جريها لبعدها منا.
ثم قال (تعالى): {فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [أَم مَّنْ خَلَقْنَآ]} أي: سل يا محمد هؤلاء المشركين المنكرين للبعث، أهم أشد خلقاً أم من تقدم ذكره من الملائكة والسماوات والأرضين والجن؟. وفي قراءة ابن مسعود " (أَمْ) مَنْ عَدَدْنَا ".
ثم قال (تعالى): {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} إي: لا حق علك، يعني آدم لأنه خُلِق من ماء وتراب و (نار) وهواء. والعرب تقول للذين يلزق هو لازب، ولازم، ولابث.(9/6086)
قال ابن عباس: اللازب الحر الجيد اللازق.
وقال ابن جبير: اللازب الجيد.
وقال قتادة: اللازب اللزق الذي يلتزق باليد.
وهو قول ابن زيد.
ثم قال (تعالى ذكره): {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي: عجبت يا محمد مما يأتون به من إنكارهم للتوحيد وللبعث، وهم يسخرون. ودليل إضافة العجب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]. فأما من ضم التاء فإنه أضاف العجب إلى الله جل ذكره، والعجب منه تعالى ذكره مخالف للعجب من عباده، لأن العجب من الخلق إنما هون أن يطرأ عليهم ما لم يكونوا يظنون فيعجبون منه، وهذا لا يضاف إلى الله لأنه(9/6087)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)
تعالى بجميع الأشياء، ولكن معناه (من الله) جل ذكره، بل جعلته عجباً ورأيت من أفعالهم ما يُتَعَجَّبُ منه وظهر منه عجب، ودليله قوله: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]، أي: فقولهم مما يجب أن يعجب منه.
وقيل: المعنى: قل يا محمد: بل عَجِبْتُ. فيكون مضافاً إلى النبي كفتح التاء. والمعنى على قول قتادة: عجب محمد من هذا القرآن حين أعطيه، وسخر منه الكفار.
قوله (تعالى ذكره): {وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} إلى قوله {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}.
أي: وإذا ذُكِّرَ هؤلاء/ الكفار بالله وأياته وخُوِّفوا عذابه، لا يذكرون ولا يخافون، وإذا رأوا آية من آيات القرآن يهزؤون.
ثم قال: {وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: وقال المشركون ما هذا الذي جئتنا به(9/6088)
إلا سحر مبين لمن تأمله ورآه أنه سحر.
ثم قال: {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي: قالوا: أَنُبْعَث إذا كنا تراباً، وعظاماً في التراب.
{أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} أي: أَوَ يبعث آباؤنا الماضون، أَنْكَروا البعث فقال (الله) جل ذكره لنبيه.
{قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي: قل يا محمد لهم: نعم تبعثون من قبوركم وأنتم صاغرون.
ثم قال (تعالى): {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي: صيحة واحدة، وذلك هو النفخ في الصور.
{فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي: شاخصة أبصارهم/ ينظرون إلى ما كانوا يوعدونه من قيام الساعة.
وقيل: " ينظرون " معناه: ينظر بعضهم بعضاً.
وقيل: معناه ينتظرون ما يفعل بهم.(9/6089)
ثم قال: {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} أي: وقال هؤلاء المذكذبون بالبعث لما عاينوا ما كانوا يوعدون: يا ويلنا هذا يوم الجزاء والحساب - وقد تقدم ذكر معنى الويل -، فقالت لهم الملائكة: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: يوم القضاء بين الخلق. والوقف على: " الدين " حسن لأن ما بعده من قول الملائكة لهم.
وأجاز أبو حاتم أن نقف على " يا ويلنا "، على أن يكون " هذا يوم الدين " وما بعده قول الملائكة لهم.
ثم قال: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: فيقال: اجمعوا الذين ظلموا في الدنيا وأشياعهم على الكفر بالله.
{وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} من دون الله من الأصنام والأوثان.
قال ابن عباس: " وأزواجهم " نظراؤهم وأبتاعهم في الظلم.
وقال قتادة وأبو العالية: (" وأزواجهم ") أشياعهم، الكفار مع الكفار.
وقال ابن زيد: " وأزواجهم " في الأعمال.
وقال مجاهد: " وأزواجهم " أمثالهم.(9/6090)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: الزاني مع الزاني، وشرب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة.
وقال أهل اللغة: أزواجهم قرناؤهم، (و) منه زوجت الرجل، (أي) قرنته بامرأته.
ثم قال (تعالى): {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} أي: فأرشدوهم ودولهم إلى طريق جهنم. والجحيم: الباب الرابع من أبواب النار.
ثم قال (تعالى): {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} أي: واحبسوهم أيها الملائكة إنهم مسؤولون.
روي عن ابن مسعود أنه قال: يقال لهم: هل يعجبكم ورود الماء؟ فيقولون: نعم، فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب.
وقيل: المعنى أنهم مسؤولون عما كانوا يعبدون من دون الله.(9/6091)
ثم قال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} أي: لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم تعلمون في الدنيا.
{بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} أي: مستسلمون لأمر الله وقضائه، فهم موقنون بعذبه.
ثم قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ}.
قال قتادة: أقبل الإنس على قرنائهم من الجن يتساءلون، قال الإنس للجن: {قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أي: من قبل الدين (والحق) فتخدعوننا بأقوى الوجوه.
واليمين: القوة والقدرة في كلام العرب.
وقيل: معنى {(عَنِ) اليمين} من جهة إيماننا لأن إبليس اللعين قال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف: 17]. فمن أتاه الشيطان(9/6092)
(من) عن يمينه أتاه من قبل الذين فيلبس عليه الحق، ومن أتاه (من) عن شماله أتاه من جهة الشهوات، ومن اتاه من بين يديه أتاه من جهة التكذيب بالجزاء والبعث، ومن أتاه من خلفه أتاه من جهة الفقر على نفسه وعلى من يخلفه بعده. وعن اليمين: من قبل الدين أيضاً.
(وهو أيضاً) قول مجاهد والسدي وابن زيد.
وقال قتادة أيضاً: " عن اليمين ": من قبل الخير فتنهوننا عنه.
وقال السدي: " عن اليمين ": من قبل الدين، به يزينون لنا بالباطل ويصدوننا عن الحق. وليس هذا بمناف لقوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [الأنبياء: 10]، لأن معنى هذا: لا يتساءلون بالأنساب والأرحام(9/6093)
كما كانوا في الدنيا فيقول بعضهم لبعض: أسألك بالله والرحم.
وقيل: معنى قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} عنى به المشركين، يقول بعضهم لبعض: كنتم تأتوننا عن اليمين، أي: من الجهة التي نحبها ونتفاءل بها.
والعرب تتفاءل/ بما جاء عن اليمين وتسميه السانح.
وقل: معنى: تأتوننا إتيان من إذا حلف لنا صدقناه. فأجابوهم فَقَالُوا (لهم) {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: مقرين بتوحيد الله.
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي: من قدرة ولا حجة فنصدكم بها عن الحق والإيمان، {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} (أي طاغين) على الله، متعدين إلى ما ليس لكم بحق (من) معصية الله.(9/6094)
قال قتادة: هو من قول الجن للإنس.
ثم قال (تعالى): {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ} أي: فوجب علينا/ عذاب ربنا إنا لذائقون نحن وأنتم العذاب، هذا خبر من الله جل ذكره عن قول الجن والإنس.
ثم قال: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي قالت الجن للإنس: فأضللناكم عن الحق بالوسوسة والاستدعاء والتزيين، أو كنا ضالين.
قال الله جل (ثناؤه) وذكره: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي: كما اشتركوا في الدنيا في الكفر بالله والضلال، كذلك يشتركون في الآخرة والعذاب.
قال ابن زيد: اشترك المشركون والشياطين في عذاب جهنم.
ثم قال (تعالى): {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي: يقول الله جل ذكره: إنا هكذا نفعل بالذين اكتسبوا الكفر والمعاصي في الدنيا، ثم بَيَّنَ أَنّ مِنْ كُفرهم أنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، يستكبرون، أي: إذا قيل لهم في الدنيا: قولوا لا إله إلا الله، يستكبرون عن قولها، أي: يتعظمون، وحذفت قولوا لدلالة الكلام عليها.
قال السدي: يعني بذلك المشركين خاصة.(9/6095)
قال عمر بن الخطاب: احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله، فإنهم يرون ويسمعون.
ثم قال (تعالى): {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أي: وكانوا في الدنيا - يعني المشركين - (يقولون): أنترك عبادة الأصنام والأوثان، لما يأمر به شاعر مجنون من أن نقول: لا إله إلا الله، يعنون بذلك محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال الله جلَّ ذكره: {بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} أي: بل جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالحق ولم يأت بشعر، وصَدَّقَ بما جاء به المرسلون، أي: كتبهم، لأن في كتب المرسلين قبله أنه سيبعث بكتاب من عند الله، وفي ما جاء به محمد ذكر المرسلين وتصديقهم بما أتوا به من كتب.
ثم قال (تعالى): {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} أي: إنكم أيها القائلون(9/6096)
لمحمد صلى الله عليه وسلم: ( شاعر مجنون، والمتعظمون عن قول: لا إله إلا الله)، لذائقوا العذاب الموجع في الآخرة.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ثواب عملكم في الدنيا.
ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم خلقهم لرحمته، فإنهم لا يذقون العذاب الأليم.
ومن قرأ بكسر اللام فمعناه: إلا عباد الله الذين أخلصوا له العمل والتوحيد.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ}.
قال قتادة: هو الجنة.
وقيل: هو الفواكه التي خلقها (الله) لهم في الجنة.
ثم قال: {فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النعيم} أي: الرزق المعلوم كونهم ذوي فواكه وإكرام الله لهم بكرامته في جنات (النعيم).(9/6097)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
قال مالك بن دينار: بلغني أن جنات النعيم بين جنان الفردوس وبين جنان عدن، وأن فيها جواري خلقن من وَرْدِ الجنة، وأن سكانها (الذين) إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمة الله فراقبوه، والذين تنثني أصلابهم من خشية الله، والذين يجوعون ويعطشون من مخافة الله، وأنه يصرف العذاب عن الناس بهم.
ثم قال: {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي: بعضهم يقابل بعضاً، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض والسرر جمع سرير.
قوله (تعالى ذكره): {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} إلى قوله: {مِنَ المحضرين}.
أي: يطوف عليهم الخدم بكأس من خمر جارية، قاله قتادة وغيره. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم(9/6098)
يكن فيه خمر فهو قدح.
وقال بعضهم: كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء. كذلك الخِوَانُ إذا كن عليه طعام قيل له مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام قيل له خوان. ومثله الهودج يقال له: إذا كانت فيه امرأة، فإذا لم تكن/ فيه قيل له هودج.
قال الضحاك: / كل كأس في القرآن فهو خمر.
وهو قول السدي.
وقال ابن عباس: هو الخمر.
وقال مجاهد: هي خمر بيضاء.
قال الزجاج: " من معين " أي: تجري كما تجري العيون في الأرض.(9/6099)
وقوله: {بَيْضَآءَ}: يعني به الكأس، وهو مؤنثة، {لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي: ذات لذة والمعنى: يلتذ بها شاربها.
ثم قال (تعالى ذكره): {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا تغتال هذه الخمر عقل شاربها كما تفعل خمر الدنيا.
وقال ابن عباس: " لا فيها غول " (أي): ليس في الخمر صداع. وعنه: ليس فيها وجع بطن. وكذلك قال مجاهد.
وقال ابن زيد: ليس فيها وجع البطون، وشاب الخمر يشتكي بطنه.
وقال السدي: لا تغتال عقولهم.(9/6100)
وقال ابن جبير: لا فيها أذى ولا مكروه.
وقيل: معناه: لا فيها إثم.
وذكر الليث: أن ابن عباس أشكل عليه تفسير الغَوْل حتى سمع إعرابياً يقول لصاحبه: إني لأجِدُ في بطني غَوْلاً فقال ابن عباس: جاءت والله (الغَوْل): الوجع يجده في بطنه.
ثم قال (تعالى): {هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} من فتح الزاي فمعناه لا تذهب عقولهم. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي.
وقال قتادة: لا تغلبهم على عقولهم. تقول العرب: نُزِفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوف إذا ذهب عقله، (ونزف دم فلان إذا ذهب). فنفى الله جل ذكره عن خمر الجنة(9/6101)
الآفات من الصداع والسكر اللذين يحدثان من خمر الدنيا.
فأمّا من قرأ بكسر الزاي، فمعناه: لا يفنى شرابهم. يقال أَنْزَف الرجل إذ نفد شرابه.
وحكى الفراء: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وأَنْزَفَ إذا ذهب عقله. فيكون على هذا القول الأخير كقراءة من فتح الزاي.
ثم قال (تعالى ذكره): {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ} أي: وعندهم حور قصرن طرفهن على الأزواج فلا يبغين غيرهم، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي.
قال عكرمة: " قاصرات الطرف " أي: محبوسات على أزواجهن.
وقال ابن زيد: " قاصرات الطرف " (لا ينظرن إلا) إلى أزواجهن، ليس كما يكون نساء أهل الدنيا.(9/6102)
وقوله: {عِينٌ}: يعني به النُّجْل العيون لعظامها، وهو جمع عَيْناء، والعيناء المرأة الواسعة العين العظيمة العين، (وهي) أحسن ما يكون من العيون.
وسألت أم سلمة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: " وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ "، (قال): " العِينُ: الضِّخَامُ العُيُونِ (شَفَرُ) الحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ ".
وقال (تعالى): {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}.
قال ابن جبير: كأنهن بطن البيض. يريد: أنه شبههن في بياضهن ببطن البيض.
وقال السدي: كأنهن البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي. وهو قول(9/6103)
قتادة.
وهو اختيار الطبري، شبهن ببياض البيضة قبل أن تمسه الأيدي، إذهن لم يمسسهن قبل أزاجهن إنس ولا جان، فَشُبِّهْن في صفاء اللون (وبياضه) (و) في صيانتهن ببياض البيضة في قشره، وبياض البيض عند الطبري هو القشر الرقيق الذي على البيضة من داخل القشر.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة، إذ سألته عن ذلك: " رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الجِلْجَةِ التِي رَأيتَهَا فِي دَاخِلِ البَيْضَةِ التِي تَلِي القِشْرَةَ وَهِيَ الغِرْقِىءُ ".
وقال ابن زيد: كأنهن البيض الذي يكنه الريش مثل بيض النعام، فهي(9/6104)
إلى الصفرة تبرق.
وقال ابن عباس: " كأنهن بيض مكنون " يعني: اللؤلؤ المكنون في الصدف.
ثم قال (تعالى): {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي: أقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، قاله قتادة وابن زيد.
ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا في مساءلتهم: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَءِذَا مِتْنَا [وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ]}.
[فقوله: " إنا لمدينون " جواب للاستفهامين في قوله: " أنَّكَ لمن المصدقين إإذا متناً "].
أي: قال قائل من أهل الجنة إني كان لي صاحب ينكر البعث بعد الموت ويقول لي: أتُصَدِّقُ بأنك تبعث بعد أن تكون عظاماً ورفاتاً، وتجزى بعملك؟ هذا معنى قول ابن عباس.
وقال مجاهد: القرين كان شيطاناً/.(9/6105)
قال ابن عباس: لما صار المؤمن إلى الجنة ذكر ذلك فرأى صاحبه في سواء الجحيم، أي: في وسطه، قال: {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ}. أي: والله إنك قاربت أن تهلكني لو قبلت/ منك، ولولا نعمة ربي إذ ثبتني على الإيمان لكنت من المحضرين معك في النار.
وروي أنه كان شريكان، وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر: ليس عندك حرفة ولا أراني، إِلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه.
ثم إن الرجل صاحب الحرفة اشترى داراً بألف دينار كانت لِمَلِكٍ مَاتَ، فدعا صاحبه الذي لا حرفة له فأراه الدار، وقال: كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال: ما أحسنها. فلما خرج قال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، فَتَصَدَّقَ بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم تزوج امرأة بألف دينار، ثم دعا الذي لا حرفة معه وصنع له(9/6106)
(طعاماً) فلما أتاه قال: إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار، (فقال: ما أحسن هذا! فلما انصرف قال: يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار وإني أسألك امرأة من الحور العين، فَتَصَدَّق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه) فأراه ذلك، وقال: إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار، (قال: ما أحسن هذا! فقلما خرج قال: يا رب إن صاحبي هذا اشترى بستانين بألفي دينار)، وإني أسألك بستانين من الجنة، فتصَدَّقَ بألفي دينار، ثم إن المَلَك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دار مُعْجبة فإذا امرأة تطلع يضيء منها ما تحتها من حُسْنَها ثم أدخله بستانين وشيئاً الله (به) عليم، فقال المتصدق عند ذلك: ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا، قال: فأنت ذلك ولك هذان البستانات والمرأة.
قال: فإنه كان لي صاحب يقول: أئنك لمن المصدقين؟ قيل له: فإنه في الجحيم، فقال: هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال عند ذلك: " تَاللهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلاَ نَعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مَنَ المُحْضَرِينَ " أي: المحضرين في النار معك. ذكر(9/6107)
هذه الحكاية بن ثعلبة البهراني.
وهو تأويل يوجب أن تكون القراءة: من " المُصَّدِقينَ " بالتشديد للصاد من الصدقة. وقراءة الجماعة إنما هي من التصديق بالحساب والبعث والمجازاة بالأعمال.
وقال ابن عباس: " لمدينون " لمجازون بالعمل.
وقال مجاهد: لمحاسبون.
قال قتادة: سأل ربه أن يطلعه (فأطلعه) فأطلع فرأى صاحبه في وسط النار.(9/6108)
قال مطرف بن عبد الله: لولا أن الله عَرَّفه به ما عرفه لتغير حبره وسبره بعده.
وروي أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي.
وروى ابن المبارك عن معمر عن عطاء الخرساني مثل الحكاية بعينها إلا أن فيها اختلاف ألفاظ، قال كان رجلان شريكان بينهما ثمانية ألاف دينار فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى داراً بألف دينار وأرضاً بألف دينار، وتزوج امرأة بألف دينار واشترى أثاثاً بألف، فقال الآخر: اللهم إني أشتري منك في الجنة داراً وأرضاً وامرأة وأثاثاً بأربعة ألاف دينار، ثم تصدق بها كلها، ثم احتاج فتعرض لشريكه أن ينيله مما عنده، فقال له: أين مالكظ فأخبره بما فعل، فقال له: وإنك لمن المصدقين بهذا، اذهب فوالله لا أعطيك شيئاً. وطرده فنزلت فيهما (هذه) الآيات، فتذكر المتصدق أمر(9/6109)
شريكه وهو في الجنة فاطع ليراه في وسط الجحيم.
قال قتادة: رأى جماجم (القوم) تغلي.
قال ابن المبارك: وبلغنا أنه سأل به أن يطلعه عليه.
قال أبو محمد مؤلفه (نضر الله وجهه) نقلت معنى الحكاية واختصرت بعض لفظها.
ويروى أن الله جل ذكره جعل بين أهل الجنة وأهل النار كِوىً ينظر إليهم أهل الجنة إذا أحبوا ليعلموام قدر ما أنجاهم الله منه وقد ما أعطاهم، ودل على ذلك قوله (تعالى): {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} أي: أطلع من الكوى فرآه في وسط الجحيم.(9/6110)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
قوله (تعالى ذكره): {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا/} إلى قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين}.
أي: قال المؤمن ليس نحن بميتين إلا موتتنا/ (الأولى في الدنيا). {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} قال ذلك سروراً منه واغتباطاً منه بما أعطاه الله من كرامته.
ثم قال: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي: إن ما أعطانا الله من أنا لا نعذب ولا نموت لهو النجاء العظيم.
قال قتادة: هذا قول أهل الجنة.
{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي: لمثل هذا الذي أُعْطِيَ هذا المؤممن من الكرامة في الآخرة فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون.
قال قتادة: آخر كلام المؤمن: " لهو الفوز العظيم "، ثم قال الله جل ذكره: " لمثل هذا فليعمل العاملون ".
