وقيل: " من " بمعنى الباء. أي: بالروح [بأمره]، أي بالوحي بأمره. فالباء متعلقة بينزل.
وقال قتادة: المعنى ينزل الملائكة بالرحمة والوحي من أمره على من اختار من خلقه لرسالته لينذر الناس. لينذر [ب] أن لا إله إلا الله فاعبدوه.
وقال الربيع بن أنس: كل شيء تكلم به ربنا فهو روح منه، ومنه قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}.
وعن ابن عباس، أيضاً أنه قال: الروح خلق من خلق الله، وأمر من أمره صوره على صورة آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقال الحسن: {بالروح}: بالنبوة.
وقال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة للقلوب، بالإرشاد، إلى(6/3948)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
أمر الله [ عز وجل] .
{ فاتقون}.
أي: فأطيعوا أمري، واجتنبوا معصيتي.
ووقع الإنذار في هذا الموضع في غير موضعه. وأصله أن يقع تنبيهاً وتحذيراً مما يخاف منه. وضده البشرى. وليس لا إله إلا الله مما يخاف منه ويحذر. ولكن في الكلام معنى النهي عما كانوا عليه من عبادة غير الله [سبحانه]، فحسن الاتيان به مع ما لا يخاف منه، ولا يحذر. ودل على ذلك قوله: {فاتقون} وقوله بعد ذلك: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق}.(6/3949)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
أي: من خلق هذا وابتدعه، فلا تصلح الألوهيم إلا له. ومعنى {بالحق}: بالعدل، أي: للعدل. وقيل: {بالحق} بقوله: كن فكانتا {بالحق}. فالحق كناية عن قوله: " كن ". والقول الأول أبين.
أي: خلق الإنسان من ماء مهين، وصوره ونقله من حال إلى حال، وأخرجه إلى ضياء الدنيا وغذاه ورزقه وقواه. حتى إذا استوى، كفر بخالقه وجحد نعمته وعبد ما لا يضره و [ما] لا ينفعه وخاصم الله [سبحانه] في قدرته [جلت عظمته]، فقال: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ونسي خلقه، وانتقاله من ماء إلى علقة إلى مضغة إلى عظم إلى تصوير إلى خروج إلى الدنيا، وضعف إلى قوة [وضعف] بعد قوة.(6/3950)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
ومعنى {مُّبِينٌ} أي: مبين عن خصومته بمنطقه، ومجادل بلسانه. والإنسان هنا جميع الناس. وقيل: عني به أبي بن خلف، ثم هو عام ف [ي [من كان مثله.
قوله: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
فالمعنى: وخلق الأنعام لكم فيها ما يدفئكم، أي ما يمنع عنكم ضر البرد، وضر الحر. لأن ما يستر من الحر يستر من البرد. وذلك ما ينتفع به من الأصواف والأوبار والأشعار. ثم جعل لكم فيها منافع، يعني من ألبانها، وركوبها، وأكل لحومها، والانتفاع بنسلها. وعن ابن عباس: الدفء نسل كل دابة.
فهذا كله حجة على الخلق احتج عليهم بنعمته عندهم ولطفه بهم. قال ابن عباس: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يعني الثياب.(6/3951)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ}.
أي: تتجملون بها إذا وردت بالعشي من مسارحها إلى مراحها التي تأوي إليها. {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: وتتجملون بها حين تسرح بالغدو ومن مراحها إلى مسارحها.
قال قتادة: أعجب ما تكون النعم إذا راحت عظاماً ضروعها، طوالاً أسمنتها. يعني: إذا رجعت من مرعاها.
قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس}.
أي: تحمل لكم هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد بعيد لا تبلغو [نه] إلا بجهد شديد ومشقة عظيمة لو وكلتم [إلى] أنفسكم، قاله: مجاهد.
وقيل الأثقال يراد بها في هذا الموضع الأبدان بدلالة قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] أي: ما فيها من الموتى. ومنه سمي الجن والإنس(6/3952)
الثقلان.
وروى المسيِّبي عن نافع " بشَقَ " بفتح الشين، وبه قرأ أبو جعفر. وهو مصدر. ومن كسر جعله اسماً. وقيل معنى الكسر: إلا بنقص من القوة، أي ذهاب شق منها، أي: ذهاب نصفها.
{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}:(6/3953)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
أي: لذو رأفة بكم وذو رحمة، ومن رحمته خلقه الأنعام لكم لمنافعكم ومصالحكم، وخلقه السماوات والأرض، وغير ذلك مما يقوم به أمركم فليس يجب الشكر والحمد إلا له.
قال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا [وَ] زِينَةً} أي: وخلق لكم أيضاً هذه، نعمة بعد نعمة وفضلاً بعد فضل.
وبهذه الآية يحتج من منع أكل لحوم الخيل لأنه تعالى ذكر ما يؤكل أولاً، وهي الأنعام، ثم ذكر ما يركب ولا يؤكل وهي الخيل وما بعدها.
وأجاز جماعة أكل لحوم الخيل ورووا فيها أحاديث وآثار. واحتجوا بأنه لا دليل من لفظ الآية على تحريمها وإن قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145](6/3954)
الآية، يدل [على] تحليلها.
والذين [ر] ووا تحريمها، رووا في ذلك أحاديث عن النبي عليه السلام في النهي عن أكلها. فيكون تركها كلها عندهم بالسنة وبدليل هذه الآية.
وقوله {وَزِينَةً}.
[أي: وللزينة. فهو] مفعول لأجله. وقيل: المعنى وجعلها زينة، فهو مفعول به.
وقرأ أبو عياض: " لتركبوها زينة " بغير واو.(6/3955)
ثم قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
أي يخلق مع خلقه لهذه الأشياء {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهو ما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار، مما لا تراه عين ولا خطر على قلب بشر.
وعن ابن عباس أنه قال: خلق الله ألف أمة، منها ست مائة في البحر، وأربع مائة في البر، فليس شيء في البر إلا وفي البحر مثله، وفضل البحر بمائتين.
وعن وهب بن منبه أنه قال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد. وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في الجنان. وما الخلق كله في قبضة الله [ عز وجل] إلا كخردلة في كف أحدكم.
وعن وهب أيضاً، يرفعه إلى النبي عليه السلام، أنه قال: " إن لله [ عز وجل] ثمانية(6/3956)
[عشر] [ألف] عالم، الدنيا منها عالم واحد، وإن لله في الدنيا ألف أمة سوى الانس والجن والشياطين، أربع مائة في البر، وست مائة في البحر ".
وقد قال بعض المفسرين: إن هذا [هو] تأويل {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] فجمع العالم لكثرة ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
وروي أنه: نهر عن يمين العرش من نور السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع، يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره، وجمالاً إلى جماله، وعظماً إلى عظمه. ثم ينتفض فيخلق الله جلّ ذكره من كل نقطة تقع منه كذا وكذا ألف ملك. يدخل منهم كل يوم سبت المعمور سبعون ألفاً، وسبعون ألفاً في الكعبة ثم لا يعودون إليه أبداً إلى أن تقوم الساعة. تصديقه:
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].(6/3957)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
وقال السدي: هو خلق السوس في الثياب.
والأحسن في هذه الآية: كونها على العموم، أن الله يخلق الأشياء لا يعلمها ولا يعرفها [أحد] وأنه هو العالم بها وحده لا إله إلا هو.
قال تعالى: {وعلى الله قَصْدُ السبيل}.
أي: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحجج والبراهين. فالسبيل الطريق، والقصد الاستقامة.
وقيل معناه: رجوعكم ومصيركم [إلي] كما قال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14].
والقول الأول: أحسن لدلالة قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي: من السب [ي] ل ما(6/3958)
هو جائر عن الحق.
والسبيل هنا جمع [في المعنى بدلالة قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}] فدخول " مِن " يدل على أن السبيل جمع. أي: من السب [ي] ل سبيل جائر. أي: غير قاصد للحق. يعني ما خالف دين الإسلام من الأديان.
قال ابن عباس: قصد السبيل: تبين الهدى من الضلالة.
وقال مجاهد: هو طريق الحق إلى الله. قال قتادة: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي: ومن السبيل، سبيل الشيطان. وقال الضحاك: يعني السبيل التي تفرقت عن سبيل الله [سبحانه]. وقال ابن زيد: جائر عن الحق.
والجائر في اللغة: العادل عن الحق.(6/3959)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
وفي قراءة عبد الله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} ورواية عن علي أيضاً، ويقويها: {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} معناه: ولو شاء [الله] للطف بكم بتوفيقه فكنتم تهتدون إلى طريقه المستقيم. ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا معقب لأمره ومشيئته.
وقال الزجاج: معناه. لو شاء لأنزل آية يضطر الخلق [بها] إلى الإيمان به.
قوله: / {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ}.
والمعنى: الذي أنعم عليكم بالنعم المتقدم ذكرها، هو الذل أنزل من السماء ماء تشربون منه وأنعامكم، وينبت لكم به الشجر ويسقي به النبات والزرع وجميع الثمار. والمعنى: لكم منه شراب وسقي شجر. وفي ذلك الشجر تسيمون أي: ترعون أنعامكم. ومن قيل للمواشي المطلقة: السائمة، أي: الراعية. وهو من(6/3960)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
السومة. وهي العلامة. لأنها إذا رعت أثرت في الأرض.
وقيل السوم في البيع مأخوذ من السائمة لأن كل واحد من المتابعين يقول ما شاء عند السوم، كما أن الأنعام ترعى حيث شاءت.
فكل هذا تنبيه على نعمه علينا وفضله لدينا وحجة على من عبد غيره.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
أي: [إن] في هذه النعم التي وصفت لدلالة واضحة وعلامة بينة على قدرة الله [سبحانه]، وتوحيده [جلّ وعزّ] لقوم يعتبرون مواعظ الله [جلت عظمته] ويتذكرون حججه تعالى.
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر} الآية.
أي: وأنعم عليكم أيضاً مع النعم المتقدمة، بهذه الأشياء. فسخرها لكم،(6/3961)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
يتعاقب عليكم الليل والنهار والشمس والقمر لمصالحكم وقوام أموركم. إن في ذلك لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله [سبحانه] ويفهمون تنبيهه [تعالى] إياهم.
قال تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ}.
أي: وسخّر [لكم] ما خلق في الأرض مختلفاً ألوانه. قال قتادة: يعني: ما خلق من الدواب، والأشجار والثمار.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
أي: يتذكرون قدرة الله ونعمه عليهم فلا يشكرون إلا إياه.
قوله: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً}.
المعنى: وهو الذي سخر لكم البحر المالح والعذب، مع ما تقدم من النعم(6/3962)
المذكورة، سخره لكم لتأكلوا من صيده لحماً طرياً ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها: اللؤلؤ والمرجان من المالح خاصة.
ثم قال: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ}.
قال الحسن: يعني: مواخر مشحونة. وقال عكرمة: ما أخذ عن يمين السفينة ويسارها من الماء فهو المواخر. قال مجاهد: تمخر السفن الرياح. وعن الحسن، أيضاً: {مَوَاخِرَ} جواري. وقيل معنى {مَوَاخِرَ} معترضة تجري. وعن قتادة: مواخر تجر [ي] بريح واحدة مقبلة ومدبرة.
والمخر في اللغة: الشق. يقال: مخرت السفينة الماء، أي شقته ولها صوت أي عند هبوب الريح. ومخر الأرض أيضاً هو شق الماء إياها. وقيل: مواخر مُلَجِّجَة(6/3963)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
في داخل البحر.
ثم قال تعالى: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}.
أي: لتتصرفوا فيه لطلب معايشكم في التجارة. قال مجاهد: هي تجارة البر والبحر. {[وَ] لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون ربكم [ عز وجل] على هذه النعم التي أنعم عليكم بها.
قال تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}.
أي: ومن نعمه/ أيضاً أن ألقى في الأرض رواسي، لئلا تميد بكم الأرض، وقد كانت تميد قبل كون الجبال على ظهرها.
والراسي: الثابت. والرواسي: جمع راسية. يقال: رست، ترسو، إذا ثبتت. والمرسى اسم المكان.
[و] قال قيس بن عباد: إن الله جلّ ذكره لما خلق الأرض جعلت تمور،(6/3964)
فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحت ضحى وفيها رواسيها.
وقال علي بن أبي طالب [عليه السلام]: لما خلق الله الأرض قَمَصت، وقالت: أي رب، أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليَّ الخطايا ويجعلون [عليَّ] الخبث. فأرسى الله [ عز وجل] فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون.
ثم قال تعالى: {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً}.
أي: وجعل لكم أنهاراً وسبلاً. ولا يحسن حمله على " ألقى " لأنه لا يقال: ألقى الله الأنهار والسبل ولكن حمل على المعنى. لأن معنى {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ} جعل فيها رواسي، فعطف {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً} على هذا المعنى.(6/3965)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
والسبل: الطرق. ليسلكوا فيها في حوائجهم وأسفارهم. ولو عماها عليكم لهلكتم حيرة وضلالة.
[و] {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: تهتدون إلى المواضع التي تريدون الوصول إليها فلا تضلون ولا تتحيرون.
قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني: بالليل. وقال مجاهد: هي النجوم منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به.(6/3966)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
وقال قتادة: خلق الله [ عز وجل] هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها تهتدون بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، سفه رأية، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
[و] قال الكلبي: [{وَعَلامَاتٍ}] يعني: الجبال.
والنجوم عند الفراء: الجدي والفرقدان. وغيره من العلماء يقول: النجم هنا بمعنى النجوم.
قال [تعالى] ذكره: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}.
أي: الله الخالق لهذِهِ الأشياء كلها الذي قد عددها وقدم ذكرها، الرازق لكم ولها، كالأوثان التي لا تخلق ولا ترزق.(6/3967)
ومعنى الآية التقريع والتوبيخ للمشركين الذين عبدوا ما لا ينفع ولا يضر وهي الأوثان والأصنام.
{أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.
أي: تذكرون ما يتلى عليكم من النعم والقدرة والسلطان و [أن] الله هو المنفرد بذلك، لا يقدر عليه غيره فيدعوكم ذلك إلى عبادة الله [ عز وجل] ، وترك عبادة الأوثان، وتعرفوا خطأ ما أنتم عليه من عبادتكم إياها، وإقراركم لها بالألوهية، كل هذا تنبيه وتوبيخ لهم لتقوم عليهم الحجة.
وقوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}.
يريد به الوثن، وهو لا يعقل فرقعت له " من ". وإنما ذلك لأن العرب إذا أخبرت عمن لا يعقل بفعل من يعقل أجرت لفظه كلفظ من يعقل. فلما أنزلوا الأوثان في العبادة لها منزلة من يعقل، أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. ومنها قوله {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي} [النور: 45] / فأتى بمن، لما أخبر عنها بالمشي كما أخبر عمن يعقل، وكذا تفعل(6/3968)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
العرب: إذا خلطت من يعقل بمن لا يعقل غلبت من يعقل. وحكي عن العرب: " اشتبه عليَّ الراكب وحمله، فما أدري مَنْ ذا مِنْ ذا ".
قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ}.
أي: إن تعدوا نعم الله لا تطيقوا إذاً شكرها. إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في أداء الشكر على نعمه عندكم، رحيم بكم أن يعذبكم بعد الإنابة إليه والتوبة.
والنعمة هنا بمعنى الجمع دَلَّ عليه قوله: {تَعُدُّواْ} والعدد لا يكون إلا في كثرة.
المعنى: أنه تعالى نبه الخلق على معرفته بسرهم وضمائرهم وعلى نيتهم وأنه مَحَّصَ ذلك كله، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
قال: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله}.(6/3969)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
يعني: أوثانهم التي يعبدونها {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} وهي مخلوقة، فكيف يعبد من لا يضر ولا ينفع ومن هو مخلوق مصنوع.
قال: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ}.
يعني: أوثانهم، أي لا أرواح لها.
ثم قال: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
أي: وما يشعر [هؤلاء الأوثان متى يبعث] المشركون. وقيل الضميران للمشركين، أي: وما يشعر المشركون متى يبعثون. وقوله: {أَيَّانَ} في موضع نصب. وهو مبني لأنه فيه معنى الاستفهام، ولذلك لم يعمل فيه ما قبله.(6/3970)
ثم قال تعالى: {إلهكم إله وَاحِدٌ}.
معناه: معبودكم الذي يستحق العبادة واحد، {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم} أي: منكرة ما يقص عليهم من قدرة الله [ عز وجل] وتوحيده [سبحانه] وهم مستكبرون عنه.
ثم قال تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
معناه: لا محالة ولا بد أن الله يعلم، وقيل معناه: حق أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، قال أبو إسحاق: و " لا " رد لفعلهم.
وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين}.
أي: المستكبرين عليه أن يوحدوه ويكفروا بما دونه من الأصنام والأوثان.(6/3971)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يجلس إلى المساكين ثم يقول {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين}. ورويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه] قال " من سجد لله سجدة فقد برئ من الكفر ".
" ما " رفع بالابتداء و " ذا " بمعنى: الذي، خبر ل " ما " و " أساطير " رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو أساطير الأولين. والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون من المشركين ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: الذي أنزله هو ما سطره الأولون من قبلنا من الأباطيل. قال قتادة: أساطير الأولين أحاديث الأولين وأباطيلهم. قال: ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من يأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر أحد من(6/3972)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
المؤمنين يريد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لهم أساطير الأولين/ أي: أحاديثهم.
قال ابن عباس: نزلت في النضر بن الحارث، وكان من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي أنه خرج إلى الحيرة فاشترى أخبار العجم وأحاديث كليلة، وكان يقرؤها على قريش، ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين.
قال [تعالى]: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية.
هذه اللام في " ليحملوا " يجوز أن تكون لام الأمر، ويكون معنى الكلام التهدد والوعيد، ويجوز أن تكون لام كي فتتعلق بما قبلها.
ومعناها: أنهم يحملون ذنوب أنفسهم وذنوب من أضلوا وصدوا عن الإيمان بغير علم من غير أن ينقص من ذنوب من أضلوا شيء. ومثله قوله:(6/3973)
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
وقد قال النبي عليه السلام: " أيما داع دعا ضلالة فاتبع، كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى غاتبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ".
وقال زيد بن أسلم: بلغني، أنه يمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله [ عز وجل] وجهاً وأنتنه ريحاً، فيجلس إلى جنبه، كلما أفزعه شيء زاده فزعاً، وكلما تخوف شيئاً زاده خوفاً. فيقول: بئس الصاحب أنت [ومن أنت]؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحاً فكذلك تراني قبيحاً، وكان منتناً فلذلك تراني منتناً. فتطأطأ لي حتى أركبك، فطال ما ركبتني في دار الدنيا، فيركبه. وهو قوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة}.(6/3974)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
قوله: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} إلى قوله {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}.
المعنى: قد مكر الذين كانوا قبل هؤلاء المشركين: يعني الذين أرادوا الارتقاء إلى السماء بالنسرين لحرب من فيها. وقد مضى ذكر ذلك في إبراهيم أنّه نمرود بن كنعان تجبر إذ ملك الأرض.
قال مجاهد: ملك الأرض، شرقها وغربها، أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران نمرود بن كنعان وبختنصر، وقيل هو نخ تنِصْرٍ. ونذكرها هنا قول السدي في ذلك وما روى فيه، قال السدي: أمر الذي حاج إبراهيم في ربه بإبراهيم، فأخرج من مدينته، فلما خرج لقي لوطاً على باب المدينة فدعاه فآمن به، وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] وحلف نمرود ليطلبن إله إبراهيم. فذهب فأخذ أربعة أفراخ من النسور، فرباها باللحم والخمر، حتى إذا كبرن، وغلظن، واستعجلن، قرنهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت. ثم رفع رجلاً من(6/3975)
لحم لهن، فطرن به حتى ذهبن في السماء. فأشرف ينظر إلى الأرض. فرأى الجبال تدب كدبيب النمل. ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطاً بها بحر كأنها فلكه في ماء. ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة / فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته. ففزع فألقى اللحم / فاتبعه منقضات. فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وتسمعن حفيفهن، فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها، ولم تزل. وذلك قوله {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46]. وكان إذا طرن به من بيت المقدس ووقوعهن به على جبل الدخان، فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً أخذ في بنيان الصرح. فبنى حتى أسند به إلى السماء، وارتقى فوقه ينظر بزعمه إلى إله إبراهيم فأحدث ولم يكن وقت حدثه. وأخذ الله بنيانه من القواعد(6/3976)
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: من مأمنهم. فلما سقط تبلبلت ألسن الناس يومئذٍ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وإنما كان لسان الناس قبل بالسريانية.
قال ابن عباس في: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} وهو نمرود حين بنى الصرح. قال زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمرود فبعث الله بعوضة فدخلت منخره فمكث أربع مائة سنة [يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه بالمطارق، وكان جباراً أربع ماشة سنة] فعذبه الله [ عز وجل] في الدنيا أربع مائة سنة كملكه. ثم أماته الله [ عز وجل] وهو الذي بنى صرحاً. وهو(6/3977)
الذي أتى الله بنيانه من القواعد.
وقيل: معنى {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} استأصلهم بالهلاك.
وقيل: هو مثل لأعمالهم التي أحبطها الله. كأن [أعمالهم] التي عملوها حبطت بمنزلة [بناء] سقط من قواعده.
ومعنى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أي: أتى أمر الله بنيانهم.
ومعنى {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ}: خرت عليهم [أعالي البيوت] فهلكوا. وقال ابن عباس: معناه أتاهم العذاب من السماء. ومعنى {مِن فَوْقِهِمْ}: توكيد أنهم تحته، لأنه قد يقال: سقط على منزل كذا، إذا كان يملكه. فقال {مِن فَوْقِهِمْ} ليزول(6/3978)
هذا المعنى منه.
وروي أن نمرود بن كنعان بنى بناء ليصل به السماء فبعث الله ريحاً فهدمته، ويقال: إن من يومئذٍ لم تدع الريح بناء على وجه الأرض يكون ارتفاعه أكثر من ثمانين ذراعاً إلا هدمته.
ثم قال [تعالى]: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ}.
أي: ثم يذلهم يوم القيامة مع ما فعل بهم في الدنيا.
ويقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} الذين زعمتم في الدنيا أنهم شركائي فما لهم لا ينقذونكم من العذاب. وقال ابن عباس {كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ}: تخالفون فيهم. وقيل معناه: تحاربون. وأصله من شاققت فلاناً، إذا فعل كل واحد منهما بصاحبه ما يشق عليه.(6/3979)
ثم قال تعالى: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم} أي: الذل والهوان {عَلَى الكافرين * الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [أي]: وهم على كفرهم. وقيل: عنى بذلك من قتل ببدر من قريش. وقد أخرج إليها كرهاً، قاله: عكرمة.
ثم قال / {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} أي: قالوا ما كنا نعمل من سوء. وأخبر الله [ عز وجل] عنهم: أنهم كذبوا، وقالوا: ما كنا نعصي الله في الدنيا، فكذبهم الله، وقال: {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ} أي: بلى عملتم السوء، إن الله عليم بعملكم.
ومعنى: {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي: الاستسلام لأمر الله [ عز وجل] لما عاينوا الموت. وقيل معناه: ألقوا الصلح لأنه قد تقدم ذكر المشاقة، وبإزاء المشاقة - وهي العداوة - الصلح.
ثم قال [تعالى] {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: طبقاتها ماكثين فيها.(6/3980)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي: بئس منزل من تكبر على الله سبحانه، ولم يقر بالوحدانية. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " الكبر أن يسفه الحق ويغمط الخلق ".
قوله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} إلى قوله {يَسْتَهْزِئُونَ}.
قوله: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} ما: في موضع نصب. قالوا: وهي مع " ذا " اسم واحد في موضع نصب. {قَالُواْ خَيْراً} أي: قالوا أنزل خيراً. والمعنى: وقيل لأهل الإيمان والتقوى: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا خيراً. ثم بينوا الخير ما هو فقالوا:
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} ويجوز حسنة في غير القرآن بالنصب على معنى أنزل للذين أحسنوا حسنة.
ثم قال: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ}.(6/3981)
أي: خير من الأولى {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} دار الآخرة. ثم بين دار المتقين ما هي، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: بساتين إقامة. فجنات: مرفوعة على الابتداء {يَدْخُلُونَهَا} الخبر. ويجوز رفعها على إضمار مبتدأ. أي: هي جنات عدن، و {يَدْخُلُونَهَا} حال.
ثم قال: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: من تحت أشجارها. {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ}.
أي ما تشتهيه أنفسهم. {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين}. أي: كما جزى الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، كذلك يجزي الله من اتقاه فآمن به وأدى فرائضه واجتنب معاصيه. ثم بيّن المتقين فقال {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ}. أي: تقبض الملائكة أرواحهن طيبين، لتطييب الله إياها. {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا} أي: تقول لهم الملائكة: سلام عليكم صيروا إلى الجنة وهذه بشارة من الله للمؤمنين.(6/3982)
وروى أنس بن مالك وتميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله لملك الموت: انطلق إلى عبدي إذا جاز أجله فاتني به. فلأريحنه من الدنيا، فإني قد ضربته بالبأساء والضراء فيها فوجدته حيث أُحِبْ. فينطلق ملك الموت، ومعه خمس مائة من الملائكة، يحملون معه كفناً، وخيوطاً من الجنة، وضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لوناً، لكل لون من ذلك ريح طيبة سوى ريح أصحابها، والحرير الأبيض، فيه المسك الأذفر. فيجلس ملك الموت عند رأسه ويحتويه الملائكة. فيضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويبسطون/ ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه. فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة مرة، وبأزواجها مرة وبسكوتها مرة، وبثمارها [مرة] كما يعلل الصبي أهله إذا بكى. وإن روحه ليهش عند ذلك هشاً. قال: يقول: ينزو نزواً ليخرج يقول ملك الموت لنفسه: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود وماء(6/3983)
مسكوب. فلملك الموت أشد به ألطافاً من الوالدة بولدها. يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه [ عز وجل] فهو يلتمس بلطف حبيب ربه [ عز وجل] رضاء الرب [سبحانه]. فيسل روحه كما تسل الشعرة من العجين. قال الله [ عز وجل] : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ".
قال محمد بن كعب القرظي: إذا استنقعت نفس المؤمن، يعني في صدره، جاء ملك الموت، فقال: السلام عليك ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم نزع بهذه الآية. وهو معنى قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58]. قال البراء [بن عازب]: يسلم عليهم ملك الموت.
وعن ابن عباس في قوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91] قال: الملائكة(6/3984)
يأتونه بالسلام من قبل الله [ عز وجل] وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
وقوله {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: بعملكم في الدنيا وطاعتكم لله [ عز وجل] .
ثم قال [تعالى]: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
أي: هل ينظر هؤلاء المشركون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وبما وعدوا به من العذاب. أو يأتي أمر ربك لحشرهم [لموقف] يوم القيامة. وقيل: أو يأتي أمر ربك بالعذاب والقتل في الدنيا.
{كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: كما فعل هؤلاء من انتظارهم الملائكة لقبض أرواحهم وإتيان أمر الله [ عز وجل] إليهم بالعذاب كما فعل أسلافهم من الكفار بالله فجاءهم ما كانوا ينتظرون {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} في إحلال العذاب بهم(6/3985)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
{ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بمعصيتهم لأمر الله وكفرهم به.
قال مجاهد: أن تأتيهم الملائكة من عند الموت ويأتي أمر ربك يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}.
أي: أصاب هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأمم الماضية عقاب ذنوبهم ونقم معاصيهم {وَحَاقَ بِهِم} أي: وحل بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤون ويسخرون إذا أنذرتهم الرسل.
[و] قوله: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}.
معناه: وقال الذين عبدوا مع الله [سبحانه] غيره من الأوثان والأصنام من قريش وغيرهم، قد رضي الله عنافي عبادتنا ما عبدنا. لأنه لو شاء، ما عبدناها، ولو شاء ما حرمنا البحائر والسوائب، وما بقينا على ما نحن عليه، إلا لأن الله [ عز وجل] قد رضي ذلك. ولو لم يرض عنا لغير ذلك ببعض عقوباته ولهدانا إلى غيره / من الأفعال.
قال الله [ عز وجل] { كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المشركة(6/3986)
فاستن هؤلاء بسنتهم وسلكوا سبيلهم في تكذيب الرسل.
{فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين}.
أي: البلاغ الظاهر المعنى المفهوم عند الرسل إليه. وهذا القول الذي قالوه إنما قالوه على طريق الهزء والاستخفاف. كما قال قوم شعيب عليه السلام له: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] على طريق الهزء. ولو قالوه على طريق الجد لكانوا مؤمنين. وكذلك، لو قال قائل مذنب على طريق الجد: لو شاء الله ما أذنبت، ولو شاء الله ما قتلت النفس، لم يكن بذلك كافراً ولا منقوصاً، وكان كلامه حسناً.(6/3987)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
وإنما قبح [كلام] أولئك وكان كفراً لأنهم قالوه على طريق الهزء لا على طريق الجد. وقد اتفقت الأمة أن الله لو شاء ألا يعبد غيره لم يكن إلا ذلك. ولكنه تبارك وتعالى وفق من أحب إلى ما يرضيه بتوفيقه، وأضل من أحب ضلاله بخذلانه له.
ثم قال [تعالى] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله}.
أي: بعثنا إلى كل أمة تقدمت وسلفت [رسولاً] بأن يعبدوا الله ويخلصوا له العبادة، ويبعدوا من طاعة الطاغوت، وهو الشيطان، ويحذروه أن يغويهم ويصدهم عن سبيل الله [ عز وجل] فمنهم من هدى الله، ففعل ما أمر به، وذلك(6/3988)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
بتوفيق الله [ عز وجل] له. ومنهم من حقت عليه الضلالة فضل ولم يؤمن وذلك خذلان الله [سبحانه] له.
{فَسِيرُواْ فِي الأرض}.
فسيروا يا مشركي قريش في الأرض التي [كان] يسكنها الأمم قبلكم، إن كنتم غير مصدقين لما يتلى عليكم من هلاك الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل. فانظروا آثارهم وديارهم واتعظوا وارجعوا إلى الإيمان بما جاءكم به رسولكم واحذروا أن ينزل بكم ما نزل بهم.
ثم قال [تعالى]: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ}.
أي: إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين من قومك، فإن من أضله الله منهم فلا هادي له {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي: ليس لهم ناصر ينصرهم من الله [ عز وجل](6/3989)
إذا أراد عقوبتهم. وفي قراءة أُبَيّ " فإن الله لا هادي لمن أضل " وقرأ ابن مسعود: " فإن الله لا يهدي من يُضل " بضم الياء من (يضل) فكسر الدال والضاد. وقرأ الكوفيون: " لا يهد [ي] " بفتح الياء. وقرأ الحرميان والشامي والبصري " لا يُهْدَى " بضم الياء وفتح الدال.
ومعنى قراءة نافع ومن تابعه: من أضله فلا هادي له. ومعنى قراءة الكوفيين: فإن الله لا يهدي من أضله، أي: من أضله الله لا يهديه، أي: من سبق في(6/3990)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
علمه له الضلالة فإنه لا يهديه الله. وفيها معنى آخر وهو: فإن الله [لا] يهتدي من أضله: أي: من أضله الله لا يهتدي.
حكى الفراء أنه يقال: هدَّى يهدِّي بمعنى اهتدى يهتدي.
قوله {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}.
معناه: وحلف هؤلاء / المشركون من قريش بالله جهد حلفهم لا يبعث [الله] من يموت بعد موته، وكذبوا في أيمانهم {بلى} سيبعث الله من يموت بعد مماته. {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي: وعد عباده ذلك، والله لا يخلف الميعاد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أكثر قريش لا يعلمون أن الله يبعث الموتى بعد موتهم.
وتأول قوم من أهل البدع أن علياً رضي الله عنهـ يبعث قبل يوم القيامة بهذه الآية، فسئل عن ذلك ابن عباس، فقال: كذب أولئك، إنما هذه الآية للناس عامة، ولعمري لو كان(6/3991)
علي مبعوثاً قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه.
قال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه وكان مما تكلم به المسلم أن قال: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا. فقال المشرك: تزعم أنك تبعث بعد الموت؟ فأقسم بالله جهد [يمينه لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله عز وجل { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية. وقال أبو هريرة: قال الله عز وجل: " يسبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني. وكذبني، ولم يكن ينبغي له أن يكذبني. فأما تكذيبه إياي: فقسمه بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت. فقلت {بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً}. وأما سبه إياي: فقال {إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] وقلت:
{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [إلى آخر] السورة ".(6/3992)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}.
هذه اللام: متعلقة بالبعث المضمر بعد " بلى ". والمعنى: بلى يبعثهم الله ليبين لهم اختلافهم. وقيل: هي متعلقة بـ " بعثنا " من قوله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} ليبين لهم اختلافهم وأنهم كانوا من قبل الرسول على ضلالة، وليعلم الذين جحدوا بعث الأموات من قريش أنهم كانوا كاذبين في قولهم {لاَ يَبْعَثُ [الله] مَن يَمُوتُ}.
وقال قتادة {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يعني: الناس عامة. والذي يختلفون فيه هو البعث: منهم من يقربه ومنهم من ينكره.
معناه: إنما قولنا لشيء مراد، قلنا له كن فيكون. وهذا إنما هو مخاطبة للعباد بما يعقلون، وإلا فما أراده تعالى فهو كائن على كل حال، على ما راده من الإسراع. لو أراد، تعالى ذكره خلق الدنيا والسماوات والأرض وما بين ذلك في قدر لمح البصر، لقدر على ذلك. ولكن خوطب العباد بما يعقلون فأعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه وأنه متى أراد الشيء كان. وإذا قال [له] كن [ف] كان، أي: فيكون على حسب الإرادة(6/3993)
وليس هذا الشيء المذكور موجوداً قبل أن يقول له كن. وإنما المعنى: إذا أردنا الشيء قلنا من أجله كن أيها الشيء فيكون على قدر / الإرادة لأن المشركين أنكروا البعث فأخبرهم الله بقدرته على حدوث الأشياء. وهذا يدل على أن المعدوم يسمى شيئاً، لأنه قد سماه شيئاً قبل حدوثه. ومثله {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] فأما قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] فمعنا [هـ] لم تك شيئاً مذكوراً ولا موجوداً.
ومن إنكارهم البعث قوله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] أي: كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون. وتحقيق الآية أنه أعلمهم أنه أراد أن يبعث من مات فلا تعب عليه في ذلك لأنه إنما يقول له كن: فيكون ما يريد بلا معاناة ولا كلفة.
ومن رفع " فيكون " فعلى القطع، أي: فهو يكون. نصبه عطفه على " أن(6/3994)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
نقول " أي: أن يقول فيكون. ولا يجوز النصب على [ال] جواب ل " كن " لأنه خبر وليس بأمر.
قوله: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله}.
المعنى: والذين فارقوا دورهم وأوطانهم عداوة للمشركين في الله [ عز وجل] من بعد ما ظلمهم المشركون وأوذوا في ذات الله [سبحانه].
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}.
أي: لنسكنهم في الدنيا مسكناً صالحاً يرضونه. وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(6/3995)
ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بالحبشة ثم بوأهم الله [ عز وجل] المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين، قال ذلك قتادة وابن عباس.
وقال الضحاك: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} هو النصر والفتح.
{وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ} الجنة.
فالآية: فيمن هاجر من المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة. ليست الهجرة في هذا الموضع: الهجرة إلى المدينة، لأن هذا أنزل بمكة إلى أرض الحبشة.
قال الشعبي: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا [حَسَنَةً]} المدينة، وقال ابن(6/3996)
[أبي] نجيح: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} أي: لنرزقهم في الدنيا رزقاً حسناً.
وكان عمر رضي الله عنهـ إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول: بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله [ عز وجل] في الدنيا، وما أخّر لك في الآخرة أفضل ثم يتلوه هذه الآية: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله}.
وقال الضحاك: الحسنة: النصر والفتح. وقال مجاهد: الحسنة: هنا لسان صدق.
ومعنى بوأت فلاناً منزلاً: أحللته فيه. ومنه قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93].(6/3997)
وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جندل بن سهل.
ثم قال تعالى: {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ}.
أي: ولثواب الآخرة على الهجرة، أكبر من ثواب الدنيا.
وقيل: الحسنة هنا، كونهم مؤمنين وسماعهم ثناء الله [ عز وجل] عليهم.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين عذبهم المشركون على إيمانهم وأخذوا أموالهم، منهم: صهيب وبلال. وذلك أن صهيباً قال للمشركين: أنا رجل / كبير 'ن كنت معكم ام أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرَّ بكم. فخذوا مالي ودعوني. فأعطاهم ماله وهاجر إلى النبي عليه السلام. فقال له أبو بكر: ربح البيع يا صهيب. وقال عمر [رضي الله عنهـ]: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. أي: لو أمن عذاب الله [سبحانه] لما ترك الطاعة ولا جنح إلى المعصية.(6/3998)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
ثم بيَّن الله هؤلاء القوم فقال: {الذين صَبَرُواْ} في الله على ما نالهم في الدنيا من الكفار. {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: به يثقون في أمورهم.
قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ}.
وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم بالدعاء إلى توحيد الله وقبول أمر الله [سبحانه] إلا رجالاً من بني آدم وليسوا بملائكة، ولم يرسل إلى قومك إلا مثل من أرسل إلى من كان قبلكم من الأمم.
ثم قال تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر}.
أي: فاسألوا يا قريش أهل الذكر: يعني الذين قرؤوا التوراة والإنجيل. قال(6/3999)
الأعمش: هم من آمن من أهل التوراة والإنجيل. أي فاسألوهم فيخبرونكم أن الرسل التي تقدمت إلى الأمم أنهم كانوا رجالاً من بني آدم. وقال ابن عباس: فاسألوهم هل ذكر محمد [ صلى الله عليه وسلم] في التوراة والإنجيل. يعني: سألوا من آمن من قبلهم عن ذلك.
وقال ابن زيد: أهل الذكر أهل القرآن. يعني: من آمن بمحمد [ صلى الله عليه وسلم] وبما جاء به. وقال أبو إسحاق: معناه: فاسألوا كل من يذكر بعلم، وافق هذه الملة أو خالفها.
قال ابن عباس: لما بعث الله محمداً عليه السلام رسولاً، أنكرت العرب ذلك. وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً. فأنزل الله [ عز وجل] { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} [يونس: 2] الآية، وأنزل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً}.(6/4000)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ثم قال [تعالى] {بالبينات والزبر}.
أي: بالدلالة الواضحة، والزبر الكتب. جمع زبور. مأخوذ من زبرت الكتاب إذا كتبته.
الباء من {بالبينات} متعلقة بفعل مضمر. التقدير: أرسلناهم بالبينات ودل " أرسلنا " الأول على هذا المحذوف.
وقال قوم: الباء متعلقة بأرسلنا المذكور. وأجازوا تقدم الإيجاب على أن تكون " إلا " بمعنى: " غير ". فأجازوا: ما ضرب إلا أخوك عمراً، وما كلم إلا أبوك بكراً، على معنى: " غير "، وعلى ذلك أنشدوا:
ابني لُبَيْنَى لَسْتُم بيد ... إلا يد ليست لها عضد(6/4001)
أنشدوه بخفض يد بعد " إلا " على مهنى " غير يد ". ولا يحسن أن تكون " إلا " هنا بغير معنى: " غير " لأنه يفسد الكلام، إذ الذي خفض اليد قبل " إلا " لا يمكن إعادته بعد " إلا "، ومنه قول الله [ عز وجل] : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله [لَفَسَدَتَا]} [الأنبياء: 22] أي: غير الله.
ومن لا يجيز هذا، ينشد البيت بالنصب " إلا يدا " على البدل من موضع بيد. ويجوز عندهم: ما ضرب إلا أخوك عمراً على كلامين كأنه قال ضرب عمر [و].
ثم قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} [أي القرآن] {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} أي(6/4002)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
لتعرفهم: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، من ذلك يعني. من الفرائض / والأحكام والحدود {[وَ] لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يطيعون، قاله مجاهد. وقيل معنى ذلك: لعلهم يعتبرون [م] اأنزلناه.
قوله: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات}.
والمعنى أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب النبي عليه السلام، وقالوا في القرآن: هو أساطير الأولين {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} كما فعل بقوم لوط، أو يأتيهم العذاب من حيث يأمنوا كما أتى نمرود بن كنعان وقومه.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}.
أي أو يهلكهم في تصرفهم في البلاد في أسفارهم، قاله: ابن عباس وقتادة. وقال ابن جريج: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} بالليل والنهار.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ}.(6/4003)
أي: أو يهلكهم الله بتخوف. وذلك نقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم. وقال الزجاج معناه: أو يأخذهم بعد أن يخوفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها. وقال الضحاك: معناه أو أخذ طائفة وادع طائفة فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال ابن عباس ومجاهد {على تَخَوُّفٍ} على تنقص. أي ينقص من أموالهم وزروعهم حتى يهلكهم.
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ قرأ هذه الآية فقال: ما التخوف؟ فأقام بذلك أياماً، فأتاه غلام من أعراب قيس فقال: يا أمير المؤمنين أراني يتخوفني مالي: فقال له عمر: كيف يتخوفك مالك؟ فقال ينتقصني مالي. فقال عمر {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} على تنقص. وقيل معنى: {على تَخَوُّفٍ} أي: يأخذهم بالهلاك(6/4004)
فيخوف بهم غيرهم ليتعظوا، وهوقوله الضحاك. وقال الليث: {على تَخَوُّفٍ} على عجل.
ويروى عن عمر [رضي الله عنهـ] أنه [قال] ما كنت أدري ما معنى {على تَخَوُّفٍ} حتى سمعت قول الشاعر:
تَخَوَّفَ السَّيْرُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفِنُ(6/4005)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
يصف ناقته أن السير نقص سنامها بعد تمكنه.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
أي: رؤوف أن آخر هؤلاء الذين مكروا السيئات فلم يعجل لهم بالعقوبة، رحيم بعباده، إذ لم يعجل عقوبتهم، وجعل لهم فسحة في التوبة.
قال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} الآية: أي: أولم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسم قائم شجراً أو جبالاً أو غير ذلك {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ} أي: يرجع من موضع إلى موضع [و] يكون في أول النهار على حال، ثم يعود إلى حال آخر في آخر النهار. قال قتادة: أما اليمين فأول النهار، والشمال: آخر النهار.
وقال ابن جريج: اليمين والشمال الغدو والآصال، فإذا فاءت الظلال سجدت لله بالغدو والآصال. قال الضحاك: سجد ظل المؤمن طوعاً. وقال(6/4006)
الضحاك إذا فاء الفيء توجه كل شيء ساجداً قبل القبلة من نبت أو شجر، قال مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله [ عز وجل] .
وعن مجاهد: أن السجود في / هذا الموضع سجود الظلال دون التي لها الظلال.
وعن ابن عباس أنه قال: الكافر يسجد لغير الله [سبحانه] وظله يسجد لله [ عز وجل] . أي ينقاد دليلاً على دبره الله [ عز وجل] عليه.
فتحقيق المعنى في هذه الآية: أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب. يقال سجدت النخلة إذا مالت. وسجد البعير، وأسجد، إذا طؤطئ ليركب. ومن هذا قيل لمن وضع جبهته في الأرض ساجد، لأنه تطامن. وقد يستعار السجود في موضع الاستسلام والطاعة والذل، كما(6/4007)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
يستعار التطامن والتطأطأ فيوضعان موضع الخضوع والانقياد فيقال: تطامن للحق وتطأطأ أي: انقاد وخضع.
فأما قوله: {عَنِ اليمين} فوحّد {والشمآئل} فجمع: فإن " اليمين " وإن كان موحداً، فإنه في موضع جمع ومعناه. وقيل: إنه رد " اليمين " على لفظ " ما " ورد " الشمائل " على المعنى، كما قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] فرد على المعنى، ثم قال
{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] فرده على اللفظ. وهذا كثير.
وقال الزجاج: معنى " ظله " ها هنا جسمه الذي يكون له الظل. فالمعنى: أن جسمه ولحمه وعظامه منقادات لله [ عز وجل] دالة عليه، عليها الخضوع والذل.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة}.(6/4008)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
المعنى: ولله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ومن الملائكة. إلا أنه حمل " والملائكة " من الاعراب على " ما " لأنها ساجدة. ومعناها تخضع وتذل وتستسلم لأمر الله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي لا يستكبرون عن التذلل [لله عز وجل] .
ودخلت " من " لأن معنى " دابة " الجمع، أي: من الدواب. وقيل دخلت لما في " ما " من الإبهام فأشبهت الشرط. والشرط تدخل " من " فيه تقول: من ضربك من رجل فاضربه.
قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ}.
أي يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات والأرض والدواب ربهم أن يعذبهم إن عصوا أمره. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي: يطيعونه فيما أمرهم به. قال أبو إسحاق: معناه يخافون ربهم خوف مطيعين مجلين له، لا يجاوزون أمره.
قوله: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} إلى قوله (فسوف تعلمون) [51 - 55].(6/4009)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
المعنى: قال الله لا تتخذوا لي شريكاً فلا تعبدوا معبودين {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي: معبود واحد، وأنا ذلك المعبود. {فَإيَّايَ فارهبون}. أي فاتقون وخافون. أمرهم الله [ عز وجل] بذلك لأنهم قالوا في الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فأعلمهم أنه: لا يجوز أن يعبد غيره.
وقوله: " اثنين " تأكيد. كما قال: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} فأكده بواحد.
وقيل / التقدير: اثنين إلهَين. فلما لم يتعرف معنى اثنين لعمومها في كل شيء بين بإلهين، وإذا تقدم إلهين لم يحتج إلى اثنين، لخصوص اللفظ بالألوهية.
قال تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض}.(6/4010)
أي: له ملك ما فيهما لا شريك له في ذلك.
{وَلَهُ الدين وَاصِباً} أي: له الطاعة والإخلاص دائماً. قال: ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك. ومنه قوله: {عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي دائم، والوصوب الدوام. وعن ابن عباس أيضاً: الواصب: الواجب. قال مجاهد: الدين هنا: الإخلاص.
ثم قال تعالى: {فَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ}.
أي: ترهبون وتخافون أن يسلبكم نعمة الله عليكم إذا أفردتم العبادة لله [سبحانه].
وقال الزجاج: معناه: أفغير الذي أبان لكم أنه واحد، وأنه خالق كل شيء تخافون.(6/4011)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله}.
التقدير: وما حل بكم من نعمة فمن الله هي. وقال الفراء: التقدير: وما [يكن] بكم من نعمة. وقال قوم: " ما " بمعنى: الذي، فلا يحتاج إلى إضمار فعل. ودخلت الفاء في الخبر للإبهام الذي في " ما ".
ومعنى الآية ما أعطاكم الله [سبحانه] من مال وصحة جسم وولد فهو من فضله، لا من فضل غيره.
{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}.
أي: إذا مسكم في أبدانكم ضر وشدة، فإلى الله تصرخون بالدعاء، وبه تستغيثون في كشف ذلك [عنكم]. يقال: جأر، إذا رفع صوته شديداً من جوع(6/4012)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
أو غيره، والأصوات مبنية على فُعَال وعلى فَعِيل نحو الصراخ والخوار والبكاء. ونحو العويل والزفير، والفعال أكثر.
أي ثم إذا وهبكم العافية وفرج عنكم إذا جماعة منكم يشركون بربهم. أي: يجعلون له أنداداً يعبدونها ويذبحون لها الذبائح شكراً لغير من أنعم عليهم بالفرج.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}.
ليجحدوا بما أتاهم الله [ عز وجل] من نعمته، التي فرج عنهم بها.(6/4013)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
هذا وعيد وتهدد من الله [ عز وجل] لهؤلاء الذين تقدم وصفهم، أي: فتمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم وتلقون ربكم.
قال الزجاج: و {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] هذا خاص لمن كفر.
قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ [نَصِيباً]}.
المعنى: ويجعل هؤلاء المشركون لما لا يعلمون، أنه لا يضرهم ولا ينفعهم نصيباً مما رزقهم الله، يعني: لأوثانهم. قال قتادة: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم نصيباً وجزءاً مما رزقهم الله من أموالهم.
وقيل: يعلمون الآلهة التي كانوا يعبدونها، وهي " ما " فيعلمون ردها على معنى " ما ". / وأتى بالواو والنون لأنهم كانوا قد أجروها مجرى من يعقل في(6/4014)
جعلهم لها نصيباً من [م [زروعهم. فمفعول " يعلم " محذوف. تقديره: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئاً نصيباً. وعلى القول الأول " يعلمون " للكفار. وفيه ضميرهم، أي: هؤلاء الكفار يجعلون نصيباً للأصنام التي يعلم الكفار أنها لا تنفع ولا تضر. ومثله في الأخبار عن الأصنام بالواو والنون قوله:
{وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 198] فالنظر للأصنام. وقيل للكفار وقد تقدم شرحه.
وقال ابن زيد: جعلوا لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام يسمون عليها [أ] سماءها ويذبحون عليها. وهو قوله تعالى في الأنعام عنهم: {بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136].
ثم قال تعالى: {تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}.
أي: والله يا أيها المشركون لتسئلن يوم القيامة عما كنتم تختلفون في الدنيا علي(6/4015)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
من الكذب فتعاقبون على ذلك.
قال الزجاج: معناه لتسئلن توبيخ حتى تعترفوا به على أنفسكم وتلزموها الحجة.
قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ} أي: ومن جهل هؤلاء المشركين، وافترائهم على ربهم [سبحانه] أنهم يجعلون له البنات ولا ينبغي أن يكون له ولد لا ذكر ولا أنثى {سُبْحَانَهُ} أي تنزيهاً له عما يقولون.
ثم قال [تعالى]: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ}.
أي: أضافوا إليه ما يكرهون، فما كفاهم ما أضافوه إليه من الولد حتى جعلوا له ما لا يرضونه لأنفسهم وما يقتلونه إذا أتاهم، فأضافوا إليه ما يكرهون لأنفسهم وهن البنات، وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون وهم البنون.
قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً}.(6/4016)
أي: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بولادة ما قد أضافه إلى الله [سبحانه] ظل وجهه مسوداً كراهية لذلك {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: قد كظمه الحزن وامتلأ غماً بولادتها وهو لا يظهر ذلك. والكظيم الذي يخفي غيظه ولا يشكو ما به، وهو فعيل بمعنى فاعل، كعليم. قيل الذي حسب في نفسه وعظمه هو ما فسره بعد ذلك من قوله: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} فهذا عظم في نفسه.
وقيل معنى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أي: ظل كئيباً مغموماً بذلك. والعرب تقول لكل مغموم قد تغير لونه من الغم، واسودّ وجهه: كظيم.
وقال قتادة أخبرهم الله [ عز وجل] بخبيث أعمالهم، فأما المؤمنون فراضون بما(6/4017)
قسم الله [ عز وجل] لهم. قال ابن عباس: الكظيم الحزين. وقال الضحاك: هو الكمد.
ثم قال تعالى: {يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ}.
أي: يستتر هذا المبشر / بالأنثى من القوم فيغيب عن أبصارهم من سوء ما بشر به عنده.
رويَ أن [ال] رجل كان في الجاهلية يتوارى إذا حضر وقت الولادة أو قبله فإن ولد له ذكر سر به وظهر، وإن كانت أنثى استتر وربما وأدها، أي دفنها حية، وربما أمسكها على كراهية وهوان. وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب}.
ثم قال [تعالى]: {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
أي: بئس الحكم حكمهم، يجعلون لله ما لا يرضون لأنفسهم، وما لا يجوز(6/4018)
أن يكون له ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون.
والهون والهوان في لغة قريش. وبعض [بني] تميم يجعل الهون مصدراً للشيء الهين.
وقرأ عاصم الجحدري " أم يدسها ورده على الأنثى.
وكان يلزمه أن يقرأ: {أَيُمْسِكُهُ}. وقرأ عيسى بن عمر " أيمسكها على هوان " وقرأ الأعمش: " أيمسكه على سوء ".(6/4019)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قال تعالى {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء}.
والمعنى: للذين لا يصدقون بالآخرة المثل السوء، وهو القبيح، وهو ما يسوء من ضرب له.
{وَلِلَّهِ المثل الأعلى}.
[أي]: الأفضل والأكمل والأحسن وهو التوحيد. قال قتادة: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: [هو] الواحد الصمد الحليم الفرد العزيز الذي لم يلد ولم يولد.
{وَهُوَ العزيز}.
أي: ذو العزة الذي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء وغيرهم ممن يريد عقوبته على عصيانهم. {الحكيم} في تدبيره، فلا يدخل تدبير [هـ] خلل ولا خطأ.(6/4020)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
وقيل هي كلمة الوحدانية وصفتها أحد، صمد، فرد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً، أحد.
قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ}.
أي: لو أخذ الله عصاة بني آدم لمعاصيهم، ما ترك على الأرض أحداً ممن [يدب] {ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} أي: إلى وقتهم الذي كتب لهم ووقت. فإذا جاء ذلك الأجل الذي وقت لهلاكهم، لم يستأخروا عن الهلاك ساعة ولم يستقدموا ساعة قبله. قال بعضهم: كاد الجُعَل أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ:
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} الآية. وسمع أبو هريرة رجلاً يقول: أن الظالم لا يضر إلا بنفسه. فالتفت إليه أبو هريرة فقال: بلى والله، إن الحبارى لتموت في(6/4021)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
وكرها هزالاً بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: خطيئة ابن آدم قتلت الجعل.
قوله {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}.
قوله: {أَلْسِنَتُهُمُ} جمع لسان على لغة من ذكره. ويجمع إلى ألسن على لغة من أنثه. ولو سميت بالسن لم ينصرف في المعرفة خاصة للتعريف ولأنه على وزن الفعل إذا قلت: أنا أخرج وأنا أدخل، ولو سميت بالسنة لم تنصرف على كل حال.
ومعنى الآية: ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهون لأنفسهم. وذلك جعلهم له البنات وهم يكرهونها {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي الجنة: أي: يكذبون فيدعون أن لهم الجنة.
{لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار}.
أي: وجب أن لهم النار، وقال مجاهد: {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} هو: قول كفار قريش لنا البنون / ولله البنات. وقال قتادة: الحسنى هنا الغلمان.(6/4022)
وقرأ بعض الشاميين " ألسنتُهم الكُذْب " بالرفع، جعله نعتاً للألسنة، وبناه على فُعُل جعله جمع كذوب " وأن " عند قطرب في موضع رفع بجرم لأنه بمعنى: وجب أن لهم. وعند غيره في موضع نصب بجرم لأنه بمعنى كسب، أي: كسب لهم ذلك أن لهم النار، وما بعدها رد لما قبلها، وقد تقدم ذكره {لاَ جَرَمَ} في سورة هود بأشيع من هذا.
وقال ابن عباس {لاَ جَرَمَ} معناه: بلى أن لهم. وقيل: واجباً أن لهم.
وقوله: {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ}.(6/4023)
من قرأ بفتح الراء، فمعناه عند الحسن: معجلون إلى النار. وقال ابن جبير، منسيون فيها، متركون فيها. قال مجاهد: منسيون. وفي الحديث " أنا فَرْطُكُم على الحوض " [أي] متقدمكم إليه حتى تردوا علي. وأفرطته أقدمته. وقال أبو عبيدة والكسائي معناه: متركون في النار.
فأما من قرأ بكسر الراء فمعناه: مبالغون في الإساءة. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه وبالغه في الشر.(6/4024)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
وقرا أبو جعفر " مفرِّطون "، بالتشديد وكسر الراء ومعناه: مضيعون ما ينفعهم في الآخرة. وتصديقه قوله: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56].
قال تعالى: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}.
أي: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلاً من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي: حسنها لهم حتى كذبوا الرسل.
{فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم}.
أي: والشيطان وليهم، أي: ناصرهم اليوم في الدنيا. ولهم في الآخرة عذاب أليم. وقيل: إنه يقال لهم: هذا الذي أطعتموه فاسألوه حتى يخلصكم [تبكيتاً(6/4025)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
لهم و] تأنيباً وتوبيخاً لهم. فيكون قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} إشارة إلى يوم القيامة.
وهذا كله تعزية للنبي [ صلى الله عليه وسلم] وتصبير له إذا كذبه قومه، فأعلمه الله [ عز وجل] أنه قد فعل ذلك بمن أرسل قبله فيتأسى النبي [ صلى الله عليه وسلم] بذلك ويزداد صبراً.
قال تعالى ذكره {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}.
أي: وما أنزلنا عليكم الكتاب يا محمد وجعلناك رسولاً إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه من دين الله [ عز وجل] فتعرفهم الصواب منه من الباطل والهدى والرحمة. فهدى ورحمة مفعولان من أجلهما.
قال تعالى: {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ}.
أي: والله أنزل من السماء مطراً فأحيى به الأرض الميتة وهي التي لا نبات فيها(6/4026)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
وحياتها بكون النبات فيها.
وهذا كله تنبيه من الله [ عز وجل] لخلقه على صنعه ولطفه ونعمه وإلا لا يفعل ذلك غيره وأن من كان مفرداً / باختراع هذه الأشياء لا تصلح العبادة إلا له لا إله إلا هو، وفيه إشارة على إحياء الموتى كما أحيى الأرض بعد موتها.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
أي: [إن] في أحياء الأرض بالنبات بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها لعلامة ودليلاً على توحيد الله [ عز وجل] ، وإحياء الموتى لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه.
قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}.
قوله: {نُّسْقِيكُمْ} مَنْ ضَمَّ النون، أو فَتَح، فهما لغتان عند أبي(6/4027)
عبيدة. وقال الخليل وسيبويه: سقيته ناولته، وأسقيته جعلت له سقياً.
وقوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} يذهب سيبويه أن العرب تخبر عن الأنعام بخير الواحد. وقال [الكسائي معناه نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا. فذكر على ذلك. وقال] الفراء: الأنعام والنعم واحد فرجع هنا إلى تذكير النعم. وحكى عن العرب: هذا نعم وارد.
وقال أبو عبيدة: معناه نسقيكم مما في بطون أيها كان [ذا] لبن لأنها ليست كلها لها [لبن]. وعن الكسائي أن التذكير على البعض أي نسقيكم مما في(6/4028)
بطون بعض الأنعام. وقيل: المعنى: أن التذكير إنما جيء به لأنه راجع على ذكر النعم، لأن اللبن للذكر منسوب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللبن للفحل " وبذلك يحكم أهل المدينة وغيرهم في حكم الرضاع.
ومعنى الآية: وأن لكم لعظة في الأنعام التي نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم. والفرث ما يكون في الكرش من غذائها. ويقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. لبنا خالصاً: أي خلص من مخالطة الفرث والدم.
والمعنى: أن الطعام يكون منه [ما] في الكرش، ويكون منه الدم، فيخلص اللبن من الدم.(6/4029)
ومعنى: {خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} أي: يسوغ لمن شربه، ولا يغص به. وقيل: معناه: سهلاً لا يشجى به من شربه متساغ في الحلق لا يساحه [فيه] مرارة.
وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط.
وهذه الآية تدل على فساد قول من يقول: أن المني إنما نجس لسلوكه مسلك البول [فهذا اللبن يسلك مسلك البول] وهو طاهر. وهذا إنما يصح على قول: من يرى أن أبوال الإبل والبقر والغنم غير طاهرة. ولا يلزم من قال: إن أبوالها(6/4030)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
طاهرة.
قال تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}.
معناه: ولكم أيضاً أيها الناس عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. و " ما " محذوفة من الكلام. والمعنى من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. وإنما جاز الحذف لدلالة " من " عليها لأن " من " تقتضي التبعيض، فدلت على الاسم المبعض فحذف.
وقال بعض البصريين التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون، وحذف شيء لدلالة الهاء في " منه " عليه.
فأما " السكر " [ف] قال / ابن عباس: " السكر " ما حرم الله [ عز وجل] من(6/4031)
شرابه، و " الرزق الحسن " ما أحل من ثمرته، يعني: الزبيب والتمر. وقال [به] ابن جبير ومجاهد. وقال الحسن: ذكر نعمته في السكر قبل تحريم الخمر. وقال قتادة: السكر خمور الأعاجم، والرزق الحسن مما تنتبذون وما تخللون وما تأكلون.
وهذا منسوخ عند أكثر العلماء، وهو قول: مجاهد وابن جبير والشعبي.
والذي عليه أهل النظر: إن هذا لا يجوز نسخه لأنه خبر، وليس بأمر فينسخ، وإنما نزلت هذه الآية قبل أن تحرم الخمر. أخبرنا الله [ عز وجل] أنهم يتخذون [به] ذلك. فلم يأمرنا بشربها، إنما هو خبر عما أنعم عليهم به وقد قال أبو عبيدة(6/4032)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
السكر: الطعم يعني: الزبيب، والعنب، والثمر والرطب. وقال غيره السكر ما يسد الجوع مشتق من سكرت النهر إذا سددته.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
أي: إن في ما ذكر من النعم التي أنعمها عليهم لدلالة واضحة لقوم يعقلون عن الله [ عز وجل] حججه [و] يفهمون عنه [سبحانه] مواعظه [جلت عظمته].
قال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً}.
أي: ألهم ربك يا محمد النحل بأن تتخذ من الجبال بيوتاً {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.(6/4033)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
يعني الكروم، وقيل: " يعرشون " يبنون من السقوف.
{فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً}.
أي: طرق ربك، {ذُلُلاً} أي: متذللة. وقال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان سلكته. فيكون على هذا التأويل " ذللاً " حالاً من السبل، وعلى القول الأول: حالاً من الضمير في اسلكي، وهو قول: قتادة، لأنه قال: معناه: فاسلكي سبل ربك مطيعة. وقال ابن زيد: الذلول: الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون وهي بينهم. ثم قرأ:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]. فيكون ذللاً على هذا(6/4034)
التأويل حالاً من النحل. واختار الطبري أن يكون حالاً من السبل لقربه منها.
وقوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، أي: منه أبيض وأحمر.
وقوله: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ}.
قال مجاهد: الهاء في فيه ل [ل] قرآن، وقال [به] الحسن والضحاك، أي: فيما قصصنا عليك من الآيات شفاء للناس، وقيل: الهاء عائدة على العسل، قال: قتادة.
وقيل " للناس ": عام يراد به الخصوص. والمعنى: لبعض الناس، لمن قدر الله [ عز وجل] له أن يشفى بالعسل.(6/4035)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار أنه العسل، وهو قول: ابن عباس. وقال: ابن مسعود: عليكم بالشفاءين فإن الله جعل في القرآن شفاء وفي العسل شفاء. وقال: " العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور " وكان ابن عمر لا يشكو قرحة، ولا شيئاً، إلا وجعل عليها العسل حتى الدمل إذا كان به طلاه بعسل، / فقيل له في ذلك فقال: أليس الله [ عز وجل] يقول: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ}.
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض، فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال [نعم]: ايتوني بماء سماء فإن الله يقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا} [ق: 9]. وايتوني بزيت فإن الله يقول:(6/4036)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] فجاء بذلك، فخلطه جميعاً [ثم شربه] فبرئ.
ثم قال [تعالى] {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
أي: إن في إخراج العسل من أفواه النحل كما يخرج الريق من فم أحدكم على اختلاف مطاعمها ومراعيها إذ ترعى حامضاً ومراً وما لا طعم له، ثم تهتد [ي] إلى سلوك السبل وترجع إلى بيوتها، لدلالة وحجة لمن تفكر في ذلك فيعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن العبادة لا تكون إلا له، لا إله إلا هو.
قوله: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}.
أي: والله خلقكم أيها الناس فأوجدكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يتوفاكم أي: يميتكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر}.(6/4037)
[أي]: ومنكم من يهرم فيصير إلى أرذل العمر، أي: إلى أرداه. وقيل: إنه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة. قال علي بن أبي طالب [رضي الله عنهـ]: أرذل العمر خمس وسبعون سنة.
لكن المسلم إذا صار إلى أرذل العمر ازداد مع طول العمر عند الله كرامة وأجراً، كما قال [في] سورة والتين والزيتون: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] يعني: آدم خلقه في أحسن صورة، ثم قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] يعني: الكافر من ولد آدم ثم استثنى المؤمنين من ولد آدم فقال: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]. أي: غير مقطوع عنهم وذلك إذا ضعف الرجل المسلم عن الصلاة النافلة والصيام النافلة وما هو رضى(6/4038)
لله [ عز وجل] أجرى الله [سبحانه] عليه ثواب ذلك في كبره ولذلك قال: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] أي: إذا فعل ذلك بالمؤمنين فهو أعدل العادلين.
ثم قال: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}.
أي: يرد إلى الهرم ليصير جاهلاً بعد أن كان عالماً. يعني: الخرف والخفة التي تدخل الشيوخ، وتحدث فيهم فيصيرون كالصبيان.
فهذا تنبيه من الله عز وجل للخلق أن الله [سبحانه] نقلهم من جهل إلى علم. ثم من علم إلى جهل، ومن ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف. فهو يقدر على أن ينقلكم من حياة إلى موت ثم من [موت إلى] حياة، فكل ذلك بيده.
ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.
أي، أنه عليم [قدير] لا ينسى شيئاً ولا يتغير علمه بعلم ما كان وما يكون،(6/4039)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قدير على ما يشاء.
قال تعالى: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق}.
أي: فضل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا فما الذين فضلهم الله [ عز وجل] على غيرهم في الرزق براد [ي] رزقهم على مماليكهم فيستوون فيه [هم] و/ مماليكهم، فهذا لا يرضونه لأنفسهم فيما رزقهم الله [ عز وجل] من المال والأزواج [وقد جعلوا] عبيد الله [سبحانه] شركاء في ملكه، فجعلوا له ما لا يرضونه لأنفسهم.
هذا كله مثل ضربه الله [ عز وجل] لهم في عبادتهم الأصنام من دون الله [سبحانه]. فهو خطاب وتوبيخ وتقريع للمشركين. فالمعنى أنتم لا(6/4040)
يش [ر] ككم عبيدكم فيما أنعم الله به عليكم من المال ولا ترضون بذلك لأنفسكم فتكونون أنتم وعبيدكم في ذلك سواء، فكيف رضيتم بأن جعلتم لله [سبحانه] شركاء من خلقه، فعبدتم معه غيره؟ فإذا كنتم تأنفون من مساواة عبيدكم بكم فيما في أيديكم [من رزق الله] فكيف رضيتم لرب العالمين بمساواة خلقه له فعبدتموهم؟
وقيل: عنى بذلك الذين قالوا المسيح ابن الله من النصارى.
ثم قال [تعالى] {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ}.
[أي]: يجحدون نعمة الله عليهم فيجعلون له شركاء من خلقه. قال ابن عباس في الآية: معناها: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، وهو معنى قول قتادة. وقيل: معنى الآية أن(6/4041)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
من فضله الله [ عز وجل] في الرزق لا يشارك فيه مملوكه وهو بشر مثله، فكيف شركتم بين الله [ عز وجل] وبين الأصنام فجعلتم له نصيباً وللأصنام نصيباً؟ فلم يحسن عندكم أن تشاركوا عبيدكم [فيما رزقهم] [وأنتم] كلكم بشر ويحسن أن تشاركوا بين الله [سبحانه] والأصنام وليست كمثله، لأنها مخلوقة. فإذا نزهتم أنفسكم عن مشاركة عبيدكم فيما رزقهم الله [سبحانه] فالله [ عز وجل] أحق أن تنزهوه عن مشاركة الأصنام.
قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}، [أي]: والله خلق زوجة آدم من ضلعه، قاله: قتادة.
وقيل معناه: جعل لكم من جنسكم أزواجاً.
ثم قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}.(6/4042)
قال ابن مسعود: الحفدة: الاختان. وهو قول ابن عباس وابن جبير. وعن ابن عباس: أنهم الأصهار. وقال محمد بن الحسن: الختن الزوج ومن كان من ذوي رحمه، والصهر من كان من قبل المرأة من الرجل. وقال ابن الأعربي ضد هذا القول في الأختان والأصهار. وقال [الأ] صمعي الختن من كان من الرجال من قبل المرأة والأصهار منهما جميعاً، وقيل: الحفدة أعوان الرجل(6/4043)
وخدمه.
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن الحفدة في الآية فقال: من أعانك فقد حفدك. [و] قال عكرمة: الحفدة الخدام.
[و] عنه أيضاً الحفدة من خدمك من ولدك. وعن مجاهد أنه قال: الحفدة ابن الرجل وخادمه وأعوانه. وعن ابن عباس أيضاً هم ولد الرجل وولد ولده. وقال ابن زيد وغيره: هم ولد الرجل [و] الذين يخدمونه. وعن ابن عباس: أنه قال: هم بنو امرأة الرجل من غيره.
والحفدة: جمع حافد كفاسق / وفسقة، والحافد في كلام العرب المتخفف في الخدمة والعمل ومنه قولهم، وإليك نسعى ونحفده، أي: نسرع في العمل بطاعتك.(6/4044)
ثم قال [تعالى] {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات}.
أي: من خلال المعاش.
{أفبالباطل يُؤْمِنُونَ}.
أي: [أ] فبما يحرم عليهم الشيطان من البحائر والوصائل يصدق هؤلاء المشركون.
وقيل معناه: أفبالأوثان والأصنام يؤمنون.
{وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ}.
أي: وبما أحل الله لهم من ذلك يكفرون، وأنعم عليهم بإحلاله لهم، هم يكفرون أي ينكرون تحليله ويسترونه.(6/4045)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً}:
المعنى: ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله [سبحانه]، أوثاناً لا يملكون لهم رزقاً " من السماوات " أي: لا تنزل مطراً لإحياء الأرض. " والأرض " أي: ولا تملك لهم أيضاً رزقاً من الأرض، لأنها لا تقدر على إخراج نباتها وثمارها لهم.
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}.
أي: لا تملك أوثانهم شيئاً من السماوات والأرض.
و {رِزْقاً} نصب بيملك. و {شَيْئاً} نصب برزق. وكان أصله: رزق شيء كما يقول: ضرب زيد فلما فرق بينهما انتصب شيء لأنه مفعول به برزق. وهو مثل قول الشاعر:(6/4046)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
فلم أنكل عن الضرب مسمعاً. ... كان أصله: عن ضرب مسمع، فلما [أ] دخل الألف واللام امتنعت الإضافة فانتصب المفعول به ومثله في التنوين: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وأمواتا} [المرسلات: 25 - 26] كان أصله كفاتاً إحياء وأموات [أي جمع أحياء وأموات]. والكفت الجمع والضم، أي: تجمعهم وتضمهم على ظهرها أحياءً وفي بطنها أمواتاً فلما نون {كِفَاتاً} انتصب {أحْيَآء وأموات} على المفعول به، والعطف عليه، وله نظائر، وهو أصل من أصول العربية.
وقد منع بعض البصريين أن يعمل " رزق " في " شيء " لأنه اسم، وليس بمصدر، وقال ينتصب " شيء " على البدل من " رزق ".
قال [تعالى] {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال}.
قال الضحاك، معناه: لا تعبدوا من دون الله ما لا ينفعكم، ولا يضركم، ولا يرزقكم. وقال ابن عباس: هو اتخاذكم الأصنام. يقول تعالى ذكره: لا تجعلوا معي(6/4047)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
إلهاً غيري.
وقيل معناه: لا تمثلوا الله [سبحانه] بخلقه فتقولوا: هو يحتاج إلى شريك ومشاور فإن هذا إنما يكون لمن لا يعلم ودل على هذا المعنى قوله [ عز وجل] :
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وقيل معناه: لا تمثلوا خلق الله به، فتجعلوا له من العبادة مثل ما لله [سبحانه].
قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} الآية.
هذا مثل ضربه الله [ عز وجل] للكافر والمؤمن، قال قتادة: قوله: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ}، هذا مثل ضربه الله [ عز وجل] للكافر رزقه الله مالاً، فلم يقدر فيه على [خير]، ولم يعمل فيه بطاعة الله [ عز وجل] ثم قال [تعالى]: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً}(6/4048)
فهذا للمؤمن أعطاه الله مالاً يعمل فيه بطاعته فأخذ فيه بالشكر ومعرفة الله [ عز وجل] ، فأثابه الله [سبحانه] على / ما رزقه [في] الجنة.
ثم قال: {هَلْ يَسْتَوُونَ}.
أي: هل يستوي هذان وهما بشران؟ فكيف سويتم أيها المشركون بين الله وبين الحجارة التي لا تعقل ولا تنفع ولا تضر.
وقيل: " العبد المملوك " أبو جهل بن هشام، و {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ لا يستويان.
وقيل: " العبد المملوك " الصبي لأنه عاجز مربوب {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} مثل لله رب العالمين، لأنه يرزق المخلوقين ويلطف بهم من حيث [يعلمون ومن حيث] لا يعلمون، وهذا قول: مجاهد، قال مجاهد: هو مثل لله الخالق ومن يدعى(6/4049)
من دونه من الباطل.
ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} وهو المطبق الذي لا ينطق ولا يسمع. {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي: على وليه {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: هل يستوي القادر التام التمييز، والعاجز الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يأتي بخير؟ فهما لا يستويان عندكم لاختلاف أحوالهما، وهما بشران، فكيف سويتهم بين الله [سبحانه] والأحجار؟.
وقال مجاهد والضحاك: هذا مثل لله [ عز وجل] ومن عبد من دونه. وقال(6/4050)
قتادة: هو للمؤمن والكافر.
وقال ابن عباس: أنزلت هذه الآية: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} في هشام بن عمر، وهو الذي لا ينفق، ومولاه أبو الجوزاء الذي كان ينهاه.
وقوله: {[وَ] ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} الأبكم منهما: الكل على مولاه أسيد بن أبي العاصي، والذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم عثمان بن عفان.
وقيل: الأبكم يعني به أبي بن خلف هو كالأبكم إذ لا ينطق بخير، وهو كل على قومه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} يعني: حمزة بن عبد المطلب.(6/4051)
وقيل: هو مثل ضربه الله [ عز وجل] لنفسه والصنم المعبود من دونه وهو الأبكم والفاض هو مثل لله.
وقيل الفاضل من الرجلين عثمان بن عفان رضي الله [عنه] والأبكم مولى له كافر، قال: ابن عباس.
وقال مجاهد: الذي يأمر بالعدل، هو الله [ عز وجل] والأبكم ما يدعون / من دونه من الأصنام.
قوله: {الحمد لِلَّهِ}.
أي: الحمد الكامل لله دون من يدعا من دونه من الأوثان.
قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
أي: فعلهم فعل من لا يعلم، وإن كانوا يعلمون. وقيل معناه: أنهم لا يعلمون وعليهم أن يعلموا.
وقيل إن قوله: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} إنما هو مثل للصنم لا يسمع ولا ينطق.(6/4052)
{وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي: كَلُّ على من يعبده ويلي أمره، يحتاج أن يخدمه ويحمله ويضعه.
{أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ}.
أي: لا يفهم ما يقال له فيأتمر لمن أمره، ولا يأمر ولا ينهى.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل}.
أي: هل يستوي هذا الصنم، والله الواحد القهار الذي يدعو إلى التوحيد وهو على صراط مستقيم. قاله: قتادة. وقيل: هذا المثل أيضاً إنما هو للمؤمن والكافر.
واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية أن العبد لا يملك. ومن جعل الآية مثلاً(6/4053)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
لله [سبحانه] والصنم لم يكن فيها حجة [له] في العبد.
قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}.
المعنى: [لله] ما غاب عن أبصاركم في السماوات والأرض دون ما سواه.
{وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ [كَلَمْحِ] البصر}.
أي: وما قيام الساعة، التي ينشر فيها الخلائق للبعث، إلا كنظرة من البصر، أو أقرب من نظرة. لأن ذلك إنما هو، أن يقال له: كن، فيكون. وهذا إنما هوصفة لسرعة القدرة على بعث الخلق وإحيائهم، كما يقال في تمثيل السرعة ما بين الشيء والشيء: ما بين الحر والقر إلا نومة، وما بين السنة والسنة إلا لحظة. فهذا يراد به السرعة. والمعنى: أن الساعة في مجيئها للوقت الذي لا مدفع له بمنزلة لمح البصر. ومثله(6/4054)
في القرب على التمثيل {سَيَعْلَمُونَ غَداً} [القمر: 26] فسمي يوم القيامة [غداً] على تمثيل القرب إذ لا مدفع له عن وقته. فالقيامة كغد لوقوعها لا محالة كوقوع غد. وقيل: إنها تقوم على الحقيقة في أقرب من لمح البصر، ودلأل] على ذلك قوله: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف: 187].
وقيل معناه: وما أمر الساعة عندنا إلا كلمح البصر لا عندكم، كقوله:
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] أي: عجب عندكم وعند من سمعه لا عندي ويدل على هذا التأويل قوله: {يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6 - 7].
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
أي: [إن] الله قدير على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر، وعلى ما يشاء لا يمتنع عليه شيء من الأشياء كلها.(6/4055)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قال [تعالى]: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}.
معناه: والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون وأنتم في بطون أمهاتكم، ورزقكم عقولاً تفهمون بها الأشياء، وتميزون بين الخير والشر، وجعل لكم السمع لتسمعوا به أوامر الله، ونواهيه، ومواعظه، فتعلمون وتتعظون.
وهذا يدل على أن الواو لا توجب رتبة لأنه ذكر جعله للسمع والبصر والفؤاد / بعد الخروج من البطن، وذلك لم يكن إلا في البطن. فالواو لا توجب رتبة، بل ما بعدها يكون قبل ما قبلها. لا يجوز إلا هذا بهذه الآية، ونظيرها كثير في القرآن يدل على أنها لا ترتب ما بعدها بعدما قبلها، بل قد يكون بعده وقبله. ويجوز أن يكون الباقي مبتدأ غير معطوف. والأبصار لتبصروا بها آياته ونعمه فتشكروا وتعلموا أن الله الخالق وحده لا إله إلا هو، والأفئدة ليفهموا بها، وهي القلوب.(6/4056)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أي: فعل ذلك بكم لعلكم تشكرون نعمه عليكم.
قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات فِي جَوِّ السمآء}.
أي: ألم يَرَ هؤلاء المشركون إلى الطير، تطير في جو السماء أي: في هواء السماء وهو ما بَعُدَ من الأرض وأبعد منه من الأرض السكاك واحدها سكاكة.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله}.
أي: [ما طيرانهن إلا بالله] وبما أعطاهن من القدرة على ذلك ولو سلبهن القدرة لم يطرن.
{إِنَّ فِي ذلك لأيات}.
أي: إن في تسخير الله الطير في الهواء لعلامات على توحيد الله [ عز وجل] لقوم يؤمنون بالله [سبحانه]، قال قتادة: في جو السماء في كبد السماء.(6/4057)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ [سَكَناً]}.
[أي]: جعل لكم موضعاً تسكنون فيه أيام مقامكم.
وقيل: معناه جعل لكم من بيوتكم ما تسكن إليه أنفسكم من ستر العورة والحرم فتهدأ فيه جوارحكم.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام} يعني: من جلود الإبل والبقر والغنم {بُيُوتاً} خفافاً عليكم تحملونها معكم في أسفاركم وهو: الظعن. وتنتفعون بها في إقامتكم، وهي: البيوت من الأنطاع والشعر والوبر والصوف.
ثم قال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً}.
أي: جعل لكم من هذه الأشياء متاعاً.(6/4058)
وواحد الأثاث أثَاثَة، والأثاث متاع البيت. وقيل: لا واحد له.
وعن ابن عباس: الأثاث: المال. وكذلك قال قتادة. وقيل الأثاث: الثياب.
وهو متاع البيت عند أهل اللغة، كالأكسية والفرش، وهو مأخوذ من قولهم: شعر أثيث، إذا كان كثيراً ملتفاً. ويقال أث الشعر يئث أثاً إذا كثر والتف. وقد أث البيت يئث أثاً إذا صار ذا أثاث. فسمي متاع البيت أثاثاً لكثرته واجتماعه. والأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز.
وقوله: {وَمَتَاعاً إلى حِينٍ}.
أي: تتمتعون به وتنتفعون إلى آجالكم.(6/4059)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً}.
يعني: الأشجار والجبال تستظلون بها من الحر والبرد والمطر وقيل: هو السحاب والغمام يظل الناس.
{مِّنَ الجبال أَكْنَاناً}.
أي: جعل لكم من الجبال والسهل، ولكن حذف السهل لدلالة الكلام عليه. {أَكْنَاناً} جمع: كن يعني غيرانا يسكن فيها.
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} والبرد وحذف / البرد لدلالة الحر عليه.
[كما قال أريد الخير أيهما يليني
فحذف الشر لدلالة الخير] [عليه].(6/4060)
والسرابيل جمع سربال. والسربال كل ما لبسته من قميص ودرع وغيره، يعني: من القطن، والكتان والصوف.
{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}.
يعني: الدروع من الحديد. والبأس هنا الحرب. والمعنى في هذا: خلق لكم ما تتخذون منه هذه السرابيل وأقدركم على عمله وألهمكم ذلك.
فهذه كلها نعم من الله ينبه خلقه عليها ليشكروا الله على ذلك ويعلموا أنه المنفرد بخلق ذلك المدبر لمصالح عباده، فلا تجب العبادة إلا له.
وإنما خص الجبال بالذكر لأنهم كانوا أصحاب [جبال] في بلدهم فخوطبوا بما يعرفون. وترك السهولَ وما فيها أيضاً من الأكنان لدلالة الكلام عليه. وخص ذكر الحر: لأن أكثر زمان العرب في أرض الحجاز وما يليها الحر. فخص ذلك لما(6/4061)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
يعلمون من ضرره عندهم وترك ذكر البرد لدلالة الحر عليه. وخص ذكر الأصواف والأوبار والأشعار لأنهم كانا أصحاب إبل وغنم ومعز فخوطبوا بما بعقلون. وترك ذكر القطن، والكتان، وغيره، مما يستعمل منه اللباس لدلالة الكلام عليه. ومن هذا قوله {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] فذكر البَرَد لأنهم كانوا يعرفونه فخوطبوا بما يعرفون وترك ذكر الثلج وهو أكثر نزولاً من البَرَد لأنهم كانوا يعرفونه في بلادهم.
ثم قال [تعالى] {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.
أي: أتم نعمته عليكم في هذه النعم المذكورة لتخضعوا لله بالطاعة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " تَسْلَمون " بفتح التاء واللام، أي لتسلموا من الحر والجرحات وغيرها.
أي: فإن أدبر هؤلاء المشركون عما أرسلناك [له] يا محمد من الحق فإنما عليك(6/4062)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
أن تبلغ الرسالة وتبين ما أرسلت له لمن سمعه حتى يفهمه.
قال [تعالى]: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}.
قال السدي: النعمة هنا: محمد [ صلى الله عليه وسلم] [ يعرفون أنه نبي مرسل وينكرون ذلك. ودل على أنها محمد]. قوله: قبل ذلك: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} [النحل: 82] يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هي ما عدده الله [ عز وجل] في هذه السورة من النعم يعرفون أن الكل من عند الله وهم ينكرون ذلك ويزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم، قال: مجاهد. وقيل:(6/4063)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
إنكارهم هنا للنعمة، قولهم: لولا فلان ما كان كذا. وقيل معناه: أن الكفار إذا قيل لهم من رزقكم؟ أقروا بأنه الله [ عز وجل] ، ثم ينكرون ذلك بقولهم: إنما رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
ثم قال /: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون}.
أي: أكثر قومك يا محمد الجاحدون للنعم ولنبوتك.
قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيد}.
المعنى: ثم ينكرونها وسينكرونها يوم نبعث من كل أمة شهيداً، أي: شهد عليهما بما أجابت به داعي الله [ عز وجل] وهو رسولهم الذي أرسل إليهم(6/4064)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
{ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني: لا يؤذن لهم في الاعتذار، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. أي: ولا يتركون الرجوع إلى الدنيا فيتوبوا ومثله قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] أي: بعذر {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36].
قال: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي: إذا عاين الذين كذبوا محمداً [ صلى الله عليه وسلم] عذاب الله [ عز وجل] فلا ينجيهم منه شيء {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ}.
أي: إذا رأى المشركون يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله سبحانه من الآلهة والأوثان {قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ}. أي: هؤلاء آلهتنا الذين(6/4065)
عبدنا من دونك حشر الله [ عز وجل] معهم أصنامهم وأوثانهم ليوبخهم ويعذبهم بها في النار وسموا شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وزروعهم وأنعامهم.
وقيل: سموا بذلك على معنى: هؤلاء شركاؤنا في الكفر [بك]، وقيل: إنما سموا بذلك لأنهم أحدثوا عبادتهم، أشركوهم في عبادة الله [سبحانه] فأضيفوا إليهم، إذ هم اخترعوا ذلك، [وقد] قال في موضع آخر: {شُرَكَآئِيَ} [الكهف: 52، القصص: 62و74، فصلت: 47]. فأضافهم إلى نفسه تعالى عن ذلك على طريق ما فعلوا: أي: شركائي عندكم وفيما زعمتم.
قوله تعالى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول}.
أي: ألقت الآلهة إليهم القول، أي: انطلقوا فقالوا: إنكم لكاذبون، ما كنا(6/4066)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
ندعوكم إلى عبادتنا ولا كنا آلهة.
قال مجاهد {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول}: قالوا بهم، ونظير هذا قوله:
{سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82].
وقيل: هم الملائكة الذين عبدوا من دون الله [سبحانه] قالوا للكفار إنكم لكاذبون في عبادتكم إيانا.
قال تعالى: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم}.
أي: استسلموا له وذلوا لحكمه فيهم، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وأخطأهم من آلهتهم ما كانوا يأملون من الشفاعة عند الله [ عز وجل] .(6/4067)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
قال تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب}.
أي: الذين كفروا بالله [سبحانه] وبرسوله [ صلى الله عليه وسلم] وصدوا عن الإسلام من أراده، زدناهم في جهنم عذاباً فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوا.
وقال ابن مسعود: الزيادة عقارب لها أنياب كالنخل الطوال تنهشهم. وَرَوَى عنه مُرة أنه قال / أفاعي. وعن ابن عمر أنه قال: لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت. وقيل: إنهم يخرجون من حر النار [إلى] برد الزمهرير فيتبادرون من شدة برد [هـ إلى النار] أعاذنا الله من ذلك. وقال السدي: الزيادة عقارب في النار أمثال: البغال، وحيات أمثال: الفيلة.(6/4068)
وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " زيدوا عقارب أمثال النخل تنهشهم في جهنم ".
قال مجاهد إن لجنهم جناباً، يعني: جانباً كالساحل، فيها حيات كأمثال أعناق [البخت]، وأنياباً لها كأنياب البغال فيهرب أهل النار من النار إلى جنابها فتشد عليهم العقارب فتأخذ شفاههم فتسقط ما بين الشفر إلى الظفر فما ينجيهم منها إلا الهرب إلى النار.
قال ابن مسعود: إنه ليسمع للهوام بين أطباق جلد الكافر في النار جلبة كما تسمع جلبة الوحش في البر. وإن غلظ جلده أربعون ذراعاً بذراع الجبار يعني: الملك.(6/4069)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وروى مجاهد عن ابن عمر أن النبي عليه السلام قال: " إنهم ليعظمون في النار حتى يصير ما بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة كذا وكذا، وإن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وضرسه أعظم من جبل أحد ".
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}.
أي: يفسدون في الدنيا بصدهم الناس عن الإسلام.
قال [تعالى]: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}.
أي: [واذكر يا محمد يوم نبعث من كل أمة شهيداً، أي]: نبعث إليهم نبيهم الذي أرسل إليها. ومعنى {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: من قبيلتهم لأنه تعالى أكثر ما أرسل الرسل إلى الأمم من قبيلتها.(6/4070)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
ثم قال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء}.
أي: على أمتك يا محمد الذين أرسلت إليهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} أي: القرآن.
{تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي: بياناً للناس لما بهم إليه من الحاجة [من معرفة] الحلال والحرام والثواب والعقاب {وَهُدًى} أي: هدى من الضلالة {وَرَحْمَةً} أي: ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ}، أي: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد.
قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان}.
المعنى: أن الله [ عز وجل] يأمر في الكتاب الذي أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم] بالعدل وهو الفرض والإحسان النافلة، وقيل: العدل الإنصاف. ومن الإنصاف الإقرار لمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على أفضاله وإخلاص العبادة له. وكذلك قال(6/4071)
بعض المفسرين: العدل هنا شهادة أن لا إله إلا الله. وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال ابن عيينة: العدل هنا استواء السريرة والعلانية من كل من عمل لله [ عز وجل] عملاً.
وقوله: {والإحسان} قال ابن عباس هو أداء الفرائض.
وقال ابن عينية الإحسان أن تكون سريرته أفضل من علانيته.
وقوله: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى}.
أي: إعطاؤهم الحق الذي أوجبه اله لهم في الفرائض وصلة الرحم.
{وينهى عَنِ الفحشاء}.
أي: عن كل قول وفعل قيبح. وعن ابن عباس الفحشاء هنا الزنى. وقال(6/4072)
ابن عيينة الفحشاء والمنكر هنا / أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
والمنكر في اللغة: كل ما ينكر من قول أو فعل.
وقوله: {والبغي} قال ابن عباس: البغي: الكبر والظلم. والبغي في اللغة: أشد الفساد. وقيل: البغي التعدي ومجاوزة القدر والحد.
ثم قال تعالى: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي: يوصيكم لعلكم تذكرون فتنتهوا إلى أمره ونهيه.
قال ابن مسعود: أجمع آية في القرآن لخيرٍ وشرٍ آية في النحل {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية.
وقال قتادة: ليس من خلق حسن، كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه(6/4073)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
إلا أمر الله [ عز وجل] به وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله [ عز وجل] عنه.
وقيل في قوله: {بالعدل} بألا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فهذا هو العدل الحق: {والإحسان} هو أن تعبده كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك. ومن الإحسان أن تحب لولد آدم كلهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك، إن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً أحببت له أن يؤمن فيكون أخاك في الإسلام. {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} صلة الرحم والقرابة بمالك أو بنفسك أو بدعائك له وبشرك في وجهه، {وينهى عَنِ الفحشاء} أي: عن ركوب المعاصي. {والمنكر} هو الشرك بالله {والبغي} هو أن تبغي على أخيك فتظلمه أو تغتابه فتبهته.
قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ}.
المعنى: وأوفوا أيها الناس بميثاق الله [ عز وجل] إذا أوثقتموه وبعقده إذا عاقدتموه(6/4074)
فأوجبتم على أنفسكم حقاً لمن عاقدتمه.
{وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
أي: لا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه بالإيمان بالله [ عز وجل] { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، أي: بعدما شددتم الإيمان فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي: جعلتموه كفيلاً عليكم في أيمانكم، [فلا تكذبوا فيها ولا تنقصوها].
وقد قيل: إنها عامة في كل عقد ويمين، وإن الأيمان منسوخة بإجازة الكفارة في المائدة عن اليمين.
وهذه الآية: نزلت فيمن بايع النبي [عليه السلام] على الإسلام لئلا تحملهم قلة من مع محمد [ صلى الله عليه وسلم] ، وكثرة المشركين على نقض ما عاهدوه عليه من البيعة.(6/4075)
وقال مجاهد: نزلت في الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية أمرهم الله [ عز وجل] في [الإسلام] أن يوفوا به ولا ينقضوه.
وقال ابن زيد: هؤلاء قوم كانو حلف [اء] لقوم، وقد تحالفوا وأعطى بعضهم بعضاً الميثاق، فجاءهم قوم فقالوا: نحن أكثر وأعز وأمنع فانقضوا عهد هؤلاء، فارجعوا إلينا وح [ا] لفونا، ففعلوا، فنهى الله [ عز وجل] عن ذلك بهذه الآية وهو قوله: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92].
ففي الكلم تقديم وتأخير وتقديره: وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً أن تكون أمة هي أربى من أمة، أي هي أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر عدداً نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء /.(6/4076)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وكذلك قال مجاهد أيضاً في رواية أخرى عنه. والكفيل الوكيل.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
[أي: ما تفعلون] في عقودكم وعهودك [م].
قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}.
والمعنى: أن الله [ عز وجل] نهى عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها فيكونون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أي من بعد إحكامه وإبرامه.