ثم قال (تعالى ذكره): {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} أي: الذي تقدم من ذكر النعيم للمؤمنين خير أم ما أعد الله لأهل النار من الزقوم. والنزول: الرزق(9/6111)
الذي له سعة، ومعناه في الأصل: أنه الطعام الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. ولما ذكر الله هذه الآية، قال المشركون: كيف ينبت الشجر في النار، والنار تحرق الشجر؟ فقال الله جل ذكره: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} يعني المشركين الذين قالوا في ذلك ما قالوا، ثم أخبرهم الله بصفة هذه الشجرة، فقال (جل ذكره): {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم}.
قال قتادة: غُذِّيت بالنار ومنها خُلِقت.
قال السدي: قال أبو جهل لما نزلت هذه الآية: إن شرجة الزقوم: أتعرفونها في كلام (العرب)؟ أنا آتيكم بها، فدعا جاريته فقال: إيتني بزبد وبتمر، فقال: دونكم تزقموا فهذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره تفسير هذا: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً} إلى آخر الآيات. فالظالمون هنا أبو جهل(9/6112)
وأصحابه. وهي مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد وشدة، فقيل لها شجرة الزقوم أنهم يتزقمونها (أي) يبتلعونها من شدة جوعهم، فيبتلعونها على جهد وتقف على حلوقهم يختنقون بها لخشونتها ومرارتها وكراهتها ونتنها فيتعذبون بها على أن تصل إلى أجوافهم فيملؤون بطونهم من ذلك من شدة الجوع ثم لا ينفعهم ذلك ولا يجدون له نفعاً ولا لذة.
ثم قال (تعالى ذكره): {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} أي: طلعها في قبحه وسماجته كرؤوس الشياطين، وهذا تمثيل لأنهم لم يكونوا يرون الشياطين، ولكن من شأن العرب أنها إذا بلغت في صفة القبح والسماجة قالت: كأنه رأس شيطان، فخوطبوا بما يعقلون وما يجري بينهم ويفهمون.
وقيل: بل مُثِّل لهم الطلع بما يعرفون، وذلك أن ضرباً من الحيات قباح الصور والمناظر يقال لها شيطان، فشبهت لهم الطلع (بذلك).(9/6113)
(وقيل): الشياطين نبت باليمن قبيح المنظر، يقال له: الأَسْتَنُ والشيطان شبه الطلع به، وطلعها ثمرها كأنه أول ما يخرج.
ثم قال (تعالى): {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا} أي: فإن هؤلاء المشركين لآكلون من هذه الشجرة فمالئون منها البطون، ثم إن لهم على ما يأكلون منها لشوباً من حميم، أي: خلطاً من ماء قد انتهى حره.
وحميم فعيل مصروف عن مفعول، والشوب مصدر شاب طعامه إذا خلطه يشوبه شَوْباً وَشَابَةً وَشِيَاباً.
وقال ابن عباس: لشوباً لمزجاً.
وقال قتادة: لمزاجاً.(9/6114)
وقال السدي: حميم يشاب لهم بغساق بما يغسق أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم.
ثم قال (تعالى): {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم}.
قال قتادة: فهم (في) عناء وعذاب من نار جهنم، وتلا: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيم - انٍ ".
قال بعض المفسرين: هذا النص يدل على إنهم في وقت أكلهم للزقوم وشربهم للحميم ليسوا في النار المتوقدة، هم في عذاب آخر، ثم يردون إلى الجحيم، والجحيم النار المتوقدة.
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم تلا: " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمّئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ".
ثم قال (تعالى): {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} أي: وجودهم على الضلال(9/6115)
والكفر بالله وعبادة الأصنام.
{فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي: فهم مسرعون في اتباع ما كان عليه أباؤهم من الكفر.
قال مجاهد/ وقتادة: {يُهْرَعُونَ} يسرعون.
وقال ابن زيد: يستعجلون.
قال (الفراء: الإهراع: الإسراع فيه شبيه) بالرعدة.
قال المبرد: المُهْرَعُ المُستحث. يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها.
وحكى الزجاج: هُرِع وأُهْرِع/ إذا استُحث وأزعِج، كأنهم يزعجون من الإسراع إلى اتباع آبائهم.(9/6116)
ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} أي: ولقد ضل عن الإيمان والرشد قبل مشركي قريش أكثر الأمم الخالية.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي: في الأمم الخالية رسلاً منذرين تنذرهم بأس الله وعقابه على الكفر والتكذيب، فكذبوهم، وحذف فكذبوهم لدلالة الكلام عليه.
ثم قال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي: فَتَأَمَّل يا محمد كيف كان عقابة الأمم الذين قبلك إذ كَذَّبوا رسلهم كيف أهلكهم الله فصيرهم عبرة لمن اغتر وعظة لمن اتعظ.
ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا من آمن بالرسل من الأمم فأخلص لله العمل والإيمان بما جاء به الرسل. هذا على قراءة من كسر اللام. ومن فتحها(9/6117)
فمعناه: إلا من آمن بالرسل، وأخلصه الله في سابق علمه الإيمان والتصديق فوفقه له.
ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون} أي: نادى فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، وبقوله: {دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح: 5] وما بعده، فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي: من الأذى والمكروه الذي كان فيه (من الكافرين) من قومه.
وقيل: من الطوفان والغرق قاله السدي.
ثم قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} أي: هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، وذلك أن الناس كلهم من ذرية نوح بعد الغرق.
قال ابن المسيب: فجميع الخلق من ذرية سام وحام ويافت.(9/6118)
[ورواه سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هُمُ البَاقِينَ " هم حَام وسَام ويَافت] ". فالعرب كلهم والروم والفرس من ولد سام، وجميع أجناس السودان من السند والهند والزغاو النؤبة وغيرهم من البربر من ولد حام، والصقالية والترك ويأجوج ومأجوج من ولد ثافت، والخير في ولد سام ".
ثم قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين}.
قال قتادة: أبقى الله عليه الثناء (الحسن) في الآخرين، وهو قول السدي.
وقيل: في " الآخرين ": أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنها آخر الأمم فهي تثني على نوح(9/6119)
وتصلي عليه وتترحم عليه.
ثم قال (تعالى): {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} أي: يقال: سلام على نوح، (أي): أبقينا عليه في الآخرين أن يقال ذلك، يعني أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك رفع " سلام " لأنه محكي.
وقيل: التقدير: " في الآخرين " تم الكلام، ثم ابتدأ " سلام " على نوح ابتداء وخبر.
وفي حرف ابن مسعود: " سَلاماً " بالنص، أعمل فيه تركنا فنصبه، ومعناه في الرفع أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء.
قال أبو إسحاق معناه: وتركنا عليه أن يُصلى عليه إلى يوم القيامة. وقل: (معناه): أبقينا (عليه) الثناء الحسن في الآخرين.
ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: إنا كما فعلنا بنوح ومن آمن معه(9/6120)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
كذلك نجزي من أحسن فآمن بالله وصدق الرسل.
ثم قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: إن نوحاً من الذين صدقوا وأخلصوا العبادة لله والتوحيد له.
ثم قال: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} أي: بعد أن أنجينا نوحاً ومن آمن معه إغرقنا الذين بقوا بعده ممن كفر به وكذبه.
قال قتادة: أنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق بقية قومه.
قوله (تعالى ذكره): {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}.
أي: من تُبَّاع نوح وعلى منهاجه لإبراهيم.
قال ابن عباس: {مِن شِيعَتِهِ}: ومن أهل دينه.
وهو معنى قول قتادة ومجاهد.،،،،(9/6121)
فالهاء تعود على نوح.
وقال الفراء: الهاء لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: وإن من شعية محمد لإبراهيم، وهو عنده مثل: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] يعني ذرية من سبقهم.
ثم قال: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
أي: من الشركة، قاله مجاهد وقتادة.
وقال عروة بن الزبير: لم يلعن شيئاً قط.
وقال ابن سيرين: القلب السليم الناصح لله في خلقه.
وقيل: / القلب السليم الذي يحب للناس ما يحبه لنفسه/، قد سلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلم لله بقلبه ولسانه ولا يعدل به غيره.
ثم قال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} أي: أَيّ شيء تعبدون.
{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} أي: أكذاباً معبوداً غير الله تعبدون، والإفك،،(9/6122)
منصوب بـ " تريدون "، و " آلهة " بدل منه.
قال المبرد: (الإفك) أسوأ الكذب.
ثم قال: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} أي: أَيّ شيء تظنون بربكم أيها القوم أنه يصنع بكم أن لقيتموه وقد عبدتم غيره، قاله قتادة.
ثم قال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم}.
ذُكِرَ أن قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانوا أهل نجوز وكانوا يهربون من الطاعون، فطمع أن يتركوما بيت آلهتهم ويخرجوا فيخالفهم إليها فيكسرها، فرأى نجماً قد طلع فعصب رأسه (وقال إني مطعون).
قال ابن عباس: قالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج معنا، فقال: إني مطعون، وتركوه مخافة الطاعون.(9/6123)
وقال الضحاك: تركوه لما قال إني مطعون مخافة أن يعديهم.
وقال ابن زيد: أرسل إليه ملكهم أن غداً عيدنا فاحضر معنا. قال: فنظر نظرة إلى النجوم، فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال: إني سقيم.
قال ابن عباس: " سقيم ": مريض.
وقال الحسن: " فنظر نظرة في النجوم ". أي: فكر فيما يعمل إذا كلفوه الخروج، فالمعننى على هذا القول: فنظر نظرة فيما نجح له من الرأي، أي: فيما طلع له. يقال نَجَمَ القول والنَّبْتُ إذا طلعا. أي: فكر فعلم أنه لا بد لكل حي أن يسقم، فقال: إني سقيم.
قال الخليل: يقال للرجل إذا فكر في الشيء كيف يدبره: نظر في النجوم.
وقيل: المعنى: فنظر فيما نجم من الأشياء، أي: طلع منها، فعلم أن لها خلقاً(9/6124)
ومدبراً، (وعلم) أنها تتغير، وعلم أن ذلك يلحقه، فقال: إني سقيم.
فتكون النجوم في هذين القولين مصدراً. (و) على القول الأول جمع نجم.
وقيل: إنهم كانوا يعرفون أن نجماً إذ طلع يطلع بالطاعون، فكان إذا طعن رجل منهم هربوا منه، فطلع ذلك النجم، فقال إبراهيم: إني سقيم، أي: مطعون، فهربوا منه، وكان غلاماً أمرد، فهو معنى قوله: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ}.
وقيل: إنه كان يُحَمُّ في ساعة قد اعتاده ذلك، فنظر في الأوقات، (وقت) الساعة التي تأتيه الحُمى فيها، فوجدها تلك الساعة التي دُعِي إلى الخروج معهم إلى جمعهم فقال: إني سقيم. أي: إن هذه الساعة أسقم فيها بالحمى التي اعتادتني، فجعل ذلك علة لتخلفه عنهم، وكان فيما قال صادقاً، لأن الحمى كانت تأتيه في ذلك الوقت، فكان قد أضمر كسر أصنامهم إذا تخلف بعدهم وغابوا ففعل ذلك.
وقيل: معنى قوله: " إني سقيم " أي: سأسقم لأن من كان في عقبه الموت سقيم،(9/6125)
وإن لم يكن في وقته ذلك سقيماً قال تعالى ذكره لنبيه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30].
أي: ستموت ويموتون.
وقيل: إن ذلك (من) إبراهيم كان تحيلاً عليهم في ذات الله.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام غَيْرَ ثَلاَثِ كَذِبَاتٍ، اثْنَتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ": قوله: " إِنّي سَقِيمٌ "، وقوله: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وقوله في سارة: " هِيَ أُخْتِي ".
ثم قال: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي: مضوا عنه خوفاً أن يعديهم السقم الذي ذكر أنه به، وذلك أنهم كانوا يفرون من الطاعون.(9/6126)
ثم قال: {فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ} إي: مال إليها بعدما خرجوا عنه، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ}.
في الكلام معنى التعجب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فقرب إليها طعاماً فلم تأكل، فقال لها: ألا تأكلون، فلم تجاوبه، فقال: ما لكم لا تنطقون؟ مستخفاً بها مستهزئاً.
وقيل: إنهم جعلوا لآلهتهم الطعام قبل أن ينصرفوا عنه، فلما انصرفوا ورآها لا تأكل قال: ألا تأكلون، فلما لم تكلمه قال: ما لكم لا تنطقون؟ وإنما خاطبها مخاطبة من يعقل، لأنهم أجروها في العبادة وجعل الطعام لها مجرى من يعقل.
ثم قال: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين}.
روي أنه أخذ فأساً/ فضرب بها حافتيها ثم علقها في عنق [أكبرها/.
و {باليمين}: بالقوة.
وقيل: باليمين: بقسمه في قوله: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] بعد أن تولوا مدبرين، فبر بيمينه بفعله.(9/6127)
وقال (ابن) عباس: جعل يضربها بيمينه، ليقيم عليهم الحجة بأن الأصنام إذا كانت لا تنفع أنفسها فتدفع الضر عن أنفسها فهي أبعد من ألا تنفع غيرها، فعبادة من لا ينفع نفسه ولا غيره من أعظم الخطأ وأبينه.
ثم قال: {فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي: يمشون سراعاً.
يقال: زَفَّ يَزِفُّ زَفِيفاً، إذ أسرع، وأصله من زفيف النعام، وذلك أول عدوه. قال ابن زيد: " يزفون ": يستعجلون.
ومن قرأ بضم الياء فمعناه: جعلوا أنفسهم يسرعون.
يقال: أطردت الرجل أي: صيرته إلى ذلك، وطردته: نحيته. فيكون المعنى:(9/6128)
وجاء على هذه الهيئة بمنزلة المزفزفة على هذه الحال. وقد أنكر أبو حاتم هذه القراءة، وأجازها غيره على هذا التأويل.
(وقرئت) " يَزِفُونَ " بالتخفيف، لغة بمعنى يسرعون، يقال: وَزَفَ يَزِفُ إذا أسرع. ولم يقرأ بها الفراء ولا الكسائي.
وقيل: معنى يزفون: يمشون بجمعهم في رجوعهم مشياً على مهل، لأنهم كانوا آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بضر.
ثم قال (تعالى): {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}.
في (هذا) الكلام حذف، والتقدير: قالوا له: لِمَ كسرتها؟ قال: أتعبدون، أي:(9/6129)
قال إبراهيم لقومه: أتبعدون ما تنحتون بأيديكم من الأصنام، والله خلقكم وعملكم.
وأجاز النحويون أن تكون ما بمعنى الذي، وأن تكون وما بعدها مصدراً، وهو أحسن.
وأجازوا أن تكون نافية بمعنى: وما تعملون شيئاً ولكن الله خالقه.
ثم قال (تعالى): {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم}.
الجحيم عند العرب جمر النار بعضه على بعض، والنار على النار. يقال رأيت حجمه النار، أي تلهبها.
والمعنى: أنه لما أقام عليهم الحجة في عبادتهم ما لا ينفع ولا يضر لم يجدوا لحجته مدفعاً، فتركوا جوابه، وقالوا: ابنو له بنياناً فألقوه في الجحيم، فعملوا ناراً عظيمة لا يقدر أحد أن يتقرب منها لشدة حرها، فاحتالوا (له) في رميه فيها فعملوا(9/6130)
المنجيق ورموه فيها، فجعلها الله بردا وسلاماً على إبراهيم. وقد مضى تفسير هذه في " سورة الأنبياء " بأشبع من هذا.
ثم قال (تعالى): {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} أي أراد قوم إبراهيم عليه السلام به كيداً، وهو طرحهم إياه في النار.
قال الله جل ذكره: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} أي: الأذلين حجة، فلم يضره ما فعلوا به.
ثم قال (تعالى): {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: وقال إبراهيم بعد أن نجاه الله من كيد قومه وأعلى حجته عليهم، إني مهاجر إلى ربي من بلد قومي إلى الأرض المقدسة.
وقال قتادة: معناه: ذاهب إلى ربه بعقله وقلبه ونيته.
وقيل: إنما قال ذلك حين أرادوا أن يلقوه في النار.(9/6131)
وروي أن النار (لما) لم تضره قال ابن لوط أو ابن أخي لوط: إن النار لم تحرقه من أجلي، وكان بينهما قرابة، فأرسل الله عز وجل ( عنقاً من النار) فأحرقته.
ثم قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} أي: هب لي ولداً صالحاً من الصالحين.
قال الله جل ذكره: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}.
أي: حليم إذا كبر، وهو إسحاق في قول عكرمة وقتادة.
وهو قول ابن مسعود وكعب.
وقال أبو هريرة وابن عمر والشعبي وابن جبير ومجاهد: هو إسماعيل، واختلف في ذلك عن ابن عباس.(9/6132)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
قال قتادة: لم يثن الله على أحد بالحِلْم غير إبراهيم وإسحاق.
وذكر ابن وهب عن عطاء بن أبي رباح: أن عبد الله بن عباس قال: المُفْدَى إسماعيل.
وزعمت اليهود أنه إسحاٌ، وكذبت اليهود، وقد ذكرنا الاختلاف في الذبيح بحجج كل فريق في كتاب مفرد فلم نعده هنا لطوله.
قوله (تعالى ذكره): {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
قال ابن عباس: السعي العمل.
وقال مجاهد: لما شب حتى أدرك سعيُه سَعْيَ [على] إبراهيم في العمل. وقال قتادة: لما مشى مع إبراهيم.
وقال ابن زيد: السّعي هنا العبادة.(9/6133)
ثم قال/: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: سأذبحك.
روي أنه أُمِرَ في المنام بذبحه.
وذكر أنه حين بُشِّرَ به نذر أن يجعله إذا وُلِدَ له ذبيحاً. فلما وُلِدَ وبلغ (معه) السعي - مع أبيه -، أُري في المنام فقيل له: فد الله بنذرك. ورؤيا الأنبياء يقين.
قال السدي: لما قال جبريل/ صلى الله عليه وسلم لسارة أبشري بولد إسمه إسحاق، ضرب وجهها عجباً، وقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلبي شيخاً، إن هذا لشيء عجيب، فقالت سارة لجبريل صلى الله عليه وسلم: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل عليه السلام عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتز خضرة، فقال إبراهيم: هو الله إذاً ذبيحاً، فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم، فقيل له: أوْفِ لله بنذرك الذي نذرت، إن الله رزقك غلاماً من(9/6134)
سارة، فقال لإسحاق: انطلق نقرب قرباناً إلى الله عز وجل، وأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ قال: با بني إني رأيت في المنام أني أذبحك فانظر ما ترى؟، {قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين}.
ثم قال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لاينضح عليها من دمي بشيء فتراه سارة فتحزن، وأسرِع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها من السلام، فأقبل عليه أبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق، ثم إنه جر السكين على حلقه فلم تحك السكين، وضرب الله صفحة من نحاس (على حلق إسحاق)، فلما رأى ذلك ذوب به على جبينه وحز في قفاه، فذلك قوله (تعالى): {فَلَمَّا أَسْلَمَا} (أي): أسلما الأمر لله ورضيا بالذبح، الذابح والمذبوح، وتله: صرعه. والجبين: ما عن يمين الجبهة و (عن) شمالها.
قال قتادة: تله: كبه وحول وجهه إلى قفاه.(9/6135)
قال ابن عباس: كبه على جبهته.
(قال السدي): فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بالحق، فالتفت فإذا بكبش فأخذه وخلى عن ابنه، وأكب على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بني وُهِبْتَ لي، فهو قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر فجزعت، وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني.
قال عكرمة في معنى {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}: قال له الغلام: (يا أبت) اقذفني للوجه كي لا تنظر إلى وجهي فترحمني [وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع.
قال مجاهد: " وتله للجبين " وضع وجهه على الأرض]، فقال له: يا أبت لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، فلا تحن علي، اربط يدي إلى(9/6136)
(المرفقين)، ثم ضع وجهي في الأرض.
ومن قرأ (تَرَى) بفتح التاء والراء، فمعناه: ماذا عندك من الرأي فيما قلت لك، على معنى الامتحان لإسحاق، لا (على) معنى الاستشارة له في أمر الله.
ومن ضم التاء، فمعنى قراءته: ماذا ترى [من صبرك أو جزعك. وقيلأ: معنى الكلام: ماذا] تشير، امتحاناً له.
وغلط أبو عبيد وأبو حاتم في هذا فجعلاه من رؤية العين، وليس كذلك،(9/6137)
إنما هو في معنى الرأي. تقول أريت فلاناً الصواب وأريته رشده.
قال ابن عباس: إن الله لما أمر ابراهيم بالمناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل صلى الله عليه وسلم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرمى بسبع حصيات حتى ذهب، [ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب]. ثم تلّه للجبين وعلى إسماعيل قميض أبيض، فقال (له): يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا، فاخلعه عني فكفني فيه، فالتفت إبراهيم صلى الله عليه وسلم فإذا بكبس أعين أبيض أقرن فذبحه.(9/6138)
قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبعُ هذا الضرب من الكباش.
وجواب لما محذوف، والتقدير: فلما أسلما سُعِدَا وأجزل لهما الثواب.
وقال الكوفيون: الجواب: ناديناه، والواو زائدة.
وقوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} التي أريناك في منامك أن تذبح ولدك.
ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: كما خلصنا الذبيح والذابح من الشدة والكرب، كذلك نخلص من أحسن بالعمل الصالح من الشدة والكرب.
ثم قال: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} إي: إن أمرنا لك بذبح ابنك لهو الاختبار الظاهر.
وقال ابن زيد: / البلاء في هذا الموضع الشر والمكروه.
وقيل: المعنى: إن هذا الفداء الذي فديناه به من الذبح لهو النعمة الظاهرة.
وقيل: لا يقال في الاختبار إلا الابتلاء. يقال أبلاه الله إذا أنعم عليه أو(9/6139)
امتحنه وبلاه إذا اختبره.
والذِّبْح بالكسر المذبوح، والذَّبح بالفتح المصدر.
وقال كعب الأحبار/: لما أري ابراهيم صلى الله عليه وسلم [ ذبح إسحاق قال الشيطان] [والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم] لا أفتن منهم أحداً أبداً (فتمثل الشيطان لهم رجلاً يعرفونه، فأقبل حتى خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه، دخل على سارة، فقال لها: (أين أصبح) إبراهيم غادياً بإسحاق؟ قالت سارة: غدا لبعض حاجته. قال(9/6140)
الشيطان: (لا) والله ما لذلك غدا، قالت سارة: فَلِمَ غدا به؟ قال: غَدَا بِهِ ليذبحه، قالت سارة: ليس من ذلك شيء، لم يكن ليذبح ابنه، قال الشيطان: بلى والله.
قالت سارة: فَلِمَ يذبح؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فهذا أحسن أن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند سارة حتى أدرك إسحاق، وهو يمشي على إثر أبيه، فقال له: أين أصبح أبوك غادياً بك؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما غدا بك لبعض حاجته، ولكنه غدا بك ليذبحك، قال إسحاق، ما كان أبي ليذبحني، قال: بلى، قال: لِمَ؟ قال: زعم أنه ربه أمره بذلك. قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنه. فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أين أصبحت غادياً بابنك؟ قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه، قال: لِمَ أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك، قال إبراهيم: فوالله (إِنْ) كان أمرني بذلك لأفعلن.
قال كعب: أوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجبت لك فيها، قال: إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي، أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك شيئاً فأدخله الجنة.
وروي أن الكبش الذي فدي به هو الكبش الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قربه.
وقال ابن عباس: " بذبح عظيم " (بكبش قد) رعى في الجنة أربعين سنة.(9/6141)
وقال الحسن: ما فدي إلا بتيس من الأوري أُهْبط عليهما من ثبير.
وقيل: فدي بوعل. الوعل: التيس الجبلي.
وأجاز بعض العلماء نسخ الشيء قبل فعله، واستدل بأن هذه الآية قد نسخ الله فيها الأمر بالذبح بالفداء (له) بالكبش قبل فعله. ومثله عنده أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بفرض خمسين صلاة، ثم رده إلى خمس. ومثله الأمر بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في سورة المجادلة، ثم نسخه بالترك.(9/6142)
[وقال غيره: لا يجوز في هذا نسخ لأنه بَدَاء، لو قلت: قم، ثم قلت لا تقم لكان] بداء، وذلك لا يجوز على الله جل ذكره بل فعله إبراهيم ما أمر به من أخذ السكين والإضجاع وغير ذلك.
وهذا عند الحذاق من العلماء، إنما هو من تأخير البيان.(9/6143)
ومن قال: إنه نسخه، فإنما فعل ذلك لأن تأخير البيان لا يجوز عنده، وهو (الغاساني).
ولو جاز أن يقال: إن هذا منسوخ لجاز في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] ثم بَيَّنَهَا بعد ذلك فيكون البيان ناسخاً لما تقدم، وهذا لم يقله أحد.
ويدل على جواز تأخير البيان قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]. وثم تدل على(9/6144)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
التراخي.
وقد بينا هذا في كتاب " الناسخ والمنسوخ " بأبين من هذا.
ويروى أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لمَّا أراد أن يذبح ابنه قال له: اربطني، فلما أسلما لأمر الله ووضع السكين على حلقه، بعث الله نحاساً فكان على حلقه فجر على النحاس، ثم نودي فالتفت فرأى الذبح وراءه، فقال إبراهيم: يا بني إنك نبي وإن لك لدعوة أُعطيتَها كما أُعطي الأنبياء فاسأله، فقال إسماعيل: وإني أسأل أن يغفر لكل عبد مات ولا يشرك به شيئاً.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} إلى قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ}.
أي: وأبقينا على إبراهيم ثناء حسناً في الآخرين من الأمم، قاله قتادة. وقال ابن زيد: سأل إبراهيم عليه السلام ربه فقال: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84]، أي(9/6145)
الثناء الحسن، فأبقى الله عليه يقال: {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ} أي: أمنة/ من الله أن يذكر الإنجيل.
ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: كما جزينا إبراهيم على طاعته، كذلك نجزي من أطاع الله وأحسن عبادته.
ثم قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} أي: بشرناه - بعد أن فدينا إسماعيل بالذبح - بإسحاق مقدراً له النبوة والصلاح.
ومن قال: إن الذبيح إسحاق فمعناه عنده: (وبشرنا إبراهيم) / بعد الفداء بنبوة إسحاق نبياً. وفيه بُعْدٌ لأنك (لو) قلت: بشرتك بقدوم زيد قادماً، لم يكن للحال فائدة، ولم يوضع لغير فائدة.
قال قتادة: بشر بنبوته بعدما جاد لله بنفسه.(9/6146)
ثم قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ} أي: ثبتنا عليهما النعمة.
{وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} وهوالمطيع.
{وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} وهو الكافر.
وذكر الطبري عن السدي أنه قال: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس ويضيفهم، فبينما هو يطعم الناس إذ رأى شيخاً كبيراً يمشي في الحرة، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه فأطعمه فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها في فيه فيدخلها في أذنه مرة وفي عينه مرة ثم يدخلها في فيه، فإذا أدخلها في فيه، خرجت من دبره. وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد سأل ربه ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت. فقال إبراهيم للشيخ حين رأى حاله: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال يا إبراهيم الكبر، قال له: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم بسنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتين، فإذا بلغت ذلك صرت مثله، قال نعم، فقال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقالم الشيخ فقبض روح إبراهيم. وكان ملك الموت قد تمثل في صورة شيخ لإبراهيم، ومات إبراهيم وهو ابن مائتي سنة.(9/6147)
وقيل: ابن مائة وسبع وتسعين سنة.
ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} أي: تفضلنا عليهما بالنبوة والرسالة.
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} أي: ومن آمن معهما، يعني بني إسرائيل.
{مِنَ الكرب العظيم} أي: من الغرق.
ثم قال (تعالى): {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الغالبين} أي: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وآله بتغريقنا إياهم فكانوا هم الغالين.
وقال الفراء: الضيمر في {وَنَصَرْنَاهُمْ} و {فَكَانُواْ} {هُمُ الغالبين} يعود على موسى وهارون وأن التثنية ردت إلى الجمع. ودل على ذلك قوله (جل ذكره).
{وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين * وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين * سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ}.
وقال قوم: إنما جع في موضع التثنية لأنهما عظيماً الشأن جليلا القدر. والعرب(9/6148)
تخبر عن الواحد من هذا النوع بلفظ الجمع، فالإخبار عن اثنين منهما بلفظ (الجمع) آكد وأحسن.
ومعنى {المستبين}: المتبين هداه وفضله وأحكامه، يعني التوراة، والصراط المستقيم: الإسلام.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} أي: أبقينا عليهما الذكر الجميل والثناء الحسن، فكذلك نفعل بمن أحسن في طاعتي وأدى فرائضي. وفيه من الاختلاف ما تقدم في قصة نوح، وهو يقتضي قوله: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84].
(ثم قال): {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: الذين أخلصناهم واخترناهم للطاعة وهديناهم للإيمان.
ومن كسر اللام فمعناه: إنهما من عبادنا الذين أخلصوا العمل ولم يشركوا فيه غيري.
قال (تعالى): {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين}.
قال ابن إسحاق: (وهو إلياس) (بن) ياسين بن فنحاص بن العزار بن(9/6149)
هارون بن عمران. وكان إلياس من سبط يوشع بن نون، بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك، (وكانوا يعبدون صنماً) يقال له بعل.
وقيل هو إدريس. قاله قتادة.
والمعنى: (إنه) لَمِنَ الذين أرسلهم الله إلى الخلق، فقال لقومه: ألا تتقون الله فتخافون عقابه على عبادتكم رباً غيره. (و) هو قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين}.
والبعل: الرب لغة أهل اليمن مشهورة، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي.(9/6150)
وري ذلك عن ابن عباس. وقال الضحاك: هو صنم لهم يسمى بعلاً.
وقال ابن زيد: هو صنم كانوا يعبدونه ببعلبك مدينة وراء دمشق.
وقيل: إن بعلاً تيس كانوا يعبدون.
وقال ابن إسحاق: بلغني أن بعلاً امرأة كانوا يعبدونها/ من دون الله جل ذكره.
قال وهب بن منبه: بعث الله إلياس إلى بني إسرائيل حين نسواك ما عهد الله إليهم، حتى (نصبوا) الأوثان وعبدوها من دون/ الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله عز وجل، وجعلوا لا يسمعون منه شيئاً. وكان (له مَلِكٌ) من ملوك بني إسرائيل يطيعونه يقال له: جاب. وكان إلياس يقرب من الملك، وكان الملك يطيع إياس (فيما) يقول له، ويراه الناس على هدى. وكان ملوك بني إسرائيل قد افترقت في(9/6151)
البلاد وأخذ كل واحد ناحية يأكلها، ويعبدون الأصنام، فقال الملك يوماً لإلياس: والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، والله ما أرى (فلاناً) وفلاناً - يذكر ملوكاً من ملوك بني إسرائيل - إلا قد عبدوا الأوثان من دون الله، وهم (على) نحو ما نحن عليه (من نعيم)، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، ما تنقص دنياهم عبادتهم الأوثان التي تزعم أنها باطل وما نرى لنا عليهم من فضل، فعظم الأمر على إلياس، واقشعر جلده وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه وعبد الأوثان، فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك والعبادة لغيرك فغير ما بهم من نعمة!
أو كما قال:
(قال) ابن إسحاق: فذكر لنا أنه أوحي إليه أنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك.
فقال إلياس: اللهم أمسك عنهم القطر، فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدواب والشجر، وجهد الناس جهداً شديداً، وكان إلياس حين دعا عليهم قد استخفى شفقاً على نفسه منهم. وكان(9/6152)
حيث ما كان وضع له رزق، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا: قد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه ولقي أهل ذلك المنزل شراً.
ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب به ضر، فآوته وأخفت أمره فدعا إليا لأبنها فعوفي من الضر الذي كان به واتبع اليسع إلياس. وفآمن به وصدقه ولزمه، وكان يذهب معه حيث ما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاماً شاباً، فَذُكِر أن الله جل ذكره أوحى إلى إلياس: إنك قد أهلكت خلقاً كثيراً بخطايا بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر. فذكر - والله أعلم - أن إلياس قال: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعوا لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلهم يرجعون عن عبادة غيرك، فقيل له: نعم، فأتى إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهداً وهلكت البهائم والدواب والطير والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، أو كاما قالهم، فإن كنتم تحبون (علم) ذلك، وتعلمون أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، والذي أدعوكم إليه الحق، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تبعدونها وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون. فإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله يفرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء،(9/6153)
قالوا: أنْصَفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم، فدعوها فلم تستجب لهم ولم تفرج عهنم ما كانوا فيه من البلاء، فعرفوا ما هم في من الضلال والباطل، فقالوا لإلياس: يا إلياس إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا إلياس لهم بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون، ثم ترامى إليهما السحاب ثم أُدْحِيت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييث بلادهم وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء. فلم يرجعوا ولانزعوا، وأقاموا على ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم، دعا ربه يقبضه إليه فيريحه منهم، فذكر أن الله عز وجل أوحى إليه: أخرج إلى بلك كذا وكذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس وخرج معه اليسع حتى إذا كانا بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه فانطلق به (فناداه) اليسع يا إلياس (يا إلياس) ما تأمرني به؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش، / وألبسه النور، / (وقطع) عنه لذة المطعم والمشرب، وكان في الملائكة(9/6154)
إنيساً ملكياً أرضياً سماوياً.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا الخبر إذا صح فإنما يصح على قول من قال: إنه إدريس صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ذكره في إدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57].
وقوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} أي: خالقكم الذي هو أحسن المقدرين للأشياء.
{الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين} أي الماضين.
[ثم قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: محضرون في عذاب الله].
ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: الذين اختارهم (الله) فأنجاهم من العذاب بتوفيقه إياهم.
ثم قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ} أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن بعده، فيال: " سلام على آل ياسين "، أي: سلام على أهل دينه، فيسلم على أهله من أجله، فهو داخل في أفضل الثناء.(9/6155)
ومن قرأ " اليَاسِينَ " غير مقطوع. فقال ابن إسحاق: هو اسمه مثل ابراهيم.
وذهب أبو عبيد إلى أنه جُمِعَ جَمْعَ السلامة على معنى أنه وأهل مذهبه يسلم عليهم.
وقال علي بن سليمان: العرب تُسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون: المهالبة لأصحاب المهلب، كأنهم سموا كل واحد بالمهلب فعلى هذا قيل الياسين، يريد قومه المؤمنين كأنه سمَّى كل واحد منهم بإلياس.
وذكر سيبويه أن هذا المعنى إنما يجيء على معنى النسبة حكى الأشعرون،(9/6156)
يريد به النسب.
واحتج أبو عمرو وأبو عبيد على تركه لقراءة آل ياسين، أنه ليس في السور سلام على آل فلان من الأنبياء، فكما سمي الأنبياء في هذا المعنى سمي هو. ولا حجة في هذا لأنه إذا أثني على قومه المؤمنين من أجله فهو داخل في ذلك وله منه أوفر الحظ، وهو أبلغ في المدح ممن أثني عليه باسمه، وأيضاً فإن الحظ مثبت بالانفصال.
وقال الفراء: هو مثل {طُورِ سَيْنَآءَ} [المؤمنون: 20] و {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]، والمعنى واحد.
ومعنى ذلك: أن إلياس اسم أعجمي، [والعرب إذا استعملت الأسماء الأعجميه في كلامها غيرتها بضروب من] التعبير، فيقولون: إبراهيم وإبراهام وإبرهام، وميكائيل ومْيكائيل وميكاين وميكال، وإسماعيل وإسمعيل، وإسرائيل وإسرائين، وشبهه. فكذلك إلياس والياسين هو واحد. قال السدي: " سلام على الياسين " هو: إلياس.(9/6157)
قال الفراء: إن أخذته من الأَلْيَسِ صرفته، فيكون وزنه على هذا إفعال مثل أخراج. وقرأ الحسن بوصل الألف (بجعله الألف) واللام اللتين للتعريف دخلتا على ياسين.
ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: كما فعلنا بإلياس كذلك نفعل بأهل الطاعة والإحسان.
ثم قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: من الذين آمنوا وأطاعوا ولم يشركوا.
ثم قال (تعالى): {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين} أي: لمن الذين أرسلهم الله بالإنذار والإعذار.
ثم قال (تعالى): {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي: من العذاب الذي أحللنا بقومه على كفرهم.(9/6158)
وفي الكلام حذف، والتقدير: وإن لوطاً لمن المرسلين إلى قومه بالإنذار فكذبوه فنجيناه وأهله.
ثم قال: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} أي: في الباقين، يعني امرأة لوط.
قال الضحاك: يعني امرأته تخلفت فمسخت حجراً.
وقال السدي: " في الغابرين " في الهالكين.
وقيل: في " الغابرين ": في الذين بلغوا العمر الطويل، وقد تقدم هذا بأشبع شرحاً.
ثم قال: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أي: أهلكناهم بالحجارة.
ثم قال: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} هذا خطاب لقريش، أي: إنكم لتمرون في أسفاركم على آثارهم وديارهم وموضع هلاكهم في النهار وفي الليل، فلا تتعظون، لا تزدجرون وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ولا تعقلون ما يراد بكم، وأنه من سلك مثل ما سلكوا من الكفر والتكذيب أنه صائر إلى مثل ما صاروا إليه.
" وبالليل " وقف كاف، و " تعقلون " التمام.
ثم قال (تعالى): {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} أي: لمن الذين أُرْسِلَ إلى قومه(9/6159)
بالإنذار والإعذار.
{إِلَى الفلك المشحون} (أي): هرب.
وقال المبرد: أصله تباعد.
وقيل له/: آبق لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل مستتراً من الناس إلى الفلك وهي السفينة. والمشحون: المملوء الموقر. " فَسَاهَمَ " أي: فقارع.
قال السدي: فاحتبست بهم السفينة فعلموا أنها إنما احتبست من/ حدث أحدثوه، فتساهموا فقُرع يونس فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت.
وقوله: {فَكَانَ مِنَ المدحضين} أي: من المقروعين.
قال طاوس، لما ركب السفينة ركدت فقالوا: إن فيها رجلاً مشؤماً، فقارعوا فوقعت القرعة عليه ثلاث مرات فرموا به، فالتقمه الحوت، وأصل دحضت من الزلق في الماء والطين.
يقال: أدحض الله حجته ودحضت، وحكي: دحض الله حجته، وهي(9/6160)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
قليلة وقوله: {فالتقمه الحوت} أي: ابتلعه.
{وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: وهو قد أتى ما يلام عليه (من) خروجه بغير أمر (من) الله. يقال: ألاَمَ الرجل إذَا أتى ما يلام عليه. والمَلُوم: الذي يلام باللسان (إن) استحق ذلك أو لم يستحقه.
قال مجاهد: {مُلِيمٌ}: مذنب.
قوله (تعالى ذكره): {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} إلى قوله: {أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون}.
أي: لولا أنه كان من المصلين قبل البلاء والعقوبة للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّ يُونُسَ حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُو الله وَهُوَ فِيْ بَطْنِ الحُوتِ، قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمِينَ. فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ(9/6161)
نَحْوَ العَرْشِ، فَقَالَتِ المَلاَئِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلاَجٍ غَرِيْبَةٍ، فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: يَا رَبِّ، وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِ يُونُسَ، قَالُوا: أَعَبْدُكَ يُونُسَ الذِي لِمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ! أَفَلاَ يَرْحَمُ بِمَا كَأنَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهُ مِنَ البَلاَءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الحُوتَ فََطَرَحَهُ بِالعَرَاءِ ".
قال ابن عباس وابن جبير والسدي: " من المسبحين ": من المصلين.
وكان الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروه في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبداً ذاكراً فلما أصابته الشدةة دعا الله فذكروه الله بما كان منه، ففرج عنه، وكان فرعون طاغياً باغياً فلما أدركه الغرق قال: آمنت، (الآن وكنت)،(9/6162)
من المفسدين، فلم يسمع قوله.
قال الحسن: فَوَالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت.
قال ابن جبير: لما قال في بطن الحوت: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] قذفه الحوت.
قال قتادة في قوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: أي: لصار له بطن الحوت قبر إلى يوم القيامة.
قال السدي عن أبي مالك: لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوماً.
ثم قال: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء} أي: ألقاه الحوت في المكان الخالي، هذا قول أهل اللغة.
وقال ابن عباس: " بالعراء ": بالساحل.(9/6163)
وقال قتادة: بأرض ليس فيها شيء ولا نبات.