روي أن امرأة حمقاء كانت تفعل ذلك بمكة فكانت إذا أبرمت غزلها نقضته. وقيل: هي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد كانت تغزل بمغزل كبير فإذا أبرمته وأحكمته أمرت جاريتها فنقضته. وقيل: هي امرأة اسمها حطية كانت بمكة(6/4077)
وكان بها وسوسة، وكانت تغزل عند الحجر يومها ثم تغدو فتنقضه، أي: تغزله جوانيا [ثم تنقضه برانيا].
وقيل: [هو] مثل، ولم يرد امرأة بعينها. والمعنى: لا تفعلوا هذا الفعل فتكونوا كامرأة نقضت غزلها بعد أن أحكمته. فلو بلغكم أن امرأة فعلت هذا لقلتم [ما] في الأرض أحمق من هذه. [هذا] معنى قول قتادة.
وقال قتادة: هو مثل ضربه الله [ عز وجل] لمن نقض العهد.
ومعنى: {دَخَلاً بَيْنَكُمْ} خديعة وغروراً. أي: لا تجعلوا أيمانكم خديعة وغروراً بينكم ليطمئن إليكم وأنتم مصرون على الغدر، وترك الوفاء فتنقضونها ولا توفون بها.
وقال الزجاج: {دَخَلاً} أي: غشاً و [غلاً]. وهو منصوب لأنه مفعول له.(6/4078)
أي: تتخذون الأيمان للدخل، أي: للغش والخديعة.
والدخل في اللغة [كل] عيب. يقال: هو مدخول أي معيب، وفيه دخل [أي] عيب.
ثم قال: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ}.
أي: تفعلون الغدر في أيمانكم لأجل كون أمة أكثر من أمة فتنقضون عهد الأ [ول] لقلتهم وتحالفون ألكثر لكثرتهم.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ}.
أي: إنما يختبركم [الله] بأمره إياكم بالوفاء والعهد بالأيمان ليتبين منكم(6/4079)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
المطيع المنتهي إلى أمر الله [ عز وجل] من العاصي المخالف أمره ونهيه.
ثم قال: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
أي: وليبين الله لكم يوم القيامة مجازاة كل فريق منكم على عمله في الدنيا.
واختلافهم هنا كون هؤلاء مؤمنين وهؤلاء كافرين. فهذا الذي اختلفوا فيه، فيوم القيامة يتبين لهم المصيب من المخطئ. فهو وعيد [لهم] من الله [ عز وجل] .
قال [تعالى]: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
أي ولو شاء الله للطف بكم بتوفيق من عنده فتصيرون أهل ملة واحدة. ولكنه خالف بينكم فجعلكم أهل ملل شتى، فوفق من يشاء لما يرضيه من الإيمان به وبرسله وكتبه، وخذل من شاء عن ذلك فكفر [به].(6/4080)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
ثم قال: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أي: تسألون عما عملتم في الدنيا في [ما] أمركم به ونهاكم / عنه.
قال: {وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ}.
أي: لا تتخذوا أيمانكم دخلاً وخديعة بينكم فت [غرون] بها الناس.
{فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}.
فتهلكون بعد أن كنتم من الهلاك آمنين، وهذا [مثل] لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة. يقولون زلت به قدمه.
ثم قال: {وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله}.
أي: وتذوقوا عذاب الله [ عز وجل] بصكم عن سبيل الله، أي: بمنعكم من أراد(6/4081)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
[عن] الإيمان {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في الآخرة.
قال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً}.
أي: لا تنقضوا عهودكم بعرض من عرض الدنيا وهو قليل: أنه لا بقاء له، إن الذي عند الله من الثواب في الآخرة لمن وفى بعهده {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل ما بين العوضين.
قوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ}.
والمعنى: ما عندكم أيها الناس مما تأخذونه على نقض الأيمان والعهود يفنى، وما عند الله باق لمن أوفى بعهده.
ثم قال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا}.
أي: وليثيبن الذين صبروا على الطاعة في السراء والضراء بأحسن ما كانوا يعملون من الأعمال دون أسوئها.(6/4082)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.
[أي]: من عمل بطاعة الله [ عز وجل] وهو مصدق بثواب الله [ عز وجل] وعقابه [جلت عظمته] فلنحيينه حياة طيبة: قال ابن عباس: الحياة الطيبة، الرزق الحلال في الدنيا، وكذلك قال الضحاك. وقال علي بن أبي طالب [رضي الله عنهـ]: هي القناعة في الدنيا. وعن الضحاك أنها أن يحيي مؤمناً عاملاً بطاعة الله. وعن ابن عباس أيضاً: أنها السعادة. وقال الحسن: هي الجنة ولا تطيب لأحد حياة دون الجنة، وهو قول قتادة ومجاهد.
وقوله بعد ذلك: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على [أن](6/4083)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
الحياة الطيبة في الدنيا هي، لأنه أخبر بما يفعل بهم في الدنيا ثم أعقبه بما يفعل بهم [في] الآخرة. ومعناه: لنجزينهم أجرهم في الآخرة بأحسن عملهم في الدنيا لا بأسوئه.
وروي: أن هذه الآية: نزلت بسبب قوم من أهل ملل شتى تفاخروا، فقال أهل كل ملة نحن أفضل، فبين الله [ عز وجل] فضل هذه الملل بهذه الآية، وروى ذلك أبو صالح.
معناه: إذا أردت يا محمد قراءة القرآن فاستعذ بالله. ومثله: إذا أكلت فقل بسم الله. أي إذا أردت الأكل. فحذف هذا لعلم السامع بمعناه. ومثله:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية. أي: إذا أردتم القيام إليها. لأن الوضوء إنما يكون قبل الصلاة لا بعدها.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ}.(6/4084)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
أي: ليس له حجة على المؤمنين المتوكلين على الله [ عز وجل] في مهم أمورهم المتعوذين به من الشيطان.
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ}.
أي إنما حجته على الذين يعبدونه ويطيعونه {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، أي: [هم] بالله مشركون قاله مجاهد. وقيل: الهاء للشيطان أي: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} أي: [أ] شركوه في أعمالهم. وقيل معناه: والذين هم من أجله مشركون. قال سفيان: ليس له سلطان على أن يحمل المؤمن على ذنب لا يغفر. وقيل: الاستعاذة بالله تمنع الشيطان من أذى المؤمن. وقيل: إن قوله: {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ} هو قوله:(6/4085)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] فهؤلاء لم: يجعل للشيطان عليهم سبيلاً.
قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ}.
المعنى عند مجاهد: وإذا رفعنا آية وأنزلنا أخرى. وعنه [أيضاً]: وإذا رفعنا آية فنسخناها وأثبتنا غيرها. وقال قتادة وهو قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]. وقيل معناه: وإذا بدلنا حكم آية بحكم آية أخرى {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} مما هو أصلح لخلقه. قال المشركون لك يا محمد {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} أي: متخرص الكذب على الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة ذلك لجهالتهم.
قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق}.
أي: قل لهم يا محمد: نزَّل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه جبريل [ صلى الله عليه وسلم] من عند الله {بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ} أي: ليقوي إيمانهم ويتضاعف تصديقهم إذا آمنوا بناسخه ومنسوخه.(6/4086)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{وَهُدًى} من الضلالة {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} وبشرى للذين استسلموا لأمر الله [ عز وجل] ونهيه وما أنزله في كتابه.
قال [تعالى]: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}.
أي: ولقد نعلم يا محمد أن هؤلاء المشركين يقولون جهلاً منهم إنما يعلم محمداً هذا الذي يتلو علينا بشر من بني آدم وما هو من عند الله. فقال الله مكذباً لهم: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}. أي لسان الذي يميلون إليه أنه يعلم محمداً [ صلى الله عليه وسلم] أعجمي {وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} لأنهم زعموا أن الذي يعلم محمداً عبد رومي.
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم فتى بمكة، وكان اسمه بلعام، وكان أعجمي اللسان فلما رأى المشركون النبي صلى الله عليه وسلم، يدخل عليه ويخرج، قالوا [له] إنما يعلمه(6/4087)
بلعام، فأنزل الله [ عز وجل] الآية.
وقيل: كان اسمه يعيش، [قال عكرمة: كان النبي عليه السلام يقرئ غلاماً لبني المغيرة اسمه يعيش] أعجمياً، فقال / المشركون إنه يعلم محمداً. وقيل: هو [عبد] لبني الحضرمي يقال له يعيش. وقيل: كان اسمه جبراً. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجلس عنده عند المروة. فقال المشركون هو يعلم محمداً [ صلى الله عليه وسلم] ما يتلو علينا، وكان جبر أَعجمي اللسان، فاحتج الله عليهم أنه أعجمي وأن القرآن عربي والعجمي، لا يعلم العربي.
وقيل: كانا غلامين اسم أحدهما جبر، والآخر يسار يقرآن التوراة(6/4088)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما. فقال كفار قريش إنما يجلس إليهما يتعلم منهما. وقال الضحاك: هو سلمان الفارسي.
وروي أن الذي قال هذا رجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عن الإسلام وكان يملي عليه النبي صلى الله عليه وسلم: { سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أو {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أو غير ذلك من خواتم الآي، ويشتغل النبي صلى الله عليه وسلم فيبدل هو في موضع سميع عليم وعزيز حكيم ويقوله للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له النبي عليه السلام، أي ذلك كتبت فهو كذلك ففتنه ذلك. وقال [إن] محمداً يكل ذلك إلي وأكتب ما شئت فارتد. وقال للمشركين أنا أفظن الناس بمحمد والله ما يعلمه إلا عبد بني فلان. فنزلت الآية في كذبه لهم.
أي: إن الذين يجحدون بآيات الله لا يوفقهم الله لإصابة الحق ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.(6/4089)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} أي: الذين يجحدون آياته، ويفتري بمعنى يتخرص.
وقال بعض أهل المعاني إنما أعاد الكاذبين، و [قد] تقدم الإخبار عنهم بالكذب لأن الثاني صفة، والصفة ألزم من الخبر، لأن من نعت بصفة فهي لازمة له، ومن أخبر عنه بخبر فقد يحول عنه. فأعاد ذكر الكذب لأنه ألزم في أكثر الأحوال من الخبر. وهذا الذي قال إنما يلزم إذا كانت الصفة صفة ذات فهي لا تتغير كالأحمر والأسود. ويتغير الخبر بالأفعال. وإذا كانت الصفة صفة فعل فهي تتغير أيضاً كتغيير الخبر بالفعل. والصفة في هذه صفة فعل لا صفة ذات، فلا يلزم قوله، ولا يستقيم، ولكن أعيد ذكر الكذب عنهم للتأكيد.(6/4090)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
قوله: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ}.
هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر [ووالده ياسر] وأمه سمية وخباب بن الأرت، وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة والمقداد بن(6/4091)
الأسود وقوم أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعضهم. فمن ابتداء {ولكن مَّن شَرَحَ} ابتداء [أيضاً]، وخبرهما {فَعَلَيْهِمْ}.
وقيل: {مَن كَفَرَ} في موضع [رفع] على / البدل من " الكاذبين ". وفيه بعد.
وقال ابن عباس وقتادة: نزلت في عمار بن ياسر، قال قتادة: أخذه بنو(6/4092)
المغيرة فغطوه في بئر ميمون، وقالوا: أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فتابعهم على ذلك وقلبه كاره موقن بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، فأنزل الله [ عز وجل] { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}.
وقوله: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}.
أي: من كفر على اختيار منه واستحباب {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله}، قال عكرمة نزلت الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يمكنهم الخروج، فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون فقتلوا وفيهم نزلت {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء} [النساء: 98] الآيتين.
[وقيل إنهم كانوا بمكة لا يقدرون على الخروج فلما نزلت: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء} [النساء: 98] الآيتين]، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى إخوانهم الذين يخبرونهم بما نزل فيهم فلما وصل إليهم الكتاب، خرج ناس كانوا أقروا(6/4093)
بالإسلام فطلبهم المشركون فأدركوهم فرجعوا وأعطوهم الفتنة، قولاً دون اعتقاد. فأنزل الله [ عز وجل] فيهم: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10]، وأنزل فيهم {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}، وأنزل فيهم: {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} [النحل: 110] الآية فسمع ذلك رجل من بني بكر كان مريضاً، فقال لأهله: أخرجوني إلى الروح، يعني المدينة. فأخرجوه فمات قبل الليل، فأنزل الله [ عز وجل] : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} [النساء: 100] الآية.
قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] ، وأبو بكر الصديق وبلال وخباب وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله عليه السلام فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشاء أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، ثم أتى(6/4094)
سمية فطعن بالحربة في فرجها، فقتلها. فهي أول شهيد استشهد في الإسلام. قال: وقال الآخرون ما سألوهم، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه، فجعلوا يعذبونه وهو يقول: أحد أحد، حتى ملوه، ثم كتفوه، وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة، حتى ملوه فتركوه.
فقال عمار: كلنا قد تكلم بالذي قالوا له، فلولا أن الله تداركنا - غير بلال - فإنه هانت عليه نفسه في الله [ عز وجل] فهان على قومه حتى تركوه، وملوه، فنزلت هذه الآية في هؤلاء.
قال ابن عباس: والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويخنقونه ويعطشونه ويجوعونه / حتى [ما] يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به حتى أنه ليعطيهم ما سألوا من الفتنة التي رمي بها، وحتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. وحتى أن الجُعل ليمر بهم فيقولون: هذا الجُعل إلهك ن دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم لما يبلغون من جهده فنزلت فيهم: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} الآية.(6/4095)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
و [قيل] معنى {مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}، أي: قبله وانفسح له صدره.
قال: {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} أي: وجب العذاب لهم لاختيارهم زينة الحياة الدنيا على الآخرة {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: لا يوفقهم بجحودهم آيات الله وتوحيده، وعبادتهم غيره.
قوله: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
معناه: أولئك الذين تقدمت صفتهم، هم طبع الله على قلوبهم، أي ختم عليها بطابعه فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصم أسماعهم، فلا يسمعون داعي الله [ عز وجل] سماع قبول، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون بصر مهتد معتبر. {وأولئك هُمُ الغافلون} أي: هم الساهون عما أعد الله [ عز وجل] لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
ثم قال: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [109].
قال الطبري: لا جرم معناه لا بد أنهم في الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ}.
أي: هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم، أي من بعدما عذبوا على الإسلام بمكة ثم جاهدوا المشركين في الله [ عز وجل] مع نبيه [ صلى الله عليه وسلم] وصبروا في الجهاد، وعلى طاعة الله [ عز وجل] إن ربك من بعد ذلك: أي: من بعد الفعلة التي(6/4096)
فعلوها {لَغَفُورٌ} أي لساتر على ذنوبهم {رَّحِيمٌ} بهم. وقد تقدم الكلام فيمن نزلت هذه الآيات.
ومن قرأ {فُتِنُواْ} بالفتح، وهي قراءة ابن عامر، فمعناه: عذبوا غيرهم على الإيمان ثم آمنوا هم من بعدما فعلوا ذلك بالمؤمنين، إن ربك من بعد الفعلة التي(6/4097)
فعلوها ساتر لذنوبهم، رحيم بهم.
قال ابن عباس وقتادة: نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشرطون ففتنوهم فكفروا مكرهين.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت في شأن ابن أبي سرح: فتنه المشركون فكفر، فنزلت: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} [النحل: 106]. [الآية، ثم استثنى إلا من أكره] ثم نسخ واستثنى بقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية، وهو عبد الله بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فلحق بالمشركين، وأمر به النبي [ صلى الله عليه وسلم] يوم فتح مكة، بأن يقتل فاستجار له عمر فأجاره رسول الله / صلى الله عليه وسلم.(6/4098)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
قال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.
يوم منصوب برحيم. وقيل انتصب على إضمار: [و] اذكر {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.
ومعنى الآية: أن الله أعلمنا أن كل إنسان [منهم] يوم القيامة منشغل بنفسه، يطلب خلاصها. وروي أن كعباً قال لعمر [رضي الله عنهـ]: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه، يقول: يا رب نفسي، حتى أن إبراهيم، خليل الرحمن، ليجثو على ركبتيه. ويقول: لا أسألك إلا نفسي، ثم قال كعب: إن هذا لفي كتاب الله، ثم تلى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} الآية.
قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّ}.(6/4099)
أي: ضرب الله مثلاً، مثل قرية، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقوله: {آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} خبر بعد خبر. و {رَغَداً} مصدر في موضع الحال.
والمعنى: [و] مثل الله مثلاً لمكة التي سكنها أهل الشرك. والقرية مكة، في قول: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد. وعن حفصة أم المؤمنين [رضي الله عنها]: هي المدينة، والأول أشهر.
قال ابن شهاب: الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت. والقرية التي أرسل(6/4100)
إليهم اثنتان انطاكية، والقرية التي بحاضرة البحر، طبرية. والقرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب.
وقوله: {كَانَتْ آمِنَةً} أي: لا يخاف فيها أحد، لأن العرب كانت يسبي بعضها بعضاً، وأهل مكة لا يغار عليهم ولا يحاربوا في بلدهم.
ومعنى {مُّطْمَئِنَّةً}: قارة بأهلها لا ينتجع أهلها من البلدان كما ينتجع أهل البوادي.
{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} أي: يأتي أهلها معائشهم واسعة كثيرة {مِّن كُلِّ مَكَانٍ} من البلدان.
ومعنى: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} أي: كفر أهلها بأنعم الله. وواحد الأنعم على(6/4101)
مذهب سيبويه نعمة. وقال قطرب: واحدها نَعْم [مثل] وُدّ وأَوُدّ، وقال بعض الكوفيين: وأحدها نَعْماء [كبأ] ساء وأبْؤُس وضراء و [أ] ضر.
{فَأَذَاقَهَا الله}.
أي: أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع} أي: أذاقهم جوعاً خالط أجسامهم فجعل ذلك لمخالطته [جسادهم بمنزلة اللباس لها، وذلك أنه سلط عليهم الجوع سبع سنين متواليات حتى أكلوا العِلْهزَ. والعِلْهِزُ أن تُؤْخذ الحَلَمَة فَتُفْقأ على الوبر(6/4102)
حتى يبتل بدمها، ثم يغلى ويؤكل. ويروى: أنهم أكلوا لحوم الكلاب. وأصل الذوق بالفم ولكنه استُعمِلَ هنا للآبتداء والاختبار.
وقوله: {والخوف}. [هو] ما كان يلحقهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيوشه كانت تطيف بهم.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.
أي: بكفرهم وجحدهم للنعم.
وإنما قال: {والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ولم يقل: بما كانت تصنع لأنه رده على المعنى. لأن معنى ذكر / القرية في الآية: يراد به أهلها. فرجع " يصنعون " على المعنى: [و] مثله قوله {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4]. فرجع، آخر الكلام إلى(6/4103)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
الأهل، وقد جرى أوله على الأخبار عن القرية والمراد بها أهلها. وهذا هو قوله في السجدة: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر} [السجدة: 21] فالعذاب الأدنى [هو الجوع] والأكبر ما حل بهم يوم بدر من القتل والأسر. وهو أيضاً قوله: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10] وهو الجوع، كان الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع.
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ}.
أي: ولقد جاء أهل هذه القرية، يعني مكة، {رَسُولٌ مِّنْهُمْ} أي: من أنفسهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدق لهجته فدعاهم إلى الحق {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب} وهو: لباس الجوع والخوف، وقتلهم يوم بدر بالسيف {وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي: مشركون.
قال [تعالى]: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً}.
أي: فكلوا من الأنعام التي رزقكم الله خلالاً، أي: مذكاة على اسم الله ولا تَحرِّموها كما حَرَّمَتِ العرب الوصائل والسوائب والحامي وغير ذلك(6/4104)
{واشكروا نِعْمَتَ الله} أي: واشكروه على ما خلق لكم من ذلك، وما أحل لكم من أكله على غيره من النعم {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: تطيعون.
وقيل: إنما عني بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} الآية: المشركين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لحقته رقة في أيام القحط فوجه إليهم طعاماً يرتفقون به، فأمرهم الله بأكله وبالشكر عليه إن كانوا يعبدون الله.
والقول الأول: [أولى] لأن بعده: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} وهذا إنما هو مخاطبة للمؤمنين بلا اختلاف.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير}.
أي: إنما حرم عليكم ما مات من النعم حتف أنفه، والدم السائل وهو(6/4105)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
المسفوح، ولحم الخنزير {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي: ما ذبح للأنصاب وسمي عليه غير الله، فمن اضطر إلى شيء من ذلك في مخمصة وهي: المجاعة. حل له.
وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}.
أي: باغ في أكله، {وَلاَ عَادٍ} أي: لا يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ساتر عليه ذنبه فلا يؤاخذه رحيم به أن يعاقبه على ذلك، وقد تقدم تفسير {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} في البقرة بأبين من هذا.
قال [تعالى]: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ}.
قرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر: " الكَذِبِ " بالخفض على أنه(6/4106)
نعت لما، أو بدل منه. ومن نصب جعله مفعولاً بتصف. وقرأ بعض أهل الشام: " الكُذُبُ " بضم الكاف والذل والباء، نعت للألسنة، جمع كذوب، مثل: شكور، وشكر.
ومعنى الآية: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب فيما رزق الله عباده من المطاعم، هذا حلال وهذا حرام لكي تفتروا على الله الكذب فإنه لم يحرم من ذلك كثيراً مما تحرمون ولا أحل كثيراً مما تحلون. وذلك أن اليهود والمشركين أحلوا الميتة فقال المشركون: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} [الأنعام: 139] يأكله الرجال والنساء.
ثم قال: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب}.(6/4107)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
أي: يتخرصونه ويختلقونه {لاَ يُفْلِحُونَ} أي: لا يخلدون في الدنيا ولا يبقون فيها. {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل.
قال: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ}.
أي: وحرمنا يا محمد على اليهود ما قد أنبأناك به في سورة الأنعام. وهي: كل ذي ظفر والشحوم. قاله: عكرمة والحسن وقتادة.
وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}.
[أي: وما ظلمناهم] بتحريمنا ذلك [عليهم] {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بِجَهَالَةٍ}، أي: للذين عصوا الله(6/4108)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
[سبحانه] فجهلوا ثم راجعوا طاعة الله [ عز وجل] والندم على ما عملوا والاستغفار منه {وأصلحوا} أي: عملوا ما يجب عليهم. {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد ذنوبهم لهم " غفور رحيم ".
قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ}.
أي: [كان] معلم [خير] يأتم به أهل الهدى. قال مجاهد كان أمة على حدة. وروي عنه أنه قال: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. قال ابن مسعود: " الأمة " معلم الخير. ورواه مالك عن ابن مسعود أن [هـ] قال: " الأمة "(6/4109)
الذي يعلم الناس الخير، " والقانت " المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، " والحنيف " المخلص. قال مالك: وذكر عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال: يرحم [الله] معاذاً لقد كان أمة قانتاً لله [ عز وجل] حنيفاً.
وأصل القنوت الطاعة. فكان إبراهيم عليه السلام قائماً لله [ عز وجل] ، ودعا إلى عبادته، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فأعطاه الله عز وجل ألا يبعث نبياً من بعده إلا من ذريته. وأعطاه الله عز وجل ألا يسافر في جميع الأرض فتخطر سارة على قلبه إلا هتك الله ما بينه وبينها من الحجب حتى يراها ما تصنع. وكان صلى الله عليه وسلم أول من اختتن، وأقام مناسك الحج، وضحى، وعمل بالسنن، نحو: قص الشارب والأظفار ونتف الإبط(6/4110)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
وحلق العنة وشبهه.
و" الحنيف ": الحاج في قول الضحاك، وعن ابن عباس: " الحنيف " المسلم. ويدل عليه قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [النحل: 123] وقيل حنيفاً على دين الإسلام.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أي: مخلصاً بشكر الله [ عز وجل] فيما أنعم عليه " واجتباه [واختاره] واصطفاه لخلته {وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: ارشده إلى الطريق المستقيم وذلك دين الإسلام.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً}.
أي: ذكر [اً] جميلاً حسناً باقياً على الأيام {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي: أنه(6/4111)
في الآخرة لمن صلح أمره وشأنه عند الله [ عز وجل] وحسنت منزلته.
وقيل: معناه، وأنه في ثواب الآخرة / لمن الصالحين لأن الآخرة ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء. فالمعنى: أنه وإن أعطي أجره في الدنيا، فإنه في الآخرة على مثل ثواب الصالحين، لا ينقصه من ثوابه شيء لأجل إيتائه أجره في الدنيا.
وقيل في الآية: تقديم وتأخير، والتقدير: وآتيناه أجره في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. [و] في هذا القول: بعد، لأن ما بعد [إن] لا يقوى بها التقديم وما بعد: " إن " منتظر [لما] لم يكن، وما قبلها قد كان ووقع فلا يدخل أحدهما في الآخر.
وقيل المعنى: وأنه في أجر الآخرة والعمل لها لمن الصالحين. وهذا: قول صالح حسن.
قال مجاهد: الحسنة هنا لسان صدق. وقال قتادة: الحسنة أنه ليس أهل دين ألا يتولاه ويرضاه.(6/4112)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}.
أي: أوحينا إليك يا محمد بأن تتبع دين إبراهيم مائلاً عن كل الأديان إلا عنه.
قال [تعالى]: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ}.
[أي: إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه].
فقال بعضهم: هو أفضل الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة، ثم سبت يوم السبت، وقال آخرون: أفضل الأيام [يوم] الأحد، لأنه [ال] يوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء. واختلفوا في تعظيم غير ما فرض عليهم تعظيمه ثم استحلوه.
قال مجاهد: جعل السبت على الذين اختلفوا فيه فاتبعوه وتركوا يوم الجمعة. وقال قتادة: " اختلفوا فيه ": استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وهو قول:(6/4113)
ابن جبير.
وقال ابن زيد: كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطؤوه وأخذوا يوم السبت [فجعل عليهم، وقيل: إنهم ألزموا يوم الجمعة عيداً فخالفوا، وقالوا: نريد يوم السبت] لأنه يوم فرغ الله فيه من خلق السماوات.
وروي: أن عيسى [بن مريم] عليه السلام أمر النصارى أن يتخذوا يوم الجمعة عيداً فقالوا لا يكون عيدنا إلا بعد عيد اليهود فجعلوه الأحد. ويروى أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: تفرغوا لله في سبعة أيام في يوم تعبدونه ولا تعملون فيه شيئاً من أمور الدنيا، فاختاروا السبت فأمرهم موسى [ صلى الله عليه وسلم] بالجمعة فأبوا إلا السبت، فجعله الله [ عز وجل] عليهم.
ثم قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
أي: من هذه الأيام وفي استحلالهم للسبت.(6/4114)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
قال تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة}.
أي: ادع يا محمد من أرسلت إليه إلى طاعة الله [ عز وجل] والإقرار له بوحدانيته.
و" الحكمة " هنا: كتاب الله [سبحانه]. و " الموعظة الحسنة ": العبر التي هي حجة عليهم مما ذكرهم به من الآيات في كتابه.
{وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي: جادلهم بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها، وهي الصفح عنهم.
وقال الزجاج: " الحكمة " هنا: النبوة / و " الموعظة ": القرآن: {وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} غير فظ ولا غليظ القلب، أي: ألن لهم جناحك، وهي منسوخة عند جماعة من العلماء نسخها المر بالقتال.
وقيل: هي محكمة غير منسوخة، ومعناه: الانتهاء إلى ما أمر الله [ عز وجل] به، وهذا لا ينسخ.(6/4115)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ}.
أي: بما حاد عن طريق الهدى من المختلفين في السبت وغيره.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي: يسلك الطريق المستقيم.
قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة.
المعنى: وإن ظفرتم أيها المؤمنون بالمشركين فافعلوا بكم
{وَلَئِن صَبَرْتُمْ} عن عقوبتهم وأحسنتم [واحتسبتم] عند الله [ عز وجل] ما نالكم منهم للصبر خير للصابرين.
وهذه الآيات الثلاث: نزلن بالمدينة دون سائر السورة. نزلت حين(6/4116)
أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليمثلن بالمشركين إن ظفروا بهم كما فعل المشركون بحمزة وغير [هـ] يوم أحد من التمثيل [بهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " لما بلغه ما فعلوا بحمزة من التمثيل].
قال: " لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلاً منهم " فلما سمع ذلك المسلمون قالوا: والله لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب فأمرهم الله [ عز وجل] أن يفعلوا بهم مثل ما فعلوا، ولا يتجاوزوا إلى أكثر، ثم أعلمهم أن الصبر وترك الانتقام بالمثلة خير وأحسن.
وقيل: إنها منسوخة بقوله: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله}
وقيل: هي منسوخة بالقتال والأمر به، وإنما كان هذا أمر الله [ عز وجل] نبيه [ صلى الله عليه وسلم] ألا يقاتل إلا من قاتله لقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا} [البقرة: 190].(6/4117)
أي: تقاتلوا من لم يقاتلكم. فقال المسلمون إن قاتلونا وأظهرنا الله عز وجل عليهم لنمثلن بهم فنسخ ذلك في براءة بقوله {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهذا القول: مروي عن ابن عباس.
ومن قال: إن هذه الآية، قال: عني بقوله {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} نبي الله [ عز وجل] وحده ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال في براءة وهو قول ابن زيد.
وعن ابن سيرين والنخعي وسفيان: إن الآية عامة معناها من ظلم بظلامة فلا يحل [له] أن يأخذ من ظالمه أكثر مما ناله منه ولا يتجاوز إلى أكثر من حقه.
وروى أبو هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حيث استشهد فنظر إلى شيء لم ينظر قط إلى شيء كان أوجع منه لقلبه ونظر إليه، قد مثل به، فقال:(6/4118)
رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى. أما والله، مع ذلك، لأمثلن بسبعين منهم. فنزل جبريل [والنبي صلى الله / عليهما] واقف بخواتم النحل ".
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} الآية. فصبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكفر عن يمينه، ولم يمثل بأحد.
ثم قال تعالى: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله}.
أي: اصبر يا محمد على أذى من أذاك، وما صبرك إذا صبرت إلا بمعونة الله [لك] وتوفيقه إياك لذلك.
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على هؤلاء المشركين الذين يكذبون ويمثلون بالمسلمين. {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أي: لا يضيق صدرك من قولهم فيما جئتهم به أنه سحر، وأنه شعر، والمكر الخديعة. {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} [أي: الذين اتقوا] محارمة {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} أي: الذين احسنوا فيما فرض الله عليهم.(6/4119)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبحان مكية
قال ابن مسعود: بنو إسرائيل, والكهف , ومريم, وطه, والأنبياء, من العتاق الأول وهن من تلادي يريد أنهن [نزلن] في أول ما نزل [من القرآن] وهو صغير.
قوله: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} إلى قوله: {السميع البصير}.(6/4121)
" سبحان: عند الخليل وسيبويه منصوب على المصدر، إلا أنه لا ينصرف لأنه معرفة في آخر [هـ] زائدتان. وحكى سيبويه: أن من العرب من ينكره فيصرفه.
وقال أبو عبيدة: هو منصوب على النداء.
وقال بعضهم. هو موضوع موضع المصدر فنصب لوقوعه موقعه، فهو موضع تسبيح.
والتسبيح: يكون [بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى في يونس:
{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] أي: من المصلين.(6/4122)
وفي لغة لبعض أهل [اليمن]، يستعملونه في معنى الاستثناء، ومنه قوله:
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي: تستثنون إذا أقسمتم {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] ولم يستثنوا. فإنما ذكر [هم] بتركهم الاستثناء.
ويستعمل في معنى النور. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا ذلك لأحرقت سبحات وجهه. . . "، أي نور وجهه.
ومعنى " سبحان الله ": براءة الله من السوء. كذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن معنى التسبيح.
وروي عنه أنه " سئل عن معنى سبحان [الله]، فقال: تنزيه لله من كل(6/4123)
سوء " وسئل عنها علي [رضي الله عنهـ] فقال: هي كلمة رضيها الله لنفسه. وعنه أيضاً أنه قال: هي كلمة أحبها الله ورضيها لنفسه فأحب أن تقال.
ومعنى المسجد الحرام [أي]: المسجد الممنوع من الصيد فيه، لأن الحرم ممنع. والحرم كله مسجد.
عن أم هانئ أنها قالت: ما أسري برسول الله [ صلى الله عليه وسلم] إلا وهو [في بيتي].(6/4124)
وقيل: إنما أسري به من المسجد. عن قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة [وهو رجل من قومه، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " بينا [أنا] عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلاً يقول أحد الثلاثة: فأوتيت بطست من ذهب فيه ماء زمزم، قال: فشرح صدري فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم [ثم] أعيد مكانه ثم خشي إيماناً وحكمة، ثم أتيت بداية بيضاء يقال لها البراق، فوق الحمار ودون البغل، يضع خطوه أقصى طرفه، فحملت عليه. ثم انطلقنا حتى / [أ] تيت السماء الدنيا " ثم ذكر الحديث بطوله
قال ابن شهاب، أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، " أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به على البراق وهي دابة إبراهيم خليل الرحمن التي كان يزور عليها البيت الحرام يقع حافرها موقع طرفها. قال: فمرت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية فنفرت العير، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتي بقدحين:
قدح خمر، وقدح لبن، فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] قدح اللبن، فقال له جبريل [ صلى الله عليه وسلم] : هديت إلى الفطرة لو أخذت قدح الخمر [ل] غوت أمتك. [و] قال ابن(6/4125)
شهاب: فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] لقي هنالك إبراهيم وموسى وعيسى، فنعتهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] . فقال: أما موسى فَضَرْب، رجل الرأس كأنه من رجال شنوة. وأما عيسى [فهو] فهو رجل أحمر كأنه خرج من ديماس وأشبه من رأيت به عروة بن مسعود الثقفي. وأما إبراهيم فإنه أشبه ولده به. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً أنه أُسريَ به، قال عبد الله: فارتد ناس كثير بعدما أسلموا، فأتى أبو بكر الصديق [رضي الله عنهـ] فقيل له: صاحبكم يزعم أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة. قال أبو بكر: [أ] وقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فاشهد [وا] إن كان كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ فقال إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني(6/4126)
قريش قمت فمثل لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ".
وقال أبو العالية: " جاء جبريل [إلى النبي] صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل فقال جبريل لميكائيل إيتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسس من ماء زمزم فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غل، وملاه حلماً وإيماناً وعلماً ويقيناً وإسلاماً، وختم بين كتفيه بخاتم النبوءة، ثم أتاه بدابة فحمل عليه، كل خطوة [منها] منتهى بصره، فسار وسار معه جبريل. فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد [كما كان] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه(6/4127)
وهو خير الرازقين. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما أرضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل؟ [فقال] هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على إقبالهم رقاع وعلى إدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع / والزقوم، ورضف جهنم، وحجارتها، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله شيئاً وما الله بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء الحبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ [قال]: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى تصبح، والمرأة تكون عند الرجل [الطيب] فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت معه حتى تصبح، قال: ثم أتى على خشبة من الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا حرقته فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، ثم تلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، قال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك(6/4128)
تكون عليه آمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: من هؤلاء [يا جبريل؟ قال: هؤلاء] خطباء الفتنة. ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة باردة، وريح المسك وسمع صوتاً. فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة وريح المسك؟ وما هذا الصوت؟ فقال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ايتني ما وعدتني فقد كثر زخرفي، واستبرقي، وحريري، وسندسي، وعبقريي، ولؤلؤي [ومرجاني]، وفضتي، وذهبي، وأكوابي، وصحافي، وأباريقي، وفواكهي، وعسلي، ولبني، وخمري فأين ما وعدتني؟ فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين. قالت: قد رضيت. ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً(6/4129)
منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ وما هذا الصوت. فقال: هذا صوت جهنم، تقول: يا رب، ايتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي. [وقد] بعد قعري، واشتد حري، فأتني ما وعدتني، فقال لها: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار / لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت. ثم أتى بحديث غلإسراء بطوله، وفيه اختلاف بين الرواة. فمذهب من قدمنا ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم [ أسرى] بجسمه وعليه أكثر الناس ".
وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: كانت رؤيا من الله صادقة: وروي ذلك عن عائشة أيضاً [رضي الله عنها]. واستدل الحسن على صحة ذلك بقوله
{وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] فالوحي يأتي للأنبياء في [النوم] وفي اليقظة(6/4130)
ودليل ذلك قول إبراهيم [ صلى الله عليه وسلم] : { إني أرى فِي المنام أَنِّي [أَذْبَحُكَ]} [الصافات: 102] ثم مضى لذلك ليفعل ما أمر به في النوم.
والاختيار عند أهل النظر: أن يكون أسرى الله [ عز وجل] بجسمه وليست برؤيا في المنام. والدليل على صحة ذلك: أنها لو كانت رؤيا رآها في منامه لم يكن في ذلك دليل ولا حجة على نبوته، لأن كل إنسان يرى أنه ببلد بعيد وهو في بلد آخر. فقد يرى الإنسان أنه في الصين و [هو]. بقانة، وبينهما سيرة نحو السنتين وأكثر. وقد قال الله [تعالى]: {أسرى بِعَبْدِهِ} ولم يقل: بروح عبده، فلا يتعدى ما قاله الله [ عز وجل] إلى غيره إلا بدليل قاطع.
وقوله: {إلى المسجد الأقصا} يعني مسجد بيت المقدس.
وقوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.(6/4131)
أي: جعلنا حوله البَركَة لسكانه في معايشهم وكثرة ثمارهم وطيبها. وقيل معناه: أن الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى كلهم كانوا ببيت المقدس فمعنى البركة فيه أنه طهر من الشرك وبوعد منه وخص بالأنبياء.
وقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ}.
أي: أسري بمحمد [ صلى الله عليه وسلم] لكي يرى من آيات الله [ عز وجل] وعجائبه [سبحانه] وذلك ما رآه [في] طريقه مما ذكرنا بعضه. وروي: أن أهل مكة قالوا للنبي عليه السلام: إن لنا في طريق الشام إبلاً، فأخبرنا خبرها ومتى تقدم. فأخبرهم أنها تقدم عليهم في يوم سماه لهم مع شروق الشمس، وأنه فقد منها جمل أورق فخرجوا في ذلك اليوم فقال أحدهم: هذه الشمس قد أشرقت وقال: هذه الإبل قد [أقبلت].(6/4132)
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} معناه السميع لما يقول هؤلاء المشركون من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. البصير بما يعملون. لا يخفى عليه شيء من ذلك. وكسرت: إن " في قوله: " إنه " لأن معنى الكلام: قل يا محمد سبحان الذي أسرى بعبده، وقل [يا محمد] إنه هو.
ويروى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعلم قريشاً بالإسراء كذبوه، وقالوا له: نسألك عن عير لنا، هل رأيتها في الطريق؟ فقال: نعم، فقالوا: أين؟ قال: مررت على عير بني فلان بالرواح، قد أضلوا ناقة لهم، وهم في طلبها. فمررت على [ر] حالهم وليس بها منهم أحد. فوجدت في إناء من آنيتهم ماء فشربته / فسلوهم إذا رجعوا هل وجدوا الماء [في] الإناء أم لا؟ فقالوا: هذه آية. قال: ومررت على عير بني فلان فنفرت مني الإبل فانكسر منها جمل أحمر عليه أبناء فلان. فقالوا: هذه آية أخرى. [قال ومررت على عير بني فلان] بالتنعيم حين انشق الفجر. قالوا: فإن كنت(6/4133)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
صادقاً، فإنها تقدم الآن. قال أجل. قالوا: فحدثنا بعدتها، وأحمالها، ومن فيها. قال: كنت مشغولاً عنها. فمثل ذلك لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم] فقال هي منحدرة من الثنية يقدمها جمل أورق عدتها كذا وكذا، وأحمالها كذا وكذا، فيها فلان وفلان، يسمي الرهط الذين فيها، وخرج رهط من قريش يسعون إلى الثنية فإذا هم بها حين انحدرت على ما [وصفها] لهم [النبي] صلى الله عليه وسلم ".
وأخبار الإسراء كثيرة مختلفة الألفاظ، منها المطول، ومنها المختصر، والمعاني متقاربة، فاقتصرنا على ما ذكرنا اختصاراً.
قوله: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {عَبْداً شَكُوراً}.
ذرية نصب على النداء، أو على البدل من وكيل، لأنه بمعنى الجميع، وعلى أنه مفعول ثان ليتخذوا. أو على إضمار أعني. هذا كله على قراءة من(6/4134)
قرأ [يتخذ [وا] بالياء. فأما من قرأ بالتاء، فذرية نصب على النداء أو على البدل من وكيل وفيه بعد في المعنى.
والمعنى: سبحان الذي أسرى بعبده وأتى موسى الكتاب وهو التوراة. لكنه خرج من الغيبة إلى الأخبار وذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}.
[أي]: بياناً لهم ودليلاً إلى الحق لئلا يتخذوا من دوني شريكاً. وقيل: وكيل رب. وقيل: كفيل. وقيل: وكيلاً كافياً. وقيل معناه: لئلا يتخذوا من دوني رباً.
وعني بالذرية هنا جميع من احتج عليهم بهذا القول من جميع الأمم لأن من على وجه الأرض من جميع بني آدم كلهم ذرية من أنجى الله [ عز وجل] في السفينة مع نوح [ صلى الله عليه وسلم] .(6/4135)
وهو نوح وثلاثة بنون وامرأته وثلاث نسوة لبنيه. وبنوه هم سام وحام ويافث. أما سام فأبو العرب وأما حام فأبو الحبش وأما يافث فأبو الروم. وقد تقدم ذكر هذا بأوعب من هذا البيان.
ثم قال تعالى: {نَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}.
يعني: نوحاً [ صلى الله عليه وسلم] . قال سلمان الفارسي: إنما سمي نوحاً عبداً شكوراً، لأنه كان إذا لبس ثوباً حمد الله، وإذا أكل طعاماً حمد الله، وهو قول مجاهد.
وقيل: إنه كان يقول إذا أكل [طعاماً] الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا لبس ثوباً قال: الحمد لله الذي أكساني، ولو شاء أعراني. وإذا لبس نعلاً، قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني(6/4136)
الأذى ولو شاء لحبسه.
وقيل: سمي " شكوراً " / لأنه كان يقول: إذا خرج البراز منه: الحمد لله الذي سوغنيك طيباً وأخرج مني أذاك وأبقى منفعتك.
وقيل: سمي بذلك لأنه كان إذا لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله، وإذا أخلقه قال الحمد لله. وقال القرظي: كان [يقول] إذا أكل أو شرب أو ركب دابة أو لبس ثوباً [ال] حمد لله. و [روي] عن سلمان أيضاً مثله.
فالحمد لله والشكر له والإقرار له بالحمد على نعمه يعني: بالشكر. وروي عن بعض الصحابة أو بعض التابعين أنه قال: لو جمع نعم الدنيا كلها في قشرة بيضة ثم لحسه مؤمن، وقال الحمد لله لأدى شكر [هـ] ذلك.(6/4137)
وروى مالك عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة [أنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا مرض العبد، المؤمن بعث الله [ عز وجل] إليه ملكين فيقول: انظرا ما يقول لعواده. فإن هو إذا دخلوا عليه حمدا لله رفعوا ذلك إلى الله [ عز وجل] ، وهو أعلم، فيقول الله عز وجل: لعبدي، إن أنا توفيته، أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته، أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته ".
وروى مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم(6/4138)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
يرويه عن ربه [ عز وجل قال]: " إذا ابتليت عبدي [بلاء] فصبر أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وإن أنا قبضته في علّته تلك قبضته إلى رحمتي وكرامتي ".
قوله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} إلى قوله: {أَكْثَرَ نَفِيراً}.
معنى القضاء في اللغة: أحكام الشيء والفراغ منه. فمعنى الآية: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه إلى موسى [ صلى الله عليه وسلم] إنكم يا بني إسرائيل تعصون الله وتخ [ا] لفون أمره وتستكبرون عليه استكباراً شديداً مرة بعد مرة. قال ابن عباس وابن زيد: {وَقَضَيْنَآ [إلى بَنِي] إِسْرَائِيلَ} أعلمناهم بذلك في(6/4139)
كتابهم.
وقيل: معناه: إن ذلك سبق في أم الكتاب عليهم أنهم يفسدون ويخالفون أمر الله [سبحانه] ويستكبرون في الأرض مرتين. قاله قتادة.
وروي [ذلك] أيضاً عن ابن عباس قال: [قضاء] قضاه الله [ عز وجل] على القوم كما تسمعون. قال مجاهد: دخلت على ابن عباس فقلت: إن على الباب رجل يقول في القدر. فقال: ادخلوه علي. فقلت ما تريد به؟ قال: اقرءوا عليه قول الله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} قال فقضى عليهم ليفسدن في الأرض مرتين وليعلن علواً كبيراً قبل أن يخلقهم، فقضى عليهم ما علم أنهم عاملون، وكتبه عليهم ففعلوه.
قال ابن عباس وابن مسعود: كان إفساد بني إسرائيل [في الأرض] في أول(6/4140)
مرة قتل زكرياء [ صلى الله عليه وسلم] فبعث الله [ عز وجل] عليهم ملك [ال] نبط. فبعث إليهم الجمود من أهل فارس، فهم أولوا بأس شديد. / فتحصنت بنو إسرائيل وخرج فيهم بختنصر يتيماً مسكيناً، خرج يستطع [م] وتلطف حتى دخل المدينة. فأتى مجالسهم فسمعهم يقولون: لو علم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم واشتد القيام على الجيش فرجعوا فذلك قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية: ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم فاستنفذوا ما في أيديهم، فذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} الآية. و " نفيراً " معناه عدداً.
وقال ابن زيد: كان إفسادهم الأول قتل زكرياء، والثاني قتل يحيى.(6/4141)
فسلط الله عليهم ابور ذا الاكتاف، وهو ملك من ملوك فارس، في قتل زكرياء، وسلط عليهم بختنصر في قتل يحيى.
وقال قتادة: بعث عليهم أول مرة جالوت والثانية بختنصر.
ومعنى قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي: أول المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل، أي أو [ل]. الفسادين.
وقوله: {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار}.
أي: ترددوا بين الدور والمساكن وذهبوا وجاءوا.
وقال ابن عباس: " جاسوا " مشوا. وقال الزجاج: الجوس طلب الشيء(6/4142)
باستقصاء. فمعناه: طلبوا هل يجدون أحداً.
وقال بعض أهل اللغة: معنى " جاسوا " قتلوا.
وقوله: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً}.
أي: كان جوس القوم خلال ديار بني إسرائيل وعداً من الله [ عز وجل] ، لا يخلف.
قال ابن عباس وقتادة: أتاهم في المرة الأولى جالوت فجاس خلال ديار بني إسرائيل وضرب عليهم الخراج والذل. فسألوا الله [ عز وجل] أن يبعث إليهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله. فبعث الله طالوت. فقاتلوا جالوت، فنصره الله، وقتل جالوت، على يدي داوود ورد الله [ عز وجل] إلى بني إسرائيل ملكهم.
وعن مجاهد أنه قال: جاءهم بختنصر في أول مرة من جهة فارس فهزمهم بنو إسرائيل، ثم رجعوا ثانية فقتلوا بني إسرائيل ودمر [و] هم تدميراً، وجلوهم عن بيت المقدس فلم يصلوا إلى دخوله سبعين سنة.(6/4143)
وروي عن مجاهد أنه قال: إنما جاءهم في أول مرة قوم من أهل فارس معهم بختنصر يتجسسون أخبارهم ثم رجعت فارس وقد وعى بختنصر أخبارهم دون أصحابه، ولم يكن قتال.
وقيل: إنما جاءهم في المرة الأولى، أي: بختنصر ومن معه من جبابرة فارس، بعثه الله نقمة لهم حين أفسدوا وقتلوا يحيى بن زكرياء. ويروى: أن يحيى كان قد قال لهم: إياكم أن يقع من دمي شيء في الأرض فتهلك بنو إسرائيل. فذبحوه واحتفظوا بدمه، فجعلوه في طست من ذهب. فوقعت منه نقطة في الأرض / فما زالت تفور وتغلي حتى هجم عليهم بختنصر.
فيروى: أنه ذبح على ذلك الدم سبعين ألفاً من بني إسرائيل، فهدأ الدم. سبى بني إسرائيل حتى سبى أبنائهم وخرج بهم إلى أرض العراق.
ويروى: أن الفساد الثاني الذي ارتكب بنو إسرائيل هو قتلهم زكرياء ويحيى عليهم السلام بعد أن أقاموا في الدعة والسلامة عشرين ومائتي سنة. فأرسل عليهم من قتلهم وسباهم، وحرق بيت المقدس وأخرجه. فلم يزل الذين ظهروا عليهم ببيت(6/4144)
المقدس حتى فتحه الله عز وجل في زمان عمر رضي الله عنهـ وفيه الروم فقتلوا وأخرجوا منه إلى الآن لا يدخلونه إلا مستخفين.
وقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ}.
قال السدي: هي ما نصر الله عز وجل بني إسرائيل، إذ غزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقدوا ما في أيديهم.
وقيل: هو إطلاق الملك الذي غزاهم [ما في يديه من] أسراهم ورد ما كان أصاب من أموالهم من غير قتال، سخره الله عز وجل لذلك فهو رد الكرة لبني إسرائيل.(6/4145)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
وقيل: هي نصر الله عز وجل إياهم على جالوت حتى قتلوه.
وقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}.
أي: عدد [اً]، وذلك في أيام داود.
وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ}.
المعنى: أن الله أخبرنا عما قال لبني إسرائيل في التوراة لنتأسى بذلك
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ}، يا بني إسرائيل أي: [إن] أطعتم الله فيما أمركم به على نعمه عندكم إذا دلكم من عدوكم {أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: ما فعلتم من ذلك لأنفسكم تفعلوه، وعليكم يعود نفعه. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أي: عصيتم الله [ عز وجل] { فَلَهَا} أي: فإلى أنفسكم تسيئون. لأن ضرره عليكم يعود.(6/4146)
وقيل: معنى {فَلَهَا} أي: إليها. كما قال: {أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي: إليها. أي: فإلى أنفسكم يعود الضرر. وقيل: اللام على بابها [على معنى] فلها يكون العقاب على الإساء.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ}.
والمعنى: فإذا جاء الفساد الثاني من فسادكم يا بني إسرائيل، وهو قتلهم يحيى على ما ذكرنا {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} أي: خلينا بينكم وبينهم، ولم نمنعهم منكم. فبعث الله عليهم بختنصر فقتل المقاتلة وسبى الذراري وأخذ ما وجد من الأموال ودخلوا بين المقدس. وهو قوله: {وَلِيَدْخُلُواْ [المسجد] كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فتبروه وخربوه وألقوا فيه(6/4147)
الجيف والعذرة. وقيل: [ليسوء] معناه: أمرناهم بغزوكم بما عصيتم وأفسدتم.
{لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [أي]: ليسوء المبعوثون عليكم وجوهكم.
ومن قرأ بفتح الهمزة، فمعنى: " ليسوء " الوعد بسوء الله. أو ليسوء العذاب. ومن قرأ بالنون فهو على الأخبار عن الله جل ذكره.
وقوله: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
أي: كما دخلوه في الانتقام / منكم في فسادكم الأول.(6/4148)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
وقوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً}.
قال قتادة معناه: ما علوا عليه. وقيل معناه: ويتبروا ما داموا عالين.
وحقيقة أن ما، وما بعدها في موضع نصب على الظرف. والتقدير: وليتبروا وقت غلبتهم. والتتبير التدمير.
وقوله: {مَا عَلَوْاْ} عند الزجاج [ما] في موضع الحال. أي: وليدمروا في حال علوهم.
قال تعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}.
المعنى: لعل ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم عليكم. و {عسى} من الله واجبة وقد فعل بهم ذلك فكثر عددهم وجعل منهم الملوك والأنبياء.
ثم قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}.
أي: [و] إن عدتم [ل] أمخالفة أمري، وقتل أنبيائي عدنا عليكم بالقتل(6/4149)
والسباء والذلة والصغار. فعادوا، فعاد الله عليهم بذلك. إذ بعث محمداً. قال ابن عباس: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. فسلط الله عليهم ثلاثة ملوك فارس. وعنه: عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين.
وقال قتادة: عادوا فسلط الله عليهم محمداً [ صلى الله عليه وسلم] يعطونه الجزية عن يد وهم صاغرون.
وقال الضحاك: الرحمة هنا بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الأخفش: المعنى: عسى ربكم أن يرحمكم إن فعلتم ذلك.
ثم قال: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}.
أي: سجناً يسجنون فيها. قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: {حَصِيراً} مأوى. وقال الحسن: {حَصِيراً} بساطاً ومهاداً كما قال: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41].
ويقال للملك: {حَصِيراً} بمعنى محصوراً لأنه محجوب عن الناس. ويقال(6/4150)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
للبخيل: حصوراً وحصيراً لمنعه ما عنده، ومنه الحصر في المنطق لأنه يمتنع عليه الكلام. ومنه الحصور عن النساء لامتناع الجماع عليه، ومنه الحصر في الغائط إذا احتبس عليه. وقيل للحصير المنسوج حصيراً، لأنه حُصِرت جوانبه عن أن تنفلت. وقيل: لأنه حصرت طاق [اته بعضها من بعض.
وقوله: {إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
المعنى: أن هذا القرآن يا محمد يرشد من اهتدى به للحال التي هي أقوم الحالات أي: أصوبها. وذلك دين الله [سبحانه] المستقيم وتوحيده [جلت عظمته] والإيمان بكتبه ورسله وهو مع هدايته يبشر المؤمنين العاملين الأعمال الصالحة أن لهم أجراً كبيراً وهو الجنة /.
وكل شيء في القرآن أجر كريم وأجر كبير ورزق كريم فهو الجنة. وقيل:(6/4151)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
المعنى: ويبشر [الله] المؤمنين بذلك. قال مقاتل وغيره: التي هي أقوم شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل معناه يهدي للخصال التي هي أصوب مما أمر الله [ عز وجل] ، ودعا إليه ووعد عليه العطاء الجزيل والثواب العظيم وعلى هذا أكثر المفسرين. ولا إله إلا الله أصل الخصال الحسنة وأعظم ما دعا الله إليه عباده وندبهم إلى اعتقاده فهي العروة الوثقى والكلمة المنجية من العذاب.
قال [تعالى]: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}.
أي: لا يصدقون بها أعددنا لمقدمهم على ربهم عذاباً أليماً، أي: مؤلم وموجع، وذلك عذاب جهنم [أعاذنا الله منها].
قال: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير}.
المعنى: ويدع الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر دعاء مثل دعائـ[هـ](6/4152)
ربه [ عز وجل] بالخير. أي: يسأل أن يهلك نفسه وولده وماله إذا غضب كما يسأل أن يجيبه ويحيي ولده ويثمر ماله إذا رضي، فلو استجاب له في الشر كما يستجيب له في الخير لأهلكه.
ثم قال: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً}.
أي: يعجل على نفسه بالدعاء، ولا يعجل الله [ عز وجل] عليه بالإجابة. وروي أنها نزلت في النضر بن الحارث [بن] علقمة كان يدعو ويقول:
{اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وكان يدعو على نفسه بالشر كما يدعو [لها] بالخير. {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي: عجلة النضر بالدعاء على نفسه، كعجلة آدم حين نهض [قبل] أن(6/4153)
يجري فيه كله.
وقال ابن عباس: لما نفخ الله [ عز وجل] في آدم من روحه فدارت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري منها شيء في جسده إلا صار لحماً [دوماً]. فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده [فأعجبه] ما رأى من حسنه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} فالإنسان هنا في موضع الناس. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً، فجعل يئن من الليل. فقالت له: ما بالك تئن؟ فشكى إليها ألم القد. فأرخت كتافه. فلما نامت أخرج يده وهرب. فلما أصبح النبي [ صلى الله عليه وسلم] دعا به، فأعلم شأنه. فقال: اللهم اقطع يدها، فرفعت سودة يدها تتوقع الاستجابة، أن يقطع الله يدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني سألت [الله] أن(6/4154)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة، لأني بشر أغضب كما يغضب البشر، فلترد سودة يدها
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل}.
معناه: أن الله [ عز وجل] عرف عباده نعمه عليهم، / فمن نعمه [أن] جعل الليل مخالفاً للنهار ليسكنوا في الليل ويتصرفوا في معائشهم [التي قدرت لهم] بالنهار، وليعلموا عدد [السنين والحساب أي: عدد] سنينهم وحساب ساعات الليل والنهار.
ومعنى {آيَتَيْنِ} أي: جعلنا الليل والنهار علامتين.(6/4155)
فعلامة النها [ر] الشمس وعلامة الليل القمر {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}. أي: بيناه [تبييناً] بياناً شافياً.
وقوله: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل}، أي: لم يجعل للقمر ضياء ونوراً كالشمس وقوله: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} أي: مضيئة، وهي: الشمس.
والمحو الذي في القمر هي اللطخة التي تظهر فيه للمتأمل، ويروى أن الله جل ذكره أمر جبريل عليه السلام، فأمرَّ بجناحه على القمر فصار فيه المحو الذي فيه. وقد كان ضياؤه مثل الشمس أو أشد، ولكن الله جل ذكره فرق بينهما ليعرف الليل من النهار، وليعلم عدد السنين والشهور، والأجل، والحج وغير ذلك.
وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله [ عز وجل] شمسين من نور(6/4156)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
عرشه فأما ما كان في سابق علمه أنه يدعها شمساً فإنه جعلها مثل الدنيا على قدر ما بين مشارقها إلى مغاربها. وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحولها قمراً فإنه جعلها دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرها لشدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض. ولو ترك الله القمر كما خلقه أول مرة لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، ولا عدد الأيام ولا الشهور، فأرسل جبريل [عليه السلام] إلى القمر فأمرَّ جناحه على وجه القمر وهو يؤمئذ شمس، ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي منه النور فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ} الآية " فالسواد الذي يرون في القمر أثر المحر.
قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي [عُنُقِهِ]}.
المعنى: وكل إنسان ألزمناه مما قضي له أنه عامله وصائر إليه من شقاء أو سعادة. فعمله في عنقه لا يفارقه.
وقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي [عُنُقِهِ]} إنما هو مثل: خوطبوا به على ما كانوا يستعملون في التشاؤم والتفاؤل من سوائح الطير وبوارحها، فأعلمهم الله(6/4157)
[ عز وجل] أن كل إنسان قد ألزمه الله طائره في عنقه نحساً كان أو سعداً.
قال ابن عباس: " طائره " عمله وما قدره الله [ عز وجل] عليه، وكذلك قال مجاهد، [وقال]: وما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقرأ: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} [الأعراف: 37] أي: ما سبق لهم. يعني: كتاب عمله.
وإنما خص العنق بالذكر [دون] سائر الأعضاء لأنه تعالى خاطب العرب / بلسانها وبما تستعمله من لغاتها. والعنق عند العرب هو موضع السمت وموضع القلادة والأطواق وغير ذلك، فنسب إلزام الكتاب إلى العنق لكثرة استعمالهم المعاليق فيه. ألا ترى أنهم قد أضافوا الأشياء الملازمة سائر الأبدان للأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء البدن إلى الأيدي فقالوا: " ذلك بما كسبت يداك ". وإن(6/4158)
كان الذي كسبه لسانه أو فرجه.
وقيل: " طائره " حظه. من قولهم: طار بينهم فلان بكذا، إذا أخرج سهمه على نصيب [من] الأنصباء.
وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً}.
قرأه مجاهد والحسن وابن محيص " ويخَرج " بياء مفتوحة. على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً. فيكون الكتاب على هذه القراءة حالاً.
وقرأ أبو جعفر " ويُخرج " بياء مضمومة، على ما لم يسم فاعله والذي قام مقام الفاعل مضمر [في] الفعل و " كتاباً " منصوب أيضاً على الحال، و " كتاباً " على(6/4159)
قراءة الجماعة مفعول بـ " نخرج ".
وقال قتادة: " طائره " عمله.
والمعنى: على قراءة أبي جعفر ونخرج له ذلك العمل {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قال معمر: وتلى الحسن {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17]، فقال: يابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك ف [ي] حفظ حسناتك وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت: أقلل أو أكثر، حتى [إذا] مت طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً. فيقال لك.
{اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
ومعنى: {اقرأ كتابك}.(6/4160)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
أي: كتاب عملك الذي عملته في الدنيا كانت الملائكة تكتبه عليك {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} أي: حسيبك اليوم نفسك يحسب عليك أعمالك ويحصيها عليك لا ينبغي عليك شاهداً غيرها.
قال: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ}.
أي: من استقام على طريق الحق فليس ينفع إلا نفسه لأنه يوجب لها رضوان الله [ عز وجل] ودخول جنته. {وَمَن ضَلَّ} أي: ومن جار أي: عن قصد الحق فليس يضر إلا نفسه لأنه يوجب لها غضب الله [سبحانه] ودخول النار [أعاذنا الله منها].
وتقدير من اهتدى فإنما يكسب أجر هدايته لنفسه: ومن ضل فإنما يكسب إثم ضلالته لنفسه وهو مثل قوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [وهو] مثل(6/4161)
قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.
ويروى أنه نزلت في أبي سلمة / بن الأسود آمن، وفي الوليد بن المغيرة بقي على كفره. وكان الوليد بن المغيرة يقول: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم. فأنزل الله، جل ذكره: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}. والآية عامة في كل مؤمن وكافر.
ثم قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.
أي: لا يحمل أحد ذنبغيره. وقال " وازرة " بمعنى نفس وازرة. وقيل معناه: لا يعمل أحد بذنب لأن غيره قد عمل به كما قال الكفار.
{إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
أي: لا نهلك قوماً إلا بعد الأعذار إليهم بالرسل. وقال قتادة: إن الله [ عز وجل](6/4162)
ليس يعذب أحداً حتى يسبق من الله إليه خبر، أو تأتيه من الله [ عز وجل] بينة.
وقال أبو هريرة: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة، والأبكم، والأخرس والشيوخ، الذين لم يدركوا الإسلام فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار. فيقولون [كيف] ولم يأتنا رسول؟ قال: ولو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً فيرسل الله [ عز وجل] إليهم [رسولاً] فيطيعه من كان يريد أن يطيعه. ثم قرأ أبو هريرة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
وقيل: معناه ما كنا معذبين أحداً في الدنيا بالإهلاك حتى نبعث رسولاً يبين لهم بأي شيء يعذبهم الله [سبحانه] وبأي شيء يدخلهم الله الجنة.
وهذا قول حسن، لأن الآخرة ليست بدار تعبد، فيبعث الله فيها إلى أحد رسولاً، أعلمنا الله أنه لا يعاجل أحداً بعذاب الدنيا إلا بعد إنذار برسول. فأما عذاب(6/4163)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
الاخرة يحل على من كفر بالتوحيد، وإن لم يلأته رسول، لأن الله جل ذكره قد نصب دلالات، وعلامات، تدل على توحيده كل الخلق. فمن كفر ولم تنفعه تلك الدلالات والآيات دخل النار وإن لم يأته رسول. فإنما تأتي الرسل بالشرائع والتحريض على التوحيد الذي قد نصب الله [ عز وجل] عليه الدلالات والعلامات.
قال تعالى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}.
قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ وأبو عثمان النهدي وأبو العالية أمَّرنا مشدداً وكذلك روي عن أبي عمرو. وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي إسحاق وخارجة عن نافع بالمد. وقراءة الجماعة بالقصر والتخفيف.
ومعناها: عند أبن عبس: أمرنا إشراف أهلها بالطاعة ففسقوا فيها.
وقيل: " المترفون " هنا الفسقة. وقيل: هم المستكبرون. والفاسق والمستكبر إذا أمر عصما فيحق عليه القول بعصيانه.(6/4164)
وعن قتادة: أن معنى " أمرنا " أكثرنا.
وقال الكسائي: يجوز أن يكون " أمرنا " من الإمارة، كالمشددة، وأنكر أن يكون / بمعنى أكثرنا. قال: ولا يقال [أمرنا] بمعنى أكثرنا إلا بالمد. وقد حكى أبو زيد وأبو عبيد " أمرنا " مقصوراً، بمعنى أكثرنا. ويقوي هذا التأويل الذي رده الكسائي أن الحديث: " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة. فالسكة(6/4165)
المأبورة النخل المصلح. والمهرة المأمورة الكثيرة النتاج. وهي من أمر.
فأما من قرأ بالتشديد، قال ابن عباس معناه سلطنا، أي: جعلنا لهم إمرة وسلطاناً ففسقوا. والمترفون هنا الإشراف.
ويجوز أن يكون بمعنى: أكثرنا، قاله: الكسائي وغيره.
فأما من قرأ بالمد، فمعناه أكثرنا عددهم ونساءهم. يقال: أمر بنو فلان أمراً إذا كثر عددهم، وغلإمر منه الاسم ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] أي: عظيماً.
وقوله: {فَفَسَقُواْ فِيهَا}.
أي: فخالفوا أمر الله [سبحانه] {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي: وجب عليها(6/4166)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وعد اللع [ عز وجل] الذي وعد من عصاه [به] {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي: خربناها تخريباً وأهلكنا من فيها هلاكاً.
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ}.
هذه الآية فيها تهدد ووعيد لمشركي قريش أن يحل بهم من الهلاك مثل ما حل بالأمم الماضية بعد نوح من الأهلاك بذنوبهم.
ثم قال تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً}.
أي: حسبك يا محمد بعلم ربك وإحصائه لذنوب عباده.
والقرن عشرون ومائة سنة. وقيل مائة سنة. وقيل: أربعون سنة.
ودخلت الباء في " كفى بربك " و " كفى بالله " لأن في الكلام معنى المدح. فالباء تدل عليه. كما يقول: أكرم به رجلاً. وناهيك به صاحباً.(6/4167)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ}.
أي: من كان يعمل للدنيا وإياها يطلب ولا يوقن بمعاد ولا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ} من توسيع أو تقتير لمن نريد.
وقرئت " ما شاء " بالياء، على معنى: ما يشاء الله، أو على معنى: ما يشاء المعجل له ثم يقطره إلى جهنم يصلاها مدموماً مدحوراً.
وقال أبو إسحاق الفزاري: معناه: ما نشاء لمن نريد هلاكه. وقال ابن عباس: " مذموماً ": ملوماً.
[ثم قال تعالى] {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
أي: ومن أراد ثواب الآخرة وعمل لها عملها الذي هو طاعة الله " وهو مؤمن " أي: مصدق بثواب الله [سبحانه] وعقابه [ عز وجل] { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}(6/4168)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
وشكر الله [ عز وجل] إياهم على سعيهم، حسن جزائه [تعالى] لهم على أعمالهم وتجاوزه عن سيئاتهم.
قال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ}.
" كلا " منصوب بنمد و " هؤلاء " / بدل من كل. والمعنى: أن الله [ عز وجل] يرزق كلا: الذين يريدون العاجلة، والذين يريدون الآخرة من عطائه إلى بلوغ أجل الفريقين. ثم تفترق بهما الأحوال بهد الممات. وتفرق بهم الورود يوم القيامة. فمن أراد العاجلة فإلى جهنم يرد ومن [أراد] الآخرة فإلى الجنة يرد.
ثم قال: {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}.
أي: ممنوعاً عمن بسطه الله [ عز وجل] عليه، قال قتادة: محظوراً منقوصاً.(6/4169)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
وقال في معنى الآية: إن الله [ عز وجل] قسم الدنيا بين البر والفاجر: والآخرة خصوصاً عند ربك للمتقين.
ومثل هذه الآية في معناها على قول قتادة: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 32] أي: يشترك في الدنيا في الطيبات البر والفاجر. و [الآخرة خصوصاً عند ربك للمتقين، أي]: تخص الآخرة للمؤمنين.
قال تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}.
والمعنى: انظر يا محمد كيف هدينا أحد الفريقين إلى السبيل الأرشد، ووفقناه إلى الحق. وخذلنا الفريق الآخر فأضللناه عن الحق، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} إذ ينصرف فريق إلى النعيم المقيم، وفريق إلى عذاب جهنم لا يفتر عنهم أبداً.
وقيل: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} في أهل الجنة يتفاوتون في المنازل فيها، منهم من(6/4170)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
يعلو على بعض في النعيم والدرجات على قدر منازلهم وأعمالهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم " بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها " قال الضحاك: من كان من أهل الجنة عالياً رأى فضله على من هو أسفل منه ومن كان دونه لم ير أن أحداً فوقه أفضل منه.
معنى الآية أن ظاهرها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، والمعنى لا تجعلوا مع الله شريكاً فيقعد كل واحد منكم مذموماً، أي: ملوماً على ما صنع " مخذولاً " أي: قد أسلمه ربه.
قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
قال ابن عباس: قضى معناه: أمر. وفي حرف عبد الله: " ووصى ربك " وكذلك قرأها الضحاك و [ال [معنى أمر أن تفرده بالعبادة فلا تجعلوا له شريكاً.(6/4171)
ثم قال: {وبالوالدين إِحْسَاناً}.
أي: وأمركم أن تحسنوا بالوالدين إحساناً ومعنى " بالوالدين " إلى الوالدين.
وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}.
من وحد يبلغن فلأنه فعل مقدم فاعله {أَحَدُهُمَا}. ومن أظهر ضمير اثنين فلأنه تقدم ذكر الوالدين فثناهما لتقدم ذكرهما قبل الفعل. ويكون أحدهما مبتدأ وكلاهما معطوف عليه والخبر محذوف. وقيل: أن أحدهما أو كلاهما بدل من المضمر في يبلغن.
ثم قال [تعالى]: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} /.(6/4172)
في " أف " / سبعُ لغات: أفَّ بالفتح وأفَّ بالكسر، [و " أف "، بالكسر] والتنوين. فهذه ثلاث قرئ بهن وأربع لم يقرأ بهن وهن: أفّاً بالنصب والتنوين وأفٌّ بالضم والتنوين وأف بالضم غير منون. وحكى الأخفش: " أفي " بالياء.
فمن فتح أو ضم أو كسر حركة لالتقاء الساكنين. ومن فتح ونون اعمل الفعل فيه كما تقول: ما قتلت أفاً ولا تفاً. ومن كسر ونون كسر لالتقاء الساكنين وشبهه بالأصوات فنونه.
وقيل أن من نونه جعله نكرة، معناه: لا تقل لهما قبيحاً من القول. ومن لم ينونه جعله معرفة معناه: لا تقل لهما القبيح من القول.(6/4173)
وقيل [المنَوَّن] منه وغير المُنَوَّن سواء، وإنما يكون التنوين فرقاً بين المعرفة والنكرة فيما جاء ناقصاً على حرفين نحو مه وصه، ولكن شبه هذا بما جاء على حرفين من هذه فنون على التشبيه لأنه يعطى ذلك للمعنى من التعريف والتنكير.
ومن ضم حركة لالتقاء الساكين. و [من] خصه بالضم على التشبيه بقبل وبعد. وقيل: ضم على الاتباع لضمه الهمزة كما تقول: مُدَّ. فتضم الدال اتباعاً لضمة الميم.
ومن نون المضموم فعلى القولين الأولين: على التشبيه بالأصوات [أو] للفرق بين المعرفة والنكرة. واستبعد الأخفش التنوين مع الضم. قال: لأنه ليس معه لام. كأنه يقدره إذا رفعه ونونه مرفوعاً بالابتداء. كما قيل: ويل له. وقال في نصبه بالتنوين: إنه مثل: تعساً له.
ومعنى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي: أن يبلغا عندك من الكبر ما يحدثان عندك من الضعف تحتهما، فلا تقذرهما حين ترى الأذى. ولكن تم [ي] ط عنهما ذلك كما كانا(6/4174)
يميطان [هـ] عنك صغيراً، قاله مجاهد.
وقيل معناه: لا تستثقلهما ولا تغلظ عليهما في القول ولا تتبرم عليهما. و [أ] صل هذا: أن الإنسان إذا وقع عليه غبار أو شيء فتأذى به نفخه فقال: " أف " وقيل الأف: وسخ الأظفار. والتف الشيء الحقير، نحو وسخ الأذن. والأول أشهر وأعرف.
وقوله: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}.
[أي]: ولا تضجر عليهما وتصح. وقال عطاء: لا تنفض يديك على والديك.
{وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، قال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول. وعن عمر ابن الخطاب [رضي الله عنهـ] أنه قال: لا تمتنع من شيء يريدانه. وقال قتادة: {قَوْلاً كَرِيماً}(6/4175)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
سهلاً ليناً. وقال ابن المسيب: هو قول العبد المذنب الذليل للسيد الفظ الغليظ.
قال: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة}.
أي: كن لهما ذليلاً، رحمة منك لهما / وتعظيماً فيما أمر [ا] ك به مما ليس معصية [لله عز وجل] . هذا قول عروة بن الزبير. وعنه أيضاً أن معناه: لا تمتنع من شيء أحياه.
والذل والذلة: مصدر الذليل. والذل: بكسر الذال من غيرهما، مصدر الذلول. نقول دابة ذلول بينة الذل إذا كانت لينة. ومنه قوله:(6/4176)
{جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15].
وقرأ ابن جبير والجحدري " الذِل " بكسر الذال، بمعنى: ألِنْ لهما جانبك واسمح لهما. يقال رجل ذلول بين الذل إذا كان سمحاً لينا مواتياً. ومنه
{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان: 17].
ثم قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
أي: وقل: يا رب اعطف عليهما برحمتك كما عطفا عليّ في صغر [ي] فرحماني وربياني صغيراً.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم وهو رافع صوته: " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " وكانوا يرون أن من بر(6/4177)
والديه، وكان فيه أدنى تقى، فإن ذلك مبلغه جسيم بالخير.
و [قد] قال بعض العلماء أن قوله: {رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} منسوخ بالنهي عن الاستغفار للمشركين.
وقال بعضهم: الآية مخصوصة في المؤمنين خاصة.
وقيل: هي عامة إلا لمن مات من المشركين، فلا يستغفر له. فأما إذا كانا مشركين حَيَّيْنِ، فيجوز للمسلم أن يستغفر لهما كما فعل إبراهيم [ صلى الله عليه وسلم] خليل الرحمن [ عز وجل] .
ويروى أن رجلاً قال: " يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيء أبرهما [به] بعد موتهما؟ قال: " نعم، الصلاة عليهما [يعني] الدعاء لهما، والاستغفار(6/4178)
لهما، وإكرام صديقهما ولإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا يوصل إلا بهما ".(6/4179)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}.
معناه: ربكم يعلم ما تعتقدون من إبرار والديكم وتعظيمكم إياهم، أو ضد ذلك من العقوق لهم، فيجازيكم على ما تعتقدون في أمرهم.
[ومعنى {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} أي: إن أصلحتم نياتكم وأطعتم الله في والديكم في القيام بهم والمعرفة بعقوقهم بعد صبوة كانت معكم في أمرهم]، أو زلة زللتم، في [ترككم] إبرارهم، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ} أي: للثوابين بعد الهفوة " غفوراً " أي: ساتراً لذنوبهم إذا تابوا منها.
قال ابن جبير في قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}.
هي المبادرة: تكون من الرجل إلى أبويه بذلك إلا الخير.(6/4180)
وقال ابن عباس: " للأوابين " المسبحين. وقيل: هم المحسنون المطيعون. روي ذلك عن ابن عباس أيضاً.
وقال قتادة: هم المطيعون، أهل الصلاة. وقال ابن المنكدر: هم المصلّون بين المغرب والعشاء. وقال عون العقيلي [هم] الذين يصلّون صلاة الضحى. وقال مالك / عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال ابن جبير: هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد:(6/4181)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء فيتوبون منها.
وأصل آب إلى كذا، رجع إليه فكأنهم الراجعون من معصية الله [ عز وجل] إلى طاعته. ومن آب الرجل من سفره، أي: رجع. وأوّاب فعّال من أب. والأوبة الرجعة منه.
قال تعالى: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل}.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته. قال الحسن أمر الله [ عز وجل] في هذه الآية بصلة الرحم، ونذب إلى أن تعطي القرابة من المال من غير الزكاة، ولهم في الزكاة حق وغير ذلك. وقال ابن عباس: هو أن تصل قرابتك والمساكين وتحسن إلى ابن السبيل. وقيل: عني بذي القربى هنا قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي ذلك عن الحسن بن علي، أن يعطوا من غير الزكاة.
والمسكين هنا هو الدليل من الفقر. وابن السبيل المسافر المنقطع به يضاف(6/4182)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
ويحسن إليه. وقيل: حق ابن السبيل ضيافته ثلاثة أيام. وهذا ندب غير فرض.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
أي: لا تمحق ما أعطاك الله [ عز وجل] من مال في معصيته، وأصل التبذير التفريق في السرف. قال ابن مسعود: التبذير: الإسراف في الإنفاق في غير حق. وهو قول ابن عباس وقتادة.
وقال ابن زيد: هو النفقة في المعاصي. وهذا قوله حسن.
قال تعالى: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين}.
[أي: المفرقين أموالهم في معاصي الله تعالى وفي غير الحق كانوا أولياء للشياطين].
{وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً}.
أي: لنعمة ربه [ عز وجل] جاحداً لا يشكره عليها، إذ يترك طاعته ويتبع معصيته فكذلك إخوانه من بني آدم.(6/4183)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
وكل من تابع أمر قوم وسنتهم فالعرب تسميه أخاً. فلذلك قال: {كانوا إِخْوَانَ الشياطين}.
قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا}.
أي: إن أعرضتم بوجوهكم عن هؤلاء الذين أمرتم أن تعطوهم حقوقهم من أجل عدمكم، تبتغون انتظار رزق من عند الله فلا تؤيسوهم ولكن قولوا لهم قولاً ميسوراً، أي: عدوهم وعداً جميلاً. بأن تقولوا لهم: سيرزق الله فنعطيكم. . . وشبه ذلك من القول اللين. كما قال تعالى ذكره: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] هذا معنى قول النخعي وابن عباس وغيرهما.
وقال ابن زيد: معنى الآية: إن خشيتم منهم أن ينفقوا ما أعطيتموهم في معاصي الله [ عز وجل] ورأيتم أن منعهم خير، فقولوا لهم: قولاً ميسوراً، أي: قولاً(6/4184)
جميلاً: رزقك الله، ووفّقك الله ونحوه.
وكان النبي عليه السلام إذا سئل وليس عنده شيء أمسك انتظار رزق الله [ عز وجل] أن يأتي كأنه يكره الرد. فلما نزلت {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي يقول / يرزقنا الله وإياكم من فضله.
وقال جماعة من المفسرين: [نزلت] هذه الآية في خباب، وبلال وعامر بن فهيرة، وغيرهم من فقراء المسلمين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم فيعرض عنهم ويسكت. إذ لا يجد ما يعطيهم، فأمر أن يحسن لهم في القول، إلى أن يرزقه الله ما يعطيهم، وهو قوله: {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا}، أي: انتظار الرزق من ربك تتوقعه {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} أي: عدهم وعداً حسناً.(6/4185)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ}.
هذا مثل ضربه الله [ عز وجل] للممتنع من الإنفاق في طاعة الله [ عز وجل] وفي الحقوق التي أوجبها الله [سبحانه]، فجعل المانع لذلك كالمشدودة يده إلى عنقه لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.
والخطاب للنبي [ صلى الله عليه وسلم] والمراد به أمته، والمعنى: ولا تمسكوا أيديكم بخلاً عن النفقة في الله، فتكونوا كالمغلولة يداه إلى عنقه، ولا تبسطوها بلنفقة كل البسط، فتبقون لا شيء لكم ولا تجدون إذا سئلتم ما تعطون سائلكم، فتقعدون، وأنتم ذوو لوم، أن يلومكم سائلوكم إذ لم تعطوهم، وتلومكم أنفسكم على الإسراف في أموالكم.
ومعنى {مَّحْسُوراً} أي: مقطوعاً لا شيء معك، هذا معنى قول ابن عباس وقتادة. وقال ابن جريج: معناه لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به، ولا تبسطها بالإنفاق فيما نهيتك عنه، " فتقعد ملوماً " مذنباً " محسوراً " منقطعاً بك.
وقال ابن زيد: معناه: لا تمسك عن النفقة في الخير، ولا تنفق في الحق والباطل،(6/4186)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
فينفد ما في يديك فلا تجد ما تعطي سائلك فيلومك، وتقول أعطيت هؤلاء ولم تعطني.
وقيل المعنى لا تبخل فتمنع حق الله [ عز وجل] ولا تجاوز الحق الواجب في الإنفاق والإعطاء فيبقى قوم من السؤال يتأخرون فلا يجدون ما يأخذون {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} يلومك الناس الذين فاتهم العطاء " محسوراً " أي منقطعاً ليس معك ما تعطي.
قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ}.
أي: يوسّع على من يشاء في رزقه ويقتر على من يشاء، إنه خبير بعباده يعلم مصالحهم ويعلم ما يفسده السعة في الرزق ويصلحه التقتير، ومن يفسده التقتير وتصلحه السعة، بصير بتدبيرهم وسياستهم.
وروي عن قالون: " كل البصط " بالصاد. والأشهر عنه وعن الجماعة بالسين.(6/4187)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قال [تعالى]: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}.
هذا نهي عما كانت العرب تفعله. كانت تقتل البنات خوف الفر [والإملاق] والفاقة، فأخبرهم الله [ عز وجل] أن أرزاقهم وأرزاق أولادهم على الله [ عز وجل] .
وتقتلوا في موضع / نصب عطف على: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا} [الإسراء: 23] ولا تقتلوا ". و [قيل]: هي في موضع جزم على النهي. وكذلك: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 23].
" ولا تقتلوا ": وما بعده هو كله عند الطبري منصوب محمول على:
{وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا} وينقض عليه هذا التقدير قوله: " ولا تقف " وقوله: " ولا تمش "، فهذا مجزوم على النهي بلا اختلاف، فما قبله مما عطف عليه [مثله(6/4188)
مجزوم] وعلى ذلك أكثر العلماء، وهو الصواب إنشاء الله [ عز وجل] .
ومعنى " كان خِطئاً ": على قراءة نافع كان إثماً كبيراً. لأنه يقال: خطئ يخطا خطئاً فهو خ [ا] طئ كإثم يأثم [إثماً] فهو آثم، وذلك إذا أتى الذنب عمداً. ويقوي هذا ما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أنهم قالوا: الخطء الخطيئة. ومعنى الآية: يدل [على] هذه القراءة لأنهم كانوا يتعمدون قتل البنات خوف الفقر. وقيل: إن هذه القراءة لغة في الخطأ والخطأ ما لم يتعمد فجاء فيه فعل وفعل كما يقول قتبٌ وقُتُبٌ، ونَجِسٌ ونَجَسٌ.
وقراءة ابن ذكوان: " خَطَأ " بفتح الخاء والطاء. ومعناها: كان غير صواب.(6/4189)
الخطأ ما لم يتعمد فعله يقال أخطأ الرجل يخطي أخطاءً إذا لم يتعمد. والخطأ الاسم منه.
وزعم أبو عبيدة أن الخطء [والخطا] مما تعمّد كلاهما من خطئة فالخطأ الاسم منه والخطا المصدر بمنزلة حذر حذراً.
وقرأ ابن كثير " خطاءً " بالمد وكسر الخاء. وقرأ الحسن بفتح الخاء والمد. وأنكرهما النحاس، ووجههما ظاهر. وقد قال امرؤ القيس في وصف فرسه:(6/4190)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
لها وثبات كصَرُبِ السحاب ... فواد خطاء وواد مُهْر
ويروى بفتح الخاء، رواه أبو حاتم بالفتح لقراءة الحسن. ورواه أبو عبيدة " فواد خطيط ". قال الأصمعي: الخطيطة: أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين. فكان فرسه يثب وادياً لا يؤثر فيه ويؤثر في آخر، فشبه ما يؤثر فيه بالواد الممطور. وما لم يؤثر فيه بالواد الخطيط. فهذا تمثيل.
وفال ابن الإعرابي: " فواد خطا " أي يخطو وادياً، وواد مطر. أي تعدو [وا] دياً. فتكون [خطاء]: جمع خطوة، مثل: صفوة وصفاء. [فيكون] معنى القراءة، على هذا المعنى، إن قتلهم كان تركاً للحق ومجاوزة إلى الباطل.
قال [تعالى]: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}.
أي: وقضى ربك ألا تقربوا الزنا. هذا [على] قول: من جعله في موضع(6/4191)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
نصب. ومن جعله مجزوماً، قدره نهياً بعد نهي فالمعنى أن الزنا كان فاحشة. {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي: وساء طريق الزنا طريقاً لأنه معصية لله [ عز وجل] تورد صاحبه نار جهنم.
قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق}.
أي: لا تقتلوا نفساً قد حرّم الله [ عز وجل] قتلها. " إلا بالحق " / أي: إلا أن تكفر بعد إسلام، أو تزنى بعد إحصان، أو قوداً بنفس.
وقوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}.
أي: جعلنا له نصراً وحجة على أخذ الثأر ممن قتل وليّه فإن شاء عفا وإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية. فإذا عفا بعض الورثة لم يقتل القاتل. والمرأة في ذلك والرجل سواء إذا كانا وارثين، هذا قول الشعبي وعطاء وطاووس والنخعي(6/4192)
والثوري والشافعي وابن حنبل. فإن كان في الورثة صغيراً استوني بالقتل حتى يبلغ، فإن عفا لم يقتل وإن لم يعف قتل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى. وابن شبرمة. والثوري وأحمد وإسحاق.
وقال الحسن البصري وقتادة لا عفو للنساء وإن كن وارثات.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ في المرأة اختلاف، وروي عنه أنه قال: لا عفو(6/4193)
للزوج، وعنه: لا عفو للمرأة في الدم.
وقال الليث وربيعة والأوزاعي ليس للنساء عفو في دم ولا قسامة.
وقال مالك إذا كان ورثة المقتول بنين وبنات فعفت إحدى البنات لم يجز عفوها، فإن عفا أحد البنين جاز العفو وأخذت الدية ويرثها الورثة على قدر موارثهم من الميت، ويقضي عن الميت من الدية دين إن كان عليه.
وقوله {لِوَلِيِّهِ} يحتمل واحداً وجماعة، كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2].
ومعنى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} أي: من قتل على غير المعاني المتقدم ذكرها. وقال الشافعي: إذا عفا الولي استحق أخذ الدية.(6/4194)
ثم قال تعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل}.
أي: لا يقتل الولي غير قاتل وليه. لأن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك: يقتل الرجل الرجل فيقتل أولياء المقتول أشرف من القاتل ويتركون القاتل، فنهى الله [ عز وجل] عند ذلك بقوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أي لا يسرف الولي.
ومن قرأ بالتاء، جعله مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده. وقيل هو مخاطبة للقاتل ألا يقتل غيره فيسرف في ذلك فيناله القتل.
وقيل: معنى {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} لا يمثل ولي المقتول بالقاتل، بل يقتله كما قتل وليه، قاله قتادة.
وقيل: معناه لا يقتل اثنان بواحد.
والهاء في " أنه " تعود على المقتول، فتعود الهاء على " من " قاله مجاهد. فيكون(6/4195)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
المعنى: إن المقتول كان منصوراً بوليه.
وقال قتادة: الهاء للولي. أي: [بأن الولي] كان منصوراً.
وقيل: الهاء تعود على الدم. أي: [إن] دم المقتول كان منصوراً على القاتل.
وقال الفراء: الهاء تعود على القتل أي القتل كان منصوراً.
وقال أبو عبيدة الهاء للقاتل [أي]: إن القاتل كان منصوراً إذا قيد منه في الدنيا وسلم من عذاب الآخرة بقتله.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}.
أي: لا تأكلوا أموال اليتامى إسرافاً وبدراً أن يكبروا ولكن / أقربوها بالإصلاح والتثمير لها.
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فكانوا لا(6/4196)
يخالطوهم في طعام ولا أكل ولا غيره. فأنزل الله [ عز وجل] .
{ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقر: 220] فكانت هذه رخصة لهم في المخالطة.
وقال مجاهد: معنى الآية: لا تقربوا مال اليتيم فتستقرضوا منه {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} التجارة لهم فيها.
وقوله: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
قال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد: الحلم. ومعناه في اللغة: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه. وأن يكون مع ذلك في غير ذي عاهة في عقل وأن يكون حاز ما في ماله. وكذلك الأشد في قصة يوسف [عليه السلام] هو الحلم، فأما الأشد في [قصة] موسى [عليه السلام] فقيل: هو بضع وثلاثين سنة. و " استوى " بلغ أربعين سنة.(6/4197)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
و [قيل]: الأشد هنا ثمان عشرة سنة.
والأشد، عند سيبويه، جمع واحد [هـ]: شَد كقَد وأقدُ. وهو عند غيره اسم مفرد.
ثم قال [تعالى]: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً}.
أي: مسؤولاً عنه من نقضه. أي: أوفوا بما عاهدتم عليه الناس من صلح أو بيع أو شراء. إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، وقيل: مسؤولاً: مطلوباً. ومن العهد الذي أمر الله [ عز وجل] بوفائه الوقوف عند أمره ونهيه والعمل بطاعته ومنه جميع ما أمر الله [ عز وجل] به في هذه الآية قبله ونهى عنه.
قوله: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ}.
أمر الله جل ذكره عبيدة ألاّ يبخسوا الناس في الكيل إذا كالوا لهم وأن يزنوا بالقسطاس، وهو العدل بالرومية قاله مجاهد. وقال الضحاك: هو الميزان. وقال(6/4198)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
الحسن: هو القبان.
وروى الأعمش عن أبي بكر: " القصطاس " بالصاد في السورتين.
ثم قال: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
أي ذلك خير لكم. أي: الوفاء خير لكم من بخسكم إياهم وأحسن عاقبة.
وقيل: معناه وأحسن [من] تؤول إليه الأمور في الدنيا والآخرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقدر الرجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله [ عز وجل] إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ".
وقال قتادة: " وأَحْسَنُ تَأَوْيلاً " وأحسن ثواباً وعاقبة.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.(6/4199)
قال ابن عباس: معناه ولا تقل ما ليس لك به علم.
وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، ولا سمعت، ولم تسمع فإن الله سائلك عن ذلك كله. وقال محمد بن الحنفية: هو شهادة الزور. وعن ابن عباس أيضاً معناه: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم. وكذلك قال مجاهد:
فدخل في هذه المعاني النهي عن قذف المحصنة، وعن القول في الناس / بما لا تعلم، وعن الكلام في الدين والفقه بالظن.
وقيل معناه: لا ترم أحداً بذنب لم تحققه، وإنما هو ظن طننته به.
والقفو شبيه بالبهتان: يرمي به الرجل صاحبه.
وقال الفراء: تقف من القيافة، يقال: قاف القايف يقوف إذا اتبع الأثر [إلا](6/4200)
أنهم قدموا القاف وأخروا الواو، كقولهم: جذب وجبذ.
وقرأ بعضهم: " ولا تقف " مثل تقبل من: قفت الأثر وقراءة الجماعة من قفوت. وهو مثل قولهم: قاع الجمل يقوع وقعاً يقعوا إذا ركب الناقة. ومثله قولهم عاث في البلاد وعثى إذا أفسد.
فأما قوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد} فإنه يدخل فيه النهي عن الاستماع إلى ما لا يحل، والنظر إلى ما لا يحل لأن هذه الأعضاء مسؤولة عما يستعملها ابن آدم فيه من خير وشر.
وأصل القفو في اللغة التتبع. ومه [يقال] قفوت أثر فلان أي تتبعته، ولذلك قال أبو عبيدة، " ولا تَقْفُ مَا لَيْس " لا تتبع ما ليس لك به علم.
وحكى الكسائي عن العرب: قفوت أثره وقفت مثل قلت فيقدمون مرة الواو ويؤخرونها مرة كما يقال: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعاها. فيكون على القلب مثل قول الشاعر:(6/4201)
ولو أني رميتك من بعيد ... لعاقك من دعاء الذنب عاق
يريد عائق، فقلب.
وقوله: " كُلُّ أُولَئِكَ " ولم يقل ذلك، فإنما جرى على ذلك لأن " أولئك " و " هؤلاء " للجمع القليل الذي يقع للتأنيث والتذكي. و " هذه " و " تلك " للجمع الكثير. والتذكير للقليل من الجمع كما كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث والتأنيث بعده. فكذلك التذكير للجمع الأول. والتأنيث للجمع الثاني وهو: الجمع الكثير.