وقال السدي: " بالعراء ": بالأرض.
وقوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ}.
قال السدي: كهيئة الصبي.
قال ابن عباس: لفظه الحوت بساحل البحر، فطرحه مثل الصبي المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء.
قال ابن عباس: كانت رسالة يونس بعد أن ألقاه الحوت.
وقال ابن مسعود: أرسل قبل وبعد إلى قومه بأعينهم الذين صرف عنهم العذاب، وهو قول مجاهد والحسن.
وروي عن ابن مسعود وغيره: أن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا فجاروا إلى الله(9/6164)
واستغفروه فكف عنهم العذاب. ولم يكف عنهم العذاب بعد معاينته، إنما رأوا مخايله وعلامات له ذكرهما لهم يونس صلى الله عليه وسلم، فآمنوا وتابوا وتضرعوا (إلى الله) قبل معاينة العذاب، ولو عاينوه لم ينفعهم الإيمان لأن من عاين العذاب نازلاً به سقط عنه حد التكليف، ولم يقبل منه الإيمان كفرعون لما آمن عند معاينة الغرق.
وكقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158].
فمن عاين العذاب لم يقبل منه توبته ولا إيمان، كذلك من عاين الموت وغرغر لم تقبل منه توبة. وإنما قبلت توبة قوم يونس، وإيمانهم قبل معاينتهم لنزول العذاب لما فقدوا يونس، وقد أوعدهم العذاب/ وعلموا صدقه ورأوا مخايل العذاب وأمارته، أيقنوا بنزول العذاب، فقبل الله توبتهم. ولو فعلوا ذلك فور معاينة العذاب لم ينفعهم ذلك كما لم ينفع ذلك فرعون/ وأشباهه لأن معاينة العذاب تسقط التكليف، وإذا سقط التكليف لم يقبل ما تكلفه العبد من العمل. فاعرف هذا الأصل.
ويروى أن قوم يونس لما عيانوا العذاب قام رجل منهم فقال: اللهم إن ذنوبنا عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، فافعل فينا ما أنت أهله [ولا تفعل فينا ما نحن أهله]. فكشف عنهم العذاب فخرج يونس ينتظر العذاب فلم يَرَ شيئاً،(9/6165)
وكان حكمهم أنه من كذب ولم تكن له بينة قتل، فخرج يونس مغاضباً على قومه، فأتى قوماً في سفينة فحملوه، فلما دخل السفينة ركدت، والسفن تسير يميناً وشمالاً، فقالوا ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري: فقال يونس صلى الله عليه وسلم: إن فيها عبداً آبقاً من ربها وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا: أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك، قال: فاقترعوا فمن قرع فليقع، فاقترعوا فقرع يونس ثلاث مرات فوقع، فوكل الله جل ذكره حوتاً فابتلعه فهو يهوي به إلى قرار الأرض فسمع يونس تسبيح الحصى، {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87]. يعني ظلمة الليل والبحر وظلمة بطن الحوت.
قال: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ}. قال كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش.
فروي أنه طرح على شاطئ البحر وهو ضعيف كالطفل المولود، فلما طعت عليه الشمس نادى من حرها، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهو القرع، وهو(9/6166)
جمع يقطينة، وقيل: هو كل شجرة لا تقوم على سائق كالقرع والبطيخ ونحوهما.
وقال المبرد: كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطينة، فإن قامت على ساق فهي شجرة.
واشتقاق يقطين: من قطن بالمكان إذا أقام به.
وعلى أنها القرع: ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جبير وابن زيد.
وقيل: هي شجرة أظلته سماها الله يقطيناً، وليست بالقرع.
وقيل: البطيخ، روي ذلك عن بن عباس أيضاً.
قال ابن جبير: أرسل الله على الشجرة دابة فقرضت عروقها فتساقطت(9/6167)
ورقها (فلحقته الشمس فشكاها، فقيل له جزعت من حر الشمس).
ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا فتاب الله عليهم.
روي أنهم لما رأوا علامات إتيان العذاب خرجوا وتابوا، وأفردوا الأطفال والبهائم، وضجوا إلى الله مستغيثين تائبين فصرف عنهم العذاب وتاب عليهم.
قال ابن مسعود في حديثه: فكان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها. فأوحى الله (إليه) أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم، قال: وخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال يا غلام: من أنت؟ فقال: من قوم يونس عليه السلام، قال: فإذا جئتهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس، فقال له الغلام: إِنْ كُنْتَ يونس فقد علمت أنه من كذب قُتِل إذا لم تكن له بينة، فمن يشهد لي؟ قال: هذه الشجرة وهذه البقعة، قال: فَمُرْهُمَا، قال لهما يونس: إذا(9/6168)
جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم، فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة، وكان له إخوة فأتى المَلِكَ فقال: إني (قد) لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام.
قال: فأمر به أن يقتل، فقالوا: إن له بينة، فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما الله أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين، يقولون: شهدت له الشجرة والأرض، فأتوا الملك فأخبروه بما/ رأوا. قال عبد الله: فتناول الملك يد الغلام وأجلسه مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبد الله: فأقام ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة.
ثم قال (تعالى): {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
قال أبو عبيدة: أو هنا بمعنى بل. ومثله عنده: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] أي:(9/6169)
بل مجنون، فليست أو للشك في هذا، إنما هي (بمعنى) بل وهو قول الفراء.
وروي عن ابن عباس ذلك.
وقال القتبي: أو بمعنى الواو.
وقال المبرد: أو على بابها. والمعنى: وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو يزيدون على ذلك.
فخوطب العباد بما يعرفون.
وقيل: أو على بابها لكنه بمنزلة قولك: جاءني زيد أو عمرو، (و) أنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب.
وقل: " أو " للإباحة.
قال ابن عباس: / كانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً.(9/6170)
وقال ابن جبير: يزيدون سبعين ألفاً.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يزيدون عشرين ألفاً} قال ابن جبير: كان العذاب قد أرسله الله إليهم، فلما فرقوا بين النساء وأولادهن والبهائم وأولادها، وعجوا إلى الله جل وعز، كشف عنهم العذاب ومطرت السماء عليهم (ماء).
وقوله: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي: أخرنا عنهم العذاب ومتعناهم بالحياة إلى بلوغ آجالهم.
ثم قال: {فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون} أي: سل يا محمد مشركي قريش مسألة تقرير وتوبيخ عن ذلك، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله.(9/6171)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
قال السدي: كانوا يعبدون الملائكة.
قوله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً} إلى قوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}.
أي: أم شهد هؤلاء القائلون: إن الملائكة بنات (الله)، خلق الله الملائكة إناثاً. هذا كله على التقرير والتوبيخ.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله} أي: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم ليقولن ولد الله، وهو جعلهم الملائكة بنات الله.
ثم قال: {أَصْطَفَى البنات على البنين} هذا أيضاً توبيخ لهم، والمعنى عند الزجاج: سلهم هل اصطفى البنات على البنين.
ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}. هذا أيضاً تقريع وتوبيخ ومعناه: بئس الحكم تحكمون أيها القوم، أن يكون لله البنات ولكم البنون، فأنتم لا ترضون البنات(9/6172)
لأنفسكم فتجعلون لله ما لا ترضون به لأنفسكم.
ثم قال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي: تتدبرون ما تقولون فتعرفون خطأه فتنتهون عنه.
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} أي: حجة ظاهرة على ما تقولون.
قال قتادة: " سلطان مبين " عُذْرٌ بَيِّنٌ.
{فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله بما قلتم من الإفك إن كنتم صادقين فيما قلتم.
ثم قال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً}.
قال ابن عباس: زعم أعداء الله أنه جل ثناؤه وإبليس أخوان.
وكذلك قال الضحاك.
وقال غيرهما: الجِنَّة هنا الملائكة، جعلهم كفار قريش بنات الله جل عن ذلك وتعالى، وهو قول مجاهد والسدي.
وروي أن أبا بكر قال لقريش: من أمهاتهن؟ فقالوا: سَرَوَاتُ الجِنِّ.(9/6173)
وقال قتادة: قالت اليهود: إن الله جل ذكره تزوج إلى الجنة فخرج بينهم الملائكة. فسميت الملائكة جِنة لأنهم لا يُرَون.
وقال السدي: سموا بذلك لأنهم على الجنان.
[ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: ولقد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا لمُشْهِدُون الحساب والنار ومعذبون].
ثم قال: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} أي: تنزيهاص له وبراءة عما يقولون ويتفرون.
ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم لرحمته، فإنهم لا يحضرون العذاب.
ثم قال (تعالى): {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} أي: فإنكم أيها المشركون وما تعبدون من الآلهة ما أنتم على ما تعبدون من ذلك بفاتنين، أي: بمضلين من أحد إلا من هو صالِ الجحيم، أي: من سبق له في علم الله أنه يضل فيدخل النار.
وقيل: " عليه " في قوله " ما أنتم عليه " بمعنى له. هذا كله معنى قول ابن عباس والحسن/ وقتادة والسدي وابن زيد.(9/6174)
والتقدير عند جميعهم: لستم تضلون أحداً إلا من سبق في علم الله أنه من أهل الشقاء وأهل النار.
وفي هذه الآية رد على القدرية لأن الضلال والهدى كل بمشيئة الله وقضائه، خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للشقاء فالشياطين لا تضل إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي.
فأما من تقدم له في علم الله الهدى فإنه تعالى يحول بينهم وبينه فلا يصلون إلى إضلاله.
قال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يُعْصَى لم يخلق إبليس وإنه لبَيِّنٌ في كتاب لله في آية علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم قرأ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم}.
وقوله: " صال الجحيم " أصله صالي بالياء، ولكن كتب على لفظ الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، فإن وقف عليه واقف، فمن القراء من يكره مخالفة الشواذ فيقف بغير ياء.(9/6175)
ومذهب سلام ويعقوب: أن يقف عليه بالياء/ على الأصل، لأن العلة التي من أجلها حذفت الياء قد زالت بالوقف.
وقرأ الحسن: " صال الجحيم ". على أن يرده على معنى " من " فيجمع بالواو والنون، وتحذف النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين في الوصل. ولا تجوز هذه القراءة على غير هذه الأشياء. ذكر بعض النحويين: أن يكون قرأه على القلب كأنه رد لام الفعل، وهي الياء في الواحد قبل اللام، فصار الإعراب (في اللام)، فضمت ثم حذفت الياء، وهذا بعيد.(9/6176)
ثم قال تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}.
التقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام، ثم حذفت من.
ولا يجوز هذا عند البصريين لأنه حذف موصول وترك صلته.
والتقدير عند البصريين: وما منا ملك إلا له مقام.
وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملائكة، أي قالوا: وما منا معشر الملائكة إلا ملك له مقام معلوم في السماء.
ثم قال تعالى حكاية عن قول الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} روت عائشة رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلاَّ عََلَيْهِ (مَلَكٌ) سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ ".
فالمعنى أنهم قالوا: وإنا لنحن الصافون لله بعبادته.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي: المصلون له.
قال عبد الله بن مسعود وابن عباس: ما من السماوات سماء إلا وما فيها موضع شبر، إلا وعليه جبهة ملك، أو قدماه، ثم قرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون}.(9/6177)
ومعنى الكلام من أوله: أن الملائكة استعظمت فعل من يعبدها وتعجبت من ذلك وتبرأت منه فقالت: " وما منا إلا له مقام معلوم {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} " فكيف يُعْبَدُ من هو على هذه الحال
ثم قال (تعالى): {وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي: قالت قريش قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لو أن عندنا ذكراً من الأولين، أي: كتاباً من السماء فيه ذكر الأمم الماضية كالتوراة والإنجيل، فلما جاءهم ذلك كفروا به.
ثم قال: {لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} (أي): الذين أخلصوا لله الطاعة. هذا على قراءة من كسر اللام.
ومن فتحها فمعناه: لكنا عباد الله الذين أخلصهم الله وأختارهم لطاعته.
قال قتادة: قالت هذه الأمة ذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم الكتاب والنبي كفروا به.(9/6178)
قال الضحاك: هذا قول مشركي أهل مكة، فلما جاءهم ذِكْرُ الأولين والآخرين كفروا به، فسوف يعلمون، (أي: يعلمون) ما لهم من العقاب على كفرهم. فالهاء في " به " تعود على القرآن وهو الذكر. وقيل: على محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال (تعالى ذكره): {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} أي: سبق القضاء في أم الكتاب ووجب القول من الله أن المرسلين هم المنصورون على من ناوأهم بالحجج والغلبة قاله قتادة والسدي.
وقال الفراء: لهم المنصورون بالشفاعة.
ثم قال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} أي: حزب الله هم الغالبون حزب الشيطان بالحجج والغلبة والظفر.(9/6179)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
ثم قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ}.
قال/ قتادة: " حتى حين ": إلى الموت.
وقال السدي " إلى يوم بدر.
ثم قال: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: انظروهم وأخرهم فسوف يرون ما يحل بهم من العقاب.
قوله (تعالى ذكره): {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إلى آخر السورة.
أي: أفبنزول عذابنا يستعجلون، وهذا قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم، متى هذا الوعد.
ثم قال: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي: نزل بهم العذاب.
والعرب تقول نزل بساحة فلان العذاب ويِعُقُوتِهِ إذا نزل به، والساحة فناء الدار.
وقوله: {فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} أي فبئس الصباح صباح القوم الذين أُنْذِرُوا بأس الله فلم يتعظوا.(9/6180)
قال السدي: " بساحتهم " بدارهم.
قال أبو إسحاق: كان عذاب هؤلاء بالقتل. يعني (يوم) بدر.
وقيل: الحين الأول: إلى حين ينصرك الله عليهم فيهلكهم بأيدي أصحابك، والحين الثاني: قيام الساعة بعذابهم في الآخرة. فهو قوله: " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين "، أي: إذا نزل العذاب بالسيف عليهم، ثم قال له بعد نزول السيف " فتول/ عنهم حتى حين " أي: إلى الوقت.
ثم قال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} أي: أعرض عنهم يا محمد حتى يأذن الله بهلاكهم يوم بدر. وقيل: بالموت. وقيل: في الآخرة.
[ثم قال: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: أنظروهم وأخرهم فسوف يرون ما يحل بهم في الآخرة].
ثم قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة} أي: تنزيهاً وبراءة لربك يا محمد من السوء، {رَبِّ العزة} أي: رب القوة والبطش، عما يصفونه من اتخاذ الأولاد وشركهم وافترائهم على ربهم.(9/6181)
وسئل محمد بن سحنون عن قوله تعالى: {رَبِّ العزة} - والعزة صفة من صفات ذات تعالى كالقدرة والعلم، ولا يقال: رب القدرة ولا رب العلم - فقال: إن العزة تكون صفة فعل وصفة ذات نحو قوله: (فلله العزة) فهذه صفة ذات، ونحو قوله: " رَبِّ الْعِزَّة " فهذه صفة فعل، أي العزة التي يتعازز بها الخلق فيما بينهم الله خلقها.
فرب العزة معناه: خالق لعزة التي يتعزز بها الناس فيما بينهم.
قال محمد بن سحنون: وجاء في التفسير أن العزة في قوله:
" رب العزة ": الملائكة، فصارت مربوبة، وكل ما كان مربوباً فهو فعل لله.
فالعزة في هذا الموضع: الملائكة كما قال أهل العلم.
قال محمد: وقال بعض علمائنا: من حلف بعزة الله، فإن أراد عزة الله التي(9/6182)
(هي) صفته ففيه الكفارة إن حنث، وإن أراد العزة التي جعلها الله بين العباد عزة فحنث فلا كفارة عليه ولا يجور رب القدرة، ولا رب العظمة لأنها صفات ذات غير مربوبة. هذا معنى قول محمد بن سحنون مشروحاً مبيناً.
قوله: {وَسَلاَمٌ على المرسلين} أي: وأمنة من الله جل ذكره للمرسلين من فزع العذاب الأكبر.
روى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ المُرْسَلِينَ ".
ثم قال: {والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي: الحمد من جميع الخلق لله خالصاً، رب الثقلين: الإنس والجن.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَنْ قَالَ: {والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}(9/6183)
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ على المرسلين} فَقَدِ اكْتَالَ بِالجَرِيبِ الأَوْفى ".
يعني من الأجر الثواب.
وروى الخدري عنه أنه كان يقولها في دبر صلاته.(9/6184)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ
المجلد العاشر
ص - الجاثية
1429 هـ - 2008 م(9/6185)
بسم الله الرحمن الرحيم(9/6190)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ص
مكية
قوله تعالى ذكره: {ص والقرآن ذِي الذكر} - إلى قوله - {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
روي أن ابن المسيب كان لا يدع كل ليلة قراءة صاد. وسئل ولده عن ذلك فقال: بلغني: أنه ما من عبد يقرأها كل ليلة إلا اهتز العرش لها.(10/6193)
وقرأ الحسن بكسر الدال لالتقاء الساكنين على نية الوصل.
وقيل: هو فعل للأمر من صادى يصادي إذا عارض، ومنه " {فَأَنتَ لَهُ تصدى} [عبس: 6] والمعنى: صاد القرآن بعملك، أي: قابله به.
وقد روي هذا التفسير عن الحسن أنه فسّر قراءته به.(10/6194)
وقرأ عيسى بن عمر بفتح الدال على معنى: اتل صاد. فنصب بالإغراء ولم ينصرف لأنه اسم للسورة. وكل مؤنث سميته بمذكر - قلّت حروفه أو كثرت - لا ينصرف.
ويجوز أن يكون فُتح لالتقاء الساكنين على نية الوصل، واختار الفتح للإتباع.
ويجوز أن يكون منصوباً على القسم، إذ قد حذف الجر، كما تقول: الله لأفعلن.
وقرأ ابن أبي إسحاق بالخفض والتنوين على إضمار حرف القسم، وإعماله(10/6195)
على مذهب سيبويه.
وقيل: إنه كسر لالتقاء الساكنين، وشبه بما لا يتمكن من الأصوات فَنَوَّنَهُ.
قال ابن عباس: صَ قسم أقسم الله جلّ ذكره به، وهو من أسماء الله عز وجل.
فعلى هذا القول يكون، والقرآن عطف على صاد، أي: اقسم بصاد، وبالقرآن.
وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن أقسم به. وقال الضحاك:(10/6196)
صاد: " صدق الله سبحانه ".
وعن ابن عباس أيضاً: صاد صدق محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ذي الذكر. فتكون صاد: جواب القسم قبله، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صدق من عنده.
وقوله: {ذِي الذكر}، " ذي الشرف " قاله ابن عباس وابن جبير والسدي(10/6197)
(وقيل معناه: ذي الذكر لكم. وهو اختيار الطبري).
وقيل معناه: ذكركم الله فيه، مثل قوله: " فيه ذكرهم ".
وقيل: ذي الذكر: فيه ذكر الأمم وغيرها.
ثم قال تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}، أي: في تكبر وامتناع عن قبول الحق، مثل / قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206].
ومعنى: " وشقاق ": ومخالفة، وكأنهم في شق والمسلمون في شق. وجواب القسم: " بل الذين كفروا "، قاله قتادة.
فعلى هذا القول يكون: والقرآن عطف على صاد، أي: اقسم بصاد وبالقرآن وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن اقسم به وقال الضحاك.(10/6198)
صاد صدق الله سبحانه.
عن ابن عباس أيضاً: صاد صدق محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ذي الذكر فتكون صاد جواب القسم قبله، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صدق من عنده.
صدق الله والقرآن، وهو قول الضحاك.
وقيل: الجواب محذوف، والتقدير: صاد والقرآن ذي الذكر، ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار، ودل عليه قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. وهذا اختيار الطبري(10/6199)
وهو مستخرج من قول قتادة.
ثم قال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ}، أي كثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا رسلهم.
{فَنَادَواْ}، أي: فضجوا إلى ربهم وَعَجُّوا واستغاثوا بالتوبة حين نزل بهم العذاب.
{وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}، أي: وليس ذلك الوقت حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة لأنه أوان لا تنفع فيه التوبة.
" ولات " حرف مشبه بليس، والاسم في الجملة مضمر. (أي: ليس) حينكم حين مناص. هذا مذهب سيبويه. والتاء دخلت لتأنيث الكلمة، وحكُي أن من العرب من يرفع بها. وهو قليل على حذف الخبر.
والوقف عليها عند سيبويه والفراء وابن كيسان وأبي إسحاق بالتاء لشبهها(10/6200)
بليس، ولأنها كذلك في المصاحف، وهو مذهب الفراء.
والوقف عليها عند الكسائي والمبرد بالهاء كرُبَّه وثَمه.
ومناص: مَفْعَلٌ من ناص ينوص إذا تأخر. فالنوص التأخر، والبوص التقدم.
ثم قال تعالى ذكره: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ}، أي: عجب مشركو قريش أن جاءهم منذر منهم ينذرهم بأس الله على كفرهم ولم يأتهم ملكه.
ثم قال: {وَقَالَ الكافرون}، أي: المنكرون وتوحيد الله عز وجل { هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. " هذا " إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} أي: أجعل محمد المعبود معبوداً واحداً؟!
{إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، أي: عجيب(10/6201)
قال قتادة: عجب المشركون أن دُعُوا إلى الله وحده وقالوا: يسمع لحاجتنا جميعاً إله واحد، ما سمعنا بهذا (في الملة الآخرة).
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمشركين: " أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين بها لكم العرب، وتعطيكم بها الخرج العجم. فقالو: ما هي؟! قال: تقولون لاَ إله إلا الله. فعند ذلك قالو: أجعل الآلهة إلها واحداً، تعجباً من ذلك ".
وذكر ابن عباس أنه " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا إنّ ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعث إليه فنهيته. فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس إلى جنب أبي طالب. فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمّه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب. أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال: فأكثروا عليه القول. وتكلم الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمّي إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. وقال القوم كلمة واحدة: نعم، وأبيك عشراً، قالوا: فما هي؟! قال أبو طالب: أيُّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: لا إله إلا الله "
قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً.(10/6202)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. فنزلت هذه الآية إلى قوله: {لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} [ص: 8].
وفرّق الخليل بين العَجيب والعُجاب، فالعجيب، العَجَب، والعُجاب: الذي قد تجاوز حد العَجضب، وكذلك عنده الطَّويل الذي فيه طول، والطُّوال الذي قد تجاوز حد الطول.
وقيل: هما بمعنى، يقول: طَويل وطُوال، وجَسيم وجُسام، وخَفيف وخُفاف، وسَريع وسُراع، ورَقيق ورُقاق، بمعنى.
قوله تعالى ذكره: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} - إلى قوله - {قَبْلَ يَوْمِ الحساب}.
أي: وانطلق الأشراف من مشركي قريش القائلين: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} [ص: 5](10/6203)
يقولون للعوام: أمشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، أي: اصبروا على دين آبائكم.
وكان لهم يومئذ ثلاث مائة صنم وستون صنماً / يعبدونها من دون الله سبحانه وروي أن قائل ذلك كان عقبة بن أبي معيط.
وقوله: {أَنِ امشوا}، معناه: تناسلوا، كأنه دعا لهم بالنمار وهو من قول العرب: مَشَى الرجل وأُمْشَى إذا كثرت ماشيته، وأمشت المرأة: كَثُرَ وَلَدُها.
قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... * والشَّاةُ لا تُمْشَى على الهمَلَّعِ
أي: لا تُنْهى عن الذنب. (والهملع: الذئب).
ثم قال عنهم إنهم قالو: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ}، أي: لشيء يريد بنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يطلب علينا الاستعلاء به، وأن يكون له فينا اتباع.
ثم قالو: {مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة}.
قال ابن عباس: يعنون النصرانية دين عيسى. أي: لم نسمع في دين عيسى صلى الله عليه وسلم(10/6204)
أن محمداً يبعث رسولاً إلينا ولا يأتينا بكتاب.
{إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق}، أي: ما هذا إلا كذب.
وعن ابن عباس أن المعنى: لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرنا به النصارى.
وقال مجاهد: معناه ملة قريش.
وقال قتادة: معناه في زماننا وديننا.
قال أبو إسحاق: {فِى الملة الآخرة}: في النصرانية ولا في اليهودية ولا فيما أدركنا عليه لآباءنا.
ثم قال: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق}، أي: ما هذا الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ كذب اختلقه وتخرصه وابتدعه حسداً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم. ودل على أنه حسد منهم قوله عنهم:
{عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا}، أي: كيف خُصَّ محمد بنزول القرآن عليه من بيننا.(10/6205)
وهذا كقولهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي: من إحدى القريتين، مكة والطائف، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف.
والمعنى: على أحد رجلين من إحدى القريتين.
ثم قال تعالى: {بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي}، أي: في شك من القرآن.
{بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ}، أي: لم يذوقوا العذاب، ولو ذاقوه لأيقنوا حقيقة ما هم فيه وعملوا أن الذين كذَّبوا به حق.
ثم قال: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب}، أي: أم عند هؤلاء المكذبين مفاتيح ربك وعطاياه، فَيَخُصُّوا من شاءوا بالرسالة. العزيز في سلطانه، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من رسالته وكرامته.
ثم قال جل ذكره: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب}، أي: إن كان لهم مُلْكُ ذلك فليصعدوا في أبواب السماء أو طرفيها، لأن من كان له ملك ذلك لم يتعذر عليه الصعود فيه، هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن زيد(10/6206)
وقال الضحاك: فليرتقوا إلى السماء السابعة.
وقال الربيع بن أنس: الأسباب أَرَقُّ من الشعر وأشَدُّ من الحديد، وهو مكان ولكن لا يُرى.
والسبب هو: كل شيء يوصل به إلى المطلوب من حبل أو جبل أو ستر أو رحم أو قرابة أو طريق أو باب. يقال: رَقِيَ يَرْقَى رَقْياً إذا صعد، كرَضِيَ يرضى. ومثله: ارتقى يرتقي إذا صعد ويقال: رقي يرقِي رقياً من الرقية مثل: رمى يرمي رمياً.
ثم قال: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب}.
يعني بقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ}: الذين قال فيهم: {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} وهم أشراف قريش الذين هُزِموا وقُتلوا يوم بدر.
والتقدير: هم جند مهزوم هنالك.
ومعنى {مِّن الأحزاب}: من القرون الماضية.(10/6207)
قال قتادة: وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جنداً من المشركين، فجاء يوم بدر تأويلها.
وقال الفراء: معناه: هم جنود مغلوب أن يصعد السماء.
وقيل: هم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى المدينة فهزمهم الله عز وجل بالريح والخوف. فأعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أنه سيتحزب عليهم المشركون، وأنهم سيهزمون. فكان في ذلك أبين دلالة لهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصِدْقِه في جميع ما يَعِدُهُم به، ولذلك قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] الآية لأنه أخبرهم بذلك وهم في مكة ثم جاءهم ما أخبرهم به وهم في المدينة.
ثم قال تعالى ذكره: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}، أي: قبل قريش، وكذلك عاد {وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد}.
فرعون هو: الوليد بن مصعب.(10/6208)
وقيل هو: مصعب بن الديان.
وقيل: كان يسمى كل من مَلَكَ مصر فرعون، كما يسمى كلُّ من ملك اليمين تبّعاً، ومن مَلَكَ فارس كسرى، ومن مَلَكَ الروم قيصر وهرقل.
قال المبرد: كَسرى بالفتح. وقال غيره: بالكسر.
وإنما نُعِتَ فرعون بالأوتاد لأنه كانت له أوتاد يلعب له عليها؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن جبير.
وقال السدي: كان يُعِّبُ الناس بالأوتاد؛ يعذبهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع (الصخرة تمد بالحبال) ثم تُلقى عليه فتشدخه.
وقال الضحاك: {ذُو الأوتاد}: ذو البُنيان.
وقد تقدم ذكر الأيكة في الشعراء.(10/6209)
وقوله: {أولئك الأحزاب}، أي: الجماعة المتحزبة على معاصي الله تعالى والكفر به سبحانه وتعالى.
ثم قال: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل}، أي: ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب الرسل فيما جاؤهم به.
{فَحَقَّ عِقَابِ}، أي: وجب عليهم عقاب الله تعالى ثم قال تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}، أي: وما ينتظر هؤلاء المشركون بالله سبحانه إلا صيحة واحدة - وهي النفخة الأولى في الصور - ما لها من فتور ولا انقطاع.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَمَّا فَرَغَ الله مِنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ وأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ. فَهْوَ واضِعُهُ عَلَى فيهِ، شَاخِصٌ إلى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ. قال: وكيف هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيه ثَلاَثَ نَفَخَاتٍ: نَفْخَة الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّماواتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهَ. وَيَأْمُرهُ الله فَيُدِيُمَها وَيُطَوِّلُهَا فَلاَ تَفْتُرُ. وَهِيَ الَّتي يَقُولُ اللهُ جَلّ وعزّ: {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ".(10/6210)
وقال ابن عباس: {فَوَاقٍ}: ترداد. وعنه: من رجعة وقال مجاهد: " من رجوع ".
وقال قتادة: من مثنوية ولا رجوع (ولا ارتداد).
وقال السدى: معناه: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك من إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.
وقال ابن زيد معناه: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذاباً يهلكهم.
فالصيحة عنده: العذاب.
{مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}، أي لا يفيقون منها كما يفيق الذي يُغشى عليه.
وأصل هذا من فواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين من الراحة. فالمعنى: ما لها من راحة، أي: لا يروحون حتى يتوبوا ويرجعوا عن كفرهم.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب}، أي: وقال هؤلاء المشركون من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة.
والقط من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة.
والقط في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة.(10/6211)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
فإنما سألوا تعجيل حظهم من العذاب، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. فهو مثل قولهم: " {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] " الآية.
وقال السدي: إنما سألوا تعجيل رؤية حظهم من الجنة ورؤية منازلهم ليعلموا حقيقة ما يعدهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جبير: سألو تعجيل حظهم من الجنة يتنعمون به في الدنيا.
وقيل: إنما سألو تعجيل رزقهم قبل وقته.
وقيل: إنما سألو تعجيل كتبهم التي تؤخذ بالإيمان والشمائل، لينظروا أبأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم، فيعلمون أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار، استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله جل ذكره.
هذا قوله تعالى ذكره: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} - إلى قوله - {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} منسوخ بالأمر بالقتال، أمر الله جل ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على قول المشركين والاحتمال منهم، وقد علم تعالى أنه سيأمرهم بقتالهم في وقت آخر، فينسخ الآخر الأول.(10/6212)
ثم قال: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد}، أي: ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله عز وجل والصبر على طاعته.
يقال: أيد وآد للقوة كما يقال: العيب والعاب
قال قتادة: " أُعْطِيَ داود قوة في العباد وفقهاً في الإسلام، وذُكِرَ أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رَجَّاع عما يكره الله عز وجل إلى ما يرضاه أواب وهو فعَّال للتكثير من آب يئوب إذا رجع.
قال مجاهد: أواب: رجاع عن الذنوب.
قال قتاجة: كان مطيعاً لله عز وجل كثير الصلاة.
وقال السدى: الأوَّاب: المسبح.(10/6213)
ويروى أنه قام ليلة إلى الصباح فكأنه أُعْجِبَ بذلك فقيل لضفدع كلميه في أصل مِحْرَابِه، فقالت له: يا داود، تَعْجَبُ لقيام ليلة! هذا مقامي منذ عشرين سنة شكراً لله عز وجل حين سلَّم / بيضي.
قال وهب: كان داود قد قسم الدهر أثلاثا، فيصير: يوم للعبادة، ويوماً للقضاء بين الناس، ويوما لقشاء حوائج أهله.
ثم قال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق}، أي: يسجن مع داود من وقت العصر إلى الليل، ومن صلاة الصبح إلى وقت صلاة الضحى.
يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت وصفت، وشرقت إذا طلعت.
قال قتادة: كان داود إذا سبح سبحت الجبال معه.
واستدل ابن عباس على نص صلاة الضحى في القرآن بهذه الآية {بالعشي والإشراق}، لأنه من أشرقت الشمس إذا وصفت وأضاءت. فإذا صلى داود(10/6214)
العصر وسبَّحَ سبحت الجبال معه، وإذا صلى الضحى (سبح وسبحت) الجبال معه.
{والطير مَحْشُورَةً}، أي: وسخرنا الطير مجموعة تسبح معه.
{كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رجاع لأمره ومطيع له. فالهاء لداود وقيل: إلهاء لله عز وجل. والمعنى كل لله مطيع، مسبح له. فكل " في القول الأولى للطير، وفي هذا الثاني: يجوز أن يكون للطير، ويجوز أن يكون لداود والجبال والطير.
ورُوي أنه كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه.
وقال قتادة: محشورة: مسخرة.
ثم قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}.(10/6215)
قال السدي: كان حرسه في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذكر ابن عباس أن الله جل ذكره شدد ملكه هيبة لقضية قضاها في بنى إسرائيل وذلك أن رجلاً استعدى على رجل من عظمائهم فاجتمعا عند داود، فقال المُسْتَعْدَى: إن هذا غصبني بقراً لي. فسأل الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البيِّنة فلم تكن له بينة، فقال لهما: قُوَما حتى أنظر في أمركما فقاما.
فأوحى الله عز وجل إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي ستُعدي عليه. فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأَوْحَى إليه مرة أخرى أن يقتُلَه، وأوحى إليه ثالثة (أن يقتله) أو تأتيه العقوبة من الله عز وجل، فأرسل داود إلى الرجل أن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفِّذْنَ أمرالله عز جل فيك. فلما عرف الرجل أنه قاتله قاله له: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أُخِذْتُ بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت وَلَدَ هذا فقتلته فبذلك قُتِلْتُ. فأمر به داود، فَقُتِلَ. فاشتدت هيبته في بني إسرائيل لذلك وشد الله به ملكه.(10/6216)
ثم قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكمة}.
قال السدى: هي النبوة.
وقال قتادة: الحكمة: السُّنَّة.
وقوله: {وَفَصْلَ الخطاب}.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل الخطاب: الفهم في علم القضاء.
وقال ابن زيد: أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات.
وقال شريح فصل الخطاب: الشاهدان على المدعي، واليمين على المنكر، وهو قول قتادة.(10/6217)
وقال الشعبي: يمين وشاهد، وعن الشعبي: هو: أما بعد.
ثم قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب}، أي: وهل أتاك يا محمد خبر الخصم.
والخصم هنا يراد به الملكان، لكن لا تظهر فيه تثنية ولا جمع لأنه مصدر من خصمته خصماً. والأصل فيه: وهل أتاك نبأ ذوي الخصم ويجوز أن يثنى ويجمع، ودل على ذلك قوله: خصمان.
وقوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب}، أي إذ دخلوا عليه من غير بابه. والمحراب: مقدم كل شيء ومجلسه وأشرفه.
ثم قال تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ}، أي: لما دخلوا على داود المحراب.
{فَفَزِعَ مِنْهُمْ}، أي: فراعه دخولهما من غير مدخل الناس عليه. وقيل: إنما فزع(10/6218)
لأنهما دخلا عليه ليلاً من غير وقت نظره بين الناس. {قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى}، أي: قال الملكان: لا تخف منا نحن خصمان.
{بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ}، أي: تعدَّى أحدنا على صاحبه.
{فاحكم بَيْنَنَا بالحق}، أي: فاقض بيننا بالعدل.
{وَلاَ تُشْطِطْ}، أي: لا تجر، وقال قتادة ولا تمل، وقال السدى: لا تخف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء: " ولا تَشْطُطْ " بفتح التاء وضم الطاء الأولى. بمعنى: ولا تبعد عن الحق. يقال: أَشَطَّ يُشِطُّ إذا جار في القول والحكم، وشَطّ يَشُطُّ إذا بَعُد.
ثم قال تعالى: {واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} /، أي: وارشدنا إلى قصد الطريق المستقيم في الحق.
ثم قال تعالى: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، الآية.(10/6219)
هذا مثل ضربه الملكان لداود، وذلك أن داود كان له تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أعزاه داود حتى قُتل، امرأة واحدة، فلما قتل تزوجها فيما ذكر.
قال وهب بن منبه: إن هذا أخي، أي على ديني.
والعرب تُكَنِّي عن المرأة بالنعجة والشاة.
وقرأ الحسن بفتح التاء من " تَسع وتَسعين " وهي لغة قليلة.
وقرأ ابن مسعود: " تِسْعٌ وتَسِعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " على التأكيد، كقولهم: رجل ذَكَر؟.
ولا يؤنث بهذا التأنيث إلا ما تأنيثه وتذكيره في نفسه كالرجل والمرأة، فإن كان تأنيثه وتذكيره في اسمه (لم يُقَلْ) فيه أنثى ولا ذكر، نحو: دار، وملحفة، وشبه ذلك.(10/6220)
وقيل: عنى بذلك أنها حسنة. فأنثى تدل على أنها حسنة.
ثم قال تعالى ذكره: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}، أي: أنزل عنها وضُمَّها إليَّ.
قال ابن زيد: أكفلنيها: أعطنيها، أي: طلقها لي أنكحها.
{وَعَزَّنِي فِي الخطاب}، أي: صار أعزَّ مني في مخاطبته إياي لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشد مني فقهرني وغلبني.
قال قتادة: وعزني في الخطاب: ظلمني وقهرني.
وقرأ ابن مسعود: " وَعَازَّنِي ".
يقال: عَازَّه (إذا غالبه، وَعَزَّهُ): إذت غلبه، ومنه قولهم: " مَنْ (عَزَّ بَزَّ).
ثم قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ}، أي:
قال داود للمتكلم منهما: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله إيله أن يضم نعجتك إلى نعاجه.
{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}، أي: وإن كثيراً من الشركاء(10/6221)
ليَتَعَدَّى بعضهم على بعض {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}.
قوله تعالى ذكره: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} - إلى قوله - {الصافنات الجياد}
أي: وأيقن داود أنما اختبرناه.
{فاستغفر رَبَّهُ}، أي: سائل ربه المغفرة.
{وَخَرَّ رَاكِعاً}، أي: ساجداً لله.
{وَأَنَابَ}، أي: رجع عن خيئته وتاب منها.
وكان سبب اختيار الله عز وجل له - فيما ذكر ابن عباس - أن داود قال: يا رب، قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لَوَدِدْتُ أنك أعطيتني مثله. فقال الله جل ذكره له: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، فأقام ما شاء الله أن يُقيم وطال ذلك حتى كاد أن ينساه. فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة كانت في المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت. فاطَّلع من الكوة فرأى امرأة تغتسل. فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم من المحراب وأرسل إليها، فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّةِ أن يُؤَمِّرَهُ على السرايا لِيَهْلَكَ زوجها، ففعل. فكان يصاب أصحابه وينجو وربما نصروا. وإن الله لما رأى الذي وقع فيه داود أراد أن يستنفذه، فبينما داود ذات يوم في محرابه إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه.
فلما رأهما وهو يقرأ فَزِعَ وسكت، وقال: لقد استُضعفت في مُلكي حتى إن الناس يتسورون علي في محرابي، قالا له: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فلم(10/6222)
يكن لنا بد من أن نأتيكما فاسمع منا. قال أحدهما. {إِنَّ هَذَآ أَخِي} - إلى {وَعَزَّنِي فِي الخطاب}.
قال له داود: أنت كنت أحوجَ إلى نعجتك منه، لقد ظلمك بسؤاله إياك نعجتك ونسي نفسه صلى الله عليه وسلم. فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخرة فرآه داود أنه فتن، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من عينينه ثم شدد الله له ملكه.
روى ابن أبي الدنيا أن وهب بن منبه قال: لم يرفع داود عليه السلام رأسه من السجود حتى قال له الملكان: أول أمرك ذنب وآخره معصية، ارفع رأسك، فرفع رأسه.
وعن وهب أنه قال: لما رفع داود رأسه من (السجدة رفع رأسه) وقد زَمِنَ ورعش. قال: فاعتزل نساءه ثم بكى حتى خددت الدموع وجهه.
وقال عطاء الخراساني: " إن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها، فكان(10/6223)
إذا رآها اضطربت يداه.
وقال وهب بن منبه: كتب داود في كفه: داود الخطاء.