وقال الزجاج: كل ما أشرت إليه من الناس، وغيرهم، ومن الموات فلفظه لفظ أولئك.(6/4202)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
وقيل: كل ما تشير إليه وهو متراخ عنك فلفظه لفظ أولئك.
قال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً}.
أي: لا تمش [في الأرض] مختالاً بطراً متكبراً.
ونصب " مرحاً " على الحال وهو مصدر في موضع الحال.
وقرأ بعضهم: " مَرِحاً " بكسر الراء جعله اسم فاعل وهو نصب على الحال أيضاً. واختار الأخفش هذه القراءة. واختار الزجاج فتح الراء قال: لأن فيه معنى التوكيد وليس ذلك في اسم الفاعل.
ثم قال [تعالى] " {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض}.
أي: لن تقطع الأرض باختيالك واستكبارك. وقيل: معناه إنك لن تقدر على خرق الأرض، وإنما نهى الله [ عز وجل] في هذا عن التكبر والفخر والخيلاء، فأعلم(6/4203)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
خلقه أنهم لا ينالون بذلك، إذا فعلوه، شيئاً لا يبلغه غيرهم ممن لا فخر معه ولا خيلاء.
أي: كل ما نهى الله [ عز وجل] عنه فهو عند ربك سيئة مكروهة.
وقرأ الكوفيون وابن عامر " سيئة " بإضافة السيء إلى الهاء. وحجة هذه القراءة أن الله [ عز وجل] قدّم ذكر أشياء / أمر بفعلها، وذكر أشياء نهى عنها. ولو كان " سيئة " غير مضاف لجعل ما أمر به ورغب في فعله مما تقدم ذكره: كبر الوالدين وإيتاء ذي القربى حقه، ونحوه. سيئة. وهذا لا يجوز فوجب أن يكون السيء مضافاً على معنى: كل ذلك كان السيء منه مكروهاً. وهو قتل النفس وأن تقف ما ليس لك به علم، والزنا، وقتل الأولاد وشبهه. واحتج أيضاً لها بقوله: " مكروهاً " ولم(6/4204)
يقل " مكروهة " فوجب تذكير " السيء " وإضافته لذلك.
وهذا لا يلزم من قرأ " سيئة " غير مضاف لأن الله [ عز وجل] قدّم الأشياء المرغب [في] فعلها ثم أعقبها بما نهى عنه فرجعت " كل ذلك [في قوله: " كل ذلك] كان سيئه على الأشياء التي نهى عنها دون ما تقدم مما رغب في فعله.
وأما التذكير فهو حسن لأنه ذكر " مكروهاً وعلى لفظ " كل " و " كل " مضمر في " كان " و " مكروهاً " خبر عن ذلك المضمر. و " سيئة " خبر آخر فأجرى أحد الخبرين على اللفظ فذكّر، والثاني على المعنى، فأنّث.
وقال إنما ذكر " مكروهاً " في قراءة من قرأ " سيئة " لأن تأنيث السيئة غير حقيقي.
وقيل: " السيء " و " السيئة " واحد فأجرى " مكروهاً " على " السيء " كما حملت الصيحة على الصياح، والرحمة على الرحم، والبينة على البينات والموعظة [على(6/4205)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
المواعظ]، فجاز تذكير ذلك كله ولفظه مؤنث.
وقيل: " السيئة " و " السوء " واحد فذكر " مكروهاً " حملاً على " السوء ".
وقيل إن من قرأ " سيئة " بالإضافة، إنما إضافة على معنى " السيء " كالذي يتحصل من جهته لأن بعضه غير سيء وبعضه سيء. كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يعني: من جهة الأوثان إذ الرجس يكون من جهات سوى الأوثان.
قوله: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة}.
المعنى الذي بيّنا لك يا محمد من الأخلاق: المرغب فيها، والتي نهيناك عن فعلها، " مما أوحى إليك ربك من الحكمة " أي: من الأشياء التي أوحاها إليك ربك يعني القرآن.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ}.
أي: شريكاً في عبادته.
{فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً}.(6/4206)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
أي: تلومك نفسك وعارفوك من الناس: " مدحوراً ": مبعداً مقصى في النار. قال ابن عباس: " مدحوراً " مطروداً.
ويروى أن من قوله [تعالى ": {[وَ] لاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} إلى قوله: {مَلُوماً مَّدْحُوراً} هي العشر كلمات التي أنزلها الله [ عز وجل] على موسى [ صلى الله عليه وسلم] في التوراة. ومثلها التي في الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخر الثلاث آيات. وهي المُحْكَمَة التي ذكرها الله [ عز وجل] في سورة آل عمران. وفيه اختلاف قد ذكرته هنالك.
قال: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً}.
هذا توبيخ للمشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله [سبحانه و] تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ومعناه افاختار لكم ربكم أيها الناس / الذكور من الأولاد واتخذ(6/4207)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
لنفسه البنات وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، فجعلتم لله [ عز وجل] ما لا ترضون لأنفسكم. وقيل: الذين قالوا هذا هم اليهود، قاله قتادة. وقيل: هم كفرة العرب وعليه أكثر المفسرين.
ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}: أي قولة منكرة.
قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن [لِيَذَّكَّرُواْ]}.
أي: صرفنا لهؤلاء المشركين، الآيات والعبر والأمثال، والتخويف، والإنذار، والوعد، والوعيد.
والمفعول لصرفنا محذوف وهو التخويف والإنذار وشبهه وقيل: " في ": زائدة والمعنى: صرفنا هذا القرآن. والأول أحسن.
فالمعنى: صرفنا الأمثال في هذا القرآن لعلهم أن يتذكروا ذلك فيعقلوا خطأ ما هم عليه، فيرجعوا ويؤمنوا وما يزيدهم ذلك البيان إلا نفوراً عن الحق وبعداً منه.(6/4208)
وتشديد " لِيَذَكَّرُوا " تحقيقه بمعنى: يقال تذكرة ما صنعت. وذكرت ما صنعت بمعنى: قال ذكره: {اذكروا نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40] بمعنى: تذكروا نعمتي، أي: تفكروا فيها واعتبروا. وقال: {واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وقَالَ: {[كَلاَّ] إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11 - 12] و {مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] " فكله بمعنى الاتعاظ والاعتبار لا بمعنى ذكر النسيان. وليس من خفف يجعله من ذكر النسيان وإنما هو من التفكر والاعتبار كالمشدد.(6/4209)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
قال [تعالى]: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ}.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله ءالهة: لو كان الأمر كما تقولون من أن مع الله [سبحانه] ءالهة إذن لابتغت تلك [الآلهة] القربى من الله [ عز وجل] ذي العرش العظيم، والتمست الزلفى عنده [جلّت عظمته].
قال قتادة معناه: إذن لعرفوا له فضله فابتغوا ما يقربهم إليه. وقال ابن جبير معناه: إذن لطلبوا إليه طريقاً للوصول ليزيلوا ملكه. وقيل معنى ذلك: إذن لطلبوا الربوبية وضادوه في ملكه كما يفعل ملوك الدنيا.
قال تعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ}. ينزه نفسه عما قالوا وافتروا.(6/4210)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
و " كلوا ": مصدر. جاء على غير ال [م] صدر. ولو جاء على مصدر الكلام لكان تعالياً، ولكنه مثل {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] ومثل " {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17].
قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع}.
أي: تنزهه من السوء الذي وصفه به المشركون و " من فيهن "، يعني: من في السموات والأرض من الملائكة والجن والإنس.
ثم قال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: " يا بني آمرك [أن تقول سبحان الله وبحمده " فإنها صلاة] الخلق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق، قال الله [ عز وجل] : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ".(6/4211)
وعن النخعي أنه قال: الطعام: يسبح. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح / من ضجرة وغيرها.
وقيل معنى ذلك: أن ما من شيء إلا يدل على توحيد الله وينزهه من السوء، فذلك تسبيحه.
وقال الحسن: كل شيء فيه روح يسبح بحمده.
{ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: لا تعقلون ذلك.
وروى معاذ بن محمد الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: " لا تقتلوا الضفادع فإنه ليس لله [ عز وجل] أكثر تسبيحاً منها ".
وذكر أبو عبيد أن داوود صلى الله عليه وسلم بات داعياً لربه [ عز وجل] ومصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد مثلها من أهل الأرض. فكلمته ضفدع من الماء فقالت له: كلا يا أبا سليمان، فوالله إنه لي ثلاثاً من الدهر ما جمعت [ما] بين فقمي تسبيحاً لله [ عز وجل] .(6/4212)
واختلف الناس في تسبيح الموات كالجبال والحيطان [وشبه ذلك]: فقال قوم: تسبيح ذلك ما فيه من دلالة على خالقه ومشيئته، ومنه قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74] يعني: يتبين في ظاهره من قدرة الله [ عز وجل] على خلقه ما يضاهي الخشية لله والإقرار بقدرته.
وقال آخرون: تسبيح الموات أنها تدعو الناظر إليها والمتأمل لخلقها إلى تسبيح الله [تعالى] والنطق بعظمته. فنسب التسبيح إلى الموات لما كانت تنسبه.
كما قالت العرب له: إبل تنطق الناس أي إذا نظروا إليها نطقوا تعجباً منها، من كثرتها، فقالوا سبحان الله! ما أكثرها! ما أحسنها!
و [قال] آخرون وهم أصحاب الحديث وكثير من العلماء. الأشياء كلها تسبح، الموات وغيره، والله [ عز وجل] يعلم تسبيح كل صنف منها، وقد كلمت الحجارة والأشجار والجمادات الأنبياء [عليهم السلام، وكذلك البهائم كلمت الأنبياء وكلمت من كان في عهد الأنبياء. والروايات بذلك كثيرة مشهورة. وهذا باب يتسع فيه(6/4213)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
الكلام لكثرة الشواهد عليه.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
أي: حليماً لا يعجل على خلقه المفترس عليه. " غفوراً " أي: ساتر [اً] لذنوب من آمن [به] منهم. قال قتادة: حليماً: أي: لا يعجل كعجلة بعضهم على بعض.
قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا}.
أي: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجاباً يستر قلوبهم على أن يفهموا ما تقرأه عليهم فينتفعوا به عقوبة على كفرهم.
ومستوراً هنا: بمعنى: ساتر لقلوبهم. وقيل: هو على بابه مفعول لأن الله [ عز وجل] قد ستر الحجاب عن أعين الناس فهو مفعول على بابه. والحجاب هنا(6/4214)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
الطبع على قلوبهم.
ونزلت هذه الآية في قوم كانوا يسبّون النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذا سمعوه يقرأ ليشتدَّ على الناس فأعلمه الله [ عز وجل] أنه يحول بينه وبينهم حتى لا يفهمون ما يقول.
قال /: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}.
أي: جعلنا على قلوبهم أغشية تغشاها فلا تفهم ما تقرأ.
والأكنة: جمع كنان: " أيفقهوه ": أي: كراهة أن يفقهوه وقيل: معناه [ا] لا يفقهوه.
و {وفيءَاذَانِهِمْ وَقْراً}.
أي: جعلنا في ءاذانهم صمماً لئلا يسمعوه.(6/4215)
أي: قال: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرءان وَحْدَهُ}.
[أي]: إذا قلت لا إله إلا الله في القرءان {وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً} أي: انفضوا عنك وذهبوا نفوراً من قولك واستعظاماً من تويحد الله جل ذكره. وقال عبد الله بن الحسن: هو قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وقال ابن زيد " نفوراً " بغضاً لما تكلم به لئلا يسمعوه كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في ءاذانهم لئلا يسمعوا ما يأمرهم به نوح [ صلى الله عليه وسلم] من الاستغفار والأمر بالتوحيد.
وروي عن ابن عباس: أنه عني به الشياطين إذا سمعوا ذكر الله [ عز وجل] وحده في القرءان هربوا.
ووحده: منصوب عند سيبويه على المصدر. ولا يكون إلا مضافاً ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث في ذاته، فإذا قلت جاءني زيد وحده، فكأنك قلت أفرد زيد نفسه بمجيئه إليّ إفراداً. أي: لم يأتني مع غيره. وإذا قلت: رأيت القوم وحدهم. فمعناه:(6/4216)
أفردتهم برؤيتي لهم أفراداً. أي: لم أجاوزهم إلى غيرهم. فكأنه مصدر عمل فيه فعال في معناه من غير لفظه.
فأما قولهم: هو نسيج وحده. فهو مجرور في هذا المثل. ومعناه: المدح للرجل المنفرد برأيه. وهو مأخوذ من الثوب النفيس الذي لا ينسج على منواله [غيره]. وكذلك قولهم: هو عُيير وحدِه وجُحيش وحدِه أتى مخفوضاً مضافاً إليه، ولا يقاس على هذه الثلاثة غيرها.
فأما قولهم: رأيتهم ثلاثتهم وخميستهم، ونحوه من العدد فيحسن نصبه على المصدر كأنك قلت: ثلثتهم تثليثاً وخمستهم تخميساً.
وبعضهم يجر [ي] هـ على ما قبله من الأعراب. يجعله بمنزلة كلهم. فيقول: فعلنا ذلك خمستنا، فيرفع كما تقول: كلنا.
وإن شئت نصبت على المصدر وكذلك: مروا بنا خمستنا. وخمستنا تخفض على(6/4217)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
التأكيد للمضمر المخفوض وينصب على المصدر، وترفع على التأكيد للمضمر المرفوع.
قال [تعالى ذكره]: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}.
أي: نحن أعلم بما يستمع هؤلاء المشركون إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ.
{وَإِذْ هُمْ نجوى} [أي: ذووا نجوى] أي: ذوواسر. وهذا مثل قولهم " قوم رضى " ونجواهم هو سرهم في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
والعامل في: إذ ": من قوله: {إِذْ يَقُولُ} " نجوى " أي: يتناجون في هذا الوقت. والعامل في إذ الأول " يستمعون: الأول. والمعنى: نحن يا محمد لا أعلم باستماعهم إلى قراءتك وقت استماعهم وهم يتناجون في / وقت قولهم بعضهم لبعض: ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً. وقيل: يقول ذلك للمؤمنين.
ومعنى " مسحوراً ": أي: له سَحَر، والسحر الرئة. أي: يأكل ويشرب لأن(6/4218)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
كل من له رئة يأكل ويشرب فهو مثل قولهم {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً}، مثلكم.
وقيل المعنى: قد سحروا وأزيل عن حد الاستواء.
قال [تعالى]: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال}
المعنى: انظر يا محمد بعين قلبك كيف شبهوا لك الاشتباه لقولهم هو مسحور وهو شاعر وهو مجنون. " فضلوا " أي: فجاروا عن قصد السبيل بقولهم. {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}.
أي: فلا يهتدون إلى طريق الحق. وعني بهذا: الوليد بن المغيرة وأصحابه قاله: مجاهد.
قوله: {وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً [أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ]} إلى قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً}.
المعنى: أن الله جل ذكره أخبر عن قول المشركين وإنكارهم البعث بعد(6/4219)
الموت. والرفات: التراب، قاله مجاهد. أي: قالوا منكرين للبعث أنُبعَث بعد أن كنّا عظاماً وتراباً في قبورنا.
وقال ابن عباس: الرفات: الغبار. وقال أبو عبيدة والكسائي/ الرفات الحطام. والعظام ما لم يتحطم، والرفات: ما تحطم، كذا قال أبو عبيدة.
والرفات في اللغة: الرضاض والحطام. يقال: رفت رفتاً إذا حطم. ولا واحد له كالدقاق. وهذا المثال في هذا المعنى، يأتي أبداً محل فعال. نحو الفتات والتراب والرفات والغبار والحطام والرضاض.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام قل لهم يا محمد: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50)} أو كونوا على أي خلق يعظم في صدوركم فلا بد لكم من الموت والبعث أي: استشعروا مت شئتم أن تكونوا عليه من الخلق. فلا بد أن يمتكم الله [ عز وجل] ثم يحييكم.
وقال ابن عباس في قوله: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} هو الموت. أي: لو كنتم(6/4220)
الموت بعينه لأماتكم الله عز وجل ثم أحياكم، وهو قول: أبي صالح والحسن والضحاك. وقال ابن جبير، كونوا الموت فإن الموت سيموت. قال عبد الله بن مسعود: يوتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يجعل بين الجنة والنار فينادي مناد يسمع أهل الجنة وأهل النار، فيقول هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه، فأيقنوا يا أهل الجنة ويا أهل النار بأن الموت قد هلك.
وقال مجاهد قوله: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} هو السماء والأرض والجبال.
ثم أخبر عنهم تعالى ذكره أن جوابهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم] إذ قالوا له " من يعيدنا " أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً، فقل لهم يا محمد يعيدكم {الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً.
ثم قال الله [ عز وجل] لنبيه [عليه السلام] {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ}.(6/4221)
أي: يحركونها استهزاء واستبعاداً للبعث. و/ النغض في كلام العرب حركة بارتفاع وانخفاض. {[وَيَقُولُونَ] متى هُوَ} أي: متى البعث، فقيل لهم يا محمد {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي: هو قريب. لأن عسى من الله [تعالى] واجبة.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ}.
أي: [يوم] يبعثكم يوم يدعوكم من القبور {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: بأمره، قاله: ابن عباس. وقال قتادة: " بحمده " بمعرفته.
وقيل: معناه: بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد على كل حال. كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله. أي: ولله الحمد على كل حال.(6/4222)
وروي عن [ابن] جبير أنه قال: يخرج الناس من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال أبو إسحاق معناه: ويستجيبون مقرين بأنه خالقهم.
وقيل: يستجيبون بحمده يعني: عند النفخة الثانية {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} يعني: بين النفختين. وذلك أنه يكف عنهم العذاب بين النفختين فينامون فذلك ما حكى [ عز وجل] عنهم قي يس أنهم يقولون: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] لأنهم يعذبون من يوم يموتون إلى النفخة الأولى، وهو خاص لمن قاتل نبياً، أو قتل في قتال نبي، أو قتله نبي أو مات على كفره في حياة نبي.
ثم قال [تعالى] قَالُواْ {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}.(6/4223)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
أي: وتحسبون عند موافاتكم يوم القيامة من هول ما تعاينون ما لبثتم في الأرض إلا وقتاً قليلاً كما قال {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين} [المؤمنون: 112و113].
قال قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلّت حين عاينوا يوم القيامة.
قوله {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ}.
أي: وقل يا محمد لعبادي المؤمنين يقول بعضهم لبعض المقالة التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. وقال الحسن: {التي هِيَ أَحْسَنُ} أن يقول لك: يرحمك الله، يغفر الله لك، يريد عند المنازعة. وقيل: {التي هِيَ أَحْسَنُ} أن يقولوا: لا إله إلا الله.
وقوله: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}.
أي: يفسد ما بينهم، ويقبح ما بينهم، ويحرض الكافرين على المؤمنين. إنه كان(6/4224)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
للإنسان عدواً مبيناً، يؤيد الكافر الهالك ويودي المؤمن. ولا سلطان له عليه.
قال تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ}.
هذا خطاب للمشركين الذين أنكروا البعث، والمعنى: " ربكم " أيها المشركون " أعلم بكم إن يشأ يرحمكم فيوفقكم للتوبة والإقرار بالبعث {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فيخذلكم فتموتون على كفركم فتعذبون في الآخرة.
ثم قال [تعالى] لنبيه [عليه السلام]: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.
أي: رقيباً تجبرهم على الإيمان، إنما عليك أن تبلغهم ما أرسلت به لا غير.
قال {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض}.
أي: ربك يا محمد أعلم بمصالح من في السماوات والأرض وتدبيرهم / وأهل التوبة منهم من أهل المعصية.
ثم قال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ}.(6/4225)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
وهو اتخاذه لإبراهيم خليلاً، وتكليمه موسى، وجعل عيسى كآدم وإيتاء سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داوود زبوراً. وهو دعاء علّمه الله داود تحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأرسله إلى الناس كافة.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خفف على داوود القرآن فكان يأمر بدابته تسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ يعني: القرآن ".
وفائدة الآية أن الله أخبر المشركين بأنه قد فضّل بعض النبيين على بعض فلا ينكروا تفضيله لمحمد [ صلى الله عليه وسلم] وأعطاه القرآن، فقد أعطي داوود زبوراً وهو بشر مثله.
قال تعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ}.
أي: قل لهم يا محمد: ادع [وا] الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله(6/4226)
عند ضُرٍّ ينزل بكم، فإنهم لا يملكون كشف [الضُّرِ] عنكم ولا تحويله عنكم إلى غيركم.
هؤلاء الذين أمر الله [ عز وجل] نبيه [عليه السلام] أن يقول لهم هذا: هم قوم من المشركين كانوا يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً قاله: مجاهد. وقال ابن عباس: هم عيسى وعزير ومريم كان قوم يعبدونهم. وعنه أيضاً: هم عيسى وعزير والشمس والقمر كان قوم يعبدونهم. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون الملائكة فقط.
وقيل: هم قوم كانوا يعبدون نفراً من الجن: فأ [سلم] أولئك النفر من الجن ولم يعلم بهم من يعبدهم. قاله ابن مسعود. ولذلك قال: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة} أي: أولئك الذين يعبد هؤلاء المشركون يبتغون إلى ربهم القربى والزلفى لأنهم مؤمنون، فيكون: يراد به الجن الذين أسلموا على القول الأخير.(6/4227)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
ويجوز أن يراد بهم الملائكة وعيسى وعزير ومريم على القول الأول.
والهاء والميم في ربهم تعود على أولائك وهم المعبودون. وقيل: تعود على العابدين الكافرين، [أي: المعبودون يبتغون إلى رب العابدين لهم الوسيلة.
وقيل: تعود على العابدين] والمعبودين، أي: المعبودون يبتغون الوسيلة إلى رب الجميع رب العابدين ورب المعبودين.
ومعنى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إلى الله لمصالح أعماله واجتهاده في حياته ويرجون وبأعمالهم تلك رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك يا محمد كان محذوراً.
واختار الطبري قول من قال: هم الجن كان قوم من المشركين يعبدونهم لأن عيسى وعزيراً ومريم لم يكونوا على عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم] فلا يحسن دخولهم هنا في هذا المعنى.
قوله: {وَإِن [مِّن] قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا}.
المعنى: وما من أهل قرية إلا سيهلكون قبل يوم القيامة إما بعذاب أو بموت.(6/4228)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
وقيل معناه وإن من قرية مفسدة أو ظالمة إلا نحن مهلوكها. [وهو / قول حسن] دليله [قوله تعالى].
{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] وله في القرآن نظائر.
{ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً}.
أي: في اللوح المحفوظ. وقيل في الكتاب الذي كتبه الله [ عز وجل] للملائكة فيه أخبار العباد الكائنة والتي لم تكن ليستدلوا بذلك على قدرته [جلّت عظمته].
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات}.
المعنى وما منعنا أن نرسل بالآيات [التي] اقترحتها قريش {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} فأهلكوا واستؤصلوا فلو أرسلت إلى هؤلاء بالآيات وكذبوا(6/4229)
لأهلكوا واستؤصلوا، ففعل الله [ عز وجل] بهم في ترك مجيء الآيات التي سألوها فيه الصلاح.
وفي هذا ما يدل على أن الله جل ذكره أخَّر الآيات عن قريش، لئلا يكفروا بها فيهلكوا كما فعل بالأمم قبلهم. فكان تأخيره لذلك لما علم أن منهم من يؤمن ومنهم من يولد له من يؤمن. فأخّر الآيات ليتم علمه فيهم. وعلم من الأمم الأول أنه لا يؤمن أحد منهم، ولا يولد لأحد [منهم] من يؤمن فأرسل الآيات فكفروا فأهلكوا. وأخّر ذلك عن قريش ليتم ما علم منهم. وقد ظهرت آيات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فالمعنى في هذا: ما منعنا أن نرسل بالآيات التي معها الاصطلام والهلاك لمن كذب بها، إلا أنا حكمنا على كافري أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم] بعذاب الآخرة وألا يصطلموا بعذاب الدنيا. وهو قوله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين إذ أستنقذهم من الضلال(6/4230)
وهداهم إلى الإيمان، وهو رحمة للكافرين إذ أخّر عذابهم واصطلامهم إلى الآخرة. قال ابن عباس: " سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعون فقيل له: " إن شئت أن تستأتي بهم لعلنا نجتني منهم. وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم قال لا، بل استأني بهم فأنزل الله الآية " وعلى هذا المعنى قول الحسن وابن جبير وقتادة، وهم أهل مكة.
ثم قال [تعالى] {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً}.
أي: وقد سأل [ت] الآيات من قبل محمد [ صلى الله عليه وسلم] ثمود فأتيناها ما سألت وجعلنا تلك الآية [ناقة] مبصرة، أي: ذات أبصار، أي: مضيئة ظاهرة بمنزلة قوله: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أي: مضيئاً. وقيل: معنى مبصرة مبينة. أي: تبين لهم(6/4231)
صدق صالح عليه السلام. وقال مجاهد مبصرة [آية].
ثم قال: {فَظَلَمُواْ بِهَا}.
أي: فظلموا من أجلها لأنهم عقروها وكفروا بما جائتهم فصار ظلمهم من أجلها. وقيل: معناه فظلموا بتكذيبهم بها.
ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً}.
أي: وما نرسل بالعبر إلا تخويفاً / للعباد. وقيل: الآيات هنا: [هي] آيات القرآن. وقال الحسن: هو الموت الذريع.
وقال نفطويه: الآيات هنا ثلاث: آية تدل على النبوة ومعجزة. وآية عقوبة، يعني: سؤال تبين فيها القدرة، وهاتان معه [م] االنظرة، ومنه قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} فهذه معها النظرة، والثالثة: آية سألتها أمة غير ما(6/4232)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
جاءها به نبيها فهذه لا نظرة معها إذا أعطيتها الأمة فكفرت بها أهلكت.
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس}.
أي: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس، وذلك أن الله جل ذكره وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيمنعه من كل من بغاه بسوء، فذكره هنا ما قد قال له أولاً.
ومعنى: {أَحَاطَ بالناس} أي: هم في قدرته وقبضته فلا يصلون إليك يا محمد بسوء، فامض لما أمرت به [من] تبليغ الرسالة. قال الحسن: معناه: أحاط لك بالعرب ألا يقتلوك، فعرف أنه لا يقتل.
ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ [إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ]}.
يعني: [ما أراه] ليلة أسري به افتتن بها قوم فارتدوا عن الإسلام. وهذا(6/4233)
مما يدل على أن الرؤيا التي كانت رؤيا عين لا رؤيا نوم. لأنها لو كانت رؤيا نوم ما افتتن أحد بها ولا ارتد. لأن الإنسان يرى في نومه مثل هذا وأبعد منه. فلما أخبرنا الله [ عز وجل] أن الرؤيا كانت فتنة للناس، علمنا أنها رؤيا عين. لأن من كان ضعيفاً في الإسلام يستعظم الوصول إلى بيت المقدس والرجوع منها في ليلة فيرتد بجهله، وقلة علمه.
وأيضاً فإنها لو كانت رؤيا نوم، لم تكن بآية ولا فيها دلالة عن نبوة، لأن سائر الناس، قد يرى في نومه ما هو أبعد من ذلك.
وعن ابن عباس: إن هذه الرؤيا المذكورة هنا هي رؤيا رءاها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه. فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل. فرده المشركون. فقال ناس: قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فاتتن قوم بذلك.
والصحيح أن الرؤيا هنا ما رأى إذ أسري به. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح(6/4234)
- غداة أسري به - على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثرهم: إن العير لتطرد شهوراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهر مقبلة، فيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. فارتد جماعة من الناس، فذلك الفتنة التي ذكر الله [ عز وجل] .
ويروى " أن الناس ذهبوا إلى أبي بكر [رضي الله عنهـ] فقالوا يا أبا بكر: صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. / فقال أبو بكر: تكذبون عليه. فقالوا: بل ها هو ذا في المسجد يحدث بها الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قالها لقد صدق، فما يعجبك من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته. قال الحسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى إني نظرت إليه فجعل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت أشهد أنك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] كلما وصف له منه شيئاً قال: صدقت أشهد أنك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] حتى إذا انتهى، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر: الصديق. فيومئذ سماه الصديق "
وأنزل الله [ عز وجل] فيمن ارتد عن إسلامه(6/4235)
في ذلك الوقت الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ} الآية.
وقيل: إنها رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فغمته: رأى أن بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات.
والقولان الأولان أحسن وأبين لأن هذه الرؤيا لو صحت ما كان فيها فتنة لأحد. وقد أخبرنا الله أنه جعلها فتنة للناس. وأيضاً فإن السورة مكية، والريا التي رآها في المنام بالمدينة كانت.
وقوله: {والشجرة الملعونة فِي القرآن}.
قال ابن عباس: هي شجرة الزقوم. وهو قول: [أبي] مالك، وعكرمة وابن جبير والنخعي ومجاهد والضحاك.(6/4236)
وقال الحسن: كانت قريش يأكلون الثمر والزبد ويقولون تزقموا من هذه الزقوم فوصفها الله [ عز وجل] لهم في " والصافات ".
قال الحسن: قال أبو جهل وكفار قريش: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يوعدكم بنار تخرق فيها الحجارة ويزعم أنها تنبت فيها [ال] شجرة.
وعن ابن عباس: [إنها] الكشوتا.
وتقدير الآية: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك في الاسرا بك، والشجرة الملعونة في القرآن، إلا فتنة للناس، فكانت فتنة الرؤيا الارتداد، وفتنة الشجر قول أبي جهل وأصحابه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة والنار تأكل الشجر. فزادت بذلك فتنة المشركين وبصيرة المؤمنين.(6/4237)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
وإنما قال الملعونة: وهي لم تلعن في القرآن على معنى الملعون آكلها. وقيل: إنما قيل ذلك: لأن العرب تقول: لكل طعم مكروه ملعون.
ثم قال {وَنُخَوِّفُهُمْ}.
أي نخوف هؤلاء المشركين ونتوعدهم بالعقوبات فما يزيدهم تخويفنا إلا طغياناً أي: تمادياً في كفرهم كبيراً لأنهم لما خوفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالثمر / الزبد وقالوا تزقموا من هذا الزقوم.
قال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ}.
المعنى: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس حسد آدم، وسخر منه، وقال: لا أسجد لمن خلقته من طين، وأنا مخلوق من نار. والنار تأكل الطين. قال ابن عباس: بعث رب العالمين إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم [ صلى الله عليه وسلم] . فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة، وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها، فهوى صائر إلى النار، وإن(6/4238)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
كان ابن نبيين.
قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ}
المعنى: قال إبليس أرأيتك يا رب هذا الذي كرمت عليّ: أي: فضلته علي وأمرتني بالسجود له {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة}. أي: أخرت هلاكي إلى يوم القيامة، يريد النفخة الثانية، وهي التي لا يبقى بعدها أحد إلا الله جل ذكره، فأبى الله [سبحانه] ذلك عليه. وقال إنك {مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] وهي: النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق. وبين النفختين أربعون سنة.
قوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}.
أي: لأستولين عليهم، قاله: ابن عباس. وقال ابن زيد: لأحتنكن لأضلن.
فهو مأخوذ من قولهم: احتنك الجراد الزرع. إذا ذهب به كله. وقيل هو من(6/4239)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
قولهم: حنك الدابة يحنكها إذا ربط حبلاً في حنكها الأسفل وساقها، حكاه ابن السكيت. وحكى: [احتنك] دابته بمعنى احنك، فيكون المعنى على هذا الاشتقاق لأسوقنهم كيف شئت. وإنما قال إبليس هذا: لما قال الله [ عز وجل] { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}.
قال تعالى: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ}.
أي: اذهب فقد أخرتك إلى يوم القيامة، فمن تبعك من ذرية آدم وأطاعك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ}، أي: جزاؤك وجزاؤهم، أي: ثوابك على دعائك إياهم إلى معصيتي، وثوابهم على اتباعهم إياك {جَزَاءً مَّوْفُوراً} أي: مكملاً.
وقال مجاهد: " موفوراً " [أي] موفراً. وقيل موفوراً مكملاً.(6/4240)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
قال تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}. المعنى: واستخف من استطعت منهم، واستجهل ونحوه. ومعنى " بصوتك ": عند مجاهد أنه صوت الغناء واللعب. وقيل معناه: بدعائك إياهم إلى طاعتك. وقال ابن عباس: صوته كل داع دعا إلى معصية الله [سبحانه]، وهو قول قتادة. وقيل: صوت المزمار.
وقيل: هو كل متكلم من غير ذات الله [ عز وجل] فهو صوت الشيطان، وكل راكض في غير ذات الله [سبحانه] فهو من [خيل] الشيطان. وكل ماش في(6/4241)
غير ذات الله [جلت عظمته] فهو من رجل الشيطان.
وقيل معنى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}، أي: أجمع عليهم / من ركبان جندك ومشاتهم يدعونهم إلى طاعتك، يقال: قد أجلب فلان على فلان إجلاباً إذا صاح عليه، والجلبة الصوت.
وقال قتادة: إن له خيلاً ورجلاً جنوداً من الجن والإنس يطيعونه. وقال ابن عباس: خيله كل راكب في معصية الله [سبحانه] ورجله كل راجل في معصية الله [تعالى].
ثم قال [تعالى] {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد}. يعني: الأموال التي أصابوها من غير حلها. قاله مجاهد. وقال الحسن: هي أموال أعطاها الله [ عز وجل] لهم فأنفقوها في طاعة الشيطان. وقيل: هو ما كان المشركون يحرمونه من أموالهم(6/4242)
يجعلونه لغير الله [سبحانه] مثل البحائر والوصائل والحامي وغير ذلك، روي ذلك عن ابن عباس، وقال الضحاك: هو ما كان المشركون يذبحون لآلهتهم.
فأما مشاركته في الأولاد لهم. فقال ابن عباس: يعني أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك. وعن ابن عباس أيضاً أنه قتلهم لأولادهم، وقال قتادة: هو إدخالهم أولادهم في دينهم وما يعتقدون من الكفر، وهو قول الحسن.
وعن ابن عباس، أيضاً: أنه تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزيز.(6/4243)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
ثم قال تعالى: {وَعِدْهُمْ}
أي: عِدْهُمُ النَّصْرَ على من أرادهم بسوء
ثم قال: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً}.
أي: ما يغني عنهم من عذاب الله [ عز وجل] من شيء. وهذا كله من الله وعيد وتهديد لإبليس عليه اللعنة. ومثله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. وقيل: إنما أتى هذا على وجه التها [ون] بإبليس وبمن اتبعه.
قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.
أي: إن الذين أطاعوني واتبعوا أمري {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} " أي: حجة.
وقيل: الآية عامة في كل الخلق فلا حجة [له] على أحد من الخلق توجب أن يقبل منه، هذا قول: ابن جبير.(6/4244)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
وقيل: المعنى أن كل الخلق لا تسلط لك عليهم إلا بالوسوسة.
ثم قال تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}.
أي: وكفى بربك يا محمد حافظاً لك. وقال قتادة: " وكيلاً ": كافياً عباده المؤمنين. وقيل: معناه منجياً مخلصاً من الشيطان.
قوله: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك}.
هذا خطاب للمشركين يذكرهم الله [ عز وجل] نعمه عليهم، فالمعنى: ربكم أيها القوم، هو {الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك} أي: يسير لكم الفلك، وهي السفن {فِي البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: لتتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجارتكم ومطالبكم ولتلتمسوا رزقه {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} إذ سخر لكم ذلك وألهمكم إليه.(6/4245)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
قال ابن عباس يزجي: يجري، وقال قتادة: يسير.
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}.
أي: وإذا نالتكم الشدة والجهد من عصوف الريح أو خوف غرق، فقدتم من تدعون / من دون الله [سبحانه] أي: فقدتم آلهتكم لخلاصكم، ولم تجدوا غير الله [ عز وجل] مغيثاً إذا دعوتموه.
{فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ}.
أي: فلما نجاكم [الله سبحانه] من هول ما كنتم فيه وشدته أعرضتم عما(6/4246)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
دعاكم إليه من خلع الآلهة، وإفراد العبادة له، كفراً منكم بنعمته.
{وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} أي: كفوراً ربه [ عز وجل] .
فالإنسان يراد به الكافرين خاصة.
قال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر}.
المعنى: أفأمنتم أيها الكفار نقم الله [سبحانه] بعد إذ أنجاكم من كربكم أن يخسف الله [ عز وجل] بكم في جانب البر كما فعل بقارون وبداره {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي: حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: فيما يقوم لكم بالمدافعة عنكم من عذاب الله [ عز وجل] " ولا ناصراً ".
وقال أبو عبيدة: " حاصباً " هنا: ريح عاصفة تحصب، أي: ترمي بالحصباء(6/4247)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
من قوتها، وقيل: الحاصب: التراب فيه حصى. والحصباء الحصى الصغار.
قال: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ}.
[أي: في البحر] " تارة أخرى " أي: مرة أخرى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح} وهي التي تقصف ما مرت به فتحطمه وتدقه. من قولهم: قصف فلان ظهر فلان إذا كسره.
{فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} أي: تابعاً يتبعنا بما فعلنا بكم.
قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ}.
أي: فضلناهم بتسليطنا إياهم على سائر الخلق فيسخرونهم كالفلك والدواب،(6/4248)
يدل عليه قوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر}.
ثم قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات}.
[أي: من طيبات] المطاعم والمشارب. وقيل: هي [الحلال. وقيل: ذلك] السمن والعسل. وهو قول شاذ.
ثم قال: {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
فقوله: " على كثير " ولم يقل: " على كل من خلقنا " يدل على أن الملائكة أفضل من بني آدم. وقيل: وأن ابن آدم يتناول الطعام بيده والحيوان آكل بفيه. وفضل(6/4249)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
بما أعطي من التمييز وبصر من الهدى. وقال ابن عباس: فضلوا بأنهم يأكلون بأيديهم والبهائم تأكل بأفواهها.
قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}.
أي: واذكر يا محمد يوم ندعو.
ومعنى " [ب] إمامهم: نبيئهم الذي أرسل إليهم. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وعن ابن عباس أيضاً: [أن] الإمام هنا، كتاب عمل الإنسان مثل قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 79] " وكذلك قال الحسن وأبو صالح وأبو العالية.
وقال ابن زيد: " بإمامهم " بكتابهم الذي أنزل إليهم.
وعن ابن عباس: " بإمامهم " بداعيهم الذي دعاهم إلى الهدى أو الضلالة.(6/4250)
[و] قال أبو العالية: " بإمامهم " بأعمالهم.
ثم قال: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}.
أي: من أعطي كتاب عمله بيمينه لم يظلم من جزاء عمله الصالح مقدار فتيل. وهو الخيط الذي في وسط النواة. /.
واختار الطبري أن يكون الإمام هنا: الذي كانوا يعبدونه في الدنيا.
وقال النحاس: الناس يدعون في الآخرة بهذا كله، يدعون بنبيهم، فيقال: أين أمة محمد؟ وبكتابهم، فيقال: أين أمة القرآن؟ وبعملهم، فيقال: أين أصحاب الورع؟ وكذا الكفار يدعون بضد هذا: أين أمة فرعون؟ وأين أصحاب الربا؟ وفي هذا مدح للمؤمنين على رؤوس الناس وذم للكافرين.
وروي أن المؤمن يمد يمينه سهلاً، ويتناول كتابه بالسهولة، وأن المشرك يمد يمينه ليأخذ كتابه فيجتدبه ملك فيخلع يمينه فيتناول كتابه بشماله.(6/4251)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
قال [تعالى]: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى}.
أي: في الدنيا يريد عمى العين عن الهدى فهو في الآخرة أعمى منه في الدنيا [يريد] أنه يكون في الآخرة أعمى العين والقلب. وعلله أبو عمرو في إمالته الأول دون الثاني: أنه أراد أن يفرق بين المعنين: فأمال عمى العين وفتح عمى القلب للفرق.
وكان عمى القلب بالفتح أولى، لأن الألف فيه [في] حكم المتوسط [ة] إذ تقديره: أعمى: منه في الدنيا.
وافعل الذي معه من هي من تمامه ولذلك صرف بعض العرب كل ما لا ينصرف إلا افعل منك لأن منك من تمامه، وهو مذهب الكوفيين، فلما كانت منك(6/4252)
من تمامه صارت بمنزلة المضاف إليه، والمضاف إليه لا يدخله التنوين فامتنع [افعل] منك من الصرف لذلك.
ويدل على أن الثاني من عمى القلب. أنه لو كان من عمى العين لم يقل فيه إلا: هو أشد أعمى من كذا لأن فيه معنى التعجب.
ومذهب المبرد: أنه لا إضمار مع أعمى الثاني من ولا غيرها ولا معنى للتعجب فيه والثاني عنده من عمى العين كالأول.
قال سيبويه والخليل: لم يقولوا: ما أعماه، من عمى العين، لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فكما لا يقال: ما إيداه، لا يقال: ما أعماه.
وقال الأخفش: لم يقل ذلك، لأن فعله على أكثر من ثلاثة. والأصل فيه " اعماي. ولا يتعجب مما جاوز الثلاثة على لفظه. لا بد من: " أشد " و " أبين " ونحوه. لأن الهمزة لا تدخل على الهمزة فلا يكن بد من فعل ثلاثي تدخل عليه الهمزة. فأتى بأبين وأشد وأكثر ونحوه مما فيه المعنى المطلوب.
وقيل: إنما لم يقل: " ما أعماه " من عمى العين، ليفرق ما بينه وبين " ما أعماه " من(6/4253)
عمى القلب. وكذلك لم يقولوا: ما أسوده. من اللون، للفرق بينه وبين ما اسوده من السؤدد، ثم اتبع سائر الباب على ذلك، لئلا يختلف.
وأجاز الفراء في الكلام والشعر ما أبيضه، وحكي عن قوم جواز ما أعماه و [ما] أعشاه من عمى العين، قال لأن فعله [من] عمي وعشي فهو ثلاثي.
وتحقيق معنى الآية: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن الهدى والإسلام. فهو في الآخرة أشد عمى عن الرشد، وما يكسبه رضى ربه [ عز وجل] والوصول إلى جنته [تبارك وتعالى].
وقيل المعن: / من كان في هذه الدنيا أعمى عن هذه النعم التي تقدم ذكرها: من تفضيل بني آدم وغير ذلك، فهو في نعم الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. لأنه إذا عمي عما يعانيه في الدنيا من النعم، فهو مما يعاينه من نعم الآخرة أعمى أيضاً،(6/4254)
وأضل سبيلاً.
وقال ابن عباس: معناها: من عمي عن قدرة الله في هذه الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى. وكذلك قال: مجاهد.
وقال قتادة: معناها من كان في هذه الدنيا أعمى عن الإيمان بالله [ عز وجل] وتوحيده [سبحانه] مع ما عاين فيها من نعم الله وخلقه [ عز وجل] وعجائبه وما أراه الله [ عز وجل] من خلق السماوات والأرض والجبال [والنجوم]، فهو في الإيمان بالآخرة الغائبة عنه - التي لم يرها - أشد عمى وأضل سبيلاً. وهو قول ابن زيد.
ومعنى: {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} وأضل طريقاً منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورءاها.
وهذا القول حسن مختار. لأن من لم يؤمن في الدنيا [بالله عز وجل] مع ما يرى من الآيات الظارهة الدالات على توحيد الله [سبحانه] فهو أحرى ألا يؤمن بالآخرة(6/4255)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
التي لم يعاين أمرها وإنما هو خبر غائب عنه دعي [إلى] التصديق به.
قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}.
هذه الفتنة، التي ذكرها الله [ عز وجل] هنا، هي أن المشركين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم من استلام الحجر، وقالوا له: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا. فحدث نفسه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال [ عز وجل] يعلم أني لها كاره فأنزل الله [ عز وجل] : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وقال قتادة: أطافوا به ليلة فقالوا أنت سيدنا وابن سيدنا وأرادوه على موافقتهم على بعض ما هم عليه فهم أن يقاربهم فعصمه الله [ عز وجل] فذلك قوله: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. وقال مجاهد: قالوا له إتيِ آلهتنا فامسسها(6/4256)
فذلك قوله: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}.
وقيل: إنما ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن ينظر قوماً بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها. قاله: ابن عباس. وهو ثقيف، سألوا النبي [عليه السلام] أن ينظرهم سنة حتى يهدى إلى آلهتهم الهدي. قالوا له: فإذا قبضنا الهدي الذي يهدى لآلهتنا [أ] سلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يطيعهم على ذلك فأنزل الله [ عز وجل] الآية.
وقيل: إنما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموال [ى] الذين آمنوا بك حتى نج [ل] س معك ونستمع منك. فهم النبي [ صلى الله عليه وسلم] . بذلك طمعاً منه أن يؤمنوا فأنزل الله [ عز وجل] الآية.
وقوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ [خَلِيلاً]}.(6/4257)
أي: لو فعلت يا محمد ما دعوك إليه من الفتنة لاتخذوك خليلاً وكانوا لك أولياء.
والقوف على " إذا " بالنون عند المبرد لأنها بمنزلة أن.
وقال بعض النحويين الوقف عليها بالألف في كل / موضع كما تقف على النون الخفيفة بالألف إذا انفتح ما قبلها. وقال بعض النحويين: إذا لم تعمل شيئاً وقفت عليها بالألف، وإذا عملت وقفت عليها بالنون.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}.
أي: لولا أن عصمناك عما دعاك إليه المشركون من الفتنة لقد كدت تميل إليهم شيئاً قليلاً.
ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ".
حكى ابن الأنباري عن [بعض] أهل اللغة أنهم قالوا: ما قارب رسول الله صلى الله عليه وسلم إجابتهم ولا ركن إليهم قط. وقالوا: " كدت تركن إليهم " ظاهره خطاب للرسول(6/4258)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
صلى الله عليه وسلم وباطنه خبر عن ثقيف. وتلخيصه وإن كادوا ليركنونك. أي: فقد كادوا يخبرون عنك أنك تميل إلى قولهم فنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعل ثقيف على جهة الاتساع والمجاز والاختصار. كما يقول الرجل للرجل كدت تقتل نفسك يعني كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت. فنسب القتل إلى المخاطب وهو لغيره. ومنه قولهم لأريتك ها هنا. فادخلوا حرف النهي على غير المنهي عنه. وتلخيص هذا الكلام لا يحضر هذا المكان حتى إذا أتيته لم أجدك فيه. ومثله {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] دخل النهي على الموت والموت لا يملك ولا يدفع. وتلخيصه لا تفارقوا الإسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم مسلمين.
قال [تعالى] {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات}.
أي لو ركنت إلى هؤلاء المشركين فيما سألوك فيه لأذقناك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
ثم قال: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}.
أي لا تجد يا محمد، لو أذقناك ذلك، من ينصرك علينا فيتمنعنا من عذابك.(6/4259)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
فأخبر الله تعالى ذكره: بأن العقاب بالأنبياء مثل الثواب لهم في الأضعاف. وقد قال في نساء النبي صلى الله عليه وسلم { نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وقال: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
قال: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا}.
أي: إن كاد هؤلاء المشركون أن يستخفونك من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، ولو أخروجك منك لم يلبثوا خلفك فيها إلا قليلاً.
قيل: إنهم [هم] اليهود. أرادوا أن يحتالوا على النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من المدينة. وقالوا له إن أرض الأنبياء أرض الشام. وإن هذه ليست بأرض نبيء فأنزل الله [ عز وجل] الآية. قال هذا المعتمر بن سليمان عن أبيه.(6/4260)
وقيل: هم قريش أرادوا إخراج النبي [ صلى الله عليه وسلم] من مكة قاله قتادة. و [قال]: قد فعلوا / ذلك بعد، فأهلكهم الله [ عز وجل] يوم بدر: وكانت سنة الله [ عز وجل] في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وقال الحسن: همت قريش بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فأراد الله [ عز وجل] نفي قريش فأمره الله [ عز وجل] أن يخرج منها مهاجراً إلى المدينة فخرج بأمر الله [ عز وجل] ولو أخرجوه هم لهلكوا كما قال: {وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً}.
وقيل: الأرض هنا أريد بها أرض الحجاز. وقيل: مكة، وعليها أكثر المفسرين. وقيل: المدينة، وفيه بعد. لأن السورة مكية ولم يكن النبي [عليه السلام] في المدينة عند نزول هذه الآية، فالأرض: يعني: بها مكة أحسن وأولى.(6/4261)
وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أي: [إلا] وقتاً قليلاً. وهو ما أقاموا بمكة بعده من حيث خرج عنهم إلى وقعة بدر. قاله: ابن عباس والضحاك.
و" خلفك ": معناه: بعدك. ومن قرأ " خلافك " فهي لغة فيه. وقيل معناه: مخالفتك، قاله الفراء.
وإذن: حرف نظيره في الأفعال، أرى وأظن. فإذا تقدم عمل، وإذا تأخر أو توسط لم يعمل لضعفه عن قوة الفعل. ولقوة الفعل جاز عمله متوسطاً ومتأخراً وإلغاؤه. وإذا كانت إذن مبتدأة عملت. فإن كانت بين كلامين لم تعمل. فإن كان قبلها حرف عطف جاز الأعمال والإلغاء، ولذلك لم تعمل في " لبثوا ". وفي مصحف عبد الله " وإذا: لا يلبثون خلفك " اعمل إذن في الفعل فهذا حالها مع حرف العطف.
ومعنى إذن: إن كان الأمر كما ذكرت، أو كما جرى بقول القائل: زيد(6/4262)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
يأتيك، فتقول: إذن أكرمه. أي إن كان الأمر كما ذكرت وقع إكرامه مني. فإكرامه والفعل منصوب بعد إذن بأن الضمير في التقدير. هذا مذهب حكي عن الخليل وسيبويه.
ويروى: أن إذن هي الناصبة للفعل [لأنها] لما يستقبل لا غير.
قوله: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا}.
سنة منصوب على المصدر، أي: سن الله [ عز وجل] أن من أخرج نبياً من مكان لا يلبث فيه خلفه إلا قليلاً سنة.
قال قتادة: معناه: سُنَّةَ أمم الرسل قبلك، كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم لم يمهلوا حتى بعث الله [ عز وجل] عليهم عذابه.
وقال الفراء: معناه: لا يلبثون خلفك إلا قليلاً كسنة من قد أرسلنا. فلما(6/4263)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
حذف الكاف نصب، فعلى القول الأول: يجوز الابتداء بها، وعلى قول الفراء: لا يحسن الابتداء بها.
قال: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}.
قال ابن مسعود: هي صلاة المغرب، ودلوك الشمس وقت غروبها. وكذلك روي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وكذلك روى ابن زيد عن أبي.
وروى الشعبي عن ابن عباس: [أن] دلوك الشمس ميلها للزوال والصلاة. صلاة الظهر. وكذلك روى نافع عن ابن عمر. وهو قول: الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد: وروي ذلك عن أبي هريرة.
والدلوك في اللغة الميل. وقال أبو عبيدة: دلوكها / من حين تزول إلى أن تغيب. وقال القتبي: العرب تقول دلك النجم إذا غاب. فاختياره [هو] قول من قال: هو غروب الشمس. واختيار الطبري قول من قال: دلوكها ميلها للزوال.(6/4264)
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت: فصلى بي الظهر ".
وقيل معنى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} عني بذلك: الظهر والعصر.
وقوله: {إلى غَسَقِ اليل}.
غسق الليل إقباله ودنوه بظلامه. قال [هـ] ابن عباس وعكرمة ومجاهد.
وقال قتادة: غسق الليل صلاة المغرب. وقال الضحاك غسق الليل إظلامه؟ فيدخل تحت دلوك الشمس صلاة [الظهر] والعصر وتحت غسق الليل صلاة العشاء.
ثم قال: {وَقُرْآنَ الفجر}.
أي: وألزم قرآن الفجر. فهو منصوب على الإغراء، وهو مذهب الأخفش.(6/4265)
وقيل معناه: وأقم قرآن الفجر. فمن نصب بإلزام حسن الابتداء به. ومن نصب بأقم جعله معطوفاً على ما قبله وهو أقم الصلاة. فلا يحسن الابتداء به لأنه معطوف على ما قبله.
" وقرآن الفجر " صلاة الصبح، " كان مشهوداً " أي تشهده ملائكة الليل والنهار. وسميت الصلاة قرآناً لأنها لا تكون إلا بقرآن. وهذا يدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقرآن. وأنه فرض في الصلاة لأنه كله مأمور به في هذه الآية. والنهار عند الخليل: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.(6/4266)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
قوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}.
معناه: ومن الليل يا محمد فاسهر بالقرآن {نَافِلَةً لَّكَ} أي: خاصة لك دون أمتك. والتهجد: التيقظ، والسهر بعد نومة من الليل، والهجود: النوم. يقال: تهجد زيد إذا سهر، وهجد إذا نام.
قال علقمة والأسود: التهجد بعد نومة.
وقال الحسن: التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة.
قال ابن عباس معنى: " نافلة لك ": فرضاً عليك. فرض الله ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنما قيل له: " نافلة لك " لأنه لم يكن فعله ذلك ليكفر عنه شيئاً من الذنوب. فهو نافلة للنبي [عليه السلام] لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو نافلة له لأنه لا ذنب له، يكفر بنوافله، وهو لأمته كفارة لذنوبهم، قال ذلك مجاهد.(6/4267)
وقول ابن عباس: أولى. لأن هذه السورة نزلت بمكة وسورة الفتح إنما نزلت بعد منصرفه من الحديبية، فنزل عليه الأمر بالنافلة قبل معرفته بأن الله [ عز وجل] قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فواجب أن يكون ذلك فرضاً عليه خاصة. خصّه الله [ عز وجل] به، لأن الصلاة بالليل أفضل أعمال الخير / فَخَضَّ الله [سبحانه] نبيه صلى الله عليه وسلم على أفضل الأعمال.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة الصلاة بالليل ".
وقال عليه السلام: " عليكم بالصلاة بالليل فإنها دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى الله [ عز وجل] ، وكفارة للسيئات ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ".
وقال: " صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ".(6/4268)
وقال [النبي] عليه السلام: " صلوا بالليل ولو ركعتين. ما من أهل بيت تعرف لهم صلاة إلا ناداهم مناديا أهل الدار: قومواإلى صلاتكم ".
وفضل الصلاة بالليل عظيم جسيم إليه انتهت العبادة وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم سأل الله خيراً وهو يصلي إلا أعطاه وهي في كل ليلة ".
ثم قال [تعالى]: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}.
وعسى من الله واجبة، لأن الله [ عز وجل] لا يدع أن يفعل بعباده ما أطعمهم به من الجزاء على أعمالهم لأنه ليس من عادته الغرور ولا من صفته.
والمقام المحمود: هو الشفاعة. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج والحسن.
وقال حذيفة: يجمع الله [ عز وجل] الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي(6/4269)
وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، سكوتاً لا تكلم نفس إلا بإذنه، فينادي محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهتدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ".
قال: فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله جل ذكره.
وعن ابن عباس أنه قال: بلغنا أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت آخر زمرة من زمرة الجنة وآخر زمرة من زمر النار، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة: أما نحن فحسبنا ما علم الله [ عز وجل] في قلوبنا من الشك والتكذيب فما ينفعكم إيمانكم فإذا قالوا لهم ذلك دعوا ربهم [ عز وجل] وصاحوا بأعلى أصواتهم، فيسمع أهل الجنة أصواتهم فيسألون آدم الشفاعة لهم. فيأبى عليهم. ثم يمضون من نبي إلى نبي فكلهم يعتذر حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم [ فيشفع لهم] فذلك المقام المحمود وحديث الشفاعة مختلف الألفاظ طويل ذكرنا منه ما يليق بالكتاب.(6/4270)
وعن مجاهد من رواية ليث، عنه أنه قال: المقام المحمود يجلسه معه على عرشه.
و [عن] النبي عليه السلام في قوله: " مقاماً محموداً " أنه قال: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " رواه أبو هريرة عنه.
وروى كعب بن مالك أن النبي عليه السلام قال: " يحشر الناس يوم القيامة [فأكون أنا وأمتي] على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ".
قال عبد الله بن عمر: أن النبي عليه السلام قال: " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست / بصاحب ذلك. ثم بموسى فيقول: كذلك. ثم بمحمد فيمشي بين الخلق حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ(6/4271)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
يبعثه الله المقام المحمود ".
وروي: عن عبد الله بن سلام أنه قال: " إن محمداً عليه السلام يوم القيامة على كرسي للرب بين [يدي] الرب جل وعز. فهذا قول مجاهد.
وقيل المقام المحمود: هو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون يشرف فيه على جميع الخلائق: يسأل فيعطى ويشفع، ليس أحد يوم القيامة إلا تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ]}.
يعني: مدخله المدينة حين هاجر إليها وخروجه من مكة. قال ذلك: ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد. ودل على هذا ما تقدم من قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76].
وعن ابن عباس أيضاً: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أمتني إماتة صدق وأخرجني بعد(6/4272)
الممات مخرج صدق.
وقال مجاهد: يعني به: أدخلني فيما أرسلتني به مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق من الدنيا.
وعن الحسن أيضاً: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الجنة، وأخرجني مخرج صدق مكة.
وقال الضحاك: معناه أخرجني من مكة آمناً، وأدخلني إياها آمناً وهو يوم الفتح.
وقال أبو صالح: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} الإسلام.
وقيل معناه: أدخلني مكة بالعز والقوة والقدرة والحجة على جميع من خلقت وأخرجني من مكة إلى المدينة لا ألقى إلا مؤمناً ومجيباً. ومعنى {مُدْخَلَ صِدْقٍ}: [مدخل] سلامة وحسن عاقبة. فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة.
ثم قال تعالى: {واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}.
أي: حجة تنصرني بها على من ناوأني، وعزاً أقيم به دينك، وملكاً تقوى به(6/4273)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
أمتي. قاله: الحسن، قال: يوعده الله [ عز وجل] لننزعن ملك فارس عن فارس ولنجعله لك، وعن الروم ولنجعلنه لك، أي لأمتك.
وقيل معناه: حجة بينة، قاله مجاهد. قال ابن زيد: نصيراً ينصرني.
قوله: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. جاء الحق وهو القرآن، وزهق الباطل وهو الشيطان. قاله قتادة.
وقال ابن جريج: جاء الحق: هو قتال المشركين، وزهق الباطل. أي: الشرك الذي هم عليه.
وقيل معناه: أن الله جل ذكره أمر نبيه عليه السلام أن يقول هذا إذا دخل مكة على الأصنام. فقال ذلك حين دخل مكة فخرت الأصنام كلها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخرقها.
وقال ابن مسعود: دخل النبي عليه السلام مكة وحول الكعبة ثلاث مائة وستون(6/4274)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
صنماً. فجعل يطعنها ويقول: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً}.
ومعنى زهق ذهب.
قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.
أي ما يستشفي به المؤمنون ورحمة لهم دون الكافرين. وهو شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الواضحة والحجج الظاهرة / لا يلحق المؤمن ريب في التوحيد معه.
و (من): هنا لبيان الجنس، وليست للتبعيض. فإذا كانت لبيان الجنس كان القرآن كله شفاء للمؤمنين لأنهم يهتدون به. ولو كانت [من] للتبعيض لكان بعض القرآن شفاء وبعضه غير شفاء وهذا لا يحسن.
وقيل: المعنى وننزل من جهة القرآن الشيء الذي فيه شفاء. فمن غير مبعضة، إذ القرآن كله شفاء للمؤمن في دينه ليس بعضه شفاء وبعضه غير شفاء.(6/4275)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
وقوله: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً}.
أي: إلا هلاكاً لأنهم يكفرون به فيزدادون خساراً.
قال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}.
معناه: وإذا أنعمنا على الإنسان فنجيناه من غم ومن كرب أعرض عن ذكر الله وتباعد بناحيته. ومعنى " نأى ": بعد، قال مجاهد: " نأى بجانبه ": تباعد منا.
ثم قال [تعالى] {وَإِذَا مَسَّهُ الشر [كَانَ يَئُوساً]}.
أي: إذا مسه الشر والشدة قنط. قال قتادة: " إذا مسه الشر " يئس وقنط، يعني بذلك: المشرك ينعم عليه وهو يبعد من الإيمان بمن أنعم عليه، وإذا أصابه ضر وفقر يئس من رحمة الله [سبحانه].
وقيل: إنها نزلت في الوليد بن المغيرة ثم في كل من هو مثله من الكفار.
قال: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ}.(6/4276)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
أي: قل للناس يا محمد، كلكم يعمل على طريقته ومذهبه. وقال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته. وقال [ابن] زيد: على دينه.
ثم قال: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً}.
أي: أهدى طريقاً إلى الحق من غيره.
وقيل: معنى الآية كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أهدى طريقاً إلى الصواب من غيره.
وقيل: يعمل على شاكلته اي على النحو الذي جرت به عادته وطبعه.
قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي}.
المعنى: ويسألك يا محمد، كفار أهل الكتاب عن الروح، قل لهم يا محمد(6/4277)
الروح من أمر ربي.
قال ابن مسعود: كنت مع النبي في حرث بالمدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه. فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه. فسألوه عن الروح، فقام متوكئاً على عسيبه فقمت خلفه، فظننت أنه يوحى إليه. فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً}. فقال بعضهم: ألم أقل لا تسألوه.
وقال عكرمة: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} الآية. فقالوا: أتزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ [والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ]} [لقمان: 27] الآية.(6/4278)
وقال قتادة: لقيت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فعنتوه وقالوا: إن كنت نبيأً فستعلم ذلك. فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فأنزل الله [ عز وجل] في ذلك كله.
وعن ابن عباس: " أن اليهود قالوا: / للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا ما الروح؟ وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله عز وجل؟ ولم يكن نزل إليه في شيء. فلم يجد إليهم فيه شيئاً. وأتاه جبريل عليه السلام فقال له: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. الآية فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقالوا من جاءك بهذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم جاء به جبريل من عند الله [ عز وجل] . فقالوا والله ما قاله لك إلا عدونا فأنزل الله [ عز وجل] { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} ".
وقال بعض أهل العلم: علم الله [ عز وجل] أن الأصلح ألا يخبرهم ما هو لأن اليهود قالت لقريش في كتابها أنه إن فسر لكم ما الروح فليس بنبي. وإن لم يفسره فهو نبي.
وهذا القول: أولى بالآية لأن السورة مكية. وقد روى أن قريشاً اجتمعت بمكة(6/4279)
فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد كذاباً، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة فابعثوا منكم جماعة إلى يهود يثرب يسألونهم عنه. فخرجت طائفة حتى لقوا أحبار يهود، وكانوا يومئذ ينتظرونه ويرجون نصرته. فسألهم قريش عنه: فقالت: لهم اليهود: اسألوه عن ثلاث: فإن أخبركم باثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: تسألوه عن أهل الكفه وعن ذي القرنين وعن الروح. فقدموا مكة وسألوه عن ذلك.
وقيل: أنهم سألوه عن عيسى عليه السلام.
فقيل: لهم الروح من أمر الله، أي: هو شيء أمر الله [ عز وجل] به وخلقه لا كما تقول النصارى.
وكان ابن عباس يكتم تفسير الروح. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس: أنه ملك. وعن علي بن أبي طالب [رضي الله عنهـ] إنه ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله [ عز وجل] يتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى(6/4280)
يوم القيامة.
وقيل الروح القرآن، لقوله: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وإنما سمي القرآن روحاً لأنه حياة للقلوب والنفوس لما تصير إليه من الخير بالقرآن.
وقيل إن اليهود وصوا قريشاً يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتحنوا علمه وهذا أحسن ما قيل لآن السورة مكية.
وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا بني آدم، لهم أيد وأرجل.
ومعنى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من الأمر الذي يعلمه دونكم.
وقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً}.
يعني الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل عني به الخلق كلهم ولكنه(6/4281)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
غلب المخاطب على الغائب.
قال عطاء: نزلت بمكة {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} فلما هاجر، " أتى أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أفعنيتنا أم قومك؟ فقال: كلا قد عنيت. قالوا فإنك تتلو / إنا قد أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليل. وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم وأنزل الله [ عز وجل] : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية ".
قال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}.
أي لو أردنا لذهبنا بالقرآن ثم لا تجد لك بذهابه علينا قيماً ولا ناهراً يمنعنا من ذلك.(6/4282)
قال ابن مسعود: معنى ذهابه رفعه من صدور قارئيه. وقال: تطرق الناس ريح حمراء من نحو الشام فلا يبقى منه في مصحف رجل شيء ولا في قلبه آية، ثم قرأ الآية {وَلَئِن شِئْنَا}. وروي عنه أيضاً: أنه قال: يسري عليه ليلاً ولا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل شيء. ثم قرأ: {وَلَئِن شِئْنَا} الآية.
وروي عنه أنه قال: فيصبح الناس منه فقراء مثل البهائم. فيكون معنى الآية على هذا: ولئن شئنا لمحوناه من الكتب ومن الصدور حتى لا يوجد له أثر ولكن لا نشاء ذلك. رحمة من ربك وتفضلاً منه.
{[إِنَّ فَضْلَهُ] كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} باصطفائه إياك لرسالته ووحي كتابه وغير ذلك من نعمه.
وقال ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما يبقى منه الصلاة.(6/4283)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
وإن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع. قالوا كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال يسرى عليه ليلة ويذهب بما في قلوبكم وبما في مصاحفكم ثم قرأ الآية.
ومعنى: {بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: لا تجد من يمنعك من ذلك ولا من يتوكل [لك] برد شيء منه. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته.
قوله: {[قُل] لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ} إلى قوله: {ظَهِيراً}.
المعنى: قل يا محمد للذين ادعوا بأنهم يأتون بمثل هذا القرآن {[قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن] لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} أي: عويناً.
وهذه الآية: نزلت في قوم من اليهود جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن وسألوه آية غير القرآن تدل على نبوته وادعوا أنهم يقدرون على مثل هذا القرآن فأعجزهم الإتيان بمثله فقيل لهم: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فأعجزهم ذلك. فقيل لهم:(6/4284)
{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] فأعجزهم ذلك وقد كان عصرهم عصر فصاحة وبلاغة.
وقيل: إن الخطاب بذلك لقريش وهم الذي عجزوا عن الإتيان بسورة وبعشر سور وهم أهل الفصاحة والبلاغة والشعر والخطابة وكانوا على حرص على أن يأتوا بما يحتجون به على النبي صلى الله عليه وسلم. فلم يقدروا على الإتيان بشيء من ذلك تقوم لهم به حجة فدل ذلك على إعجاز القرآن وأنه دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن إعجاز القرآن تأليفه بالأمر والنهي والوعظ والتنبيه والخبر والتوبيخ وذلك لا يوجد متألفاً في كلام. ومن إعجازه الحذف والإيجاز ودلالة اليسير من اللفظ على المعاني / الثكيرة. وهذا موجود بعضه في كلام العرب [لكن] لا يوجد مثل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] فقد تضمن هذا معاني، ولا يوجد مثله في كلام العرب بهذه الفصاحة ومثله كثير في القرآن.
ومعنى الإيجاز هو إظهار المعاني الكثيرة باللفظ القليل ومن إعجازه ما فيه(6/4285)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
من علوم الغيب التي لم تكن وقت نزوله ثم كانت ومنها ما لم تكن بعد. ومنها ما كانت ولم يكن أحد يعرفها في لذك الوقت، فنزل علمها وتفسيرها في القرآن كخبر يوسف وإخوته. وخبر ذي القرنين، وأهل الكهف، وإخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، التي قد اندرس خبرها وعدم عارف أخبارها، وغير ذلك. . . فنزل القرآن بتبيانها ونصها على ما كانت عليه. ودل على صحة ما أى فيه من الأخبار أن كثيراً منها قد نزل في التوراة [كذلك]. فالتوراة مصدقة لما في القرآن والقرآن مصدق لما نزل في التوراة. وإعجازه أكثر من أن يحصى وله كتب مفردة لذلك.
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ}.
أي: ولقد بينا للناس في هذا القرآن من كل مثل تذكيراً لهم واحتجاجاً عليهم وتنبيهاً لهم على الحق {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} أي إلا جحوداً للحق.
قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً}.
أي: قال المشركون من قومك يا محمد لن نصدقك حتى تفجر لنا من أرضنا(6/4286)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
هذه عيناً تنبع بالماء لنا. قال مجاهد وقتادة. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي بأرضنا هذه {[فَتُفَجِّرَ الأ] نهار خِلالَهَا تَفْجِيراً} أي: خلال النخيل والكروم أي بينها في أصولها.
{أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} أي: قطعاً. لأنه جمع مسفة وهي القطعة. ومن قرأ بإسكان السين أراد قطعة واحدة. ويحتمل أن يكون مسكناً من الفتح فيكون معناه مثل معنى قراءة من فتح السين.
ثم قال: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً}.(6/4287)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
أي: قبيلا [قبيلا]، كل قبيلة على حدتها قاله مجاهد. وقال قتادة " قبيلاً " أي: نعاينهم: يقابلونا. ونقابلهم. وقاله ابن جريج.
وقال القتبي: " قبيلاً " [أي] ضميناً. أي يضمنون لنا إتيانك بذلك. وهو أحد قولي أبي إسحاق. يقال قد تقبل بهذا، أي تكفل به.
قال: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}.
أي من ذهب، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى قرأنا [هـ] في مصحف ابن مسعود " أو يكون لك بيت من ذهب ".
وأصل الزخرف في اللغة الزينة ومنه قوله: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} [يونس: 24] أي(6/4288)
أخذت كما زينتها ولا شيء أحسن في البيت من زينة الذهب.
ثم قال: {أَوْ ترقى فِي السمآء}.
أي: تصعد في درج السماء. ولهذا الإضمار، أتى بـ " في " ولو لم يكن ثم إضمار لكان " إلى السماء " ففي: يدل على المحذوف. أي أو ترقي في سلم إلى السماء.
ثم قالوا: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ}.
أي: لن نؤمن بك إذا صعدت إلى السماء {حَتَّى / تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ}. منشوراً: أي: كتاباً من عند الله عز وجل يأمرنا فيه باتباعك والإيمان بك. قال مجاهد: " كتاباً نقرؤه " أي: من رب العالمين، تصبح عند رأس كل رجل صحيفة يقرؤها.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: قل لهم يا محمد: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}.
أي: قل لهم براءة لله من سوء ما تقولون، وتعظيماً له من [أن] يؤتى به(6/4289)
وبملائكته أن يكون له سبيل إلى شيء من ذلك هل أنا إلا بشر أي: عبد من عبيده من بني آدم فكيف أقدر على ما تكلفوني. وقوله: " رسولاً " أي: أرسلت لأبلغكم عن الله أمره ونهيه.
وكان هذا الكلام فيما رُوِيَ: جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ملأ [من] قريش اجتمعوا للمناظرة فتكلموا بما نصه الله عز وجل في هذه الآية عنهم. وذكر ابن عباس في ذلك: خبراً طويلاً معناه: أنهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة وبعثوا في النبي عليه السلام فأتاهم طمعاً أن يكونوا قد ظهر لهم اتباعه فعذلوه وأكثروا في اللوم والعتب [وطولوا]. قالوا له: إنك فرقت جمعنا، وعيبت ديننا، وسفهت أحلامنا، وما بقي قبيح إلا جئته فينا، أو كما قالوا، ثم قالوا [له]: إن كنت تحب مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن أردت الشرف سودناك علينا. وإن أردت الملك، ملكناك علينا. . . في كلام طويل عتبوه به وعددوا عليه فيه، ووعدوه،(6/4290)
واستنزلوه، طمعاً أن يميل إليهم. ثم قالوا له: فإن لم تفعل ما قلنا لك فاسأل ربك يبعث ملكاً يصدقك بما تقول، أو فاسأله أن يجعل لك جنة وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي. فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه. فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم، وقال: " إنما أنا بشر بعثت إليكم نذيراً لتؤمنوا بالله وكتابه " فقالوا له فاسقط السماء علينا، كما زعمت، إن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن نفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك "، ثم أطالوا الكلام معه، وقالوا [له] إنما يعلمك ما جئت به رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، وادّعوا أنهم يعبدون الملائكة، وهن بنات الله - تعالى الله عن ذلك - فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقام [معه] ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، وهو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال له: يا محمد أعَرَض عليك قومك(6/4291)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم من العذاب فوالله لا أؤمن بك أبداً، حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، معك أربعة أملاك يشهدون لك إنك ما تقول حق وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.
وهذا معنى قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ / بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] الآية.
وروى أن عبد الله بن [أبي] أمية قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نؤمن لك حتى تنزل علي كتاباً من السماء فيه من الله رب العالمين إلى ابن أمية، إني قد أرسلت محمداً [نبياً] فآمن به وصدقه. والله لو أتيتني بهذا الكتاب ما آمنت بك ولا صدقتك ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لما فاته مما كان كمع به من إيمان قومه حين دعوه.
قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى}.
المعنى: وما منع مشركي قومك يا محمد من الإيمان بالله {إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} إلا قولهم جهلاً منهم {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً}. كأنهم استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من بني(6/4292)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
آدم فكفروا ولم يؤمنوا كذلك ولم يعلموا أن الأنبياء كلهم كانوا من بني آدم.
أي: لو كان سكان الأرض ملائكة لجاءهم الرسول من الملائكة مثلهم. لأن الملائكة إنما تراهم أمثالهم من الملائكة ومن خصه الله [ عز وجل] من بني آدم بذلك، فكيف يبعث [الله] إليهم من الملائكة رسولاً وهم لا يقدرون على رؤية ذلك وإنما يرسل إلى كل صنف من جنسه فهذا هو العدل.
ومعنى: " مطمئنين " مستوطنين الأرض. وقيل: [معنى] " مطمئنين ": لا يعبدون الله ولا يخافونه مثلكم.
قال تعالى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
أي: قل لهم يا محمد: {كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه نعم الكافي.
و" شهيداً " حال، أي: كفى بالله في حال الشهادة. وقيل هو تمييز أي كفى(6/4293)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
بالله من الشهداء.
{إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: ذو خبر وعلم بأمورهم وأفعالهم " بصيراً " بتدبيرهم وسياستهم.
وروي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك بأنك رسول الله فأنزل الله [ عز وجل] : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} الآية.
قال تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد}.
أي: من يهده الله للإيمان فهو المهتدي للرشد والحق ومن يضلله عن الإيمان ولا يوفقه فلن تجد له يا محمد أولياء من دون الله [ عز وجل] ينصرونه من عذاب الله [سبحانه].
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ}.
أي: نجمعهم ليوم القيامة من بعد تفرقهم في قبورهم.(6/4294)
{على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}. أي: عمياً عن كل شيء يسرهم ولكنهم يرون، ودل على رؤيتهم قوله: {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53].
قوله: " وبكماً " أي: بكماً عن الحجة فلا ينطقون بحجة ولكنهم يتكلمون ودل على كلامهم قوله: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13].
قوله: " وصماً " أي: صماً عن سماع ما يسرهم. وهم يسمعون ودل على سماعهم قوله: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12].
وقيل: إنهم في حال حشرهم إلى الموقف عمي وبكم وصم. ثم يحدث الله [ عز وجل] لهم سمعاً وبصراً ونطقاً في أحوال أخر.
وقوله: {على وُجُوهِهِمْ} معناه: أنهم يحشرون صاغرين.
وقيل: بل معناه: أنهم يحشرون يمشون على وجوههم لأن الذي أمشاهم على أرجلهم يقدر أن يمشيهم على وجوههم، وعلى ما يشاء من أعضائهم.
ثم قال: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ / كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}.(6/4295)
أي: مصيرهم إلى جهنم ومسكنهم جهنم وقال ابن عباس معناه: هم وقودها. ومعنى خبت: سكنت، قاله ابن عباس. وعنه أيضاً: كلما أحرقتهم يسعر لهم حطبها، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئاً صارت جمراً تتوهج، فذلك خبوها، فإذا بدلوا خلقاً جديداً عاودتهم.
وقال مجاهد: " خبت " طفيت "، وقال قتادة: معناه كلما أحرقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
وأهل اللغة يقولون: خبت النار، تخبو خبوءاً إذا سكن لهبها، فإن سكن لهبها وعلا جمرها، قيل: كبت تكبو كبوءاً. فإن طفى بعض الجمر وسكن اللهب قيل خمدت تخمد خموداً. فإن طفيت لها قيل: همدت تهمد هموداً.(6/4296)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
ومعنى: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي: زدنا هؤلاء الكفار استعاراً بالنار في جلودهم.
وليس خبوتها فيه نقص من عذابها ولا راحة لهم وإنما هم في زيادة أبداً لقوله: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] لا يفتر عنهم.
وقال المبرد: جعل موضع خبوت نار جهنم اسعاراً فهي مخالفة لما تفعل من نار الدنيا، ولا راحة لهم فيها إذا خبت بل يزيد عليهم العذاب.
قوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا}.
معناه: هذا العذاب جزاء هؤلاء المشركين لأنهم كفروا بآيات الله. أي: جحدوها وأنكروها ولم يؤمنوا بها. وأنكروا البعث والثواب والعقاب. {وَقَالُواْ} على الإنكار منهم والاستبعاد: {أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} [الإسراء: 49] أي: عظاماً [بالية] وقيل تراباً. و {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49] أي لا نبعث. وقد تقدم تفسير هذا بأشبع منه في صدر السورة.(6/4297)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}.
والمعنى: أَوَلَم ينظر هؤلاء المنكرون البعث أن الله [ عز وجل] الذي ابتدع خلق السموات والأرض من غير شيء وأقامها بقدرته، قادر بتلك القدرة على أن يخلق أشكالهم وأمثالهم من الخلق. وإن إعادتهم لا تتعذر على من يقدر هذه القدرة.
ثم قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ}.
أي: جعل الله لهلاكهم أجلاً لا شك في وقوعه بهم {فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً} أي [إلا] جحوداً بربهم.
قال تعالى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}.
أي: قل يا محمد: لهؤلاء المشركين لو أنكم أنتم تملكون خزائن أملاك ربكم إذاً(6/4298)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
لبخلتم بذلك خشية الفقر قال ابن عباس. وقال قتادة: خشية الفاقة.
والرحمة هنا المال. وقيل النعم، حكى أهل اللغة أنفق الرجل وأصرح وأعدم وافتر إذا قلّ ماله.
ثم قال: {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً}.
يعني الكافر خاصة، بمنزلة قوله: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6].
ومعنى " قتوراً ": بخيلاً قاله ابن عباس. وقال قتادة: ممسكاً. يقال أقتر يقتر وقتر يقتر ويقتر بمعنى.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}.
أي: تبين لمن رآها أنها لموسى عليه السلام، شاهدة له على صدقه قال ابن عباس: هي يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل / والضفادع والدم.(6/4299)
وقال الضحاك: ألقى عصاه مرتين عند فرعون، ونزع يده، والعقدة التي كانت بلسانه، وخمس آيات في الأعراف: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
قال محمد بن كعب القرظي: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع آيات، فقلت له: هن الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم و [البحر و] عصاه والطمسة والحجر. فقال: وما الطمسة؟، فقلت: دعا موسى وأمنّ هارون، فقال الله {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. فقال عمر: كيف يكون الفقه إلا كذا. يعني بالطمسة قولها: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ [واشدد على قُلُوبِهِمْ]} [يونس: 88] قال: فدعا عمر بخريطة كانت لعبد العزيز ابن مروان، أصيبت بمصر فإذا فيها " الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر، مسخت حجارة، كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: هي الحجر، والعصا واليد والطوفان(6/4300)
والجراد والقمل والضفادع و [الدم و] الطور. وقال مالك: الطوفان الماء.
وروى مطرف عن مالك في قوله " تسع آيات بينات " أنه قال: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والبحر والجبل إذ نتقه عليهم.
وقال عكرمة: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وهو قول الشافعي. وكذلك روى قتادة عن ابن عباس أيضاً قال: منها سبعة متتابعة في الأعراف. واليد والعصا. وقال الحسن مثل ذلك، إلا أنه جعل السنين ونقص من الثمرات آية، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون.
وروي عن صفوان بن عسال: " أن يهوديين سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن التسع الآيات فقال: هن ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار بعد الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي، فقال: وما يمنعكما أن(6/4301)
تتبعاني؟ فقالا: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود ".
ثم قال: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ}.
أي إذ جاءهم موسى. قال الحسن: سؤالك إياهم نظرك في القرآن.
وقيل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يراد به الشاك من أمته.
وقرأ ابن عباس {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} على الخبر، يعني سأل موسى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل.
ثم قال تعالى: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً}.
معناه: أن فرعون لما رأى الآيات ولم يكن له فيها مدفع قال: إن موسى ذو سحر، وإن ما تفعل يا موسى من العجائب من سحرك.(6/4302)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
وقيل: هو مفعول في موضع فاعل أي: ساحر، بمنزلة {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] أي: ساتراً. وقيل: معناه مخدوعاً.
قوله: {[قَالَ] لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض}.
معناه: قال / موسى لقد علمت يا فرعون أن هذه الآيات ما أنزلها الله إلا بصائر للعباد وتصديق هذه المعاني قوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وهذا: على قراءة من قرأ بفتح التاء في: علمت ".
ومن ضم التاء فمعناه: أن موسى صلى الله عليه وسلم يخبر عن نفسه أنه على يقين أن(6/4303)
الآيات، الله أنزلها بصائر لعباده. ويكون هذا من موسى صلى الله عليه وسلم جواباً لقول فرعون له: {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} [الإسراء: 101] أي: قد سحرت فلا تدري ما تقول. فقال: موسى لقد علمت أنا أن الله أنزل هذه الآيات بصائر لعباده ولست بمسحور.
ونصب بصائر على الحال أي: أنزلها حججاً وهي جمع بصيرة.
ثم قال: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً}.
وقال ابن عباس: " مثبوراً " ملعوناً، أي: ممنوعاً من الخير، وهو قول: الضحاك. وقال مجاهد وقتادة: مثبوراً هالكاً. وقال عطية العوفي: " مثبوراً ": مبدلاً أي مغيراً وقال ابن زيد: " مثبوراً ": مخبولاً لا عقل لك.
وعن الضحاك: " مثبوراً ": مسحوراً. رد [عليه] موسى صلى الله عليه وسلم، مثل ما(6/4304)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قاله فرعون بغير اللفظ، والمعنى سواء.
قال [تعالى]: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض}. أي: أراد فرعون أن يزيل موسى وبني إسرائيل من أرض مصر إما بقتل أو غيره {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً}. ونجينا بني إسرائيل وموسى منه. {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد هلاكه {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} أي: أرض الشام. {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} أي: قيام الساعة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي: مختلطين، قد التف بعضكم على بعض لا تتعارضون، ولا ينحاز أحد منك إلى قبيلته.
وقال ابن عباس: " لفيفاً ": جميعاً. وقال غيره: [لفيفاً] من كل قوم. وقال قتادة: " لفيفاً " جميعاً أولكم وآخركم، وكذلك قال: الضحاك.(6/4305)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
واللفيف جمع لا واحد له كالجميع. وقيل: هو مصدر لففت فلذلك واحد في موضع الجمع.
قال: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ}.
أي: أنزل هذا القرآن بالحق لأن فيه الأمر بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} أي: وبذلك نزل من عند الله [ عز وجل] على نبيه عليه السلام.
ثم قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}.
أي: مبشراً بالجنة من أطاعك ومنذراً بالنار من عصاك.
قال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ}.
قال ابن عباس: " فرقناه " فصلناه. وقيل: معنى [فرقناه] فرقنا به بين الحق والباطل والمؤمن والكافر.
وقرأ: ابن عباس وعكرمة والشعبي وقتادة " فرقناه " بالتشديد على معنى أنزل به آية بعد آية.(6/4306)
قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحد إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وهو قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}.
ونصب " قرآناً " عند البصريين بإضمار فعل يفسره ما بعده. ونصبه عند غير البصريين على العطف " مبشراً ونذيراً ".
وقرآناً يتأول بمعنى: رحمة. لأن القرآن رحمة. فلا يحسن الوقف على هذا التقدير على نذيراً. ويقف عليه على القول الأول.
و/ معنى {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} على تؤده، وترتله وتبينه فلا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك. قال ابن عباس: " على مكث " على تأن. وقال(6/4307)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
مجاهد على ترسل. وقال مالك " على مكث " على تثبت وترسل.
ومعنى {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي نزلناه شيئاً [بعد] شيء. وقال الحسن نزل القرآن قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثماني سنين. وبالمدينة عشر سنين.
قوله: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا}.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم لا يزيد في خزائن رحمة ربي. وفي الكلام تهدد ووعيد، والمعنى: فإن تكفروا، فإن الذين أوتوا العلم بالله من قبله، أي: من قبل القرآن، يعني به مؤمني أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم هذا القرآن، يخرون، تعظيماً له، للأذقان سجداً. قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}.
وقال ابن زيد {مِن قَبْلِهِ} من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.(6/4308)
وقال ابن جريج: {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني: كتابهم.
وقيل: عني بقوله: {الذين أُوتُواْ العلم} محمداً صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم قوم من ولد اسماعيل صلى الله عليه وسلم تمسكوا بدينهم إلى بعث محمد صلى الله عليه وسلم منهم زيد بن عمرو بن نفيل. وورقة ابن نوفل.
وقوله: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً}.
قال ابن عباس: للوجوه، وكذلك قال قتادة. وقال الحسن " للأذقان " للجبين.
ثم قال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
أي: ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم، من مؤمنين أهل الكتاب من قبل نزول القرآن، إذا يتلى عليهم القرآن لأذقنانهم يبكون. ويزيدهم وعظ القرآن خشوعاً لله(6/4309)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
[ عز وجل] .
وهذه مثل قوله في مريم: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58].
وقوله: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}.
أي: ما كان وعد ربنا من ثواب وعذاب إلا مفعولاً. وقيل: معناه: إن كان وعد ربنا أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم لمفعولاً.
قال: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن}.
معنى الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه فيقول: مرة يا الله، ومرة: يا رحمن. فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو الهين. فأنزل الله عز وجل هذه الآية احتجاجاً عليهم.
قال ابن عباس: سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده يا رحمن يا(6/4310)
رحيم: فقالوا: [إن] هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله [ عز وجل] الآية: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن}.
وروي: أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يقول في دعائه يا الله يا رحمن فقال: يا معشر قريش، محمد ينهانا أن نعبد إلهين وهو يعبد إلهاً آخر يقال له الرحمن، فأنزل الله [ عز وجل] الآية.
وقوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ}.
ما صلة، و (ايا) منصوب بتدعوا. وتدعوا جزم بالشرط وقيل [" ما "] بمعنى أي كررت لاختلاف [اللفظ كما تقول ما إن رأيتكما الليلة. فإن بمعنى ما كررت لاختلاف]. اللفظين.
وقال الأخفش {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} معناه: أي الدعاءين تدعوا كأنه يجعل ما اسماً.(6/4311)
وقال أبو إسحاق: المعنى: أي الأسماء تدعو إن / دعوت الله أو الرحمن فكله اسم لله لأن له الأسماء الحسنى.
ويلزم في هذين القولين ألا تنون " أي ": وأن تكون مضافة إلى " ما ". وفي إجماع المصاحف والقراء على تنوين " أي ": ما يدل على صحة كون " ما " زائدة للتأكيد وكونها بمعنى " أي " أعيد للتأكيد وحسن ذلك لاختلاف اللفظ.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ}.
قالت عائشة رضي الله عنها، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير وعروة بن الزبير: نزلت في الدعاء. فالصلاة هنا الدعاء على قولهم.
وقال الضحاك: هي منسوخة بقوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]. الآية، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً: أن " الصلاة " هنا: القراءة في الصلاة، قال: كان(6/4312)
النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به. فقال الله [ عز وجل] لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} فيسمع المشركون {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} حتى لا يسمعك أصحابك {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: اطلب بين الإعلان والتخافت طريقاً.
قال الضحاك: هذا كان بمكة.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: نزلت هذه الآية في التشهد. وكذلك قال ابن سيرين، قال: كانت العرب ترفع أصواتها بالتشهد، فنزلت هذه الآية في ذلك.
وقال عكرمة والحسن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جهاراً [فأمر] بإخفائها.(6/4313)
وقال قتادة: معناه ولا تحسن صلاتك مرائياً في العلانية، ولا تخافت [بها] تسيئها في السريرة.
وعن ابن عباس أنه قال: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس.
واختار الطبري قول من قال: أنه الدعاء [لأنه] أتى عقيب قوله: {[قُلِ] ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن}، فهي محكمة، لأن رفع الصوت بالدعاء مكروه، وهو قول أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وعائشة رضي الله عنهم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: النهي عن رفع الصوت بالدعاء فقال: " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً ".(6/4314)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
والمخافتة الإخفاء.
قال تعالى: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل}.
[أي]: لم يحالف أحداً ولا يبتغي نصر أحد، قاله مجاهد:
قال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام كان يعلم أهله الصغير والكبير {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} إلى آخر السورة.
وقال ابن عباس: التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلى
{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإسراء: 22].
وهذه الآية: رد وإنكار على أصحاب الأديان: فقوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}. رد على اليهود والنصارى، وبعض كفار العرب. لأنهم قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا(6/4315)
عزير ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بنات الله [سبحانه وتعالى علواً كبيراً] وقوله: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} رد على العرب لأنهم قالوا في تلبيتهم: إلا شريكاً هو لك تملكه. وما ملك، وجعلوا لله شركاء الجن وغيرهم وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} رد على الصابئين والمجوس لأنهم قالوا: لولا أولياء الله لذل / وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي: كبرّة أنت يا محمد عما يقولون تكبيراً. أي: عظمه ونزهه عن قول الكفار فيه.
وَرُوِيَ: " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه كثرة الدين وكثرة الهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرأ آخر [سورة] بني إسرائيل {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} ثم قال: قل توكلت على [الله، توكلت على] الحي الذي لا يموت ثلاث مرات " ".(6/4316)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف مكية
من رواية ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض، لمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا: يا نبي الله، أي سورة هي: قال: سورة الكهف. من قرأ [بها] يوم الجمعة أعطي بها نوراً بين السماوات والأرض، ووقي بها فتنة القبور.
وعن بعض أهل المدينة أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نوراً ما بينه وبين مكة، وغفر له ما بين الجمعتين ووقي فتنة الدجال ".(6/4317)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
وعن مكحول أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطاه الله [- عز وجل -] نوراً من الجمعة إلى الجمعة"
وعن أنس أنه قال: "من قرأ سورة الكهف [يوم الجمعة] غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام".
قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب}.
معناه: على قول ابن عباس، في رواية الضحاك وابن جريج عنه: الله المحمود بالذكر وبكل لسان، والمحمود على كل فعل والمعبود في كل مكان، الذي هو كل يوم في شأن لا يشغله شأن عن شأن.
ومعنى الآية: في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً. فقيمماً حال من الكتاب، وهو قول: الكسائي والفراء وأبي(6/4318)
عبيدة.
وقال: غيرهم: " قيماً ": منصوب بإضمار فعل، أي: ولكن جعله قيما، فهو مفعول ثان ليجعل المضمرة.
والوقف على " الكتاب ": على القول الأول: لا يجوز، وعلى الثاني يجوز.
وقيل إنّ المعنى: أنزله قيماً، فيكون نصبه على الحال من الهاء المضمرة مع الفعل المضمر.
ومعنى " عوجاً: أي: مخلوقاً ". كذلك قوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] أي: غير مخلوق، قاله: ابن عباس.
والعِوج: بالكسر في العين في كل ما ليس له شخص: مثل الدين، والأمر، والرأي. فإن كان له شخص كالخشبة والحائط وشبهه فهو بفتح العين.
ومعنى الآية: الحمد لله الذي خص برسالته محمداً، وأنزل عليه كتابه قيماً.(6/4319)
قال: الضحاك: " قيماً ": مستقيماً.
وقال ابن عباس: عدلاً. وقال ابن إسحاق: معتدلاً [لا] اختلاف فيه.
وقيل معناه: قيماً على الكتب [يصدق] بصدقها لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل يصدق بعضها بعضاً، لا عوج فيه عن الحق ولا ميل.
وهذه السورة نزلت في الأخبار من عند الله [ عز وجل] بأمور سألت قريش النبي عليه السلام عنها، علمهم السؤال عن ذلك اليهود وقالوا لهم: إن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فهو متقول. فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب / عنها. فأبطأ الوحي عليه بعض الإبطاء، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعدهم فأنزل الله [ عز وجل] هذه السورة جواباً لهم. فافتتحها بحمد الله على نعمه، وتثبيته رسالة محمد عليه السلام، وأن الله [ عز وجل] أنزل عليه الكتاب، وأنه صادق فيما أتاكم به من خبر أهل الكهف، وخبر ذي القرنين، وغيره مما سألوه عنه، من تعليم اليهود إياهم ذلك، فهذا معنى قول ابن(6/4320)
ابن عباس وغيره.
قوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً}.
أي: أنزل الكتاب على عبده لكي ينذركم بأساً شديداً من عند الله. فالمفعول الأول محذوف. ومثله {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم أولياءه.
ثم قال: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين}.
أي: ويبشر المصدقين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{ الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} وهو العمل بما أمر الله [ عز وجل] [ به]، والانتهاء عما نهى الله [سبحانه] عنه.
{أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً}.
أي: ثواباً جزيلاً من الله [سبحانه] على أعمالهم وتصديقهم وهو الجنة.(6/4321)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً}.
أي: لابثين فيه أبداً.
قال: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً}.
يعني: قريشاً الذين قالوا: إنما نعبد الملائكة وهن بنات الله [سبحانه وتعالى عما يقولون]. {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}. أي: ما لهم بهذا القول علم {لآبَائِهِمْ}.
ثم قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}.
أي: كبر قولهم: {اتخذ الله وَلَداً} من كلمة. وفيه معنى التعجيب كأنه قال: ما أكبرها من كلمة. كما تقول لقصو الرجل بمعنى: ما أقصاه.
وقرأ الحسن، ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق(6/4322)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{كَبُرَتْ كَلِمَةً} بالرفع على معنى: عظمت كلمتهم.
يقال: كبُر الشيء إذا عَظُمَ وكبِر [الرجل] إذا أسن، [بكسر الباء، والأول بالضم].
{إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}.
أي ما يقول هؤلاء إن الله اتخذ ولداً إلا كذباً وتخرصاً.
أي: فلعلك يا محمد قاتل نفسك على آثار قومك الذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] تمرداً منهم على ربهم {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} أي:(6/4323)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
بهذا الكتاب {أَسَفاً} وقال: قتادة: " أسفاً " غضباً وقال: مجاهد: " حزناً ".
فهذا عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم من الله [ عز وجل] على حزنه على قومه إذ لم يؤمنوا. فمعنى أسفاً حزناً. وقيل معناه: جزعاً، قال مجاهد. وقال: قتادة: معناه غضباً، ومنه قوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} [الزخرف: 55].
قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا}.
يعني: من الشجر والثمر والمال زين الأرض بذلك.
{لِنَبْلُوَهُمْ}.
أي: لنختبرهم من هو أحسن عملاً من غيره. قال سفيان الثوري: أيكم(6/4324)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
أزهد في الدنيا. وقال مجاهد: ما على الأرض من شيء هو زينة لها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ".
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " الزينة ": الخلفاء، والعلماء، والأمراء. وروى ابن جبير عنه أنه قال: " الزينة ": الرجال. جعل " ما " بمعنى /: من في القولين جميعاً، وكون " ما " بمعنى: " من " يصلح في مواضع الإبهام ويقبح عند الاختصاص وذهاب العموم.
وقيل المعنى: إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها، فأوقع الكل موضع البعض، لأن على الأرض ما لا زينة فيه. وقيل: بل هو عام. كل ما على الأرض زينة لها لولالته على خالقه.
قال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}.
أي: وإنا لخربوها بعد زينتها وعمارتها. يعني بذلك يوم القيامة، تصير الأرض مستوية لا جبل فيها ولا واد ولا أكمة ولا ماء ولا نبات. والصعيد وجه(6/4325)
الأرض. والجزر الذي لا نبات فيه من الأرض ولا زرع ولا غرس.
وقيل: الصعيد هنا المستوي بوجه الأرض، قال ابن عباس معناه: أنه يهلك كل شيء عليها ويبيد. وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأه تعالى ذكره: لا تقتل نفسك إذ لم يؤمنوا بما جئتهم به فإن مصيرهم إلي فأجازيهم بأعمالهم. فإني مهلك كل من على وجه الأرض.
قال: ابن زيد: الصعيد: المستوي، دل على ذلك قوله: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 107]. والجزر: الأرض التي لا نبات فيها ولا منفعة، ألم تر إلى قوله:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض [الجرز]} [السجدة: 27] أي الأرض التي لا نبات فيها.
حكى سيبويه: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والنعم.(6/4326)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
وأرضون أجراز: إذا كانت لا شيء فيها. ويقال: للسنة المجدبة جرز وسنون إجراز.
أم: هنا بمعنى: بل. [والمعنى] أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً. فإن ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب من أصحاب الكهف. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الخلق كلهم.
وقال مجاهد: معنى الكلام: هم عجب وليس هو على طريقة الإنكار عنده. وقال قتادة: معناه: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. وعن ابن عباس أن المعنى: أم حسبت أن هؤلاء عجباً، فإن الذي أتيتك من الكتاب والحكمة والعلم أفضل من شأن أهل الكهف والرقيم.
وهذا مما عَلَّمَتْ اليهود قريشاً أن يسألوا عنه محمداً صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك. فأخبره الله بقصصهم. وخبرهم بعد أن أبطأ عنه الوحي في ذلك خمس(6/4327)
عشرة ليلة، وقيل: أكثر.
والكهف: كهف الجبل، آوى إليه القوم الذين قص الله [ عز وجل] خبرهم في هذه السورة. وقال: الضحاك: الكهف الغار في الوادي. وقال ابن مالك: الكهف: الجبل.
و" الرقيم ": عند عكرمة وابن عباس فيما حكيا عن كعب: القرية وقال: قتادة: " الرقيم " الوادي الذي فيه اصحاب الكهف، وقاله عطية العوفي. وعن ابن عباس: " الرقيم " الكتاب. وقال عكرمة: الرقيم القرية اسم لها.
وقال: [ابن] جبير / " الرقيم ": لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال ابن زيد: " الرقيم ": كتاب، ولذلك الكتاب خبر، فلم يخبرنا الله [ عز وجل](6/4328)
عن ذلك الكتاب وعن ما بناؤه، وقرأ:
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون} [المطففين: 19 - 21] {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 8 - 9].
وعن ابن عباس أيضاً أن " الرقيم ": الجبل الذي فيه الكهف، وعن ابن عباس أن " الرقيم ": كتاب كتبه رجلان صالحان كانا في بيت الملك الذي فرّ منه الفتية أصحاب الكهف، كانا يكتمان إيمانهما. فلما سد الكهف على الفتية كتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص. ثم جعلاه في تابوت على المكان الذي سدّ به باب الكهف. وقالا: لعل الله يطلع على هؤلاء الفتية قوماً صالحين فيعلمون شأنهم.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: القرآن أعلمه إلا {حَنَاناً} [مريم: 13] و {لأَوَّاهٌ} [التوبة: 114] و {الرقيم} [الكهف: 9] و {غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36].
وقال أنس: بن مالك: " الرقيم ": آية الكلب وقال عكرمة: الرقيم الرواة. وقال السدي: هو الصخرة، وقال الفراء: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم(6/4329)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
وأنسابهم ودينهم ومما هربوا.
قوله: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} إلى قوله: {رَشَداً}.
أي: كانوا من آياتنا عجباً، حين أوى الفتية إلى الكهف هرباً بدينهم إلى الله [ عز وجل] فقالوا: إذ أووه.
{فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}.
أي: ارحمنا ونجنا من هؤلاء الكفار.
{وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}.
أي: دلنا على ما ننجو به.
وكان هؤلاء الفتية على دين عيسى صلى الله عليه وسلم. فدعاهم ملكهم إلى عبادة الأوثان والأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عنه أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف.
وروي أنهم لما أمرهم الملك بعبادة صنمه قالوا {رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف: 14] فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله(6/4330)
[سبحانه]. فقال: أحدهم: إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه. فانطلقوا بنا نكن فيه. فدخلوا فيه، ثم فقدوا في ذلك الزمان، فطلبوا، فقيل: إنهم دخلوا هذا الكهف. فقال: قومهم: لا نريد لهم عقوبة، ولا عذاباً أشد من أن يردم عليهم هذا الكهف فبنوه عليهم فردموه، ثم أقاموا ما شاء الله، يدبرهم الله [ عز وجل] بلطفه وهم نيام، ثم بعث الله [ عز وجل] ملكاً على دين عيسى صلى الله عليه وسلم. ووقع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. وقاموا من نومتهم تلك. فقال: بعضهم لبعض كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بطعام وشراب مستخفباً أن لا يعرف. فلما خرج من باب الكهف رأى ما أنكره، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهماً فنظروا إليه، فأنكروه وأنكروا الدرهم. فقالوا من أين لك هذا؟ [هذا] من ورق غير هذا الزمان. واجتمعوا عليه، ولم يفارقوه حتى حملوه إلى ملكهم. وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون. فنظروا في ذلك اللوح. وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقدوا، فاستبشروا به وبأصحابه وقيل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك فانطلق، وانطلقوا معه، ليريهم أصحابه فدخل قبل /(6/4331)
القوم فضرب على آذانهم. {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} [الكهف: 21].
قال: ابن عباس: كانوا ثمانية. وروى: أنه لما بني عليهم باب الكهف كتب رجلان مؤمنان - ممن يسر الإيمان - خبرهم، ووقت البناء عليهم، وأسماءهم، وأنسابهم، وأسماء آبائهم في لوحين من رصاص ثم صنعا تابوتاً من نحاس، وجعلا اللوحين فيه. ثم كتبا عليه، في فم الكهف، من بين ظهراني البنيان، وختما على التابوت بخاتمهما وقالا: لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل [يوم] القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم.
قال: مجاهد: فلبثوا في الكهف ثلاثة مائة سنين وازدادوا تسعاً نياماً.
وقيل: إنهم كانوا شباناً ملوكاً مطوقين، مسورين ذوي ذوائب وكان(6/4332)
معهم كلب صيدهم. فخرجوا في عيد [لهم] عظيم في زي ومواكب. وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدون. وقذف الله [في] قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه، فقال: كل واحد في نفسه نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم، لا يصيبنا عقاب بجرمهم. فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره، فجلس إليه، وخرج الآخرون فجاءوا وجلسوا إليهما. فاجتمعوا، فقال: بعضهم: ما جمعكم؟ فقال: آخر: بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه عن صاحبه مخافة على نفسه وقالوا: ليخرج منكم فتيان، فيخلوان، فيتوثقا ألاّ يفشي واحد منهما على صاحبه. ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره. لإغنا نرجو أن نكون على أمر واحد. ففعلوا ذلك، فعلموا أن جميعهم على أمر واحد وهو الإيمان. وإذا كهف في الجبل [قريب] منهم، فقال: بعضهم لبعض: آووا إلى هذا الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم فرفقاً. فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم. فناموا. فجعل الله جل وعز رقدة واحدة(6/4333)
ثلاث مائة سنة وتسع سنين. وطلبهم قومهم ففقدوهم. وبعثوا البرد في طلبهم. فعمى الله [ عز وجل] عليهم آثارهم. فلما لم يقدروا عليهم، كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان بن فلان، وفلان بن فلان: ملوك فقدناهم في عيد كذا، من شهر كذا، من سنة كذا، في مملكة فلان، ورفعوا اللوح في الخزانة، ثم مات ذلك الملك. وأتى قرن بعد قرن فأظهرهم الله [ عز وجل] وأنبههم، فوجهوا رسولهم ليأتيهم بما يأكلون ولا علم عندهم بما مضى من الزمان فأطلع عليهم.
وقال: وهب بن منبه: جاء حواري عيسى بن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له. فكره أن يدخلها / فأتى حماماً، فكان فيه قريباً من تلك المدينة. فكان يعمل فيه، يؤاجر نفسه من صاحب الحمام. فرأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودر عليه الرزق وجعل يعرض عليه [الإسلام] ويسترسل إليه. وعلقه فتية من أهل المدينة. وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى أنسوا به، وصدقوه. وكانوا على مثل حاله في أحسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي، فلا تحولن بيني(6/4334)
وبين الصلاة إذا حضرت. وكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام. فعيره الحواري فقال: أنت ابن الملك تدخل معك بهذه الكذا، فاستحيي فذهب، ورجع مرة أخرى، فقال: له مثل ذلك، فسبه وانتهره، ولم يلبث حتى دخل ودخلت المرأة معه فماتا في الحمام جميعاً، فأتى الملك فقيل له: إن صاحب الحمام قتل ابنك.
فالتمس فلم يقدر عليه هرباً. فقال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية، فالتمسوا، فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع له، وهو على مثل أمرهم، فذكروا أنهم التمسوا، فانطلق معه الكلب، حتى أواهم الليل إلى الكهف فدخلوه. فقالوا نبيت هنا الليلة ثم نصبح إن شاء اله فترون رأيكم. فضرب على آذانهم. فخرج الملك في اصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا في الكهف، فلما أراد رجل أن يدخل أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله، فقال: قائل: ألست لو كنت قدرت عليهم قتلتهم قال: بلى. قال: ابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشاً وجوعاً، ففعل.(6/4335)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
قوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) [11] إلما قوله: (إِذًا شَطَطًا) [14].
المعنى: وضربنا على آذانهم بالنوم، أي ألقينا النوم عليهم. وإنما ذكر الأذان لأن النوم يمنعهم من السماع. وأتى في هذا ضرب بمعنى ألقى. كما يقال: ضربك الله بالفالج، أي: ألقاه عليك وابتلاك.
وقوله: {عَدَداً} توكيد لسنين وقيل: أتى بأنه لا يفيد معنى الكثرة. لأن القليل لا يحتاج إلى عدد إذ قد عرف معناه ومقداره.
قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي: نبهناهم من نومهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} أي: لنعلم من يهتدي من عبادي بالبحث إلى مقدار مبلغ مكث الفتية في كهفهم والأمد الغاية.
وقد اختلف في مقدار إقامتهم طائفتان من الكفار من قوم الفتية، قاله مجاهد:(6/4336)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
وقيل: بل اختلف في ذلك طائفة مؤمنة وطائفة كافرة. وقيل: الحزبان أصحاب الكهف والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعثهم.
ومعنى: {لِنَعْلَمَ} أي: علم مشاهدة، وإلا فقد علم ذلك تعالى ذكره قبل خلق الجميع، ومعنى الكلام التوقف على النظر في معرفة مقدار لبثهم. كما تقول لمن أتى بالباطل: جئ ببرهانك حتى أعلم أنك صادق.
ومعنى: {أَمَداً} عدداً، قاله مجاهد، وقال: ابن عباس {أَمَداً}: بعيداً.
قال: تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ [عَلَيْكَ] نبَأَهُم بالحق} أي: نخبرك يا محمد خبرهم بالصدق واليقين.
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ}.
أي: إن الذين سالوك عن نبأهم [هم] فتية آمنوا بربهم، أي: صدقوا به ووحدوه.(6/4337)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}.
أي: إيماناً إلى إيمانهم وبصيرة، فهجروا دار قومهم وهربوا بدينهم إلى الله [ عز وجل] وفارقوا ما كانوا فيه من النعيم في الله [تعالى].
قال: تعالى: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ}.
أي: ألهمناهم الصبر وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى [عزفت] أنفسهم عما كانوا فيه من خفض العيش.
وقال: قتادة: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} بالإيمان حين {قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} أي: ملك السموات [والأرض] {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} أي: لن نعبد معبوداً سواه.(6/4338)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}.
أي: لو قلنا: أنه يعبد غيره لقلنا جوراً من قول. وقليل " شططاً غالياً من الكذب وقال: قتادة: " شططاً " كذباً. وقال: ابن زيد خطا.
ويقال: قد أشط فلان في السوم، إذا جاوز القدر يشط إشطاطاً وشططاً.
ويقال: شط منزل فلان، إذا بعد، يشط شطوطاً.
ويقال: شطت الجارية تشط شطاطاً وشطاطة إذا طالت.
ويقال: شط الرجل وأشَطَّ إذا جار.
وقال: أبو عبيدة {إِذاً شَطَطاً} أي: جوراً وغلواً.
قوله: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}.
هذا خبر عن قول الفتية، أنهم قالوا [فيما] بينهم: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة فيعبدونها، هلا يأتون على عبادتهم لها بحجة ظاهرة وبينة وعذر بين، فمن(6/4339)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
أشد اعتداء وجوراً ممن اختلق على الله كذباً وأشرك في عبادته غيره.
قال: ابن عباس: كل " سلطان " في القرآن فهو حجة.
قال: {وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله}.
هذا أيضاً: خبر من الله [ عز وجل] عن قوله: بعض الفتية [لبعض] قالوا فيما بينهم: {وَإِذِ اعتزلتموهم} و [هم] الذين عبدوا الآلهة من دون الله [سبحانه] وفارقتهم دينهم. {فَأْوُوا إِلَى الكهف}: فسيروا بنا إلى الكهف، وهو غار الجبل {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي: يبسط لكم ربكم من رحمته {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} أي: ويجعل لكم ربكم من عملكم الذي أنتم فيه وخوفكم على أنفسهم ما ترفقون به.
والفتح والكسر في ميم " مرفقاً " [لغتان]. والأفصح عند الكسائي(6/4340)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
الكسر وأنكر الفراء الفتح. وقال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا الكسر. قال: وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان.
وقال الأخفش: فيه ثلاث لغات مِرْفَق، ومَرْفِق، ومَرْفَق، فمن قال: مِرْفَق جعله مما ينتقل مثل " مِقْطع ". ومن قال: مَرْفِق كمسجد لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد. ومن قال: مَرْفَق جعله من الرفق.
قوله: {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت}.
أي: وترى يا محمد {الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ} أي: تعدل وتميل من الزور وهو الاعوجاج. قال ابن عباس: تزاور تميل يميناً وشمالاً.(6/4341)
ثم قال: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال}.
أي: تتركهم ذات الشمال. يقال: منه قرضت موضع كذا، إذا قطعته فجاوزته، هذا مذهب البصريين.
وقال الكوفيون: قرضت موضع كذا أي: حاذيته. وحكوا عن العرب: قرضته دبراً وقبلاً: وحدوته ذات اليمين والشمال. أي: كنت بحدائه.
وأصل القرض: القطع. ومنه تسمى المقص: مقراضاً لأنه يقطع به.
وقال ابن جبير: تتركهم قال قتادة: تدعهم
قال عكرمة: كان كهفهم في القبلة، وقال القتبي: كان باب الكهف حذاء بنات نعش فكانت تزاور عن كهفهم إذا طلعت، وتتركهم إذا غربت.(6/4342)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
وقوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ}.
أي: في متسع وفضاء في الكهف:
{ذلك مِنْ آيَاتِ الله}.
أي: ما تقدم من فعل الله لهم من حجج الله [ عز وجل] على خلقه [سبحانه].
ومن الأدلة التي يستدل بها أولوا الألباب على عظم قدرته وسلطانه.
ثم قال: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد}.
أي: من يوفقه بالاهتداء فهو المهتدي {وَمَن يُضْلِلْ} أي: عن آياته وأدلته.
{فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً}.
أي: لن تجد له يا محمد خليلاً ولا حليفاً يرشده.
قال: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}.(6/4343)
أي: تظنهم يا محمد لو رأيتهم أيقاظاً، أي: أعينهم مفتوحة فتظنهم لذلك منتبهين. وقيل: إنما ذلك لكثرة تقلبهم، تحسبهم منتبيهين.
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال}.
أي: نقلبهم في حال رقادهم مرة للجنب اليمين ومرة للجنب الأيسر. قال أبو عياض: وكان لهم في كل عام تقلبتين.
ثم قال: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد}
يعني: كلباً كان معهم للصيد. وقيل: هو إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم.
والوصيد: فناء الكهف، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك وقتادة: وعن قتادة: " الوصيد ": الصعيد والتراب. وعن ابن عباس أيضاً:(6/4344)
الوصيد الباب، وقيل: الوصيد العتبة، وقيل الوصيد فناء الباب، وسمي الباب وصيداً: لأنه يطبق. من قولهم: أوصدت الباب: إذا أطبقته، فهو في هذا القول: فعيل بمعنى مفعل. كأنه قال: باسط ذراعيه بالوصيد أي بالمطبق يقال: [أصدت الباب و] أوصدته إذا أطبقته فهو موصد تهمز ولا تهمز.
ثم قال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً}.
أي: لو رأيتهم [في رقدتهم] لهربت منهم خوفاً ولملئ قلبك رعباً منهم. وذلك لما كان الله ألبسهم من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد ولا تلمسهم يد، حفظاً منه لهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته في(6/4345)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
الوقت الذي يريد، ليجعلهم عبرةً لمن شاء من خلقه. وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه ومن خلقه {ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21].
وقيل معناه: لوليت منهم فراراً ولملئت / منهم رعباً من كثرة شعورهم وكبر أظفارهم، إذ قد مر عليهم زمان طويل وهم أحياء نيام. فطالت شعورهم وعظمت أظفارهم.
قوله: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {إِذاً أَبَداً}.
أي فكما أرقدناهم على هذه الصفة، كذلك بعثناهم من رقدتهم {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي: ليسأل بعضهم بعضاً و [نعرفهم] عظين قدرتنا فيزدادوا بصيرة في أمرهم وفي إيمانهم إذ لبثوا مدة عظيمة من الزمان وهم في هيئهم لم يتغيروا ولا تغيرت ثيابهم.
ثم قال: {قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ}.(6/4346)
أي: بعثناهم ليتساءلوا. فتساءلوا فقال: قائل منهم. كم لبثتم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم. {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
وهذا يدل على ا، الرعب منهم لمن رآهم لم يكن لطول شعورهم وأظفارهم، إذ لو كان كذلك لعاينوا من أنفسهم أمراً يمنعهم أن يقولوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. فقال الآخرون: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ويجوز أن يكون لما رأوا من طول شعورهم وأظفارهم ما أنكروا {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ردوا العلم إلى الله في ذلك [سبحانه].
قال ابن جبير: قال أحدهم: لبثنا يوماً، وقال الآخر: لبثنا نحوه، فقال كبيرهم: لا تختلفوا، فإن الاختلاف هلكة {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} يعنون مدينتهم التي خرجوا منها.
قال: ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الرُّبع، وهو صغار الإبل، وقال:(6/4347)
إنهم قاموا من رقدتهم جياعاً فلبثوا في طلب الطعام.
ومعنى: {أزكى طَعَاماً} عند عكرمة أكثر، وهو قول أبي عبيدة. وقال: ابن جبير: أحل ذبيحة، لأن القوم كانوا مجوساً. وعن ابن عباس {أزكى طَعَاماً} أطهر طعاماً. وقال: مقاتل: أزكى طعاماً " أطيب طعاماً. وقال: قتادة خير طعاماً وقيل: أرخص. وعن ابن عباس: ازكى طعاماً " أطهره لأنهم كانوا يذبحون الخنازير.
{فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُاً} أي: بطعام {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي: يرفق {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَد}(6/4348)
أي: لا يعلمن بكم أحداً من الناس. {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي: إن أهل قريتكم الكفار أن يطلعوا عليكم {يَرْجُمُوكُمْ} أي: يقتلوكم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي: يردوكم عن دينكم [إلى دينهم] {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} أي: لن تفلحوا أن رجعتم إلى دينهم وعبادة أوثانهم [أبداً].
قال وهب بن منبه: غبروا بعدما بني عليهم باب الكهف زماناً بعد زمان. ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلت غنمي من المطر. فلم يزل يعالجه حتى فتح ما دخل منه. ورد الله إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاماً، فلما أتى باب مدينتهم رأى شيئاً ينكره. حتى دخل [على رجل] فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً. فقال: من أين [لك] هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس وأتى(6/4349)
الليل ثم أصبحوا فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد ملك فلان، فأنى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً فقال: [من] أين لك هذا الورق؟ فقال: خرجت أنا وأصحاب لي / أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا.
ثم أمروني أن أشتري لهم طعاماً. فقال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف. قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف فقال: دعوني أدخل إليهم قبلكم. فلما رأوه ودنا منهم ضرب على ءاذانهم فجعلوا كلما دخل رجل منهم أرعب. فلم يقدروا على أن يدخلوا إليهم فبنوا عندهم كنيسة واتخذوها مسجداً يصلون فيه.
وقال عكرمة: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، ورزقهم الله الإسلام فاعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف. فلبثوا دهراً طويلاً حتى أهلكت أمتهم. وجاءت أمة مسلمة وملكهم مسلم. فاختلفوا في الروح والجسد فقال قائل: يبعث الروح أما الجسد فتأكله الأرض فلا يكون شيئاً. فشق على ملكهم اختلافهم فانطلق فلبس المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله [ عز وجل] فقال أي رب قد(6/4350)
نرى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله [ عز وجل] أصحاب الكهف. فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً. فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه، ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهراً. فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعاماً فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها فقال له الفتى: أليس ملككم فلاناً؟ قالوا: لا ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى دفعوه إلى الملك فسأله، فأخبره الفتى خبر أصحابه. فبعث في الناس فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله عز وجل قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان، يعني: ملكهم الذي مضى. فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي. فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف. فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي. فلما أبصرهم ضرب على أذنه وآذانهم، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل الناس معه فإذا أجسادهم لا ينكرون منها شيئاً غير أنه لا أرواح فيها. فقال الملك: هذه آية: بعثها الله [ عز وجل] لكم.
وروي في هذا أخبار طويلة ترجع إلى هذا المعنى.(6/4351)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
قوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}.
أي: كما بعثناهم بعد طول رقدتهم {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أطلعنا عليهم الفريق الذين كانوا في شك من بعث الأجساد [ليعلموا أن وعد الله حق في بعث الأجساد] يوم القيامة وأن الساعة لا ريب فيها أي: إتيانها لا شك فيه.
ثم قال: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}.
أي: أطلعنا عليهم إذ يتنازعون، أي: وقت المنازعة في بعث الأجساد. والمنازعة المناظرة.
وقيل: المعنى: ليعلموا في وقت منازعتهم أن وعد الله في بعث الأجساد حق فيكون العامل في " إذ " على القول الأول " أعثرنا " وعلى الثاني " ليعلموا ".
ثم قال: {[فَقَالُواْ] ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً}.
أي قال الذين اطلعوا على أمرهم: ابنو عليهم بنيانا {رَّبُّهُمْ [أَعْلَمُ بِهِمْ]}(6/4352)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
أي: [الله] أعلم بشأنهم قال ذلك: الكافرون. {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} قال ذلك: المسلمون.
قال: عبيد بن عمير عمى الله [ عز وجل] على الذين أعثرهم / على أصحاب الكهف مكانهم فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيها.
وقال المسلمون: نحن أحق بهم، فإنهم منا، نبني عليهم مسجداً نصلي فيه، ونعبد الله عز وجل فيه. وقال قتادة: {الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} الولاة.
وقد روى ابن وهب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليحجن عيسى ابن مريم عليه السلام في سبعين. منهم أصحاب الكهف مسورين مخلخلين بالفضة ".
قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
[أي: سيقول بعض الخائضين في أمر الفتية هم ثلاثة رابعهم كلبهم] ويقول بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، أي: قذفاً بالظن. ويقول بعضهم: هم(6/4353)
سبعة وثامنهم كلبهم. قل [يا محمد للقائلين ذلك] ربي أعلم بعدتهم ما يعلم عددهم إلا ناس قليل من خلقه، قاله قتادة.
وقال ابن عباس: عني بالقليل هنا أهل الكتاب. وكان يقول: أنا ممن استثنى الله [ عز وجل] .
وروي عنه أنه قال: أنا من ذلك القليل. ويقول: عددهم سبعة، وكذلك قال: عكرمة وابن جريج هم سبعة وثامنهم كلبهم.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً}.
أي: [لا] تجادل في عدد أصحاب الكهف يا محمد أحداً من اليهود {إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} أي: بما أنزل عليك من القرآن تتلوهم عليهم لا غير. وقال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك في أمرهم فلا تمار فيهم.
قال مجاهد: {إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم. وقال ابن(6/4354)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
زيد: معناه: أن نقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تدعون.
ثم قال: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً}.
أي لا تستفت في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب فإنهم لا يعلمون ذلك.
قال: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}.
هذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم عهد إليه ألا يجزم في الأمور أنه كائن لا محالة إلا أن يصله بمشيئة الله. إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وأمره. وإنما بذلك النبي صلى الله عليه وسلم [ لأنه] وعد سائليه عن المسائل التي تقدم ذكرها أن يجيبهم عنها غد يومهم ولم يستثن. فاحتبس الوحي عنه من أجل ذلك خمس عشرة ليلة حتى حزنه إبطاؤه. ثم أنزل عليه الجواب فيهن فعرف الله [ عز وجل] نبيّه [عليه السلام] سبب احتباس الوحي عنه وعلمه ما الذي ينبغي له أن يستعمله في عداته فيما يحدث من الأمور التي [لم] يأته من الله عز وجل فيها تنزيل.(6/4355)
وتقدير {أَن يَشَآءَ الله} عند الكسائي والفراء: إلا أن يقول إن شاء الله. وقال البصريون: المعنى: إلا بمشيئة الله [ عز وجل] . فأن: في موضع نصب على حذف [الباء على] هذا.
ثم قال: [تعالى]: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.
معناه عند ابن عباس: واستثنِ في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت [ذلك] في حال اليمين. قاله فيه: [فإن] له أن يستثني ولو إلى سنْة، وكذلك قال: أبو العالية، والحسن. وقال عكرمة: معناه: واذكر ربك / إذا عصيت. وقيل: معناه:(6/4356)
واذكر ربك إذا تركت ذكره لأن أحد معاني النسيان التي استعمل بها الترك.
ومعنى قول: من أجاز الاستثناء بعد سنة أنه يسقط ذلك الاستثناء الحرج بتركه ما أمر به في الاستثناء لأن الله [ عز وجل] أمر بالاستثناء. فإذا ذكر الإنسان، متى ما ذكر يمينه، وجب عليه أن يستثني فيسقط عنه الحرج في تركه ما أمر به ولا يسقط ذلك لكفارة إذا حنث [إلا أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين فيسقط عنه الكفارة إذا حنث]، والحرج جميعاً، هذا معنى قول ابن عباس: أنه يستثني بعد سنة. ولم يقل أحد أن الاستثناء بعد حين يسقط عنه الكفارة إذا حنث. ولو وجب أن يسقط الكفارة بالاستثناء بعد حين لم يكن قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 91] الآية. فائدة: لأنه كان يستثني كل من أراد الحنث متى ما أراد الحنث ولا كفر، وتبطل فائدة الآ] ة، ولا يلزم أحد الكفارة. ويدل على ذلك أيضاً، قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر وليأت(6/4357)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
الذي هو خير " فأمر بالكفارة عند الحنث، ولم يقل: فليقل إن شاء الله.
ثم قال: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً}.
أي قل لهم يا محمد لعل ربي أن يرشدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه يكون إن هو شاء.
وقيل: إن هذا أمر من الله [ عز وجل] لنبيه [ صلى الله عليه وسلم] أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله إن شاء الله إذا ذكر ذلك.
وقيل: المعنى قل لعل ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب من الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف.
قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} إلى قوله: {فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.(6/4358)
معناه: ويقولون لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين. هذا حكاية عن قول أهل الكتاب، فرد الله [ عز وجل] ذلك عليهم. وقال: [الله] لنبيّه [ صلى الله عليه وسلم]
{ قُلِ [الله] أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} الآية.
قال: قتادة: وفي حرف ابن مسعود " [و] قالوا: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ}. وقال مجاهد والضحاك: هو خبر من الله [ عز وجل] عن مبلغ لبثهم في الكهف ولما قال: {وازدادوا تِسْعاً} قالوا سنين أو ليال أو غيرها فأنزل الله: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} الآية.
وقيل: إن أهل الكتاب قالوا [على] عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم] : إن للفتية من لدن(6/4359)
دخلوا الكهف إلى عصرنا هذا ثلاث مائة سنة وتسع سنين، فرد الله [ عز وجل] عليهم وأعلم نبيّه أن قدر لبثهم في الكهف إلى أن بعثوا ثلاث مائة سنة وتسع.
ثم قال: تعالى لنبيّه [عليه السلام]. {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ}.
[أي] بعد أن بعثهم وقبض أرواحهم إلى يومهم هذا لا يعلم مقدار ذلك إلا الله.
ومن نوَّن " مائة " جعل " سنسن " بدلاً من " ثلاث " أو يكون عطف بيان على " ثلاث ". وقيل: هو نعت لمائة لأن مائة في معنى جمع.
وحكى بعض أهل اللغة أن العرب إذا نونت العدد أتت بعده بحمع يفسره، فيقولون: عندي ألفٌ دراهم [وثلاثمائة دراهم] وألف رجالاً، فيكون(6/4360)
" سنين " على هذا القول تفسيراً.
ومن أضاف، أتى بالعدد على أصله. لأنا إذا قلنا عندي مائة درهم فمعناه مائة من الدراهم. فالجمع هو الأصل فأتى به في هذه القراءة على الأصل /.
[و] قوله: {الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ}.
أي: أعلم بلبثهم من المختلفين في ذلك. وقيل: أعلم أعلم بمعنى عالم.
وقوله {وازدادوا تِسْعاً}.
أي: تسع سنسن. ولا يحسن أن يكون تسع ساعات ولا تسع ليال، لأن العدد إذا فسر في صدر الكلام [جر] آخره [على] ذلك التفسير. تقول عندي مائة درهم وخمسة. فتكون " الخمسة " دراهم أيضاً، لدلالة ما تقدم من التفسير على ذلك.
ثم قال: {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض}.(6/4361)
أي: له علم ذلك وملكه لا يشاركه فيه أحد.
ثم قال: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}.
أي: ما أبصر الله [جلت عظمته] واسمعه لا يخفى عليه شيء {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} أي ليس لخلقه دون ربهم ولي يلي تدبيرهم ولا ينقذهم من عذاب الله [سبحانه] إذا جاءهم.
{[وَ] لاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.
أي: ليس يشرك الله [ عز وجل] في تدبيره لعباده أحداً ولا يظهر على غيبه أحداً.
وقيل معناه: لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم الله [ عز وجل] أو بما دل عليه حكمه، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون لله [سبحانه] شريكاً في حكمه.(6/4362)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
فأما من قرأه بالتاء والجزم، فمعناه: لا تنسبن أحداً إلى أنه يعلم الغيب ويلي تدبير الخلق.
قوله: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ}.
المعنى: واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب [ربك] والزم تلاوته والعمل بما فيه {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا مغير لما وعد بكلماته التي أنزلها عليك.
ثم قال: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}.
أي وإن لم تفعل ما أمرت به من الاتباع للكتاب ولزوم التلاوة فلن تجد من دونه ملتحداً. قال: مجاهد [" ملتحداً "] ملجأً. وقيل معناه: موئلاً. وقيل:(6/4363)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
معدلاً والمعنى واحد. وهو مفتعل من اللحد. يقال: لحدت إلى كذا أي ملت إليه. ولذلك قيل لِلَّحد لَحْد لأ [نه] في ناحية القبر وليس هو الشق الذي في وسطه. ومنه الالحاد في الدين لأنه ميل عن الحق فيه.
قال: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي}.
والمعنى أن الله يقول لنبيّه عليه السلام: احبس نفسك يا محمد في أعمال الطاعت {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} بالذكر والحمد والتضرع يريدون بذلك وجه الله.
{وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}.
أي: لا تصرفهما عنهم إلى غيرهم من الكفار. وقال: ابن المسيب: هم أهل الصلاة المكتوبة، ومثله عن مجاهد.(6/4364)
وروي أن ذلك نزل في الذين [كان] النبي صلى الله عليه وسلم يقرئهم القرآن أُمّر أَن يصبر نفسه ليقرئهم.
وروي أنه أمر للنبي عليه السلام أمر أن يقرئ الناس القرآن.
[و] هذه الآية نزلت في جماعة من عظماء المشركين أتوا النبي عليه السلام وقالوا له: باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم رائحة الظأن وهم موال وليسوا بأشراف، لنجالسك ونفهم عنك، يعنون بذلك خباباً وصهيباً وعماراً وبلالاً ومن أشبههم فأمر [هـ] الله [ عز وجل] [ ألا] يفعل ذلك وأن يقبل عليهم ولا يلتفت إلى غير [هم] من المشركين.
فهو / قوله {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ} يعني المشركين الذين أمروه(6/4365)
أن يبعد عنهم هؤلاء المؤمنين.
وقيل: عني بذلك عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. " ولما نزل ذلك على النبي عليه السلام وهو في بيته التمسهم فوجد قوماً يذكرون الله [ عز وجل] ثائري الرؤوس والجلود وفي ثوب واحد فلما رآهم قال: " الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " ".
وفي ذلك نزل {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وذلك أن النبي عليه السلام همّ بابعادهم طمعاً أن يؤمن به عظماء قريش فنهاه الله [ عز وجل] عن ذلك.
وقيل [معنى] {يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي}: يعني صلاة الصبح والصلاة(6/4366)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
بالعشي. وقيل: هم الذين يقرءون القرآن.
ثو قال: تعالى: {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا}.
فمعنى تريد زينة الحياة الدنيا أي تريد مجالسة الأشراف ذوي الأموال، وهم كفار، وتترك مجالس المؤمنين الفقراء. وروي أنهم كانوا لا يلبسون الأثياب الصوف من الفقر.
وقال: مجاهد: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي ضياعاً. وقيل معناه: ندامة. وقيل هلاكاً. وقال: ابن زيد معناه: مخالفة للحق. وهو من قولهم أفرط فلان في كذا، إذا أسرف فيه وجاوز قدره فيكون معناه وكان أمره سرفاً في كفره وافتخاره وتكبره.
قوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ}.
المعنى: أن الله جل ذكره أمر نبيّه عليه السلام أن يقول لمن تقدم ذكره في قوله(6/4367)
{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ} [الكهف: 28] الحق من ربكم أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر، وليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من وفقه الله [ عز وجل] فآمن، فإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فآمنوا. فإن كفرتم فقد أعد لكم [ربكم] ناراً أحاط [بهم] سرادقها.
وقوله {فَلْيُؤْمِن} و {فَلْيَكْفُرْ} لفظه لفظ الأمر ومعناه التهدد والوعيد. ومثله
{تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} [هود: 65] وقوله: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} [العنكبوت: 66] وشبهه كثير.
والأمر من الله [ عز وجل] على أقسام: فمنه ما معناه الإيجاب والإلزام نحو
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] الآية، وشبهه. فهذا لا بد من فعله ويأثم من تركه، ويكفر إن عاند في تركه.
ومنه ما معناه التأديب والإرشاد نحو قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] وقوله: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وفيه اختلاف. فهذا لا(6/4368)
يخرج المأمور بتركه إلى إثم. وإن تأدب به وعمله فقد أحسن، إذ قد اتبع ما ندبه الله [ عز وجل] إليه.
ومنه ما معناه الاباحة [والاطلاق نحو قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2] وقوله:] {فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] فهذا إن شاء [فعله، وإن شاء] لم يفعله، ولا يشكر على فعله، ولا يندم على تركه.
ومنه / ما معناه الحتم والتكوين والإحداث نحو قوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117 - يس: 82] فهذا تكوين وإحداث. ويوجد المأمور فيه مع الأمر ولا يتقدم ولا يتأخر.
وكل أوامر النبي [ صلى الله عليه وسلم] على هذه الأقسام تأتي إلا التكوين والإحداث فليس(6/4369)
يكون إلا لله عز وجل، غير أنه قد يكون ذلك على أيدي أنبيائه دلالة على صدقهم. كقول نبينا صلى الله عليه وسلم لشجرة دعاها: " أقبلي " فأقبلت تجري عروقها وأغصانها حتى وقفت بين يديه، ثم قال: لها: " ارجعي " فرجعت إلى مكانها، وشبهه كثير. وهذه الأوامر إنما يميز الواجب منها [من غيره] بالبراهين والدلائل والتوقيف لا غير.
وقوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}.
قال: اين زيد: هو حائط من نار يحيط بهم كسرادق الفسطاط، وقاله ابن عباس. وقال: معمر: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة وهو الذي قال: الله: [ عز وجل] { انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30].
وقيل هو البحر المحيط الذي في الدنيا، أي: أحاط بهم سرادق الدنيا أي: بحرها المحيط.
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " البحر جهنم وتلا هذه الآية. وقال: لا(6/4370)
أدخله أبداً وما دمت حياً، ولا تصيبني منه قطرة "
فيكون معناها أحاط بهم أي عمهم.
وروى [عنه] أبو سعيد الخدري أنه قال: " سرادق النار أربع جدر، كتف كل واحد منها مسيرة أربعين سنة ".
ثم قال: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ}.
أي إن يستغيثوا من العطش يغاثوا بماء كالمهل أي " كعكر الزيت. فإذا قربه من فمه سقطت فروة وجهه فيه " كذا رواه الخدري عن النبي عليه السلام.
وعن ابن مسعود: أن المهل هو كفضة وذهب أذيبا واختلطا. وقال: مجاهد:(6/4371)
" كالمهل " كالقيح والدم الأسود إذا اختلطا. وقال: ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دُرَدَيّ الزيت.
وقال: الضحاك: المهل ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود وأهلها سود. وقال: ابن جبير: المهل الذي قد انتهى حرة. وقيل: المهل عكر القطران.
وعن النبي عليه السلام أنه قال: " المهل صديد أهل جهنم إذا دني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه من حره ".
والمهل عند أهل اللغة: كل شيء أذبته من رصاص أو نحاس ونحوه.
ثم قال: {يَشْوِي الوجوه}.(6/4372)
وقال: ابن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقزم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم. فيتضاعف عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل. فإذا أدنوه من أفواهه انشوى من حره لحوم / وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
وقوله: {بِئْسَ الشراب}.
أي بئس الشراب هذا الذي يغاث به هؤلاء القوم.
وقوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً}.
أي ساءت هذه النار التي أعدت لهؤلاء الظانين: {مُرْتَفَقاً} أي متكئاً. والمرتفق في كلام العرب المتكا. يقال: ارتفقت أي: اتكأت. . وقال: مجاهد " مرتفقاً " مجتمعاً " وهو مفتعل من الرفق.(6/4373)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ [مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً]} إلى قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}.
أي [إن] الذين صدقوا محمداً [ صلى الله عليه وسلم] وما أتى به وعملوا بما جاءهم [به] لا نضيع ثواب من أحسن عملاً.
وخبر إن الأول قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} على تقدير من أحسن عملاً منهم. وحذفت " منهم " لأن الله قد أخبرنا أنه محبط عمل غير المؤمنين. وقيل التقدير: إنا لا نضيع أجرهم. وقيل: الخبر أولئك لهم جنات عدن.
وروي " أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات على ناقته الصهباء عن(6/4374)
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ} الآية. فقال: النبي [ صلى الله عليه وسلم] : " يا أعرابي: ما أنت منهم وما هم منك ببعيد. هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف معي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فاعلم قومك أن هذه الآية نزلت في هؤلاء الأبعة " ".
ولا تقف على {عَمَلاً} إن جعلت الخبر {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وإن جعلت الخبر: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} وقفت عليه.
ثم قال: تعالى: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}.
أي جنات إقامة لا زوال منها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} أي من دونهم الأنهار. كما يقال: داري تحت دارك، أي دونها. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ كعباً. فقال: [له]: إني سمعت الله [ عز وجل] يذكر جنات عدن، فما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. فقال: عمر: أما النبوة(6/4375)
فقد جعلها [الله عز وجل] في أهلها، وأما الصديق فوالله إني لأرجو أن [أكون] قد صدقت بالله [ عز وجل] وبرسوله، وأما الحكم العدل فوالله إني لأرجو أن أكون ما فرقت في حكم أحداً، وأما الشهادة فأنّى لي بالشهادة؟ قال: الحسن فجمعهن الله [ عز وجل] والله له ثلاثتهن. فجعله: صديقاً، حكماً عدلاً، شهيداً.
وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ}.
أساور جمع [اسورة، وأسورة جمع] سِوار وسُوار يقال: بالضم والكسر. وحكى قطرب إسوار. وإن أساور جمع أسوار على حذف الياء لأن أصله أساوير على هذا. والمعروف أن إسوار واحد أساورة الفرس.
وقوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}.
قال: الكسائي: السندس جمع سندسة. وقال: واحد العبقري عبقرية وواحد(6/4376)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
الرفرف: رفرفة، وواحد الأرائك: / أريكة.
والسندس ما رقَّ من الديباج، والإستبرق ما ثخن منه وغلظ. والأرائك السور في الحجال، وقيل: هي الفرش في الحجال.
ثم قال: {نِعْمَ الثواب} أي نعم الثواب [في] جنات عدن وما وصف فيها لمن ذكر. {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي حسنت هذه الأرائك والجنات التي وصف الله [ عز وجل] في هذه الآية {مُرْتَفَقاً} أي متكئاً.
قوله: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} إلى قوله {وَأَعَزُّ نَفَراً}.(6/4377)
وروي عن [ابن] عباس: أنهما أخوان ورثا مالاً فصار لكل واحد أربعة آلاف دينار. فأعطى أحدهما نصيبه للفقراء والمساكين واكتسب الآخر بنصيبه الأجنة والعبيد، فاحتاج المتصدق فتعرض لأخيه ليصله. فقال: [له] أخوة: ما فعل مالك؟ قال: قدمته بين يدي. قال: [له]: لكني اشتريت بمالي لنفسي ولولدي {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] الآية.
وقيل: " كانا رجلين من بني إسرائيل اشتركا في تجترة فربحا ستة آلاف دينار. فاقتسماها وتفرقا. ثم اجتمعا فقال: أحدهما لصاحبه: ما فعلت؟ قال: نكحت امرأة أفضل نساء بني إسرائيل بألف دينار. فانطلق الآخر فأخرج ألفاً فقال: اللهم إن صاحبي نكح من يموت ويبلى بألف دينار. وأنا أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بهذه الألف، وتصدق بها. . . القصة بطولها.
و [المعنى و] اضرب يا محمد لهؤلاء المشركين، الذين سألوك أن تطرد الذين(6/4378)
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين أي بستانين من كرم {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أظللنا البتانين بنخل حولهما. من قولهم حف القوم بفلان إذا حد قوابه.
وقيل: إن هذا مما سأل عنه اليهود مع قصة أهل الكهف وذي القرنين والروح، فأعلمنا الله [ عز وجل] به وجعله مثلاً للكفار ولجميع المؤمنين.
وروي أن الرجلين هما أبناء فطر سويسِ ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين أحدهما يسمى مليخا. وكان: وكان زاهداً في الدنيا وراغباً في الآخرة، فأنفق ماله في ذات الله [ عز وجل] وكان الآخر يبني القصور، ويكسب الأجنة والعبيد، فزار الزاهد أخاه فوجد عليه حجاباً فلم يدخل إلا بعد إذن فسألأه عن ماله. فقال: أنفقته في ذات الله، وقدمته بين يدي لأقدم عليه. وجئتك زائراً. فقال: له الغني {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي عبيداً. ثم كان من شأنهما ما قص الله علينا.(6/4379)
وقوله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً}.
أي جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} أي: أطعم ثمرها {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً} أي: لم تنقص من الأكل شيئاً {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي: بين أشجارهما. وفجرنا: سيلنا.
وأجاز النحويون في غير القرآن: آتتا أكلهما.
وأجاز الفراء كلتا الجنتين آتى أكله، رده على معنى كل. وفي حرف عبد الله / " كلا الجنتين اتى أكله ".
ثم قال: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}.(6/4380)
أي: ذهب وفضة، قاله مجاهد وكذلك {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] وقال: قتادة: هو المال الكثير من أنواع شتى. وقال: ابن عمر [وابن عباس]، ثمر: مال.
وقال: مجاهد: كل ما في القرآن من " ثُمر " بالضم فهو المال، وما كان " من ثَمر " بالفتح " فهي من الثمار.
وقال ابن زيد: الثمر هنا الأصل، وكذلك {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: بأصله.
وهو جمع ثمار، كحمار وحمر، وثمار جمع ثمرة، فأما من أسكن الميم فإنما(6/4381)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
أسكن استخفافاً. ومعناه كمعنى قراءة من ضم. فأما من فتح الميم والثاء، فإنه جعله جمع ثمرة كخشبة وخشب.
ثم قال: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} الآية.
أي قال: صاحب الجنتين لصاحبه، الذي لا مال له، وهو يخاطبه {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي: أعز عشيرة ورهطاً.
قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} إلى قوله {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}.
أي دخل هذا الذي له جنتان جنته، وهو كافر بالله [سبحانه] وبالبعث شاكاً كما في قيام الساعة، وذلك ظلمه لنفسه، فقال: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} لما رأى جنته وحسن ما فيها من الثمار والأنهار شك في المعاد.(6/4382)
فقال: ما أظن أن تبيد هذه الجنة أي لا تخرب ولا تفنى.
ثم قال: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة [قَائِمَةً]} شك في قيام الساعة. ثم قال: غير موقن بالبعث: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} يقول: إن كان ثَمَّ بعثٌ فلي عند ربي خير من جنتي. لأنه لم يعطني هذا في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منهما في المعاد إن كان ثم معاد.
وتحقيق المعنى، ولئن رددت إلى ربي، على قول صاحبي وقد أعطاني هذا في الدنيا فهو يعطيني في الآخرة أفضل من ذلك. فدل هذا على أن صاحبه المؤمن أعلمه أن ثم بعث ومجازاة. ومثله {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27] فأضافهما إلى نفسه، والمعنى أين شركائي على قولكم.
ثم قال: تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}.
أي قال: له صاحبه المؤمن وهو يخاطبه {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} يعني خلق آدم أباك من تراب {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي: خلقك أنت من نطفة الرجل والمرأة.
{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي عدلك سوياً رجلاً لا امرأة، فكفرت به أن يعيدك خلقاً(6/4383)
جديداً بعد موتك. [{لكنا هُوَ الله رَبِّي} أي] لكن [أنا] أقول هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً.
وهذا يدل على أن صاحب المال كان مشركاً إذ نفى هذا المؤمن الإشراك عن نفسه.
ثم قال: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله} أي هلا إذ دخلت بستانك فأعجبك ما رأيت فيه قلت: ما شاء الله كان ولا قوة على ما نحاول من الطاعة إلآ بالله، قال: أبو عامر الباجي: من أكثر من قول ما شاء الله لم يصبه شيء إلا رضي به.
قال: أبو محمد [رضي الله عنهـ]: وقوله المسلمين بأجمعهم ما شاء الله كان، وقبولهم لهذا القول واستمالتهم له بأدمعهم يدل / على أن ما حدث في الدنيا وما(6/4384)
يحدث من خير وشر فبمشيئة الله [سبحانه]، وبقدرته [ عز وجل] وإرادته [تعالى] [كان] خلافاً لقول المعتزلة أن ثم أشياء كثيرة حدثت بغير مشيئة الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل كل بمشيئته وارادته يفعل ما يشاء. كما قال {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18] ولو حدث شيء بغير مشيئته وإرادته لكان مقهوراً مغلوباً، جل وتعالى عن ذلك.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة تحت العرش؟ قال: قلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: [لا] قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال: الله: " أسلم عبدي واستسلم " ".
ثم قال: [له]: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} أي: في الدنيا {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ(6/4385)
خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً [مِّنَ السمآء]} أي: عذاباً.
وواحد الحسبان حسبانة وهي المرامي، قال قتادة والضحاك وقال: ابن زيد الجسبان قضاء الله [ عز وجل يقضيه].
والحسبان في اللغة الحساب كما قال: تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: بحساب. وتقدير الآية على هذا: أن يرسل عليها عذاب حسبان ما كسبت يداك مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
ثم قال: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}.
أي: فتصبح أرضاً ملساء لا شيء فيها من شجر ولا غرس، {زَلَقاً} لا ينبت في أرضها قدم لإملاسها ودروس ما كان ثابتاً فيها.
والصعيد وجه الأرض الذي لا نبات فيه قال: قتادة {صَعِيداً زَلَقاً} أي قد(6/4386)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
حصد ما فيها ولم يترك شيء. قال: ابن عباس: مثل الجرز.
ثم قال: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً}.
أي غائراً. وهو مصدر وضع موضع اسم الفاعل كما قال: رجل عدل أي عادل. وهذا مما يبقى على لفظه في الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث.
ومعنى غائر ذاهب في الأرض فلا يلحقه الرشاء.
ثم قال: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}.
أي: فلن تدرك الماء الذي كان في جنتك إذا غار.
قال: تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}.
المعنى: وأحاط الله [ عز وجل] بثمره أي أحاط عذاب الله [ عز وجل] بثمره.(6/4387)
والثمر أنواع المال. ولو كان الثمر المأكول لوجب أن يكون لم يهلك من ماله إلا ثمر شجرة [و] ليس الأمر على ذلك. بل هلك كل ماله في الجنتين وهلكت الجنتان مع ذلك.
وقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا}.
هذا مثل للنادم المتأسف على ما ذهب له أن يقلب كفيه ظهراً لبطن على ذهاب نفقته في جنته {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي حيطانها قائمة لا سقوف عليها. قد تهدمت سقوفها [و] بقيت حيطانها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف إذ صارت السقوف تحت الحيطان.
وقال: مجاهد {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي يصفق كفيه. أي يضرب كفاً على كف، وهذا يفعله صاحب المصيبة إذا نزلت به.(6/4388)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{يَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}.
هذا ندم منه على ما تقدم من شركه به لما عاين ذهاب ماله والانتقام منه في الدنيا. والمعنى ويقول إذا عاين عذاب الآخرة ذلك. لم يندم على الشرك في الدنيا، إذ لو ندم على شركه/ في الدنيا لكان مؤمناً.
قال: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله}.
أي لم تكن له عشيرة ينصرونه من هلاك جنته. وقيل من العذاب، قاله مجاهد. وقال: قتادة: " فئة جنده.
{وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}.
أي ما كان ممتنعاً من عذاب الله [ عز وجل] إذا عذبه [سبحانه].
قال: تعالى: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق}.
أي لم يكن ممتنعاً {هُنَالِكَ} ثم ابتدأ فقال: {الولاية لِلَّهِ الحق} فلا يوقف على " منتصراً " على هذا التقدير. ويجوز أن يكون {هُنَالِكَ} ظرفاً للولاية، فيحسن الوقف(6/4389)
على " منتصراً ".
و" الولاية " بفتح الواو، في الدين مصدر للولي، من قوله {إِنَّ وَلِيِّيَ الله} [الأعراف: 196] ومعناه يتولى المؤمنين [و] قال: الفراء والكسائي الولاية بفتح الواو يعني به النصرة، أي هنالك النصرة لله [ عز وجل] . ودل على هذا قوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}.
والولاية بكسر الواو السلطان والقدرة. وهو مصدر وليت الشيء ولاية، فهو مصدر الوالي، هذا قول الكسائي والفراء. والمعنى ثم القدرة والنصرة والسلطان لله [ عز وجل] وثم إشارة إلى يوم القيامة.
وأجاز أبو إسحاق " الحق " بالنصب على المصدر. أي أحق الحق. ولم(6/4390)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
يقرأ به أحد.
ثم قال: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً}.
أي الله خير المثيبين في العاجل والآجل، {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي عاقبة في الأجل إذا صار إليه المطيع له. والعقب العاقبة وهي العقبا وذلك ما يصير إليه الأمر.
قال: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا}.
أي واضرب للمشركين يا محمد الذين رغبوا [في الدنيا] واختاروها على الآخرة فسألوك أن نطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه للدنيا.
{مَّثَلَ} أي شبهاً.
{كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح}.(6/4391)
أي كمطر أنزله الله من السماء {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً} فمثل الدنيا كمثل هذا النبات الذي حسن استواؤه بهذا المطر ثم انقطع عنه فعاد هشيما. أي: يابساً فتاتاً {تَذْرُوهُ الرياح} لا فائدة فيه. وكذلك الحياة الدنيا، بينما الإنسان في غضارتها مغتبطاً إذ أتاه الموت فيبطل كل ما كان فيه.
وقيل: معنى المثل المستحسن من الدنيا المشتهى المستحلى من نعمها، كله [يبطل] ويفسد بالفناء والزوال والانقلاب من الحال المستحسنة [إلى الحال المستقبحة] كما انتقل النبات عن الخضرة والطراء إلى الجفاف والاسوداد والهلاك. فلا ينبغي لمن لطف نظره وصح تمييزه أن يعتد من الدنيا بما لا يبقى عليه ولا يحصل له نفعه.
ثم قال: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}.
أي قادراً لا يفوته شيء. ومعنى {وَكَانَ الله} فأتى بالخبر عن الماضي أنه على [معنى: أن] ما شاهدتموه من قوته ليس بحادث بل لم يزل على ذلك. هذا مذهب(6/4392)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
سيبويه. وقال: الحسن معناه: وكان مقتدراً عليه قبل كونه. وكذا الجواب عن كل ما أخبر الله [ عز وجل] به عن نفسه بالماضي.
قوله: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا}.
والمعنى المال والبنون الذي يفخر به عظماء قريش على الفقراء المؤمنين إذ سألوك يا محمد / أن تبعد الفقراء المؤمنين عن نفسك وتقرب الأغنياء زينة الحياة الدنيا دون الآخرة.
{والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي وما يعمل هؤلاء الفقراء من دعائهم ربهم [ عز وجل] بالغداة والعشي يريدون وجهه.
{والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.
أي ما يؤمل من عاقبه الدعاء إلى الله [ عز وجل] هؤلاء الفقراء خير مما يؤمل هؤلاء الأغنياء المشركون من أموالهم وأولادهم.(6/4393)
وقيل: عنى بهذه الآيات من قوله: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27] إلى هذا الموضع: عيينة والأقرع، سألا النبي [ صلى الله عليه وسلم] أن يطرد الضعفاء المؤمنين عن نفسه مثل سلمان وصهيب وخباب.
وقال ابن عباس: {والباقيات الصالحات} الصلوات الخمس، وهو قول ابن جبير.
وقال: عثمان [بن عفان] رضي الله عنهـ[هي] سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، رواه عنه الحارث مولاه.
وقال: ابن عباس أيضاً: هي سبحان الله والحمد لله ولا إلأه إلا الله والله أكبر، وهو قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد.
وزاد ابن المسيب فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك قال: ابن عمر لما سئل عنها مثل قول ابن المسيب، وهو قول محمد بن كعب القرطبي، وهو قول ابن مسعود، وهو مروي عن النبي عليه السلام.(6/4394)
وروي عن مجاهد أنه قال: هي التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
وروى أبو أيوب الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: " عرج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم فقال: يا جبريل من هذا معك قال: محمد، قال: فرحب بي وسهل. ثم قال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات ".
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات، قليل وما هن يا رسول الله؟ قال: الملة. فيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
وروى ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا(6/4395)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
جنتكم، قالوا: يا رسول الله من عدو و [قد] حصر. [قال] لا، جنتكم من النار. قوله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات من النار [هن] الباقيات الصالحات ".
وعن ابن عباس أنه قال: هي الأعمال الصالحات من الذكر وغيره. تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض. وقال: ابن زيد: هي الأعمال الصالحات.
وعن ابن عباس أيضاً: هي الكلام الطيب.
قال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً}.
أي: واذكر يا محمد يوم تسير الجبال، أي يوم تبس الجبال بساً فتجعلها هباءً منبثاً {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً}، أي: ظاهرة قد اجتنيت ثمارها وقلعت جبالها وهدم(6/4396)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
بنيانها، قاله مجاهد / وقتادة. وروى أن ذلك في يوم النفخة الأولى.
وقيل المعنى: قد أبرزت من فيها من الموتى الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها. فيكون على هذا النسب: أي وترى الأرض ذات بروز.
ثم قال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}.
أي: وجمعناهم إلى موقف الحساب فلم نترك منهم أحداً تحت الأرض. فهذا يدل على أن معنى {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} تبرز من في بطنها من الموتى على ظهرها.
وعن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الناس حفاة عراة كما بدؤوا، وقالت أم سلمة: يا سوءتاه يا رسول الله هل ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: شغل الناس، قالت: قلت: وما شغلهم يا رسول الله؟ قال: نشروا الصحف فيها متى قيل الدر ومتى قيل الخردل ".
قوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [47] إلى قوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [49].(6/4397)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
أي وعرض الخلق صفاً أي ظاهرة ترى جماعتهم كما ترى كل واحد منهم، لا يسترهم شيء.
{لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
أي أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة، يحشرون حفاة عراة غرلاً. وغرل جمع أغرل وهو الأقلف. والمعنى يقال: لهم يوم القيامة إذا عرضوا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة.
ثم قال: [تعالى]: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً}.
هذا خصوص للمنكرين البعث يقال: لهم بل زعمتم أن لن تبعثوا.
قال: [تعالى]: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}.
في هذا الكلام اختصار وحذف. والتقدير ووضع الكتاب فيه عمل [كل](6/4398)
امرئ أي وضع الكتاب في يد كل امرئ في يمينه أو في شماله.
{فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}.
أي: ترى المشركين [بالله] خائفين وجلين مما فيه من أعمالهم السيئة {وَيَقُولُونَ ياويلتنا} أي قولون إذا قرءوا كتاب أعمالهم ورأوا ما كتب عليهم من كبائر ذنوبهم ومغائرها {ياويلتنا} دعوا بالويل لما أيقنوا بالعذاب.
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ أنه قال: لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث يوم القيامة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ، فلا يبقى أحد إلا وهو ينظر إلى عمله فيه. ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش فذلك قوله: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} لما رأوا ما رأوا ولم يقدروا أن ينكروا منها شيئاً.
قال: قتادة: اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد منهم ظلماً، فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه.(6/4399)
وروى عن ابن عباس أن الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. وقيل: الصغيرة ما دون الشرك والكبيرة الشرك.
وقوله: {إِلاَّ أَحْصَاهَا} أي إلاّ حفظها الكتاب وأثبتت فيه. وقال: أحصاها على معنى أحصاهما، وعلى معنى / أحصى كل واحد منهما. وقيل المعنى: لا يغادر صغيرة إلا أحصاها ولا كبيرة إلا أحصاها، لكن حذفت إحدى الجملتين لدلالة الأخرى عليها اختصاراً وإ [ي] جازاً.
ثم قال: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً}.
أي: ما عملوا في الدنيا من عمل حاضراً في كتابهم مكتوباً مبيناً.
{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
أي: لا يجازي ربك يا محمد أحداً بغير ما هو أهله، أي لا يجازي بالإحسان(6/4400)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
إلا أهل الإحسان، ولا بالسيئات إلا أهل السيئة. وتحقيقه: لا يضع ربك العقوبة إلا في موضعها لأن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.
قال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن}.
أي: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ترك السجود حسداً لآدم.
وقوله: {كَانَ مِنَ الجن} أي: من الملائكة الذين يقال: لهم الجن. وقيل كان من خزان الجنة فنسب إليها.
وقيل: كان من الجن الذين استخفوا عن أعين الناس أي استتروا.
وقال: ابن عباس كان اسم إبليس قبل أن يركب المعصية عزازيل. وكان من الملائكة من سكان الأرض من أشد الملائكة عبادة واجتهاداً فدعاه الكبر إلى ترك السجود وكان من حي يسمون جنا.
وعنه أيضاً أنه قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال: لهم الجن(6/4401)
خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. وكان اسمه الحرث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة من [نور] غير هذا الحي وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار السموم وهي لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال: ابن المسيب: كان إبليس رئيس الملائكة، ملائكة سماء الدنيا.
وعن ابن عباس كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر سماء الدنيا. وعنه كان إبليس من أشراف الملائكة و [أ] كرمهم قبيلة وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. وكان فيما قضى الله عز وجل أنه رأى أن له بذلك شرفاً وعظمة على أهل السماء فوقع في قلبه من ذلك كبر لا يعلمه إلا الله [ عز وجل] فلما كان عند السجود، حين أمر أن يسجد لآدم [ صلى الله عليه وسلم] استخرج الله عز وجل كبره عند السجود فلعنه وأخره إلى يوم الدين.
وعن ابن عباس أنه قال: إن الملائكة قبيلة من الجن وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى، فسخط الله [ عز وجل] عليه(6/4402)
فمسخه شيطاناً رجيماً لعنه الله ممسوخاً. وقال: إذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه. وكانت خطيئة آدم [ صلى الله عليه وسلم] في معصية وخطيئة إبليس في كبر.
وقال: ابن عباس: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود.
وقال: قتادة إنما سمي من الجن لأنه جن عن طاعة ربه. يريد أنه استتر عنها فلم يفعلها. وقال: الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وأنه لأصل للجن، كما أن آدم [ صلى الله عليه وسلم] أصل للإنسان. وقال: ابن / جبير: كان من الجنانين الذين يعملون في الجنان فلذلك قال: {[كَانَ] مِنَ الجن}.
فمن جعله ليس من الملائكة ينقض قوله قول الله [ عز وجل] { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ} لم ير غير الملائكة.
وقال: من أجاز ذلك: إن معنى أن الله أمره مع الملائكة بالسجود فاستثني، فهو استثناء ليس من الأول.(6/4403)
ثم قال: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.
أي: فعدل عن أمر ربه وخرج عنه، والفسق العدول والخروج عن الاستقامة. وقال: قطرب معناه ففسق عن [رده] أمر ربه [ عز وجل] .
والمعنى عند الخليل وسيبويه أتاه الفسق لما أمر فعصى. وكان سبب فسقه الأمر بالسجود.
ثم قال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}.
أي: فتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وأغواه حتى أخرده من الجنة فكان ذلك سبب خروجكم منها. وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأسجد ملائكته لأبيكم آدم [ صلى الله عليه وسلم] . وذرية إبليس هم الشياطين الذين يغوون بني آدم.(6/4404)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
ثم قال: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.
أي: بيس ما استبدل الظالمون من طاعة الله [ عز وجل] طاعة ابليس.
قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض}.
أي: ما أشهدت إبليس وذريته {خَلْقَ السماوات والأرض}، أي ما أحضرتهم ذلك فاستعين بهم على خلقهما.
{وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}.
أي: ولا أحضرت بعضاً منهم خلق بعض فأستعين به على ذلك. بل هو منفرد بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير.
وقيل معنى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض}: أي لم يكونوا موجودين إذ خلقهما.
ثم قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً}.(6/4405)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
أي: وما كنت متخذ من لا يهدي إلى الحق أعواناً وأنصاراً وهو من قولهم فلان يعضد [فلاناً] إذا نصره وأعانه وقواه.
وقرأ أبو جعفر وعاصم الجحدري: " ومن كنتَ " بفتح التاء على المخاطبة للنبي عليه السلام. أي لست يا محمد متخذاً المضلين أنصاراً.
وفي عضد ستة أوجه وعََضُد وعَضْد وعُضُد بضمتين وبه قرأ الحسن. وحكى هارون القارى " عَضِدٌ ". ويجوز عند أبي إسحاق عُضْداً على قراءة الحسن بسكون الأوسط. والسادس عُضْداً على لغة من قال: كِتْف في كتف.
قال: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} أي: نقول للمشركين نادوا الآلهة والأنداد التي عبدتموها، وجعلتموها شركاء لله ووعدتم أنفسكم بنصرتها لكم من عذاب الله.(6/4406)
{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ}: أي: فاستغاثوا بها ولم تغثهم.
ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً}.
أي جعلنا بين المشركين، وما كانوا يعبدون في الدنيا عداوة يوم القيامة، قاله الحسن.
وقال: ابن عباس معنى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} الموبق المهلك الذي أهلك بعضهم بعضاً. كأنه جعل فعلهم ذلك لهم مهلكاً. ف " بين " اسم على هذا القول لأظرف، وانتصابه انتصاب / المفعول بجعل.
قال: الضحاك: موبقاً هلاكاً. وقال: مجاهد: موبقاً واد في جهنم. وقال: عبد الله بن عمرو: يفرق يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة بواد عميق وهو الموبق. وقال: أبو عبيدة: موبقاً موعداً.
وأحسن الأقوال، قول من قال: الموبق المهلك والهلاك. لأن العرب تقول: وبقَ(6/4407)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
يَبِق: إذا هلك. [ومنه] قوله: {[أَوْ يُو] بِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34] أي: يهلكهن. فالمعنى وجعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة. وقد يسمى الوادي موبقاً لأنه يهلك فيه.
ف " بين " على هذا اسم لا ظرف، وانتصابه بجعلنا انتصاب المفعولات لا انتصاب الظروف، ومن جعله وادياً فهو ظرف، وكذلك على قول موبقاً عداوة وموعداً.
وروى أبان عن عكرمة أنه قال: [" موبقاً "] نهر في النار يسيل ناراً، على حافتيه حيات كالبغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، أعاذنا الله من النار.
قال: [تعالى]: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا}.
أي عاين المجرمون النار يوم القيامة فأيقنوا بأنهم داخلوها. روى أبو سعيد(6/4408)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة ".
ثم قال: {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً}.
أي: [و] لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها.
قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}.
أي: ولقد مثلنا في هذا القرآن [للناس] من كل مثل فيه موعظة وحجة ليتعظوا ويتذكروا فينيبوا ويزدجروا عمّا هم فيه من الكفر {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}، أي خصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة.
[و] الإنسان هذا الكافر، دل عليه قوله {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [الكهف: 56](6/4409)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
وإنما قيل: {وَكَانَ الإنسان}. لأن إبليس أيضاً قد جادل والجن تجادل. والمعنى: وكان الإنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً.
قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى}.
المعنى: وما منع هؤلاء المشركين يا محمد عن الإيمان [بالله عز وجل] إذ جاءهم البيان من عند الله [سبحانه] والاستغفار مما هم عليه من شركهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين.
أي: إلا طلب أن يأتيهم العذاب كما أتي الأولين عند امتناعهم من الإيمان. وطلبهم العذاب كما طلب هؤلاء المشركون العذاب في قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
ثم قال: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً}.(6/4410)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
من كسر القاف فمعناه: عيانا. ومن ضم فهو عند الفراء جمع " قبيل " أي يأتيهم متفرقاً صنفاً بعد صنف. وقال: أبو عبيدة: " قُبْلاً " بالضم مقابلة. وقال: مجاهد: قبلا، فجأة. وقال: ابن زيد: عيانا.
قال: [تعالى]: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}.
أي: وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل الإيمان بجزيل الثواب عند الله [ عز وجل] ومنذرة أهل الكفر عظيم العقاب.
ثم قال: {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}.(6/4411)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
أي: يخاصم الكفار النبي صلى الله عليه وسلم ويسألوا عن المسائل / يبتغون عجزه واستنقاصه ليزيلوا به حجته، وينكروا نبوته فيزيلون الحق. ومعنى {لِيُدْحِضُواْ} يزيلوا، وهو سؤالهم عن الروح وعن فتية الكهف وعن ذي القرنين وشبهه. فأعلم الله [ عز وجل] نبيّه أنه لم يرسل رسله للجدال إنما أرسلهم مبشرين ومنذرين.
ثم قال: {واتخذوا ءاياتي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً}.
أي: اتخذ الكافرون آيات الله [ عز وجل] وحججه [سبحانه] سخرياً. والهزؤ السخرية كأنهم يسخرون به.
قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}.
أي: أيُّ الناس أوضع للأشياء في غير موضعها ممن ذكره الله [ عز وجل] آياته وحججه فدله على سبيل الرشاد، وأهداه إلى طريق النجاة، فأعرض عن ذلك(6/4412)
ولم يقبله {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ترك ما اكتسبت من الذنوب المهلكة له فلم يتب منها.
ثم قال: تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}.
أي: إنا جازيناهم بإعراضهم عن الهدى وميلهم إلى الكفر [بأن] جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه {وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً} أي ثقلاً لئلا يسمعوه. فأعلم الله [ عز وجل] نبيه [ صلى الله عليه وسلم] أن هؤلاء بأعيانهم لن يؤمنوا.
ثم قال: لنبيّه عليه السلام {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى} أي الاستقامة {فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} أي: فلن يؤمنوا أبداً لأن الله [ عز وجل] قد طبع على قلوبهم وآذانهم.
وقيل المعنى: فمن أظلم لنفسه ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عن قبولها(6/4413)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي: ترك كفره ومعاصيه لم يتب منها.
قال: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة}.
أي: وربك يا محمد الساتر على ذنوب عباده بعفوه إذا تابوا منها ذو الرحمة بهم. ولو أخذ هؤلاء المعرضين عن آياته بما اكتسبوا من الذنوب بالعذاب في الدنيا لعجّل لهم ذلك. لكنه برحمته وعفوه لم يعجل لهم ذلك. وتركه إلى وقته، وهو الموعد المذكور.
{لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً}.
أي: لن يجدوا يعني هؤلاء المشركين من دون الموعد ملتحداً ملجئاً يلجؤون إليه من العذاب.
قوله: {وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ}.
المعنى: وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم أهلكنا أهلها(6/4414)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{لَمَّا ظَلَمُواْ} أي: كفروا بالله [ عز وجل] وآياته [سبحانه].
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً}.
أي: وجعلناه لوقت إهلاكهم أي لوقت هلاكهم موعداً، لا يتجاوزونه، أي أجلاً ووقتاً. فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين موعداً لإهلاكهم لا يتجاوزونه.
وتقدير الآية: أولئك أهل القرى أهلكناهم لما ظلموا، ثم حذف المضاف. مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، وهنا الضمير في إهلاكهم على أصله، يعود على المحذوف وعمد للإشارة فقيل: تلك لما صارت للقرى.
أي: واذكر يا محمد إذ قال: موسى لفتاه يوشع بن نون [و] كان يلازم موسى ويخدمه. وهو ابن اخته، وهو يوشع بن نون ابن فزائ [ي] ل بن يوسف بن يعقوب.(6/4415)
والمعنى أنه قال: ليوشع لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، يعني اجتماع بحر فارس وبحر الروم [فبحر الروم] مما يلي المغرب، وبحر فارس مما يلي المشرق، قاله قتادة ومجاهد.
ومعنى {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أي أو أسير زماناً ودهراً. وهو واحد جمعه أحقاب في أقل العدد وكثيره. وقد / يجوز أن يكون أحقاب جمع حقب وحقب جمع حقبة. [و] قال: الفراء: الحقب في لغة قيس سنة. وقال: عبد الله بن عمر: الحقب ثمانون سنة. وقال: مجاهد " سبعون خريفاً.
وعن ابن عباس {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} دهراً. وعن قتادة: زماناً. وقال: ابن زيد: الحقب الزمان وأصله في اللغة أنه وقت مبهم يقع للقليل والكثير كرهط وقوم(6/4416)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
وكان علة سيره إلى مجمع البحرين أنه واعد ثم الخضر يلقاه.
قال: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا}.
أي: فلما بلغ موسى [ صلى الله عليه وسلم] وفتاه مجمع البحرين. قال: أبي بن كعب أفريقية.
وقوله {نَسِيَا حُوتَهُمَا}. أي: تركاه. وقال: مجاهد أضلاه وقيل: الناسي له يوشع وحده، ولكن أضيف النسيان إليهما كما قال:
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما من المالح دون العذب.
وقيل كان النسيان منهما جميعاً أما موسى [ صلى الله عليه وسلم] فنسي أن يقدم إلى يوشع في أمر الحوت، وأما يوشع فنسي أن يخبر موسى [ صلى الله عليه وسلم] بسرب الحوت. وكانا قد تزودا الحوت في سفرتهما فأضيف إليهما إذ هو زادهما جميعاً وإن كان حامله أحدهما.
ثم قال: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً}.(6/4417)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً ومذهباً يرى. قال: ابن عباس بقي أثره كالحجر. وعنه أيضاً أنه قال: جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء.
وعن ابن عباس أنه قال: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يصير صخرة فذلك اتخاذه في البحر سرباً. قال: ابن زيد: لما أحيى الله [ عز وجل] الحوت مضى في البطحاء فاتخذ فيها طريقاً حتى وصل إلى الماء بعدما أكلا منه، وكان زادهما.
قوله: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} إلى قوله: {مِن لَّدُنَّا عِلْماً}.
أي: فلما جاوزا مجمع البحرين، قال: موسى لفتاه: آتنا غذاءنا،(6/4418)
{لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً}. أي: تعباً. وذلك أن موسى [ صلى الله عليه وسلم] لما جاوز الصخرة التي عندها يطلب الخضر وذهب الحوت عندها ألقى الله [ عز وجل] عليه الجوع ليذكر الحوت ليرجع [فليذهب] إلى مطلبه.
قال له فتاه وهو يوشع بن نون ابن أخت موسى من سبط يوسف بن يعقوب [ صلى الله عليه وسلم] : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً}، أي اتخذ طريقاً يسيرة. قال: موسى " عجباً " أي أعجب عجباً.
وقيل هو من قول يوشع كله. أي اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً. فيكون عجباً مفعولاً ثانياً لاتخذ. ويجوز أن يكون مصدراً عمل فيه فعل دل عليه الكلام.
وقيل المعنى: واتخذ موسى سبيل الموت في البحر عجباً. قال: ابن أبي نجيح عجباً لموسى [ صلى الله عليه وسلم] لهى هو أي عجب موسى من أثر الحوت في البحر. وكذلك(6/4419)
قال: قتادة.
قال: ابن زيد: عجباً والله من حوت أكل منه دهراً ثم صار حياً حتى أثر يسيره في الماء طريقاً. قال: ابن عباس: عجب موسى من أثر الحوت إذ صار صخرة كلما مس.
فمن جعل العجب من موسى، وقوله {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر} من قول يوشع، وقف على البحر. ومن جعله كله من قول يوشع أو جعل الاتخاذ لموسى [ صلى الله عليه وسلم] لم يقف على البحر.
ثم قال: تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}.
أي قال: موسى لفتاه {ذَلِكَ مَا / كُنَّا نَبْغِ}.
أي نسيانك للحوت هو الذي كنا نطلب. لأن موسى عليه السلام وعد أن يلقى الخضر في الوضع الذي نسي فيه الحوت.(6/4420)
{فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً}.
أي: رجعا على طريقهما [الذي] أتيا فيه يطلبان الموضع الذي انسرب فيه الحوت. والقصص الاتباع. أي يقصان الأثر قصصاً حتى انتهيا إلى أثر الحوت {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي وجدا خضراً.
وكان سبب سفر موسى لطلب الخضر فيما روى جماعة من المفسرين أنه سئل هل في الأرض أعلم منك؟ فقال: لا [و] حدثته نفسه بذلك. فكره له ذلك فأراد الله [ عز وجل] أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه.
وقيل: إن موسى [ صلى الله عليه وسلم] ركب البحر فأعجبه علمه، فقال: في نفسه: ما أجد في زماني أعلم مني. فرفع عصفور في منقاره نقطة من ماء البحر فأوحى الله [ عز وجل] إليه ما علمك عند علم عبد من عابدي إلا كما حمل هذا العصفور من ماء هذا البحر في منقارة.
فقال: يا رب اجمع بيني وبين هذا العالم وسخره حتى أعلم علماً من علمه.(6/4421)
فأوحى الله [ عز وجل] إليه أنك تستدل عليه ببعض زادك. فمضى ومعه غلامه ومعهما خبزه وحوت وقد أكلا بعضه. فكان من قصتهما ما حكى الله [ عز وجل] عنهما وعن الحوت.
وقيل: كان سبب ذلك أنه سأل الله [ عز وجل] أن يدله على عالم يزداد من علمه. قاله ابن عباس: قال: سأل موسى [ صلى الله عليه وسلم] ربه [ عز وجل] : أي ربي، أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني فلا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: ربي فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن تصيبه كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال: رب فهل في الأرض أجده؟ قال: نعم. قال: رب فمن هو؟ قال: الخضر. قال: زأين أطلبه؟ قال: [على] الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. فخرج موسى [ صلى الله عليه وسلم] يطلبه. حتى كان ما ذكر الله [ عز وجل] وانتهى موسى [ صلى الله عليه وسلم] إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه فقال: له موسى: إني أريد أن تصحبني. قال: له الخضر: إنك لن(6/4422)
تستطيع صحبتي. قال: له موسى: بلى. قال: له الخضر: فإن صحبتني {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 69] فكان ما قصّ الله [ عز وجل] علينا من أمر السفينة والغلام والجدار. ثم صار به الخضر في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور وليس في مكان أكثر ماء منه. قال: ابن عباس: وبعث ربك الخطاف فجعل يستقي من ذلك الماء العظيم بمنقاره. فقال: الخضر [لموسى]: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقل [ما] رزأ منه. قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى يحدث نفسه أنه ليس أحداً أعلم منه.
ومن رواية ابن جبير عن ابن عباس أيضاً: خطب موسى بني إسرائيل. فقال: ما أجد أعلم بالله وبأمره مني، فأمر أن يلقى الخضر. فلما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد قد سجى عليه ثوبه، فسلم عليه موسى، فكشف الرجل عن وجهه الثوب / فرد عليه السلام. فقال: من أنت؟ فقال: موسى قال: صاحب بني(6/4423)
إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أو ما كان لك في بني إسرائيل شغل؟ قال: بلى، ولكن أمرت أن أتبعك وأصحبك {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67] كما قص الله علينا.
ويروى أن موسى قال: له: وما يدريك أني صاحب بني إسرائيل؟ قال: له: ادراني بكل الذي ادراك بي.
قال: قتادة: قيل لموسى إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك. فخرج هو ويوشع بن نون فتزودا حوتاً مملوحاً. حتى إذا كانا حيث شاء الله، رد الله إلى الحوت روحه فسرب في البحر واتخذ الحوت طريقه في البحر سرباً.
وقال: قوم إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل وإنما هو عبد من عبيد الله من غير بني إسرائيل. فأنكر ذلك أكثر الناس، وقالوا هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل. وقال: ابن جبير: كنا عند ابن عباس، فقيل له: أن نوفا قال: ليس صاحب الخضر موسى بني إسرائيل. وكان متكئاً فجلس، وقال: يا سعيد أنت سمعته؟ قال، قلت: نعم، أنا سمعته وهو يقول ذلك. فقال: ابن عباس: كذلك نوف. حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينما موسى [ صلى الله عليه وسلم] يخطب قومه ذات [يوم] إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً أعلم مني، فأوحى الله [ عز وجل](6/4424)
إليه: أن في الأرض رجلاً أعلم منك. قال: يا رب فدلني عليه. فقيل له: تزود حوتاً مالحاً فإنه حيث تفقد الحوت. فانطلق هو وفتاه حتى انتهيا إلى الصخرة. وانطلق موسى [ صلى الله عليه وسلم] يطلبه وترك فتاه فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه الماء فصار مثل الكوة. فقال: فتاه: إلى أن يجيء نبي الله فأخبره، قال: فنسي أن يخبر موسى بذلك. فلما جاوزا {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً}. قال: فلم يصبهما نصب حتى جاوزا ما أمرا به. قال: واذكر، يعني الفتى فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} إلى قوله {قَصَصاً} فأراه مكان الحوت قال: ها هنا وصف لي. فذهب يلتمس فإذا هو بالخضر مسجى ثوباً " وذكر الحديث المتقدم.(6/4425)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قوله {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}.
أي قال: موسى للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله رشداً إلى الحق ودليلاً على الهدى. قال: له الحضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إني أعلم بباطن علم علمنيه الله [ عز وجل] ولا تعلم أنت إلا بالظاهر من الأمور فلا تصبر على ما ترى مني لأن أفعالي بغير دليل في رأي العين. قال: موسى: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} [أي اصبر] على ما أرى منك وإن كان خلافاً لحكم الظاهر، {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} أي [و] أنتهي إلى ما تأمرني وإن كان مخالفاً لهواي.
وفعل موسى [ صلى الله عليه وسلم] في هذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد ترك طلب العلم [و] الازدياد منه والرحلة فيه وإن كان قد / بلغ فيه مبلغه. ويدل على وجوب(6/4426)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
التواضع لمن هو أعلم منه.
قال الخضر لموسى: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي: إن رأيت ما تنكر فلا تسئلني وتعجل علي بالسؤال حتى أبين لك وجهه وشأنه.
{فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا}.
أي: انطلق موسى والخضر يطلبان السفينة يركبانها فأصاباها فلما ركبا فيها خرق الخضر السفينة، فأنكر ذلك موسى وقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}.
أي: شيئاً منكراً عظيماً.
ويروى أن موسى عليه السلام حين رآه يخرق السفينة التزمه، وذكره الصحبة، وناشده الله والصحبة فأكب الآخر عليها يخرقها. فلما خرقها ودخل الماء فيها جلس موسى مهموماً محزوناً وقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} الآية.
وقال: قتادة {إِمْراً}: عجباً. فأنكر عليه موسى ما رأى، وذلك أنه لم يعلم(6/4427)
أنه نبي. وقيل قد علم أنه نبي ولكن نسي. قال: أبو عبيدة إمراً: داهية.
وقيل: سمي الخضر خضراً لأنه كلما صلى في مكان اخضرّ ما حوله.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما سمي الخضر خضراً لأنه جلس على ربوة بيضاء فاهتزت خضراً " فقال: له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} لأنك ترى ما لا تعلم. قال: له موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}. قال: أبي بن كعب: لم ينسَ موسى ولكنها من معار [ي] ض الكلام. وقال: ابن عباس: لم ينسَ، وإنما ترك العهد. فالمعنى لا تؤاخذني بتركي عهدي. ألا أسألك عن شيء حتى تحدث لي منه ذكراً.
وقيل: إنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولم يعتذر، وعن النبي عليه السلام أنه قال "(6/4428)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
كانت الأولى من موسى نسياناً "، ومعنى " لا ترهقني " لا تكلفني عسراً. وقيل لا تغشني عسراً.
وقيل: المعنى عاملني باليسر لا بالعسر. وقيل معناها لا تضيق علي.
قوله: {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ}.
المعنى: فانطلق موسى والخضر يسيران حتى لقيا غلاماً فقتله] الخضر. قال: ابن جبير: وجد الخضر غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. قيل كان اسمه جيسور. قال: له موسى(6/4429)
{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بريئة. وقيل معناها ليس لها إليك ذنب، قاله اليزيدي. وعن ابن عمر: " زاكية " صالحة. وعنه " زاكية " لا ذنب لها.
فأما من قرأ " زكية " بغير ألف، فقال: ابن عباس وقتادة: الزكية التائبة. وقال: ابن جبير: الزكية التي لم تبلغ الخطايا. وقال قطرب: زكية مطهرة. وقال:(6/4430)
الكسائي والفراء هما لغتان. ومعناه عندهما لم يجن جناية.
وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ}.
أي: بغير قصاص نفس قتلت فيلزمها القصاص قوداً بها.
وهذا المعنى يدل على أن الذي قتله الخضر لم يكن طفلاً بل كان بالغاً. لأن القود بالنفس لا يكون إلا بعد البلوغ.
ثم قال: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً}
أي: لقد فعلت فعلاً منكراً.
قال: بعض أهل اللغة " الإمر: أشد من " النكر " لأن الأمر إنما / يستعمل في الشيء العظيم. فلما كان هلاك جماعة في خرق السفينة قال: " امراً " وقال: هنا " نكراً " لأنه قتل واحداً وقتل الجماعة أعظم من قتل واحد. وروي عن قتادة أنه قال: النكر أشد من الأمر.(6/4431)
وقيل معناه: لقد جئت شيئاً أنكر من الأول.
قال له الخضر {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.
أي: لا تقدر أن تصبر على ما ترى من أحوالي وأفعالي التي لم تحط بها خبراً. وإنما كرر المخاطبة الخضر في المرة الثانية لموسى [ صلى الله عليه وسلم] لأن الإنسان إذا أذنب ثانية كان اللوم عليه آكد من ذنبه أولاً. فلما أنكر موسى على الخضر خرقه السفينة وبخه الخضر توبيخاً لطيفاً إذ لم يتقدم لموسى ذنب. فقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فاعتذر موسى بأنه نسي الشرط الذي اش [ت] رط عليه الخضر. فلما عاد موسى إلى الإنكار في قتل الغلام زاد الخضر في توبيخه لعوده لبعض ما اشترط عليه فكرر الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ فقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فكرر المخاطبة في الثاني لعودة العلة. فقال: له موسى: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} أي: تتابعني أي فارقني {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} أي: بلغت العذر في شأني.(6/4432)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
وروى أبي بن كعب أن النبي عليه السلام قال: " يرحمنا الله وإياه يعني موسى، لو صبر لرأى عجباً "، وقال: لما قرأ هذه الآية: " استحيى نبي الله موسى ".
قال: تعالى: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا}.
أي: فانطلق موسى والخضر يسيران حتى إذا جاءا أهل قرية {استطعمآ أَهْلَهَا} أي: سألاهما أن يطعموهما من الطعام. فابوا، فاستضافوهم فأبوا.
يقال: ضيفت الرجل إذا انزلته منزلة الاضياف. وأضفته أنزلته. وضيفته نزلت عليه، مشتق من ضاف السهم أي مال.
وضافت الشمس إذا مالت للغروب. ومنه قولهم هو مخفوض بالاضافة(6/4433)
[أي] بإضافة الاسم إليه.
ثم قال: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي يسقط بسرعة.
وقرأ يحيى بن يعمر " يريد أن ينقاص " بالصاد غير معجمة، أي بنقطع من أصله وينصدع.
وقيل معناه: ينشق طولاً. يقال: انقاصت سنة إذا انشقت
ويقال: إن القرية انطاكية.
قال: الكسائي: إرادة الجدار هنا ميله، لأن الأموات لا تريد. كما قال: النبي عليه السلام لا " ترى نارهما " أي لا يكون بموضع لو وقف فيه إنسان لرأى النار الآخر.(6/4434)
إن النار لا ترى منه. وقوله: {وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].
وقال: أبو عبيدة: ليس للحائط إرادة ولكن إذا كان في هذه الحال فهو من دنيه فهو إرادته.
وقيل: إنما كلم القوم بما كانوا يعقلون ويستعملون فلما دنا الحائط من الانقضاض جاز أن يقول {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} وقد قال: الشاعر:
يُرِيدُ الرمحُ صدرَ أبي براء ... ويَرْغَبُ عن دِمَاءِ بَنِي تميم
وقال: آخر:
يَشْكُو إلي جملي طول السَّرى ... صبراً جميلى فكلانا مبتلى /
وقال: آخر وهو عنترة:(6/4435)
فازوزَّ مِنْ وقع القَنَا بَلْبَانه ... وشكا إلي بَعَبْرة وتَحَمْحُم.
وقوله: {فَأَقَامَهُ}
قال: ابن عباس هدمه ثم قعد يبنيه. وعنه أنه قال: رفع الجدار بيده فاستقام. وقال: مرة أخرى: مسحه بيده فاستقام.
قال: له موسى {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامته أجراً. قيل عني موسى بالأجر هنا الضيافة، أي حتى يبرونا.
و {لَتَّخَذْتَ} على قراءة الجماعة هو افتعلت من " اتخذ " لكن أدغمت التاء التي هي فاء الفعل الأصلية لالافتعال. ويجوز أن يكون افتعلت من " أخذ " وأصله " أيتخذ ". ثم أبدل من الياء التي هي عوض من الهمزة التي هي فاء الفعل فأدغمت في تاء الافتعال.(6/4436)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
فأما قراءة أبي عمرو وابن كثير فإنه من: تخذ يتخذ مثل شرب يشرب.
قال: ابن سيرين: القرية التي أتوها " الآيلة " وهي أبعد الأرض من السماء.
قوله: {قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}.
أي قال: الخضر لموسى في الثالثة: هذا الذي قلت لي، يعني قول موسى له: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] أي سأخبرك بما تؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها ولم تقدر أنت على ترك المسألة.
قال: له الخضر: أما السفينة وما فعلت فيها فإنها كانت لقوم مساكين يعملون في البحر، فاردت أن أخرقها لئلا يمضوا بها فيأخذها منهم الملك الذي أمامهم غصباً. " وراء " هنا بمعنى أمام كما قال: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] أي من أمامهم. فإذا خلفوه أصلحوها بزفت فاستمتعوا بها، فذلك أصلح لهم من تركها سالمة.