وقال يحيى بن أبي كثير لما أصاب داود الخطيئة نفرت / الوحوش من حوله، فنادى: إلهي، رُدَّ عليَّ الوحش كي آنس بها فرد الله تبارك وتعالى عليه الوحش فَأَحَطْنَ به وأصغين بأسماعهن نحوه. قال: روفع صوته يقرأ الزبور ويبكي على نفسه فنادته هيهات هيهات يا داود، ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَثَلُ عَيْنَيْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَثَلُ الْقِرْبَتَيْنِ تَنْظِفَانِ بِالمَاءِ. لَقَدْ خَدَّدَتِ الدُّمُوعُ وَجْهَ دَاودَ خَديدَ المَاءِ في الأرْضِ ".(10/6224)
وروى أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: قالو: لو جُمِعت دموع أهل الأرض إلى دموع آدم صلى الله عليه وسلم لكانت دمخوع آدم أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم إلى دموع ابن آدم الذي قتل أخاه لكانت دموع ابن آدم أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض، ودموع آدم، ودموع ابن آدم إلى دموع يعقوب لكانت دموع يعقوب أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم ودموع ابن آدم ودموع يعقوب إلى دموع داود لكانت دموع داود أكثر.
قال سعيد: " كان داود يجلس على ستة أفرشة فيبكي فيبل الأول فيُرْفع حتى يبللها كلها، كلما كلما بَلَّ واحداً رُفِع؛ وإن كان ليؤتى بالإناء ليشرب فما يفرغ منه حتى يتدفق من دموعه وروى إسماعيل بن عبيد الله: إن داود النبي صلى الله عليه وسلم كان يعاتب في(10/6225)
كثرة البكاء، فيقول: ذروني أبكي قبل يوم البكاء، قبل تحريق العظام واشتعال اللحى، وقبل وقبل أن يؤمر بي
{عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
قال محمد بن المنكدر مكث آدم صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعين سنة ما يبدي عن واضحة ولا ترقئ له جمعة. فقالت له حواء: إنَّا قد استوحشنا إلى أصوات الملائكة فادع ربك فيسمعنا أصواتهم. فقال لها: ما زلت مستحياً من ربي عز وجل أن أرفع طرفي إلى أديم السماء مما صنعت.
وقال محمد بن خوات: إن داود النبي صلى الله عليه وسلم لما أطال البكاء على نفسه، قيل له: اذهب إلى قبر زوج المرأة فاستوهبه ما صنعت، فأتى القبر، وأَذِنَ الله لصاحب القبر أن يتكلم، فناداه: أنا داود ولك عندي مظلمة، قال: قد غفر تهالك، قال: فنصرف داود وقد طابت نفسه، فأوحى الله عز وجل إليه أن ارجع فبين له الذي صنعت فرجع، فأخبره، فناداه صاحب القبر يا داود، هكذا يفعل الأنبياء!
قال بكر بن عبيد الله المزُني: مكث داود النبي عليه السلام ساجداً أربعين يوماً يبكي على خطيئته حتى نبت البقل من دموعه، ثم زفر زفرة فهاج العودة فاحترق،(10/6226)
فنودي أظمآن أنت فَتُسقَى؟ أجائع فتطعم؟ أعادي فتُكسى؟ قال: لا، ولكن خطيئتي أثقلت ظهري، فلم يُرْجَعُ إليه بشيء، فازداد بكاء حتى انقطع صوته، فكان لا يُسمع له إلاّ كهيئة الأنين، فعند ذلك غُفِرَ له.
وقال الحسن: بكاء داود عليه السلام بعد ما غُفرت له الخطيئة أكثر من بكائه قبل المغفرة، فقيلك له: قد غُفر لك يا نبي الله؟! قال: فكيف بالحياء من الله عز وجل.
قال كعب: كان داود عليه السلام يختار مجالسة المساكين، ويُكثر البكاء ويقول: رب اغفر للمساكين والخطائين حتى تغفر لي معهم، وكان قبل ذلك يدعو على الخطائين.
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات.
ورُوي أنه كان إذا ذكر عقاب الله عز وجل تلعت أوصاله، فإذا ذكر(10/6227)
رحمة الله تراجعت.
وروى أشهب عن مالك أنه قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريباً من داود وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها، فكانت قرب يده، ثم طارت فَاَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغسل ولها شعر طويل.
فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموع عينيه.
ويراد بالركوع في هذا الموضع: السجود.
قال السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل، ويوماً يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب: فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب، إن الخير قد ذهب / به آبائي، فأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلاء لم تبتل به، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه فصبر، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، وإنك لم تبتل(10/6228)
أنت من ذلك الشيء. فقال: ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
قال: فأوحى الله عز وجل إليه أنك مبتلى فاحترس، قال: فمكث ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي قال: فمد يده ليأخذه فتنحى، فتبعه قتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة فنظر أين (يقع فيبعث) في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل في سطح لها، فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقاً، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به. قال: فزاده ذلك فيها رغبة. قال: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجاً وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا). قال: فبعثه ففتح له قال: فكتب إليه بذلك. قال فكتب إليه ثالثة فبعثه فقتل. قال: وتزوج امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فتسوروا عليه المحراب. قال: فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين قال: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} فقالا: {لاَ تَخَفْ} لا تخف، إنما نحن {خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} - إلى قوله -(10/6229)
{سَوَآءِ الصراط}، قال: قصّا قصتكما قال: فقال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، وهو يريد أخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة!
فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي (تسعاً وتسعين) نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة. قال: فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة؟! قال: (وهو كاره). قال: إذا (لا ندعك) وذلك. قال: ما أنت على ذلك بقادر. قال: فإن ذهبت تروم ذلك (أو لم ترد ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يريد طرف الأنف، وأصل الأنف، والجبهة قال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منه هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امراة ولم يكن لاوريا إلا امرأة واحدة، (فلم تزل) تعرضه للقتل حتى قُتل، وتزوجت امراته. قال: فنظر داود الرجلين فلم ير شيئاً فعرف ما قد وقع فيه فخر ساجداً. - وهو موضع السجود عند مالك.(10/6230)
وروي أن رجلاً من الأنصار - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل مستتراً بشجرة وهو يقرأ " ص "، فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً، وارزقني بها شكراً، وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته.
فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله: نحن أحق أن يقول ذلك. فكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد يقول ذلك.
قال عقبة بن عامر الجهني: من قرأ (ص) ولم يسجد فيها فلا عليه ألا يقرأ بها.(10/6231)
قال: فبكى أربعين يوماص لا يرفع رأسه إلا لحاجة، ثم يقع ساجداً يبكي حتى نبت العشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله عز وجل إليه بعد أربعين يوماً: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك. قال: يا رب، كيسف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذ رأسك بيمينه، أو بشماله، تشخب أوداجه دماً، يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟
قال: فأوحى الله عز وجل إليه: إذا كان ذلك (دعوت أوريا).
فاستوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب، الآن علمت أنك قد غفرت لي. قال: فلما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض صلى الله عليه وسلم.
وقيل: اسم الرحل أوريا بن حيان.
وقال الحسن: جزأ داود الدهر أربعة أجزاء: يوماص لنسائه، ويوماً لعبادة ربه، ويوماً لقضاء بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل، قال: ذَكَرُوا فقالو: هل أتى على الإنسان يوم / لا يصيب فيه ذنباً؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك.
فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة.(10/6232)
فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون (حَسَنْ، قد وقعت بين يديه، فأهوى إلها ليأخذها، قال: فطارت فوقعت غير بعيدة من غير أن تؤيسه من نفسها. قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها. قال: فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك إعجاباً بها. وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسر إلى مكان كذا وكذا - مكانٌ إذا صار إليه لم يرجع - قال: ففعل، فأصيب، فخطبها، فتزوجها.
قال قتادة: بلغنا أنها أم سليمان.
قال الحسن: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه - وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب - ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فقالا: لا تخف، خصمان يغى بعضنا على بعض. وذكر نحو الحديثين المتقدمين.
وقيل: إن خطيئته هي قوله: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه من غير ثبت بينة ولا إقر ار من الخصم ولا سؤال لخصمه: هل كان هذا هكذا أو لم يكن. وهو قول شاذ.(10/6233)
وقال ابن الأعرابي: قال كعب: سجد داود نبي الله صلى الله عليه وسلم أربعين ليلة لم يرفع رأسه حتى رقأ دمعه ويبس رأسه.
فكان من آخر دعائه وهو ساجد أنه قال: يا رب رزقتني العافية، فسألتك البلاء، فلما ابتليتني لم أصبر فلم تعذبني فأنا أهل ذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل ذلك - يقولها في نفسه - فعلم الله عز وجل ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله عز وجل ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله قد غفر لك فارفع رأسك فلم يتلفت إليه، وناجى ربه وهو ساجد فقال: يا رب، وكيف تغفر لي وأنت الحكم العدل، وقد فعلت بالرجل ما فعلت؟ قال: فنزل الوحي عليه: صدقت يا داود أنا الحكم العدل، ولكن إذا كان يوم القيامة دفعتك إلى أوريا سلماً، ثم استوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه الجنة. قال داود: الآن أعلم أنك قد غفرت لي. قال: فذهب داود يرفع رأسه فاذا هو يابس لا يستطيع. قال: فمسحه جبريل عليه السلام بريشة فانبسط. قال: فأوحى الله عز وجل إليه بعد ذلك: يا داود: قد أحللت لك امرأة أوريا فتزوجها، فتزوجها داود صلى الله عليه وسلم، فولدت له سليمان عليه السلام، لم تلد قبله شيئاً ولا بعده.
قال كعب: فوالله لقد كان داود بعد ذلك ليظل صائماً في اليوم الحار فيقرب إليه الشراب فإذا قربه إلى فيه ذكر خطيئته فيبكي في الشراب حتى يفيض ثم يرده ولا يشربه.(10/6234)
وروى الأوزاعي عن بعض أهل المدينة أنه قال: مثل عيني كمثل القربتين تنظفان الماء، لقد خدد الدمع في وجهه كخديد الماء في الأرض.
ويروى أن داود بات لربه عز وجل مصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله، لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد إياه من أهل الأرض.
فكَلَّمَه ضفدع من الماء فقالت: جلا يا أبا سليمان، فوالله إن لي لثلاثاً من الدهر ما جمعت بين فقمي تسبيحاً لله.
وروي عن ابن مسعود وابن عباس أن داود عليه السلام ما زاد على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه.
ثم قال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}، أي ذلك الذنب.(10/6235)
{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى}، أي: لقربة يوم القيامة. قال الضحاك: لمنزلة رفيعة.
ثم قال: {وَحُسْنَ مَآبٍ}، أي: حسن مصير.
قال السدي: حسن منقلب.
وقال الضحاك: يبعث داود النبي عليه السلام وذكر خطيئته، ووجلُه منها في قلبه، منقوشةٌ في كفه. فإذا رأى أهاويل الموقف لم يجد منها متعوذاً وامحرزاً إلا برحمة الله تبارك وتعالى قربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال وقربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال له: هاهنا عن يمين العرش.
وذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
وقال مالك بن دينار: يقال داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، ثم يقول: يا داود، مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به / في الدنيا.(10/6236)
فيقول يا رب، كيف وقد سلبتنيه؟! فيقول: إني سأرده عليك.
قال: فيدفع داود بصوت يستفرغ به نعيم أهل الجنان.
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}: تمام حسن.
ثم قال تعالى: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض}، فغفرنا له ذلك الذنب، وقلنا له: يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، أي استخافناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكماً بين أهل الأرض.
{فاحكم بَيْنَ الناس بالحق}، أي: بالعدل والإنصاف.
{وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى}، أي: لا توثر هواك في قضائك على العدل فتجور في الحكم فيضلك هواك عن سبيل الله.
{إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، أي: يميلون عن الحق الذي أمر الله به.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ}، أي: يوم القيامة.
{بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب}، أي: بتركهم العمل ليوم القيامة.(10/6237)
قال عكرمة: هذا من التقديم والتأخير.
والتقدير عنده: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا أي: بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل.
فالعامل في " يوم " في القول الأول: " نسوا " هو مفعول به والعامل فيه في القول الثاني " لهم " وهو ظرف.
وكان ابن عباس يسجد عند قوله: " وأناب "، ويقول: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90].
ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً}، أي: عبثاً ولعباً بل خُلِقَا ليُعمل فيهما بالطاعة.
ثم قال تعالى ذكره: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ}، أي: خلق السماء والأرض وما بينهما لغير حساب ولا بعث ولا عمل، هو ظن الذين كفروا فويل لهم من النار.
ثم قال: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض}. هذا رد لقول الكفار، لأنهم كانوا يقولون: ليست ثمَّ عقوبة ولا نار، فالكافر والعاصي يَسْعَدَان باللذات، والمطيع يشقى، ومصيرهما إلى شيء واحد فرد الله عليه بأنه لم يجعل المتقين كالفجار في الآخرة، ولا الصالح كالمفسد.
ثم قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}، (أي: هذا القرآن كتاب أنزله الله إليك يا(10/6238)
محمد مبارك) على من آمن به، أنزله: {ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} ليعتبروا آياته وليتذكر به أولوا العقول.
ثم قال: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}، أي: وُلِدَ إليه.
{نِعْمَ العبد}، أي: ممدوح في طاعة ربه.
{إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رجاع إلى طاعة الله عز وجل تواب إليه سبحانه، وقيل: الأواب: الكثير الذكر.
وقال ابن عباس: الأواب: المسبح.
وقال قتادة: مطيعاً كثير الصلاة.
وقال ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
وقيل: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء، ثم يتوب منه ويستغفر.
ثم قال تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد}، أي: هو تواب في هذا الوقت.
والصافنات: جمع صافن من الخيل، والأنثى: صافنة.
والصافن: الذي يجمع بين يديه، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه.
وقيل: هو الذي يجمع بين يديه.(10/6239)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
وزعم الفراء أن الصافن هو القائم.
وقال مجاهد: صفون الفرس: " رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر ".
وقال قتادة: صفونها: قيامها وبسطها قوائمها.
وقال ابن زيد: الصافنات: الخيل، أخرجها الشيطان لسليمان من مرج من مروج البحر.
والصفن أن تقوم على ثلاث وترفع رجلاً واحدة تكون على طرف الحافر على الأرض. قال ابن زيد: وكانت لها أجنحة.
(والجياد: السريعة. روي أنها كانت عشرين فرساً ذات أجنحة).
قوله تعالى ذكره: {فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} - إلى قوله - {لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
قال ابن عباس: كان مما ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس لا يعلم في(10/6240)
الأرض مثلها. وكان أحب إليه من كل ما ورث، وكان معجباً بها، فجلس مجلسه وقال: اعرضوا علي خيلي، فعرضت عليه بعد الظهر إلى غيبوبة الشمس وأغفل صلاة العصر: فقال: ما صليت العصر! ردوها علي فطفق يعرقبها ويضرب رقابها وكان الذي عرض عليه تسع مائة، وبقيت مائة لم تعرض عليه. فقال: هذه المائة التي لم تلهني عن صلاتي أحب إلي من التسع مائة.
في الآية حذف دل عليه الكلام، والتقدير: إنه أواب إذ عُرض / عليه بالعشي الصافنات الجياد، فلهى عن الصلاة حتى فاتته فغابت الشمس ولم يصل، وهو قوله {حتى تَوَارَتْ بالحجاب}.
{فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير}، أي: الخيل. والعرب سمي الخيل: الخير، والمال أيضاً يسمونه الخير.
وفي الحديث: " الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَواصِيَها الخَيْرُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ولما ورد زيد(10/6241)
الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أنت زيد الخير. وهو زيد بن مهلهل الشاعر.
وقيل: المعنى، إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربي، وذلك أنه كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غُنمت، فأشار بيده أنه يصلي.
{حتى تَوَارَتْ بالحجاب}، أي: توارت الخيل، فسترها جدر الإصطبلات، فلما فرغ من صلاته قال:
{رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق}، أي: يمسحها مسحاً. فالضمير في " توارت " على هذا القول للخيل.
وأكثر الناس على أنه للشمس وإن (لم يجر) لها ذكر، ولكن لما قال بالعشي دل على أن بعده غياب الشمس.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ التي فاتته في صلاة العصر وهو قول قتادة(10/6242)
والسدي.
وقيل: المعنى: إني آثرت حب الخير عن ذكر ربي، أي: على ذكر ربي، ومنه قوله: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17]، أي: آثروا الضبه على الهدى.
وقيل: معنى أحببت: قعدت وتأخرت.
يقال أحب الجمل وأحببت الناقة، إذا بركت وتأخرت.
فالمعنى: إني قعدت عن ذكر ربي لحب الخير {حتى تَوَارَتْ بالحجاب}.
إنى قعدت عن صلاة العصر حتى غابت الشمس.
فيكون حب الخير مفعولاً به على قول من جعل أحببت بمعنى آثرت. ويكون مفعولاً من أجله على قول من جعل أحببت بمعنى تأخرت وقعدت. ولا يحسن أن ينصب على المصدر لأن المعنى على غير ذلك.
ثم قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ}، أي: ردوا الخيل عليَّ التي شغلتني على الصلاة.
{فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق}، أي: طفق يضرب أعناقها وسوقها.
قال الحسن: قال سليمان: لا، والله لا تشغلني عن عبادة ربي فكشف عراقيبها وضرب أعناقها.
ولم يكن له فعل ذلك إلا وقد أباح الله ذلك له.(10/6243)
وقال ابن عباس: " جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها لها ".
قال بعض أهل العلم: هذا القول أحسن، لأنه نبي، ولم يكن ليعذب حيواناً بغير ذنب ويفسد مالاً بلا سبب.
قال وهب بن منبه: كانت الريح تحمل سليمان وجنوده، وكانت تأتيه تُسمعه كلام كل متكلم، ولذلك سمع كلام النملة.
قال: وإنه لمسير ذات يوم بجنده والريح تحمله (إذ مر برجل) من بني إسرائيل وهو في حرث له يثير على مجساة له يفجر في حرث له من نهر له إذ التفت فرأى سليمان وجنده بين السماء والأرض تهوي به الريح. فقال: لقد آتاكم الله آل داود. قال: فاحتملت الريح كلامه فقذفته في إذن سليمان عليه السلام فقال سليمان للريح: احبس، فحبست. فنزل مقتنعاً بِبُرْدٍ لَهُ حتى أتى الرجل فقال له: ماذا قلت؟!(10/6244)
قال: رأيتك في سلطان الله الذي أتاك وما سخر لك، فقلت: لقد آتاكم الله آل داود. فقال: صدقت، كذلك قلت، كذلك سمعت ولذلك حينئذ تخوفاً عليك من الفتنة. تعلم، والذي نفس سليمان بيده، لثواب " سبحان الله " كلمة واحدة عند الله يوم القيامة أفضل من كل شيء رأيته أو أوتيه آل داود في الدنيا.
قال له الرجل: فَرَّجْتَ هَمِّي، فرج الله همك.
فقال له سليمان: وما همي؟
قال: أن تشكر ما أعطاك الله عز وجل.
قال له سليمان: صدقت. وانطلق إلى مركبه.
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}، أي: اختبرناه وابتليناه.
{وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً}، أي: شيطاناً مثل بإنسان.
ذكر أن اسمه صخر الجني، قاله ابن عباس، قال: الجسد: الجِنِّي الذي دفع إليه سليمان خاتمه فقذفه في البحر. وكان ملك سليمان في خاتمه. وهو قول الحسن وابن جبير ومجاهد.
قال مجاهد: فقعد الجني على كرسي سليمان، ومنعه الله من نساء سليمان فلم يقربنه وأنكرنه.(10/6245)
قال مجاهد: قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك / أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فساح سليمان وذهب ملكه. فكان سليمان يستطعم الناس فيقول: أتعرفوني؟! أطعموني، أنا سليمان! فيكذبونه حتى أطعمته امرأة يوماً حوتاً فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر الجني في البحر. وكان مدة ذلك فيما ذكر: أربعين يوماً.
وقال قتادة: " أمر سليمان ببناء المقدس، فقيل له: ابْنِه، ولا يُسمع فيه صوت حديد. فطلب (علم ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إن شيطاناً في البحر يقال له صخر، سيد الماردين. قال: فطلبه). وكانت عين في البحر يَرُدها ذلك الشيطان في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجُعل فيه خمر. فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: إنَّكِ لشراب طيب، إلا أنك لتصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً!) ثم شربها حتى غلبت على عقله.