وقيل معنى: " وراءهم " خلفهم على بابها. والمعنى أن الملك المغتصب خلفهم إذا رجعوا ليأخذ سفينتهم.(6/4437)
وقيل: اسم الملك المغتصب هدد بن بدد. وقيل: اسمه الجلندي بن المستكبر ابن الأرقم بن الأزد ملك غسان. كان يغصب الناس على سفنهم [إن] كانت صحيحة لا عيب فيها، فلما خرقها الخضر وعابها لم يعرض لها الملك الغاصب، ولم يضر بمن [كان] فيها بل نفع الخضر بفعله أصحابها إذ لو وصلوا بالسفينة صحيحة لغصبهم الملك إياها.
وقيل: إن السفينة إنما كانت في أيديهم يعملون فيها بالأجرة ولذلك سماهم مساكين.
وقيل: قوله {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [لا] يدل على ملكها لهم كما أن قول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع عبداً له وله مال فماله للبائع " لا يدل على أن العبد يملك.(6/4438)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
وكذلك قوله تعالى: {لَبَيْتُ العنكبوت} [العنكبوت: 41] لا يدل على أنها تملك.
قال: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [أي فكان كافراً وأبواه مؤمنين] وكذلك هي في حرف أبي " وكان كافراً ". وقرأ ابن عباس " فكان أبواه مؤمنين وكان كافراً ". وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً ".
وقيل: كان فعالاً [للقبيح] مؤذياً للجيران فكان أبواه / يحلفان عنه أنه فعل، فيكذبان في ذلك.
وقيل كان الغلام فاجراً لصاً قطاعاً للطريق، وكان أبواه في عدد وشرف، فإذا أحدث الحدث نجا إليهما فمنعا منه. ويحلفان بالله ما فعل ويظنان أنه صادق في إنكاره،(6/4439)
وقوله ما فعلت، فيحلفان كاذبان تصديقاً لولدهما.
ثم قال: {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا}.
قيل هذا من كلام الخضر. وقيل هو من قول الله جل ذكره، فإذا كان من قول الله [ عز وجل] فمعناه فعلمنا، كما يقال: طننت بمعنى علمت.
وقيل معناها فكرهنا، فالخشية من الله [سبحانه] الكراهة، ومن الادميين الخوف.
ومعنى {يُرْهِقَهُمَا} أيك يلحقهما، أي: يحملهما على الرهق وهو الجهل. وقيل معناه يكلفهما.(6/4440)
وقيل يغشيهما {طُغْيَاناً} وهو الاستكبار على الله [ عز وجل] { وَكُفْراً} أي: وكفراً بالله [سبحانه].
ومن جعل {فَخَشِينَآ} من قول الله [ عز وجل] كان " فأردنا " من قوله أيضاً، أي فأراد الله. ومن جعل {فَخَشِينَآ} من قول الخضر فإن " فأردنا " من قوله أيضاً.
ومعنى {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} اسلاماً. وقيل صلاحاً. قال: ابن جبير بدلاً منه جارية وقال: ابن عباس: بدلاً منه جارية] فولدت نبياً هدى الله به أمة من الأمم. وروي عنه أنه كان من ذريتهما سبعون نبياً.
وقال: ابن جريج: كانت أم الصبي يومئذٍ حبلى فبدل الله [ عز وجل] لهما منه إن(6/4441)
ولدت غلاماً مسلماً.
قال: قتادة: فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ول بقي كان فيه هلاكهما. فليرض امرؤ بقضاء الله [ عز وجل] فإن قضاء الله [سبحانه] للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وقوله: {وَأَقْرَبَ رُحْماً}.
أي: أقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول، قال قتادة. وعنه أيضاً {وَأَقْرَبَ رُحْماً} أقرب خيراً.
وقال: ابن جريج: أقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول. وقيل: المعنى أقرب أن يرحما به. وقيل: الزكاة هنا الدين والرحم المودة.(6/4442)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
والرحم مصدر رحم رحماً ورحمة. وقيل هو من الرحم والقرابة.
قوله: {وَأَمَّا الجدار}.
هذه حكاية من قول الخضر لموسى أن الجدار الذي أقمته كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما. قال: ابن عباس ومجاهد وابن جبير: كان صحفاً مدفونة فيها علم.
[و] قال: جعفر بن محمد: كان ذلك سطرين لم يتم الثالث. وهما:
عجب للموقن بالرزق كيف يتعب.
و [عجب] للموقن بالحساب كيف يغفل.
و [عجب] للموقن بالموت كيف يفرح.
{وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] فحفظا بصلاح أبيهما السابع.
وقال: الحسن كان الكنز لوحاً من ذهب مكتوب فيه: " بسم الله الرحمن(6/4443)
الرحيم ": عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
روى ابن وهب: أن الكنز كان لوحاً من ذهب مصمت مكتوب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " عجب لمن عرف الموت ثم ضحك، عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجب لمن أيقن / بالموت ثم أمن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله ".
وقيل كان في جنب منه: عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجب لمن أيقن بالنار ثم ضحك، وعجب لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. أنا الله الذي لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي. وفي الشق الآخر: أنا الله الذي لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه.
وقال: عكرمة: كان الكنز مالاً مدفوناً. وكذلك روي عن قتادة، وهو الذي يعطي ظاهر الخطاب لأنه لو كان غير مال لبين بالإضافة فكان يقال: كنز علم ونحوه.(6/4444)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
ثم قال: تعالى حكاية عن قول الخضر لموسى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}: أي باليتيمين. فهذا عذر الخضر في إقامته للجدار. ونصب " رحمة " على المصدر على أنه مفعول من أجله.
ثم قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.
أي: ما فعلت جميع ما رأيت يا موسى من عند نفسي إنما فعلته عن أمر الله. وهذا يدل على أنه وحي أتاه في ذلك من عند الله.
ثم قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.
أي: هذا الذي قلت هو الذي يؤول إليه فعلي الذي أنكرته ولم تقدر على الصبر لما رأيته يا موسى. وهذه الأخبار كلها تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم وإعلام له بما جرى لمن كان قبله.
أي: ويسألك يا محمد المشركون عن ذي القرنين وقصته {قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} أي سأقص عليكم منه خبراً. وهذا مما سألت اليهود قريشاً أن يسألوا عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إن اليهود بأنفسهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.(6/4445)
قال: مجاهد: ملك الأرض أربعة مسلمان وكافران. أما المسلمان فسليمان بن داود [عليهما السلام] وذو القرنين. وأما الكافران فنمرود وبختنصر.
وروى عقبة بن عامر أنه خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلقيني قوم من اليهود فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] فاستأذن لنا عليه، قال: فدخلت فأعلمته. فقال: مالي ولهم؟ مالي علم إلا ما علمني الله. ثم قال: [لي]: أسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى. قال: فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه. ثم قال: أدخلهم عليّ وما رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه. فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوباً. وإن شئتم أخبرتكم، فقالوا: بل أخبرنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم: كان شاباً من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلما، فرغ جاء ملك فعلا به في السماء، فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي ومدائن. ثم علا به، فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما(6/4446)
ترى؟ قال: أرى الأرض. قال: فهو اليم المحيط بالدنيا إن الله [تعالى] بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم. فأتى به السد [ين] وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء. ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به / إلى أمة أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج. ثم مضى به حتى بلغ إلى أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب. ثم مضى به حتى قطع هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم، وإنما سمى ذو القرنين لأنه ضرب على قرنه فهلك ثم أحيي فضرب على القرن الآخر فهلك.
قال: علي بن أبي طالب [رضي الله عنهـ]: لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه. ونصح لله [ عز وجل] فنصحه، ضرب على قرنه الأيسر فمات. فبعثه الله، ثم ضرب على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله، وفيكم مثله.
وقال: وهب بن منبه كان ذو القرنين ملكاً، قيل له: لِمَ سمي ذا القرنين؟(6/4447)
فقال: اختلف فيه أهل الكتاب. فقال: بعضهم ملك الروم وفارس. وقال: بعضهم كان في رأسه شبه القرنين.
وقال: بعضهم إنما سمي بذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. وقيل كانت له ظفرتان. وقيل لأنه بلغ قطري الأرض المشرق والمغرب، وقيل سمي بذلك لأنه بلغ قرني الشمس.
وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان يعلق سلاحه بقرن الثريا، وكان له حمار يضع حافره منتهى بصره " وروي " أنه كان يربط ارسَان خيله بقرون الثريا ".
وقيل كان ذو القرنين يوناني من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزية من ولد يونان بن يافت بن نوح: حكى ذلك محمد بن اسحاق عن أهل الأخبار من الأعاجم.
وقال: ابن هشام: اسمه الاسكندر. وهو الذي بنى الاسكندرية فنسبت إلى(6/4448)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
اسمه.
وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يقول: يا ذا القرنين. فقال: عمر اللهم عفواً، أما رضيتم أن تتسموا بالنبيين، حتى تسميتهم بالملائكة.
وذكر ابن وهب إنما سمي بذي القرنين لأنه كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة. وقال: إن الذي كان معه فتاه ليس بموسى الذي كلم الله، ولكن كان أعلم من على وجه الأرض إلا الملك الذي لقي فدل قوله أن الذي لقي كان ملكاً ولم يكن الخضر.
قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}.
أي: علماً يتسبب به، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد والضحاك فمعناه علماً يصل به إلى المسير في أقطار الأرض.
وروي أنه كان له خليل من الملائكة فقال: له: صف لي عبادة الملائكة. فقال: منهم ساجد لم يرفع رأسه منذ خلق. ومنهم قائم شاخص يدعو الله عز وجل منذ خلق، لا(6/4449)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
يعرف من على يمينه ولا من على شماله. ومنهم راكع لم يعرف رأسه منذ خلق يسبح الله ويحمده و [يمجده]، فقال: له ذو القرنين: لولا قصر عمري لعبدت الله هذه العبادة، فقال: له الملك: إن لله [ عز وجل نهراً يقال: له نهر] الحيوان من شرب منه لم يمت حتى ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت مع الملائكة. فخرج / يطلب نهر الحيوان حتى إذا وقع في الظلمة وكان الخضر على مقدمته فأصاب النهر ولم يصب [هـ] ذو القرنين.
قال: الله تعالى ذكره: {فَأَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} إلى قوله: {مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}.
من خفف " أَتْبَع " وقطع الألف جعله من: اتبع، إذا سار ولم يلحق المتبوع في خير أو شر، حكاه الأصمعي. ومن وصل الألف و [شدد] جعله من اتبعه،(6/4450)
إذا لحقه. ومن الأول {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60].
وقيل: هما لغتان بمعنى، يقع بهما اللحاق وقد لا يقع، وهو الصواب إن شاء الله لقوله {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} [الأعراف: 175] فلو لم يلحقه ما غوى، ولقوله {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] فهذا قد يلحقه وقد لا يلحقه.
ومعنى {سَبَباً} في هذا الموضع طريقاً ومنزلاً. قاله ابن عباس. وقال: مجاهد: منزلاً وطريقاً بين المشرق والمغرب. وقال: قتادة: اتبع منازل الأرض ومعالمها. وقال: الضحاك {سَبَباً} المنازل. وقال: ابن زيد: هذه الآن الطريق كما قال: فرعون {لعلي أَبْلُغُ الأسباب} [غافر: 36] أي: الطرق إلى السموات.(6/4451)
ثم قال: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}.
قال: ابن عباس: في طين أسود حمأ، وقاله عطاء. وقال: مجاهد في طينة سوداء ثأط. وهي فَعلَة من قولهم: حمأت البير تحمى جمأة. وهي الطين المنتن المتغير اللون والطعم.
ومن قرأ " حامية " فمعناه حارة، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال: " في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله جل ذكره. لأحرقت ما هلى وجه الأرض ".
وقال أبو ذر: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار، والشمس عند غروبها. فقال: " يا أبا ذر هل تدري أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنها(6/4452)
تغرب في عين حامية ".
فهذا حجة لمن قرأها كذلك. ويجوز ان يكون بمعنى حمئة أي ذات حماة ولكن خففت الهمزة فأبدلوا منها ياء لانكسار ما قبلها.
وقال: أبو حاضر: سمعت ابن عباس يقول: كنت عند معاوية فقرأ: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} فقلت: ما أقرأها إلا " حمئة " فقال: لعبد الله بن عمر: كيف تقرأها يا عبد الله بن عمر؟ فقال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين. فقلت: في بيتي أنزل القرآن. فأرسل معاوية إلى كعب. فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال: أما في العربية فأنتم أعلم بها، وأما أنا فأجد الشمس في التوراة تغرب في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب.
فقال: أبو حاضر: فقلت لابن عباس: لو كنت عندك لرفدتك بكلمة تزداد بها بصيرة في " حمئة " وقال: ابن عباس: ما هي؟ قلت: فيما يؤثر من قول تُبع ذكر فيه ذو القرنين:
بَلَغَ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حَكِيم مُرشد
قال: عمر [و] نحن نتبع.(6/4453)
فرأى مغارب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خُلُبٍ وَتَأْطٍ حَرْمِدِ
فقال: ابن عباس ما الخُلب؟ فقلت: الطين بكلامهم. وقال: ما الثأط؟ قلت الحمأة، قال: [وما] الحُرْمَد؟ قلت: الأسود يقال: حمئت البير صارت فيها الحمأة. واحمأتها: ألقيت فيها الحماة وحماتها إذا أخرجت منها الحماة.
وأجاز القتبي أن تكون هذه العين في البحر، والشمس تغيب وراءها.
ثم قال: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً}.
أي: عند العين، قيل يقال: لهم تاسك.
{قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ}، أي قال له أصحابه المؤمنون يا ذا القرنين إما(6/4454)
أن تقتلهم وإما أن تستبقيهم.
وقيل المعنى إما أن تقتلهم إذ هم لم يدخلوا في الاقرار بتوحيد الله [ عز وجل] وطاعته [جلت عظمته]، {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}، أي: تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.
و" إما " في هذه للتخيير عند المبرد بمنزلة قوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] و " ان " في قوله {إِمَّآ أَن} في موضع نصب. وقيل: موضع رفع على معنى أما هو.
ثم قال: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي: من كفر ولم يؤمن {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي: نقتله، قاله قتادة {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}، أي: يرجع إلى ربه في الآخرة فيعذبه(6/4455)
عذاباً نكراً من عذاب الدنيا وهو عذاب جهنم.
قال: علي بن سليمان {قُلْنَا ياذا القرنين} معناه: قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين إما أن تعذب. ثم حذف القول، لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله. ولأن بعده {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً} وكيف يخاطب العبد ربه بلفظ الغيبة.
وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يكون خاطبه الله [ عز وجل] على لسان نبي في وقته. فيكون تحقيق المعنى على ما قاله أبو إسحاق الزجاج: أن الله خيره بين القتل والاستبقاء، ثم قال: هؤلاء اولئك القوم مخبراً لهم عن حكمه فيهم: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ [ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ]} الآية.(6/4456)
ثم قال: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى}.
من رفع " جزاء " ولم ينون رفع بالابتداء وله الخبر، والحسنى في موضع خفض بالاضافة. ويجوز أن يكون الحسنى بدلاً من جزاء ويكون حذف التنوين من جزاء لالتقاء الساكنين.
وكذلك التقدير في قراءة من نون ورفع وهي رواية الأعمش عن أبي بكر. وبها قرأ ابن أبي إسحاق.
ومن نون ونصب جعله مصدراً. وقيل: هو مصدر في موضع الحال. وقيل: نصب على التمييز.(6/4457)
ومن نصب ولم ينون فعلى هذه التقديرات أيضاً إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهي قراءة ابن عباس ومسروق.
ومعنى الآية: وأما من صدق الله [ عز وجل] ، وعمل بطاعته [سبحانه] فله عند الله الحسنى وهي الجنة، {جَزَآءً} أي: ثواباً على إيمانه.
ومعنى {جَزَآءً الحسنى} في قراءة من أضاف، أن الحسنى الجنة، ولكن حعله مثل {دِينُ القيمة} [البينة: 5] {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109].
وقوله: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}.(6/4458)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
أي: قولاً جميلاً. وقيل: المعنى وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر له تعليمه مما يقربه إلى الله [سبحانه] ونلين له من القول. وقال مجاهد: " يسراً " معروفاً.
قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس}.
المعنى: ثم اتبع طرقاً ومنازل. أي طلب زيادة في العلم يخلق الله [ عز وجل] وعجائبه [سبحانه] وقيل المعنى: اتبع سبباً آخر يبلغه إلى قطر من أقطار الأرض {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ / الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي: لا جبل في أرضهم ولا شجر يسترهم من الشمس بظله ولا يحمل بلدهم بناء فيسكنون البيوت وإنما يغورون في المياه ويتسربون في الأسراب، قال: ذلك الحسن، وقتادة.(6/4459)
وقال: ابن جريج: جاءهم جيش فقال: لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها فقالوا، لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فهربوا فذهبوا هاربين في الأرض. قال: ابن جريج: لم يبنوا فيها بناء قط، وكانوا إذا طلعت الشمس دخلوا اسراباً لهم حتى تزول الشمس ودخلوا البحر وليس في أرضهم جبل.
قال: قتادة: كانوا في مكان لا يستقر فيه البناء، ويكونوا في أسراب إذا طلعت الشمس حتى إذا زالت خرجوا إلى معائشهم.
وقال: الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس عليهم يغورون في المياه، فإذا غربت الشمس خرجوا كما ترعى البهائم. وقال: قتادة يقال: لهم الزنج.
وقوله: " كذلك " الكاف في موضع خفض أي قوم {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} مثل ذلك القبيل الذي عند مغرب الشمس.
وقيل: هي في موضع نصب نعت لسبب أي ثم اتبع سبباً مثل اتباعه الأول: أو(6/4460)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
نعت لمصدر تطلع أي تطلع طلوعاً مثل غروبها وفيه بعد.
ويجوز أن يكون المعنى لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك، أي مثل أولئك الذين وجدهم في غروب الشمس. فقيل له إما أن تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسناً فقال: فيهم مثل قوله الأول. فالمعنى وكان شأنه مه هؤلاء كشأنه مع الذين [وجدهم] عند غروب الشمس. وحذف الجملة لدلالة كذلك عليها.
وقيل: هي في موضع رفع على معنى: " الأمر كذلك "، أو على معنى حكمهم مثل حكم أولئك الذين تغرب عليهم الشمس. والوقف على " كذلك " حسن في هذا الوجه.
قال: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}.
أي: بما عند مطلع الشمس علماً لا يخفى علينا من أحوالهم وأحوال غيرهم شيء.
قال: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}.(6/4461)
أي: اتبع طرفاً ومنازل {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}، أي بين الجبلين. قال: عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم فهو " السَّد " بالفتح وما كان من صنع الله [ عز وجل] فهو " السُّد " بالضم. ولذلك قال: أبو عبيدة وقطرب والفراء.
وقال: أبو عمر [و] " السَّد " بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء. والسُّد بالضم هو ما كان من غشاوة بالعين. وقال: أبو عمر [و] تميم تجعله كله سواء.
وقال ابن [أبي] إسحاق: السد بالفتح ما لم تره عيناك، وبالضم ما رأته عيناك. وقال: الكسائي هما لغتان: بمعنى واحد. وقال المبرد: " السد " بالفتح(6/4462)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
المصدر وبالضم الاسم، وهو قول الخليل وسيبويه.
ثم قال: {وَجَدَ / مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}.
أي: لا يكادون يفقهون ما يقال: لهم. ومن قرأ [يفقهون] بضم الياء. قدر حذف مفعول، فمعناه لا يكادون يفقهون احداً قولهم.
يقال: فَقِه يفقه إذا فهم. وأَفْقَه " غيره إذا أفهمه. وفقُه يفقُه إذا صار فقيهاً.
والسدان جبلان، سد ما بينهما بردم ليقطع أذى ياجوج ومأجوج وهم من وراء ذلك، قال: ابن عباس: والجبلان أرمينية وأذربيجان.
قال: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض}.(6/4463)
أي: قالوا بلغتهم [أو] أومؤوا إليه بذلك ففهم عنهم. ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان معرفتان فلذلك لا تنصرف. ولذلك ترك همزة من [رأى] ذلك، لأن الأعجمي غير مشتق.
فأما من همزه فإنه جعله عربياً مشتقاً من اجت النار، ولكن لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة وهو معرفة، وقال: الكسائي: من همزه جعله من أجيج النار يفعول ومفعول، ويجوز أن يكون من ترك حمزه أخذه أيضاً من هذا وسهل الهمزة على القياس فأبدل منها ألفاً، ذكر سعيد بن عبد العزيز: أن إفسادهم في أنهم كانوا يأكلون الناس.(6/4464)
قال: محمد بن إسحاق: حدثني من لا اتهم عن وهب بن منبه اليمانيي، وكان له علم لالأحاديث الأولى، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيه. وكان اسمه الاسكندر وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، فلما بلغ وكان عبداً صالحاً، قال: الله: يا ذا القرنين إني باعثك إلى امم الأرض وهي أمم مختلفة ألسنتها وهم جميع أهل الأرض منهم أمتان بينهما طول الأرض [كله]. ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض [كله]. وأمم في وسط الأرض ومنهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج. فأما اللتان بينهما طول الأرض فامة عند مغرب الشمس يقال: لها ناسك وأما الأخرى فعند مطلع الشمس يقال: لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فاقة في بطن الأرض الأيمن يقال لها هاويل، وأما الأخرى التي في بطن الأرض الأيسر، فيقال: لها راويل، ثم مضى في الحديث بطوله. وقال: في بعض الحديث: فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة من الانس صالحة: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله كثير فيهم مشابهة من الإنس. وهم أشباه البهائم يأكلون العشب(6/4465)
ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترس السباع، ويأكلون خشاش الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق في الأرض. وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ولا يزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم. [فإن كانت] لهم مدة على ما ترى من نمائهم وزيادتهم فلا شك أنهم سيملئون [الأرض] ويأكلون أهلها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة / منذ جاوزناهم إلا ونحن نتوقعهم وننتظر ان يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} أي حاجزاً {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95] أي: ما أعطاني من القوة والتدبير والتيسير في الأمور خير مما تعطوني من أموالكم ولكن أعينوني بقوة أي برجال يعملون معي: أعدوا لي الصخور والحديد والنحاس حتى ارتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم.
ثم انطلق يؤمهم حتى وقع إليهم وتوسط بلادهم.(6/4466)
فوجدهم على مقد [ا] ر واحد ذكرهم وأنثاهم يبلغ طول أحدهم مثل نصف طول الرجل المربوع منا. لهم مخاليب في مواضع الأظفار من أيدينا. وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها، وأحناك [كأحناك] الابل قوة. تسمع لهم حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل، أو كقضم البغل المسن. ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، و [ما] يتقون به الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها. تسعانه إذا لبسهما يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى. يصيف في أحدهما ويشتي في الأخرى. ليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه وينقطع عمره. وذلك أنه لايموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت أنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن بالموت. وهم يرزقون التنين في أيام الربيع ويستمطرونه إذا تحينوه.
كما يستمطر المطر بحينه فيقدرون منه كل سنة. فيأكلون عامهم كله إلى مثلها من القابلة. فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم. فإذا أمطروه أخصبوه وعاشوا وسمنوا(6/4467)
عليه ورؤي أثره عليهم. فدرت الاناث، وشبعت منه الرجال. وإذا أخطاهم هزلوا وجفرت الذكور، وحالت الاناث، وتبين أثر ذلك عليهم. وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عوي الذئاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم. ثم لما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ناحية الصدفين فقاس ما بينهما وهو في منقطع أثر الترك مما يلي مشرق الشمس فوجد بُعْدَها بينهما مائة فرسخ، فلما أنشأ عمله حفر له اسما حتى بلغ الماء. ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً. وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يداب ثم يصب عليه. فصار كأنه عرف من جبل تحت الأرض. ثم علاه وشرفه بزبر الحديث والنحاس المذاب. ثم جعل خلاله عرفاً من نحاس اصفر. [فصار] كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. فلما فرغ منه و [أ] حكمه انطلق عامداً إلى جماعة الجن والإنس. فسار حتى وصل إلى قوم يونس [وهم] أمة/ صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون. يقتسمون بالسوية،(6/4468)
ويحكمون بالعدل، ويتواسون ويتراحمون. حالهم واحدة. وكلمتهم واحدة وطريقتهم مستقيمة وقلوبهم متآلفة. وسيرتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم. وليس على بيوتهم أبواب ولا عليهم امراء ثم اتى خبر يونس بطوله.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً. فيعيده الله كأشد ما كان. فإذا بلغت مدتهم حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس فقال: الذي عليهم: ارجعوا فستفتحون غداً إن شاء الله، فيقدمون عليه وهو كهيئته حين تركون. فيخرجون على الناس فيشربون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم. فيرمون بسهامهم. فيرجع فيها كهيئة الدماء فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفاً في أعناقهم فيقتلونهم فقال: النبي صلى الله عليه وسلم(6/4469)
" والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكَرُ شكراً من لحومهم " ".
وروى أبو سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يفتح يأجوج ومأجوج ويخرجون على الناس كما قال: الله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فيغشون الأرض. وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم. فيشربون مياه الأرض حتى [إن] بعضهم ليمر بالنهر فيشربه جميعه حتى يتركوه يابساً. وحتى إن من بعده ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ها هنا ماء مرة حتى إذا لم يبق أحد إلا أحداً في حصن أو في مدينة قال: قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم وبقي أهل السماء. قال: فيهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك بعث الله عليهم دوداً في اعناقهم كالنغف فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس. فيقول المسلمون الآ رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو. وقال: فينفرد رجل منهم ذبلك محتسباً نفسه قد وطنها على أنه مقتول. فيجدهم موتى بعضهم فوق بعض. فينادي: يا معشر المسلمين! ألا فأبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم. فيخرجون من مدائنهم وحصونهم فيسرحون(6/4470)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
بمواشيهم فما يكون لها رعي إلا لحومهم فتشكر عليهم أحسن ما شكرت على شيء من النبات ".
قال: ابن وهب: وخبرت أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف، صنف منهم طولهم كطول الأرز. وصنف طوله هو وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويغطي بالأخرى سائر جسده.
ومعنى: {مُفْسِدُونَ فِي الأرض}، أي يفسدون ولم يكن لهم افساد بعد إنما خيف منهم ذلك وسيكون إذا خرجوا.
قوله: {قَالَ مَا مَكَّنِّي / فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}.
أي: الذي مكني فيه ربي خير في العمل الذي سألتموني من الحاجز بينكم وبين هؤلاء، وقضاه لي وقواني عليه خير من جعلكم الذي عرضتم علي وأكثر وأطيب. ولكن أعينوني بقوة أي بعمل تعملونه معي {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} أي إن أعنتموني على ذلك.
ذكر قتادة أن رجلاً قال: يا نبي الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته. قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته.(6/4471)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
قال: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين}.
أي: أعطوني القطع العظام من الحديد فأعطوه ذلك. وفي الكلام حذف وهو: فاتوه زبر الحديد فجعلها بين الصدفين وهما ناحيتا الجبل. والصِّدف والصَّدف الصُّدف الجبل.
قال: ابن عباس {بَيْنَ الصدفين} الجبلين. وقال: مجاهد {بَيْنَ الصدفين} رأس الجبلين.
وقال: الضحاك {بَيْنَ الصدفين} بين الجبلين وهما من قبيل أرمينية وأذربيجان وهو قول ابن عباس أيضاً.
قوله: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً}.
أي: نفخ على قطع الحديد حتى صارت كالنار. ثم أذاب الصُّفر فأفرغه على القطع. والقطر النحاس عند أكثر المفسرين. وقال: أبو عبيدة: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} حديداً دائباً. وقيل: هو الرصاص.
قال: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ}.
أي: ما قدر يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزاً(6/4472)
بينهم {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} وما قدروا أن ينقبوا أسفله.
ثم قال ذو القرنين لما رأى الردم لا يقدر عليه من فوقه ولا من أسفله: هذا الفعل {رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} رحم بها من دون الردم من الناس {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أي الوقت
الذي وعده فيه أن يأجوج يخرجون {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي سواه بالأرض.
من نونه جعله على معنى مدكوكاً. ومن مده جعله بقعة دكاء وأرضاً دكاء، من قولهم: ناقة دكاء، مستوية الظهر لا سنام لها.
وقيل المعنى: فإذا جاء يوم القيامة جعله دكاً ودل على هذا قوله {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14].(6/4473)
وقوله: {جَعَلَهُ} الهاء تعود على ما بين الجبلين وخروج يأجوج ومأجوج بعد نزول عيسى وبعد ظهور الدجال. يدل على ذلك أن ابن مسعود قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم " لقيت ليلة الأسراء ابراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم فتذاكروا أمر الساعة وردوا الأمر إلى ابراهيم فقال: ابراهيم: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى: فقال: موسى: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى فقال: عيسى: أما قيام الساعة فلا يعلمه أحد، إلا الله تعالى، ولكن ربي قد عهد إلى ما هو كائن دون مجيئها. عهد إلى ان الدجال خارج وانه سيهبطني إليه. فإذا رآني أهلكه الله فيذوب كما يذوب الرصاص. حتى أن الحجر والشجر لتقول يا مسلم هذا كافر فاقتله. فيهلكهم الله ويرجع الناس إلى بلادهم واوطانه. فيستقبلهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون لا يأتون على شيء إلاّ / أهلكوه. ولا يمرون على ماء إلا شربوه، فيرجع الناس إلي، فادعوا الله عليهم. فيميتهم ويتغير الأرض من نتن ريحهم فينزل المطر فيجر أجسامهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال حتى تكون الأرض كالأديم. فعهد إلي ربي أن ذلك، إذا كان كذلك، فإن الساعة منه كالحامل المتمم. والتي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً ".
وقوله: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}.
أي: وعد ربي الذي وعد خلقه في دك هذا الردم وخروج هؤلاء [القوم] على(6/4474)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
الناس وغير ذلك من مواعيده حقاً لا خلف في شيء منها.
قال: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي: وتركنا الخلق يوم يأتيهم الوعد وتد [ك] الجبال، بعضهم يختلط مع بعض أي: الانسي بالجني، وقال: ابن زيد: هذا اول القيامة. تختلط بعض الخلق ببعض ثم نفخ في الصور في أثر ذلك {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}. وسأل اعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " " كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى [ب] الأذن متى يؤمر. فشق ذلك على أصحابه فقال: " قولوا حسبنا الله، على الله توكلنا، فلو اجتمع، أهل منى ما اقلوا ذلك القرن " وكذلك رواه ابن عباس ولكن في حديثه: " قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل توكلنا على الله ".
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه اسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر. قال: أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: قرن. قال: وكيف هو؟(6/4475)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
قال: قرن عظيم فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ".
وقيل في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يوم انقضاء السد وفرغ من عمله. يموجون متعجبين من السد يعني يأجوج ومأجوج. وقيل ذلك يوم خروجهم من السد.
قال: أبو عبيدة: {وَنُفِخَ فِي الصور} واحده صورة.
المعنى وأبرزنا جهنم يوم نفخ في الصور للكافرين حتى يروها كهيئة السراب.
وقال: ابن مسعود: يوم يقوم الخلق لله عز وجل إذا نفخ في الصور، قيام رجل واحد، ثم يتمثل الله فيلقاهم فليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئاً إلا وهو مرفوع له يتبعه. قال: فيلقى اليهود، فيقول من تعبدون؟ فيقولون [نعبد عزيراً. قال: فيقول هل يسركم الماء؟ فيقولون نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب ثم قرأ(6/4476)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ثم يلقى الناصرى، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون [نعبد] المسيح. فيقول هل يسركم الماء؟ قال: فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب. ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله جلّ وعزّ شيئاً. ثم قال:
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
قال: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي}.
أي عرضنا جهنم للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله فيتفكروا فيها ولا يتأملون حججه، فيتعبروا بها، وينيبوا إلى توحيده وينقادوا إلى أمره ونهيه
{وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي: لا يطيقون ان يسمعوا ذكر الله وآياته لخدلان الله إياهم عند ذلك ولعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واستثقالهم لما أتاهم به. قال: ابن زيد: هؤلاء الكفار.
قال: {أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ}.
والمعنى أفظن الذين كفروا بالله من عبدة الملائكة والمسيح وعزيراً، أن(6/4477)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
يتخذوا الملائكة والمسيح أولياء لأنفسهم لأجل عبادتهم لهم. كلا بل هم لهم أعداء. والمعنى أفحسبوا أن ينفعهم ذلك. وقيل المعنى أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء فيعبدوهنهم ولا أعاقبهم.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ " أفحسب الدين " باسكان السين ورفع الباء على معنى: أفيكفيهم اتخاذ العباد أولياء. وهو مرفوع بالابتداء و " أن يتخذوا الخبر ".
ثم قال: تعالى: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً}.
أي: أعددنا لهم منزلاً. والنزل عند أهل اللغة ما هيئ للضيف.
قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل ويمارونك في المسائل من أهل الكتابين: قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالاً أي بالذين اتبعوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحاً وفضلاً فنالوا به غضباً وهلاكاً ولم يدركوا ما طلبوا.
قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، عني بها الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع. وقال: الضحاك هم القسيسون والرهبان.(6/4478)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
وقيل هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمداً وأما النصارى فكذبوا وكفروا بالجنة. وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ونزل في الحرورية
{الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} [البقرة: 27] الآية.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ قال: هم كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حق فأشركوا بربهم وابتدعوا في دينهم، الذين يجتهدون في الباطل ويحسبون أنهم على حق، ويجتهدون في الضلالة ويحسبون انهم على هدى فضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أنهم الخوارج اهل حرور. وقال: سعيد: هم الخوارج. وقيل هم الصائبون.
قوله: {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ}.
أي: الذين تقدمت صفتهم واعمالهم ضلت هم {الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} أي: جحدوا ذلك {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} أي: لا يثقل لهم ميزان بعمل صالح.(6/4479)
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن / جناح بعوضة، واقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} ".
ثم قال: أبو محمد: وهذا النص يدل على وزن اعمال الكفار. فلا يثقل بها ميزان إذا كانت لغير الله وإذ [كان] لا يصحبها توحيد ولا إيمان بالرسل. [قال: تعالى]: {لَهُمْ سواء الحساب} [الرعد: 18] وقال: فيهم: {وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] أي حساب من كفر. وقال: الله عز وجل { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وقال: عن الكفار: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 26]. وقال: عن الكفار أنهم قالوا: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] وقال {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93] وقال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الاعراف: 6] وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الاسراء: 13] أي: كتاب عمله. وقد ذكر تعالى ذكره وزن(6/4480)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
اعمال الكفار في غير ما موضع من كتابه. وذلك ما عظم الحساب، وهو كثير في القرآن مكرر يدل على محاسبة الكفار.
قال: تعالى {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ}.
أي ثوابهم جهنم بكفرهم واتخاذهم آياتي ورسلي هزؤاً، أي سخرياً.
قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً}.
أي: الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بتوحيده وكتبه ورسله، وعملوا بطاعته كانت لهم جنات الفردوس نزلاً. وهي أفضل الجنات. وأوسطها، قاله قتادة.
وقال: كعب: ليس في الجنات جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر.
وقيل الفردوس هو البستان بالرومية، قاله مجاهد. وقال: كعب: جنات الفردوس التي فيها الأعناب. وقيل الفردوس الأودية التي تنبت ضروباً من النبات. وقال: أبو هريرة الفردوس جبل في الجنة يتفجر منه أنهار الجنة. وقيل الفردوس سرة الجنة. وقيل الفردوس الكروم وقيل هو في الرومية منقول إلى(6/4481)
لفظ العربية.
وروى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها. ومنها الأنهار الأربعة، والفردوس فوقها. فإذا سألتم الله عز وجل فاسألوه الفردوس " وفي حديث آخر " ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ".
وعنه صلى الله عليه وسلم من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: " فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة واعلاها، وفوقها عرش الرحمن ومنها تفجر انهار الجنة ".
وكذلك روى معاذ بن جبل عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ما بين السماء والأرض والفردوس أعلا الجنة وأوسطها وفوقها عرش الرحمن ومنها يفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله عز وجل فاسألوه الفردوس ".
وقوله: {نُزُلاً} يعني منازل أو مساكن وهو من نزول بعض الناس على بعض. و {خَالِدِينَ} " لابثين فيها أبداً ".
{فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}(6/4482)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
أي: لا يريدون تحولاً. وحولاً / مصدر تحولت. خرج عن أصله كتعوج عوجاً. ويقال: قد حال من المكان حولاً. وقال: مجاهد: " حولاً " متحولاً.
وروي عن بعض اصحاب أنس أنه قال: يقول أول من يدخل الجنة: إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس احد أعطاه مثل الذي أعطاني.
وقيل معنى " حولاً " لا يحتالون في غيرها فهو من الحيلة على هذا.
قوله {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي}.
والمعنى، قل يا محمد لهؤلاء الكافرين بك، السائلين عن المسائل، لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات ربي لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
ثم قال: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.
أي: لو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء، ما فرغت كلمات ربي، والمدد الزيادة والمعونة، يقول جئتك مدداً لكم، أي زيادة ومنه قيل لما يكتب به مِداد: لأنه يمد الكاتب شيئاً بعد شيء. والمداد جمع واحدته مداده. ويجوز أن يكون المداد مصدر مد.
وقرأ ابن عباس {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} على معنى ولو زدنا مثل ما فيه من المدد الذي يكتب به مداداً.(6/4483)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قال: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ}.
أي: قل لهؤلاء المشركين، إنما أنا إنسان مثلكم من بني آدم، لا علم لي إلا ما علمني الله، يوحي إلي إنما معبودكم معبود واحد لا ثاني له.
قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ}.
أي: يخاف لقاء ربه يوم القيامة ويخاف عقابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} فليخلص العبادة لله ويعمل بطاعته، قال: ابن جبير: {يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} أي لقاء ثواب ربه.
فعلى قول ابن جبير يرجو بمعنى ينظر ويطمع ويوقن وعلى القول الأول يرجو بمعنى يخاف كقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي لا يخافون. ويحتمل أن يكون {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 15] لا ينتظرون ولا يوقنون بلقائنا. وقد فسر أكثر الناس ترجو بمعنى تطمع.
وقال: مقاتل في قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} أي يخشى لقاء ربه، ويخشى بمعنى يخاف، وقال: الفراء وغيره من الكوفيين لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد. كقولك ما رجوت ولم أرج ولا أرجو.(6/4484)
وقال: ابن المبارك: {يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} هو النظر إلى الله جل ذكره. فالرجاء في هذا بمعنى الطمع، وذكر الزجاج وغيره الرجاء بمعنى الخوف، فلا جحد معه.
وأصل الرجاء وبابه أن يأتي بمعنى الطمع الذي يقرب من اليقين، يقع بمعنى الخوف على ما ذكرنا من الاختلاف والمعنيان متداخلان لأن من أيقن وطمع بلقاء ربه وثوابه خاف عقابه. ولا يخاف عقاب ربه إلا من طمع وأيقن بلقاء ثواب ربه. وكل واحد من المعنيين مرتبط بالآخر على ما ترى.
ثم قال: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً}.
أي: لا يعبد معه غيره /. وقيل: لا يراني بعمله الذي يعمله لله أحداً. وسأل رجل عبادة بن الصامت رحمه الله وقال: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد؟ ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد؟ فقال: عبادة: ليس له شيء. إن الله عز وجل يقول أنا خير شريك. فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
وروى طاوس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ويرى مكاني. فأنزل الله عز وجل:(6/4485)
{فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} الآية، وقال: سفيان رضي الله عنهـ: الشرك هنا الرياء.
وقال: معاوية بن أبي سفيان على المنبر وقد قرأ هذه الآية: إنها آخر آية نزلت من القرآن، يعني والله أعلم بمكة لأن السورة مكية.
وقال: الحسن رحمه الله: نزلت هذه الآية في المؤمنين، والشرك الرياء.
وقال: ابن عباس: هي في المشركين. أي لا يعبد مع الله احداً.
والرياء إنما يكون في التطوع فأما في الفرائض فقد استوى الناس فيها فليس فيها رياء. وقال: بكر القاضي: سمعت سهل بن عبد الله الزاهد يقول: الرياء في أهل القدر، لأنهم يعتقدون أن أعمالهم من أنفسهم واستطاعتهم. فأما أهل السنة فيعتقدون في أعمال البر كلها أنها من فضل الله عليهم ولولا ذلك ما قدروا عليها. فليس يكون الرياء فيهم إلا خاطراً لا يبطل بما يعتقدوه. فلا رياء يصح عليهم إن شاء الله. وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم تسليماً.(6/4486)
كهيعص (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
عونَك اللهم وتأييدَك، وصل على محمد وآله.
قال أبو محمد، مكي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
سوره "مريم": مكية.
وكان نزولها قبل أن يهاجر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة، لأنهم قرأوا صدرها على النجاشي بعد هجرتهم إلى أرض الحبشة.
قوله تعالى ذكره: {كهيعص} الآية.
قرأ بعض القراء بإمالة الهاء والياء. وعلة الإمالة أنها أحرف مقصورة، فإذا ثنيت، ثنيت بالياء، فشابهت ما ثني بالياء من الأسماء، فأميلت لذلك. وعلة ..(7/4487)
الإمالة فيها عند الخليل وسيبويه أنها أسماء للحروف، فجازت إمالتها ليفرق بينها وبين الحروف التي لا يجوز إمالتها نحو: ما ولا وإلا بمعنى الذي، لا يحسن عندهما إمالة شيء من هذا فإن سميت بشيء منها جازت الإمالة.
ولا يحسن إمالة كاف ولا قاف وصاد، لأن الألف متوسطة. وهذه الحروف عند ابن عباس مأخوذة من أسماء دالة، على ذلك. فالكاف تدل على كبير.
وقيل: الكاف تدل على كاف. قاله ابن جبير والضحاك.(7/4488)
وروي أيضاً عن ابن جبير، أن الكاف تدل على " كريم "، وقال ابن عباس وابن جبير: الهاء تدل على هاد، وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن جبير: الياء من حكيم.
وعن الربيع بن أنس ان الياء من [قولك]: يا من يجير ولا يجار عليه.
وقال ابن عباس وابن جبير: العين من عالم.
وعن ابن عباس أيضاً: العين من عزيز.
وقال الضحاك: العين من عدل.
وقال ابن عباس وابن جبير: الصاد من صادق.(7/4489)
وعنه أيضاً: الكاف، كاف، والهاء، هاد. والياء، يد من الله على خلقه.
والعين، عالم بهم والصاد، صادق فيما وعدهم.
وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنهـ: {كهيعص} كله اسم من أسماء الله.
وروي عنه أنه كان يقول: (يا كَهَيعَص) اغفر لي.
وعن ابن عباس أنه قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وقال أبو العالية: كل حرف على حدته اسم من أسماء الله وقال(7/4490)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قتادة: {كهيعص} اسم من أسماء القرآن. و {كهيعص} تمام عند الأخفش، وموضعها رفع عنده والتقدير: وفيما نقص عليكم، {كهيعص} وليس بتمام عند الفراء، لأن {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} خبره.
قوله تعالى ذكره: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} إلى {واجعله رَبِّ رَضِيّاً}.
" ذِكْر " مرفوع عند الفراء على خبر {كهيعص}. ورد هذا القول الزجاج، لأن {{كهيعص} ليس مما أثنى الله به على زكريا، وليس " كهيعص " في شيء من قصة زكريا. وقال الأخفش: التقدير: وفيما يتلى عليكم، ذكر رحمة ربك عبده زكرياء.(7/4491)
و [قيل] التقدير: هذا الذي يتلى عليك، ذكر رحمة ربك عبده زكريا. والتقدير: وفيما يتلى عليك يا محمد، ذكر ربك عبده زكريا برحمته.
قوله: {نِدَآءً خَفِيّاً}.
أي: جعاه سراً كراهية الرياء. قاله ابن جريح وغيره.
وقال السدي: رغب زكريا في الولد، فقام يصلي، ثم دعا ربه سراً فقال: " ربيِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنَّي " إلى قوله " واجْعَلْهُ رّبِّ رَضِيّاً ".
ومعنى " وَهَنَ الْعَظْمُ " ضعف ورق من الكبر.
وقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً}.
أي: كثر الشيب في الرأس. ونصب " شيباً " على المصدر، لأن معنى اشتعل، شاب.
وقال الزجاج: نصبه على التمييز. أي: اشتغل من الشيب.(7/4492)
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن زكريا كان من أولاد هارون من أحل أحبار بني إسرائيل، ثم تنبأه الله جلّ ذكره.
قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً}.
أي: لم أشق بدعائي إياك قط، لأنك عودتني الإجابة إذا دعوتك حاجتي.
ثم قال تعالى حكاية عنه: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآءِى} أي: أني خفت بني عمي وعصبتي من بعدي أن يرثوني.
وقيل: " من [ورائي ": من قدامي].
قال ابن عباس /: الموالي هنا، الكلالة الأولياء، خاف أن يرثوه، فوهب الله له يحيى.
وقيل: إنما خاف أن تقطع النبوة من ولده، وترجع إلى عصبته من غير ولد يعقوب، فأجاب الله دعاءه بعد أربعين سنة فيما ذكر ابن وهب وغيره.(7/4493)
وقيل: بعد ستين سنة.
وقيل: معناه، خفت بني عمي عن الدين: يعني شرارهم فسأل الله تعالى في ولد يقوم بالدين بعده، ويرث النبوة من آل يعقوب، وقال أبو صالح، خاف موالي الكلالة. والموالي والأولياء سواء في كلام العرب.
وقيل للعصبة موالي، لأنهم يلون الميت في النسب.
وروي عن عثمان (رضي الله عنهـ) أنه قرأ {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآءِى} (بفتح الخاء، وتشديد الفاء، وإكسار التاء وإسكان الياء) وهي قراءة ويد بن ثابت وسعيد بن جبير، جعل الفعل للموالي، أي: إني قَلَّتْ الموالي الأويلء من بعدي فليس لي وارث.
ثم قال: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً}.
أي: هب لي وارثاً ومعيناً يرثني في مال]، و " يَرِثُ من آل يعقوب "، يعني النبوة. وكان زكريا (عليه السلام) من ولد يعقوب، وهو زكريا بن آذن، وعمران من ماثان من ولد أيوب النبي صلى الله عليه وسلم.
من سبط يهوذا بن يعقوب، وكان زكريا وعمران في زمن واحد، فتزوج زكريا أشياع بنت عمران أخت مريم ابنة عمران، واسم أمها - امرأة عمران -(7/4494)
حنة. فيحيى وعيسى ابنا خالو. وكان زكريا نجاراً. وكفل مريم بعد موت أبيها، لأن اختها عنده، ولأن قلمه خرج دون أقلامهم. فلما حملت مريم بعيسى، أشاعت اليهود أنه ركب من مريم الفاحشة فقتلوه في جوف شجرة، فقطعوه وقطعوها معه.
قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية وأتى على {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: " يرحم الله زكريا ما كان عليه من ورثه، ويرحم الله لوطاً. إن كان ليأوي إلى ركن شديد.
وقال السدي: " يرثني ويرث من آل يعقوب " أي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب.
وقيل: يرث حكمتي، ويرث نبوة آل يعقوب.
وقد أنكر قوم رواثة النبوة إلا بعطية من الله، ولة ورثت بالنسب لكان الناس كلهم أنبياء، لأنهم أولاد نبي وهو آدم ونوح. وأنكر آخرون وراثة المال في هذا(7/4495)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
لقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن معشر لا نورث، ما تركنا صدقة ". وهذا الحديث يجب أن يكون حكمه مخصوصاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم) ، وأخبر عن نفسه على لفظ الجماعة.
وفي بعض الروايات: " إِنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة " ويحتمل أن تكون هذه شريعة كانت ونسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بمنع وراثته.
وقال القتبي: معناه: يرثني الحبورة.
ثم قال: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً}.
أي: ترضاه أنت ويرضاه عبادك، ديناً وخلقاً وخُلقاً وهو فعل مصروف من مفعول. وأصله رضيو، منقول من مرضي واصل مرضي، مرضو. ثم رد إلى الياء لأنها أخف.
قوله تعالى ذكره: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} إلى قوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}.
أي: إِنا نبشرك بهبتنا لك غلاماً اسمه يحيى.(7/4496)
قال قتادة: إِنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان.
وقيل: سمي بذلك لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها.
ثم قال تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً}. أي: لم تلد العواقر ولداً، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: لم نجعل له من قبل مثلاً ولا شبيهاً.
وقيل: المعنى، لم نأمر أحداً يسمي ابنه يحيى قبلك.
وقال قتادة وزيد بن أسلم والسدي: معناه: لم يسم أحد يحيى قبله.
ثم قال: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً}.
أي: آل زكرياء: يا رب، من أي وجه يكون لي غلام وامرأتي عاقر لا تحمل،(7/4497)
وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء. كأنه يستثبت الخبر من عند ربه. كيف يأتي هذا الغلام؟ أيحدث فيه قوة يقوى بها على مباضعة النساء ويجعل امرأته ولوداً؟ أو يتزوج / غيرها ممن تلد؟ أو كيف ذلك؟ على طريق الاسترشاد لا على طريق الإنكار، لأنه هو الراغب في ذلك إلى الله. فلا يجوز الإنكار فيه البتة.
وقيل: قال ذلك على طريق التعجب من قدرة الله إذا امرأته عاقر.
قال السدي: نادى جبريل صلى الله عليه وسلم زكرياء: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً}. فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس من الله، إنما هو من الشيطان سخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك ما يوحى إليك غيره من الأمر فشك مكانه وقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً}.
وقوله: " عُتِيّاً " أي قد عتوت من الكبر فصرت يابس العظام. يقال للعود اليابس، عود عات وعاس.
وقال قتادة: " عُتِيّاً نسئاً، وكان ابن بضع وسبعين سنة. وقيل: سبعين سنة.(7/4498)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
ثم قال تعالى: {كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}.
الكاف في موضع رفع. والمعنى، قال: الأمر كذلك، أي: الأمر كما قيل لك. أي: أهب لك غلاماً اسمه يحيى، هو عليّ هين. أي: خلقه عليّ هين. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} أي: ليس خلقنا لغلام نهبه لك بأعجب من خلقنا إياك ولم تك شيئاً موجوداً. هو نفي للعين عام. ولو قال: " ولم تك رجلاً أو إنساناً " لم يكن ذلك نفيا للعين ولا نفياً عاماً. فافهمه.
قوله تعالى ذكره: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس}. إلى قوله: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}.
أي: اجعل لي علامة على وقت الهبة، ودليلاً على أن ما بشرتني به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ومتى يكون.
قال ابن زيد: " اجعل لي آية أن هذا منك "، وكذا قال السدي.
{قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}.
أي: علامة ذلك وصحته أنك لا تكلم الناس ثلاث ليال، بلا علة بك من خرس ولا مرض يمنعك الكلام.(7/4499)
قال ابن عباس: " اعتقل لسانه من غير مرض ".
وقال مجاهد: " سوياً ": صحيحاً لا يمنعكم من الكلام مرض ".
وقال قتادة: " سوياً ": من غير خرس ولا بأس، إنما عوقب إذ سأل آية بعد مسافهته الملائكةبذلك، أخذ لسانه حتى كان يوميء إيماءً ".
قال ابن زيد: " حبس لسانه فكان لا يستطيع أن يسلم أحداً، وهو في ذلك يسبح ويقرأ التوراة، فإذا أراد كلام الناس، بم يستطع [أن] يكلمهم. وكذلك قال السدي. وقيل: المعنى، ثلاث ليال متتابعات.
فسوياً من نعت الليالي. وعلى القول الأول يكون " سوياً " حالاً من المخاطب. والتقدير فيه التقديم. أي: آيتك ألا تكلم الناس سوياً ثلاث ليال.(7/4500)
ثم قال تعالى: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب}. أي: فخرج زكريا على قومه من مصلاه الذي جلس فيه حين حبس لسانه عن كلام الناس.
ذوقال ابن جريج: معناه، أشرف على قومه من المحراب والمحراب عند أهل اللغة، مكان مرتفع.
وقوله: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً}.
أي: أوحى إليهم، قاله قتادة وقال الضحاك: " كتب لهم.
وقال مجاهد ووهب بن منبه: " أشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً "، أي: صلوا بكرة وعشياً. والصلاة تسمى سبحة.
وقيل: " أمرهم بالتسبيح بذكر الله طرفي النهار ". وهذا يدل على أن الإشارة ليست بكلام.
يقال: أوحى ووحى. وأومى وومى.(7/4501)
ثم قال: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ}.
والتقدير: قوله له يحيى، فقال الله تعالى له: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " أي بجد وعزم. قاله قتادة ومجاهد.
ذوقال ابن زيد: " القوة: أن يعمل ما أمره الله ويجتنب ما نهاه عنه ".
ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً}.
أي: أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه.
قال معمر: " بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال أللعب خُلقت؟ فأنزل الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً}.
قال قتادة: " كان ابن سنتين أو ثلاث ".
قال مالك: " بلغني أن يحيى بن زكريا، إنما قتل في امرأة، وأن بخت نصر لما دخل بيت المقدس بعد زمان طويل وجد دمه يفور لا يطرح عليه تراب ولا شيء إلا(7/4502)
فار وعلا عليه، فلما رآه بني إسرائيل فسألهم فقالوا لا علم لنا / هكذا وجدناه، وأخبرنا به آباؤنا عن آبائهم أنهم هكذا وجدوه.
قال بخت نصر: هذا دم مظلوم، لأقتلن عليه. فقتل [عليه] سبعين ألفاً من المسلمين والكفار فهدأ الدم بعد ذلك.
وقوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} قال ابن عباس معناه: " ورحمة من عندنا "، وهو قول عكرمة وقتادة والضحاك.
وقيل معناه: ورحمة من عندنا لزكريا، آتيناه الحكم وفعلنا به ما فعلنا، روي ذلك عن قتادة.
وقال مجاهد: " معناه، وتعطفاً من عندنا عليه فعلنا ذلك ".(7/4503)
وقال ابن زيد: " معناه، ومحبة له من عندنا "، روي ذلك أيضاً عن عكرمة.
وعن عطاء أن معناه: " وتعظيماً من عندنا له ".
وقيل معناه آتيناه رحمة بالعباد وتحنناً عليهم ليُخلضهم من الكفر إلى الإيمان.
وعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الحنان.
وقاله عكرمة أيضاً مرة.
وقول العرب " حنانيك " لغة في حنان، وليس بتثنية. وأصل الحنان من قولهم: حن إلى كذا، إذا ارتاح إليه. ويحن على فلان، إذا تعطف عليه. والحنان مصدؤ من حننت أحن حنيناً وحناناً، ومنه قيل لزوج الرجل حنته لتحننها عليه وتعطفها.
وقوله: {وَزَكَاةً} قال قتادة: " العمل الصالح ".
وقوله: {وَكَانَ تَقِيّاً} أي خائفاً مؤدياً فرائضه.(7/4504)
قال ابن عباس: " طهر فلم يعمل بذنب، فهو الزكاة ".
وقوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ}.
أي: مسارعاً في طاعتهما غير عاق لهما ".
{وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً}.
أي: متكبراً عن طاعة الله، ولا عصياً لربه.
ثم قال: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}.
أي: أمان له من الشيطان حين وُلد فلم يُذنب، ولا يأتي في الآخرة بذنب.
وقوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ} أ]: وأمان له من الله من فتاني القبر.
{وَيَوْمَ يُبْعَثُ}.
أي: وأمان له من العذاب يوم يبعث فلا يروعه شيء.
قال ابن عيينة: " أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد، فيرى(7/4505)
نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في حشر عظيم. فخض الله تعالى يحيى بالأمان في هذه الثلاثة مواطن، وهي الفضيلة التي فضل الله بها يحيى. وروي أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا، فقال عيسى استغفر لي، أنت خير مني. وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني؟ سلمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فعرف الله فضلها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إى يحيى بن زكرياء ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يقلى الله عز وجل يوم القيامة إلا وأذنب إلا يحيى بن زكرياء، ما أذنب ولا هم بامرأة ". وهو قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}، أي أمان له وعصمة من الشيطان ألا يحمله على ذنب و " يوم يموت " من عذاب القبر "، ويوم يبعث " من هول المحشر.
وقد قيل: المعنى، ورحمته، وسلامته عليه يوم ولد، وذلك تفضل من الله غير جزاء له على عمله، إذ لم يعمل بعد شيئاً.
وقوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}.
هو جزاء من الله له بعمله وسعيه.(7/4506)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
وروى ابن وهب عن مالك بن أنس عن حميد بن قيس عن مجاهد، أنه [قال]: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإن كان ليبكي من خسية الله ما لو كان القار على عينيه لحرقه. ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في وجهه.
قال أبو ادريس الخلاني: أطيب الناس طعاماً يحيى بن زكرياء. إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس معايشهم.
قال ابن وهب أن ابن شهاب قال: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى بيسير.
قوله تعالى ذكره: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} إلى قوله: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}.(7/4507)
والمعنى: واذكر يا محمد في الكتاب الذي أنزل إليك مريم حين اعتزلت من أهلها، وانفردت في مكان شرقي، أي في شرقي المحراب.
وقال السدي: " خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ".
وقال قتادة: " شرقياً " قبل المشرق شاسعاً ".
وقيل: إنما صارت بمكان يلي المشرق، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيراً مما يلي المغرب /.
وقال ابن عباس: أظلها الله بالشمس، وجعل لها منها حجاباً ".
وهو قوله: {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً} أي: ستراً يسترها عن الناس.
ويروى أن مريم كانت في منزل زكرياء، وكان زوج أختها، وكان لها محراب تصلي فيه، وكان زكرياء إذا خرج أغلق عليها الباب، فآذاها يوماً القمل في رأسها فتمنت لو وجدت خلوة إلى الجبل تفلي فيه رأسها، فانفرج لها السقف وخرجت والبيت مقفل في يوم شديد البرد، فجلست في شرفة من الشمس، وأتى زكرياء فلم يجدها فبينما هي جالسة إذ أتاها جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة البشر في أحسن صورة شاب(7/4508)
مقصص عليه البياض وعليه تاج مكلل بالدر والياقوت، ومريم يومئذ بنت أربع عشرة سنة، فلما أن رأت جبريل عليه السلام يصعد نحوها نادته {إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً}. أي إن كنت تتقي الله فكان من شأنها ما قصّ الله علينا.
ثم قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا}.
قال قتادة وابن جريج ووهب بن منبه: هو جبريل صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الروح: عيسى، لأنه روح الله وكلمته أَلقاها إلى مريم.
وقيل: معناه، فدخل الروح في مريم فتمثل لها بشراً سوياً. أي تمثل فيها، يعني عيسى.
قال أبي بن كعب: " كان روح عيسى بن مريم من الأرواح التي أخذ الله تعالى ذكره عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل من فيها، فحملت بعيسى عليه السلام ". والله أعلم بذلك كله.
والصحيح أنه جبريل عليه السلام لقوله: " فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً " لأن عيسى بشر، ومعناه(7/4509)
فتشبه لها في صورة آدمي، سوي الخلق، معتدلة. وإنما سمي جبريل صلى الله عليه وسلم روحاً، لأنه يأتي بما يحيي به العباد من الوحي، ولهذا سمي عيسى أيضاً روحاً، وسمي القرآن روحاً.
وقيل: إنما اعتزلت لتغتسل من الحيض.
وقيل: لتخلو بالعبادة.
ثم قال: {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً}. والمعنى: أن مريم خافت من جبريل لما رأته في هيئة آدمي.
قال قتادة: " خشيت أن يكون يريدها على نفسها ".
وقال السدي: " فزعت منه لما رأته، فتعوذت بالرحمن واستجارت به منه ".
ومعنى: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي: إن كنت ذا تقوى وخوف من الله، تتقي محارمه.
وقيل: المعنى: إني أستجير بالله منك إن كنت تتقي الله في استجارتي به منك.
قال وهب بن منبه: " هو رجل من بني آدم معروف عندهم بالشر اسمه " تقي ".(7/4510)
ف " إن " على هذه الأقوال للشرط، وما قبلها جواب للشرط.
وقيل: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} معناه: ما كنت.
[قوله]: قَالَ: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً}.
من قرأ بالهمز في لأَهَبَ، فإنه أسند إلى جبريل صلى الله عليه وسلم، إذ قد علم أن الهبة أصلها من الله.
والتقدير: إنما أنا رسول ربك أرسلني لأهب لك.
وقال أبو عبيد: التقدير في هذه القراءة: إنما أنا رسول ربك، يقول لك: أرسلته إليك لأهب لك غلاماً.(7/4511)
فأما من لم يهمز، فيحتمل أن يكون على أحد هذين المعنيين المتقدم ذكرهما في الهمز، لكن خففت الهمزة، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف تقديره: بعثني لِيَهَبَ لك.
وكذا حكى أبو عمرو عن ابن عباس.
و" الزكي ": الطاهر من الذنوب.
{قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}.
أي: قالت مريم: من أي وجه يكون لي غلام؟ أَمِنْ قبل زوج أرزقه منه؟ أم يبتدئ الله خلقه ابتداء، ولم يمسسني بشر من بني آدم بنكاح حلال. " ولمَ ألكُ بَغيّاً " أي لم يمسسني أحد في حرام.
قال السدي: [{بَغِيّاً} زانية].
و {بَغِيّاً} فعول. وفعول يقع للمؤنث والمذكر بغير هاء.
كقولك: امرأة شكور، ورجل شكور. ولا يجوز أن يكون " بغي " فعيلاً، لأنه يلزم فيه دخول الهاء ككريمة ورحيمة. ولا يلزم ذلك في فعول. فدل حذف الهاء منه على أنه فعول، وليس بفعيل. وأصله بغوى، ثم وقع القلب والإدغام على الأصول(7/4512)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
المعروفة عند أهل العربية /.
قوله تعالى ذكره: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ} إلى قوله: {نَسْياً مَّنسِيّاً}.
أي: قال: الأمر كما قيل لك، أن الله يهب لك غلاماً زكيا.
{هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: سهل.
{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} أي: ولنجعل هذا الغلام حجة على الناس {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أي: ورحمة منا لك، ولمن آمن به.
{وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}.
أي: كان خلقه منك بغير ذكر أمراً قد قضاه الله في سابق علمه أنه يكون على ذلك.
ثم قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}.
في الكلام حذف، تقديره: فنفخنا فيها من روحنا بغلام {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ} أي: اعتزلت به مكاناً قصياً، أي: مبتاعداً عن الناس [نائياً]، وهو بيت لحم، أقصى(7/4513)
الوادي. فنظرت إلى أكمة /، فصعدت عليها مسرعة، وإذا على الأكمة جذع نخلة، فاستندت إلى الجذع. وهو قوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة}. فجزعت عند شدة الولادة، وخوف ما يقول النس، فقالت: {ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}. فسمع جبريل صلى الله عليه وسلم كلامها، فنادها من تحتها {أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي: جدولاً، وهو النهر الصغير. قم قال لها: {هزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}، فعجبت من قول جبريل صلى الله عليه وسلم، لأنه كان جذعاً قد قد نخر ليس فيه سعف، فلما هزته، نظرت إلى السعف قد أطلع من بين أعلى الجذع، وقد أخضر، ونظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف أبيض، ثم نظرت إليه قد اخضرّ بعد البياض، فصار بلحاً، ثم نظرت إلى البلح قد احمرّ بعد الخضرة، ثم نظرت إليه قد صار بسراً، ثم تظرن إلى البسر قد احمرّ، ثم نظرت إليه قد صار رطباً، وكذلك كله في أقل من ساعة.
وقيل: كان ذلك كله في أقل من طرفة عين. فجعلت الرطب تسقط بين يديها، فطابت نفسها لما رأت من الآيات.
قال وهب بن منبه: " نفخ جبريل صلى الله عليه وسلم في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم. قال وهب: لما قال لها جبريل {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} استسلمت لأمر الله،(7/4514)
فنفخ في جيبها وانصرف عنها ".
وقال السدي: " فخرجت وعليها جلبابها لما قال لها جبريل عليه السلام ذلك، فأخذ كمها، فنفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت فأتتها أختها - امرأة زكريا - تعودها، فلما فتحت لها الباب، التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم: أشعرت أيضاً أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله تعالى:
{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 39].
قال ابن جريج: " إنما نفخ جبريل في جيب درعها ورحمها ".
قال السدي: " لما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه ".
قوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة}.(7/4515)
أي: جاء بها المخاض إلى جذع النخلة. والهمزة دخلت لتعاقب الباء.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: المعنى: أَلجأها. و " المخاض ": " الحمل ".
وقال قتادة: {فَأَجَآءَهَا} " اضطؤها ".
وذكر بعض أهل الأخبار أنها اعتزلت، وذهبت إلى أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشام وذكر أنها هربت من قومها لما حملت، فتوجهت نحو أرض مصر.
قال وهب بن منبه: " لما اشتملت مريم على الحمل، كان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى الجبل الذي عند صيهور، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم. وكان مريم ويوسف يخدمان في ذلك(7/4516)
المسجد، في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم. فرغبا في ذلك. فكانا يليان معالجة ذلك بأنفسهما وتحبيره وكناسته، وكل عمل يعمل فيه. وكلان لا يعمل من أهل زمانها أحد أشد اجتهاداً وعبادة منهما.
فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف. ولما رأى الذي بها، استعظمه، ولم يدر على ما يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط /، وإذا أراد يبرئها رأى الذي ظهر عليها. فلما اشتد ذلك عليه كلّمها. فكان أول كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث في نفسي من أمر أمر، وقد خشيت، وقد حرصت على أن أكتمه وأميته في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام أشفى فيه لصدري. قالت: فقل قولاً جميلاً. قال: ما كنت أقول لك إلا ذلك. فحدثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم. قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر؟ أولم تعلم ان الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده؟ أو تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء؟ ولولا ذلك لم يقدر(7/4517)
على إنباته؟ قال يوسف: لآ أقول هذا، ولكني أعلم أن الله يقدر على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون. قالت له: أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير أثنى ولا ذكر قال: بلى. فلما قالت له ذلك، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله.
ثم دنا نفاسها فأوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك، عيروك، وقتلوا ولدك. فأفضت ذلك إلى أختها، وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى، فلما التقتا، وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجداً معترفاً بعيسى. فاحتملها يوسف ذإلى ارض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف شيء. فلما ذكان بقرب أرض مصر، في منقطع بلاد قومها، أدرك مريم النفاس، فألجأها إلى حمار أو مذوده وأصل نخلة. فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شسدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة قاموا صفوفاً محدقين بها.
وعن وهب أنها قالت له عند سؤاله: إن الله تعالى خلق البذر قبل الزرع، وإن الله خلق الحبة من غير مطر، وإن الله خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر.(7/4518)
وعن وهب أيضاً أنه قال: لما حضر ولادتها، وجدت ما تجده المرأة من الطلق، فخرجت من المدينة حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم. فأجأها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود مقرة وتحتها نبع من الماء فوضعته عندها.
وقد قال السدي لما حضر وضعها إلى جانب المحراب الشرقي منه أتت أقصاه.
وقيل: إن عيسى ولد بمصر بكورة أهناس، ونخلة مريم قائمة بها إلى اليوم. والله أعلم بذلك كله.
قال ابن عباس: ليس إلا أن حملت فولدت في ساعة.
وعن مجاهد، أنها حملته ستة أشهر، فكانت حياته آية له لأنه لا يعيش من(7/4519)
ولد من ستة أشهر.
وقال غيره أقامت ثمانية أشهر، وذلك آية لعيسى أيضاً، لأنه يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش.
وقوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض} يدل على طول المكث.
قال مجاهد: كان حمل النخلة عجوة.
وقيل: كان جذعاً بلا رأس، وكان ذلك في الشتاء، فأنبت الله له رأساً، وخلق فيه رطباً؟ في غير وقته.
وروي أنها لما رأت الآية في الرطب والجذع طابت نفسها.
وقالت: ليس ولادتي هذا الغلام من غير أب أعجب من هذا الجذع البالي، فأكلت من الرطب، وشربت من النهر.
وقوله: {ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا} [أي: قبل هذا] الطلق، استحياء من الناس قاله(7/4520)
السدي.
{وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}.
أي: لم أخلق ولم أكن شيئاً.
قال السدي: معناه نسى ذكري وأمري، فلا يرى لي أثر ولا عين.
وقال قتادة: معناه: وكنت شيئاً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري من أنا.
وقال مجاهد وعكرمة: حيضة ملقاة.
والنسي عند أهل اللغة، ما طال مكثه فنسي. ويكون لنسي الشيء الحقير الذي لا يعبأ به.
وقرأ محمد بن كعب: " نِسْئاً " بالهمز وكسر النون. وكذا قرأ أيوب، إلا أنه فتح النون وهو من نسأه الله إذا أخره. / وإنما تمنت الموت وقد علمت أن الرضى(7/4521)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
بقضاء الله واجب عليها لآنها كرهت أن يعصى الله فيها وفيما يقول قومها فيها إذ جاءت بولد من غير ذكر، فشق عليها أن يأثموا فيها ويعضوا الله من أجلها فيما يرمونها به لا أنها سخطت قضاء الله فيها، إذ هي تعلم أن الله تعالى لم يختر لها إلا ما فيه الخيرة والصلاح لها. فتمنيها للموت إنما هو طاعة لله لأن من كره أن يعصى الله فيه فقد أطاع الله.
قوله تعالى ذكره: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} إلى قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً}.
من قرأ " مَنْ تَحْتَهَا " بالفتح " أراد فناداها عيسى ". كذلك تأويله أُبي بهذا كعب والبراء بن عازب والنخعي، وبذلك قرؤوا. ومن قرأ بكسر الميم والتاء، أراد(7/4522)
فناداها جبريل. كذلك قال ابن عباس والضحاك.
وقال مجاهد: هو عيسى عليه السلام.
قال الضحاك: كان جبريل صلى الله عليه وسلم أسفل منها، فناداها من ذلك الموضع " ألاّ تحزني ".
وقال أبو عبيد: من كسر الميم والتاء، يجوز في قراءته أن يكون لجبريل ولعيسى عليهما السلام. ومن فتحهما، هو لعيسى خاصة، والاختيار عند أهل النظر في الكسر أن يكون لعيسى مثل الفتح، أي: فناداها عيسى من تحتها.
وقرئ بذلك لتقدم ذكر عيسى ولم يتقدم ذكر جبريل إلا فيما بعد، عند قوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} فالحمل على الأقرب أولى من الأبعد.
قال ابن زيد: قال لها عيسى: لا تحزني، قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج، فأقول من زوج، ولا مملوكة فأقول من سيدي، أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.
قال البراء: " السري " الجدول، وهو النهر الصغير. وبذا قال ابن عباس(7/4523)
وغيره، وهو بالنبطية.
وقال مجاهد: " السري " النهر بالسريانية.
وقال قتادة: السري عيسى نفسه. وكذا قال ابن زيد. أي: شخصاً سرياً.
وقال الحسن: كان والله سرياً من الرجال، يعني عيسى. فقيل له: يا أبا سعيد، إنما هو الجدول النهر. فقال: يرحمك الله، إنما تلتمس مجالستكم لهذا.
وقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة}.
يدل على أنه النهر لقوله تعالى بعد ذلك {فَكُلِي واشربي} فكلي من هذا الرطب ةاشربي من هذا الماء وقريّ عيناً بولدك.(7/4524)
وقوله {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}.
من قرأ بالتاء، رده على النخلة ومن قرأ بالياء، رده على الجذع، ومن شدد السين أدغم فيها إحدى التاءين، ومن خفّف، حذف إحدى التاءين كتظاهرون و " رطبا " منصوب على التمييز. وقال المبرد هو مفعول بهزي أي: وهزي إليك رطباً بجذع النخلة.
وقرأه مسروق بن الأجدع " تُسقط " بتاء مضمومة. وحذف الألف فيكون على هذا " رطباً " مفعولاً به. وكذلك هو على قراءة عاصم " تساقط " على تفاعل. قيل: نصبه على التمييز.(7/4525)
وقيل: هو مفعول بـ " هزي "
و {جَنِيّاً} نعت للرطب وهو فعيل بمعنى مفعول، أي: رطباً مجنياً.
والجني: الطري.
" والرطب " يؤنث على معنى الجماعة، ويذكر على معنى الجنس.
وقال أبو وائل: لو علم الله شيئاً أطيب من الرطب لأطعمه مريم ".
وقوله: {وَقَرِّي عَيْناً} هو من قررت بالمكان عند الشيباني، أي: قري عيناً. وقيل: هو من قررت به عيناه مشتق من القر أي: بردت عيناً، فلم تسخ بخروج الدمع. ولغة قريش قررت به عيناً أقر وقررت بالمكان أقر.
وأهل نجد يقولون: قررت به عيناً أقر.
ثم قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً}.
أي: " قال لها عيسى صلى الله عليه وسلم بعد قوله [لها] أنا أكفيك الكلام، فإما ترين. . .(7/4526)
الآية ". والظاهر أن يكون هذا الأمر من الله جلّ ذكره لها، والله أعلم بذلك.
فالمعنى: إن رأيت من بني آدم أحداً يسألك. فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً. أي: أوجبت على نفسي للرحمن صوماً. أي: صمتاً: قاله ابن عباس والضحاك.
وقال قتادة صامت من الطعام والشراب والكلام.
وقال ابن زيد: كان في بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم / من الطعام إلا من ذكر الله عز وجل فقال لها ذلك.
وأصل الصوم. الإمساك، وإنما أمرها بالصوم عن الكلام لأنه خاف عليها ألا تكون لها حجة فيما جاءت به، فأمرها بالكف عن الكلام ليكفيها ولدها الحجة عنها.
ولا يحل لأحد أن ينذر ترك الكلام يوماً. وإنما جعل الله ذلك آية لمريم خاصة.
وقد قيل: بل كانت ذلك اليوم صائمة عن الطعام والشراب، فأذن لها ألا تكلم الناس ذلك اليوم.(7/4527)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
روى يزيد الرقاشي أن أنس بن مالك قال: إذ ولد عيسى أصبح كل صنم يعبد من دون الله خاراً على وجهه، وأقبلت الشياطين غلى إبليس تضرب وجوهها لما حدث.
ومعنى " فَقُولي " أي: أشيري إليهم بذلك، لأنها لو كلمتهم بذلك لتناقض ما عقدت على نفسها من الصمت. وهذا يدل على أن القول قد يكون غير كلام، وهو كثير في كلام العرب.
قوله تعالى ذكره: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} إلى قوله: {جَبَّاراً شَقِيّاً}.
المعنى: أن عيسى عليه السلام لما قال لها ذلك: اطمأنت وسلمت لأمر الله وحملته حتى أتت به قومها.
قال السدي: " لما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون، فدعوها، فأتت به قومها تحمله ". قالوا: {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً}. أي: جئت بأمر عجيب وعظيم لم يسبق مثلك إلى مثله.(7/4528)
روي أنها خرجت من عندهم ضحى، وجاءت عند الظهر ومعها صبي تحمله فكان الحمل في ثلاثة ساعات من النهار ". وكانت مريم قد حاضت قبل ذلك حيضتين لا غير.
ثم قالوا لها: {يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ}. أي يا أخت هارون في الصلاح والعبادة.
قال قتادة: كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل، يسمى هارون، فشبهوها به. قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل سوى من ليس اسمه هارون.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: هو هارون أخو موسى. فقال لها كعب: يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم، وإلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، فسكتت.
وقيل: أريد بهارون هنا أخو موسى نسبت مريم إليه لأنها من ولده كما يقال(7/4529)
للتميمي يا أخا تميم.
قال ابن جبير: كان هارون منهم رجلاً فاسقاً، فنسبوها إليه، وقد غلط بعض المؤلفين في هذا فقال: كان لها أخ صالح يسمى بهارون.
وما علمت أحداً من المفسيرين وأهل التاريخ قال هذا.
" وقال المغيرة بن شعبة: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا: ألستم تقرأون يا أخت هارون؟ قلت: بلى، قالوا: وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ قال: فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ".
فهذا يدل على أن هارون المذكور في الآية كان رجلاً صالحاً وكانوا يسمون أولادهم بهارون لمحبتهم في ذلك الصالح الذي كان اسمه هارون.(7/4530)
وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ}.
أي: ما كان أبوك رجل سوء فيأتي الفواحش.
{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}. أي زانية.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}. أي: لما قالوا لها ذلك أشارت لهم إلى عيسى أن كلّموه.
{الُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً}. قال قتادة: " المهد " هنا حجر أمه.
و" كان " هنا، زائدة. و " صيباً " نصب على الحال، والعامل فيه الاستقرار. والمعنى: كيف نكلم من في المهد صبياً لا يفهم مثله، ولا ينطق لسانه بكلام.
وقيل: إنّ " كان " هنا بمعنى وقع. و " صبياً " نصب على الحال والعامل فيه " كان ". والمعنى على هذا القول: كيف نكلم صبياً قد خلق في المهد.
وقيل إن " من " للشرط. و " صبياً " حال. و " كان بمعنى: وقع وخلق أيضاً. والمعنى على هذا، من كان في المهد صبياً فكيف نكلمه. كما تقول: من كان لا يسمع ولا يبصر فكيف نخاطبه. قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب}.
أي: قال عيسى لهم ذلك. وذلك أن مريم لما أشارت لهم إلى عيسى أن(7/4531)
يكلموه، ظنوا أن ذلك / منها استهزاء، فغضبوا.
وقوله: {آتَانِيَ الكتاب}.
أي: قضى أن يؤتني ذلك فيما قضى.
قال عكرمة: الكتاب: القضاء.
وقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} يدل على أن الخير والشر بقدر من الله وقضاء.
قال مجاهد: أن نفاعاً معلماً للخير حيثما كنت.
وقال محمد بن كعب: لم يبعث الله نبياً إلا أتى على إثره الشدة واحتباس المطر إلا عيسى عليه السلام، فإنه أتى على إثره الرخاء والمطر، وأتت البركات بيمينه.
وقيل: معنى، " مباركاً " ثابت على دين الله وطاعته أينما كنت لأن أصل البركة الثبات على الشيء، مأخوذ من بروك البعير.
وروى ابن وهب، عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى ابن مريم انتهى إلى قرية قد خربت حصونها، وجفت أنهارها وتشيعت شجرها. فنادى يا خراب، أين أهلك؟ فلم يجبه أحد ثم نادى ثانية، فلم يجبه أحد، ثم نادى الثالثة، فنودي يا(7/4532)
عيسى ابن مريم بادوا وتضمنتهم الأرض، وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة يا عيسى ابن مريم فجد.
{وَأَوْصَانِي بالصلاة}.
أي: قضى أن يوصيني بذلك.
وقوله: {والزكاة}: هي زكاة الأموال.
وقيل: هي تطهير البدن من الذنوب.
{مَا دُمْتُ حَيّاً} أي: وقت حياتي في الدنيا.
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} أي: وجعلني براً بوالدتي.
وقد قرأ أبو نهيك، " وَبِرٍّ "، بكسر الباء ةالراء. أي: وأوصاني ببر والدتي.
وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}.
أي: ولم يجعلني مستكبراً عليه فيما أمرني به منهاني عنه، شقياً. وهذا يدل على أن الله جعل الأشقياء أشقياء، والسعداء سعداء. فهو نص ظاهر في القدر.
قال قتادة: ذكر لنا أن عيسى صلى الله عليه وسلم كان يقول: سلوني فإن قلبي لين، وإني صغير في نفسي، مما أعطاه الله عز وجل من التواضع. قال: وذكر لنا أن امرأة رأت عيسى وهو يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي(7/4533)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
أرضعك. فقال لها عيسى: طوبى لمن تلا كتاب الله، وابتع ما فيه، ولم يكن جباراً شقياً.
ومن قرأ: " وَبِرِّ " بالخفض حسن أن يقف على " أينما كنت " ومن نصبه، لم يقف عليه، لأن " وبراً " منصوب بـ " جعلني.
قوله تعالى ذكره: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ} إلى قوله: {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.
معناه: أن عيسى عليه السلام سلّم على نفسه في هذه الأوقات وهي أشد ما يمر على الإنسان في حياته وبعد موته. أي: الأمن علي من الشيطان أن يصيبني في حين ولادتي بسوء، ويوم أموت من هول المطلع، ويوم أبعث يوم القيامة من الفزع.
فأخبرهم أنه سيموت، وأنه يبعث حياً.
ذكر عبيد بن عمير وغيره أن عيسى صلى الله عليه وسلم كان يأكل من الشجر ويلبس من الشعر، ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، ولا يخبئ طعام اليوم لغد، وليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب، يبيت حيث يدركه الليل.(7/4534)
ثم قال تعالى: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق}. أي: هذا الذي وصفت لكم صفته، وأخبرتكم خبره هو عيسى ابن مريم.
ثم قال: {قَوْلَ الحق} من رفع القول. فعلى خبر الابتداء. أي هذا الكلام الذي قصصته عليكم قول الحق. أي قول الله، ف {الحق} هو الله. أي هو كلامه لا كلام غيره من اليهود والنصارى فيما ادعوا في عيسى من الكذب والبهتان /.
ومن نصبه، فعلى المصدر. أي: أقول قول الحق، لا قول اليهود، الذين زعموا أن عيسى عليه السلام كان ساحراً كذاباً. ولا قول النصارى، أنه ولد الله تعالى وجلّ وعزّ عن ذلك.
قال مجاهد: {قَوْلَ الحق}. الحق: الله.
أي: قول الله هو الحق. فمن رفع القول حسن أن يقف على مريم، ثم يبتدئ " قول الحق " أي هذا قول الله.(7/4535)
ومن نصب، لم يحسن الوقف على مريم، لأن ما قبله قد قام مقام الفعل الناصب ل: " قول ". وقد أجازه أبو حاتم على إضمار ناصب لقول الحق، كأنه ابتدأ: أقول قول الحق.
وقوله: {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي: يشكون ويختصمون من المراء وهو الخصام والجدال.
قال قتادة: امترت فيه اليهود، فقالوا: ساحر كذاب، وامترت فيه النصارى، فزعموا أنه ابن الله. وذلك أن بني إسرائيل اجتمعوا فأخرجوا منهم أربعة نفر. أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السناء، وهم اليعقوبية فقال له الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه. قال فقال: هو(7/4536)
ابن الله وهم النسطورية. فقال له الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه. فقال هو ثالث ثلاثة. الله إله، وهو إله، وأمه إله. وهم الاسرائيلية ملوك النصارى. قال له الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، وهم المسلمون. فكان لكل واحد منهم أتباع على ما قال.
فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس}.
قال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} يعني: اختلفوت فصاروا أحزاباً.
قوله تعالى: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ}.
هذا تكذيب للذين قالوا: إن عيسى ابن الله. أي: ما يصلح له أن يتخذ ولداً، بل كل شيء خلقه.
ثم قال سبحانه: ينزه نفسه عما قالوا، أي: تنزيهاً لله أن يكون له ما أضيف إليه من الولد، فقال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ}، ينفي عن نفسه وينزهها عما يقول الظالمون،(7/4537)
وهذا اللفظ ظاهره الحظر، والله لا يحظر عليه شيء، لكنه محمول على معناه. ومعناه النفي، أي: ما كان الله ليتخذ ولداً. فهو نفي عن الله ما لا يليق به وليس فيه في الباطن حظر. ومثله قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] معناه النفي، وتقديره: ما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً. فظاهره حظر، ومعناه النفي، ولو كان حظراً لم يستثنى منه الإثبات في قوله " إلا خطأ " والنفي يستثنى منه الاثبات. ومعنى الإثبات في هذا، إجازة وقوعه من المؤمن لا أنه إطلاق له أن يفعل ذلك، وقد مضى ذكر هذا. ومثله {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] ظاهره الحظر. أي لا تفعلوا وهو تعالى لم يحظر على خلقه أن يفعلوا ذلك، وإنما معنى ذلك، النفي عنهم القدرة على اختراع ذلك.
فالمعنى: ما كنتم مخترعين ذلك، ومحدثين له، بل الله اخترعه وأحدثه. وهو كثير في القرآن يقاس عليه ما شابهه.
ثم قال: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
أي: إذا أراد خلق شيء، فإنما يقول له كن فيكون موجوداً حادثاً لا يتكلف في حدوثه معالجة ولا معاناة تصحيح، والتقدير، إذا قضى أمراً كونه. وقد زل في(7/4538)
هذا بعض الملحدين فقال: هذا يدل على أن الأمر مخلوق، لأنه قال: قضى أمراً. قال: وأمره كلامه، وهذا إلحاد وكفر. ليس قضى في هذا بمعنى خلق، إنما هو بمعنى أراد.
والأمر في هذا إنما أحد أمور المحدثة، لا كلامه - تعالى عن ذلك - فالمعنى: إذا أراد إحداث أمر من الأمور المحدثة، قال له: كن فكان. فكن كلامه. فبهذا يحدث المحدثات. فلو كان الأمر في هذا كلامه، لحدث بكلامه كن، فيصير كلامه يحدث بكلامه، وهذا خلف من الكلام وخطأ ظاهر.
ثم فال تعالى: {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ}.
هذا من قول عيسى لهم. أخبرهم أنه وإياهم عبيد الله. فالعبادة له منا واجبة علينا.
{هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أوصيتكم به طريق مستقيم ينجوا من سلكه.
فمن فتح " أن " فعلى معنى: / و " لأن الله ".
هذا مذهب الخليل وسيبويه.
وقال الفراء " أن " في موضع خفض عطف على الصلاة. أي: قال عيسى:(7/4539)
أوصاني بالصلاة، وبأن الله ربي وأجاز أن يكون في موضع رفع على معنى: والأمر أن الله.
وحكي عن أبي عمرو أنها في موضع نصب عطف على أمر. أي: وقضى الله أن الله ربي.
وقيل: هي في موضع رفع عطف على عيسى. أي: ذلك عيسى، وذلك أن الله. وهذا ضعيف، لأن المعنى ليس عليه. ومن كسر، فعلى الابتداء، ولم يعطفها على ما قبلها.
وفي حرف ابن مسعود وأبي: " أن الله ربي " بغير واو.
فهذا يدل على صحة الاستئناف.
وقيل: الكسر على العطف على: " قال: إني عبد الله، وقال إن الله ربي ".
و" سبحانه "، وقف عند نافع.
ولا يحسن الابتداء بـ " أن " على قراءة من فتح، إلا على قول الخليل وسيبويه:(7/4540)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
لأنهما لا يجعلان في الكلام عطفاً.
وعلى قول الكسائي: الأمر أن الله يحسن الابتداء بها أيضاً.
قوله تعالى ذكره: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} إلى قوله: {لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}.
أي: فاختلف المختلفون بعد رفع عيسى صلى الله عليه وسلم. فصاروا أحزاباً، وقد ذكر اختلافهم كيف كان.
ثم قال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}.
أي: وادٍ في جهنم للكافرين الذين زعموا أن عيسى إله، والذين زعموا أنه ابن الله. {مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة.
ثم قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}.
أي: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة إذا عاينوا ما لا يحتاج إلى فكر ولا رؤية. وقد كانوا في الدنيا عمياً عن إبصار الحق، صماً عن سماع الهدى.
قال قتادة: سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.(7/4541)
قال ابن زيد: كانت في الدنيا على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، فلما كان يوم القيامة، أبصروا، وسمعوا فلم ينتفعوا، وقرأ {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12].
ثم قال تعالى ذكره: {لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: لكن الكافرون في الدنيا في ذهاب مبين عن سبيل الحق.
و {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} وقف حسن. والعامل فيه " أسمع بهم وأبصر " أي: ما أبصرهم وأسمعهم في هذا اليوم، أي: هم ممن يقال ذلك فيهم، ففيه معنى التعجب، ولفظه، لفظ الأمر، ولا ضمير في الفعلين، إذ ليس بأمر للمأمور، إنما هو لفظ وافق لفظ الأمر، وليس به.
ثم قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر} أي: أنذر هؤلاء المشركين يوم حسرتهم على ما فرطوا في جنب الله إذا رأوا مساكنهم في الجنة قد أوروثها الله أهل الإيمان به، وعوضوا منها منازل في النار، وأيقن الفريقان في الخلود.
قال ابن مسعود: ليسي نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة، وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النالا البيت الذي في الجنة فيقال: / لو آمنتم، فتأخذهم الحسرة، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال لهم: لولا ما منّ به الله(7/4542)
عليكم.
وقيل: {يَوْمَ الحسرة} يوم يعطى كتابه بشماله.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجاء بالموت فيوضع بين الجنة والنار كأنه كبش أملح. قال فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم يؤمر به فيذبح. 4قال: فيقول: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} الآية. وأشار بيده في الدنيا " يريد الغفلة في الدنيا.
وكذلك رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط. وقال في أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من(7/4543)
مكانهم، وقال في أهل النار، فيطلعون فرحين مسرورين، رجاء أن يخرجوا من مكانهم. وقال فيذبح على الصراط ".
قال ابن عباس: " يصور الله الموت كأنه كبش أملح. فيذبح، فييأس أهل النار من الموت، فلا يرجونه، فتأخذهم الحسرة من أجل الخلود في النار، ويأمن أهل الجنة الموت، فلا يخشونه ".
وقال ابن عباس: " يوم الحسرة " من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله وحذره عباده.
ومعنى: {إِذْ قُضِيَ الأمر} إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها ولأهل الجنة بالخلود [فيها]. /
وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي: هؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم القيامة.
{وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون بآيات الله ولا بالرجوع إليه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي: نفني من على الأرض، فتبقى لا مالك لها غيرنا.
{وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}.(7/4544)
اي: يرد هؤلاء المشركون وغيرهم، فيجازي كلاً بعمله. والمعنى: إلى حكم الله يرجعون وقضائه فيهم ومجازاتهم. لم يرد برجوعهم إليه، إلى مكانه، ولا إلى ما قرب منه، إنما رجوعهم إلى جزائه وحكمه فيهم. وكذلك كل ما شابهه.
{قُضِيَ الأمر} وقف، إلا أن يجعل " وهم في غفلة " في موضع الحال فلا يقف على ذلك. والتمام " يؤمنون ".
ثم قال تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}.
أي: أتل على هؤلاء قصص إبراهيم وأبيه التي أخبرناك بها في الكتاب المنزل عليك، وكذلك معنى قوله: {واذكر فِي الكتاب} في كل موضع، إنما معناه اذكر لقومك ما أنزل عليك في القرآن من قصة إبراهيم، وموسى وغيرهما.
{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} أي: كان من أهل الثدق في حديثه وأخباره ومواعيده. " نبيئاً " أي: تنبأه الله وأوحى إليه.
ولا يوقف على " نبي " لأن " إذ " متعلقة بما قبلها.
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ}.
أبتِ عند سيبويه لا تقع بالتأنيث إلا في النداء. ويكون للمذكر والمؤنث. و " التاء " عنده عوض من ياء الإضافة. ولذلك لا يجمع بينهما. ووقف ابن كثير بالهاء،(7/4545)
وجميع القراء غيره يقفون بالتء، لأنه مضاف في التقدير.
وقرأ ابن عامر بفتح التاء على تقدير يا أبتاه، فحذف الهاء لأنه واصل وحذف الألف كما تحذف ياء الإضافة، لأنها بدل منها.
وقيل: إنه أبدل من كسرة " التاء " فتحة، ومن " الياء " التي كانت في الأصل ألفاً. ثم حذف الألف، إذ لا يجمع بين الياء والتاء، والألف عوض من الياء. فكما لا تثبت الياء مع التاء، كذلك لا تثبت الألف التي هي عوض من الياء.
وهذا القول أشبه من الأول، وفيهما نظر.
وقوبه: {مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} يعني الأصنام، لا يسمعك إذا دعوته، ولا بيبصرك إذا أجبته ولا يغني عنك شيئاً: إن نزل بكل أمر أو ضر لم ينفعك ولا دفع عنك شيئاً.
ثم قال: {يا أبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ}. يعني: الوحي الذي أوحى الله إليه.
{فاتبعني} أي: أقبل قولي، وما أدعوك إليه.(7/4546)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي: أبصرك وأرشدك الطريق المستوي الذي لا تضل فيه إن لزمته.
ثم قال: {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان}.
أي: لا تطعه فيم أمرك به فتكون بمنزلة من عبده.
{إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً}.
أي: عاص. و " عصياً "، فعيل بمعن فاعل. لام الفعل " ياء " أدغمت فيها " ياء " فعيل.
ثم قال: {يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن} الآية. . . أي: إني أعلم أنك، إن منت على عبادة الشيطان، أن العذاب يمسك فتكون للشيطان ولياً دون الله. فالخوف هنا بمعنى العلم. كما تقع الخشية بمعنى العلم في قوله: {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80].
قوله تعالى ذكره: قال {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم} إلى قوله {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}.
أي: قال أبوه له حين دعاه إلى الإيمان وترك عبادة الشيطان، أراغب أنت عن عبادة آلهتي يا إبراهيم. {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن ذكر آلهتي بالسوء وغبتك عن عبادتها لأرجمنك " أي: لأسبنك، قاله قتادة والسدي وابن جريح.(7/4547)
وقيل معناه: لأقتلنك.
وقيل معناه: لرجمنك بالحجارة.
ثم قال: {واهجرني مَلِيّاً} أي: واهجرني يا إبراهيم حيناً طويلاً. قاله: مجاهد والحسن وعكرمة. ف " ملياً " ظرف.
وقال ابن عباس: معناه: واهجرني سالماً من عقوبتي إياك، وقاله: قتادة والضحاك.
ف " ملياً " على هذا نصب على الحال من إبراهيم، واختار الطبري هذا القول، واختار النحاس القول الأول.
و" أراغب " رفع بالابتداء، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر، ويجوز أن يكون "(7/4548)
أنت " مبتدأ، و " أراغب " خبره مقدم عليه، وحسن رفع " أراغب " بالابتداء لاعتماد على ألف الاستفهام الذي معناه التقرير.
ثم قال تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي}. أي: قال إبراهيم لأبيه حين توعده، وامتنع من الإيمان بما جاء به: سلام عليك " أي: أمنة مني لك ان أعادوك فيما كرهت، ولكن سأستغفر لك ربي أي: أسأل لك ربي أن يستر عليك ذنوبك {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي: إن ربي عهدته / بي لطيفاً، يجيب دعائي إذا دعوته.
قال ابن عباس وابن زيد: " حفيّاً " لطيفاً يقال حفي به إذا بره ولطف به.
قال السدي: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ} أخره إلى السحر.
{ياإبراهيم} تمام عند نافع. وإن شئت ابتدأت يا إبراهيم.
و" سلام عليك " تمام عند ابي حاتم. و " لك ربي " عند غيره التمام.
ثم قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}. أي: وأجتنبكم وعبادة(7/4549)
ما تدعون [من دون الله] من أوثانكم وأصنامكم. و {وَأَدْعُو رَبِّي} بإخلاص العبادة له {عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي: عسى أن لا أشقى بدعاء ربي.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}. لي: فحين اعتزل إبراهيم قومه وعباده ما يعبدون من دون الله. {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي: آنسنا وحشته لما فارق قومه، فوهبنا له إسحاق، وابنه يعقوب.
{وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً}.
أي: وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلناهم أنبياء.
روي أنه خرج عنهم إلى ناحية الشام بإذن الله له.
ثم قال: {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا}.
أي: ووهبنا لجميعهم من رحمتنا. وهو ما بسط لهم من الرزق في الدنيا.
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أي: ورزقناهم الثناء الحسن والذكر الجميل من الناس إلى قيام الساعة.
قوله: " ويعقوب " وقف. و " نبيئاً " أحسن منه و " علياً " أحسن منهما.(7/4550)
ثم قال: {واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً}.
أي: واقصص على قومك يا محمد نبأ موسى، إنه كان مخلصاً لله عبادته وأعماله كلها. هذه على قراءة من كسر " اللام " في " مخلصاً " ومن فتحها فمعناه: إنه كان مختاراً اختاره الله لكلامه ورسالته.
{وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أي: أرسله الله إلى نبي إسرائيل، وتنبأه.
ثم قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} أي: وكلمناه من جانب الجبل الأيمن، قاله قتادة.
وقال الطبري: يعني يالأيمن هنا: يمين موسى، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال.
{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}، أي: وأديناه مناجياً.
قال ابن عباس: إن الله عز وجل أدناه حتى سمع صريف القلم.
وقال أبو صالح: قربه حتى سمع صريف القلم.(7/4551)
وعن مجاهد في معنى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: بين السماء الرابعة أو قال السادسة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة، فما زال يقرب موسى حتى كان بينه وبينه حجاب وسمع صريف القلم، وقال: أرني أنظر إليك.
وقال قتادة: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} (نجا بصدقه).
وقيل معناه: قربناه في الكرامة والرفعة في منزلة رفيعة، لأن الله تعالى ذكره وجلّ ثناؤه وليس بمحدود، فيكون بعض الأجسام أقرب إليه من بعض. فهو كلام فيه توسع. فقد يقرب الرجل عبده بإكرامه له، وإن بعد منه ويبعد عبده الآخر بإهانته له وإن قرب مكانه منه، فذلك شائع في اللغة.
والمعنى: إنا رفعنا بكلامنا له.(7/4552)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}.
أي: وهبنا لموسى - رحمة منا له - أخاه هارون نبياً. اي: أيدناه بنبوته.
قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد أنه وهب له نبوته.
قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} إلى قوله: {سُجَّداً وَبُكِيّاً}.
المعنى: واقصص عليهم يا محمد، نبأ إسماعيل، إنه كان صادق الوعد، أي: لا يخلف وعده.
قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها.
وقيل: إن هذا مما يدل على أنه هو الذبيح، لأنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فصبر حتى فداه الله.
قال سهل بن عقيل: وعد إسماعيل رجلاً مكانه أن يأتيه، فجاءه إسماعيل، ونسي الرجل، وظن أنه قد اشتغل، فبات إسماعيل في المكان حتى جاء الرجل من الغد. فقال له الرجل: ما برحت من ها هنا؟ فقال إسماعيل: لا والله. فقال الرجل: إني(7/4553)
نسيت. فقال إسماعيل إني لم أكن لأبرح حتى تأتينَي، فذلك قوله " كان صادق الوعد ".
وروي أن إبليس اللعين تمثّل له، فوقع بينهما موعد ألا يبرح إسماعيل حتى يعود إليه. فكان في اعتقاد إسماعيل أن ينتظر سنة فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه إبليس، فذهب وأرسله الله إلىجرهم.
وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة}.
يعني أمته كلها، ذات نسب وغير ذات نسب.
{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} /.
أي: محمداً فيما كلفه، غير مقصر. و " مرضي " مفعول، والأصل فيه عند سيبويه. " مرضو ". ولكن أبدلوا من الواو لأنها أخف، ولأنها واو قبلها ضمة، وليس ذلك في كلامهم فأبدل ولم يعتد بالساكن الذي قبل الواو المضمومة. ومثله قولهم مسنية، أصلها مسنوة.
وقال الكسائي والفراء: من قال: " مرضى " بناه على رضيت وقالا وأهل(7/4554)
الحجاز يقولون " مرضو ". وحكايا أنَّ من العرب من يُثني رضا على رضوان، ورضيان، وربوان، وربيان.
فمرضي على رضيان. ومرضو على رضوان.
ولا يعرف البصريون في التثنية إلا رضوان بالواو. وربوان بالوا.
ثم قال تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً}.
أي: واقصص نبأ إديس، إنه كان لا يقول إلا الحق فيما يوحى إليه، وفي غيره " نبيئاً " تنبأه الله.
كان إدريس خياطاً، وكان كلما وخز وخزة بالإبرة سبّح الله وهو أول من خاط الثياب، وبينه وبين آدم خمسة آباء.
ثم قال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال كعب: أوحى الله إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة، فقال: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدراً، فلكم ملك الموت في الذي كلّمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ فقال هو ذا على ظهري.
فقال ملك الموت: فالعجب، بعثت، وقيل لي: اقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض، فجلعت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في(7/4555)
الأرض. فقبض روحه هناك، فذلك قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}.
وقيل: إن الله جلّ ذكره جعله في السماء الرابعة قاضياً كالملك في وسط ملكه وجعل خزائن السموات بيده.
وقيل: رفع إلى السماء السادسة.
وقال مجاهد: رفع إدريس ولم يمت كما رفع عيسى.
وقال مجاهد: وقتادة: رف إلى السماء الرابعة.
وروى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما عرج به إلى السماء، قال: " أتيت على إدريس في السماء الرابعة ".
وقيل: {مَكَاناً عَلِيّاً} عنى به في النبوة والعلم.(7/4556)
وسأل ابن عباس كعباً عن إدريس وما يجد من خيرة في التوراة فقال: إن في كتاب الله أن إدريس كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله عمل جميع أهل الارض. فأستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه، فأذن الله له أن يؤاخيه، فسأله إدريس؟ أي أخي، هل بينك وبين ملك الموت إخاء؟ قال: نعم، ذلك أخي دون الملائكة، وهم متآخرون كما يتآخى بنو آدم فقال: هل لك أن تسأله كم بقي من عمري لكي أزداد في العمل؟.
قال إن شئت سألته وأنت تسمع. قال: فحمله الملك تحت جناحيه حتى سعد به إلى السماء [فقال لملك الموت] أي أخي، كم بقي من أجل إدريس؟ فقال: ما أدري حتى أنظره قال: فنظر فقال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من أجله إلا طرفة عين. فنظر الملك تحت جناحه، فإذا إدريس قد قبض وهو لا يشعر. ذكر ذلك ابن وهب.(7/4557)
وروى ابن وهب أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إن إدريس أقدم من نوح، بعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله ويعملوا بما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله.
وروى أن ادريس سَار ذات يوم في حاجته فأدركه وهج الشمس فقال: يا رب، إني مشيت في الشمس يوماً. فآذاني حرّها، فكيف بمن يحملها مسيرة خمس مائة عام في يوم واحد، اللهم خفف عن من يحملها، واحملعنه حرها. فلما أصبح الملكم، وجد خفة فسأل الله عن ذلك، فأعلمه أن إدريس دعا له في ذلك، فسأل الله أن يجمع بينه وبينه، وأن يجعل بينه وبينه خلة، فأذن الله له في ذلك.
ثم قال تعالى: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين}.
المعنى: أولئك الذين قصصت عليك، أنبأهم، هم الذي أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ}. يعني إدريس. و {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في الفلك، يعني: إبراهيم).
{وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} يعني من ذرية إبراهيم وإسماعيل من ذرية إبراهيم، ومن ذريته أيضاً هارون وموسى، وزكريا، وعيسى، وأمه.
/ {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} للإيمان والعمل الصالح.(7/4558)
{واجتبينآ} أي: واصطفيا للرسالة والواحي.
ثم قال تعالى: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن}.
أي: أدلته وحججه التي أنزلها في كتابه.
{خَرُّواْ سُجَّداً} أي خضعاً.
{وَبُكِيّاً} أي باكين. فبكى يجوز أن يكون مصدراً لبكى يبكي بكياً. بمعنى: بكاء. ويكون أصله بكوياً. كجلس يجلس جلوسا. ثم نقل ورد إلى الياء، على أصل اجتماع الواو والياء. والأول ساكن، وبكسر ما قبلها، لأنه ليس من كلامهم ياء سكانة قبلها ضمة، من كسر أوله، اتبع الكسر الكسر والياء. ويجوز أن يكون جمع باكٍ على فعول، كما قالوا شاهدوا وشهود. فأما العتي والجثي فهما جمع جاث وعات على فعول، ثم غير ما تقدم في " مرضي ". لأن لامه واو. فهو مخالف لبكياً. إذ لامه ياء، ولام جثياً وعتياً واو، لأن ذلك من بكى يبكي، وهذين من جثا يجثو،(7/4559)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
وعتا يعتو، فقس على هذا ياءات هذه السورة وغيرها.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ سورة " مريم " فسجد فقال " هذا السجود، فأين البكي " وهذا يدل على أنه مصدر لا جمع يريد به فأين البكاء.
قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة}. إلى قوله: {وَعْدُهُ مَأْتِيّاً}.
المعنى: فخلف من بعد من ذكرنا من الأنبياء، خلف سوء خلفوهم في الأض.
يقال في الردئ " خَلْف " بإسكان اللام، وفي الصلاح " خَلَفْ " بتحريك اللام. وعن أبي إسحاق ضد هذا. والأول أشهر.
ثم قال: {أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} أي أخروا الصلاة عن مواقيتها، ولم يتركوها، ولو تركوها لكان كفراً.
قاله عمر بن عبد العزيز: وهو معنى قول ابن مسعود. وكذلك قال ابن مسعود: في قوله تعالى ذكره: {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] إنه تأخيرها عن(7/4560)
وقتها.
قال مسروق: لا يحافظ على الصلوات الخمس أحد فيكتب من الغافلين.
وروى الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلف من بعد ستين سنة ".
قال أبو محمد مكي رضي الله عنهـ: وقد ذكر الجعفي في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: هم ناس يظهرون في آخر الزمان من قبل المغرب، وهم شر من يملك، وذكر اسمهم.
وعن مجاهد، أن الخلف هنا النصارى بعد اليهود. رواه ابن وهب، وهو ظاهر الآية لأن بعده " إلا من تاب وآمن " فذكره لشرط الإيمان مع التوبة يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين.
وقوله: {واتبعوا الشهوات} قيل: معناه: اتبعوا شهواتهم فيما حرّم الله عليهم.(7/4561)
وقال القرظي: أضاعتهم لها، تركها وهذا القول اختيار الطبري لقوله بعد ذلك: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} فلو كان المضيعون مؤمنين لم يقل: " إلا من تاب وآمن " ولكنهم كانوا كفاراً بتركهم للصلاة والزكاة.
وقال مجاهد: هؤلاء قوم يكونون عند قيام الساعة، وذهاب صالحي امة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في الآزقة زنا.
وقال عطاء: هم من أمة محمد عليه السلام.
ثم قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً}.
يعني: وادياً في جهنم قاله ابن عمر. وعنه أنه قال: هو نهر في جهنم، خبيث الطعم بعيد القعر.
وقال ابن عباس: غياً: خسراناً.(7/4562)
وقال ابن زيد: " غياً " شراً.
والتقدير: فسوف يلقون جزاء الغي، كما قال يلق آثاماً أي: جزاء الآثلام.
وقيل: سمي الوادي غياً لأن الغاوين يصيرون إليه.
وقيل: المعنى: " فسوق يلقون غياً ". أي: خيبة من الجنة، والثواب الذي يناله المؤمنون، وعذاباً في النار.
و" الغي " في اللغة " الخيبة.
ثم استثنى فقال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} دون أولئك.
{وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً}.
أي: ولا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً. ثم بيّن موضع الدخول فقال: " جنات عدن " أي: إقامة.
{التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} أي: وعدهم بها، وهم لم يروها فصدقوا بذلك.
{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً}.
الوعد هنا بمعنى الموعود. كما قالوا: الخلق بمعنى المخلوق.(7/4563)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
و " مأتياً " أي: ياتيه أولياؤه، وأهل طاعته.
وقيل " مأتياً ": هو مفعول بمعنى فاعل. قاله ابن قتيبة واستبعده النحاس، وهو عنده/ مفعول من الإتيان، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه.
قوله تعالى ذكره: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} إلى قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
أي: لا يسمعون في الجنة لغواً وهو الهدر والباطل من القول.
{إِلاَّ سَلاَماً} أي: تحييهم الملائكة من كل باب بالسلام.
وقوله: " إلا سلاماً " استثناء ليس من الأول.
وقيل: هو بدل من لغو.
ثم قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. أي: لهم ما يشتهون من المطاعم، قدر وقت البكرة ووقت العشي من نهار الدنيا. إذ لا ليل في الجنة ولا نهار.
قال مجاهد: ليس " بكرة " ولا " عشي " ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
خاطبهم الله بأعظم ما كان في أنفسهم من العيش.(7/4564)
وكانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء عجب به فأخبرهم الله أن لهم في الجنة ذلك الذي يعجبهم.
وقال زهير بن محمد: " ليس في الجنة ليل. هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار. يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ".
وقيل: معنى الآية: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. مقدار ما يكفيهم لكل ساعة ولكل وقت يريدون فيه الأكل.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً}.
أي: الجنة التي وصفت، هي التي تورث مساكن أهل النار فيها. " من مكان تقياً " أي من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب محارمه.
قال إبراهيم بن عرفة: وعد الله بالجنة كل من اتقى، وأرجو أن يكون كل موحد من أهل التقية - إن شاء الله - ولن يهلك مؤمن بين توحيد الله، وشفاعة(7/4565)
نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: " التقي ": الذي قد أكثر من اتقاء معاصي الله ومحارمه.
ثم قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
هذه الآية نزلت لما استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم الوحي.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا، فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي فيما سأله المشركون عنه من خبر الفتية وخبر الطواف، وعن الروح، وقد كان قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم سأخبركم غداً، ولم يستثن. فأبطأ عنه الوحي أربعين يوماً. ثم نزل جبريل عليه السلام: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24]، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وحزن فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية.
وكذلك قال قتادة ومجاهد والضحاك باختلاف لفظ واتفاق معنى.
ثم قال تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك}.(7/4566)
معناه: أبي العالية: ما بين أيدينا من الدنيا وما خلفنا من الآخرة " وما بين ذلك " ما بين النفختين.
وقال ابن عباس: " ما بين أيدينا " الآخرة " وما خلفنا " من الدنيا.
وكذلك قال قتادة، إلا أنه قال: " وما بين ذلك "، ما بين الدنيا والآخرة.
وُرُوِيَ عن معمر: " ما بين ذلك " ما بين النفختين. وكذا قال الضحاك.
وقال ابن جريج: " ما بين أيدينا " ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، و " ما خلفنا، " ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة، " وما بين ذلك " ما بين ما مضى أمامهم وما بين ما يكون بعدهم.
وقال الأخفش " ما بين أيدينا ": ما كان قبل أن نخلق " وما خلفنا " ما يكون بعد أن تموت " وما بين ذلك " منذ خلقنا إلى أن نموت.(7/4567)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
وقال ابن جبير: " ما بين ذلك " ما بين الدنيا والآخرة، يعني البرزخ.
فيكون المعنى: فلا استبطاء يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نترك إلا بأمر ربك لنا بالنزول بما هو حادث من أمور الآخرة، وما قد مضى من أمر الدنيا، وما بين هذين الوقتين.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي ذا نيسان، فيكون تأخر نزولنا من أجل نسيانه إياكز
قال مجاهد " {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي ما نيسك.
قوله تعالى ذكره: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً}.
أي: وما كان ربك - رب السماوات والأرض وما بينهما - ذ نيسان، " فاعبده " أي: الزم طاعته.
{واصطبر لِعِبَادَتِهِ} أي: اصبر نفسك على العمل بطاعته.
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي: مثلاً وشبهاً في جوده وحلمه وكرمه وطوله. قاله ابن عباس وقتادة/ ومجاهد وابن جبير.(7/4568)
وعن ابن عباس أن معناه: هل تعلم يا محمد أحداً يمسى الرحمن سواه.
وقيل: هل تعلم أحداً يقال له الله غيره.
وقل المعنى: هل تعلم أحداً قال له رب السماوت والأرض وما بينهما غيره.
وقيل: المعنى: هخل تعلم أحداً يجوز أن يكون إلهاً معبوداً غيره.
ثم قال تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}.
أي: ينكر الإنسان الكافر البعث، فيقول: أنبعث، إذا ما مت، إنكاراً منه للبعث.
فقال الله تعالى لنا: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي: فكما خلقناه من غير شيء، وأوجدناه من عدم، كذلك نحييه بعد مماته. وهذا مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] فكان الجواب {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] والرؤية بمعن العلم في هذا. أي: أولم يعلم الإنسان ذلك من حدوثه قبل أن لم يكن شيئاً. ولا يجوزك أن تكنون من رؤية البصر، لأن الإنسان لم ير نفسه وقت خلقه.
والوقف على " حياً " بعيد، لأن " أولاً " معطوف، دخل عليه ألف الاستفهام للتوبيخ.
وقيل: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. ثم هي في كل من كان(7/4569)
مثلهم من الكفار المنكرين للبعث. ودخلت اللام في " لسوف " للتأكيد جواباً لقول قيل للإنسان، كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا ما مات لسوف تبعث حياً). فقال إنكاراً للبعث، وجواباً لما قيل له: " أئذا ما مت لسوف أبعث " فأتى باللام في الجواب، كما كانت في القول ولو كان مبتدئاً بذلك لم تدخل اللام، لأن اللام للتأكيد والإيجاب، وهو مكر للبعث، فلا يصلح دخول اللام في غير مكر لخبره، فإنما دخلت في هذا لمجازاة ما قبل له. أدخل اللام في الجواب كما دخلت في القول الذي أجاب عنه.
ثم قال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين}.
أي: لنحشرن هؤلاء المنكرين للبعث مقرنين بأوليائهم من الشياطين.
{ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}.
أي: على ركبهم، وهو جمع جاث. وأصله جثو، مثل: قاعد وقعود، ثم أبدل من الواو ياء لأنها ظرف على ما تقدم في " مرضياً ".
وقيل: " جثياً " قعوداً لا يقدرون عل القيام لشدة هول ما يرون.
روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم(7/4570)
[ملاقو] الله حفاة عراة مشاة عزلاً " قال ابن جبير: يحشرون حفاة عراة، فأول من يكسى خليل الله ابراهيم عليه السلام.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " ثم قال تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً}.
أي: ثم لنأخذنّ من كل جماعة أشدهم على الرحمن عتواً وتمرداً. يعني الأكابر فالأكابر جرماً. والجبار فالجبار.
والمعنى: نبدأ بتعذيب أعظمهم جرماً ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
قال مجاهد: " من كل شيعة ": من كل أمة. والشيعة: الجماعة المتعاونون على الأمر: فالتقدير: لنأخذن من كل أمة تعاونت على الكفر أشدهم كفراً ثم الذي يليه.
" أيهم " رفع عند الخليل على الحكاية. أي لننزعنّ الذي يقال له من أجل عتوه أيهم أشد.
ومعناه: لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى، عذب أولاً أشدهم كفراً ثم(7/4571)
الذي يليه.
ومذهب يونس أن " لننزعن " معلق. " وأيهم " رفع بالابتداء وليس هذا الفعل مما يجوز أن يعلق عند غيره.
ومذهب سيبويه أن " أيهم " مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها في الحذف، لأنك لو قلت رأيت الذي أفضل منك، ومررت بمن أفضل منك قبح، وذلك حسن في " أيهم " فخالفت أختها بحسن حذف الصلة بعدها، فبنيت على الضم.
وقد خطيء سيبويه في هذا القول، لأن مذهبه أنه إنما أعرب " أيا " إذا انفردت من أجل أنها تضاف. فكيف يعربها من أجل أنها تضاف ويبينها وهي مضافة.
وقال الكسائي: " لننزعن " واقع على المعنى. كم تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام. فترفع " أيهم " بالابتداء.(7/4572)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
وقال الفراء: المعنى: " لننزعن " بالنداء، فيكون معنى " لننزعن ": لننادين. وهذا يتعلق، ولا يتعدى، فحسن الرفع بالابتداء، إذ هو في موضع فعل يجوز أن يعلق عن العمل. أعني " لننزعن " وقع موقع " لننادين ". ونادى/ فعل يعلق عن العمل إذا كان بعده جملة. فلا يعمل في اللفظ ويعمل في المعنى كظننت وحسبت.
وقال بعض الكوفيين في " أي " معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها.
وقال المبرد: " أيهم " متعلقة بشيعة لا بننزعن. والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم. أي: من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد. فيكون المعنى على هذا ثم لننزعن من هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصف عنهم.
قوله تعالى ذكره: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} إلى قوله {فِيهَا جِثِيّاً}.
أي: ثم لنحن أعلم بالذين ننزعهم من كل شيعة فيقدمهم إلى العذاب فيصلونه.
" وصلياً " مصدر صلى يصلي صلياً، على فعول وأصله صلوي: ثم أعل وكسرت اللام.
ثم قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}.
المعنى: وإنّ من هؤلاء القوم، الذين هذا القول المتقدم قولهم في البعث، إلا وارد(7/4573)
جهنم.
{ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}.
أي: اتقوا الشرك، وأمنوا بالبعث، فهي مخصوصة فيمن تقدم ذكره على هذا القول.
وقيل: هي عامة. والمعنى: ما منكم أحد إلا يرد جهنم. كان ذلك على ربك يا محمد قضاء مقضياً في أم الكتاب.
وقال ابن مسعود وقتادة معناه: قضاءً واجباً.
قال ابن عباس: الورود، الدخول. واحتج بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} وبقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} وقل محتجاً للدخول: دخل هؤلاء؟ أم لا؟. وقاله ابن جريج.
وقاله ابن عباس: يردها البر والفاجر.
وقيل: إنهم يردونها وهي خامدة.(7/4574)
وعن كعب أنه قال: تمسك النار للناس كأنها متن أهالة، حتى تستوي عليها أقدام الخلق، برّهم وفاجرهم. ثم ينادي بها مناد امسكي أصحابك ودعي أصحابي. فتخسف بكل ولي لها. فلهي أعلم بهم من الرجل بولده، وخرج المؤمنون ندية ثيابهم.
وقال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنة جهنم مسيرة سنة.
وقال ابن مسعود: الورود: الدخول.
وقال قتادة: هو الممر عليها.
وقيل: الورود هو الجواز على الصراط. والصراط على شفير جهنم مثل حد السيف. فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة، كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم. ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم.
وعن ابن عباس، أن الورود الدخول، ولكن المخاطبة للكفار خاصة. وذلك قال عكرمة.(7/4575)
وقال ابن زيد: الورود عام، للمسلم والكافر، إلا أن ورود المؤمن المرور.
ودل على هذا أن ابن عباس وعكرمة قرآ: وإن منهم إلا واردها يريدان الكفار برد الهاء والميم على ما تقدم من ذكر الكفار.
وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين} بفتح التاء. إلا أن عليا قرأ " تَنحَّى بالحاء " وكذلك قرأ ابن أبي ليلى بفتح التاء.
فورود المؤمن على الجسر بين ظهريها، وورود الكافر الدخول. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الزالون والزالات يؤمئذٍ كثيرة وقد أحاط بالجسر سماطان من الملائكة، دعواهم يومئذٍ يا الله سلم سلم ".
وقال مجاهد: " الحمى حظ كل مسلم من النار.
وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وعكَ، وأنا معه.(7/4576)
فقال: إن الله جلّ ذكره يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة ".
وقال السدي: يردونها كلهم، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم.
وروت حفصة، " أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال إني لأرجو أن لا يدخل أحد شهد بدراً والحديبية. قالت: فقلت: يا رسول الله، أليس الله جلّ وعزّ يقول: " وإن منكم إلا واردها؟ قال لها: أولم تسمعيه يقول: " ثم نُنَجي الذين اتقوا ".
وقيل: المعنى: وإن منكم إلا وارد القيامة. وهذا اختيار الطبري ودل على هذا قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] وقوله: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].
ودل على هذا أيضاً قوله تعالى/ قبل الآية " {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين}(7/4577)
فالحشر إنما هو في القيامة.
وروى ابن وهب عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير الورود: " وإن منكم يا أهل هذا القول إلا وارد جهنم ". يعني: الذين أنكروا البعث فقالوا: أإذا متنا لسوف نخرج أحياء إنكاراً منهم بالبعث.
وقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} أي: ننجيهم من ورودها فلا يردونها.
وقيل: معناه: وإن منكم إلاّ يحضر جهنم ويعاينها، لا يدخلها إلا من وجب عليه دخولها. ودليله قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] فهو لم يدخل الماء، إنما حضر قرب الماء وعاينه، لم يدخله فكذلك هذا، يحضرون كلهم جهنم ويعاينونها وينجي الله من دخولها المتقين وهو قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}.
ثم قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}.
أي: ننجي من النار بعد الورود الذين اتقوا الله وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه.
ثم قال: {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} أي: وندعهم في النار بروكاً على ركبهم. كذا قال قادة. وقال: إن الناس يردون جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم فأنجوا منها، وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم واحتبسوا بذنوبهم.
قال ابن زيد: لا يجلس الرجل جاثياً إلا عند كرب ينزل به.(7/4578)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات} إلى قوله: {وَأَضْعَفُ جُنداً}.
المعنى: أن الكفار من قريش كانوا إذا تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم آيات القرآن، قالوا للذين آمنوا (أي الفريقين منا ومنكم خير مقاماً) أي: خير موضع إقامة، وهي مساكنهم " وأحسن ندياً " أي [مجلسا].
يتركون التفكير في آيات الله والاعتبار بها ويأخذون في التفاخر بحسن المسكن وحسن المجلس.
قال ابن عباس: " المقام " المسكن. و " الندي " المجلس.
يقال: ندوت القوم أندوهم ندواً، إذا جمعتهم في مجلس [واحد]. ومنه دار الندوة المتصلة بالمسجد الحرام، لأنهم كانوا يجتمعون فيها إذا كربهم أمر. ومنه قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29] ومنه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] أي أهل مجلسه. ويقال: هو في ندي قومه، وفي ناديهم بمعنى: مجلسهم وندي: جمع أندية.
ثم قالت تعالى ذكره: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}. أي: وكثيراً يا محمد أهلكنا من القرون هم أحسن أثاثاً ورِئْيا قبل هؤلاء القائلين للمؤمنين: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً.
قال ابن عباس: " الأثاث ": المتاع. " والرئي: المنظر.
أي: أحسن متاعاً وأحسن مرئى ومنظراً من هؤلاء فأهلك الله أموالهم،(7/4579)
وأفسد صورهم وكذلك قال ابن زيد ومجاهد: " الأثاث: المتاع و " الرئي ": المنظر.
وقال معمر: أحسن أثاثاً: أحسن صوراً. ورئياً: أموالاً.
وروي عن ابن عباس: " أحسن أثاثاً وزياً " بالزاي.
وقرأ طلحة " ورياً " خفيفة الياء من غير همز.
ومن شدد الياء، جعله من رأيت، ولكن خفف الهمزة، فأبدل وأدغم. ويجوز أن يكون من رويت روية ورياء فيكون معناه أيضاً منظراً، لأن العرب تقول: ما أحسن روية فلان في هذا الأمر؟. . إذا كان حسن النظر فيه، والمعرفة به.
ويجوز أن يكون من ري الشارب. فيكون المعنى أن جلودهم مرتوية من النعمة.(7/4580)
وأجاز الأخفش أن يكون من ري المنظر.
ومن همز جعله من رؤية العين.
" والأثاث " جمع واحدة أثاثه كالحمام والسحاب. هذا مذهب الأخفش.
وقال الفراء: لا واحد له كالمتاع.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء القائلين - إذا تتلى عليهم آياتنا بينات - أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً من كان من ومنكم في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً. فهو لفظأ مر، ومعناه الخير. جعل الله جزاء ضلالته في الدنيا أن يطول فيها، ويمد له كما قال تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كأن المتكلم يلزمه نفسه، كأنه يقول: أفعل ذلك وآمر نفسي به، فهو أبلغ.
فلذلك أتى به على الخبر.
ومعناه: فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فإن مصيره إلى الموت والعذاب.(7/4581)
قال ابن نجيح معناه: فليدعه في طغيانه.
ثم قال تعالى: {/حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب}.
يعني به النصر، فيعذبوا بالقتل والسبي.
" وإما الساعة " يعني يوم القيامة، فيصيرون إلى النار. و " إما " للتخيير. وهي عند المبرد إن زيدت عليها " ما ". واستدل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر، جاز له حذف " ما ". وليست عند غيره إلا حرفاً واحداً. ولم يختلفوا فيها في العطف أنها حرف واحد.
وقال أبو العباس: إذا قلت ضرب ما زيداً وإما عمراً، فالأولى دخلت لبنية الكلام على الشك، والثانية للعطف.
وقال ابن كيسان: " أما ": للشك والتخيير، والواو هي العاطفة.
وأجاز الكسائي: إما زيد قائم على النفي يجعل " إما " بمنزلة " ما ".
وأجاز الفراء أن تأتي " إما " مفردة بمنزلة " أو ". قوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً}.(7/4582)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
أي: مسكناً، منكم ومنهم.
{وَأَضْعَفُ جُنداً} أهم؟ أم أنتم؟ يعني: إذا نصر الله المؤمنين.
فأما قراءة طلحة، فإنما يجوز على تقدير. القلب وإلقاء حركة الهمزة على الياء بعد القلب.
قوله تعالى: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} إلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْداً}.
أي: ويزيد الله المؤمنين هدى، لأنهم يؤمنون بكل ما أنزل إليهم من الفرائض، ويصدقون بها، ويعملون بها، فهم في زيادة إيمان وهذا مثل قوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}. . [التوبة: 124] الآية.
وقيل: يزيدهم بإيمانهم بالناسخ والمنسوخ.
وقيل: هو زيادة في اليقين يجعل جزائهم في الدنيا أن يزيدهم في يقينهم هدى.
ثم قال تعالى: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً}.
يعني: الأعمال الصالحات هي خير عند ربك جزاء لأهلها.
{وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} عليهم من مقامات هؤلاء المشركين في أنديتهم، وافتخارهم بها(7/4583)
في الدنيا. وقد تقدم ذكر الباقيات الصالحات، واختلاف العلماء في معناها في " الكهف ".
وقد قيل: " الباقيات الصالحات " الإيمان والأعمال الصالحة وسماها باقية، لأنها تنفع أهلها في الدنيا والآخرة ولا تبطل كأعمال الكفار الذين لا يريدون بها ما عند الله.
وروي " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال: إن لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله يحططن الخطايا كما تحط ورق الشجر الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك بينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة. فكان أبو الدرداء، إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون ".
وإنما سميت هذه الكلمات بالباقيات الصالحات لأنها تبقى لأهلها حتى يردوا عليها في الجنة.(7/4584)
وروى أبو هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا جنتكم خذوا جنتكم فقالوا: يا رسول الله، أمن عدو قد حضر؟ قال: لا، ولكن من النار. قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات، هن الباقيات الصالحات ".
ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً}.
هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي.
قال خباب: كنت قينا - والقين الحداد - قال: وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. قلت: والكله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث.
قال: وإني لمبعوث؟ قلت: نعم. قال: فإنه سكون لي ثم مال وولد، فأقضيك. فأنزل الله جل ثناؤه {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا. . .} الآيات إلى(7/4585)
{. . . فَرْداً}.
وكذلك قال مجاهد:
وقال ابن عباس: كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوا يتقاضونه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهباً وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى.
قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله تعالى مثله في القرآن في قوله: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا}. إلى {فَرْداً}.
ثم قال تعالى: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً}.
أي: اعلم هذا القائل الغيب فقال ذلك عن علم/ غيب عنده؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟ أي: أم آمن بالله ورسوله وعمل بطاعته فكان له بذلك عهد عن الله فؤتيه ما يقوله له في الآخرة؟.
قال قتادة: " عهداً " عملاً صالحاً قدمه. وقاله: سفيان.(7/4586)
وقيل: " العهد " التوحيد: " لا إله إلا الله ".
وقيل: " العهد: الوعد.
وقال عبد الله بن عمر: يقول الله تعالى يوم القيامة: من كان له عندي عهد، فليقم، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلّمنا. فقال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك عهداً في هذه الحياة الدنيا، إنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحتمك، فاجعلها لي عندك عهداً تؤديه إلى ايوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
ثم قال تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} المعنى: ليس الأمر كما قال أنه يؤتى في القيامة مالاً وولداً.
قال أبو محمد ول " كلا " كتاب مفرد في القرآن، قد ألفناه وكتب عنا، ولذلك لم نشبع الكلام فيها ها هنا.(7/4587)
ثم قال: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}.
أي: سنكتب قوله، فنجازيه عليه، فنمد له من العذاب مداً. أي: نزيده زيادة من العذاب على قوله هذا. أي: نطول له العذاب غير ماله من العذاب على كفره.
ثم قال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}.
أي: نرث منه ماله وولده يوم القيامة {وَيَأْتِينَا فَرْداً} أي: وحده لا مال له، ولا ولد.
وقوله: " ونرثه " هو، فعل من فعل يفعل بالكسر فيهما، كما جاء بالضم في الفعلين في مثل: ظرُف يظرُف. ونظيره: ورم يرم وومق يمق، ووري الزنديري، ووفق بأمره يفق، وورع يرع ووثق، يثق، ومنه وسع يسع ووطيء يطأ. وإنما فتح من أجل حرف الحلق، والدليل على أنه يفعل بالكسر في الأصل، حذف الواو منه في المستقبل. وبعدها فتحة، ولم يعتد بالفتحة، إذ هي غير أصلية، إنما أحدثها(7/4588)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
حرف الحلق، والكسر هو الأصل، فلذلك حذفت الواو في المستقبل على أصل حذفها في: يزن، ويعد وشبهه.
وقد أتت أربعة أفعال من السالم على يفعَل ويفعِل باللغتين في المستقبل وهي حسب يحسب، ونعم ينعم، ويبس يبس ويئس ييسأس.
وحرف الجر، مقدر محذوف من المفعول الأول في " ونرثه " أي ونرث منه قوله.
وفي حرف ابن مسعود، و " نَرِثُهُ ما عِنْدَهُ ".
وقال ابن زيد: " وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ " ما جمع من الدنيا، وما عمل فيها.
وقيل: معناه: ويبقى عليه الإثم.
قوله تعالى ذكره: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} إلى قوله: {عِندَ الرحمن عَهْداً}.
المعنى: واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها، لتكون لهم منعة من(7/4589)
عذاب الله.
ومعنى: " كلا " أي: ليس الأمر على ذلك، لا تمنعهم من عذاب الله.
ثم قال: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}.
أي: ستجحد الآلهة يوم القيامة عبادتهم لها. وهو قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] فتبرؤها منهم هو جحدها لعبادتهم إياها.
ثم قال: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}.
قال ابن عباس: " ضداً ": أعوانا. يعين على عذابهم.
وقال مجاهد: عوناً عليهم، تخاصمهم وتكذيبهم.
قال قتادة: " ضداً " قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
وقال الضحاك: " ضداً " أعداء.(7/4590)
وقال ابن زيد: معناه: ويكونون عليهم بلاء.
وقيل: معناه أن آلهتهم التي عبدوها من دون الله [يوم القيامة] تلعهنم وتدعو عليهم، لأنهم عبدوا الملائكة، فهي تلعنهم وتتبرأ منهم.
وقيل: بل هي الأصنام يحييها الله تعالى [لهم] يوم القيامة لتوبخهم وتكذبهم.
" والضد " في كلام العرب " المخالف ". ووحد " ضد لأنه في معن عوناً. وعون مصدر، فلذلك لم يجمع.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}.
أي: تزعجهم على المعاصي، وتقودهم إليها قياداً، وتغويهم بها.
وقال ابن عباس: تغويهم أغواء.
وقال ابن زيد: تشليهم إشلاء على المعاصي. ومنه أزيز القدر، وهو صوت غليانها. وهذا يؤكد تحقيق القدر.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أي: فلا تعجل يا محمد، على(7/4591)
هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك، إنما نعد أعمالهم وأنفاسهم لنجازيهم على جميعها ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير نريده بهم، ولكن ليزدادوا إثماً.
قال ابن عباس: " إنما نعد لهم عداً " يعني نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم وآجالهم.
ثم قال تعالى: / {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً}.
التقدير: إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها يوم نحشر المتقين.
فالعامل في " يوم " ما دل عليه الكلام الأول وهو " نجازيهم " يوم كذا.
ومعنى الآية: يوم يجمع الله الذين اتقوا في الدنيا، وخافوا عقابه إلى جاء الرحمن ووعده.
" وفداً هو بمعنى جمع وافد، ونصبه على الحال، ووحد لأنه مصدر، " والوفد ": " الركبان.
قال علي رضي الله عه: أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقاً، ولكنهم يوتون بنوق، ولم تر الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، أزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة.
وقال أبو هرية: " وفداً " على الإبل.(7/4592)
وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يبعث الله الأنبياء يوم القيامة إذا حشروا، على الدواب، ويبعث صالح نبي الله على ناقته، حتى يوافوا بالمؤمنين من أصحابهم المحشر، ويبعث أبنائي الحسن والحسين على ناقتي العضباء والقصواء وأبعث أنا على البراق، وخطوها عند أقصى طرفها. ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي بالأذان، غضا، حتى إذا بلغ. أشهد أن محمداً رسول الله، شهد بها جميع الخلائق من المؤمنين والكافرين، فيقبل ذلك من المؤمنين، ويرد على غيرهم من أهل الشك والتكذيب ".
وقيل: معنى " وفداً " أي: وافدين على ما تحبون. من كان يحب ركوب الخيل، وفد على الله على خيل لا تروث، ولا تبول، لجمها من الياقوت الأحمر، ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض، وسرجها من السندس والاستبرق. من كان يجب الإبل، فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول، أزمتها الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب السفن،(7/4593)
فعلى سفن من زبرجد أخضر، وأمواج مثل ما بين السماء والأرض قد أمنوا الغرق والأهوال.
وروى عمرو بن قيس الملائي أن المؤمن إذاخرج من قبره، استقبله أحسن صورة وأطيبه ريحاً. فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله عز وجل قد طيب ريحك، وحسن صورتك، فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك، فاركبني أنت اليوم، وتلا {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً}.
قال قتادة: " وفداً " إلى الجنة.
وقال ابن جريح: على النجائب.
وقال الثوري: على الإبل والنوق.
وفي هذا الخبر إيماء إلى الجزاء والثواب، لأن الوفد هم الواردون على الملوك، المنتظرون العطاء والبر والإكرام منهم.
ورويَ أن المؤمن يستقبله عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبه(7/4594)
ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلا أن الله تبارك وتعالى [قد] طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، هكذا كنت في الدنيا حسن العمل، طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلّما اركبني، فيركبه. فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} قال: ويستقبل الكافر أو قال الفاجر عند خروجه من قبره أقبح صورة رآها، وأنتنها ريحاً فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفين؟ فيقول: لا، إلا أن الله تبارك وتعالى قد قبح وجهك، وأنتن ريحك. فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا فهلمّ أركبك، فيركبه، فذلك قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31].
ثم قال تعالى ذكره: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً}.
أي: عطاشاً، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وقتادة والثوري. فيكون تقديره: ذي ورد يقال للواردين الماء ورد وروداً، مصدر وصف به الجمع، فلذلك لم يجمع.
وروى المقدام بن معد يكرب: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحشر المؤمنون يوم القيامة(7/4595)
فيحشر السقط إلى الشيخ الفاني أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في مثل خلق آدم، وحسن يوسف وقلب أيوب، مرداء مكحلين، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكافر فقال: يعظم للنار حتى يصبر غلظ جلده أربعون ذراعاً وحتى يصير ناب من أنيابه مثل أحد ".
ثم قال تعالى {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً}.
أي: لا يملك أحد من المجرمين الشفاعة لأحد، لكن من اتخذ عندج الرحمن عهداً بالإيمان، فإنه يملك الشفاعة.
ف " من " في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
وقيل: هي في موضع رفع على البدل من الضمير في " يملكون ". فيكون التقدير: لا يملك الشفاعة إلا المؤمنون، فإنهم يشفعون.
وقيل: التقدير: لا يملك أحد من المتقين الشفاعة إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، أي: من آمن في الدنيا، فلما حذفت اللام، صارت " من " في موضع نصب.
وقال ابن عباس: " العهد " شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحلول والقوة، ولا يرجو إلا الله.(7/4596)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
وقال ابن جريج: " عهد " عمل صالح.
وقال الليث: " العهد " حفظ كتاب الله.
وقال مقاتل: " عهداً صلاة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الشهيد ليشفع في سبعين من أهل بيته ".
وأنه قال: " إن من أمتي رجلاً ليدخلن الله بشفاعته الجنة أكثر من بني تميم ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ".
فيكون قوله: " لا يملكون ". . ومابعده. في موضع نصب حال من المجرمين، أو من المتقين.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} إلى قوله:(7/4597)
{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً}.
معناه: وقال هؤلاء الكفار بالله: اتخذ الرحمن ولداً، فقال لهم جلّ ذكره: {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}. أي: عظيماً. أي: قلتم قولاً عظيماً. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة.
ويقال: أد واد واد على فاعل بمعنى واحد.
ثم قال تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}.
أيك يتشققن مما قلتم.
{وَتَنشَقُّ الأرض} أي: تتصدع.
{وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} أي: يسبقط بعضها على بعض سقوطاً.
وقال ابن عباس: " هداً " هدمً.
والهد الأنقاض.
وقال ابن عباس: إن الشرك فزعت منه السماوات، والأرض، والجبال، وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكدن أن يزلن منه لعظمة الله. وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين مع التوحيد.(7/4598)
قال القرظي: لقد كاد عباد الله أن يقيموا علينا الساعة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله. ومن قالها عند موته وجبت له الجنة، قالوا: يا رسول الله، فمن قالها في صحته؟ مقال: تلك أوجب وأوجب. ثم قال: والذي نفسي بيده، لو جيء بالسموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وما تحتهن، فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى، لرجحت بهن ".
قال كعب: غضبت الملائكة، واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا.
ثم قال تعالى جل ثناؤه: {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً}. أي: من أجل أهم جعلوا له ولداً.
قال أبو ذؤيب: " دعوا " بمعنى " جعلوا.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}. أي ما يصلح له أن يتخذ ولداً، لأن كل ولد يشبه أباه، والله لا يشبهه شيء.
ثم قال: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً}.
أي: إلا هو عبد الكله، خاضعاً، ذليلاً.(7/4599)
وهذه الآية تدل على أن الرجل لا يملك، ولده، فإذا صار إليه بشراء أو إرث أو هدية عتق عليه، إن شاء أو أبى.
ومعنى: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} أن الرحمن لا شبيه له، والولد يشبه والده ومن جنسه يكون. فلو كان له ولد لأشبهه، ولكان من جنسه، وهو لا شبيه له وإلا مثل، فهذا أمر لا يتمكن، ولا ينبغي أن يكمون، فهو مستحيل ممتنع سبحانه لا إله إلا هو.
ثم قال: {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً}.
أي: علمهم، وعدهم أجمعين، فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً}. أي: جميع الخلائق يعرضون على الله يوم القيامة منفردين، لا ناصر لأحد منهم، فيقضي الله فيهم ما هو قاض.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً}.
أي: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم، وانتهوا عما نهاهم، سيجعل لهم/ الرحمن في الدنيا في صدور عباده المؤمنين محبة، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين، وكذا قال ابن جبير عن ابن عباس.(7/4600)
وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل بقلبه إلى الله عز وجل، إلا أقبل الله تعالى بقلوب المؤمنين إليه حتى يزرقه مودتهم ومحبتهم.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنهـ يقول: " ما من الناس أحد يبذل خيراً أو شراً، إلا كساه الله رداء عمله.
ويروى أن هذه الآية نزلت في عبد الحرمن بن عوف، وذلك أنه لما هاجر إلى المدينة، وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة، فأنزل الله جل وعز، الآية يعزّيه بها ويخبره أنه سيحدث له في قلوب المؤمنين الذين هاجر إليهم محبة.
وقيل: إن الله تعالى جعل [له] في قلوب المؤمنين محبة، فلا ترى مؤمناً إلا يحبه.(7/4601)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} إلى آخر السورة.
فإنما سلهنا يا محمد، هذا القرآن بلسانك، وبلغتتك لتبشر به من آمن وتنذر من كفر من قومك.
ومعنى: {قَوْماً لُّدّاً} أي: أشداء في الخصومة، لا يقبلون الحق.
قال ابن عباس: " قَوْماً لُدّاً " أي: ظلمة.
وقال أبو صالح: لداً: عوجاً ع الحق.
وقال مجاهد: اللّد ": الظالم الذي لا يستقيم.
وقال قتادة: " لداً " جدلاً بالباطل.
وقال حسن: " لدا " صماً ".
وقال أبو عبيدة: " اللّد " الذي لا يقبل الحق، ويدعي الباطل.
وعن مجاهد: " قوماً لداً " فجاراً.
ثم قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}. أي: وكثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين، بلسوكهمه مسلك قومك في الكفر والخصومة في الدين.
{تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ}.(7/4602)
أي: هل ترى منهم من أحد أو تعاينه {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}. أي: صوتاً. بل بادوا وهلكوا، ولقوا ما عملوا، وكذلك، قومك يا محمد صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن ماتوا على ما هم عليه من الكفر، يقال: أحسست فلاناً: أبصرته، وحسسته أحسه قتلته.
قال قتادة: معناه: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً.
والرِكْز في كلام العرب الصوت الخفي.(7/4603)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طه (مكية)
قوله تعالى ذكره: {طه * مَآ أَنَزَلْنَا} إلى قوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى}.
قد قدمت علة الإمالة في هذه الحروف في أول " مريم ".
وأتى أول هذه السورة على غير ترتيب أوائل السور، لأن جميع أوائل السور يحتمل أن يكون ما بعدها خبراً لها، ولا يجوز أن يكون ما بعد " طه " خبراً لها، لأنه نفي، فلذلك تأولوه بمعنى " يا رجل " و " يا إنسان ".
وقيل: هو أمر من وطيء.
وروي عن بعضهم أنه قرأ " طه " بإسكان الهاء. وهي قراءة مروية عن الحسن وعكرمة، وفيها تقديران أحدهما أنه أراد الأمر من وطيء. أي: طأ الأرض. ولكن أبدل من الهزة هاء، كما قالوا: إياك وهياك.
وقيل: إنه إبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذف الألف لدلالة الفتح عليها، وأتى بهاء للسكت.(7/4605)
وقيل: الهاء هاء الكناية عن المكان. أي: طأ يا محمد المكان الذي تصلي فيه برجليك، ولا تقف على رجل واحدة، فتتعب. ودل على هذا المعنى قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} فأسكنت هاء الكناية على نية الوقف، أو على التشبيه بهاء السكت.
وقد قيل: إن الهاء في قراءة الجماعة تعود على الأرض، أي: طأ الأرض يا محمد برجليك في صلاتك، والألف في طأ بدل من همزة ساكنة.
ومن قرأ " طه " بحذف الألف، وإسكان الهاء فهو أمر بالوطء لكنه أبدل من الهمزة ألفاً قبل الأمر، ثم حذف الألف للأمر، والهاء تعود على المكان على ما ذكرنا، أو هي هاء سكت كما ذكرنا، أو هي بدل من همزة ساكنة على ما قدمنا، فهذه ثلاثة أقوال في الهاء في قراءة من قرأ " طه " بحذف الألف، وإسكان الهاء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لي عند ربي جلّ وعزّ عشرة أسماء " " فذكر أن منها " طه " و " يس " إسمان له.(7/4606)
قال ابن عباس: " طه " بالنبطية: يا رجل. وهو قول الضحاك.
وقال أبو صالح: هي بالنبطية أيطأ.
وقال ابن جبير: طه بالسريانية: يا رجل. وهو قول قتادة.
وقال عكرمة: " طه " بالنبطية: يا إنسان.
وعن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم [الله به].
وهذه الآية نزلت فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصعنه من السهر والتعب والقيام بالليل.
قال الضحاك: كانوا يقومون حتى تتشقق، أقدامهم، فقال المشركون: ما نزل هذا القرآن إلا للشقاء، فأنزل الله تعالى ذكره: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى}.(7/4607)
أي: ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعب في صلاته، ويقف على رجل واحدة، فأنزل الله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى}.
قال مجاهد: هذا في الصلاة. قال: هي مثل قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].
قال قتادة: " أنزل الله كتابه، وبعث رسوله رحمة، رحم بها الله العباد، ليتذكروا، وينتفع رجل بما سمع منه.
ونصب تذكرة على البدل من " لتشقى ".
وقيل: هي مفعول من أجله.
وقيل " نصبها على المصدر.
وقال الكوفيون: هي تكرير.
وقيل: من حروف الهجاء.
وقيل: هي حروف مقطعة، يدل كل حرف منها على معنى، وقد تقدم ذكر ذلك.(7/4608)
وقال الطبري: " طه " يا رجل، لغة معروفة في عك. قال الشاعر:
هَتَفْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوائِلاَ
وقال آخر:
إنَّ السًَّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقِكُمْ ... لا بارَكَ اللهُ في الْقَوْمِ الملاَعِينِ
والتقدير على هذا: يا رجل، ما أنزلن عليك القرآن لتشقى بإنزاله عليك. ولا يوقف على " طه " على هذا القول، لأن النداء تنبيه على ما بعده. ومن جعلها افتتاحاً وقف عليها، وهو مذهب أبي حاتم.
ثم ابتدأ فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} وكذلك لا يقف عليها على قول من جعلها قسماً، لأن القسم يحتاج إلى جواب، وجوابه: {مَآ أَنَزَلْنَا}.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " طا " ويبتدئ ها. وليس عليه عمل عند أهل النقل من المقرئين.
وقيل: تقدير الكلام: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، لا لتشقى.(7/4609)
ثم قال تعالى: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى}.
أي: نزلناه تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى. " والعلى " جمع " علياً ": كالفضلى. والفضل.
ثم قال: {الرحمن عَلَى العرش استوى}.
أي: على عرشه، ارتفع وعلا.
قال أبو عبيدة: استوى: " علا.
وقال القتبي: استقر.
وقيل: معناها: استولى.
وأحسن الأقوال في هذه " علا " والذي يعتقده أهل السنة، ويقولونه في هذا: إن الله جلّ ذكره، سماواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل م كان بعلمه، وله تعالى ذكره كرسي وسع السماوات والأرض كما قال جل ذكره. وكذلك ذكر شيخنا أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله.(7/4610)
وقد سأل رجل مالكاً عن هذا، فقال له: كيف استوى؟ فاحمرت وجنتا مالك، وطأطأ رأسه، ثم رفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيما به واجب والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن يكون ضالاً. أخرجوه، فأخرج، فناداه الرجل، يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله غيره، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل العراق، إلى أن وردت عليك، فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.
وروي أن خباب بن الأرت قرأ " طه " على عمر بن الخطاب إلى قوله: " فتردى " فأسلم عمر عند ذلك.
و" العلى " تمام إن رفعت " الرحمن على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ، فإن جهلته بدلاً من الضمير في " خلق " لم تقف عليه.
و" أستوى " تمام إن جعلت " الرحمن " بدلاً من الضمير في " خلق " أو على إضمار مبتدأ، فإن جعلت " له ما في السموات " في موضع خبر الرحمن، لم تقف على استوى.
ثم قال: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا}.
أي: هو يملك ذلك كله ويدبره/.(7/4611)
وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى}: الثرى: التراب المبتل الندي يعني: وما تحت الأرضين السبع.
وقال محمد بن كعب: الثرى: سبع أرضين.
وقال ابن عباس: الأرض على نون، ونون على البحر، والبحر على صخرة وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات} [لقمان: 16] والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، وما يعلم ما تحت الثرى إلا الله.
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضين سبعة بين كل أرضين بحر، فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم، ولولا عظم ذلك البحر، وكثرة مائة وبرده، لأحرقت جهنم كل شيء فوقها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من ظلمة لا يعلم غلظه إلا الله، وذلك الحجاب على الثرى، وإلى الثرى انتهى علم الخلائق، لا يعلك ما تحت الثرى إلا الله.
وقال الضحاك: الأرض السابعة على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله.(7/4612)
وسئل كعب ما تحت الأرض؟ قال ماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال أرض. قيل فما تحت الأرض؟ قال: ماء، حتى بلغ سبع أرضين. قيل: له: لما تحت الأرض السابعة. قال: ماء. قيل فما حت الماء. قال صخرة، قيل فما تحت الصخرة؟ قال: هي على منكب ملك. قيل: فما تحت الملك؟ قال: هو قائم على وسط حوت معلق طرفاه بالعرش. قيل له: فما تحت الحوت قال: هواء وظلمات وانقطع العلم.
وروى ابن وهب عن رجاله أن كعب الأحبار قال: إن إبليس يقلقل للحوت الذي على ظهره الأرض كلها. قال: فألقى في قلبه. فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوبيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال، لو هضتهم فألقيتهم عن ظهرك كلهم. قال: فهم لوبيا يفعل ذلك، فبعث الله تعالى دابة، فدخلت في منخره حتى دخلت في دماغه فعج إلى الله منها، فخرجت. قال: وكان كعب يقول: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها، بين يديه وتنظر إليه، إن همَّ بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
وروى عاصم عن زر عن ابن مسعود أنه قال: ما بين سماء الدنيا والتي تليها(7/4613)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
مسيرة خمس مائة عام، وما بين سماء إلى سماء مسيرة خمس مائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسة مائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء مسيرة خمس مائة عام، والعرش فوق ذلك، والله جل ذكره فوق العرِِش.
وعن ابن عباس: أيضاً أنه قال: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام، وذكر أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
قوله تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى}.
أي: وإن تجهر بالقول يا محمد، فإن الله تعالى يعلم ما أسررت في نفسك، وأخفى منه.
قال الحسن ومجاهد وعكرمة: " السر ": ما أسررته إلى غيرك، " وأخفى " ما حدثت به نفسك.
وقال الضحاك: " السر " ما حدثت به نفسك، و " أخفى " ما لم تفعله وأنت فاعله "، وكذلك، روي عن ابن عباس.
قال ابن عباس: و " أخفى " ما تعمل غداً.(7/4614)
وقال ابن جبير: " السر ": ما أسره الإنسان في نفسه، " وأخفى ": ما لم يعلم الإنسان مما هو كائن.
وقيل: معنى: " وآخفى ": ما ليس في نفس الإنسان. وسيكومن ذلك في نفسه، فهو لا إله إلا هو يعلم ما سيجري في نفس الإنسان قبل أن تجري.
وقال ابن زيد: " يعلم السر " أسرار العباد وأخفى سره. وقاله أبوه زيد بن أسلم. أي: يعلم سر عباده، وأخفى سره، فلا يعلمه أحد جلّ وعزّ، وهذا اختيار النحاس. وأنكر هذا القول الطبري.
وقوله: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى}، أتى على غير ظاهر، جواب قوله: " وإن تجهر بالقول، إنما هو جواب لمن قيل له وأن تستر بالقول، فإن الله يعلم السر وأخفى، ولكنه محمول على المعنى، كأنه قال: ما حاجتك إلى الجهر، والله يعلم السر وأخفى من السر.
ثم قال: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى}.
من جعل الله بدلاً من الضمير في " يعلم " لم يقف على " أخفى "، ومن جعله مبتدأ، وقف على أخفى.(7/4615)
أي: معبودكم واحد، لا معبود غيره، ولا إله إلا هو {لَهُ الأسمآء الحسنى} /. هي تسعة وتسعون أسماً على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ألفاضها اختلاف.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لله تسعة وتسعون اسماً: مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة " أي: من حفظها.
وقيل: من آمن بها.
وقيل: من قالها معتقداً لصحتها.
ثم قال تعالى ذكره {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} {إِذْ رَأَى نَاراً}.
معناه: أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما مضى من أخبار الأنبياء عليهم السلام قبله، وما مضى عليهم ليتعزى بذلك مما يناله من قريش.
ذكر: أن موسى عليه السلام أضل الطريق في شتاء ليلاً، فلما رأى ضوء النار، قال لأهله: امثكوا لعلي أتكيم بخبر نهتدي به على الطريق أو آتيكم بقبس توقدونه في هذا البرد.
قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل، سار بأهله فضل الطريق.
قال وهب بن منبه: لما قضى موسى الأجل.
خرج ومعه غنم له، ومعه زندله وعصاه في يده، يهش بها على غنمه نهاراً، وإذا أمسى اقتدح ناراً فبات عليها وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بغنمه وبأهله يتوكأ على عصاه، فلما كان الليلة التي أراد الله(7/4616)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
جلّ وعزّ بموسى كرامته، وابتدأه فيها بنبوته، أخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليبيتوا عليها ويصبح ويعلم وجه سبيله، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها. {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً}، أي أبصرتها، لعلي آتيكم منها. . . الآية. ..
وقيل: معنى: " آنست " علمت ووجدت.
و" القبس " النار في طرف العود أو قصبة.
{أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى}.
أي: دلالة تدلني على الطريق، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: " هدى " أي: هادياً يهدي إلى الطريق.
وقال وهب: " أو أجد على النار هدى " أي: علماً من أعلام الطريق يدلني عليه.
قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى * إني أَنَاْ رَبُّكَ} إلى قوله: {بِمَا تسعى}.
أي: فلما أتى النار موسى، ناداه ربه: يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك.
قال وهب: خرج موسى نحو النار، فإذا هي في شجرة من العليق. (وبعض(7/4617)
أهل الكتاب يقول في عوسجه] فلما دنا، استأخرت عنه، فلما رأى تأخرها عنه، رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد أن يرجع دنت منه ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت، استأنس فقال له الله {فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} فخلعهما وألقاهما.
قال كعب: " كانتا من جلد حمار ميت، فأمر بخلعهما، وأراد الله أن يمسه القدس، وكذلك قال عكرمة وقتادة.
وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كانت على موسى يوم كلّمه الله جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلاه من جلد حمار غير ذكي ".
وقال الحسن: كانتا من جلد بقر، ولكن الله تعالى أراد أن يباشر بقدميه بركة الأرض. وكان قد قدس الوادي مرتين. وكذلك قال ابن جريج. وهذا القول اختيار الطبري، لأن الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما من جلد حمار غير ذكي.
وقوله: {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى}.
أي: المطهر.(7/4618)
وقال ابن عباس: " المقدس ": المبارك.
وقال مجاهد: {المقدس طُوًى}: بورك فيه مرتين.
ويروى أن موسى صلى الله عليه وسلم لما خرج من مدين ومعه امرأته بنت شعيب ريد مصر أخطأ الطريق، وكان صلى الله عليه وسلم رجلاً غيوراً، فكان يصحب الناس بالليل، ولا يصحبهم بالنهار، فأخطأ الطريق عند انفراده لما سبق في علم الله من أمره. فرأى ناراً. فقال لأهله امكثوا، إني أبصرت ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. أي: من يهديني إلى الطريق، وكانت ليلة مظلمة، فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجر عناب، فوقف متعجباً من ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة. فلا شدة النار تغيّر خضرة تلك الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة يغيّر حسن ضوء النار. فلما أتى الشجرة سمع النداء، يا موسى، إني أنا ربك، فاخلع نعليك، وكانتا من جلد حمار ميت.
وقال ابن عباس/: في معنى " طوى " أن موسى طواه الليل إذا مر به فارتفع إلى(7/4619)
أعلى الوادي.
فيكون على هذا مصدراً عمل فيه ما هو من غير لفظه. كأنه قال: إنك يا موسى بالواد الذي طويته طوى: أي: تجاوزته فطويته بسيرك.
وقال قتادة: معناه: قدس مرتين، أين طهره وهو قول الحسن.
وقال مجاهد وابن أبي نجيج: " طوى " اسم الوادي.
وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس. وقاله ابن زيد.
وعن ابن عباس: أنه أمر من الله تعالى لموسى أن يطأ الوادي بقدمه. فالمعنى: اخلع نعليك. طأ الوادي.
وقال ابن جبير: معنه: طأ الأرض حافياً كما تدخل الكعبة حافياً. وكذلك روي أيضاً عن مجاهد.
ومن فتح الهمزة في " إني أنا " فعلى تقدير: " نودي بأني ". ومن كسرها فعلى الاستئناف، لأن النداء وقع على موسى فاستؤنفت " إن بعده، فكسرت.(7/4620)
وقيل: كسرت لأنها حكاية بعدها.
معناه: القول، لأن نؤدي مثل قيل.
ومن صرف " طوى " جعله اسما للوادي مذكراً، فصرفه، وجعله مصدراً.
والأكثر في المصدر من هذا أن يكون مكسور الأول مثل ثنى. ومن لم يصرفه جعله اسماً للبقعة.
وقيل: هو معدول عن طاوي. كعمر، معدول عن عامر، وقد ذهب الكسائي في صرفه إلى أنه صرف لخفته. وكان حقه ألا ينصرف. ولكن سمع صرفه من العرب. وعلقة صرفه قلة حروفه وخفته.
ثم قال تعالى ذكره: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى}.
أي: وأنا اجتبيتك لرسالتي، فاستمع لما يوحى وَعِهِ بقلبك، واعمل به.
{إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني}.
أي: إني أنا المعبود، لا معبود غيري يستحق العبادة فاعبدني.
{وَأَقِمِ الصلاة لذكري}، أي: أقم الصلاة فإنك إذا أقمتها ذكرتني. فتقديره: أقم الصلاة، لأن تذكرني بها، هذا معنى قول مجاهد.
وقيل: معناه: أقم الصلاة حين تذكرها.(7/4621)
ورو ى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها "، قال الله عز وجل: { وَأَقِمِ الصلاة لذكري} وزاد فيه قتادة " لا كفارة لها إلا ذلك ".
وقيل: المعنى: أقم الصلاة لأن أذكرها بالمدح.
وقيل: المعنى: أقم الصلاة إذا ذكرتني.
وقيل: المعنى: أقم الصلاة لتذكرني فيها.
وشاهده أن ابن عباس وأبا عبد الرحمن السلمي قرآ: {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} بلامين، مشددة الذال. أي: لتذكرني فيها.
وقرأ الأعرج وأبو رجا والشعبي: " لِذِكْرَاً " أبدلوا من الياء ألفا. كما(7/4622)
يقال: يا غلاماً.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}. أي: إن القيامة جائية أكاد أسترها.
وقال ابن عباس معناه: لا أظهر عليها غيري.
وقال مجاهد وابن جبير: أكاد أخفيها من نفسي. وقاله قتادة والضحاك.
وقرأ ابن جبير بفتح همزة " أخفيها ". وكذلك روى عن مجاهد والحسن، بمعنى أظهرها. يقال خفيت الشيء وأخفيته بمعنى: أظهرته. ومنه قيل للنباس المختفي، لأنه يظهر الموتى ويقال: أخفى بمعنى ستر. هذا هو المشهور في كلام العرب. وإنما حسن أن تتأول الآية في قراءة من ضم الهمزة على أخفيها من نفسي - والله لا يخفى عليه شيء - لأنه تعالى خاطب العرب ما ما تعرف، وتستعمل فيما بينها من المخاطبات.
وقد كان الرجل منهم إذا تبالغ في الخبر على إخفاء شيء هو له مسر، قال: كدت أخفيه من نفسي. فخوطبوا على أبلغ ما يعقلون.
وقيل: إن: " كاد " بمعنى أريد. وذلك معروف اللغة. فيكون المعنى أريد أخفيها. أي أسترها لتجزي كل نفس بما تسعى.
وقيل: إن تمام الكلام " أكاد " أي: أكاد أن آتي بها، ثم ابتدأ فقال أخفيها أي: ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.(7/4623)
وقيل: أكاد زائدة. وهو قول الأخفش. قال ومنه قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وإنما هو لم يرها.
وقيل: معنى قول من قال: معناها أكاد أخفيها من نفسي، أي من قِبلي ومن عندي.
وقيل: إن المعنى أن الله تعالى قد أرسل الرسل بخبر أن الساعة آتية، وكذب بها الأمم فقال: " أكاد أخفيها " أي: أكاد لا أجعل لها دليلاً، فتأتي بغتة. فلم يخفها تعالى ذكره لأنه قد أرسل الرسل ينذرون الناس ويحذرونهم من قيامها، وإنما احتاج العلماء إلى هذه التأويلات، لأن القائل إذا قال: كدت أخفيه " كان معنى قوله: أنه أظهره، فيجب أن يكون معنى " أكاد أخفيها " أظهرها. وذلك صحيح، لأن الله عز وجل قد أظهر علاماتها وأشراطها.
واختار النحاس أن يكون المعنى: أن الساعة آتية أكاد " تم الكلام أي: " أكاد آتي بها. ودل " آتية " على " آتي بها ". ثم قال " أخفيها " على الابتداء. فصح المعنى، لأنه الله تعالى قد أخفى وقتها.
وقوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} اللام متعلقة بـ " آتية ".(7/4624)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
وقيل: بـ {وَأَقِمِ الصلاة لذكري}. أي: لتثاب كل نفس من المكلفين بما تعمل من خير وشر.
و" السعي " العمل. وأجاز أبو حاتم الوقف على " أخفيها ". ويبتدئ بلام {لتجزى} بجعلها لام قسم. وذلك غلط ظاهر.
قوله تعالى ذكره: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} إلى قوله: {سِيَرتَهَا الأولى}.
أي: فلا يردنك عن العمل للساعة من لا يؤمن بها. أي: من لا يؤمن بالبعث. {واتبع هَوَاهُ} أي: هوى نفسه، وخالف أمر الله.
{فتردى} أي: فتهلك إن فعلت ذلك.
وقيل المعنى: فلا يصدنك يا موسى، عن الإيمان بالساعة من لا يؤمن بها، وهذا خطاب لموسى عليه السلام، والمراد به الجميع.
ثم قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى}.
" ما " لفظها، لفظ الاستفهام، ومعناها [معنى] التنبيه والتثبيت والتقرير لما يريد الله منها من إحالتها عما هي عليه. فإذا نبهه وقرره على حقيقتها، لم يقدر بعد استحالتها وكونها حية أن تقول: كذا كانت.(7/4625)
وقال الزجاج: " تلك هنا موصولة بمعنى التي. أي: وما التي بيمينك.
وقال الفراء: " تلك " بمعنى هذه. يوصلان كما يوصل الذي.
وقوله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}.
أي: اتكىء عليها في قيامي وقعودي.
{وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي}.
أي: أضرب بها الشجر، فيسقط ورقها فترعاه الغنم. فالمعنى: وأهش بها الورق. يقال: هش الشجر. إذا خبطه بالعصا. قال ذلك قتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد.
ثم قال تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى}.
أي: ولي في عصاي حاجات أخرى. والمآرب جمع واحدة مأربة ومآربة ومارِبة. بضم الراء وفتحها وكسرها. وهي من قولهم: لا إرب لي في هذا. أي: لا حاجة لي فيه.
وقال: " أخرى " ولم يقل " أخر ". لأن المآرب جماعة، فأتت على ذلك.(7/4626)
قال السدي: " حاجات أخر، أحمل عليها المزود والسقاء.
ثم قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى}.
أي: ألق عصاك. {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى}.
قال ابن عباس: ألقاها فصارت حية تسعة، ولم تكن قبل ذلك حية. قال فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً. فنودي يا موسى، خذها فلم يأخذها. ثم نودي ثانية فلم يأخذها، ثم نودي ثالثة {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى}. أي: هيئتها الأولى، عصا كما كانت، فأخذها.
وقال السدي: ألقاها فإذا هي حية تسعى، فلما رآها تهتز كأنها جان، ولّى مدبراً ولم يعقب، فنودي يا موسى، لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون.
وقيل: إنما أراد الله جلَّ ذكره أن يريه الآية الكبرى من العصا لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون ولا يولي مدبراً منها كما فعل عند الشجرة.
وقيل: إنها عصا آدم، نزل بها من الجنة، طولها اثنى عشر ذراعاً بذراع موسى.(7/4627)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
ويروى أن العصا كانت من ورقة آس الجنة، وهي من وسط الورقة الخط الثاني في وسط ورقة الآس " والآس " الريحان وكانت من ريحان الجنة من الخط لثاني في وسط الورقة المستطيل/، فما ظنك بحسن ريحان يكون الخط الثاني في وسط ورقه [منها] عصا في طولها اثنى عشر ذراعاً.
ويروى أن موسى صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يدخل يده في فيها فيقبض عليها، فأدخل يده في فيها وقبض عليها، فصارت يده بين الشعبتين اللتين كانتا في العصا، وصارت الحية في يده عصا على ما كانت عليه قبل ذلك؟ وكان للعصا شعبتان في رأسها، فصارت الشعبتان فم الحية، ثم عادت إلى حالتها.
قوله تعالى: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} إلى قوله: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}.
المعنى: واضمم يا موسى يدك، فضعها تحت عضدك.
وقال مجاهد: " إلى جناحك " كفه في عضده.
يقال الآخر العضد، إلى مبتدأ الإبط جناح.
وقيل: أمر أن يدخل يده في ثيابه مما يلي صدره وعضده، ففعل، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع ونور.(7/4628)
وقال أبو عبيدة: " إلى جناحك " إلى ناحية جنبك. والجناحان الناحيتان.
وقيل: " إلى جناحك " إلى صدرك، ففعل، فخرجت يده نوراً ساطعاً تضيء بالليل كضوء الشمس والقمر، فهي له آية أخرى مع العصا. أي: علامة على قدرة الله وصحة نبوته.
ومعنى: {مِنْ غَيْرِ سواء} من غير برص.
وقال مجاهد: كان موسى رجلاً آدم، فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء من غير سور أي من غير برص مثل الثلج، ثم ردها فخرجت كما كانت على لونه.
وقوله: {آيَةً أخرى} أي: دلالة أخرى على العصا.
وقوله: " بيضاء " نصب على الحال. " وآية " بدل من بيضاء عند الأخفش.
وقال الزجاج: هي نصب بإضمار فعل تقديره " آتيناك آية أخرى ".
وقيل: " آية " حال أيضاً، لأنه بمعنى مبينة.
ثم قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى}.
أي: لنريك من آياتنا العجائب. ثم قال: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}.(7/4629)
أي: تجاوز قدره، وتمرد على ربه. وفي الكلام حذف. والتقدير: اذهب إلى فرعون إنه طغى فادعه إلى توحيد الله وطاعته، وإرسل بني إسرائيل معك.
وقوله: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي}. أي: أفسح لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك، وأجترئ به على خطاب فرعون.
{وَيَسِّرْ لي أَمْرِي}.
أي: سهّل عليّ القيام بما كلفتني من الرسالة والطاعة.
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}.
أي: واطلق لساني للمنطق.
قيل: كانت في لسانه عجمة عن الكلام من أجل الجمرة التي كان ألقاها إلى فيه يوم همّ فرعون بقتله.
قال ابن جبير: " عقدة من لساني " عجمة بجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون، ترد به عنه عقوبة فرعون حين أخذ موسى بلحيته، وهو لا يعقل. فقال فرعون: هذا عدو لي فقالت له امرأته: إنه لا يعقل. وكذلك قال مجاهد.
وقال السدي: لما تحرك الغلام - يعني موسى صلى الله عليه وسلم - أرته أمه آسية. فبينما هي ترضعه وتلعب به، إذ ناولته فرعون وقالت: خذه. فلما أخذه، أخذ موسى بلحيته(7/4630)
فنتفها. فقال فرعون: علي الذباحين. فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. إنما هو صبي لا يعقل، وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه ليس في أهل مصر أحلى مني.
أنا أضع له حلياً من الياقوت وأضع له جمراً. فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمرة فإنما هو صبي فأخرجت له ياقوتاً ووضعت له طستاً من جمر، فجاء جبريل عليه السلام فطرح في يجه جمرة، فطرحها موسى صلى الله عليه وسلم في فيه فأحرقت لسانه. فهو الذي يقول الله {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي} أي يفهموا عني ما أقول لهم، وأبلغهم عنك. ففعل الله به ما سأل.
وقيل: إنه إنما زال بعض ما كان في لسانه من الحبسة ولم يزل كله بدلالة قول فرعون {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] وقد يجوز أن يكون كان هذا قبل أن يزيل الله ما كان به، ثم أزاله كله بعد ذلك. والله أعلم.
وقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36].
يدل على أنه أزال عنه كل ما سأل، وأعطاه كل ما سأل.
ثم قالت تعالى: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} {هَارُونَ أَخِي} /.(7/4631)
وكان هاون أكبر من موسى.
والوزير هو الذي يلجأ إليه في الأمور. مشتق من الوزر، وهو الملجأ. والجبل وَزَرْ.
وقيل: " الوزير " الذي يتقلد خزائن الملك وأمتعته. فيكون مشتقاص من الوزار، وهي الأمتعة، ومن قوله: {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم} أي: آنية الفضة والذهب.
وقيل: " الوزير ": الذي يتحمل أثقال الملك، ومنه قيل للذنب: وزره، فمعنى: {واجعل لِّي وَزِيراً} أي: صاحباً ألجأ إليه وأعتمد عليه.
وقوله: {اشدد بِهِ أَزْرِي}.
أي: ظهري: وقيل للظهر أزر، لأنه محل الأوزار.
وقوله: {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي}.
أي: اجعله نبياً مثلي، وارسله إلى فرعون معي. هذا على قراءة من جعله كله طلباً بفتح همزة " وأشركه "، فأما من جعله جواباً للطلب، وضم الهمزة، فمعناه: أن يجعل لي وزيراً أشدد أنا به ظهري وأشركه أنا في أمري.
ثم قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً}: نعظمك بالتسبيح. {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}، فنحمدك. {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي: كنت بنا ذا بصر منا، لا يخفى عليك من أفعالنا شيء.
وقيل: المعنى: إنك كنت عالماً بما يصلحنا.(7/4632)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
وروى زيد بن أسلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم موسى قال: " يا رب، قد أنعمت عليّ كثيراً، فدلني على أن أشكرك. قال: اذكرني كثيراً فإنك إذا ذكرتني فقد شكرتني. وإذا نسيتني فقد كفرتني. قال: لي مواطن ينبغي أن أذكرك فيه. قال: اذكرني كثيراً. قال: فكان موسى عليه السلام إذا ادخل الغائط، قال: سبحانك ربي كما توقني الأذى " من رواية ابن وهب.
قوله تعالى وجلّ ثناؤه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} إلى قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}.
أي: قد أعطيتك ما سألت من شرح صدرك وتيسير أمرك، وحل العقدة من لسانك، وتصيير أخيك هارون عوناً لك.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى}.
أي: تطولنا عليكم قبل هذه المرة مرة أخرى، ثم بيَّن المرة الأخرى ما هي فقال: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ} أي: إذا ألهمنا أمك.
وقيل: كانت رؤيا رأتها.
وقيل: بل أوحى إليها ما شاء.(7/4633)
وقال ابن إسحاق: لما ولدت أم موسى موسى صلى الله عليه وسلم، أرضعته حتى إذا أمر فرعون بقتل من ولد سنته تلك، عمدت إليه، فصنعت به ما أمره الله تبارك وتعالى.
روي أنها رؤيا رأتها، ففعلت ما أمرت به في رؤياي. وكان فرعون يذبح ذكور أولاد بني إسرائيل لأجل أنه بلغه أنه سيكون زوال ملكه وهلاكه على يدي واحد من أولاد بني إسرائيل فخافت أم موسى من فرعون على ولدها. فأراها الله ما أمرها به في منامها، فجعلته في تابوت صغير، ومهدت له فيه، ثم عمدت إلى النبيل فقذفته فيه، وهو اليم، فأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا لشيء [عجيب] في البحر، فآتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهد، فألقى الله عز وجل عليه محبته فعطف عليه نفسه. فهو قوله: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ(7/4634)
اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ}. يعني فرعون.
ثم قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}. أي: حببتك إلى عبادي.
وقال عكرمة معناه: إني حسنت خلقك، أي: جعلت لك حسناً وملاحة. وقيل: معناه: حببتك إلى [كلِّ] من رآك.
وقيل: إن الله جلّ ذكره جعل في موسى عليه السلام ملاحة، فكان لا يراه أحد إلا أحبه واستحلاه ومال قلبه إليه.
وذكر ابن الإعرابي عن قتادة في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}. قال: ملاحة في عينيك، لا يراك أحد إلا أحبك.
وعن عكرمة أنه قال: حسن وملاحة.
وقيل معناه: جبلت القلوب على محبتك، اختصاصاً لك.
وقال مجاهد: مودة في قلوب المؤمنين.
ثم قال: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} أي: ولتغذى على عيني، قاله قتادة.(7/4635)
وقال ابن زيد: معناه: إني جعلتك في بيت الملك تنعم وتترف غذاؤه عندهم غذاء الملك.
وقال ابن زيد. معناه: وأنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ثم في البحر ثم إذ تمشي أختك.
و" اللام " في " ولتصنع " متعلقة بـ " ألقيت " أي: ألقى المحبة لتصنع.
ثم قال: / {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ}.
أي: ولتصنع على عيني حين تمشي أختك.
وفي الكلام حذف. والتقدير: إذ تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ثم يأتي من يطلب المراضع لك فتقول: هل أدلكم على من يكفله؟
قال السدي: لما ألقته أمه في اليم، قالت لأخته: قصيه، فلما التقطه آل فرعون، أرادوا له المرضعات، فلم يقبل أحداً من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، وأبى أن يأخذه فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحونن. فأخذوها وقالوا لها: إنك قد عرفت هذا الغلام،(7/4636)
فدلينا على أهله.
قالت: ما أعرفه ولكني إنما قلت: للملك ناصحون.
ومعنى: يكفله: يضمه إليه ويرضعه.
ورويَ أن موسى عليه السلام لما خرج من التابوت بكى وطلب اللبن فطلب له النساء، فلم يقبل أحداً، فشق ذلك على فرعون، واغتم له، وقلق، وجعل يبعث إلى كل مرضعة، ولم يقبل أحداً، عند ذلك، جاءت أخت موسى صلى الله عليه وسلم، فقالت: هل أدلكم على من يرضعه؟ فقيل لها: هاتها، فجاءت بأم موسى، فقبل ثديها، فطابت نفس فرعون ومضت به معها، آمنة عليه مما كانت تخافه، وذلك وعد الله لها، وقوله لها: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} وهو قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} أي رددناك إلى أمك بعد أن كنت في أيدي آل فرعون كي تقرّ عينها، أي: تقرّ عينها بسلامتك من القتل والغرق، ولا تحزن عليك من الخوف ومن فرعون أن يقتلك.
قال ابن إسحاق: لما قالت أخت موسى ما قالت، قالوا: هاته، فأتت أمه فأخبرتها، فانطلقت معها حتى أتتهم فناولتها إياه فوضعه في حجرها، وأخذ ثدييها، فسّروا بذلك، وردّوه إلى أمه تكفله، لطفاً من الله لها، وصار موسى وأمه كأنهم من(7/4637)
أهل بيت فرعون في الأمان من القتل وغيره. وكان على فراش فرعون وسريره متغذياً بما يتغذى به الملك. وهذا من بديع لطفه، لا إله إلا هو.
ويروى عن ابن عباس أنه قرأ: (تقِرِ) بكسر القاف، وهي لغة.
ثم قال: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم}.
يعني: قتله القبطي إذ استغاثه عليه الإسرائيلي: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} أي: من غمّك بقتلك النفس إذا أرادوا أن يقتلوك. فخلصناك منهم حين هربت إلى أهل مدين.
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ ".
ثم قال: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} قال ابن عباس: معناه: اختبرناك اختباراً. وعنه ابتليناك ابتلاء.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه إنجاؤه موسى من القوم. ومن اليم ومن الذبح حين أخذ بلحيه فرعون، ومن قتل حين قتل القبطي.
وذكر ابن جبير عن ابن عباس حديثاً طويلاً في قصة موسى عليه السلام معناه: أن(7/4638)
فرعون تذاكر هو وجلساؤه، ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فخافوا ذلك فأتمروا بينهم أن يذبح كل مولود ذكر من بني إسرائيل، فذبحوا كل من وجدوا، وتمادوا على ذلك، فقال بعضهم: يوشك أن يفنى بنو إسرائيل لذبحكم الصغار وموت الكبار بآجالهم فتبقون لمباشرة الأعمال والخدمة التي تكفيهم إياها بنو إسرائيل، فأجمعوا رأيهم على أن يقتلوا عاماً ويتركوا عاماً لئلا يفنى بنو إسرائيل، ولئلا يكثروا، فحملت أم موسى هارون في السنة التي لا يذبح فيها أحد فولدته علانية آمنة. وحملت بموسى في العام الثاني، وفيه الذبح، فوقع في قلبها الهم والحزن. قال ابن عباس: فذلك من الفتون مما دخل على موسى في بطن أمه. فأوحى الله تعالى ذكره إليها ألاّ تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين. وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليم، ففعلت ذلك، ثم أتاها إبليس، فوسوس إليها، وقال: لو ذبح ولدك في بيتك لكنت توارينه وتسترينه كان أحب إليك مما ألقيته بيدك إلى حيتان البحر ودوابه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فرأينه، فأخذنه، فهممن بفتح التابوت ثم خفن أن يكون في التابوت مال فلا يصدقن عليه/، فمررن به على حاله إلى امرأة فرعون، ففتحت التابوت، فإذا بغلام، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق مثلها على أحد، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فأتى الذابحون إلى امرأة فرعون ليذبحوه، فصرفتهم حتى تستوهبه من فرعون، فوهبها فرعون إياه، ومنعهم من ذلك. وذلك(7/4639)
من الفتون.
وذكر ابن عباس، أنها لما أتت به إلى فرعون قالت: قرة عين لي ولك. قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه. فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي حلف به، لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت هي به لهداه الله به كما هدى به امرأته. ولكن الله تعالى حرمه ذلك ".
وروي أن امرأة فرعون كان لها جوار لا تشرب الماء إلا من استقائهن، فأتين يوماً إلى ساحل النيل ليأخذن الماء، فوجدن التابوت، فاتفقن على أن لا يفتحن التابوت، وأن يمضين به إلى مولاتهن على حاله، فذهبن به إلى امرأة فرعون ففتحته، فوجدت فيه صبياً لم تر مثله قط، فألقى الله في قلبها المحبة له، فأخذته ودخلت به على فرعون، وقالت له: قرة عين لي ولك فقال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي، فلا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قال فرعون نعم هو قرة عين لي لآمن ".
فقالت: له: فهبه لي، لا تقتله. فوهبه لها، فطلبت له المراضع فلم يقبل على ثدي امرأة، وكان من أمره ما قص الله علينا.(7/4640)
قال ابن عباس في حديث طويل معناه: أن امرأة فرعون طلبت له الرضاعة، فلم يقبل على ثدي أحد فغمّها ذلك حتى أخرجته إلى السوق ت طلب له مرضعة، فأتت أخته فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها وقالوا: ما نصحهم له؟ هل تعرفونه، فشكوا في ذلك.
قال ابن عباس: وذلك من الفتون. فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في القرب من فرعون ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمه، فجاءت معها، فلما وضعته في حجرها ترامى إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، وانطلقت البشرى إلى امرأة فرعون أن قد وجدنا لابنك مرضعة فوجهت وراءها، وجيء بها وبه فقالت لها: امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإن لم أحب حبه شيئاً قط، فأبت أم موسى وتعاسرت عليها في القيام عندها، وتذكرت ما وعدها الله من رده عليها، وأن الله منجز وعده، بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، فكان بنو إسرائيل يمتنعون من الظلم والسخرة بذمام موسى، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم(7/4641)
موسى: أرني ولدي، فوعدتها بالإتيان به ليوم بعينه، فقالت امرأة فرعون لخواصها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة، فلما أتت به أمه، لم تزيل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فأكرمته هي أيضاً ونحلته وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وانطلقت به إلى فرعون ليكرمه وينحله، فدخلت به عليه، وجعلته في حجره فتناول موسى لحية فرعون حتى مدها، فقال عدو من أعداء الله لفرعون: هذا من وعد الله إبراهيم أنه يصرعك ويعلوك فأراد ذبحه. قال ابن عباس: وذلك من الفتون. فقالت امرأته: قد وهبته لي فما بدا لك منه. قال: ألا ترينه يزعم أن يصرعني ويعلوني. فقالت: اجعل بين وبينك أمراً تعرف به الحق. ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فهو يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين [فهو لا يعقل] ففعل ذلك، فتناول الجمرتين، فصرفه الله تعالى عن قتله، فأقام حتى بلغ مبلغ الرجال، وانتفع به بنو إسرائيل وامتنعوا به من السخرة والظلم. فبينما هو يمشي في ناحية/ من المدينة إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من آل فرعون، والآخر من بني إسرائيل، فاستغاثه الإسرائيل على الفرعوني. وقد ضرب الفرعوني(7/4642)
الإسرائيلي، فضعب موسى واشتد غضبه لمعرفته لمنزلة الإسرائيلي وظلم الفرعوني له، فوكز موسى الفرعوني فقتله. ولم يرهما أحد إلا الله، فقال موسى صلى الله عليه وسلم حين قتله: هذا من عمل الشيطان، ثم استغفر الله من قتله، فغفر له.
وأصبح موسى خائفاً يستمع الأخبار، فبحث القوم عن قاتل الفرعوني فما وجدوا أحداً يخبر به. فمر موسى بذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً آخر فرعونياً، فاستغاثه أيضاً الإسرائيلي، فقال موسى للإسرائيلي: إنك لغوي مبين. ثم مد يده للفرعوني ليبطش به، فظن الإسرائيلي أنه إياه يريد، لما سمعه قال: إنك لغوي مبين. فقال: يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي، فخرجوا في طلب موسى. وجاءه رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقاً حتى سبقهم، فأنذر موسى، قال ابن عباس: وذلك من الفتون.
وقال الضحاك: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}: أي بلاء على بلاء.
وقال مجاهد: هو إلقاؤه في التابوت، ثم في اليم، ثم التقاط فرعون إياه، ثم خروجه خائفاً.
قوله تعالى ذكره: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} إلى قوله: {يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى}.(7/4643)
في الكلام حذف واختصار. والتقدير: وفتناك فتوناً، فخرجت خائفاً إلى مدين، فلبثت سنين فيهم.
قال: عشر سنين، كان فيهم في خدمة أجرة مهر زوجته.
وقوله: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى}.
أي: جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون فيه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
ثم قال: {واصطنعتك لِنَفْسِي}.
أي: قويتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي.
وقيل معناه: أخبرتك لتبلغ رسالتي.
ثم قال: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي}.
أي: اذهبا بأدلتي وحججي ولا تفترا ولا تضعفا في أن تذكراني فيما أمرتكما ونهيتكما، فذكركما إياي يقوي عزيمتكما.
قال ابن عباس: " لاتنيا ": لا تبطئا.
وقال مجاهد وقتادة والضحاك: لا تضعفا.(7/4644)
وقال ابن زيد: الوافي: الغافل المفرط.
ثم قال: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}.
أي: تجاوز في الكفر. {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً}. أي: كنياه. قاله مجاهد والسدي.
وعن السدي أنه قال: قال له موسى عليه السلام: هل لك أن يرد الله عليك شبابك، ويرد عليك مناكحك ومشاربك، وأذا مت دخلت الجنة؟ وتؤمن. فهذا هو القول اللين. فركن فرعون إليه وقال: مكانك حتى يأتي هامان.
وقيل: إن فرعون دخل إلى آسية فشاورها فيما قال له موسى. فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد هذا. فقال له هامان: أَتَعبْدُ بعدَما كُنتَ تُعْبَدْ، أنا أردك شاباً. فخضب لحيته بالسواد. فكان فرعون أول من خضب بالسواد. ودخل إلى آسية فقالت له: حسن إن لم ينصل.
وقيل: إن موسى عليه السلام قال له: إن ربنا أرسلنا إليك لتؤمن به وتعبده وتطيعه، فينسئ في أجلك أربع مائة سنة، ويملكك في أرضه ولا تبؤس ساعة من نهار، ثم تصير إلى الجنة، لا يضرك ما كنت فيه من نعيم الدنيا وسرورها ونضارتها جناح بعوضة.
فقال فرعون: دعوني أستشير فاستشار هامان. فقال له: لا ترض. أبعد أن(7/4645)
كنت ملكاً تصير مملوكاً. وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. فلم يؤمن لما سبق له في علم الله من الشقاء.
وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى}. قيل: معنى " لعل " هنا الاستفهام. والمعنى: فقولاً له قولاً لينا، فانظرا هل يتذكر فيراجع، أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه. قاله: ابن عباس.
وقيل: معنى: " لعل " هنا: كي. أي قولا له قولاً ليناً كي يتذكر. كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك. أي: كي تأخذ أجرك.
وقال الحسن: " لعله يتذكر " هو إخبار من الله عن قول هارون، وذلك أنه تعالى لما قال له: قولا له قولاً ليناً. قال هارون لموسى: لعله يتذكر أو يخشى.