قال: فأُرِيَ(10/6246)
الخاتم، أو ختم به بين كتفيه فَذُلَّ - وكان ملك سليمان في خاتمه - فقال: إنا قد أمِرْنَا ببناء هذا البيت، وقيل: لنا: لا يسمعن فيه صوت حديد. قال: فأتى إلى بيض الهدهد فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد فدار حولها، فجعل يرى بيضه ولا يقدر (عليه فذهب فجاء) بالماس فوضعه على الزجاج فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه. فأخذوا الناس فجعلوا يقطعون به الحجارة. فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء لم يدخل بخاتمه، فانطلق يوماً إلى الحمام وذلك الشيطان معه - وذلك عند مفارقة ذنب قارفه بعض نسائه - قال: فدخل الحمام، وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه في البحر فالتقمته سمكة، ونُزِعَ ملك سليمان منه، وأُلقِي على الشيطان شبه سليمان فجاء فقعد على كرسيه، وسُلِّطَ على مُلك سليمان كله غير نسائه. فكان يقضي بين الناس ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فتن سليمان الله. وكان (فيهم رجل فيه قوة)، فقال: والله لأجربنه فقال له: يا نبي الله - وهو لا يرى إلا أنه نبي - أحدنا تصيبه الجنابة (من الليل) في الليلة الباردة فيدع الغسل مستمداً حتى تطلع الشمس، أترى عليه بأساً؟ قال: لا.(10/6247)
قال: فبينما هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله سليمان خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم ".
وذكر السدي في هذه القصة مثل ذلك إلا أنه قال: " كانت لسليمان مائة امرأة، امرأة منهن يقال لها جرادة - وهي أَعَزُّ نسائه عنده وآمَنَهُنَّ - وكان يترك الخاتم عندها إذا دخل الخلاء، فجاءته يوماً (من الأيام) فسألته أن يقضي لأخيها في خصومة بينه وبين رجل، فقال لها: نعم، ولم يفعل، فابتلي. فأعطاها خاتمه ودخل الخلاء فأتاها الشيطان في صورة سليمان فأعطته الخاتم فذهب ملك سليمان وجلس الشيطان على كرسي سليمان فقد ذهب عقله! فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرؤوا، فطار بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه، فابتلعه حوتٌ. قال: وأقبل سليمان(10/6248)
في حاله التي كان فيها وهو جائع حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر فاستطعمه من صيده. فقال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضهم فضربه بعصاً فشج وجهه، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر. فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، ثم أعطا سليمان سمكتين مما قد مَذَرَ عندهم - أي: نتن - فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما، فجعل يغسل، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه ولبسه فَرَدَّ الله عليه بهاءه ومُلكه.
وجاءت الطير حتى حامتا عليه فعرف / القوم أنه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال: (ما أحببكم) على عذركم ولا ألومكم عل ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. فجاء حتى أتى مُلكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به - وسخر له الريح والشياطين يومئذ (ولم يسخر) له قبل ذلك - فجعل الشيطان في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أَمَرَ، فأُلقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة " وقيل: أنه ولد له ولد ميت، وذلك أنه طاف على (جَوَارٍ له) وقال: أرجو أن تلد كل(10/6249)
واحد منهن (ذكرا، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل إلا واحدة منهن) ومات الولد وألقي على كرسيه.
وقوله: {ثُمَّ أَنَابَ}، أي: أناب سليمان فرجع إلى ملكه بعد زواله عنه.
قال الضحاك: دخل سليمان على امرأة تبيع السمك فاشترى منها سمكة فشق بطنها فوجد خاتمه، فجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة (ولا شيء) إلا سجد به، ثم أوتي مُلكه وأهله، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ}، أي: رجع.
وقيل: " أناب ": [تاب ورجع عما كان عليه.
ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي}، أي: استر على ذنبي الذي أذنبت]. بيني وبينك.(10/6250)
{وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ}، أي: لا تسلبنيه كما سلبنه هذا الشيطان. قاله قتادة.
وقيل: المعنى: لا يكون مثله لأحد من بعدي.
{إِنَّكَ أَنتَ الوهاب}، أي: تهب ما تشاء لمن تشاء.
وقيل: المعنى: أعطني فضيلة ومنزلة.
روى أبو عبيد في كتابه مواعظ الأنبياء أن سليمان عليه السلام لما بنى مسجد بيت المقدس ودخله خر ساجداً شكراً لله عز وجل وقال: يا رب، من دخله من تائب فَتُبْ عليه، أو مستغفر فاغفر له، أو سائل فأعطه.
قال: ولما مات داود عليه السلام أوحى الله إلى سليمان أن سَلْنِي حاجتك. قال: أسألك أن تجعل قلبي يخشاك كما كان قلب أبي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلبي أبي. فقال الله جل ذكره: أرسلت إلى عبدي أسأله حاجته، فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني، وأن أجعل قلبه يحبني! لأَهَبَنَّ له مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده. فوفقه الله إلى أن سأل ذلك فأعطاه ذلك، وفي الآخرة لا حساب عليه فيه.(10/6251)
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أرأيتم سليمان وما أُعطي من ملكه فإنه لم يرفع رأسه إلى السماء تخشعاً حتى قبضه الله عز وجل ".
وروى أبو عبيد أن نملة قالت لسليمان: إني على قدري أشكر لله منك! وكان على فرس ذنوب فخر عنه ساجدا: (ثم قال: لولا أن أبخلك لسألتك أن تنزع عني ما أعطيتني).
ثم قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً}، أي: فاستجبنا دعاءه وأعطيناه مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء.
قال الحسن: إن نبي الله سليمان لما عُرضت عليه الخيل شغلته عن صلاة العصر، فغضب لله، فأمر بها فعُقِرَت، فأبدله الله مكانها أسرع منها، فسخرت له الريح تجري بأمره رخاء.(10/6252)
{حَيْثُ أَصَابَ}: حيث شاء.
قال مجاهد: رخاء: طيبة.
وقال قتادة: رخاء: طيبة سريعة ليست بعاصف ولا بطيئة.
وقال ابن زيد: الرخاء: اللينة.
وقال ابن عباس: رخاء: مطيعة، وقال الضحاك.
وقال السدي: رخاء: طوعاً.
وقوله: {حَيْثُ أَصَابَ}، أي: حيث أراد: قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن زيد من قولهم: أصاب الله بك خيراً، أي: أراده الله بك خيراً.
وقال مجاهد: " حيث أصاب: حيث شاء ".
ثم قال {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ}، أي: كل بناء يبني له ما يشاء من المحاريب والتماثيل، وكل غواص يستخرج له الحلي من البحار، وسخر له كل من ينحت له جفافاً وقدوراً، وآخرين مقرنين في الأصفاد، وهم: المردة من الشياطين. هذا كله قول قتادة.(10/6253)
والأصفاد: السلاسل، قال السدي: مقرنين: تجمع يداه إلى عنقه.
وواحد الأصفاد: صَفَد، كحَجَر. وقيل: واحدها: صفْد. كعدْل. وهي: الأغلال والسلاسل من الحديد، وكل من شددته شداً وثيقاً بالحديد فقد صفدته، وكذلك لكل من أعطيته عطاء جزيلاً ما يرتبط له. واسم العطية / الصفد.
قال الضحاك: أعطى الله سليمان ملك داود وزاده الريح والشياطين.
ثم قال تعالى ذكره: {هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: هذا المُلك عطاؤنا فاعط ما شئت منه وامنع ما شئت من الشياطين في وثاقك وسرح ما شئت منهم.
وعن ابن عباس أن هذا إشارة إلى ما أُعطي سليمان من القوة على الجِمَاع. قال: كان في ظهره مائة مائة رجل، وكان له ثلاث مائة امرأة، وتسع مائة سرية.
فالمعنى: فجامع من شئت، واترك جِمَاع من شئت بغير حساب عليك.
وقال ابن مسعود: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هذا عطاؤنا بغير حساب، فامنن أو أمسك، فالمعنى: هذا عطاؤنا بغير منة عليك.(10/6254)
ثم قال تعالى ذكره: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}، أي: وإن لسليمان في الآخرة عند الله لقربة منه وحسن مرجع ومصير. وإنما رغب سليمان إلى الله في هذا الملك ليعلم منزله عند الله، ودرجته، وقبول توباته، ومقدار إجابته له، لا لمحبته في الدنيا ورغبته فيها وجلالة قدرها عنده، بل كانت أهون هنده من ذلك.
ويجوز أن يكون سأل ذلك ليقوى به على الجهاد في سبيل الله عز وجل، لا لمحبته في الدنيا وملكها.
وقوله: {لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي}، الأحسن في تأوليه: (لا أسلبه) كما سلبت ملكي قبل هذا، لا أنه بَخَّلَ على من بعده أن يكون له مثل ملكه بعد موته.
وقيل: معناه: لا ينبغي لأحد من أهل زماني فيكون ذلك لي واختصاصي به دون غيري، حجة لي على نبوتي وأني رسولك إليهم.
وإذا أتى بمثل ملكي غيري من أهلي زماني لم يكن له حجة على من أرسلت إليه، إذ قد أوتي غيري مثل ما أوتيت.
فانفرادي بذلك يدل على نبوتي وصدقي. إذْ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس.
وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أن سليمان عليه السلام كان إذا رأى ما هو(10/6255)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
فيه مما أعطاه الله قال: نموت وننسى.
قوله تعالى ذكره: {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} - إلى قوله - {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: واذكر يا محمد أيوب إذ نادى ربه مستغيثاً به مما نزل به.
{أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}.
قال قتادة: هو ذهاب المال والأهل، والضر الذي أصابه في جسده، ابتُلي سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وعظم له الأجر، وأحسن عليه الثناء.
قال السدي: معناه: بنصب في جسدي، وعذاب في مالي.
وروى الطبري عن وهب بن منبه أنه قال: كان أيوب صلى الله عليه وسلم رجلاً من الروم من ذرية عيصا بن إسحاق بن إبراهيم. ومن الرواة من يقول في عيصا: العيص بن إسحاق.
وروي أن أيوب تزوج ابنه يعقوب واسمها ليا؛ وهي التي أقسم أيوب ليضربها مائة ضربة، فبَّر الله عز وجل يمينه. وكانت أم أيوب بنت لوط.(10/6256)
وقيل: كانت زوجة أيوب: رحمة ابنه أفريق بن يوسف بن يعقوب.
قال وهب: إن إبليس اللعين سمع تجاوب ملائكة السماوات بالصلاة على أيوب حين ذكر ربه وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسدُ والبغيُ، فسأل الله عز وجل أن يسلطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلط على ماله دون جسده وعقله، فأذهب الله ماله كله، فشكر أيوب ربه عز وجل ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه سبحانه. فسأل إبليس الله عز وجل أن يُسلطه على ولده، فأهلك ولده، فشكر أيوب ربه ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه تعالى. فسأل إبليس الله أن يسلطه على جسده، فسلط عليه دون لسانه وقلبه وعقله، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده؛ فصار أمره إلى أن تناثر لحمه، فأخرجه أهل القرية من القرية إلى كناسة خارج القرية، فلم يغيره ذلك عن ذكر (ربه وعبادته). قال ابن عباس: لما أصاب أيوب البلاء، أخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس. فجاءته امرأة أيوب، فقالت له: أتداوي رجلاً به علة كذا وكذا؟
قال: نعم، بشرط على أني (إن شفيته قال لي): أنت شفيتني لا أريد منه / أجراً غير هذا. فجاءت امرأة أيوب إلى أيوب، فقال: ذلك الشيطان! والله لئن بَرَأْتُ(10/6257)
لأضربنك مائة فلما برأ أخذ شمراخاً فيه مائة عرجون فضربها به ضربة.
فيكون " النُّصْبُ " على هذا، ما ألقاه الشيطان إليه ووسوس به إلى امرأته.
وقرأ الحسن: " بَنَصَبٍ " بفتح النون والصاد. وهما لغتان، كالحُزْن والحَزَن.
وقيل: من ضم النون جعله جمع نَصَب، (كَوَثَن وَوُثْن).
فأما قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] "، فهو جمع نصاب.
وقوله {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}.
في الكلام حذف، والتقدير: فاستجبنا له إذ نادى، وقلنا له اركض برجلك الأرض، أي: حركها وادفعها برجلك. والركض: حركة الرجل.
قال المبرد: الركض: التحريك، ولهذا قال الأصمعي: يقال: رَكَضْتُ(10/6258)
الدابة، ولا يقال: رَكَضَتْ (هي، لأن الركض حركة الرِّجْلِ من راكبها، ولا فعل لها في ذلك الوقت.
وحكى سيبويه: (ركضتُ) الدابة فركضت، مثل جَبَرْتُ العظم فجبر.
قوله: {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. قال قتادة: " ضرب برجله أرضاً يقال لها الجابية، فإذا عينان تنبعثان، فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ".
قال وهب: فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله عز وجل عنه كل ما كان فيه من البلاء.
قال الحسن: فركض برجله فنبعث عين فاغتسل منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها فذلك قوله: {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فالموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلاً.(10/6259)
ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ}.
قال مجاهد: رَدَّ الله عليه أهله وأعطاه مثلهم معهم في الآخرة.
وقال الحسن وقتادة: فأحيا الله جل وعز له أهله بأعيانهن وزاده في الدنيا مثلهم. (وهو قول ابن مسعود).
وقيل: إنمل رد الله عليه من غاب من أهله وولده مثل من مات منهم، وأعطي من نسلهم مثلهم.
وقوله: {رَحْمَةً مِّنَّا} أي: رحمناه رحمة.
وقال الزجاج: نصب رحمة على أنه مفعول له.
ثم قال: {وذكرى لأُوْلِي الألباب}، أي: فعلنا به ذلك للرحمة وليتذكر وليتعظ به أولوا العقول إذا ابتلوا فيصبرو كما صبر أيوب.
وروي أن أيوب كان نبياً في عهد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم. وكان عمر أيوب ثلاثاً وتسعين سنة، وذا الكفل هو ولد أيوب، واسمه شبر بن أيوب. وفيه اختلاف،(10/6260)
وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشر سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان. فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين! قال له صاحبه: وما ذاك؟! قال: منذ ثماني عشرة سنة لم ي رحمه الله فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال له أيوب: ما أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله - أي: يحلفان به - فأرجع إلى بيتي (فأكفر عنهما) كراهية أن يذكر الله إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، قال: فلما كات ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله جل ذكره إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب. فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على خير ما كان. فلما رأته قالت: بارك الله فيك، هل رأيت نبي(10/6261)
الله، هذا المبتلى؟ فوالله - على ذلك - ما رأيت رجلاً أِبه به منك إذ كان صحيحاً! قال: فإني أنا هو!!
قال: وكان له أندران: أندر اقمح، وأندر الشعير قال: فبعث الله عز وجل سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر الشعير الورق حتى فاض ".
وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} الضغث: ما يجمع من شيء من الرطب ويحمل الكف من الحشيش أو الشماريخ ونحو ذلك. قال ابن عباس، أُمر أن يأخذ حزمة من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضربها به.
قال الحسن مكث أيوب مطروحاً على كناسة سبع سنين وأشهراً، ما يسأل الله أن يكشف ما به. قال: وما على الأرض أكرم على الله من أيوب. فقال بعض الناس: لو كان لرب هذا فيه ما ضيع هذا. قال: فعند ذلك / دعا أيوب ربه فكشف ما به.(10/6262)
قال قتادة: كان إبليس قد تعرض لامرأته فقال لها: لو تكلمت كذا وكذا شفيته. فحلف أيوب لئن شفاه الله ليجلدنها مائة جلدة. فأمر أن يأخذ أصلاً فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة فيبر من يمينه ويخفف الله بذلك عن امرأته.
قال الضحاك: ضغثاً، يعني: من الشجر الرطب. كان حلف على يمين فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه فضرب به ضربة واحدة فَبَرَّت يمينه، وهو في الناس اليوم: يمين أيوب. من أخذ بها فهو أحسن.
قال عطاء: هذا لجميع الناس، وقال مجاهد وغيره: هو خاص لأيوب، لا يعمل به غيره ولا يجزيه، وهو قول مالك، وهو قول جماعة العلماء إلا الشافعي فإنه أجاز لمن حلف على عشر ضربات فضرب بشمراخ فيه عشر قضبان مرة فأصابت المضروب أنه يبر قال ابن جبير: يعني بالضغث قبضة من(10/6263)
المكانس.
ثم قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً}. أي: على البلاء.
{نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رجاع من معصية الله إلى طاعته.
قال ابن عباس: اتخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس، فأتته امرأة أيوب، فقالت: إن هاهنا إنساناً مبتلى من أمره كذا، هل لك أن تداويه؟ قال: نعم، على أني شفيته أن يقول كلمة واحدة. يقول: أنت شفيتني؛ لا أريد منه أجراً غيرها. فأخبرت بذلك أيوب. فقال: ويحك! ذلك الشيطان! لله عَلَيَّ إنشفاني الله أن أجلدك مائة جلدة. فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً (فيضربها به). فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها به ضربة واحدة.
وقال غير ابن عباس، إنما نذر أن يضربها حين باعت شعرها بالطعام فافتقده(10/6264)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)
وخافها على نفسها.
ويروى أن أيوب عليه السلام لم يدع في بلائه، وصبر حتى نال ثلاثة أشياء، فعند ذلك دعا الله عز وجل: وذلك أن صديقين له بالشام بلغهما خبره فتزودا ومضيا لزيارته فوجداه في منزله لم يبق منه إلا عيناه، فقالا له: أنت أيوب! فقال: نعم فقالا له: لو كان عملك - الذي رأيناه - يُفْضَى به إلى الله عز وجل ما لقيت الذي نرى. فقال لهما: وأنتما تقولان ذلك لي! فَبَلَغَ ذلك منه.
والثانية أم امرأته قطعت ثلاثة ذوائب لها وباعتها في طعامه. فلما علك ذلك، عَظُمَ عليهن وبلغ ذلك منه. فهذه ثانثة والثالة: قبول امرأته من إبليس إذا أراد أن يحتال عليها، فعند ذلك تواعدها، وأقسم لئن شفاه الله ليضربها مائة ضربة. وعند ذلك دعا إلى الله فشفاه الله.
قوله تعالى ذكر: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ} - إلى قوله - {فَبِئْسَ المهاد}،
أي: اذكر إبراهيم وولده إسحاق، وولد ولد يعقوب. ومن قرأ " عِبَادَنَا " بالجمع، أدخل الجمع في العبودية وجعل ما بعده بدلاً منه.
ومن قرأ بالتوحيد خص إبراهيم بالعبودية وجعل ما بعده معطوفاً عليه.(10/6265)
وقوله: {أُوْلِي الأيدي}.
قال ابن عباس: يقول: أولى القوة والعبادة. والأبصار: الفقه في الدين. الفقه في الدين. قال: مجاهد: أولي الأيدي: القوة في أمر الله عز وجل والأبصار: العقول.
وقال قتادة: أُعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين.
وقال السدي: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم.
وقيل: الأيدي: جمع يد، من النعمة، أي: هم أًحاب النعم التي أنعم الله عز وجل عليهم بها.
وقيل: " هم أًحاب النعم والإحسان، لأنهم قد أحسنوا وقَدَّمُوا خيراً ".
وأصل " اليد " أن تكون للجارحة، ولكن لما كانت القوة فيها، سميت القوة(10/6266)
يداً. والبصر هنا عُني به بصر القلب الذي به معرفة الأشياء.
وأجاز الطبري أن يكون المعنى أنهم أصحاب الأيدي عند الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي قدموها تمثيلاً باليد تكون عند الرجل الآخر. وقرأ عبد الله: " أولي الأيدي " بغير ياء على معنى أولي التأييد والمعونة من الله لهم.
ويجوز أن يكون مثل الأول لكن أسقط الياء واكتفى بالكسرة.