وقيل: إن " لعل " على بابها، ترج وطمع من المرسلين. والتقدير عند سيبويه: اذهبا أنتما على رجائكما/ وطمعكما ومبلغكما من العلم أن يتذكر، وقد علم الله تعالى أنه لا يتذكر ولا يخشى إلا أن الحجة لا تجب إلا بالإنابة وخروج الفعل إلى الظاهر.
وقيل: إن " لعل " و " عسى " في القرآن لم يقعا إلا وقد كانا. فتذكر فرعون(7/4646)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
وخشيته قد كانت حين أدركه الغرق.
قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ}. إلى قوله: {خَلْقَهُ ثُمَّ هدى}.
أي: قال موسى وهارون: يا ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا به أن يفرط علينا بالعقوبة. أي يعجل علينا ويقدم علينا. وأصله من التقدم. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم " أنا فرطكم على الحوض ".
ثم قال تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى}. أي: إنني أعينكما عليه وأبصركما. أسمع ما يجري بينكما وبينه، فألهمكما ما تجاوباه وأرى ما تفعلان ويفعل، فلا أخلي بينكما وبينه.
قال ابن جريج: " أسمع وأرى ما يحاوركما، فأوحي إليكما، فتجاوباه. ثم قال: {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ}.
أي: أرسلنا ربك إليك، يأمرك أن ترسل معناه بني إسرائيل، ولا تعذيبهم بما تكلفهم من الأعمال الصعبة.
{قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}.
أي بمعجزة تدل على أنا أرسلنا إليك بذلك إن أنت لم تصدقنا فيما نقول(7/4647)
أريناكها {والسلام على مَنِ اتبع الهدى}. أي: والسلامة لمن ابتع الهدى.
وليس السلام هنا تحية.
ثم قال: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى}.
هذا متصل بما قبله. أي: فقولا لفرعون: إنا رسولا ربك، وقولا له: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى. أي: إن عذاب الله الذي لا انقطاع له على من كذب برسله وكتبه، وتولى عن طاعته.
ثم قال تعالى: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى}.
هذا كلام فيه حذف واختصار. والتقدير: فأتياه [فقالا] له ما أمرهما به ربهما. فقال لهما فرعون: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} اكتفى بخطاب موسى من خطاب أخيه من آخر الكلام. وقد خاطبهما جمعياً قبل ذلك في قوله: " ربكما " وإنما جاز ذلك لأن الخطاب إنما يكون من واحد، فردّ الخطاب إلى واحد مثله. وقريب منه " نسيا حوتهما " ولم ينسه إلا فتى موسى وحده. دل على ذلك قوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت}.
ثم قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى}. أي: قال موسى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه. أي: جعل لك ذكر نظير خلقه من الإناث. ثم هداهم لموضع الوطء الذي فيه النماء والزيادة من الخلق. فهدى كل حي كيف يأتي الوطء(7/4648)
فيكون التقدير: أعطى كل شيء مثل خلقه. ثم حذف المضاف.
قال ابن عباس. معناه: خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنكحه ومطمعه ومشربه ومسكونه ومولده. وكذلك قال السدي.
وقال الحسن: معناه: تمم لكل شيء خلقه، ثم هداه لما يصلحه.
القرون الماضية وكيف تبعث، فأجابه موسى/ بعلمها فقال: علمها عند ربي. ثم قال: {فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أي علمها في أم الكتاب و {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}.
نعتان لكتاب. أي: في كتاب غير ضال الله، أي: غير ذهب عن الله وغير ناس الله له.
وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: " في كتاب " ثم ابتدأ فقال: " لا يضل ربي " أي: لا يهلك.
وقيل: معنى الآية: لا يضل عن ربي علم شيء، ولا ينسى شيئاً.
وقال ابن عباس: لا يخطئ ربي ولا ينسى شيئاً.
وقال ابن عباس وقتادة: لا يخطئ ربي ولا ينسى شيئاً.
وقال قتادة: قوله: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} أي فما أعمار القرون الأولى. فوكلها(7/4649)
موسى إلى الله فقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}.
وقرأ الحسن وقتادة وعيسى وعاصم الجحدري: {لاَّ يَضِلُّ} بضم الياء وكسر الضاد. أي: لا يضيعه. قال: ضل فلان منزله يضله إذا أخطأه. وكذلك يقال في كل شيء ثابت، لا يبرح فيخطئه. فإذا ضاع ما يزول بنفسه مثل: دابة، وناقة، وفرس مما ينفلت فيذهب بنفسه، فإنه يقال: أضل فلان بعيره يضله.
ثم قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً}.
أي: فراشاً يتمهدها الناس، ولم يجعلها خربة خشنة.
ومن قرأ " مهداً " فهو: مصدر وصفت الأرض به. أي: ذات مهد.
وقيل: " مهداً " اسم وصفت الأرض به، لأن الناس يتمهدونها فهي لهم كالمهد الذي يعرف.
وقيل: هما لغتان، كاللبس واللباس، والريش والرياش.
ثم قال تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي: طرقاً.
ثم قال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} أي: مطراً.(7/4650)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} خرج إلى الإخبار عن الله جلّ ذكره، لأن كلام موسى مع فرعون انتهى إلى قوله: " السماء ماء. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بجميل صنعه لخلقه في معاشهم ومعاش أنعامهم فقال: " فأخرجنا به ".
وقيل: كله من كلام موسى، أخبر موسى عن نفسه، ومن معه بالزراعة والمعالجة في الحرث. فالماء هو سبب خروج النبات وبه تم وكمل. والمعالجة في الحرث غيره لبني آدم بعون الله لهم وأقادره إياهم على ذلك. فلذلك أخبر عن نفسه فقال: فأخرجنا به أزواجاً. وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] فأضاف الحرث إلى الخلق، وهو الزارع المنبث للحرث لا إله إلا هو. أي: أخرجنا بالمطر من الأرض أشابهاً وضروباً من نبات شتى. " وتشى ": نعت للنبات أو للأزواج. ومعناه: مختلفة الأطعمة والرائحة والمنظر.
قوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} إلى قوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى}.
أي: كلوا من طيبات ما أخرجنا لكم بالغيث وارعوا أنعامكم فيه. {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي: إن في قدرة الله وسلطانه لعلامات لأولي العقول. أي: لأصحاب العقول.
قال قتادة: " لأولي النهي " لأولي الورع.(7/4651)
" والنهي " جمع نهية. يقال: فلان ذو نهية. أي ذو عقل. وخص أهل النهى بذلك، لأنهم أهل التفكير والاعتبار والتدبر والاتعاظ.
ثم قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.
أي: من الأرض خلقنا أصلكم. وهو آدم، وفي الأرض نعيدكم بعد الموت، ومن الأرض نخرجكم عند البعث في القيامة أحياء كما كنتم " تارة أخرى " أي: مرة أخرى.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " إذا قبض الملك روح المؤمن عرج به إلى السماء فقال: قد قبضت روح فلان. فيقول الله عز وجل: " ردّ بها. أي: قد وعدته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى}. قال: فإنه ليسمع صوت نعالهم (إذا ولوا مدبرين).
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} أي: أرينا فرعون أدلتنا وحججنا الي أعطينا موسى وهارون كلها عياناً فكذب بها وأبى أن يؤمن، استكباراً وعتواً.
ثم قال: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} أي: قال فرعون لموسى لما رأى الآيات: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى} أي: مكاناً عدلاً نصفاً لنا/ ولك، قاله قتادة.
وقال مجاهد: " مكانا منصفاً بينهم ".(7/4652)
وقال ابن زيد: مكاناً مستوياً يتبين للناس ما فيه لا صيب ولا نشز، فيغيب بعض ذلك عن بعض.
وقيل: معناه: مكاناً سوى ذلك المكان الذي كانوا فيه، فيكون الأحسن على هذا المعنى كسر السين. وعلى المعاني المتقدمة الضم. والكسر في السين لغتان بمعنى، وفي العدل لغة أخرى، وهي فتح السين والمد، ومنه قوله: {إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا} [آل عمران: 64 أي: عدل.
ثم قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى}.
أي: ال موسى لفرعون - حين سأله فرعون الاجتماع - موعدكم يوم الزينة. يعني يوم اعيد كان لهم.
وقيل: يوم سوق كان لهم يتزينون فيه.(7/4653)
{وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي: يساق الناس ويجمعنن من كل فج وناحية. والتقدير: وقت موعدكم يوم الزينة.
وقد قرأ الحسن " يوم " بالنصب على الظرف على غير حذف. أي: موعدكم في هذا اليوم. أي: موعدكم يقع يوم الزينة " وأن يحشر الناس ".
وإن في موضع رفع عطف على يوم على قراءة من رفع. أي: وقت موعدكم يوم الزينة، ووقت حشر الناس. واختار النحاس أن تكون " وإن " في موضع خفض عطفاً على الزينة.
قال السدي: " يوم الزينة يوم عيد لهم.
وقال ابن جبير: " هو يوم سوق لهم ".
وقوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي يجتمعون في ذلك الوقت الموضع.(7/4654)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
وعن ابن عباس أنه قال: " يوم الزينة، كان يوم عاشوراء. كذلك روى الأعمش.
والضحى، مؤنثة. وتصغيرها بغير هاء، لئلا تشبه تصغير ضحوة.
وقرأ الحسن: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} بفتح الياء وضم الشين، ونصب الناس، على تقدير: وأن يحشر فرعون الناس ضحى.
وقوله تعالى ذكره: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى}. إلى قوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى}.
أي: فأدبر فرعون معرضاً عن موسى وعما جاءه به من الحق، فجمع مكره وسحرته، ثم أتى للموعد. قال لهم موسى لما أتوا: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً}. {وَيْلَكُمْ} نصب على المصدر. وقيل: على إضمار فعل. أي: ألزمكم الله ويلاً.(7/4655)
وقيل: نصبه على النداء المضاف.
{لاَ تَفْتَرُواْ} أي: لا تختلقوا الكذب على الله. أي: لا تقولوا: إن الذي جئتكم به من عند الله سحر، {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ}.
قال ابن عباس: معناه: " فيهلككم ".
وقال ابن زيد: معنا: (فيهلككم هلاكاً ليس فيه بقية).
وقال قتادة: " فيستأصلكم بالهلاك ". وفيه لغتان: سحته واستحته، إذا أهلكه وأمحقه، وقد قرئ بهما جميعاً.
ثم قال: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى}.
أي: خاب من الرحمة والثواب، من اختلق الكذب.
ثم قال تعالى: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى}.
أي: تنازع السحرة فيما بينهم.(7/4656)
قال قتادة: " قال السحرة بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحراً، فسنغلبه وإن كان من السماء، فله أمر " وهو قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى}.
قال وهب: " جمع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه، معه أشراف أهل مملكته، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً} فترادد السحرة بينهم، وقالوا: ما هذا بقول ساحر. وهو قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى} أي أسر السحرة والمناجاة بينهم.
وقال وهب: كان سرهم: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} إلى قوله: {مَنِ استعلى}. وكذلك قال السدي.
ثم قال تعالى ذكره: {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ}.
أي: قالت السحرة في سرهم وتناجيهم: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسرحهما.
وفي حرف ابن مسعود " إن هذان/ إلا ساحران ": أي: ما هذان يخفف " إن " يجعلها بمعنى ما.(7/4657)
ومن شدد " إن " ورفع " هذان "، فقد خرج العلماء فيها سبعة أقوال: فالأول: أن يكون بمعنى نعم. حكى سيبويه أن " إن " تأتي بمعنى أجل. واختبار هذا القول المبرد وإسماعيل القاضي والزجاج وعلي بن سليمان.
واستبعد الزجاج قراءة أبي عمرو " إن هذين " لمخالفتها للمصحف.
وقال علي بن أبي طالب: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يقول: إن الحمدُ لله نحمده ونستعينه، يعني يرفع الحمد يجعل " إن " بمعنى " أجل ". ومعنى: أجل: نعم. ثم يقول: أنا أفصح قريش كلها، وأفصحها بعدي سعيد بن(7/4658)
إبان بن العاصي.
وكذكل كانت خطباء الجاهلية تفتتح خطبها بـ " نعم "، وكذلك وقعت في أشعارها. قال الشاعر:
قالت غدرت، فقلت: إن وربما ... نال العُلي وشقى الخليل الغادر
وقال بان قيس الرقيات:
بكرت على عواذ لي ... يلحينني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت أنه
وأنشد ثعلب:
ليس شعري هل للمحب شفاء ... من جوى حبهن إن اللقاء.
أي: نعم.
فهذا قول حسن لولا دخول اللام في الخبر.
وقد قيل: إن اللام يراد بها التقديم، وهو أيضاً بيعد، إنما يجوز التقديم في اللام(7/4659)
وهي مؤخرة في الشعر.
لكن الزجاج قال: التقدير: نعم هذان لهما ساحران. فتكون اللام داخلة على الابتداء في المعنى، كما قال: أم الحليس لعجوز شهربة.
وقيل: إن اللام يراد بها التقديم.
وقيل: هي في موضعها، و " لعجوز " مبتدأ، وشهرية الخبر، والجملة خبر عن اللام.
والقول الثاني: ما حكاه أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء أنها لغة لبني الحارث بن كعب، يقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، وأنشدوا.
- فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً باه الشجاع لصماً
وأنشدوا أيضاً:(7/4660)
- تزود منا بين أذناه طعنة على ... رأسه تلقى العظام من الفم.
وحكى أبو الخطاب أنها لغة لبني كنانة.
وحكى غيره أنها لغة خثعم. وهذا القول قول، حسن، لا نطعن فيه لثقة الناقلين لهذه اللغة، وتواتر نقلهم واتفاقهم على ذلك، وقد نقلها أبو زيد، وكان سيبويه إذا قال حدثني من أثق به، فإياه يعني.
ورواه الأخفش، وهو ممن روى عنه سيبويه، وقول سيبويه في ألف التثنية أنها حرف الأعراب، يدل على أن حكمه لا تتغير عن لفظها، كما لا تتغير الدال من زيد، فجاءت في هذه الآية على الأصل، كما جاء " استحوذ " على الأصل.
والقول الثالث: قاله الفراء. قال: الألف في " هذان " دعامة، ليست بلام(7/4661)
الفعل، فزدت عليها نوناً ولم أغيرها، كما قلت " الذي " ثم زدت عليه نوناً، ولم أغيرها، فقلت " الذين " في الرفع والنصب والجر.
والقول الرابع: يحكى عن بعض الكوفيين أن الألف في هذان مشبهة بألف يفعلان، فلم تغير كما لا يغير ألف يفعلان.
والقول الخامس: حكاه الزجاج. قال: القدماء يقولون: الهاء مضمرة ها هنا، والمعنى: أنه هذان لساحران، ويعترض هذا القول دخول اللام في الخبر.
والقول السادس: قاله ابن كيسان، قال: سألني إسماعيل ابن إسحاق عنها، فقلت: القول عندي، أنه لما كان يقال هذا في موضع الرفع والنصب والجر، وكانت التثنية يجب ألا تغير، أجريت التثنية مجرى الواحد. فقال إسماعيل: ما أحسن هذا، لو تقدمك أحد بالقول به، حتى تؤنس به. فقلت: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسم.
والقول السابع: حكاه أبو عمرو وغيره، أنه من غلط الكاتب.(7/4662)
روي أن عثمان وعائشة/ رضي الله عنهما قالا: إن في الكتاب غلطاً ستقيمه العرب بألسنتها.
وعنهما: إن في الكتاب لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا القول قد طعن فيه، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا على صحة ما بين اللوحين، فلا يمكن أن يجتمعوا على غلط.
فأما من خفف " إن " فإنه رفع ما بعدها، لنقصها عن وزن الفعل ويجوز أن يكون أعملها مخففة على الثقيلة، كما يعمل الفعل محذوفاً عمله وهو غير محذوف، وإلا أنه أتى بـ " هذان "، على الوجوه التي ذكرنا، فأتى بالألف في النصب.
فأما من شدد نون " هذان "، فإنه جعل التشديد عوضاً مما حذف من هذا في التثنية.
وعن الكسائي والفراء في: " إن هذان " قولان تركنا ذكرهما لبعد تأويلهما في ذلك.
ثم قال تعالى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى}.(7/4663)
أي: يغلبكم على ساداتكم وإشرافكم. يقال للسيد: هو طريقة قومه. ولفظ الواحد والجمع والتثنية سواء. وربما جمعوا فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم، أي أشرافهم وساداتهم. ومنه قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً}.
والمثلى: نعت للطريقة، وهو تأنيث أمثل، وجاز نعت الجماعة بلفظ التوحيد. كما قال: {هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى} [طه: 8].
ويجوز أن تكون " المثلى " أنثت لتأنيث الطريقة.
قال ابن عباس: {بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أي أمثلكم، وهم بنو إسرائيل.
وقال مجاهد: " أولي العقول والشرف الأنساب ".
وقال قتادة: " كانت طريقتهم المثلى يومئذ بني إسرائيل، كانوا أكثر الناس عدداً وأموالاً وأولاداً ".
وقيل: المعنى: ويذهبا بدينكم وسنتكم التي أنتم عليها.
وقل ابن وهب: " يذهبا بالذي أنتم عليه من الدين، وقرأ قول فرعون(7/4664)
{إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26] قال: فهذا قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى}.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ أن المعنى: ويصرفان وجوه الناس إليهما.
ويكون التقدير: ويذهبان بأهل طريقتكم، ثم حذف، مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
ثم قال تعالى: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً}.
أي: اعزموا على أمركم واحكموه. هذا على قراءة من همزة وكسر الميم. فأما من فتح الميم ووصل الألف - وهي قراءة أبي عمرو - فمعناه: فاجمعوا كل كيد لكم وحيلة، فضموه مع صاحبه. ويشهد له قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ}. وقطع الألف أحسن، لأن السحرة لم يؤمروا بهذا إلا في اليوم الذي اجتمعوا فيه، والوقت الذي(7/4665)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
أظهروا فيه سحرهم، واستعدوا بما يحتاجون من السحر، فبعيد أن يؤمروا بجميع ما قد جمعوه واستعدوا به، وإنما يؤمن بذلك من لم يجمع ما يحتاج إليه ولم يستعد به، وليس ذلك اليوم إلا يوم استعلاء وفراغ مما يحتاجون إليه من الكيد.
ويحن قطع الألف، لأن معناه: اعزموا على أمركم وأحكموه.
وقوله تعالى: {ثُمَّ ائتوا صَفّاً}. أي: جيئوا المصلى، وهو الموضع الذي يجتمعون فيه يوم الوعيد.
فيكون {صَفّاً} مفعولاً بـ {ائتوا}. ويجوز أن يكون المعنى: ائتوا مصطفين، ليكون أعظم لأمركم، وأشد لهيبتكم، فيكون حالاً. ووحد لأنه مصدر. فهو مصدر في موضع الحال.
ثم قال: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى}.
أي: قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره.
قال وهب: " جمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة قال: {ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى}، أي: من علا على صاحبه بالغلبة ".
قوله تعالى: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} إلى قوله: {هَارُونَ وموسى}.
أي: قال السحرة: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى}.(7/4666)
وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجمعت السحرة كيدهم ثم أتوا صفاً، فقالوا: {ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}. وكان السحرة يومئذ فيما ذكر ابن أبي بزة سبعين ألفاً، مع كل ساحر منهم حبل وعصاً. فألقوا سبعين ألف/ عصاً، وسبعين ألف حبل.
وقيل: كانت حبالهم وعصيهم حمل ثلاث مائة بعير، فصار جميع ذلك في بطن الحية، ثم رجعت عصاً كما كانت في يد موسى فألقى موسى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، فابتلع حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك سجداً، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
وقال السدي: " كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً، مع كل واحد حبل وعصاً ".
وقال وهب بن منبه: " كانوا خمسة عشراً ألفاً مع كل ساحر حباله وعصيه ".
وقال ابن جريج: كانوا تسعة مائة: ثلاث مائة من العريش، وثلاث مائة من الفيوم، وثلاث مائة من الاسكندرية.(7/4667)
ثم قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى}. أي: قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولاً: ما معكم إن كنتم على حق.
وفي الكلام حذف. أي: فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
قيل: " إن السحرة سحروا أعين الناس، وعين موسى قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوها، فخيل إلى موسى صلى الله عليه وسلم حينئذ أنها تسعى " قاله وهب بن منبه.
وقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى}.
أي: أحس ووجد موسى خوفاً في نفسه.
قيل: إنه خاف أن يفتن الناس بما صنعوا قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه.
وكان السحرة في ناحية بالبعد من الناس، وكان فرعون وجنوده في ناحية، وموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم في ناحية.
وقيل: إنما خاف لما أبطأ عليه الوحي بالأمر بإلقاء العصا، فخاف أن ينصرف الناس قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه فيفتتنون، فأوحى الله تعالى إليه: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أي: لا تخف على انصراف الناس وافتتانهم قبل أن تلقي عصاك فأنت الغالب.
ثم قال: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني العصا {تَلْقَفْ مَا صنعوا}، فألقاها فتلقفت(7/4668)
حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاث مامئة بعير، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي، إلا الله. وهذه آية تشتمل على آيات، منها: انقلاب العصا ثعباناً، ومنها: ابتلاعها الحمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي.
وأعظمها: أنها عادت عصا يحملها موسى في يده كما كانت أولاً، وتلاشى وقر ثلاث مائة بعير بقدرة الله، فلا أثر لذلك، فسبحان من لا يقدر على هذه القدرة أحد سواه، لا إله غيره.
ثم قال: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} ما " بمعنى الذي مع {صَنَعُواْ} " ها " محذوفة. و {كَيْدُ} خبر " إن " و " الذي " اسمها.
فإن جعلت " ما " كافة ل " إن " عن العمل، نصبت كيداً بـ {صَنَعُواْ} و " الكيد ": المكره أي: مكر الساحر وخدعه لا على حقيقة.
ثم قال: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي: لا يظفر بسحره أين كان.
وقيل: المعنى: يقتل الساحر حيث وجد.
وفي حرف ابن مسعود: أين أتى.
ثم قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً}.(7/4669)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
في الكلام حذف والتقدير، فألقى موسى ما في يده فتلقفت ما صنعوا فألقيَ السحرة سجداً.
قال ابن جبير: لما ألقى [موسى] ما في يده، صار ثعباناً مبيناً، قال: ففتحت فما لها مثل الرحى ثم وضعت مشفرها على الأرض ورفعت الآخرة، فاستوعبت كل شيء ألقوا من السحر ثم جاء موسى إليها، فقبض عليها، فإذا هي عصا، فخرت السحرة سجداً، وقالوا: آمنا برب هارون وموسى.
ورويَ أن رئيس السحرة قال لهم: إن كان هذا سحراً من موسى فأين مضى حمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي، وأين ذهب ذلك، هذا أمر من فعل الله، وليس هو سحراً، فاخلصوا التوحيد لله جل ذكره وآمنوا وخرّوا سجّداً.
قوله تعالى ذكره: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} إلى قوله {خَيْرٌ وأبقى}.
المعنى: قال فرعون للسحرة الذين خرّوا سجّداً: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} يهددهم ويوعدهم أي: أصدقتم بموسى: إن موسى لكبيركم الذي علمكم السحر، {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} فكان فرعون أول مَن قطع الأيدي والأرجل من خلاف.
{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل}.(7/4670)
أي: عليها. وكان أول مَن صلب في جذوع النخل.
ويقال: إن فرعون شبه على الناس بما قال. وذلك أنه لما رأى ما نزل به، قال للسحرة: إن موسى لكبيركم الذي علملكم السحر فواطتموه على ما صنعتم وعاملتموه على ذلك ليشكك الناس في الآيات التي ظهرت، فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم حتى ماتوا، ومعنى " خلاف " أن يقطع يمين اليدين ويسرى الرجلين، أو يسرى اليدين ويمنى الرجلين.
ثم قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى}. أي: أنا أشد عذاباً أو موسى. يخاطب بذلك السحرة.
ومعنى: {وأبقى} وأدوم.
ثم قال: {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات}.
أي: قال السحرة لفرعون لما توعدهم: لن نفضلك على ما رأينا من الحجج والبراهين فنتبعك ونكذب موسى.
ثم قال: {والذي فَطَرَنَا}.
أي: لن نفضلك على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا.
وقيل: الواو، واو قسم. و {فَطَرَنَا} خلقنا.(7/4671)
{فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ}.
أي: افعل ما أنت فاعل.
ثم قال: {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ}.
أي: قال له السحرة ذلك. والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا.
و" ما " كافة ل " إن " عن العمل. ولو جعلت " ما " بمعنى " الذي " رفعت " هذه الحياة الدنيا " أي: إن الذي تقتضيه هذه الحياة الدنيا.
وقيل: معنى الكلام إنما يجوز أمرك في هذه الحياة الدنيا.
ثم قال: {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر}.
أي: ليغفر لنا خطايانا من السحر. {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر}. ف: " ما " نافيه. أي: لم تكرهنا على السحر، نحن جئنا به طائعين، فهو ذنب عظيم، نطمع أن يغفره الله لنا إذا متنا، فتكون {مِنَ} لإبانة الجنسِ.
وقيل: المعنى: ليغفر لنا ربنا خطايانا، ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من السحر. فتكومن {مِنَ} للتبيين، موضعها نصب، ولا موضع لها في القول الأول.
وهذا القول رويَ عن ابن عباس، قال: " ذلك غلمان دفعهم فرعون إلى السحرة يعلمهم السحر ".(7/4672)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
وقال ابن زيد: " أمرهم بتعلم السحر "
وقال الحسن: " كانوا إذا نشأ المولود فيهم، أكرهه على تعلم السحر.
ثم قال تعالى: {والله خَيْرٌ وأبقى} أي: خير ثواباً وأبقى عذاباً.
قال محمد بن كعب: معناه: " خير منك ثواباً أن أطيع، وأبقى منك عذاباً إن عصى " وهذا جواب منهم لوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى}.
قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} إلى قوله: {وَلاَ تخشى}.
والمعنى: إن السحرة قالوا لفرعون {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} أي مكتسباً الكفر، فإن له جهنم أي: مأواه [جهنم ومسكنه] جزاء على كفره. {لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فتخرج نفسه {وَلاَ يحيى} فتستقر نفسه في مقرها، ولكنها تتعلق بالحناجر. وعلق الإتيان بالله مجازاً في هذا. والمعنى: من يأت موعد ربه " كما قال إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] أي: إلى موعد ربي. وليس الإتيان إلى الله إتيان مقاربة منه، لأنه قريب في كل أوان لا يبعده مكان ولا يقربه مكان، ولا يحويه مكان دون مكان، ولا يحتاج إلى مكان لأنه تعالى لم يزل قديماً قبل المكان ولا تجوز صفة القرب بالمكان إلا على الأجسام، لأنها(7/4673)
محدثة بعد حدوث المكان، وكان الله ولا مكان. فالإتيان إلى الله إنماهو إتيان من الخلق يوم القيامة إلى ثواب الله وجزائه، وكذلك المعنى فيما كان مثله.
ثم قال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات}.
أي: ومن يأت ربه موحداً له قد عمل ما أمره به، وانتهى عما نهى عنه: {فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} أي: لهم درجات الجنة العلى. ثم بين تلك الدرجات ما هي، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: حنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفاذ لها ولا فناء {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: / تجري من تحت أشجارها ماء الأنهار. خالدين فيها. أي: ماكثين فيها أبداً.
ثم قال: {وذلك جَزَآءُ مَن تزكى}.
هذه الإشارة بـ " ذلك " هي إلى جميع ما تقدم بعد أولئك. أي: ذلك جزاء مَن تظهر من الذنوب.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}.
أي: أوحينا إلى موسى إذ أبى فرعون أن يستجيب له، أن أسر بعبادي، يعني بني إسرائيل.
{فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً}.
أي: اتخذ لهم طريقاً في البحر يبساً. أي: يابساً. وهو مصدر نعت به الطريق. والمعنى: ذا يبس.(7/4674)
ثم قال: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى}.
أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوه، ولا تخشى غرقاً من بين يديك.
قال ابن جريج: " قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا وهذا البحر قد غشينا. فأنزل الله تعالى ذكره: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} من أحصاب فرعون، {وَلاَ تخشى} من البحر وحلاً.
وتقديره عن الأخفش: لا تخاف دركاً فيه. ثم حذف " فيه ".
ومن قرأ {لاَّ تَخَافُ} بالرفع جعله في موضع الحال من موسى.
وقيل: هو نعت لطريق على تقدير: لا تخاف فيه.
وقيل: هو مستأنف على معنى: لست تخاف وتخشى، عطف عليه في الوجوه الثلاثة.
ومن قرا: لا تخف بالجزم، جعله جوباً للأمر في قوله: {فاضرب}.
وقيل: هو جزم على النهي. نهى أن يخاف فرعون. ويكون {وَلاَ تخشى} مقطوعاً من الأول.(7/4675)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
وأجاز الفراء أن يكون معطوفاً على {لاَّ تَخَافُ} وثبتت الألف في الجزم كما ثبتت الياء والواو وهذا غلط عند جميع البصريين لأن الألف لا تتحرك فيقدر فيها حركة. والياء والواو يتحركان فيجوز أن تقدر فيهما حركة محذوفة. وأيضاً فإن ذلك لا يجوز في الياؤ والواو إلا الشعر.
قوله تعالى ذكره: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} إلى قوله: {ثُمَّ اهتدى}.
في الكلام حذف، والتقدير: فسرى موسى بهم فاتبعهم فرعون بجنوده.
والسرى، سير الليل. وكان فرعون ظن أن موسى ومن معه لا يفوتونه لأن البحر بين أيديهم. فلما أتى موسى البحر، ضربه بعصاه، فانفلق منه اثني عشر طريقاً. وبين الطريق والطريق الماء قائماً كالجبال فأخذ كل سبط طريقاً، فلما أقبل فرعون، ورأى الطريق في البحر، أوهم من معه أن البحر فعل ذلك لمشيئته. فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم.
وروي أنهم لما تراءوا وطمع فرعون في موسى ومن معه أرسل الله ضبابة فسترت بعضهم من بعض حتى دخل موسى وقومه في البحر فلما أمنعوا في البحر، انجلت الضبابة، فنظر أصحاب فرعون فلم يروا منهم أحداً، فتقربوا حتى أتوا البحر،(7/4676)
فرأوه منفلقاً. فيه طريق قائمة واضحة يابسة والماء قائم بين الطريق والطريق بمنزلة الجبل العظيم لا يتحرك ولا يزول، فشاهدوا هذه الآيات العظيمة، وأوهمهم فرعون أن البحر إنما انفلق من هيبته ومخافته فدخل خلف بني إسرائيل ليلحقهم، فلما استكمل هو وجنوده في داخل البحر، انطبق عليه، فهلكوا أجمعين.
وقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ}.
أي: ما غرقهم. وفيه معنى العظيم، ولذلك كنى عن الغرق بغشيهم.
قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري.
أي: شعري ما قد عرفتموه. فكنى عنه ليعظمه.
ثم قال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى}.
أي: وجار فرعون بقومه عن سواء السبيل. {وَمَا هدى} أي: ما سلك بهم الطريق المستقيم. يعني في الإيمان والكفر، لأنه نهاهم عن اتباع الرسول فأطاعوه.(7/4677)
ثم قال: {يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ}.
يعني فرعون وهذا خطاب لهم بعد هلاك فرعون وجنوده في البحر.
ثم قال: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى}.
يذكرهم بنعمه عندهم وأياديه لديهم، وقد مضى تفسير هذا كله في البقرة.
{كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
أي: من شهية وحلاله.
{وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ}.
أي: لا يظلم بعضكم بعضاً.
والمعنى: لا يحملنكم السعة والخصب/ على الطغيان فتظلموا فيحل عليكم غضبي. أي: ينزل بكم ويجب.
{وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى}.
أي: شقى وهلك، أي: صار إلى الهاوية وهي قعر جهنم، نعوذ بالله منها.
ثم قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ}.
قال ابن عباس: {لِّمَن تَابَ} من الشرك و {وَآمَنَ} وحّد الله {وَعَمِلَ صَالِحَاً}: أدّى الفرائض.(7/4678)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
والتقدير: وإني لستار لذنوب مَن تاب من الشرك.
وقل قتادة: وإني لغفار لمن تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل صالحاً فيما بينه وبين الله جل ذكره.
وقوله: ثم اهتدى. معناه عند أبن عباس: لم يشكك.
وقال قتادة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وقال أنس بن مالك: {ثُمَّ اهتدى}: أي: أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد: {ثُمَّ اهتدى} ثم أصاب العمل.
وقال الفراء: " ثم اهتدى " ثم علم أن لذلك ثواباً وعليه عقاباً.
قوله تعالى ذكره: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} إلى قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري}.
أي: وأي شيء أعجلك يا موسى وتركت قومك خلفك، وذلك أن الله عز وجل(7/4679)
أنجى موسى وقومه من فرعون وقطع به البحر وأهلك فرعون وقومه، ووعد موسى ومن معه جانب الطور الأيمن، فتعجل موسى إلى ربه، وترك قومه مع هارون يسير بهم في أثر موسى.
وقال ابن إسحاق: وعد الله موسى وقومه بعد أن أنجاه وقومه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة تلقاه فيها بما شاء، واستخلف موسى على قومه هارون ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقه بهم. فلما كلم الله موسى. قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري، وعجلت إليك رب لترضى.
وقيل: المعنى: أن الله تعالى ذكره وعد موسى أن يأتيه في جماعة من بني إسرائيل، ويترك باقيهم مع هارون. فخرج بجماعة من خيارهم، فتقدمهم موسى إلى الموضع الذي وعد بالإتيان إليه. فلذلك قال له تعالى ذكره(7/4680)
{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} أي: عن القوم الذين أتوا معك للميعاد.
قيل: وعدهم أن يسمعوا كلام الله، فلذلك قال: هم أولاً على أثري أي: قريب، مني سائرون إلي. وإنماتقدمتهم لترضى عن].
ثم قال تعالى {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري}.
أي: قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل وإضلال السامري لهم، دعاؤه إياهم إلى عبادة العجل.
قيل: إن السامري كان من القبط، آمن بموسى، فترك الإيان فهو قوله {فَنَسِيَ} أي: فترك العهد، وأكثر الأقوال أنه من بني إسرائيل. وأنه ابن خالة موسى، ويكون قوله: " فنسي " يريد أنه من قول السامري. قال لهم: إن موسى نسي إلهكم عندي ومضى يطلبه. يريد العجل.
وأراد بقوله: " قومك من بعدك " الذين تأخروا مع هارون لا الذين صحبوا موسى ومضوا معه للميقات. وهم الذين اختارهم موسى للميقات، وهم سبعون. فلذلك قال موسى لما أخذتهم الرجفة فماتوا: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} [الأعراف: 155]. يعني الذين تأخروا مع هارون وعبدوا العجل.(7/4681)
ثم قال: {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً}.
أي: فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد تمام الأربعين ليلة غضبان على قومه لاتخاذهم العجل من بعده.
{أَسِفاً} أي: حزيناً لما أحدثوا من الكفر. والأسف: يكون الحزن، ويكون الغضب. ومن الغضب، قوله تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أي: أغضبونا.
ثم قال تعالى ذكره: {قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً}.
أي: قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل لما رجع إليهم غضباناً حزيناً: ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً. وذلك الوعد، قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى}.
وقيل: وعدهم إنزال التوراة عليهمز
وقيل: وعدهم الجنة إذا أقاموا على الطاعة.
وقيل: وعدهم أن يسمعهم كلامه/.
ثم قال: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد}.
أي: طال عليكم إنجاز الوعد.
وقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي}.(7/4682)
كان قد وعدوه أن يقيموا على طاعته ويسيروا في أثره للموعد إلى جانب الطور الأيمن، فعبدوا العجل بعده وأقاموا، وقالوا لهارون: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى}.
ثم قال تعالى: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}.
من ضم الميم في " بملكنا ": فمعناه: ما أخلفنا موعدك بسلطاننا. أي: لم نملك الصواب ولا القدرة على ترك الأخلاف، بل كان ذلك خطأ منا.
ومن كسر الميم: فمعناه: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا الصواب. ومن فتح الميم فمعناه: بقوتنا.
وقيل: هي لغات يرجعن إلى معنى واحد.
وقيل: إن هذا من قول الذين لم يعبدوا العجل، أي: لم نملك ردهم عن عبادة العجل، ولا منعهم من ذلك، فتبرءوا منهم واعتذروا.
ثم قال: {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا}.
قال ابن عباس: كان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون، فهو الأوزار من زينة القوم، أي قوم فرعون.(7/4683)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
ويقال: إن بني إسرائيل لما أرادوا موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم، وقال لهم: إن الله مغنمكم ذلك، ففعلوا، فذلك الزينة الذي حمِّلوا من زينة القوم.
وقوله: {فَقَذَفْنَاهَا}.
أي: في النار لتذوب.
وقوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري}.
أي: فألقى السامري الحلي مثل ذلك، أي: ألقى ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل صلى الله عليه وسلم فكاف في موضع نصب لمصدر محذوف.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ}. إلى قوله: {وأطيعوا أَمْرِي}.
أي: أخرج لهم السامري من الحلي الذي قذفوه في النار، وألقى هو عليه التربة التي كانت معه، عجلاً محسداً، أي: له جسد لا روح فيه.
وقيل: كان لا رأس له، فلذلك قيل جسداً.(7/4684)
وقوله: " له خوار "، أي: له صوت مثل البقر.
قال قتادة: " كان الله جل ذكره وقّت لموسى ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فلما مضت الثلاثون، قال عدو الله السامري: إنما أصابكم بالحلي الذي كان معكم، (يعني إنما أبطأ عليكم موسى عقوبة من أجلي الحلي، ثم قال لهم): فهلموا وكانت حلياً تعوروها من آل فرعون، فساروا وهي معهم، فدفعوها إليه، فصورها صورة بقرة، وكان قد صر في عمامته أو ثوبه قبضة من أثر فرس جبريل صلى الله عليه وسلم فقذفها في الحلي والصورة فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، فجعل يخور خوار البقرة، فقال: هذ ألهكم وإله موسى.
وقال السدي: إن هارون قال لهم: يا بني إسرائيل، إن الغيمة لا تحل لكم، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعاً واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحلي في حفرة، فجاء السامري بتلك القبضة التي من حافر فرس جبريل عليه السلام، فقذفها فأخرج الله(7/4685)
من الحلي عجلاً جسداً له خوار، وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدّوا الليلة يوماً واليوم يوماً، فلما كان العشرون خرج لهم العجل، فلما رأوه، قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، {فَنَسِيَ}، فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي.
وقوله: {فَنَسِيَ} يعني فنسي السامري دينه، أي تركه حين أمرهم بعبادة العجل.
قال ابن عباس: {فَنَسِيَ}: أي: ترك السامري ما كان عليه من الإيمان، فيكون {فَنَسِيَ} من قول الله جل ذكره، إخباراً عن السامري.
وعن ابن عباس أيضاً: {فَنَسِيَ} أي: فنسي موسى إلاهه عندكم وذهب يطلبه، فأضله ولم يهتد إليه.
فيكون {فَنَسِيَ} من قول السامري لبني إسرائيل، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد.
وقيل: معناه: فنسي موسى الطريق وضل عنه.
وقيل: فنسي السامري العهد الذي عهد إليه في الإيمان، فيكون/ {فَنَسِيَ} على هذا القول من الترك. وعلى القولين الأولين من النيسان.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً}. أي: أفلا يرى هؤلاء(7/4686)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
الذين عبدوا العجل أنه لا يكلمهم ولا يرد عليهم جواباً. وهذا توبيخ لهم.
{وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً}.
أي: لا يقدر لهم على ضر ولا نفع، فكيف يكون من هذه حاله إلهاً يُعبد؟!.
ثم قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون من قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم، {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي: إنما أخبركم الله به لينظر محافظتكم على الإيمان بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، فيعلم صحيح الإيمان من مريض القلب الشاك في دينه.
ثم قال: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} أي: إن معبودكم الذي يستحق العبادة هو الرحمن، فاتبعوني ولا تعبدوا غيره. وأطيعوا أمري في ترك عبادة العجل.
قوله تعالى ذكره: {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} إلى قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً}.
أي: قال بنو إسرائيل لهارون لما نهاهم عن عبادة العجل: لن نفارق عبادة العجل حتى يرجع إلينا موسى.
ثم قال: {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} في الكلام حذف. والتقدير: لما رجع موسى، قال: يا هارون: ما منعك أن تتبعني بمن لم يعبد العجل على ما كان بين وبينهم.
قال ابن عباس: لما قال القوم: {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى}، أقام هارون بمن معه من المسلمين ممن لن يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل،(7/4687)
وخشي هارون إن مضى في أثر موسى بمن معه من المسلمين أن يقول له موىس: فرقت بين بني إسرائيل، ولم ترقب قولي. وكن هارون لموسى مطيعاً.
وقال ابن جريج: أمر موسى هارون أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين فذلك قوله: ما منعك ألا تتبعني أفعصيت أمرمي أي: ألا تتبع ما أمرتك به من الصلاح عليهم.
ثم قال تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}.
في الكلام حذف، والتقدير: فأخذ موسى بلحية هارون يجره إليه، فقال هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}.
وقيل: المعنى: لا تفعل هذا، فيتوهموا أنه منك استخفاف وعقوبة.
وقيل: إن موسى إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة، كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه.
وقوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.
قال ابن زيد: خشي هارون أن يمضي في أثر موسى بمن بقي معه من المسلمين الذين لم يعبدوا العجل، ويترك الذين قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا(7/4688)
موسى، فيقول له موسى فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي: أي: جئت بطائفة وتركت طائفة. وهو قول ابن عباس.
وقال ابن جريج: معنه: خشيت أن نقتتل فيقتل بعضنا بعضاً.
ومعنى: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي: ولم تحفظ قولي.
ثم قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري}.
أي: فما شأنك، وما الذي دعاك إلى ما صنعت؟ قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ}: أي: علمت ما لم يعلما.
قال ابن جريج: لما قتل فرعون الولدان، قالت أم السامري: لو نحيته حتى لا أراه ولا أرى قتلته. فجعلته في غار، فأتى جبريل عليه السلام فجعل كف نفسه في فيه، فجعل يرضع العسل واللبن، فجعل يختلف إليه حتى عرفه، فمن ثم معرفته إياه حين قبض قبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام.
وقيل: معنى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي: أبصرت ما لم يبصروا يعني: فرس جبريل.
ومن قرأ بالياء، جعله إخباراً عن بني إسرائيل.(7/4689)
ومن قرأ بالتاء. جعله خطاباً لموسى وبني إسرائيل.
ثم قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول}.
أي: من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام.
وقرأ الحسن وقتادة: فقبصت قبصة بالصاد غير المعجمة، وذلك الأخذ بأطراف الأصابع.
" والقبضة " على قراءة الجماعة قبضك على الشيء بملء كفك مرة واحدة.
" والقُبضة " بضم القاف، مقدار ما يقبض كالغرفة والغرفة.
وقوله: {فَنَبَذْتُهَا}.
أي: ألقيتها في العجل ليخور.
{وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}.
أي: زيّنت لي نفسي أن الحلي إذا سبك وألقيت فيه القبضة أنه يصير عجلاً جسداً.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال/: " لما خرج موسى عليه السلام ببني(7/4690)
إسرائيل السبعين رجلاً، أمرهم أن ينتظروه في أسفل الجبل، وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وليلة، وكتب له في الألواح وأن بني إسرائيل عدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فاستبطأوا موسى بعد ذلك، فاتخذوا العجل من بعده، قال: فبلغنا - والله أعلم - أن الله قال لموسى عند ذلك أن قومك قد اتخذوا العجل من بعدك، قال: عجلاً جسداً له خوار. فقال مسى: رب، من جعله لهم؟ فقال السامري، فقال موسى: رب، السامري جعل لهم العجل وأنت فتنت قومي بالخوار، وجعلت الروح فيه، فما أصنع؟ فرجع موسى إلى قومه معه السبعون رجلاً، ولم يخبرهم موسى بالذي أحدث بنو إسرائيل بـ عده من عبادة العجل، وبالذي قال له ربه، فلما غشي موسى ومن معه محلة قومه، سمع اللغط حول العجل، فقال السبعون الذين معه: ما هذا في المحلة؟ أقتال؟ فقال موسى صلى الله عليه وسلم: ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة، فلما دخل موسى، ونظر إلى ما يصنع بنو إسرائيل حول العجل، غضب،(7/4691)
فألقى الألواح، فتسكرت، وصعد عامة الذي كان فيها من كلام الله وأخذ موسى برأس أخيه يجره إليه، فقال له هارون: يا أخي {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، فأرسله ثم أقبل على السامري، فقال: ما خطبك يا سامري، ولِمَ صنعت ما أرى، فقال له ما نص الله علينا، فأمر موسى بالسامري أن يخرج من محلة بني إسرائيل، وأن لا يخالطهم في شيء، وأمر بالعجل فذبح، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في اليم، ثم أتاهم موسى بكتاب ربهم فيه الحلال والحرام، والفرائض والحدود فلما نظروا إليه قالوا: لا حاجة لنا في الذي آتيتنا به، فإن العجل الذي حرقت كان أحب إلينا من الذي آتينا به فلسنا بقابليه ولا آخذين بما فيه. فقال موسى: رب إن عبادك بني إسرائيل قد ردوا كتابك وكذبوا نبيك، فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا الجبل فغشوا به بني إسرائيل حتى ظلوا به عسكرهم، فحال بينهم وبين السماء، فقال موسى صلى الله عليه وسلم: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقى عليكم الجبل، فقالوا: سمعنا وعصينا الذي جئتنا به، ثم أخذوا ولم يجدوا من أخذه بداً، فرفع عنهم الجبل فنظروا في الكتاب، فبين راض وكاره ومؤمن وكافر فعفا الله تعالى عنهم، فهو قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.(7/4692)
[ثم قال: وكذلك سولت لي نفسي].
وقال ابن زيد: كذلك حدثتني نفسي.
ثم قال تعالى جلّ ذكره: {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ}.
أي: قال موسى للسامري: فاذهب فإنك لك في حياة الدنيا: أي: أيام حياتك أن تقول لا مساس، أي لا أمس، أي: عقوبتك في الدنيا أن لا تكلم ولا تخالط.
وقيل: معناه: لك في [الحياة] الدنيا أن تعيش مع البهائم والسباع والوحوش في البرية، مستوحشاً لا تقرب أحداً ولا تمس أحداً ولا يمسك أحد.
وروي أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه، ولا يخالطوه ولا يبايعون، فلذلك قال له: أن تقول لا مساس وذلك فيما يذكر في قبيلته إلى الآن.
وقال قتادة: كان السامري عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل.
وقال ابن جبير: كان من أهل كرمان.
وقوله: {لاَ مِسَاسَ} منصوب على التبرئة ك (لا رجل في الدار).(7/4693)
ويجوز: {لاَ مِسَاسَ} بكسر السين وتبنيه على الكسر.
ثم قال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} يعني القيامة.
ومن كسر اللام، أراد لن تغيب عنه، وهو قول قتادة، أي: تأتي إليه طائعاً أو كارهاً وفيه معنى التهديد والوعيد، ولفظه لفظ الخبر.
ومن فتح اللام، أراد لن يخلفكه الله، ثم رد إلى ما لم يسم فاعله.
ثم قال: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً}.
أي: انظر إلى العجل الذي عبدته من دون الله، وأقمت بعدي على عبادته لنحرّقنّه بالنار قطعة بعد قطعة، لأن في التشديد معنى التكثير.
وقرأ الحسن: بتخفيف الراء على معنى: لنحرقنه/ مرة واحدة.
وقرأ أبو جعفر القارئ: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} بفتح النون وضم الراء، بمعنى لنبردنه(7/4694)
بالمبارد، يقال: أحرقه وحرقه بالنار، يحرقه ويُحَرِّقه: إذا نحته بمبرد أو غيره.
وقراءة أبي جعفر تروى عن علي وابن عباس.
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنهـ: أمر موسى بالعجل فبرج في البحر فلم يشرب منه أحد ممن عبد العجل إلا اصفّر لونه، فقالوا: ما توبتنا قال: أن يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين، فكان الرجل يقتل أباه وأخاه حتى قُتِلَ منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إليه: مرهم فليرفعوا القتل، فقد رحمت مَن قتل منهم، وقد تبت على مَن بقي.
وقوله: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} أي: لنذرينه في البحر ذرواً.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
أي: إنما معبودكم الذي تجب له العبادة والإخلاص لله الذي لا معبود إلا هو، وسع كل شيء علماً أي: أحاط بكل شيء علماً فلا يَخفى عليه شيء.
قال قتادة: معناه: ملأ كل شيء علماً.
يقال: فلان يسع هذا الأمر، إذا أطاقه وقَوِيَ عليه.
ثم قال تعالى: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ}.(7/4695)
أي: كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى وقومه، كذلك نقص عليك من أخباكر من قد سبق قبلك مما لم تشاهده، ولا عاينته.
ثم قال: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً}.
أي: وقد أعطيناك يا محمد من عندنا ذكراً تتذكر به وتتعظ. وهو القرآن.
{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً}.
أي: من لم يؤمن به ويعمل بما فيه، فإنه يحمل يوم القيامة إثماً عظيماً {خَالِدِينَ فِيهِ} أي: [ما كثين] في عقوبته في النار.
ثم قال تعالى وجل ثناؤه: {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً}.
أي: وساء لهم الوزر حملاً. أي: بئس الوزر لهم. يعني ذنوبهم.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور}.
{يَوْمَ} بدل من يوم الأول، والمعنى: يوم ينفخ ملك الصور فيه. ثم رد إلى ما لم يسم فاعله، وكانت الياء أولى عند من قرأ بها، لأن النفخ في الصور لا يتولاه الله جل ذكره، إنما يتولاه الملك، بأمره وقدرته. ولا حجة في " ونحشر " لأن النافخ الملك والحاشر الله.(7/4696)
ومَن قرأه بالنون، فلأن بعده، ونحشر فأتى بالفعلين على الإخبار عن الله جل ذكره للمطابقة لأن الله تعالى هو الفاعل لجميع الأحوال المقدر لها.
ثم قال تعالى: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً}.
أي: زرق الأعين من العطش الذي يكون بهم في الحشر.
وقال ابن عباس: يكونون يوم القيامة في حال عمياً، وفي حال زرقاً.
وقال جماعة زرقاً: عمياً.
ويروى: أنهم يقومون من قبروهم يبصرون، ثم يصيرون عمياً.
ويروى: أنهم لا يبصرون شيئاً إلا جهنم.
وقيل: زرقاً شعثين متغيرين كلون الرماد.
ثم قال: يتخافتون بينهم. أي: يسرون القول بينهم، يقولون بعضهم لبعض، إن لبثتم في الدنيا إلا عشراً.(7/4697)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
وأصل الخفت في اللغة السكون. أي: ما لبثتم من النفخة الأولى إلى البعث، إلا عشراً، وبين النفختين أربعون سنة.
ثم قال: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي: نحن أعلم بسرهم إذ يقول: أمثلهم طريقة أي: أعلمهم في أنفسهم إن لبثتم إلا يوماً، وذلك من شدة هول المطلع، ينسون ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم وطول العمر حتى يتخيل إليهم من شدة ما هم فيه أنهم لم يعيشوا في الدنيا إلا يوماً واحداً.
وقيل: ذلك تقديرهم فيما بين النفختين.
وقيل: عني بذلك إقامتهم في القبور، ظنوا أنهم لم يلبثوا فيها إلى يوماً بعد انقطاع العذاب عنهم في القبور، لأنهم في طول مكثهم يعذبون، ثم ينقطع عنهم العذاب فيما بين النفختين.
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} إلى قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.
المعنى: ويسألك يا محمد قومكم عن الجبال، فقل يذريها ربي تذرية. وهو تصييرها هباء منبثاً، فَيَذَرُها قَاعاً. أي: فيذر أماكنها قاعاً، أي: أرضاً ملساء صفصفاً:(7/4698)
أي: مستوياً لا نبات فيها ولا نشز ولا ارتفاع.
وقيل: معناه يجعلها رملاً، ثم يرسل عليها الرياح تنسفها وتفرقها حتى يصير مواضعها قاعاً مستوياً. فالصفصف، المستوى.
قال ابن عباس: قاعاً صفصفاً/: مستوياً، لا نبات فيه.
والقاع في اللغة، المكان المنكشف.
والصفصف: المستوى الأملس.
وقال بعض أهل اللغة: القاع: مستنقع الماء. والصفصف الذي لا نبات فيه.
ثم قال: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً}.
معناه عند ابن عباس: لا ترى فيها وادياً ولا رابية.
والأمت عند أهل اللغة، أن يكون في الموضع ارتفاع وانهباط وعلو وانخفاض.
وقال قتادة: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} أي: صدوعاً، {ولا أَمْتاً} أي: دوعاً، {ولا أَمْتاً}(7/4699)
أي: أكمة.
وعن ابن عباس أيضاً: {عِوَجاً}: ميلاً، والأمت: الأثر: مثل الشراك.
ثم قال تعالى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ} أي: يومئذ إذ يتبع الناس صوت الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة، {لاَ عِوَجَ لَهُ} أي: لا عوج لهم عنه، ولكنهم يأتمون به، ويأتونه.
قال محمد بن كعبك القرظي: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة، تطوى السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه.
وقوله: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن}.
أي: وسكنت أصوات الخلائق للرحمن. فلا تسمع إلا همساً.
أي: حس الأقدام إلى المحشر، قاله: ابن عباس وعكرمة والحسن.
وقيل: هو الصوت الخفي الذي يوجد لتحريك الشفتين، وأصله الصوت الخفي.
يقال: همس فلان إلى فلان بحديث، إذا أسره إليه وأخفاه.
وعن ابن عباس أيضاً: {هَمْساً} صوتاً خفياً. وهو قول مجاهد.(7/4700)
ثم قال: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن}.
أي: لا تنفع الشفاعة، إلا شفاعة من أذن له الرحمن في الشفاعة، {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي: قال: لا إله إلا الله.
{يَوْمَئِذٍ} بدل من الأولى. وإن شئت جعلته متعلقاً به {يَتَّبِعُونَ} فتبتدئ به إن شئت، ولا تبتدئ به في القول الأول.
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
قال قتادة: " ما بين أيديهم من أمر الشفاعة وما خلفهم من أمر الدنيا ".
وقيل: معناه: علم ما بين أيدي هؤلاء، الذين يتبعون الداعي من أمر القيامة، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب، وما خلفهم أي ما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا.
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي: لا يحيط خلقه به علماً، وهو يحيط بهم علماً.
وقيل: المعنى، لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علماً. فتكون الهاء تعود على " ما ".
وقال الطبري: الضمير في أيديهم وخلفهم، يعود على الملائكة، وكذلك هو في يحيطون. أعلم الله بذلك الذين كانوا يعبدون الملائكة، وأن الملائكة لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها يوبخهم بذلك. وإن من كان هكذا، كيف يعبد، وأن العبادة إنما(7/4701)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
تصلح لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهو الله لا إله إلا هو.
قوله تعالى: {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} إلى قوله: {زِدْنِي عِلْماً}.
قال ابن عباس: {عَنَتِ}: ذلك أي: استسلمت.
وقال مجاهد: {عَنَتِ} خشعت.
وقال طلق بن جبيب: هو وضعك جبهتك وأنفك وركبتك وكفيك وأطراف قديمك في السجود فهذا يراد به أنها عنت في الدنيا، والأقوال غير هذا يراد بها الآخرة.
وقال ابن زيد: {عَنَتِ} استأسرت للحي القيوم. أي: صاروا أسارى.
وقال الفراء: {عَنَتِ} الوجوه نصبّ وعملته، والعاني الأسير.
وهذا قول أهل اللغة، أن العاني الأسير، سمي بذلك لأنه يذل ويخضع.
ومنه الحديث: " النساء عندكم عوان " ومنه: افتتحت الأرض عنوة، ومنه: عنيت فلانا.(7/4702)
ثم قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}.
أي: قد خسر من حمل يوم القيامة شركاً بالله، قاله: قتادة وابن زيد وغيرهما.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً}.
أي: مَن يؤد الفرائض التي افترض الله عليه، وهو مصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله، فلا يخاف ظلماً، أي: لا يخاف أن تحمل عليه سيئات غيره ويعاقب عليها.
{وَلاَ هَضْماً} أي: نقصاً من ثوابه. قاله قتادة وغيره.
ومن قرأ: فلا يخف بالجزم، جعله نهياً، نهاه الله جل ذكره عن الخوف من أن يصيبه ظلم أو هضم.
وقال ابن جريج/: {الصالحات} هنا: الفرائض.
وقال الضحاك: {وَلاَ هَضْماً}: هو أن يقهر الرجل الرجل بقوته وأصل الهضم، الانتقاص يقال: هضمني فلان حقي، أي: نقصني، ومنه امرأة هضيم الكشح، أي: ظاهرة البطن. وهذا دواء يهضم الطعام. أي: ينقصه، فيزول ثقله.
ثم قال تعالى ذكره: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد}.
المعنى: كما رغب أهل الإيمان في صالح الأعمال فوعدهم ما وعدهم، كذلك حذر بالوعيد أهل الكفر، فقال: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي: أنزلناه بلغتكم أيها(7/4703)
العرب لتفهموه. {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} أي: وخوفناهم بضروب من الوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ما فيه من الوعيد أو يحدث لهم ذكراً فينقلبون عما هم مقيمون عليه من الكفر بالله، يعني: أو يحدث لهم القرآن ذكراً.
قال قتادة: " ذكرا ": ورعاً.
وقيل: معناه: أو يحدث لهم شرفاً بإيمانهم به، كما قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: شرفكم إن آمنتم به. روي ذلك أيضاً عن قتادة.
ثم قال تعالى ذكره: {فتعالى الله الملك الحق} أي: فتعالى الله الذي له العبادة من جميع خلقه، ملك الدنيا والآخرة جميعاً على ما يصفه به المشركون من خلقه.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.
أي: لا تعجل بالقرآن فتقرئه أصحابك أو تقرأه عليهم من قبل أن يقضى إليك وحيه، أي: بيان معانيه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يكتب القر آن أو يتلوه على أحد حتى يبينه له، قال: ابن عباس وقتادة.(7/4704)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعجل القراءة من قبل أن يفرغ جبريل مما يأتيه به، خوف النيسان. ومنه {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16].
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي: زدني علماً إلى ما علمتني. أمره الله تعالى أن يسأل ذلك.
وذكر ابن وهب أن الحسن قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " إن زوجي لكم وجهي " قال لها: بينكما القصاص، فأنزل الله تعالى: ولا تعجل بالقرآن. . . الآية. فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {الرجال قوامون عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [النساء: 34].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ} إلى قوله: {وَلاَ تضحى}.
المعنى: أن يترك هؤلاء المشركون أمري، ويتبعوا أمر عدوهم إبليس، فقديماً فعل أبوهم آدم ذلك. فلقد عهدنا إليه أن إبليس عدوه، فنسي، وأطاعه، أي: فترك ما عهد إليه، وأطاع إبليس إذ وسوس إليه.
قال ابن عباس ومجاهد: " نسي " ترك أمر الله.(7/4705)
وقال الحسن: " نسي ": ترك: ولو كان من النيسان، لم يكن عليه شي.
وقال ابن زيد: العهد الذي عهد الله جلّ ذكره إلى آدم هو قوله: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} أي: نسي العداوة التي أعلم بها.
وقيل: قول عدوه، فيكون نسي من النسيان على هذا القول لا من الترك.
وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنسانً لأنه عهد إليه فنسي.
ثم قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}.
قال قتادة: {عَزْماً}: صبراً.
وقال عطية: {عَزْماً} خفظاً لما أمر به. وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: " العزم ": المحافظة والتمسك بأمر الله.
وعن ابن عباس: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أي لم نجل له عزماً.
قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم، يعني: عقولهم جمعت منذ خلق الله آدم(7/4706)
إلى أن تقوم الساعة، وضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة [الأخرى] لرجح حلمه بأحلامهم وقد قال الله تعالى ذكره {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}.
وقيل: المعنى: " ولم نجد له عزماً " على ترك المعصية. وأصل العزم في اللغة، اعتقاد القلب على الشيء، فيكون المعنى على هذا، ولم نجد له عزم قلب على الصبر على الوفاء بما عهد إليه.
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ} أي: واذكر يا محمد، إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدمك أي اجعلوه قبلة لأنهم أمروا بالعبادة له والسجود له دون الله، فسجدوا إلا إبليس أبى. وهذا تذكير من الله تعالى لنبيّه بما كان من قصة آدم، وأن أولاده لن/ يعدوا أن يكونوا على منهاجه في ارتكاب المعاصي إلا من عصمه الله.
ثم قال تعالى: {فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ}.
ولذلك لم يسجد لك وخالف أمري.
{فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى}.
أي: لا تطيعاه فيما يأمركما به فيخرجكما من الجنة. أي: فيكون عيشك من كد(7/4707)
يمينك، فهو من شقاء الدنيا لا من شقاء الآخرة.
قال ابن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويسمح العرق عن جبينه، فذلك قوله: " فتشقى " فكان ذلك شقاوه.
وجرى الخطاب لآدم وحده، إذ قد علم أن حكم حواء حكمه، ولأن ابتداء الخطاب كان لآدم وحده في قوله " يا آدم إن هذا عدو لك " ولأن التعب في المعيشة في الدنيا على الرجل يجري أكثره، فخصّ بالخطاب لذلك.
ثم قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى}.
أي: إن لك الشبع في الجنة والكسوة والري والسترة.
ومعنى " ولا تضحى " لا يصيبك حرّ الشمس، ولا تظهر إليها، لأن الشمس جعلها الله دون الموضع الذي كان فيه، فليس في الجنة شمس ولا في السماء السابعة. " والظمأ " العطش، مقصور مهموز. والظمى مقصور على غير مهموز سعة في الشفتين.
وقد قال ابن عيينة في الآية، أنه يراد بها الأرض.(7/4708)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
فالهاء في " فيها " في الموضعين تعود على الأرض، وهي في القول الأول تعود على الجنة.
قوله تعالى ذكره: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} إلى قوله: {مَعِيشَةً ضَنكاً}.
أي: فألقى إلى آدم الشيطان، فقال له: {ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} أي: على شجرة من أكل منها خلد فلم يمت، {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} أي: لا ينقضي. وقال السدي: على شجرة الخلد: أي: على شجرة إن أكلت منها كنت ملكاً مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين "، لا تموتان أبداً.
ثم قال تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي: فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها، وأطاعا أمر إبليس، فبدت لهما سواءتهما. أي ظهرت وانكشفت لهما عورتهما، وكانت مستورة عن أعينهما.
قال السدي: إنما أراد إبليس اللعني أن يظهر لهما سوءاتهما، لأنه علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يعلم ذلك آدم، وكان لباسهما الظفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتدمت حواء فأكلت منها. ثم قالت: يا آدم، كُلْ [فإني] قد أكلت،(7/4709)
فلم يضرني، فلما أكل آدم منها بدت لهما سوءاتهما.
ثم قال: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} أي: أقبلا.
وقيل: معناه: جعلا يخصفان عليهما ورق التين. قاله السدي.
وقال قتادة: {يَخْصِفَانِ} يوصلان.
ثم قال تعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى}.
أي: وخالف آدم أمر به، فتعدى إلى الأكل من الشجرة فغوى.
ثم قال: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ}.
أي: اصطفاه [واختاره] ربه بعد معصيته وهداه للتوبة ووفقه لها.
ثم قال: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. أي: قال الله لآدم وحواء اهبطا من الجنة جميعاً إلى الأرض، أي: انزلا. وهذا يدل على أن الجنة في السماْ.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
أي: أنتم عدو إبليس وذريته، وإبليس عدوّكما، وعدو ذريتكما.(7/4710)
قال الضحاك: أُهبط آدم بالهند على جبل يقال له الوسي على رأسه أكليل من ريحان الجنة، وفي يده قبضة من حشيشها فانتثر في ذلك الجبل، فكان منه الطيب، وأهبطت حواء بجدة وأهبط إبليس بالبصرة.
ثم قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}.
يعني: آدم وحواء وإبليس. أي: بيان لسبيلي وما اختاره لخلقي من ديني. {فَمَنِ اتبع هُدَايَ} أي: بياني وعمل به.
{فَلاَ يَضِلُّ} أي: ليس يزول عن حجة الحق.
{وَلاَ يشقى} أي: في الآخرة بعذابها.
قال ابن عباس: فضمن الله لمن قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، أن لا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. أي: وقاه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب. ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن جبير: من قرأ القرآن واتبع ما فيه، عصمه الله من الضلالة ووقاه.
ثم قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}.
أي: من لم يؤمن بالقرآن، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}.
قال ابن عباس/: هي الشقاء.(7/4711)
وقال مجاهد: معيشة ضيقة. وهو قول قتادة.
وذلك في جهنم، لأنه جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم. قاله: الحسن وابن زيد وقتادة.
وقيل: عني بذلك أكلهم في الدنيا الحرام، فالحرام ضيق بسوء عاقبته وإن اتسع في الظاهر. قاله: عكرمة والضحاك.
وعن ابن عباس أنه: كل ما أنفق في غير ذات الله فهو معيشة ضنك.
وعن أبي سعيد الخدري أنه: عذاب القبر يضيق عليه في قبره، حتى تخلتف أضلاعه، وقاله السدي: وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
روي عنه أنه قال: " أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال(7/4712)
عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده، إنه يسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون عحية لكل حية سبعة رؤوس ينفخن في جسمه ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة ".
وروى أبو هريرة رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن إذا ألحد في قبره أتاه ملكان أرزقان أسودان، فيأتيانه من قبل رأسه، فتقول صلاته لا يؤتى من قبلي، فرب ليلة قد بات فيها ساهراً حذاراص لهذا المضجع فيوتى من قبل رجليه، فتقول رجلاه لا يؤتي من قبلنا، فقد كان ينصب ويمشي علينا في طاعة الله حذاراً لهذا المضجع فيؤتى من قبل يمينه فتقول صدقته لا يؤتى من قبلي، فقد كان يتصدق حذاراً لهذا المضجع، فيؤتى من قبل شماله، فيقول صومه لا يؤتى من قبلي، فقد كان يجوع ويظمأ حذاراً لهذا المضجع، فيوقظ كما يوقظ النائم، ثم يسأل ".
قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} إلى قوله: {لأُوْلِي النهى}.
قال مجاهد: أعملى عن حجة، لا حجة له يهتدي بها، وقاله أبو صالح.
وقيل: معنى ذلك، أنه لا يهتدي إلى وجه ينال منه نفعاً ولا خيراً، كما لا يهتدي الأعمى إلى الجهات المنافع في الدنيا.
وقيل: " أعمى " من عمى البصر، كما قال: ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً.(7/4713)
ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}.
قال مجاهد، معناه: لِمَ حشرتني ولا حجة لي، وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها عند نفسي في الدنيا.
وقال إبراهيم بن عرفة: كلما ذكر الله جلّ وعز في القرآن من العمى، فذمّه فإنما يريد به عمى القلب. قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}.
وقيل: معناه، وقد كنت ذا بصر أنظر به الأشياء في الدنيا.
وقيل: معنى الآية: ونحشره يوم القيامة أعمى عن حجته، ورؤية الأشياء، لأن الآية عامة.
وقوله: " لم حشرتني أعمى "، أي: أعمى عن حجتي وعن رؤية الأشياء وقد كنت بصيراً، أي بصيراً بحجتي في الدنيا رائياً للأشياء.
وهذا سؤل من العبد لربه أن يعلمه الجُرم الذي استحق ذلك عليه، لأنه جهله وظن أنه لا ذنب له، فقال الله جلّ ذكره: {قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} أي: فعلت ذلك بك كما أتتك آياتنا، وهي ما أنزل في كتابه من فرائضه.
{فَنَسِيتَهَا}. أي فتركتها، أي: أعرضت عنها، ولم تؤمن بها.(7/4714)
{وكذلك اليوم تنسى}.
أي: كما نيست آياتنا في الدنيا، ولم تؤمن بها، كذلك تترك اليوم في النار.
وقال قتادة: {وكذلك اليوم تنسى} أي: تنسى من الخير، ولم تنسى من الشر.
ثم قال: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ}.
أي: وهكذا نتيبُ من أسرف فعصى ربه، ولم يؤمن برسله وكتبه، فنذيقه معيشة ضنكاً في البرزخ {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى}. أي: ولعذاب الله إياهم في الآخرة أشد من عذاب القبر " وأبقى " أي: أدوم.
ثم قال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون}.
أي: أفلم يهد يا محمد لقومك كثرة ما أهلكنا قبلهم من القرون الماضية، يمشرون في مساكنهم وآثارهم، ويرون آثار العقوبة التي أحللنا بهم لما كفروا، فيؤمنون بالله وكتبه ورسله خوفاً أن يصيبهم بفكرهم مثل ما أصاب القرون قبلهم، فيكون " كم " فاعلة ليهد على هذا التقدير، كأنه قال: أفلم يهد لهم القرون التي هلكت. " ويهد " بمعنى، يبين، وشاهد هذا التقدير أن في حرف/ ابن مسعود: أفلم يهد لهم من أهلكنا قبلهم فكم في موضع " من ".
وقيل: " كم " استفهام، فلا يعمل ما قبلها فيها، وهي في موضع نصب(7/4715)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
ب " أهلكنا ". وهذا القول هو الصحيح عند البصريين، لا يعمل ما قبل " كم " فيها خبراً كانت أو استفهاماً، إنما يعمل فيها عندهم ما بعدها، كأي في الاستفهام.
وكانت قريش تسافر إلى الشام، فيرون آثار عاد وثمود ومن هلك بكفره قبلهم وبعدهم، فحذرهم الله أن يصيبهم مثل ما عاينوا.
وقيل: التقدير: أفلم يهد لهم الأمر، بإهلاكنا من أهلكنا، فالفاعل مضمر.
وقال المبرد: الفاعل المصدر، ودل " يهدي " عليه، كأنه قال: يهدي الهدى.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى}.
أي: إن في ما يعاين هؤلاء من مساكن القرون الهالكة التي كذبت رسلها قبلهم لدلالات وعبراً ومواعظ لأولى القعول.
وقال ابن عباس: {لأُوْلِي النهى}: لأولي التقى.
وقال قتادة: لأولي الورع.
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} إلى قوله: {خَيْرٌ وأبقى}.(7/4716)
أي: ولولا أن الله قدر أن كل من قضى له أجلاً، فإنه لا يحترمه قبل بلوغ ذلك الوقت، والأجل المسمى " لكان لزاماً " أي: لكان العذاب لزاماً لهم.
وقيل: المعنى: لولا أنه قد سبق في علم الله تأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان العذاب لازماً لهم على كفرهم.
وقل: معنى: {كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أي: أنه لا يعذبهم حتى يبلغوا آجالهم.
ومعنى: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة.
وقال مجاهد: " الأجل المسمى هو الدنيا.
وقال قتادة: الأجل المسمى، الساعة، يقول الله تعالى: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46].
قال ابن عباس: " لكان لزاماً " لكان موتاً.
وقال ابن زيد: اللزام: القتل.
ثم قال: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ}.
أي: اصبر يا محمد على قول هؤلاء المكذبين بآيات الله بأنك ساحر وأنك مجنون، وأنك شاعر، ونحو ذلك.
ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}.(7/4717)
وقال ابن عباس: هي الصلاة المكتوبة أي: وصَلِّ بثنائك على ربك.
وقيل: قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} معناه: بحمدك ربك، وقوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} يعني بعد صلاة الصبح وقيل غروبها، صلاة العصر وقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} أي: ومن ساعات الليل فسبح، يريد صلاة العشاء الآخرة. وأطراف النهار يعني: صلاة الظهر والمغرب لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول وفي أول طرف النهار الآخر فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس، وعند ذلك تصلي المغرب، فلذلك قيل أطراف النهار، لأن النهار أربعة أطراف، عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند زوال الشمس وعند وقوفها للزوال.
وقيل: إنه جمع في موضع تثنية. كما قال: فقد صغت قلوبكما.
وقيل: قوله {وَمِنْ آنَآءِ الليل} أوله وأوسطه وآخره قاله الحسن: يعني: به النافلة.
وقال ابن عباس: " هو جوف الليل ".(7/4718)
وقوله: {لَعَلَّكَ ترضى} أي: في الآخرة. ولعل من الله واجبة.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}.
أي: لا تنظر يا محمد إلى ما جعلناه لهؤلاء المعرضين عن آيات الله وأشكالهم من متعة متعوا بها في الدنيا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم فيما متعناهم به.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على إبل لبعض العرب قد سمنت فتقنع ثم مر ولم ينظر إليها، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ. . .} الآية.
" وزهرة " منصوبة بمعنى: متعنا، لأن " متعنا " بمعنى: جعلنا، أي: جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة.
ثم قال تعالى ذكره: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى}.
أي: وعده لك بما يعطيك في الآخرة خير لك " وأبقى " أي: " وأدوم ":.
ويروى أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أنه بعث إلى يهدي يستسلف منه طعاماً، فأبى أن يسلفه إلا برهن فحزِن النبي لذلك، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا} الآية، ونزلت {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 87 - 88] الآية.
وقوله: {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} يعني: زينتها.(7/4719)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
وقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.
أي: / لنبتليهم فيه. وقيل: لنجعل لهم ذلك فتنة.
قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} إلى آخر السورة.
أي: وامر أهلك بالدوام على الصلاة، واصطبر على القيام عليها والإتيان بها بحدودها. {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً} أي: أن ترزق نفسك ولا ترزق أحداً من العباد. وكان عمر رضي لله عنه إذا قام من الليل صلى، فإذا كان من السحر أيقظ أهله فقال: الصلاة الصلاة وتأول هذه الآية، وامر أهلك بالصلاة. . . الآية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة، أمرهم بالصلاة ثم قرأ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة}. . . الآية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يصلي.
وقال صلى الله عليه وسلم في رواية عثمان بن عفان عنه: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين غفر له ".(7/4720)
قال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث طلبت تصديقه في كتاب الله عز وجل، فطلبت تصديق هذا فوجدته في كتاب الله عز وجل في قوله: لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1 - 2] فجعل تمام النعمة أن غفر له ذنبه، وقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] فعلمت حين جعل تمام النعمة على النبي صلى الله عليه وسلم المغفرة أنها هنا، مثل ذلك حين قال: وليتم عليكم فهو المغفرة.
ثم قال: {والعاقبة للتقوى}.
أي: والعاقبة الصالحة من عمل كل عامل لأهل التقوى.
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ}.
أي: وقل المشركون هلاّ يتينا محمد بآية من ربه، كما أتى صالح قومه بالناقة من ربه، وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.
ثم قال تعالى جواباً لهم: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى}.
أي: ما في الكتاب التي قبل هذا الكتاب من أخبار الأمم من قبلهم التي(7/4721)
أهلكناهم لما سألوا الآيات. فكروا بها لما أتتهم كيف عجلنا لهم العذاب.
فالمعنى: فيما يؤمنهم إن أتتهم آية أن يكون حالهم كحال أولئك.
قال مجاهد: {مَا فِي الصحف الأولى}: التوراة والإنجيل.
وقال قتادة: {الصحف الأولى} الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ}.
أي: ولو أنا أهلكنا هؤلاء المشركين الذين يكذبون بهذا القرآن بعذاب من قبل ننزله عليهم.
وقيل: من قبل أن نبعث داعيً يدعوهم إلى ما فرضنا عليهم. فالهاء تعود على القرآن، أو على النبي.
ثم قالت: {لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً}.
أي: لقالوا يوم القيامة إذا وردوا على الله تعالى، فأراد عقابهم: ربنا هلاّ أرسلت إليها رسولاً يدعونا إلى طاعتك فنتبع آياتك، أي: حججك وأدلتك وأمرك ونهيك من قبل أن تذل بتعذيبك لنا ونخزي بها.(7/4722)
روى الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يحتج على الله عز وجل يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير. فيقول المغلوب على عقله: لم يجعل لي عقلاً أنتفع به، ويقول الهالك: لم يأتني رسول ولا نبي، ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك لك، وقرأ {لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} ويقول الصغير: كنت صغيراً لا أعقل قال فترفع لهم النار فيقال لهم ردوها. قال: فيردها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي. فيقول: إياي عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم ".
ثم قال: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ}.
أي قل يا محمد: كلكم أيها المشركون متربص، أي: منتظر دوائر الزمان، فتربصوا، أي: فترقبوا، وانتظروا {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي}.
أي: من أهل الطريق المعتدل المستقيم، أنحن أم أنتم؟.
{وَمَنِ اهتدى}.
أي: وستعلمون حينئذ من المهتدي الذي هو على سنن الطريق القاصد، غير الجائر عن قصده منا ومنكم.
" وممن " استفهام في موضع رفع، / لا يعمل فيها ستعلمون.
وأجاز الفراء: أن تكون في موضع نصب قوله: ستعلمون. بمنزلة(7/4723)
{والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220].
فإن جعلت " مَنْ " غير استفهام، جاز أن يعمل فيها ما قبلها.
وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري: " السَّوَّى " بتشديد الواو من غير همز على " فعلى " أراد السوأي. ثم سهل الهمزة على البدل والإدغام وأنثها لأن الصراط يؤنث، والتذكير فيه أكثر.(7/4724)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
[سورة] "الأنبياء" -مكية.
قوله تعالى ذكره: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} إلى قوله: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}.
معناه: دنا حساب الله لناس على أعمالهم ونقمته منهم {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} يعني: في الدنيا.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في غفلة في الدنيا ".
وروي أن أصحاب النبي عليه السلام كان يقول بعضهم لبعض كل يوم، ما الخبر؟. أي: ما حدث؟. فمر رجل برجل يبني حائطاً له، فقال له: ما الخبر؟ فقال: نزلت: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ". فنزل وترك البناء، فلم يبن ذلك الحائط بعدها.
فالمعنى: قرب [من الناس حسابهم وهم قد غفلوا عما يراد بهم من محاسبة(7/4725)
ربهم لهم على أعمالهم.
قال ابن عباس: " عنى بذلك الكفار " دليله، قوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.
ومعنى الآية ما يأتي الكفار.
وقال ابن عباس: " اقترب للناس حسابهم " معناه: قرب عذابهم.
قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ}.
أي: ما يأتيهم من قرآن يذكرهم الله به ويعظمهم إلا استمعوه وهم يلعبون، لا يعتبرون ولا يتفكرون في وعده ووعيده.
ومعنى " محدث " أي: محدث عند النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن يعلمه فعلمه بإنزال جبريل صلى الله عليهما وسلم إياه عليه فهو محدث في علم النبي عليه السلام ومعرفته. غير محدث عند الله تعالى ذكره.
وقد قيل: عني بذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكرهم ويعظهم فتذكيره لهم محدث على الحقيقة.
وقال: {مِّن رَّبِّهِمْ} لأنه لا ينطبق إلا بما يؤمر به، قال تعالى ذكره:(7/4726)
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] فالله أمره بوعظهم، وتذكيرهم، فلذلك قال: " من ربهم ".
ثم قال: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ}.
أي: غافلة، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه كتابه.
ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ}.
أي: أسر هؤلاء الناس الذين اقترب حسابهم، النجوى بينهم، أي: أظهروا المناجاة بينهم، فقالوا: هل محمد إلا بشر مثلكم، وهو يزعم أنه رسول من عند الله إليكم.
وقيل: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} أي: قالوا ذلك سراً.
وقال أبو عبيدة: " هو من الأضداد ".
وقوله: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} [الأنبياء: 4].
الآية يدل على أنه بمعنى أخفوا.
ثم قال: {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}.
زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ساحر، وأن ما جاء به سحر. أي تقبلون ما جاءكم به وهو سحر وأنتم تبصرون أنه بشر مثلكم.
وفي الضمير الذي أتى بلفظ الجمع في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} مع(7/4727)
الكلام على موضع " الذين " من الإعراب ستة أقوال:
الأول: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} بدلاً من الواو في {وَأَسَرُّواْ}.
فيكون التقدير: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ}.
والثاني: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} رفعاً بابتداء مضمر، والتقدير: " هم الذين ظلموا ".
والثالث: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} رفعاً بفعلهم. والتقدير: يقول الذين ظلموا هل هذا.
والرابع: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} في موضع نصب بإضمار، أعني.
والخامس: أن يكون على لغة من جمع الفعل مقدماً، كما حكي: أكلوني البراغيث، وهو قول الأخفش.
والسادس: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} بدلاً من الناس أو نعتاً. كأنه قال: اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم.
والوقف على {وَأَسَرُّواْ النجوى} حسن على القول الثاني والثالث والرابع.(7/4728)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} إلى قوله: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
أي: قل يا محمد: ربي يعلم قولكم بينكم، {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ويعلم غير ذلك في السماوات والأرض وهو السميع لجميع ذلك/، العليم بجميع خلقه، فيجازي كلا على قدر أعمالهم.
ثم قال تعالى: {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}.
أي: بل قال المشركون: الذي جاء به محمد أضغاث أحلام. أو هم أضغاث أحلام. أي: لم يصدقوا بالقرآن، ولا آمنوا به ولكن قالوا: هو أضغاث أحلام، أي رؤيا رآها في النوم.
" الأضغاث " الأخلاط. ومنه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً}.
وقال بعضهم: بل هي فرية واختلاق من عند نفسه.
وقال بعضهم: بل محمد. . . شاعر، فنقض بعضهم قول بعض.
ثم قالوا بعد ذلك. ونقضوا قولهم كلهم ورجعوا عن ما قالوا، فقالو: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} أي: بل يأتينا محمد بآية تدل على صدقه، كما جاءت به الرسل قبل محمد؟ من مثل الناقة، وإحياء الموتى وشبهه. وذلك منهم تعنت، لأن الله تعالى قد(7/4729)
أعطاه من الآيات ما لهم فيها كفاية، وإنما دخلت " بل " في هذا وليس في الكلام جحد لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فدخلت " بل " لذلك.
ثم قال تعالى ذكره: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ}.
في هذه الآية بيان لإثبات القدر، لأن المعنى: أن امتناع من تقدم من الكفار من الإيمان حتى هلكوا لا يوجب امتناع من بعدهم، لكن كل ذلك بقدر من الله جل ذكره؛ وتحقيق المعنى على قول المفسرين، مآ آمن قبل هؤلاء الذين كذبوا محمداً من أهل قرية عذبناها بالهلاك في الدنيا إذ كفروا بعد مجيء الآية.
{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} استفهام معناه التقرير. أي: فهؤلاء المكذبون محمداً السائلون الآية، يؤمنون إن جاءتهم آية. فلم يبعث الله تعالى إليهم آية لعلمه أنهم يكذبون بها، فيجب عليهم حلول العذاب. وقد تقدم في علمه أن ميعادهم الساعة.
قال تعالى: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 48]. فلما كان أمر هذه الأمة وعقوبتها، أخّرها الله إلى قيام الساعة، لم يرسل إليها آية مما اقترحوا به من الآيات التي توجب حلول العذاب عليها إذ كفرت بعد ذلك كما فعل بالأمم الماضية.
ثم قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أي: وما أرسلنا قبلك يا محمد من الرسل إلا رجالاً مثل الأمم المرسل إليها. يوحي الله إليهم ما يريد. أي: لم يرسل(7/4730)
ملائكة، فما أنكر هؤلاء من إرسالك إليهم وأنت رجل مثلهم؟
وهذا جواب لقول المشركين: {هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}.
ثم قال: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
أي: اسألوا: أهل الكتب التي نزلت قبل كتابكم، يخبرونكم أنه لم تكن الرسل التي أتتهم بالكتب إلا رجالاً مثلهم.
قال سفيان: " يريد: اسألوا من أسلم من أهل التوراة والإنجيل ".
ويراد بالذكر: التوراة والإنجيل.
وروي عن عبد الله بن سلام: " أنه قال: " نزلت في {فاسئلوا أَهْلَ الذكر} فهذا يدل على أن " الذكر " التوراة.
وقال قتادة: {أَهْلَ الذكر}: " أهل التوراة ".
وقيل: {أَهْلَ الذكر} " أهل القرآن " من آمن منهم.
وقال علي: " نحن أهل الذكر ".
وقال ابن زيد: " الذكر: القرآن. لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} ".(7/4731)
ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام}.
أي: وما جعلنا الرسل الذين أرسلنا في الأمم الخالية، جسداً لا يأكلون الطعام. أي: لم نجعلهم ملائكة، ولكن جعلناهم مثلك، يأكلون الطعام.
وقال قتادة: معناه: " ما جعلناهم جدساً إلا ليأكلوا الطعام ".
وقال الضحاك: معناه: " لم أجعلهم جسداً لا روح فيه، لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجساداً فيها أرواح يأكلون الطعام ". والجَسَدُ وُحِّدَ وقَبلَهُ جماعة، لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: وما جعلناهم خلقاً لا يأكلون الطعام.
والتقدير: ذوي جسد. وهذا جواب لقوهم {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7]. فأعلمهم [الله] أن الرسل تأكل الطعام، وأنهم يموتون. وهو معنى قوله: وما كانوا خالدين.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد}.
أي: صدقنا الرسل الوعد بإهلاك قومهم إذ سألوا الآيات، فأتتهم وكذبوا بها. كقوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ} [المائدة: 115].
{فَأَنجَيْنَاهُمْ}.
أي: أنجينا الرسل لما أتى العذاب لأممها. {وَمَن نَّشَآءُ} أي: وأنجينا من نشاء،(7/4732)
يعني: من آمن بالرسل، {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} يعني: الذين أسرفوا/ على أنفسهم فكذبوا الآيات بعد أن أتتهم، فازدادوا كفراً بذلك، فهو إسرافهم.
ثم قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ}. يخاطب قريشاً. أيك فيه شرفكم إن آمنتم به، لأنه عليكم نزل، وبلغتكم. وهو قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: حديثكم.
وقال سفيان: " نزل القرآن بمكارم الأخلاق "، فهو شرف لمن اتبعه وآمن به.
والذكر: يستعمل بمعنى الشرف: يقال فلان مذكور في هذا البلد، إذا كان فيه رفيعاً مذكوراً بالشرف والفضل.
وقيل: معناه: فيه [ذكركم أي]: ذَكَّرْنَاكُم به أَمْرَ دينكم وأمر آخرتكم ومعادكم فجعله ذكرهم، إذ كان به يذكرهم ما وصفنا. وقد قال الله تعالى:(7/4733)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46]. أي اخترناهم ليذكروا أمر معادهم وآخرتهم. وفيه قول آخر، تراه في موضعه.
وقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
تقرير توبيخ وتنبيه على فهم ذلك وقبوله [أي]: أفلا تعقلون أن ذلك على ما أخبرناكم به.
قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} إلى قوله: {عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
المعنى: وكثيراً أهلكنا من أهل القرى كانوا ظالمين بكفرِهم ف " كم " في موضع نصب بقصمنا، وهي خبر، وفيها معنى التكثير. وانقصم أصله الكسر. يقال انقصم سنه، وقصمت ظهر فلان، أي: كسرته.
وروى ابن وهب عن بعض رجاله، أنه كان باليمن قربتان، فبطر أهلها وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فبعث الله تعالى إليهم نبياً فدعاهم، فقتلوه، فألقى الله في نفس بخث نصر غزوهم، فبعث إليهم جيشاً، فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه. فخرج(7/4734)
إليهم بنفسه، فهزمهم، فخرجوا يركضون فسمع مناد يقول: {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ}. فرجعوا، فسمعوا صوتاً يقول: يا لثارات النبي فقتلوا كلهم. فهي التي عنى الله في هذه السورة حصدوا بالسيف.
قال مجاهدك " قصمنا ": أهكلنا. وجرى الخبر عن القرية والمراد أهلها، لأن المعنى مفهوم.
ثم قال: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أي: أحدثنا بعد إهلاك هؤلاء الظالمين قوماً آخرين سواهم.
ثم قال: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ}.
أي: فلما عاين هؤلاء الظالمون من أهل القرى العذاب، ووجدوا مسه، إذا هم مما أحسوا يركضون. أي: يهربون سراعاً يعدون. وأصله من ركض الدابة إذا حركت رجليك عليها فعدت.
فقوله: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ}.(7/4735)
لا يرجع إلى قوله: {قَوْماً آخَرِينَ} لأنه لم يذكر لهم ذنباً يعذبون من أجله، لكنه راجع إلى قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}.
ثم قال: {لاَ تَرْكُضُواْ}.
أي: لا تفروا ولا تهربوا. {وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ}. أي: إلى ما أنعمتم فيه من عيشكم وإلى، {وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تسألون عن دنياكم شيئاً. على وجه السخرية بهم والاستهزاء. قاله: قتادة.
وقال مجاهد: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تنتهون.
وقيل: معناه: لعلكم تسألون شيئاً مما شغلكم عما لكم فيه الصلاح، على التهدد.
وقيل: معناه: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة وعاينتموه من العذاب.
ثم قال تعالى: {قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
أي: قالوا لمّا حلَّ عليهم العذاب: يا ويلنا. وهي كلمة يقولها من وقع في هلكة وتقال لمن وقع في هلكة.(7/4736)
{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بكفرنا بربنا.
ثم قال تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}.
أي: فما زالت تلك الكلمة دعواهم وهي الدعاء بالويل، والإقرار بالظلم.
{حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}.
أي: حتى هلكوا فحصدوا من الحياة كما يحصد الزرع أفصاروا مثل الحصيد من الزرع. {خَامِدِينَ} أي: قد سكنت حركتهم كما تخمد النار فتطفأ.
قال الضحاك ومقاتل ومجاهد: " حصدوا قتلاً بالسيف ".
قال قتادة: " لما عاينوا العذاب، لم يكن لهم هِجِّيرَي إلا قولهم: يا ويلنا، إنا كنا ظالمين.
حتى دمّر الله تعالى عليهم فأهلكهم.
قال ابن عباس: " خامدين خمدوا النار، أي طفئت ولم ينتفعوا بالإيمان والندم/ عند معاينة العذاب، لأنه وقت قد رفع عنهم فيه التكليف. وإذا رفع التكليف، ارتفع القبول. وإنما القبول منوط بالتكليف.
ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين}.
أي: ما خلقناهما لعباً وعبثاً، إنما خلقناهم حجة عليكم أيها الناس، لتعتبروا(7/4737)
وتعلموا أن الذي خلقهما ودبرهما لا يشبهه شيء، وإنه لا تكون العبادة إلا له.
وقيل: المعنى، ما خلقناهما وما بينهما لعباً ولا باطلاً، أي: ليظلم بعض الناس بعضاً، ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا فلا يجازون بأفعالهم.
وقيل: المعنى: ما خلقناهما لعباً، بل خلقناهما ليؤمر الناس بحسن وينهوا عن قبح.
ثم قال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً}.
أي: زوجة وولداً، {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي: من عندنا. أي مما نخلق. لكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله.
قال الحسن: اللهو: المرأة. وقاله مجاهد.
وقال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن - المرأة.
وقال ابن عباس: " لهواً: ولداً ".(7/4738)
وقيل: لهواً: نكاحاً.
وقوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}.
أي: ما كنا فاعلين. قاله قتادة.
وقيل: إن: للشرط. والتقدير: إن كنا فاعلين، ولسنا ممن يفعله.
واقل ابن جريج: " قالوا: مريم صاحبته، وعيسى ولده. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فأنزل الله: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ} الآية.
ومعنى: " من لدنا " عند ابن جريج: " من عندنا من أهل السماء ولم نتخذه من أهل الأرض الذي تلحقهم الآفات والنقص ".
{إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: ما كنا نفعل ذلك.
ثم قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل}.
قال مجاهد: الحق: القرآن، والباطل الشيطان. وكذلك كل ما في القرآن من(7/4739)
الباطل فهو الشيطان عنده. وتقديره في العربية ذو الباطل فتقديره: بل ننزل القرآن على الكفر وأهله {فَيَدْمَغُهُ} أي: فيهلكه. ولذلك قيل للشجة التي تبلغ الدماغ: (الدامغة) وقيل من سلم منها.
قوله {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
أي: ذاهب مضمحل.
ثم قال تعالى: {وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ}.
أي: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته بقولكم: إنه اتخذ ولداً وزوجة.