وذكر الطبري عن السدي أنه قال: تزوج (إسحاق بامرأة) فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضع، اقتتل الغلامان في بطنها أيهما يخرج أولاً. فقال أحدهما للأخر: لئن خرجت قبل لأعترضن في بطن أمي فلأقتلنها! فتأخر الآخر وخرج القائل ذلك، فسمي عيصا لعصيانه في بطن أمه، وخرج الثاني فسمي يعقوب لأنه خرج آخراً بعقب عيصا. وكان يعقوب أكبرهما في البطن لكن عيصا خرج قبله. والروم من ذرية عيصا.
ثم قال: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار}.(10/6267)
من نَوَّن " خالصة " / جعل " ذكرى " بدلاً من " خالصة ".
والمعنى: إنّا اخترناهم واختصصناهم بأن يذكروا معادهم ويعملوا له. (فلا هَمَّ لهم غيره). هذا قول مجاهد والسدي، وهو اختيار الطبري.
والاختيار عنده على قراءة من أضاف أن يكون المعنى: بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة.
ويجوز أن يكون رفع " ذكرى الدار " على إضمار مبتدأ.
وقيل: المعنى: اختصوا بأن يذكروا الناس الدار الآخرة ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل، قاله قتادة.
ومن قرأ بالإضافة فمعناه: إنا اختصصناهم بأفضل ما في الآخرة؛ قاله ابن(10/6268)
زيد.
وقال مجاهد أيضاً: المعنى في الإضافة: إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم.
وقال الفضيل: هو الخوف الدائم في القلب.
وقال ابن جبير: معناه: عقبى الدار.
وعن مجاهد أيضا - في الإضافة - معناه: بخالصة أهل الدار.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار}، أي: لمن الذين صَفَوْا من الذنوب (ومن الأدانس) واختيروا.
والأخيار، جمع خير، على التخفيف كميْت وأموات.
ثم قال تعالى ذكره: {واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار}، أي: أذكرهم يا محمد وما أبلوا فيه من طاعة الله عز وجل فَتَأَسَّ بهم، وأسلك مناهجهم في الصبر على ما نالك في الله جل ذكره.
وسمي ذو الكفل بذلك، لأنه تكفل بعمل رجل صالح يقال، إن ذلك الرجل كان يصلي في كل يوم مائة صلاة، فتوفي؛ فتكفل ذو الكفل بعمله.(10/6269)
وقيل: إنه تكفل بأمر أنبياء من أنبياء الله عز وجل فخلصهم من القتل فسمي ذا الكفل. والكفل في كلام العرب: الحَظُّ والنصيب.
وقيل: تكفل لبعض الملوك بالجنة فكتب له كتاباً بذلك وقيل: لم يكن نبياً وقوله {وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار}، أي: كل هؤلاء من الأخيار المذكورين.
ثم قال تعالى: {هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}، أي: هذا القرآن ذكر لك يا محمد ولقومك.
وقيل: معناه: هذا ذكر جميل لهؤلاء في الدنيا، وإن لهم في الآخرة مع هذا لحسن مرجع.
وقيل: معنى: وإن للمتقين لحسن مئاب، أي: لمن اتقى الله فأطاعه لحسن مرجع ومنقلب.
ثم بين ذلك فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، أي: جنات إقامة وثبات، قال قتادة: سأل عمر كعباً: ما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيئون والصديقون والشهداء وأئمة العدل.
وقال ابن عمر: " جنة عدن: قصر في الجنة، له خمسة آلف باب، على كل باب(10/6270)
خمسة آلاف خَيْرَة، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد ".
وقوله {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب}، أي: تفتح لهم الأبواب منها بغير فَتْحِ سكانها لها بيد، أو بمعاناة، ولكن تنفتح بالأمر دون الفعل.
قال الحسن: " تُكَلَّم، فتتكلم، انفتحي، انغلقي ".
و" مفتحة ": نعت ل " جَنَّتات "، والضمير محذوف، والتقدير: مفتحة لهم الأبواب منها.
ثم قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا}، أي: في الجنات {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}، أي: بفاكهة وشراب من الجنة فيأتيهم على ما يشتهون.
ثم قال تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ}، أي: وعند هؤلاء الذين تقدم ذكرهم نساء قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يُرِدْنَ غيرهم، ولا يَمدُدن أعينهن إلى(10/6271)
سواهم، قاله قتادى وغيره.
وقال السدي: قًصرت أطرافهن وقلوبهن وأسمعاهن على أزواجهن فلا يُرِدْنَ غيرهم.
قال مجاهد: " أتراب: أمثال ". وقال السدي: مستويات. وقيل: معناه: على سن واحد. وقيل: معناه: أحباب لا يتباغضن ولا يتعادين ولا يتغايرن ولا يتحاسدن. رُوي ذلك (أيضاً عن السدي).
وأصله في اللغة، أنهن أقران.
{هذا ذِكْرٌ} تام عند أبي حاتم على أن يكون " المتقون " عام لا يراد به من(10/6272)
تقدم ذكر.
فإن أردت به من تقدم ذكره من النبيين - على معنى: هذا ذكر جميل لهؤلاء الأنبياء في الدنيا، وإن لهم لحسن مصير في الآخرة - (لم تقف) على ذكر " لأنه جملة واحدة في معنى واحد ". ثم قال: {هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب}.
من قرأ بالياء، فمعناه: هذا ما يوعد هؤلاء المتقون ليوم الجزاء.
ومن قرأ بالتاء / جعله على المخاطبة، أي: هذا الذي تقدم ذكره من النعيم هو ما توعدون ليوم تجزى كل نفس بما كسبت.
ثم قال: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}، أي: إن ما تقدم ذكره لَرِزق الله عز وجل المتقين كرامة لهم ليس له من فراغ ولا انقطاع، وذلك أنهم كلما أخذوا ثمرة عادت مكانتها أخرى.
ثم قال: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}، أي: لَشَرَّ مَرجِع ومصير منقلب.
ثم بيَّن ذلك ما هو فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد}، أي: فبيس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم بأعمالهم السيئة.
والوقف على " هذا " حسن، ثم يبتدئ بـ: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ}، على معنى: الأمر(10/6273)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
هذا، أو على معنى: هذا الذي وصفته للمتقين. ثم يستأنف خبر الطاغين وما لهم عند الله عز وجل.
( قوله تعالى ذكره): {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} إلى قوله - {نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
" هذا " مرفوع بالابتداء، و " حميم " الخبر. فلا تقف على هذا إلا على " أزواج ".
ويجوز أن يكون الخبر " فليذوقوه "، فتقف على " فليذوقوه " ويجوز أن يكون (خبر ابتداء محذوف، أي: الأمر هذا)، فتقف على " هذا " إن شئت. ويجوز أن يكون " هذا " في موضع نصب (بإضمار قول يفسره " فليذوقوه "، مثل): زيداً(10/6274)
فاضربه على هذا التأويل " فليذوقوه " وترفع " حميم وغساق "، على معنى: هو حميم، أو منه حميم.
والحميم: الذي قد انتهى حره. قاله السدي.
وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم تجمع في حياض النار فيسقونه.
قال قتادة: الغساق، ما يسيل من بين جلده ولحمه.
قال السدي: الغساق: الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم.
وقال ابن زيد: هو الصديد الذي يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، يجمع في حياض في النار فيسقونه، وقال مجاهد: الغساق: أبرد البرد.
وقال ابن عمر: هو القيح الغليظ؛ لو أن قطرة منها تهراق في المغرب لأنتنت(10/6275)
أهل المشرق، ولو تهراق بالمشرق لأنتنت أهل المغرب.
وقال كعب: " الغساق: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةُ كل ذان حُمَةٍ من حية أو عقرب فتُستنقع فيُؤتى بالآدمي فيُغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام حتى يغلق جدله إلى كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه جر الرجل ثوبه ".
وروى الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَوْ أَنَّ دَلْواً مِنْ غَساقٍ يُهْرَاقُ في الدُّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيا ".(10/6276)
وقيل: هو ماء قد انتهى في البرودة ضد الحميم، يحرق كما يحرق الحميم. والعرب تقول: غسقت عينه، إذا سالت.
فمن شدد جعله مثل سيال، ومن خفف جعله مثل سائل.
فهو على هذا الاشتقاق ما سيل من أجسام أهل النار. ولم يعرف الكسائي ما هو. ومن شدد جعله صفة، ومن خفف أجاز أن يكون صفة واسماً.
ثم قال تعالى: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}.
من جمع {وَآخَرُ} حمله على لفظ " أزواج ". ومن وحد حمله على " شكله " ولم يقل شكلها، فالمعنى لمن جمع {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ} ما ذكرنا.(10/6277)
وقيل: المعنى: من شكل الغساق.
وقوله: (أَزْوَاجٌ) يريد به الحميم والغساق والآخر، فذلك ثلاثة.
قال ابن مسعود: هو الزمهرير.
والمعنى: مِنْ ضَرْبِهِ ومن نحوه، ومعنى " أزواج ": أنواع وألوان.
ثم قال تعالى: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ}، أي: هذه فرقة مقتحمة معكم " في النار، وذلك دخول أمة من الكفار بعد أمة.
والتقدير: يقال هذا فوج يدخل معكم في النار، فهو قول الملائكة لأهل النار حين أتوهم بفوج يُدْخِلُوَنه معهم.
ثم قال: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ}.
هذا خبر من الله جل ذكره عن قول أهل النار لما قيل لهم: " هذا فوج مقتحم معكم " فقالوا: لا مرحبا بهم. فهذا مثل قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
ومعنى: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ}: لا اتسعت مداخلهم ومنازلهم في النار.
ثم قال: {إِنَّهُمْ صَالُواْ النار}.
هذا أيضاً من قول المتقدمين في النار للداخلين عليهم، أي: قالوا لا مرحباً(10/6278)
بهم إنهم وأردوا النار.
وقيل: هو من قول الملائكة الذين قالوا لأهل النار: " هذا فوج مقتحم معكم إنهم صالو النار ".
ثم قال تعالى: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ}، أي: قال الفوج الداخلون على من تقدمهم لما قالوا لا مرحبا بهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، أي: لا اتسعت أماكنكم بكم.
{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}، أي: أنتم أوردتمونا هذا / العذاب بإضلالكم إيانا ودعائكم إيانا إلى الكفر فاتبعناكم فاستوجبنا سكنى جهنم.
ثم قال تعالى {قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار}، أي: قال الفوج المقتحم: ربنا من قدم لنا هذا بدعائه إيانا إلى العمل الذي أوجب لنا النار فزده عذاباً ضعفاً في النار، أي: أضعف لهم العذاب الذي هُمْ فيه.
وقيل: المعنى: أضعف له العذاب مرتين: عذاباً بكفره، وعذاباً بدعائه إيانا.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار}، أي: وقال الكافرون الطاغون الذين تقدمت صفتهم - وقيل: هم أبو جهل والوليد بن المغيرة وذووهما - قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار، أي: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا - قيل: (عنوا بذلك صهيباً وخباباً) وبلالاً(10/6279)
وسلمان: قاله مجاهد.
ثم قال تعالى: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً}.
من ضم: فمعناه: كنا نسخرهم في الدنيا ونستذلهم، ومن كسر فمعناه: كنا نسخر منهم في الدنيا، وقيل: هما لغتان بمعنى الهُزْء والسُّخرية.
فالمعنى: أَهُمْ في النار لا نعرف مكانهم، أم لم تقع أعيننا عليهم؟
ومن قرأ بقطع الألف من " اتخذناهم " ابتدأ به، ومن وصل الألف لم يبتدئ به(10/6280)
لأنه صفة للرجال، هذا قول أبي حاتم.
وتكون " أم " عديلة لاستفهام مُضمَر، تقديره: أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار.
ويجوز أن تكون معادلة ل " ما " في قوله: " ما لنا "، كما قال تعالى: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20]، وقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ} [القلم: 36 - 37]، فذلك جائز حسن.
وقد وقعت " أم " معادلة ل " مَنْ " في الاستفهام، قال الله جل ذكره:
{فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ} [النساء: 109].
ثم قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار}، أي إن هذا الذي أخبرتك به من خبر أهل النار لحق هو تخاصم أهل النار.
ويجوز أن تكون " تخاصم " خبراً ثانياً ل " إن " أو بدلاً من " لحَقٌّ " أو من المضمر في " لَحَقٌّ ". فإن جعلته خبراً ثانياً (أو بدلاً " لم تقف على لحَقٌّ ". وإن(10/6281)
جعلته مرفوعاً على إضمار مبتدأ، أي: هو تخاصم، وقفت إذا شئت على " لحق ".
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ}، أي: نذير لكم من بين يدي عذاب شديد.
{وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار}، أي: وما من معبود تجب له العبادة إلا الله الواحد، أي: المتفرد بالعبادة القهار لكل ما دونه بقُدرته.
{رَبُّ السماوات والأرض}: أي: ما لكهما ومالك ما بينهما من الخلق.
{العزيز}، أي: المنيع في نقمته.
{الغفار} لذنوب من تاب من كفره، وأطاع ربه.
ثم قال تعالى: - {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}، أي: قل يا محمد لقومك: هذا القرآن الذي قلتم فيه: " إن هَذَا الاخْتِلاَقُ "، نبأ عظيم، أي: خبر عظيم، أنتم عنه معرضون، أي: قد كفرتم وانصرفتم عن الإيمان به والعمل بما فيه، وقيل: المعنى: هو خبر جليل، وقيل: معناه: خبر عظيم المنفعة.
ثم قال: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، أي: قل يا محمد للمشركين الذين ينكرون ما جئتهم به ويكذبونك: ما كان لي من علم بالملائكة إذ اختصموا في آدم إذ شوِروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30](10/6282)
الآيات، قاله ابن عباس وغيره.
أي: لولا (ما أوحاه) إلي ربي وأعلمني به. فإعلامي ذلك لكم دليل على صدقي ونبوتي بأن هذا القرآن من عند الله عز وجل. وهذا كله معنى قوله قتادة والسدي وغيرهما.
وفي الحديث: " يَخْتَصِمُون في الْكَفَّارَاتِ وَفي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ في الْمكَارِهِ وَانْتِظَارِ الصَّلاَة بِعْدَ الصَّلاِةِ ".
قال الحسن: " لما صُعِد بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليلة الإسراء به مر في سماء منهن، فإذا هو بأصوات الملائكة يختصمون، (قال لجبريل: يا جبريل، ما هذه الأصوات؟ قال: أصوات الملائكة يختصمون) في كفارات بني آدم. فقال النبي عليه اللاسم: وما يقولون فيها؟ قال: يقولون: هي نقل الأقدام إلى الجماعات (والصلوات، وإسباغ) الوضوء عند المكروهات، والتعقيب في المساجد بعد الصلوات. قال: ثم أوحى(10/6283)
الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " ما كان لي من علم بالملأ الأعلى " الآيتين.
وعن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال لي ربي: فيمَ يختصم الملأ الأعلى / يا محمد؟ (فقلت: أنت أعلم يا رب، فقالها ثانية، فقلت: أنت أعلم يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض. فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات، فقال: وما الكفارات؟ فقلت: المشي ونقل الأقدام غلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكروهات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات قال: من فعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ".
وأجاز النحاس أن يكون المعنيَّ بالاختصام قريشاً لأن منهم من قال: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى. فالمعنى على هذا: ما كان لي من علم بالملائكة إذ يختصم فيهم قريش. وأجاز أن يراد بالملأ الأعلى أشراف قريش يختصمون فيما بينهم فيخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ( بما شاء من ذلك فيعلمهم النبي بذلك).(10/6284)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
ثم قال: {إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، أي: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين عن الله عز وجل وحيه، و " أنما " اسم ما لم يسم فاعله.
قوله: تعالى ذكره: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ}، إلى آخر السورة - أي ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك للملائكة {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ}، يعني بذلك خلق آدم صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}، أي: سويت خلقه وصورته ونفخت فيه من روحي، قال الضحاك: من روحي: من قدرتي.
والأحسن في هذا وما جانسه أن يقال: إنه تعالى أضاف الروح إلى نفسه لأنه إضافة (خلق إلى خالق). فالروح خلق الله أضافه إلى نفسه، على إضافة الخلق إلى الخالق، كما يقال: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] و {أَرْضُ الله} [النساء: 97] و " سماء الله "، وشبهه كثير في القرآن، فهو كله على هذا المعنى. هذا قول أهل النظر والتحقيق فافهمه.(10/6285)
قوله: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}، أي: خروا له سجوداً.
{فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}، يعني: ملائكة السماوات والأرض.
{إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر}، أي: تعاظم وتكبَّر عن السجود.
{وَكَانَ مِنَ الكافرين}، أي: ممن كفر في علم الله السابق، قاله ابن عباس.
ثم قال: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، أي: قال الله عز وجل لإبليس: (يا إبليس)، أي: شيء منعك من السجود لآدم الذي خلقته بيدي.
قال ابن عمر: خلق الله أربعة بيده: العرش وعدن والقلم وآدم، ثم قال لكل شيء كن فكان.
والذي عليه أهل العلم والمعرفة بالله أن ذكر اليد وأضافتها إلى الله سبحانه ليست على جهة الجارحة، تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء.
وذكر اليد في مثل هذا وغيره صفة من صفات الله لا جارحة.
وقد اختلف في الترجمة عن ذلك:
فقيل: معناه: لما خلقت بقدرتي.(10/6286)
وقيل: بقوتي. وقيل: معناه " لما خلقته.
وذكر اليدين تأكيد، والعرب إذا أضافت الفعل إلى الرجل ذكروا اليدين. تقول لمن جنى: هذا ما جنيته، وهذا ما جنته يداك.
وقد قال الله عز وجل: { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] بمعنى: بما كسبتم. (فيضاف الفعل إلى اليد والمراد صاحب اليد). وإنما خُصَّتِ اليد بذلك لأن بها يبطش وبها يتناول. فجرى ذلك على عادة العرب.
وقوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين}، أي: أتعاظمت عن السجود لآدم أم كنت ذا علو وتكبر على ربك سبحانه ومعنى الكلام التوبيخ.
قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وكان خازن الجنان، وكان أميناً(10/6287)
على السماء الدنيا والأرض ومن فيها، فأعجبته نفسه ورأى أن له فضلاً على الملائكة، ولم يعلم بذلك أحد إلا الله عز وجل يعني: علمه في اسبق علمه قبل خلقه للأشياء، وعلمه متى يكون، وعلمه وقت حدوثه في نفس إبليس. فلما أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم امتنع وتكبر.
ثم قال تعالى حكاية عن قول إبليس: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، أي: لم أترك السجود استكباراً عليك، ولكن تركته لأني أفضل منه وأشرف، إذْ خَلْقِي من نار وخَلْقُه من طين، والنار تأكل الطين.
وهذا كله تقريع من الله جل ذكره وتوبيخ للمشركين إذ أبوا الانقياد والإذعان لما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم واستكبروا عن أن يكونوا تَبَعاً له، فأعلمهم الله عز وجل قصة إبليس وهلاكه باستكباره وترك إذعانه لآدم.
ثم قال تعالى: {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، أي: أخرج من الجنة فإنك مرجوم، أي ملعون، وقيل: مرجوم بالكواكب والشعب.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين}، / أي: عليك إبعادي لك وطردي لك من الرحمة ومن الجنة إلى يوم يُدَانُ الناس بأعمالهم.
{قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أي: قال: إبليس: يا رب أخِّرْنِي وَلاَ تَهْلِكني(10/6288)
إلى يَوْم بعث خلقك من قبورهم.
قال الله: {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين}، أي: من المؤخرين {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم}، فأخره الله عز وجل إلى وقت هلاكه وهو يوم يموت جميع الخلق ولم يؤخر إلى وقت بعث الخلق كما سأل. فأخره الله سبحانه تهاوناً له لأنه لا يضل إلا من تقدم في علم الله ضلاله.
ثم قال تعالى حكاية عن قول إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، أي: قال إبليس: فبقدرتك وسلطانك، لأضلنهم باستدعائي إياهم إلى المعاصي.
{أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}، أي: إلا عبادك الذين أخلصتهم بعبادتك وطاعتك، فلا سبيل لي إليهم.
ومن كسر اللام، فمعناه: إلا عبادك الذين أخلصوا دينهم لك.
ثم قال تعالى: {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ}، أي: قال الله: فاتبعوا الحق، (أو: فاستمعوا) الحق. فهو مفعول به. ونصب " والحق أقول " على إعمال " أقول "، أي: وأقول الحق وقيل: نصبه على معنى " أحق الحق.(10/6289)