وقيل: معناه: ولكم واد في جهنم يستعيذ أهل جهنم منه.
ثم قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ}.
أي: كيف يجوز أن يتخذ ولداً من له من في السماوات والأرض، ومن عنده من الملائكة الذين ادعيتم أنهم بنات الله لا يستكبرون عن عبادتهم إياه {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي: ولا يعيون ولا ينقطعون عن عبادته.
" وعند " في هذا بمعنى: قرب المنزلة عند الله لهم، وليس بمعنى قرب المسافة، لأنه لا تحويه الأمكنة فقد علمتم أنه ليس يستعبد والد ولده، ولا صاحبته، وكل من(7/4740)
في السماوات والأرض عبيده، فيكف يكون له صاحبة وولد، أفلا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم.
ثم قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ}. أي: لا يكلون من تسبيحهم.
قال كعب: " التسبيح لهم بمنزلة النفس لبني آدم ".
وعنه أنه قال: " الهموا التسبيح كما ألهمتم الطرف والنفس ".
وذكر علي بن معبد أن عمر بن الخطاب قال لكعب: خوفنا يا كعب. قال: " إن لله عز وجل ملائكة من يوم خلقهم قيام، ما ثنوا أصلابهم، وآخرين وركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين سجوداً ما رفعوا رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعاً: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك كما ينبغي لك أن تعبد ثم قال: والله لو أن رجلاً عمل عمل سبعين نبياً لا ستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ، والله لو دلي من غسلين دلو واحد من مطلع الشمس، لغلت منه جماجم قوم من مغربها والله لتزفرن جهنم زفرة ولا يبقى ملك مقرب إلاّ خرّ(7/4741)
جاثياً على ركبتيه ".
وروى ابن المبارك في حديث عن بعض شيوخه: " أن ملكاً لما استوى الرب جل ذكره على عرشه سجد فلم يرفع رأسه ولا يرفعه إلى يوم القيامة. فيقول يوم القيامة: لم أعبد حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً ".
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: " إن الله جزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل الملائكة تسعة أجزاء، وسائر الخلق جزء. وجزأ الملائكة/ عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون وجزءاً لرسالته. وجزأ سائر الخلق عشرة أجزاء فجعل الجن تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً. وجزأ بني آدم عشرة أجزاء، فجعل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً ".
وعنه أيضاً أنه قال: " الملائكة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء منهم الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفتون، وجزءاً واحداً لرسالته ولما شاء من أمره ".
وقال ابن عباس: " كل تسبيح في القرآن، يعني: به الصلاة ".
ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض}.
أي: اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض: {هُمْ يُنشِرُونَ} أي: هذا الآلهة تحيي الموتى. بل الله هو الذي يحيي الموتى.
وقرىء {هُمْ يُنشِرُونَ} بفتح الياء. والمعنى: هم يحيون فلا يموتون أبداً، كالله(7/4742)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
الحي الذي لا يموت.
ثم قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا}.
أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير والله. و " إلا " بمعنى: غير: فاعرب الاسم الذي بعد " إلا " كإعراب " غير " لو ظهرت فرفع.
هذا مذهب البصريين وسيبويه.
وقال الفراء: " إلا " بمعنى سوى. ومعنى الآية: لو كان المعبود آلهة أو إلهين لفسد التدبير، لأن أحدهما يريد ما لا يريد الآخر، فإذا تم ما أراد أحدهما، عجز الآخر. والعاجز لا يكون إلهاً. وإذا فسد وجود إلهين أو آلهة، ولم يكن بد من خالق مقدر للأشياء، يقدم المقدم منها، ويؤخر المؤخر منها، ويوجدها بعد عدمها، ثبت أنه واحد.
ثم قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي: فتنزيه لله تعالى وتبرئة له عما يفتري عليه هؤلاء المشركون من الكذب.
ثم قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
أي: لا سائل يتعب عليه فيما يفعله بخلقه من حياة وموت وصحة ومرض، وغير ذلك وجميع الخلق. مسؤولون عن أفعالهم ومحاسبون عليها.
قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} إلى قوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}.
المعنى: اتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضر، وتحيي وتميت. قل(7/4743)
لهم يا محمد هاتوا برهانكم إن كنتم تزعمون أنكم محقون في أقوالكم أي: هاتوا حجة ودليلاً على صدقكم.
وقيل: معناه: بل اتخذوا آلهة. وهو بعيد لقوله: " هم ينتشرون " لأنه يصير أنه أوجب ذلك لهم. وذلك لا يجوز.
ثم قال: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي}، أي: هذا الذي جئتكم به من القرآن خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم، وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه، وكفرهم به. " وذكر من قبلي " من الأمم التي سلفت قبلي. أي خبرهم، وما فعل الله بهم في الدنيا، وما هو فاعل بهم في الآخرة.
قال قتادة: " ذكر من معي " القرآن فيه الحلال والحرام. " وكذكر من قبلي " ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم، وماهو صانع بهم وإلى ما صاروا.
وقال ابن جريج: معناه: هذا حديث من معي، وحديث من قبلي.
وقيلأ: المعنى: " وذكر من قبلي " يعني الكتب المتقدمة. أي: هذا القرآن وهذه الكتب المتقدمة لا يوجد في شيء منها. أن الله اتخذ ولداً، ولا كان معه إله. فالمعنى(7/4744)
على هذا أنه جواب ورد لقوله: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}.
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} أي: هذا ذكر من معي وهو القرآن وذكر من قبلي وهو التوراة والإنجيل هل فيهما أن العبادة للآلهة أو فيهما أن الله تعالى أذن لأحد أن يتخذ إلهاً من دونه. ول فيهما إلا أن الله إله واحد. ودل على ذلك كله أيضاً قوله بعد ذلك: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}.
وقرأ يحيى بن يعمر " هذا ذكر " من معي " وذكر " من قبلي بالتنوين وكسر الميم من " مِن " وتقديره: هذا ذكر مما أنزل إلى وذكر مما قبلي.
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة، ولم يعرف لها وجهاً.
ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق} أي: لا يعلمون الصواب من الخطأ. فهم معرضون عن الحق جهلاً به.
وقال قتادة: " معناه: فهم معرضون عن كتا بالله.
وقرأ الحسن: " الحقُّ " بالرفع، على معنى: هذا الحق، أو هو الحق.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}.
أي: ما أرسلنا الرسل من قبلك يا محمد إلا بالتوحيد وإلا بالعبادة لله(7/4745)
وحده، فهذا الأصل الذي لا بد منه/، والشرائع بعد ذلك تختلف، في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي القرآن شريعة.
كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48].
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً}.
أي: قال الكافرون بربهم اتخذ الرحمان ولداً من ملائكته " سبحانه " ينزه نفسه وبيرؤها مما قالوا: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ}.
أي: بل هم عباد مكرمون، أي: بل الملائكة الذين جعلوهم بنات الله عباد مكرمون.
وقيل: عهنى به، الملائكة وعيسى عليه السلام.
قال قتادة: " قالت اليهود إن الله جل ذكره صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم: " بل هم عباد مكرمون ".
وعنه أيضاً أنه قال: قالت اليهود وطوائف من الناس ذلك.
ثم قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول}.
أي: لا يتكلمون إلا بما أمرهم به قاله قتادة. {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي: لا يأمرون حتى يأمر.(7/4746)
وقيل: يعملون ما أمروا به.
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
أي: يعلم ما بين أيدي ملائكته مما لم يبلغوه وهم قائلون وعاملون. {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: وما مضى قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور وما عملوا فيه.
قال ابن عباس: معناه: " يعلم ما قدموا وما أضاعوا من أعمالهم ".
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى}.
أي: لا يشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنهـ.
قال ابن عباس: " إلا لمن ارتضى " أي: ارتضى له بشهادة أن لا إله إلا الله وهذا من أبين الدلالة على جواز الشفاعة بشرط الرضا من الله عز وجل وقال مجاهد: " لمن رضي علمه ".
ثم قال: {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
أي: من خوف الله وحذر عقابه حذرون خائفون.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}.
أي: من يقل نم الملائكة إن إله من دون الله فَثَوَابُهُ جهنم.
وقيل: عنى به إبليس، لأنه كان من الملائكة، ولم يقل ذلك أحد من الملائكة(7/4747)
غيره. قاله: ابن جريج وقتادة.
ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين}.
أي: كذلك نجزي كل من عبد غير الله، أو ادعى ما لايجب من الألوهية.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}.
أي: أو لم يعلم هؤلاء المشركون بقلوبهم فيعلمون أن السماوات والأرض كان كل واحد منهما لا صدع فيه. لا تمطر السماء ولا تنبت الأرض، {فَفَتَقْنَاهُمَا}. أي: فصدعهما الله بالماء والنبات، فأنزل الله من السماء الماء، وأخرج من الأرض النبات. هذا معنى قول عكرمة. قال: " فتقت السماء بالمطر، وفتقت الأرض بالنبات وهو قوله: {والسمآء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع}
[الطارق: 11 - 12] وهو أيضاً قول عطية وابن زيد. وهذا القول اختيار الطبري، لأن بعده: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: من الماء الذي فتقنا السماء به. ووحد رتقاً، لأنه مصدر. يقال: رتق فلان الفتق. إذا سده، فهو يرتقه رتقاً.
وقيل: معنى: الآية كانتا ملتصقتين ففصلنا بينهما بالهواء، قاله: الحسن وقتادة.(7/4748)
وقال مجاهد: " كانت السماء مرتتقة طبقة واحدة، ففتقها الله سبع سماوات وكذا الأرض. وهو قول أبي صالح والسدي.
وعن ابن عباس أن المعنى: " أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين بالظلام لأن الليل خلق قبل النهار، ففتقهما الله تعالى بضوء النهار ".
وقوله: " إن السماوات " تدل على قول مجاهد.
وقد قيل: إنما قال السماوات يريد به السماء، لأن كل قطعة منها سماء.
وقيل: إنما قال: " السماوات " لأن املطر وري أنه ينزل من السماء السابعة. وروي أنه ينزل من الرابعة. وقد قالوا: ثوب أخلاق، فجمعوا لأن كل قطعة منه خلقة، فجمع لأن فيها قطع كثيرة.
وقوله: " كانتا "، ولم يقل " كنَّ "، فإنما كان ذلك لأنهما صنفان، كما قال تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وقيل: إنما كان ذلك لأن السماوات كانت سماء واحدة، فعبر على الأصل.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.(7/4749)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
أي: كل شيء له حياة وموت كالإنسان والبهيمة والزرع والشجر، لأن لها موتاً إذا جفت ويبست فحياة جميع ذلك بالماء.
وقيل: هو حياة جميع الحيوان، إنما جيء بالماء الذي بنباته يعيش كل [شيء] حي.
وقيل: عنى بالماء هنا، النفطة خاصة.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ}. إلى قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}.
أي: وجعلنا الأرض جبالاً لئلا تميد بالناس.
قال قتادة/: " كانوا على الأرض تمور بهم، ولا يثبت عليها بناء فأصبحوا وقد خلق الله الجبال أوتاداً حتى لا تميد الأرض ". والميد التحرك والدوران.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً}.
قال قتادة: " فجاجاً ": إعلاماً. " سبلاً ": طرقاً.
قال ابن عباس: " وجعلنا فيها فجاجاً " أي: في الرواسي.
وعنه: " الفجاج " كل شعب في جبل أو واد له منفذ.(7/4750)
وعنه أيضاً: " فجاجاً " بين الجبال.
والفج في اللغة، الطريق بين الجللين.
وقيل: الضمير في فيها يعود على الأرض، وهو اختيار الطبري لقوله تعالى: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}. أي: يهتدون إلى السير في الأرض. والأرض تؤنث وتذكر. والتأنيث أكثر. وحكى أبو زيد أرضون وأراض وأروض في جميع الأرض. ويجوز في القياس أرضات.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً}. أي: سقفاً للأرض محفوظاً بالملائكة من الشياطين.
وقيل: معناه: محفوظاً من أن يقع على الأرض.
وقيل: محفوظاً بالنجوم من الشياطين. وهو أولى، ودليله قوله تعالى ذكره: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 7].
وقال ابن جبير: السماء بحر مكفوف. ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(7/4751)
وروى الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السماء موج مكفوف ".
قال قتادة: {سَقْفاً مَّحْفُوظاً} أي: مرفوعاً، وموجاً مكفوفاً.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}.
أي: وهم عن شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من آياتنا، معرضون عن التفكر فيها، وتدبر ما فيها من الحجج والدلائل على توحيد الله وقدرته.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر}.
أي: ابتدعها. فمن ابتدع هذه الأشياء وخلقها، فله تجب العبادة لا لغيره.
قال عكرمة: سئل ابن عباس عن الليل أكان قبل النهار أم قبل الليل؟ فقال: أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاص، أكان بينهما إلا ظلمة ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
والليلة اسم للزمان من غروب الشمس إلى الانفجار الثاني.
واليوم: اسم للزمان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وكذلك النهار، واليوم ألزم لهذا الوقت من النهار، لأن بعض العرب يجعل النهار من طلوع الشمس إلى غروبها.(7/4752)
حكى ذلك عن بعضهم أبو حاتم في كتابه صفة البرد والحر وصفة أوقات الليل والنهار.
وقد يقع اليوم، اسماً للزمان، من طلوع الشمس إلى غروبها. وذلك مما جرت به العادات من الاستجارات ونحوها مما تعارق ذلك بين الناس، والأصل في اليوم، أنه اسم للزمان الذي تَعَبَّدَ الله به خلقه بالصيام والنهار مثله في أكثر اللغات.
وأصل الليل والنهار أنهما صفتان لزمانين معلومين على ما ذكرنا.
وقد قال الخليل: النهار ما بين الفجر إلى الغروب.
ثم قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
قال مجاهد: " الفلك " كهيئة حديدة الرحى. وقاله ابن جريج.
وقال الضحاك: " الفلك " هو سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وسيرها.
وقيل: " الفلك ": موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقيل: " الفلك " القطب الذي تدور به النجوم.
وقال ابن عباس وقتادة: " في فلك السماء ".(7/4753)
وقال ابن زيد: " الفلك " الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر. وقرأ: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61]. وقال: فلك البروج بين السماء والأرض، وليست في الأرض.
وعن الحسن أن الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.
وقال: " يسبحون " لأنه أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. فأتى بالواو والنون في فعلها.
ومعنى: " يسبحون " يجرون وينصرفون ويدرون.
ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد}.
أي: ما خلدنا أحداً من بني آدم في الدنيا، فنخلدك يا محمد فيها. أفئن مت فهؤلاء المشركون خالدون بعدك في الدنيا. وتقديره: أهم الخالدون إن مت.
ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}.
أي: كل نفس معالجة غصص الموت، ومتجرعة كأسه.
{وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً}.
أي: ونختبركم أيها الناس بالرخاء والشدة وبما تحبون وما تكرهون، لننظر صبركم عند البلاء وشكركم عند الرخاء.(7/4754)
وقال ابن عباس: معناه: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة/ والمعصية والهدى والضلالة.
ثم قال تعالى: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
أي: تردون فتجازون بأعمالكم. والرجوع إلى الله في هذا وفي كل ما في القرآن، إنما معناه: إلى حكمه وإلى قضائه وعدله، وليس برجوع إلى مكان الله، ولا إلى ما قرب منه، لأنه لا تحويه الأمكنة، إنما هو بمنزلة قولك: رجع أمرنا إلى القاضي وإلى الأمير. فقرب المسافة لا يجوز على الله جل ذكره، فافهمه.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً}.
أي: يسخرون منك يا محمد إذا رأوك. يقول بعضهم لبعض: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} بسوء ويعيبها، تعجباً من ذلك. فيعجبون يا محمد من ذكرك آلهتهم وهي لا تضر ولا تنفع. وهم بذكر الرحمان الذي خلقهم، وأنهم عليهم كافرون
ثم قال تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.
يعني: آدم خلق من العجلة وعلى العجلة.
وقال ابن جبير: " لما نفخ في آدم الروح إلى ركبتيه ذهب لينهض فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.
وقال سلمان الفارسي: " لما خلق الله من آدم وجهه ورأسه، جعل ينظر، وهو(7/4755)
يخلق، قال وبقيت رجلاه.
فلما كان بعد العصر قال: يا رب عجل قبل الليل. فقال: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}. ذكره ابن وهب عن رجاله.
وقال قتادة: " معناه: خلق الإنسان عجولاً.
وقال السدي: لما نفخ الله في آدم الروح فدخل في رأسه، عطس، فقال له الملائكة: قل الحمد لله. فقال: الحمد لله. فقال الله تعالى له: رحمك ربك. فلما دخل الروح في عينيه. نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن ينتهي الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.
وقيل: معناه: خلق آدم آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس فكان خلقه على استعجال. قاله ابن جريج: وغيره.
قال ابن جريج: خلق الله آدم بعد خلق كل شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق. فلما آتى الروح عينيه ولسانه ورأسه، ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس، فذلك قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.(7/4756)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
وقد قال ابن زيد: معناه: خلق الإنسان على عجل. خلق آدم آخر النهار من يوم الجمعة، فخلقه الله على عجل وجعله عجولاً.
وقال الأخفش: إنما خلق الإنسان من عجل، لأنه خلق على تعجيل من الأمر، لأنه إنما قال له كن فكان. فخلق على استعجال وقال جماعة من النحويين: هو مقلوب. والمعنى: خلق العجل من الإنسان.
وقيل: المعنى: خلق الإنسان من طين، لأن العجل من الطين.
ثم قال: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}.
أي: سأوريكم أيها المستعجلون ربهم بالآيات، القائلون لنبيه " فليأتنا بآية " فلا تستعجلون بالآيات فستأتيكم.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} إلى قوله: {ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
أي: ويقول المشركون متى يأتنا هذا الذي تعدنا يا محمد والوعد بمعنى الموعود. كما قيل: الخلق بمعنى المخلوق. والوزر بمعنى الموزور. {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
و" متى " في موضع رفع عند البصريين. وفي موضع نصب عند الكوفيين(7/4757)
وكذلك الجواب عند الكوفيين إذا كان معرفة، نصب. يقول: متى وعدك؟ فالجواب عندهم يوم الجمعة بالنصب، فإن كان الجواب نكرة، كان نكرة مرفوعاً. لو قلت يوم قريب ونحوه رفعت.
وحكى الفراء: اجتمع الجيشان: المسلمون جانب، والكفار جانب صاحبهم برفع الأولى لأنه نكرة. ونصب الثاني لأنه معرفة. والرفع عند البصريين، في جميع هذا الوجه، إذا كان الظرف متمكناً تقول: موعدك غُدْوة وبُكْرَة فترفع. فإن قلت موعدك بَكْرَاً. نصبت لأن بكراً غير متمكن. ويدل على صحة البصريين إجماع القراء المشهورين على الرفع في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} [طه: 59].
ثم قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار}.
أي: لو يعلم هؤلاء المستعجلون عذاب الله ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وظهورهم ولا يقدرون أن يكفوا ذلك عن أنفسهم، ففي " يكفون " ضمير " المشركين ". {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي: ولا ناصر لهم من عذاب الله يستنقذهم منه/.
وفي الكلام حذف. قيل: التقدير: لو علموا ذلك، ما أقاموا على كفرهم.(7/4758)
وقيل: التقدير: لو علموا ذلك ما سألوا العذاب واستعجلوه. فقالوا: متى هذا الوعد، فهو جواب " لو " محذوف لعلم السامع.
وقيل: التقدير: لو يعلمون ذلك، لا تعظوا وازدجروا عن كفرهم.
وقيل: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة.
فالمعنى: لو يعلمون ذلك علم يقين، لعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيه. ودل على هذا المعنى قوله: " بل تأتيهم بغتة " هذا قول الكسائي ومثله، {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 5].
أي: لو علمتم ذلك يقينً ما ألهاكم التكاثر.
ثم قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا}.
أي: ألهؤلاء المستعجلون ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم من دون الله إن حل عليهم العذاب.
ثم وصف تعالى ذكره الآلهة بالضعف، فقال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} فمن لا يقدر أن ينصر نفسه، فكيف يقدر أن ينصر غيره.(7/4759)
وقوله: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ}.
أي: لا تصحب آلهتهم من الله تعالى بخير. قاله قتادة.
وقال مجاهد: {يُصْحَبُونَ}. أي: ينصرون.
وعن مجاهد أيضاً: {يُصْحَبُونَ} يحفظون.
وعن ابن عباس: {يُصْحَبُونَ} يمنعون.
وعن ابن عباس: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي: ولا الكفار منا يجارون من قوله: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} وهذا القول: اختيار الطبري ليكون الضمير يعود على الكفار.
ويحتمل قول من قال: يحفظون ويمنعون وينصرون أن يكون الضمير يعود على الكفار.
ثم قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر}.
أي: متعناهم بالحياة، ومتعنا آباءهم من قبلهم، حتى طال عليهم العمر. وهم على كفرهم مقيمون.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ}.
أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون أنا نأتي الأرض نخربها من نواحيها بقهرنا أهلها(7/4760)
وقتلهم بالسيف، فيتعظوا بذلك، ويحذروا أن ينزل بهم مثل ذلك.
وقال قتادة: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} يعني بالموت.
وقال الحسن والضحاك: يعني فتح البلدان والأرض، يراد بها أرض مكة.
ثم قال تعالى: {أَفَهُمُ الغالبون}.
هذا تقريع وتوبيخ: أي: ليس هم الغالبون. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغالب.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي}.
أي: بالقرآن.
{وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء}.
أي: من أصم الله قلبه عن قبول الذكر، فليس يسمع سماعاً ينتفع به، إنما ينتفع به المؤمن. فعُني بالصم هنا المعرضون عن ذكر الله. فمن أعرض عن قبول شيء، فهو بمنزلة من لا يسمعه، وقت ما ينذر به.
ثم قال تعالى: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ}.
أي: ولئن مسهم نصيب وحظ من عذاب ربك، " يقال: نفخ فلان لفلان من عطائه إذا أعطاه قسماً أو نصيباً من المال.(7/4761)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
وقال قتادة: نفحة: عقوبة.
وقيل: النفحة ها هنا: الجوع الذي أخذهم الله به بمكة.
وقيل: " نفحة "، أقبل شيء من العذاب، وأدنى شيء منه. {لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
أي: ظلمنا في عبادتنا الأصنام وتركنا عبادة الله الذي خلقنا، وأنعم علينا.
قوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط} إلى قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين}.
أي: ونضع الموازين العدل في يوم القيامة. " اللام ": بمعنى: " في ". وقيل: " اللام " على بابها. والتقدير لأهل يوم القيامة.
{فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً}.
أي: لا يؤخذ/ أحد بذنب غيره، أو بذنب لم يعلمه، أو يسقط له عما عمله من خير.
قال ابن عباس: هذا بمنزلة قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} [الأعراف: 8].
وروي أن الميزان له كفتان، وأن الأعمال تمثل بما يوزن.
ويروى أنه إنما يوزن خواتمها.(7/4762)
وقال سلمن الفارسي: توضع الموازين يوم القيامة، فلو وضع في إحدى الكفتين السماوات والأرض، لوسعتهن. فتقول الملائكة: ربنا لمن وضعت هذا؟ فيقول: لمن شئت من عبادي.
فيقولون: سبحان ربنا ما عبدناك حق عبادتك.
وعن حذيفة: أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم.
وعن مجاهد: " الموازين ": العدل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يذكر أحد حميمه عند الميزان ".
وقوله: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}.
أي: إن كان له عمل من الحسنات أو [عليه] عمل من السيئات وزن حبة من خردل، جئنا بها، فوفينا كلاً ما عمل.
وقال ابن زيد: " أتينا بها " أي كتبناها، وأحصيناها له وعليه.(7/4763)
وقرأ مجاهد: " أتينا بها، بمعنى: جازينا بها.
{وكفى بِنَا حَاسِبِينَ}.
أي: وكُفينا حاسبين. أي حسب من شهد الموقف ذلك اليوم بنا حاسبين. إذ لم يغب عنا من أعمالهم شيء. " وحاسبين " نصب على الحال، أو على التمييز.
وروى أحمد بن صالح عن قالون عن نافع: " القطط " بالصاد، لأجل الطاء والأصل، السين.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ}.
أي: أعطيناهما الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل. وهو التوراة،(7/4764)
قاله قتادة.
قال ابن زيد: الفرقان: الحق أتاه الله موسى وهارون، ففرق به بينهما وبين فرعون. قضى بينهم بالحق، وهو مثل: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] يعني: يوم بدر. وهذا القول اختيار الطبري لقوله: وضياء. فالضياء هو التوراة، أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم. وفي دخول الواو في " وضياء " دليل علكى أن الضياء غير الفرقان.
وقوله: {وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} أي: وذكراً لمن اتقى الله بطاعته، وخاف ربه بالغيب أن يعاقبه في الآخرة.
{وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ}.
أي: من قيام القيامة حذرون أن تقوم عليهم، فيردوا على ربهم مفرطون فيما يجب عليهم من طاعته.
وقرأ ابن عباس: " الفرقان ضياء " بغير واو.
فيكون الفرقان على هذا القراءة التوراة بغير اختلاف.(7/4765)
ثم قال تعالى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ}.
يعني القرآن.
{أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}.
تقرير وتوبيخ للمشركين الذين أنكروه وقالوا: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ}.
أي: ولقد وفقنا إبراهيم فأعطيناه هداه من قبل موسى وهارون.
قال مجاهد: " معناه: هديناه صغيراً ".
وقال ابن عباس: لما خرج وهو صغير من الموضع الذي جعل فيه، رأى كوكباً في السماء، وهي الزهرة تضيء فقال: هذا ربي. فلما غابت، قال: لا أحب الآفلين. ثم فعل ذلك مع الشمس والقمر. ثم قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79].
وقوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}.
أي: عالمين أنه ذو يقين وإيمان بالله. إذ قال لأبيه: " أي حين {قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}.
أي: ما هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون. يعني أصنامهم التي كانوا يعيدون.
ثم قال: {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}.
أي: قالوا لإبراهيم إنما عبدنا هذه الأصنام لأنَّا وجدنا آباءنا لها عابدين.(7/4766)
قال لهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم: { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في ذهاب عن الحق بعبادتكم هذه لأصنام.
" مبين " أي: ظاهرين. قالوا لإبراهيم {أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي: أحق ما تقول. أم أنت لاعب من اللاعبين.
قال لهم إبراهيم: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} أي: بل جئتكم بالحق لا باللعب. " ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن " أي: خلقهن. {وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} أي: أنا شاهد من الشاهدين أن ربكم رب السماوات والأرض/ دون التماثيل التي تعبدون.
ثم قال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.
أقسم إبراهيم بهذا في نفسه سراً من قومه، لم يسمعه منهم أحد إلا الذي أفشاه عليه. إذ قال: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].
قال مجاهد: قال ذلك إبراهيم حين استأذنه قومه إلى عيد لهم فأبى وقال: " إني سقيم "، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر وهو الذي يقول: " سمعنا فتى يذكر يقال له إبراهيم ".
ثم قال تعالى ذكره: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ}.(7/4767)
أي: فجعل الأصنام حطاماً إلا صنماً كبيراً لهم، فإنه تركه لم يحطمه، وعلق الفأس في عنقه ليحتج به عليهم إن فطنوا به، وهو صنم كبير في الصورة.
وقيل: هو أكبرها عندهم، لا أكبرها في صورته.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}.
أي: لعلهم يؤمنون به إذا رأوها مكسرة لم تدفع عن أنفاسها ضر من أرادها، ولم يدفع عنها كبيرها شيئاً.
قال السدي: " قال أبو إبراهيم له، إن لنا عيداً لو خرجت معنا، والله قد أعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه، معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي وهو صريع.
فلما مضوا، نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فسمعوها منه. ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هن في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة. قالوا: إذا كان حين نرجع، رجعنا وقد(7/4768)
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
باركت الآلهة في طعامنا، فأكلنا. فلما نظر إليها إبراهيم، وإلى ما بين أيديها من الطعام. قال: {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}. فلم تجبه. فقال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} فأخرج حديدة فنقر كل صنم في حافتيه، ثم علق الفأس في عنق الأكبر، ثم خرج، فلما رجعوا، قالوا: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين}.
" والجذاذ " بالضم جمع جذاذة، كزجاجة وزجاج. وقيل: هو مصدر كالحطام والرفات. ومن كسر جعله جمع جذيذ وجذيذ معدول عن مجذود كجريح بمعنى مجروح، فيكون ككبير وكبار وصغير وصغار وثقيل وثقال.
وقال قطرب: هو مصدر ضم أو كسر أو فتح، وهي لغات فيه بمعنى والجذاذ. أي: الحطام والفتات، ومنه الجذيذة.
قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} إلى قوله: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين}.
أي: قال الذين سمعوه [حين] قال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}،(7/4769)
{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي: يذكرهم بسوء.
وقيل: يذكرهم: يسبهم ويعيبهم.
{يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي: يقال له يا إبراهيم.
وقيل: التقدير: يقال له: هو إبراهيم، أو المعروف به إبراهيم: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}.
أي: قال بعضهم لبعض: فجيئوا به على رؤوس الناس لعلهم يشهدون عليه أنه هو الذي فعل هذا.
قال قتادة: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
وقيل: معناه: لعلهم يعاينون العقوبة التي تختص به.
ثم قال: {قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم}. في الكلام حذف والتقدير: فأتوا به، فلما أتوا قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال لهم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} إنه غضب من أن تعبد معه هذه الصغار، وهو أكبر منها فكسرها.
وقيل: التقدير: بل فعله كبيرهم هذا، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. أي: إن(7/4770)
كانت الآلهة المكسرة تنطق، فإن كبيرهم هو الذي كسرهم غضباً أن تعبد معه وهو كبيرهم.
وقد أتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله. قوله تعالى: بل فعله كبيرههم هذا. وقوله: " إني سقيم " وقوله في سارة: " إنها أختي " وهذا عند أهل العلم غير مكروه، لأنه يجوز أن يكون الله تعالى أذن له في ذلك كما أذن/ ليوسف أن يقول مؤذنه لأخوته " إنكم لسارقون " ولم يكونوا سرقوةا شيئاً.
وقد خرجَّ العلماء لإبراهيم عليه السلام الأشياء الثلاثة وجوهاً تخرج إلى غير الكذب. فسارة أخته في الدين، وقوله: " إني سقيم " معناه: مغتم بضلالكم حتى أنا كالسقيم.
وقيل معناه: إني سقيم عندكم، وقيل: يجوز أن يكون ناله من ذلك الوقت مرض.
وقيل: معناه: إني سأسقم، لأن كل من كان مصيره إلىلموت، فلا بد من أن يسقم.(7/4771)
وقيل: لا يكون الكاذب إلا الآثم، وما ليس فيه إثم، فليس بكذب. دل على ذلك قول الملكين {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} [ص: 22] ولم يكونا خصمين ولا كان بغي ولكن عرضا بذلك لداود للقصة التي جرت له في المرأة التي تزوجها.
والمبرد معناه إذا كنا خصمين فبغى أحدنا على صاحبه فما الحكم؟.
ثم قال تعالى: {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون}.
أي: ففكروا حين قال لهم إبراهيم، بل فعله كبيرهم هذا. ورجعوا إلى عقولهم ونظر بعضهم إلى بضع فقالوا إنكم إيها القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقِيلكم له " من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ".
فهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ}.
أي: ثم [غلبوا] في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو حجة له عليهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون. أي: لا تتكلم فتخبرنا من فعل بها هذا.
وقال قتادة: " نكسوا عن رؤوسهم: " انقطعت حجتهم ". يقال: نكس الرجل على رأسه إذا انقطعت حجته، كأنه طأطأ رأسه استحياء.(7/4772)
وعن قتادة أيضاً أنه قال: " أدركت القوم حيرة سوء "، يعني: حين قاله لهم إبراهيم: فاسألوهم إن كانوا ينطقون.
وقيل: المعنى: نكسوا في الفتنة والشرط بعد المعرفة: قاله: ابن عباس والسدي فيكون معناه: ثم رجعوا كما عرفوا، وتيقنوا من حجة إبراهيم عليهم السلام. فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
ثم قال تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ}.
أي: قال إبراهيم لقومه لما أقروا أن آلهتهم لا تنطق، أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، لأن من لا ينفع نفسه فيدفع عنها الضرر، فليس ينفع غيره.
ثم قال لهم إبراهيم: {أُفٍّ لَّكُمْ}.
أي: قبحاً لكم، وشراً لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون خطأكم في عبادتكم ما لا ينفع ولا يضر، وترككم عبادة الذي بيده النفع والضر.
وقد تقدم شرح أف في " سبحان ".
ثم قال تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.(7/4773)
أي: قال بعضهم لبعض، حرقوا إبراهيم بالنار وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها ولم تريدوا ترك عبادتها.
رويَ أن الذي قاله: رجل من اكراد فارس.
وروي أن الله تعالى ذِكْرُهُ خَسَفَ به الأرضَ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وقال ابن عمر: الذي أشار بذلك، رجل من أعراب فارس. وهم الكرد، فأعراب فارس يقال لهم الكرد.
ثم قال تعالى ذكره: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ}.
في الكلام حذف، والتقدير: فأوقدوا له ناراً وألْقوه فيها، فقلنا يا نار كوني(7/4774)
برداً وسلاماً.
قال السدي: حبسوه في بيت، وجمعوا له حطباً، حتى إن كانت المرأة لتمرض، فتقول: إن عافاني الله، لأجمعن حطباً لإبراهيم. فلما جمعوا وأكثروا، بنوا بنياناً وأوقدوا النار حتى أن الطير لتمر بها فتحترق من شدة وهجها وحرها. ثم عمدوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وشرَّفَ وكرَّم، فَرَفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه إلى السماء فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا إبراهيم يحرق فيك. فقال جل وعز: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه. وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رفع رأسه إلى/ السماء: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض من يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل.
فقذفوه في النار فناداها " يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ". فكان جبريل، هو الذي ناداها ".
وقال أرقم " إن إبراهيم عليه السلام حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك "؟
قال كعب: " ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولا أحرقت بالنار يومئذ شيئاً إلا وثاق إبراهيم عليه السلام.(7/4775)
قال ابن عباس: " لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها. فلم تبق يومئذ نار في الأرض. إلا طفئت ظنت أنها هي تعنى. فلما طفئت النار، نظروا إلى إبراهيم عليه السلام، فإذا هو ورجل آخر معه، وإذا رأس إبراهيم صلى الله عليه وسلم في حجره يمسح عن وجهه العرق. وذكر أن لك الرجل هو ملك الظل. وأنزل الله تعالى ناراً فانتفع بها بنو آدم وآخرجوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأدخلوه على الملك نمرود ولم يكن قبل لك دخل عليه ".
قال كعب: ما أحرقت النار منه إلا وثاقه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " لولا أنه قال: " وسلاماً " لقتله بردها ".
قال بكر بن عبد الله: لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار، قالت الخليقة: يا رب، خليلك يلقى في النار؟ فأذن لنا حتى ننصره. فقال الله عز وجل: هو خليلي، ليس لي(7/4776)
خليل غيره. وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بكم فأغيثوه. فجاء ملك القطر فقال: يا رب، إئذن لي فلأطفينها عنه. فقال الله عز وجل هو خليل ليس لي خليل غيره، وأنا إلهه، ليس له إله غيري إن استغاث بك فأغثه. فقال الله عز وجل: { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ}. فما أحرقت ذلك اليوم عراكاً.
وقال قتادة: " كانت الدواب كلها تطفئ عن إبراهيم النار إلا الوزغ ".
وروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما كنت أياماً قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.
ولما رفع عن إبراهيم الطبق ورآه والده يرشح جبينه، قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم، فكان ذلك أحسن شيء قاله: أبو إبراهيم.
قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة وذبح إسحاق هو ابن سبع سنين، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق(7/4777)
بطنت يومين وماتت في اليوم الثالث.
وروى معتمر بن سليمان أن جبريل صلى الله عليه وسلم لما جاء إبراهيم وهو يوثق ويقمط ليلقى في النار. قال يا إبراهيم: ألك حاجة؟ قال: أما إليك.
فلا.
ويروى أن إبراهيم كان في زمان نمرود، فملا كسر إبراهيم صلى الله عليه وسلم أصنامهم كما قص الله علينا في كتابه بنى نمروج بناء طوله ثمانون ذراعاً في عرضه أربعون ذراعاً، وأقد فيه النيران، ثم جعل إبراهيم في منجنيق فقذف به في النار، فقال الله جل ذكره للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فبردت ذلك اليوم، فلم ينتفع به أحد. ولولا ما قال تعالى: " وسلاماً " لآذت إبراهيم ببردها.(7/4778)
وروى أن جبريل عليه السلام أتى إبراهيم وهو في المنجنيق، فقال يا إبراهيم، سلني حوائجك، إن كنت تريد أن أجعل الأرض عليهم عاليها سافلها فعلت. فقال إبراهيم عليه السلام: إني رفعت حوائجي إلى الله، ولست أسأل أحداً غيره. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: لو كان ينبغي لله أن يتخذ خليلاً، لاتخذك خليلاً. فاتخذ الله إبراهيم خليلاً، فلما رمي إبراهيم في النار، أشرف نمرود ينظر إلى النار فرأى فيها عدة يذهبون ويجيئون، فدعا حاجبه، وفتح بابه، وأدخل عليه أشراف قومه فقال لهمه: كم طرحتم في النار؟ فقالوا: إبراهيم وحده. قال فهو هذا معه عدة قد صار الجحيم عليهم مثل الأرض، فركب نمروج حتى أتى النار فصاح: يا إبراهيم، فقال إبراهيم: ما تشاء. قال: إنك لحي، قال نعم والحمد لله. قال: فمن هؤلاء النفر معك؟ قالم ملائكة ربي. قال: تقدر أن تخرج؟ قال: نعم. قلا: فاخرج. فانفرج/ له الجحيم فخرج صلى الله عليه وسلم وقد زاده الله جمالاً ونوراً. فقال نمرود: إنك لكريم على ربك. فقال إبراهيم: كذا هو لمن أطاعه. فقال: نمرود: أتراني إن تقربت إليه بقربان يقبله مني؟ فقال إبراهيم: إنما يتقبل الله من المتقين. فذبح نمرود أربعة آلاف كبش. فأكل الناس منها حتى أكل الطير والسباع والهوام. ثم قال يا إبراهيم أرني جند ربك الذي تهددني بهم فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: اللهم أره أضعف جندك. فنزلت سحابة فقال إبراهيم: في هذه جند ربي فقال: أرنيهم. فانتشر منها بعوض فما برح نمرود حتى رأى عظام من حضر من(7/4779)
أصحابه، وعظام خيلهم قد أكلتهم البعوض إلا العظام.
ثم وقعت واحدة في شفة نمرود السفلى فصح حتى أمر بها فقطعت، فارتفعت إلى شفته العليا، فاستغاث فقطعت، ثم دخلت في مخره، فما كان يهدأ ليلاً ولا نهاراً. وكان يضرب رأسه بمرزبة من حديد، فأقام في ذلك أربع مائة سنة.
وقال الحسن: لما ألقي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار، لم يؤذه حرها، فقالوا: سحرها فما لها حر.
ويروى أنهم بنوا له بنياناً ارتفاعه أربعون ذراعاً وطوله على وجه الأرض ثمانون ذراعاً، فأوقدوا فيه النار، ووضعوا إبراهيم عليه السلام في المنجنيق وألقوه في الجحيم، فقال الله تعالى للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، ولو لم يقل تعالى ذكره: " وسلاماً " لمات إبراهيم من البرد في وسط النار، فكان إبراهيم جالساً في النار على زرابية من الجنة.
قال الحسن: فلما رأوه لا يؤذه حرها، قالوا: سحرها. فقال لهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم: جربوها برجل منكم. فألقو فيها رجللاً فأكلته.
ويروى عنه أنه قال: لما أوثقوه ليلقوه في النار، قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد والك الملك لا شريك لك.
وذكر الشعبي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما ألقي إبراهيم في البنيان والنار، قال حسبي الله ونعم الوكيل. فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.
وقال زيد بن أسلم: قال إبراهيم حين أرادوا أن يلقوه في النار: اللهم أنت إلهي، الواحد في السماء وأناع عبدك الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل. فقال الله تعالى للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.(7/4780)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
ثم قال: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} أي: الهالكين.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً} إلى قوله: {لَنَا عَابِدِينَ}.
أي: ونجينا إبراهيم ولوطاً من أعدائهما نمرود وقومه، من أرض العراق الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وهي أرض الشام قاله قتادة والحسن، وقاله أُبي بن كعب وغيره. وكان لوطاً ابن أخي إبراهيم.
ويروى أن سارة زوج إبراهيم أخت لوط، يريدون أخت لوط لأمه، إلا يحل تزوج أخت ابن الأخ لأب أو لأب وأم. ولوط هو ابن هارون بن بارح أبي إبراهيم. وهارون هو أخو إبراهيم. كان نمرود إله أريكوثا من أرض العراق فهاجر إلى أرض الشام، خرجا إليها مهاجرين.
ويروى أن جميع الأمواه العذبة تخرج من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.
ويقال: هي أرض المحشر والمنشر. وبها تجتمع الناس وبها ينزل عيسى، وبها يهلك الله مسيح الضلال الكاذب الدجال.
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم مهاجراً إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجراً، وتزوج إبراهيم سارة بنت عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على(7/4781)
عبادة ربه، حتى نزل حران، فمكث بها ما ش اء الله أن يمكث. ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام ونزل لوط بالمؤتفكة. وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعث الله نبياً.
وقيل: إن سارة إنما هي بنت ملك حران، تزوجها واشترط لها ألا يغيرها. وكان لوط ابن أخت إبراهيم. وكان مسك لوط بحران.
وقال ابن عباس قوله: {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}. مكة ونزول إسماعيل البيت، ودل على ذلك قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96].
ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي: ولد الولد/ فالنافلة يعقوب. قاله: ابن عباس وقتادة.(7/4782)
وقال ابن جريج: النافلة: إسحاق ويعقوب.
ومعنى النافلة: عطية. أي: وهبناهما له عطية من عندنا وكذلك قال مجاهد. فعلى القول الأول، يقف على " إسحاق " وعلى هذا القول، لا تقف عليه.
ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ}.
أي: وكلهم جعلنا عاملين بطاعة الله.
ثم قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.
أي: أئمة يهتدى بهم في أمر الله، قاله قتادة.
وقيل: جعلهم أئمة يؤتم بهم في الخير.
وقيل: المعنى: يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك، ويدعونههم إلى الله وإلى عبادته.
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات}.(7/4783)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
أي: أن أفعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة، أي: أمرناهم بذلك. فالمصدرن يقدر بأن والفعل.
ثم قال تعالى: {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ}.
أي: خاشعين لا يستكبرون عن عبادتنا.
و" عابدين " وقف إن نصبت " ولوطاً " بإضمار فعل. أي: واذكر لوطاً.
قوله تعالى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}.
المعنى: وآتينا لوطاً آتيناه حكماً وهو فعل القضاء بين الخصمين وعلماً بأمر دينه. {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث}، أي: من العذاب الذي نزل بالقرية، وهي قرية سدوم التي بعث لوط إلى أهلها، والخبائث هو إتيان الذكور في أدبارهم وإظهار المنكر في مجالسهم، فاخرجه الله مع ابنتيه ومن آمن إلى الشام حينأ راد الله إهلاك قومه، لأنهم كانوا قوم سوء " فاسقين ". أي: خارجين عن طاعة الله تعالى مخالفين لأمره.
ثم قال: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ}.
أي: أنجيناه من العذاب فدخل في الرحمة.
وقال ابن زيد: هو دخوله في الإسلام.(7/4784)
{إِنَّهُ مِنَ الصالحين}.
أي: من العالمين بطعة الله.
ثم قال تعالى ذكره: {وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ}.
أي: واذكر نوحاً إذ نادى ربه من قبلك. ومن قبل إبراهيم ولوط، وسأل أن يهلك قومه الذين كذبوه فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهله. يعني أهل الإيمان من ولده وحلائله من الكرب العظيم، وهو الغرق الذي حل بقومه، وبجميع من في الأرض.
ثم قال: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
أي: ونصرناه على القوم المكذبين، فأنجيناه منهم وأغرناقهم أجمعين، لأنهم كانوا قوم سوء، يعصون الله، ويكذبون رسوله. ف " من " بمعنى " على ".
ثم قال: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ} أي: بالنجاة.
وقيل: في الإسلام.
" إنه من الصالحين " من العالمين بطاعة الله.
ثم قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم}.
أي: واذكر داود وسليمان حين يحكمان في الحرث.
قال قتادة: ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في كرم ليلاً.(7/4785)
وقال ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد أنبت عناقيده.
يقال: نفشت الغننم، إذا رعت ليلاً. فهي نفاش ونفاش ونفش وإذا رعت النهار قيل: سرحت وسَرَبَت وهملت.
قال الزهري: النفش بالليل والهمل بالنهار.
وقوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي: الحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم شاهدين، لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب.
ثم قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي: ففهمنا القضة سليمان دون داود، {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أي: وكلهم، يعني داود وسليمان والرسل المذكورين في هذه السورة. {آتَيْنَا حُكْماً} يعني النبوة وعلماً بأحكام الله.
قال ابن عباس: دخلت الغنم ليلاً، فأفسدت الكرم، فاختصموا إلى داود. فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فمروا على سليمان، فأخبروه فقال: كان غير هذا الحكم أرفق بالجميع. فدخل صاحب الغنم، فأخبر داود، فقال لسليمان: كيف الحكم عندك. فقال: يا نبي الله، تدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيصيب من ألبانها وأصوافها وأولادها، وتدفع الكرم إلى صاحب الغنم يقوم به حتى يرجع إلى حاله.
فإذا رجع إلى(7/4786)
حاله، سلم الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها. وكذلك قال مجاهد وشريح وقتادة وجماعة من الكوفيين يزعمون أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً ليلاً أو نهاراً أنه لا يلزم أصحابها شيء/.
قال: هو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم:
" العجماء جبار " ولم يقل بهذا أحد غير أبي حنيفة.
وقد حكم بالضمان لما أفسدت البهائم بالليل ثلاثة من الأنبياء: داود وسليمان ومحمد صلى الله عليه وسلم. قضى النبي أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.(7/4787)
وقال أبو حنيفة: لا ضمان.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " جرح العجماء جبار " إنما يعني به ما أصابت البهيمة فلا أرض فيه إذا لم يكن على صاحبها حفظها، لأن العلماء قد أجمعوا على أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها، إذ عليه حفظها ولا خلاف فيها إلا خلاف من لا يعد خلافاً. فإذا الزم ما أصابت بيديها الدابة فليس بجبار إلا إذا لم يكن على صاحبها حفظها وتضمين أصحاب الماشية ما أصابت بالليل. وهو قول مالك والشافعي.
فالذي يحكم به في مثل هذه القضية في الإسلام أن يقوم ما أفسدته الماشية من الكرم، ويغرمه أرباب الماشية لأهل الكرم، لأن حفظ الليل كان عليهم لازماً، فلما فرطوا ضمنوا الجناية.
ويروى أن ناقة للبراء بن عازب رعت نباتاً لقوم، فقضى رسول الله عليه السلام أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب المواشي ما أصابت مواشيهم بالليل.(7/4788)
وخالف أبو حنيفة هذا الحكم، وزغم أنه منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العجماء جبار " والرواية عند أهل الحديث: العجماء جرحها جبار. وقد أجمع أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها، فدل ذلك أن ما أصابت جبار إذا لم يكن صاحبها معها أو قائدها. فخالف أبو حنيفة، في هذا داود وسليمان ومحمداً صلى الله عليه وسلم وجميع العلماء. " وجبار " مشتق من جبرت العظم، إذا لامته، وجبرت الرَّجْلَ، إذا نعشته فكان صاحبها يجبر وينعش بإسقاط ما جنته الدابة عنه من غير أن يكون له فيه فعل.
ويجوز أن يكون من أجبرت الرجل على الشيء، إذا قهرته عليه، فتكون الدابة كلها مجبرة من حيث عليه أن لا يأخذ في الجناية بشيء.
وقد قيل: إن الذي أفسدت الماشية كان زرعاً فقضى فيه سليمان أن يأخذ صاحب الزرعغ الماشية ينتفع بألبانها. وأصوافها إلى أن يأتي حول ثاني، ويزرع له صاحب الماشية مثل زرعه. فإذا بلغ الحد الذي كان عليه وقت رعته الماشية، دفعه إلى صاحب الزرع، وأخذ ماشيته.
وقيل: كانا نبيين يحكمان في وقت بأمر الله ووحيه.
فكان داود يحكم بحكم أمره الله به. فيحكم به في الزرع، ثم نسخه الله، فأوحى إلى سليمان نسخه فحكم به في ذلك. فكل حكم بحكم الله تعالى وأمره له. وحكم سليمان ناسخ لحكم داود بأمر الله له ووحيه إليه. ولذلك قال: وكلاً آتينا حكماً وعلماً.(7/4789)
ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}.
قال زيد بن أسلم: الحكم، أو الحكمة العقل.
وقال مالك: وإنه ليقع بقلبي أن الحكمة، الفقه بدين الله عز وجل، ولين يدخله الله القلوب من رحمته وفضله.
ثم قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ}.
أي: يسبحن معه إذا سبح.
وقال قتادة: " معنى " يسبحن هنا، يصلين معه إذا صلى. " والطير " يجوز أن يدخلن في التسبيح مع الجبال، وهو الأولى، ويجوز أن يدخلن في التسخير لا غير.
ثم قال: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}.
أي: فاعلين بقدر ما نريد.
وقيل: المعنى: وكنا فاعلين للأنبياء مثل هذه الآيات.
وقيل: معناه: وكنا قضينا أن نفعل ذلك به في أم الكتاب.
ثم قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ}.
أي: وعلمنا لداود صنعة سلاح وهو الدرع هنا. واللبوس في كلام العرب: السلاح كله: الدرع والسيف والرمح وغير ذلك. وكان أول من صنع هذه الحلق(7/4790)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
والسرد داود.
وقوله: {لِتُحْصِنَكُمْ} أي: ليُحرزكم إذا لبستموها، ولقيتم أعداءكم من القتل، فهل أنتم أيها الناس شاكرون الله على نعمه عندكم.
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} إلى قوله: {وذكرى لِلْعَابِدِينَ}.
أي: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة. وعصوفها، شدة هبوبها، تجري بأمر سليمان إلى الأرض التي/ باركنا فيها، يعني إلى أرض الشام. كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث شاء، ثم تعود به إلى منزله بالشام.
وقال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج من مجلسه عكف عليه الطير وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا تاه حتى يذله، كان إذا أراد الغزو، أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه النساس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استفلت، أمر الرخاء، فمرته شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد. وهو قوله تعالى ذكره: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.
ثم قال تعالى: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}.
أي: بصلاح كل الخلق، وبما أعطينا سليمان مما فيه صلاح له وللخلق، عالمين بذلك، لا يخفى علينا منه شيء.(7/4791)
ثم قال تعالى: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ}.
أي: وسخرنا له من الشياطين قوماً يغوصون له في البحر، " ويعملون عملاً دون ذلك " يعني البنيان والتماثيل والمحاريب وغير ذلك من الأعمال.
قال الفراء: دون ذلك: أي: سوى ذلك.
فإن قيل: كيف تهيأ للجن هذه الأعمال من البنيان العظيم واستخراج الدر من قعور البحار وغير ذلك، وأجسامهم رقيبة ضعيفة لا تقدر على حمل الأجسام العظام ولا تقدر على ضر الناس إلا بالوسوسة لضعفهم ورقة أجسامهم. فالجواب أن الذين سخروا لهذه الأعمال أعطاهم الله قوة على ذلك، وذلك من إحدى المعجزات لسليمان. فلما مات سليمان، سلبهم الله تعالى تلك القوة، وردههم على خلقتهم الأولى، فلا يقدرون الآن على حمل الأجسام الكثيفة ونقلها. ولو أظهروا ذلك، وقدروا عليه، لدخلت على الناس شبهة من جهتهم وتوهيناً لمعجزات الرسل. وكذلك سخر الطير له بأن زاد في فهمها عنه وقبولها لأمره، وخوفها عقابه، وذلك من معجزات سليمان. فلما مات، زال ذلك عنها، ورجعت إلى ما خلقت عليه.
ثم قال تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}.
أي: لأعمالهم وأعدادهم وطاعتهم له، حافظين.
وقيل: المعنى: وكنا لهم حافظين، أن يفسدوا ما عملوا.(7/4792)
وقيل: حافظون لهم أن يهربوا منه ويمتنعوا عليه فحفظهم بما شاء من ملائكة أو جن مثلهم طائعين لله.
ثم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر}. أي: واذكر يا محمد أيوب حين نادى ربه، وقد مسه الضر والبلاء.
رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ما به من ضر. ويروى أنه ما نادى إلا بعد تسع سنين، وكان الضر الذي نزل به اختباراً من الله تعالى له، وامتحاناً. وكان الله قد وصع عليه في دنياه، وأعطاه ولداً وأهلاً، فاختبره الله بهلاك ماله فشكر وعلم أنه من عند الله. ثم ابتلاه بذهاب أهل وولده فصبر وشكر، ثم ابتلاه بالبلاء في جسمه، فتناثر لحمه، وتذود جسمه وعظم عليه البلاء حتى أخرجه أهل بلده من قريتهم، ورموه على تل من الأرض خارج القرية وكان إبليس في خلال تلك المحن يتصور له ويستفزه أن يكفر بنعم الله أو بغضم لما حل عليه، ولم يجد فيه إحالة عن شكره وذكره، ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، وإبليس اللعين يتلطف أن يستفز أحدهما بزلة أو كفر، فلم يقدر على ذلك.
قال وهب بن منبه: فبلغني أنها التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه، فما وجدت شيئاً حتى جزت قرناً من رأسها فباعته برغيب فأتته فعشته أياه. قال وهب: فلبث في ذلك البلاء ثلاث سنين.(7/4793)
وقال الحسن البصري: مكث في ذلك البلاء تسع سنين وستة أشهر ملقى على رماد في جانب القرية، فلما اشتد بلاؤه وعظمت مصيبته أراد الله تعالى أن يفرج عنه، فقيل له: يا أيوب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم وولدك ومثلهم معهم، وعمرك ومثله معه، لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء، وعزاء للصابرين. فركض برجله، وانفرجت له عين فدخل فيها فاغتسل. فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج وجلس، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضعجعه، فلم تجده، وقامت كالواهلة ملتدمة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا؟ قال: لا، ثم تبسم فعرفته واعتنقته.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، ما فارقته من عناقه حتى موجهاً كل مال لهما وولد.
ويروى أن الله جل ذركه رد عليه أهله ومثلهم معهم، وأمطر عليهم فراشاً من ذهب، فجمع حتى ملأ كل ما أراد، وأقبل يشحن في ثيابه فأوحى الله إليه، أما يكفيك ما جمعت حتى تشحن في قميصك؟ فقال أيوب: وما يشبع من خيرك؟
ويروى أن إبليس اللعين تمثل لامرأة أيوب صلى الله عليه وسلم في هيئة شريفية ومركب له هيبة، وقال [لها]:
أنت صاحبة أيوب المبتلى؟ فقالت: نعم. قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا. فقال: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني.(7/4794)
ولو سجد لي سجدة واحدة لرددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد.
ثم مثل لها أباهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه وقال إن صاحبك أكل طعاماً ولم يسمنى عليه لعوفي مما به من البلاء، فرجعت امرأة أيوب إليه، فأخبرته بما قال لها وما أراها فقال لها أيوب، قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك. ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة ضربة.
قال ابن عباس: لما ابتلاه الله بما ابتلاه [ولم يشأ] الدعاء في أن يكشف عنه ما به من ضر، غير أنه كان يذكر الله كثيراً ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الكتاب أجله أذن له في الدعاء فدعا، فكشف ما به، ورد عليه مثل أهله وماله الذين ذهبوا، ولم يرج عليه الذي هلك، لكن وعده أن يوليه إياهم في الآخرة، قال مجاهد. قال: خُيِّرَ أيوب أن يرد عليه أهله ومثلهم معهم في الدنيا، أو يعطى في الدنيا مثل أهل، ويرد عليه في الآخرة أهله، فاختار أن يردوا عليه في الآخرة ويعطى في الدنيا مثلهم، وقال ابن عباس.
وقال الحسن: رد عليه ماله الذي ذهب ومثلهم معهم من النسل.
ثم قال: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ}.
أي: ورحمناه رحمة ليتذكروا بذلك ويتعظوا.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنهـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مكث أيوب به بلاؤه ثمانية عشر سنة. فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان(7/4795)
ويروحان عليه، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، له ثمان عشر سنة بهذا الضر، لم ي رحمه الله فيكشف ما به، فأخبر الذي يقول أيوب بقول صاحبه بحضرتهما، فقال أيوب: ما أدري ما تقولان، غير أن الله يعلم إن كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ويحلفان، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر أن يذكر الله إلا في حق ".
وروي عن الليث أنه قال: " كان الذي أصاب أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم جبار من الجبابرة في بعض ما كان من ظلمة للناس، فكلموه، فأبلغوا في كلامهم، فرفق أيوب في كلامه مخافة منه على زرعه، فقال الله له: يا أيوب أتقيت عبداً من عبيدي من أجل زرعك، فنزل به ما نزل ذكره ابن وهب ".
وعن الليث أنه قال: " بلغني أنه قيل لأيوب صلوات الله عليه: ما لك لا تسأل الله العافية؟ قال: إني لأستحي من الله أن أسأله العافية حتى يمر بي من البلاء ما مر بي من الرخاء ".
وقيل: إن الذي كان حدث به داء يقال له الأكلة، فكان جسمه يتآكل ويتساقط حتى شغل عن القيام بماله، فذهب ماله وزال جميع ملكه، وحتى أن قومه أخرجوه من جوارهم، فصار في طريق من أطراق البلاد بحيث لا يجد فيه غذاء إلا ما يجده الفقراء الزمناء، وهو صابر مع ذلك، يحتسب، عارف بعدل الله في ذلك أنه لم يختر له، ولافعل به إلا ما حسن نظره في باب الدين أو أنه فعل ذلك به ليعوضه من نعيم الجنة ما هو أنفع له وأصلح مما سله من ماله وصحة جسمه، فكان إبليس اللعين يؤذيه(7/4796)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
بالوسوسة، ويؤذي أهله بذلك، ويوسوس إلى جيرانه في إخراجه عنهم، وإبعاده منهم.
فعند ذلك دعا الله في كشف ما به، فاستجاب له لا إله إلا هو، فكشف ضره، ورزقه من المال والأهل أكثر مما كان قبل ذلك.
قوله: {وذكرى لِلْعَابِدِينَ} قيل: معنه: ليتعظ العابدون فيما يصيبهم من المحن بأيوب، فيصبروا ويحتسبوا ذلك عند الله، كما فعل أيوب. ولا يجوز لأحد أن يتأول في قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فهو الذي أمرضه، وألقى الضر في بدنه، ولا يكون ذلك إلا من عند الله وبأمره وأرادته يفعل ما يشاء، ويبتلي عباده بما يشاء، ليكفر عنهم سيئاتهمه، وليثيبهم بما أصابهم. ففي كل قدر قدره الله على العبد المؤمن خير له، إما في عاجل أمره أو آجله، فعلى هذا يعبد الله من فهم عنه.
وقيل: إن الذي أصابه إبليس، إنما هو ما وسو إليه به وإلى أهله، فكان ذلك الذي شكا به إلى الله.
قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ} إلى قوله: {نُنجِي المؤمنين}.
أي: واذكر يا محمد إسماعيل وإدريس وذا الكفل. ذو الكفل رجل تكفل بكفالة من الطاعة لله فأتمه.
روي أن نبياً من الأنبياء قال: من يتكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب. فقام شاب فقال: أنا. فقال: اجلس. ثم قال: من يتكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب. فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فقال: اجلس فجلس ثم عاد الثالثة فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فصام النهار وقام الليل ثم مات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب مكان فقضى بين الناس، فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضرباً شديداً، فقال: من(7/4797)
هذا؟ فقال: رجل له حاجة فأرسل معه رجلاً فرجع فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب فسمي ذا الكفل.
وقال مجاهد: لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل. قال: فجمع الناس فقال: من يتكفل بثلاثة أستخلفه؟ يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العيون فقال: أنا وقال مثلها في الثوم الثاني، فقام ذلك الرجل فاستخلفه فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم فقال: دعوني وإياه، [فأتاه] في صورة شيخ كبير قبيح الصورة فقير. وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك السريعة فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم. قال: ففتح الباب وجعل يقص عليه ويطول عليه، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة وقال له: إذا رحت فأتني وآخذ لك بحقك. فانطلق وراح وكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس فنظره فلم يره، فلما رجع إلى القائلة وأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له، فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فآتني؟ قال: إن خصمي قوم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا نمت جحدني. قال: فانطلق فإذا رحت فأتني فأتته القائلة وراج، وجعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس. فقال لأهله من الغد: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم فلما(7/4798)
كان تلك الساعة جاء فقال له الرجلأ: وراءك، فقال: إني قد أتيته بالأمس، وذكرت له أمري فقال: لا والله، لقد أمرنا ألا ندع أحداً يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوة فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل، فقال: يا أبا فلان، ألم آمرك؟ فقال: أما/ من قبلي والله فلم تؤت، فانظر من أين أوتيت.
فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال: يا عدو الله. قال: نعم. أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك، فسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوفى به.
قال مجاهد: كان رجلاً صالحاً غير نبي. وكذا قال أبو موسى الأشعري وقوله: {كُلٌّ مِّنَ الصابرين} أي: كلهم من أهل الصبر فيما نابه في الله، وعلى تبليغ(7/4799)
رسالاته وعلى شدائد الدنيا، وعلى القيام بعبادة الله، وعلى الصبر على الأذى في الله.
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين}.
أي: ممن عمل بطاعة الله.
وقيل: إن ذا الكفل إنما سمي بذلك لأن الله تكفل له في عمله وسعيه بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمنه.
ثم قال تعالى ذكره: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ}.
أي: واذكر [يا محمد] صاحب الحوت. وهو يونس إذ ذهب مغاضباً.
قال ابن عباس والضحاك: ذهب غاضباً على قومه.
وعن ابن عباس أنه خرج مغاضباً على ربه لما رد العذاب عن قومه وصرفه عنهم. وهذا قول مردود، لا تغضب الأنبياء على ربها، لأن الغضب على الله معاداة(7/4800)
له. ومن قصد الله بالعداوة كفر. ونعيذ الله تعالى يونس صلى الله عليه وسلم من ذلك. وكذلك لا يجوز أن تتأول في قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}.
إنه من القدرة عليه، وأنه يفوت الله. كان صلى الله عليه وسلم أعلم بالله من ذلك، إنما هو من التقدير الذي هو التضييق. ظن أن الله لا يضيق عليه مسلكه في خروجه عنهم. طمع برحمة الله له في ترك التضييق عليه. وقد فسرنا هذال المعنى.
وقيل: إنما نقم الله عليه أنه خرج عن قومه فاراً من نزول العذاب بهم من غير أن يأمره الله بالخروج، وهي صغيرة والله يغفر الصغائر لغير الأنبياء، فكيف للأنبياء فنادى في بطن الحوت {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}.
أي: من الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي قبل أن تأمرني بالخروج. فاستجاب الله له، وأخرجه من بطن الحوت. وتلك معجزة وآية له: تدل على نبوته وفضله.
وقيل: إن الله غفر له صغيرته، ولم يحبسه في بطن الحوت بذنبه إنما أراد أن(7/4801)
يريه قدرته، ويجعل ذلك: آية. وخروجه من بطن الحوت عاقلاً حياً معجزة له، ودليلاً على توبته، لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر. والكبائر تغفر بالتوبة. وذلك أنهم كذبوه فيما جاءهم به فأوحى الله تعالى إليه أني مرسل إليهم العذاب يوم كذا، فأخرج من بين أظهرهم.
فأعلم قومه بالعذاب الذي يأتيهم، فقالوا: ارمقوه، فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كان الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها، أدلج ورآه القوم فحذروا وخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله جل وعز واستقالوه فأقالهم.
قيل: خرجوا إلى موضع يقال له تل الرماد، ففرقوا بين الصبيان وأمهاتهم، وبين الرجال ونسائهم، وعجوا إلى الله تعالى ذكره وخرجوا بالبهائم، فرفع الله عنهم العذاب، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال: ما فعل أهل القرية، فقال: فعلوا أن نبيهم لما خرج عنهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهمه به من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض وفرقوا بين ذات كل ولد وولدها، ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه، فقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذاباً أبداً، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم. ومضى(7/4802)
على وجهه مغاضباً.
قال الحسن: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضباً لربه، فاستزله الشيطان. وقاله الشعبي.
فقيل: إنه إنما لم يرجع إليهم لأنه استحيا منهم أن يجدوا عليه الخلف فيما وعدهم به/.
وقيل: كان من سنتهم قتل من كذب، فخاف أن يظنوا أنه كذبهم فيقتلوه.
وقيل: معناه: مغاضباً أي: مغاضباً من أجل ربه. أي: غضب على قومه لكفرهم بربه.
وقال الحسن: أمر بالسير إلى قوم لينذرهم بأس الله، ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليه. فقيل له الأمر أسرع من ذلك، ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها. وكان رجلاً في خلقه ضيق.(7/4803)
فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلاً فذهب مغاضبً.
وقال وهب اليماني: إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق. فلما حملت عليه أثقال النبوة - ولها أثقال لا يحملها إلا قليل من الناس - تَفَسَخَ تحتها تَفَسُّخَ الربع تحت الحمل فقذفها من يديه، وخرج هارباً منها.
وقال الأخفش: إنما غاضب بعض الملوك.
واختار الطبري أن يكون المعنى مغاضباً لربه.
واختار النحاس أن يكون مغاضباً لقومه.
وقال ابن عباس: إنما أرسل يونس بعدما نبذه الحوت، لقوله: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145]. ثم قال: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147].
وقوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. يقال: قدرت على فلان: ضيقت عليه. ومنه قوله: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} [الطلاق: 7].(7/4804)
قال ابن عباس: معناه: فظن أن لن نأخذه بالعذاب الذي أصابه.
وعنه أيضاً: أن المعنى: ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء فيما صنع بقومه إذ غضب عليهم وفر منهم.
وقال مجاهد وقتادة والضحاك: المعنى: فظن أن لن نعاقبه.
وهذه الأقوال: هي الاختيار لبعد إضافة تعجيز الله جل ذكره إلى نبي، وقد قال: جماعة، وقولهم مرغوب عنه.
قال سعيد بن أبي الحسن: استزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه، وكان له سلف عبادة وتسبيح، فأبى الله أن يدعه للشيطان فأخذه فقذفه في بطن الحوت، فأقام فيه أربعين بين يوم وليلة وأمسك الله نفسه، فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه. وقال: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته لما كان سلف له من العبادة والتسبيح، فجعله من الصالحين.
وقال ابن زيد: معنى الآية على تقدير الاستفهام، التقدير أفظن أن لن نقدر(7/4805)
[عليه].
ثم قال تعالى: {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}.
يعني: فنادى يونس في ظلمه الليل وظلمه البحر، وظلمه بطن الحوت. قاله: ابن عباس وابن جريج وقتادة ومحمد بن كعب.
وقيل: إن الحوت الذي ابتلع يونس ابتلعه حوت آخر. فتلك الظلمات بطن حوت في بطن حوت في ظلمة البحر.
وقوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} اعتراف منه بذنبه وتوبته منه.
قال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه، فلما تحركت، سجع مكانه، ثم نادى: يا رب، اتخذت لك مسجداً في موضع ما اتخذه أحد.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله جز وعز إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً. فأخذه(7/4806)
ثم هوى به إلى مسكنه، فلما انتهى به إلى أسفل الأرض، سمع يونساً حساً، فقال: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: هذا تسبيح دواب البحر. فسبح وهو في بطن الحوت.
قال: فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا، إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. قال ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إلينا منه كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال: " وهو سقيم ".
ثم قال تعالى: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أي: من بطن الحوت.
وقيل: من غمه بخطيئته.
وقيل: / منهما جميعاً.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " دعوة يونس في بطن الحوت لن يدعو بها رجل قط إلا استجيب له ".(7/4807)
قوله: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} أي: إذا استغاثوا.
قال سعيد بن مالك: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" اسم الله جل وعز الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى. قال: قلت: يا رسول الله: هي ليونس بن متى خاصة أم الجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة، وللمسلمين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله جل ذكره:
{فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين * فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} فهو شرط الله تعالى لمن دعاه به ".
وروي عن ابن مسعود أنه قال: " لما خرج يونس من بطن الحوت مر بغلام يرعى غنماً فقال له: ممن أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس. قال له: فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم تكن له بينة على قوله يقتل، فمن يشهد لي. فقال يونس تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة. فقال الغلام: فمرها بذلك فقال لها يونس: إن جاءكما هذا الغلام فاشهدا له أني يونس. قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه وكان له أخوة، وكان في منعة. فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس، وهو يقرأ عليك السلام. فأمر به الملك أن(7/4808)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
يقتل فقالوا: إن له بينة، فأرسل معه إلى الشجرة والبقعة، فشهدتا له أن يونس لقيه. فرجع القوم مذعورين مما رأوا، فأعلموا بذلك الملك، فتناول الملك بيد الغلام فأجلسه مجلسه، وقال: " أنت أحق بهذا الملكان مني. فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة ".
قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ} إلى قوله: {فاعبدون}.
أي: واذكر اي محمد زكريا حين نادى ربه {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أي وحيداً، لا ولد لي ولا عصبة، فارزقني وراثاً من آل يعقوب: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين}، فاستجبنا له دعاءه، ووهبنا له يحيى وارثاً. ثم قال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}.
أي: جعلناها ولوداً بعد أن كانت عقيماً.
وقال عطاء: كانت سيئة الخلق طويلة اللسان، فأصلحها الله وصيرها حسنة الخلق، وهو قول محمد بن كعب وعون بن عبد الله.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات}. يعني زكريا وزوجته ويحيى، أي: يسارعون في طاعة الله، والعمل بما يقرب إليه.(7/4809)
ثم قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}.
أي: رغبة فيما يرجون من ثوابه ورهبه مما يخافون من عقابه.
قال قتادة: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
والدعاء في هذا الموضع: العبادة. كما قال: {وَأَدْعُو رَبِّي عسى} [مريم: 48] أي: أعبد ربي.
قال ابن زيد: معناه: خوفاً وطمعاً.
قال ابن جريج: رغباص في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
ثم قال تعالى: {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} أي: متواضعين متذللين لا يستكبرون عن العبادة والدعاء والتضرع.
قال سفيان: هو الحزن الدائم في القلب.
ثم قال: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}.
أي: واذكر يا محمد التي أحصنت فرجها، يعني مريم: وأحصنت، حفظت ومنعت. وعنى بالفرج جيبها وقيل: فرج نفسها.
وقوله: فنفخنا فيها من روحنا: أي: من جبريل صلى الله عليه وسلم، لأنه روح الله، نفخ في(7/4810)
جيب ذراعها بعد أمن منعته منه إذ لم تعرفه.
وقيل: أمر الله تعالى جبريل صلى الله عليه وسلم، فنفخ الروح الذي هو روح عيسى في فرجها فحيي بذلك.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي: عبرة لعالم زمانهما. والتقدير على مذهب سيبويه: وجعلناها آية وابنها آية، ثم حذف الأولى. أي: علماً وحجة على العالمين والمعنى: جعلها آية إذا ولدت من غير فحل، وجعله آية إذ ولد من غير نطفة، وإذ نطق في يوم ولد، وتكلم بالحكمة في ذلك اليوم.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
أي: وإن هذه ملتكم ملة واحدة، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون، دون الأصنام والأوثان.
قال مجاهد وابن عباس: " أمتكم أمة واحدة " أي: دينكم دين واحد. وأمة نصبت على الحال/.(7/4811)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
قوله تعالى ذكره: {وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}.
أي: وتفرقوا في دينهم الذي قضى الله به عليهم ودعاهم إليه فصاروا فيه أحزاباً، فتهودت اليهود وتنصرت النصارى، وعبدت الأوثان.
ثم قال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}.
أي: كلهم على اختلاف أديانهم، إلينا يرجعون. أي: إلى حكمنا فيهم، فنجازي كلاً بما صنع. وهذا كلام فيه تهديد ووعيد.
قال ابن زيد: " وتقطعوا أمرهم " أي: اختلفوا في الدين. ثم قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
أي: فمن يعمل من هؤلاء الذين تفرقوا في دينهم بما أمره الله، وهو مقر بتوحيد الله. {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}.
أي: فإن الله يشكر عمله الذي عمل ويثيبه عليه في الآخرة.
ومعناه: إذا لم يكفر بنبي بعث إليه ولا بمن قبله من الأنبياء ولا بكتاب نبيه ولا بكتاب من تقدم من الأنبياء. ف " من " للتبعيض. أي: من يعمل شيئاً من الصالحات وهو مؤمن.(7/4812)
وقيل: " من " زائدة. والأول أحسن. إذ لا يحكم على الزيادة إلا بدليل ظاهر. ولا دليل يدل على ذلك. وأيضاً: فإن في تقدير زيادة " من " تكليف غاية العمل. وهذا لا يقدر عليه ولا يكلف الله نفساً فوق طاقتها، فمن ذا الذي يقدر على عمل الصالحات كلها.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}.
أي: نكتب أعماله الصالحة لنجزيه على صغيرها وكبيرها. ومعنى كتبت: جمعت.
ثم قال تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي: وحرام على قرية أهلكهم الله بالطبع على قلوبهم، والتمادي على الكفر، أن يرجعوا إلى الإيمان والتوبة. هذا معنى قول عكرمة وهو اختيار الطبري.
وقيل: المعنى: وحرام على [أهل] قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا. و " لا " زائدة. ومعنى " وحرام ": وجب أن لا يرجعوا وعزم أن لا يرجعوا إلى توبة، ولا بعد موت.
قال ابن عباس: في معنى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ. . .} الآية.
وجب أنهم لا يرجعون.(7/4813)
وقال أبو عبيدة: " لا " زائدة. " وحرام ": على بابها. بمعنى المنع.
وقال أبو إسحاق: " لا " غير زائدة. " وحرام ": على بابها. والتقدير: حرام على أهل قرية، أهلكناها أن يُتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ولا يتوبون.
ثم قال تعالى: {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}.
أي: فتح سد يأجوج ومأجوج.
روى حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول الآيات الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونرا تخرج من قعر عدن أبين تسوق النار إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدابة ثم يأجوج ومأجوج. قال حذيفة: قلت يا رسول الله، ما يأجوج ومأجوج. قال: يأجوج ومأجوج أمة. كل أمة مائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صبله وهم ولد آدم فيسيرون إلى خراب الدنيا ويكون مقدمتهم بالشام، وساقتهم بالعراق، فيمرون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحيرة طبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولون: قد قتلنا أهل الدنيا فقاتلوا من في السماء، فيرمون بالنشاب إلى السماء، فترجع نشابهم مخضبة بالدم.(7/4814)
فيقولون: قد قتلنا. من في السماء. وعيسى والمسلمون بجبل طور سنين، فيوحي الله جل وعز إلى عيسى أون أحرز عبادي بالطور وما يلي أيلة. ثم إن عيسى عليه السلام يرفع يده إلى السماء ويؤمن المسلمون فيبعث الله عليهم دابة يقال لها النغف تدخل في مناخرهم فيصبحون موتى حتى تنتن الأرض من جيفتهم فيجأر الناس والأرض إلى الله تعالى منهم، فيأمر الله السماء فتمطر كأفواه القرب، فتغسل الأرض من جيفهم ونتنهم فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها ".
قال أبو العالية: إن يأجوج ومأجوج يزيدون على سائر الأنس الضعف. وأن الجن يزيدون على الإنس الضعف، وأن يأجوج ومأجوج رجلان اسمهما يأجوج ومأجوج.
قال عمر البكالي: إن الله جل وعز جزأ الملائكة والإنس والجن عشرة أجزاء. فتسعة منهم الكروبيون وهم الملائكة الذين يحملون العرش، ثم هم أيضاً الذي يسبحون الليل والنهار لا يفترون قال: ومن بقي من الملائكة لأمر الله ووحيه(7/4815)
ورسالته، ثم جزأ الجن والإنس/ عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجن، لا يولد من الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة، ثم جزأ الإنس عشرة أجزاء، فتسعة منهم يأجوج ومأجوج، وسائر الناس جزء [واحد].
وقال ابن عباس: يأجوج ومأجوج أمتان، في كل أمة أربعمائة ألأف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف من صلبه فصاعداً؟
وعنه أنه قال: الأرض سبعة أجزاء، ستة منها فيها يأجوج ومأجوج وجزء [واحد] فيه سائر الخلق.
ومن جعل يأجوج ومأجوج مشتقاً، أجاز همزة، وهو مشتق من أجة النار، وهو حرها. ومنه أجة الحر، ومنه ملح أجاج. ولم يصرفه لأنه جعله اسماً للقبيلة وهو معرفة، ووزنها: فاعول ومفعول، ويجوز في قراءة من لم يهمز أن يكونا أعجميين، وأن يكونا مشتقين. وخففت الهمزة.
وقال الأخفش: يأجوج من يججت ومأجوج من مججت وقوله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}.
قيل: يعني بني آدم يخرجون من كل موضع دفنوا فيه، يعني الحشر. قاله(7/4816)
مجاهد.
وقال ابن عمر عنى به يأجوج ومأجوج، يخرجون من كل مكان يفسدون في الأرض. ومعنى: " من كل حدب " أي: من كل نشز، ومن كل شرف وأكمة.
قال ابن زيد: هو مبتدأ يوم القيامة. و " ينسلون ": يمشون مسرعين كنسلان الذئب. يقال: نسل ينسل وينسل، إذا أسرع وتقارب خطوة.
قال عطية الحوفي: يأجوج ومأجوج أمتان، في كل أمة أربعة ألف أمة، لا يشبه بعضهم بعضاً، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر في مائة عين من ولده.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن الرجل منهم ليموت فيدع لصلبه من الذرية ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عدتهم إلا الله تعالى مسنك وتأريس وتأويل، وخروجهم بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام.
قال كعب الأحبار: عرض أسكفة باب يأجوج ومأجوج السفلى أربعة(7/4817)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
وعشرون ذراعاً، فتفحها حوافر خيلهم، والعليا عرضها إثنا عشر ذراعاً، فتفحها أسنة رماحهم.
قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} إلى قوله: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.
الواو زائدة في " واقترب " عند الكسائي والفراء.
قالا: اقترب جواب " إذ " في قوله: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " اقترب الوعد.
وأجاز الكسائي أن يكون جواب إذا، {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ}.
وقال أبو إسحاق: الجواب: قالوا يا ويلنا، ثم حذف " قالوا " كقوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3] أي: قالوا: ما نعبدهم وحذف القول كثير من القرآن، ومعنى الآية: وقرب بعث الأموات للجزاء لا شك فيه بعد خروج يأجوج ومأجوج.
قال حذيفة: لو أن رجلاً افتلى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه(7/4818)
حتى تقوم الساعة.
وقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ}. قيل: هي عماد. وقيل: هي إضمار الأبصار، والأبصر الثانية تبيين لها أي: فإذا أبصار الكافرين قد شخصت عند مجيء الوعد. يقولون {ياويلنا قَدْ كُنَّا} قبل هذا الوقت في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} الذي نرى ونعاين، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنوده.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
أي: إنكم أيها الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وَقُودُ جهنم، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: حصب جهنم: حطبها.
وقال قتادة وعكرمة: حصب جهنم: يقذفون فيها.
وقال الضحاك: إن جهنم إنما تحصب بهم، أي: يرمى بهم فيها، وقرأ علي وعائشة رضي الله عنها حطب بالطاء.(7/4819)
وعن ابن عباس: {حَصَبُ} بالضاد معجمة. والحضب: ما دكيت به النار وأججتها، والحصب بالصاد غير معجمة: اسم المرمى به في النار.
وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يخرج منه عُزَيْرٌ والمسيح والملائكة، لأن " ما " لما يعقل، فهي للأصنام والأوثان/.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآية، قال المشركون: أليس قد عبد عزير والمسيح والملائكة وأنت تقول يا محمد أنهم قوم صالحون. فأنزل الله {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
وقيل: إن الذي قال هذا هو ابن الزبعري، وأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57].
ثم قال تعالى: {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا}.
أي: لو كان هؤلاء الذين تعبدون من دون الله آلهة ما وردوا جهنم. يقول الله(7/4820)
ذلك لهم. فلو كانت آلهة كما تزعمون لدفعت عن أنفسها وعمن عبدهها في الدنيا.
ثم قال: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}.
يعني الآلهة والذين عبدوا ماكثين في النار.
ثم قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ}. أي: للآلهة، وللذين عبدوها في جهنم زفير {هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}.
أي: لا يسمعون ما يسرهم، لأنهم صم.
وقال ابن مسعود: إذ بقي في النار من خلد فيها، جعلوا في توابيت من حديد، فلا يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره. ثم قرأ الآية.
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
يعني: كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه. أنه مبعد من النار، وهو مذهب علي بن أبي طالب.
وروي عنه أنه قرأ الآية وقال: عثمان منهم وأصحابه، وأنا منهم.(7/4821)
وقيل: عني به كل من عبد من دون الله، وهو لله طائع، ولعبادة من يعبده كاره مثل عيسى وعزير والملائكة. وهو مذهب مجاهد وعكرمة والحسن وأبي صالح. وهو قول ابن عباس والضحاك.
و" الحسنى ": الجنة والسعادة.
{أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي: عن جهنم.
ثم قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}.
أي: حسها وصوتها إذا دخلوا الجنة.
وقيل: معناه: إن ذلك في موطن من المواطن، وإلا، فلا بد من سماع زفيرها.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن جهنم يؤتى بها يوم القيامة تزفر زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفاً منها ".
وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس، حس.
ثم قال: {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}.
أي: ماكثون فيما تشتهيه أنفسهم من نعيمها، لا يخافون زوالاً عنها ولا انتقالاً.(7/4822)
ثم قال تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر}.
يعني: النار إذا أطبقت على أهلها وذبح الموت بين الجنة والنار قاله ابن جريج.
وقال ابن عباس: هو النفخة الآخرة.
وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعبد إلى النار.
ثم قال: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
أي: تتلقاهم بالبشرى، وتقول: لهم: هذا يوم كرامتكم التي وُعِدْتُم في الدنيا على طاعتكم، وهذا، قبل أن يدخلوا الجنة.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل} أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء كطوي السجل، والسجل في قول عبد الله بن عمر ملك اسمه السجل قاله السدي.
والمعنى: نطوى السماء كما يطوي هذا الملك الكتاب.(7/4823)
وقال ابن عباس: هو رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس: أنه اسم الصحيفة التي يكتب فيها. والتقدير: كطي الصحيفة على الكتاب. وقاله: مجاهد، وهو اختيار الطبري. قال: واللام بمعنى: " على ". والتقدير: نطوي السماء كما تطوى الصحيفة على ما فيها من الكتاب.
وقيل: التقدير: كطي الصحيفة من أجل ما كتب فيها. كما تقول: إنما أكرمك لفلان، أي: من أجله.
ثم قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}.
أي: نعيد الخلق عراة حفاة غرلاً يوم القيامة، كما خلقناهم في بطون أمهاتهم.
قاله مجاهد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه: " تأتون حفاة عراة غلفاً، فاستترت بكم ذرعها(7/4824)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
وقالت: واسوأتاه " قال ابن جريج أخبرت أنها عائشة. وقالت: يا نبي الله، لا يحتشم الناس بعضهم من بعض. فقال: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
وقال ابن عباس في معنى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} قال: نهلك كل شيء كما/ كان أول مرة.
وقيل: ذلك خلق السماء مرة أخرى بعد طيها وزوالها وإفنائها يعيدها في الآخرة كما بدأها في أول خلق فجعلها سماء قبل أن لم تكن سماء {وَعْداً عَلَيْنَآ} أي: لا بد من كون ذلك، إنه لا يخلف الميعاد.
وقال ابن مسعود: يرسل الله جل ذكره ماء من تحت العرش كمني الرجل، فينبت منه لحماتهم وأجسامهمه كما تنبت الأرض المرعى.
ثم قال تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.
أي: وعداً حقاً لا بد منه، إنا كنا قادرين على ذلك، فاستعدوا له وتأهبوا.
قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} إلى قوله: {على مَا تَصِفُونَ}(7/4825)
آخر السورة.
المعنى: ولقد كتبنا في كتب الأنبياء كلها والقرآن.
وقوله: {مِن بَعْدِ الذكر}.
الذكر: أم الكتاب الذي عند الله في السماء.
قاله: مجاهد وابن زيد.
وقال ابن جبير: الزبور: القرآن. والذكر: التوراة.
وقال ابن عباس: الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء بعد التوراة.
والذكر: التوراة وقاله: الضحاك.
وقال الشعبي: الزبور، زبور داود، والذكر: التوراة.
وقوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}.
أي: أثبتنا وقضينا في الكتاب من بعد أم الكتاب، أن أرض الجنة يرثها العاملون بطاعة الله. قاله: ابن عباس ومجاهد، وهو قول ابن جبير وابن زيد.(7/4826)
وعن ابن عباس أنه قال: أخبر الله تعالى في التوراة والإنجيل وسابق علمه قبل أن يخلق السماوات والأرض أنه يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم المقدسة.
وقد قيل: ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون.
ويدل على أنها أرض الجنة قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ}.
قال ابن زيد: فالجنة مبتدؤها في الأرض، وتذهب درجاً علواً، والنار مبتدؤها في الأرض وتذهب سفلاً طباقاً، وبينهما حجاب سور، ما يدري أحد ما ذلك السور، وقرأ {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13]. قال: ودرج النار تذهب سفالاً في الأرض، والجنة تذهب علواً في السماوات.
وقال عامر بن عبد الله: هي الأرض التي تجتمع فيها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هي أرض الكفار ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم يريد(7/4827)
يفتحونها.
وقيل: عُني بذلك بنو إسرائيل، وقد وفى لهم في عز وجل بذلك.
وهو قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ. . .} الآية.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}.
أي: إن في هذا القرآن لبلاغاً لمن آمن به وعمل بما فيه إلى رضوان الله، أي: يبلغهم القرآن إلى رضوان الله.
وقال أبو هريرة: هم الذين يصلون الصلوات الخمس في المسجد.
وقال سفيان: الثوري: {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} بلغني أنهم أصحاب الصلوات الخمس.
وقال كعب: {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم لأصحاب الصلوات الخمس، سماهم الله صالحين.
وقال ابن عباس: {عَابِدِينَ} عالمين.
وقال ابن جريج: {إِنَّ فِي هذا} يعني: هذه السورة.(7/4828)
وقيل: القرآن، فيه تنزل الصلوات الخمس، من أداها كانت له بلاغاً.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
أي: للمؤمن والكافر: فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، يعافى في الدنيا من السيف، ومن حلول العذاب من الله، وفي الآخرة من النار، وهو رحمة للكافر إذ عوفي في الدنيا مما أصاب الأمم الماضية من الخسف والقذف بكفرها، قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد: العالمون من آمن به خاصة، فهو رحمة للمؤمن.
ثم قال تعالى: ذكره: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} أي: إنما معبودكم الذي تجب له العبادة واحد، لا معبود غيره. {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: فهل أنتم أيها المشركون مذعنون لله، تاركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام.
ثم قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْءَاذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ}.(7/4829)
أي: فإن أدبر هؤلاء المشركون عن توحيد الله والإقرار بما جئتهم به، فقل: آذنتكم على سواء أي: أعلمتكم أني وإياكم على حرب لا صلح بيننا. يعني بذلك قريشاً.
وقال قتادة: {على سَوَآءٍ} على مهل/.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ}.
أي: قل لهم يا محمد: ما أدري متى يحل بكم عقاب الله على كفركم. أقريب هو أم بعيد.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}.
أي: قل لهم يا محمد: إن الله يعلم سركم وجهركم، لا يخفى عليه من قولكم ولا من أحوالكم شيء.
ثم قال: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ}.
أي: ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم وإمهال الله إياكم على كفركم فتنة لكم أي: اختبار لكم {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}.
أي: وأمتعكم بالبقاء وتأخير العذاب إلى انقضاء المدة.
وقال مجاهد: " إلى حين الموت ".
وقال زيد بن أسلم: بلغنا أن رسول الله رأى في منامه بني أمية يجلسون على المنابر، فأخبر بذلك فخرج الحكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك بني أمية فقالوا له ارجع فاسأله متى يكون هذا.(7/4830)
فرجع إليه فسأله، فأنز الله تعالى: {وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} إلى آخر الآية، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}.
وروى أن الحسن بن علي خطب على الناس إذ سلم الأمر إلى معاوية، وقال في خطبته وهو يلتفت إلى معاوية: قال الله جل ذكره: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}.
ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} أي: قل يا محمد: رب افصل بيني وبين من كذبني بإحلال عذابك بهم ونقمتك، وهو الحق الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأله إياه ومثله {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89].
وروى قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد قتالاً يقول: يا رب احكم بالحق ".
وقرأ أبو جعفر يزيد: {قَالَ رَبِّ} بالرفع، وهو غلط عند النحويين لا يجوز عندهم رجل أقبل، لأنهم جعلوا يا عوضاً عن المحذوف والأصل يا أيها الرجل.
وقرأ عكرمة والضحاك: {قَالَ رَبِّ} بفتح الياء {احكم} بالرفع والهمز على الابتداء. أو الخبر. واحتجا في ذلك بأن الله تعالى لا يحكم إلا بالحق، فكيف يأمره أن(7/4831)
يسأل أن يحكم له بالحق. معنى ذلك عند العلماء رب عجل حكمك بالحق.
والتقدير عند أبي عبيد: أحكم بحكمك الحق.
ثم قال تعالى: {وَرَبُّنَا الرحمن}.
أي: وقيل يا محمد: {وَرَبُّنَا الرحمن} أي: الذي يرحم عباده المؤمنين. {المستعان على مَا تَصِفُونَ}.
أي: الذين استعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] وقولكم: {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]. وكذبكم على الله جل ذكره في قولكم: {اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] وشبهه من باطلكم.(7/4832)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحج
سورة "الحج" (مكية) سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في ستة نفر من قريش، ثلاثة مؤمنون وثلاثة كافرون. فالمؤمنون عبيدة بن الحرب بن عمرو وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. دعاهم للبراز عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة فأنزل الله تعالى ذكره: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) إلى تمام الآيات الثلاث. قال أنس بن مالك: نزلت سورة الحج على النبي - عليه السلام - وهو في مسير له وأصحابه متبددون، فرفع بها صوته، فنادى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... شَدِيدٌ) فاجتمع إليه أصحابه فقال: هل تدرون أي يوم ذلك؟ ذلك يوم يقول الله(7/4833)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
لآدم: ابعث بعث النار من بنيك وبناتك. فقال: يا رب، من هم؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد في الجنة، فكبر ذلك على أصحاب النبي فقال لهم النبي: أبشروا، فإنكم مع خليقتين لم يكونا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، وما أنتم في الناس إلا كالرقمة في دراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير الحديث بكامله.
وقد قيل: إن سورة الحج مدنية، وحديث أنس أنها نزلت في بعض أسفار النبي - عليه السلام - يدل على أنها مدنية. فمن قال أنها مدنية.
قال في قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ) إنه نزل في اختصام اليهود والمسلمين في كتابهم ودينهم.
قوله تعالى ذكره: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة} إلى قوله: {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ}.
المعنى: يا أيها الناس احذروا عقاب الله وأطيعوه إن زلزلة الساعة شيء عظيم.
قال ابن جريج: زلزلتها: أشراطها في الدنيا.
" وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله جل ذكره لما فرغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه، شاخص(7/4834)
ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر.
قال أبو هريرة: وما الصور؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: قرن. قال: وكيف هو؟ قال: قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين جل وعز، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيطوِّلُها، فلا يفتر، وهي التي يقول الله عز وجل: { وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي: من راحة. فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} وتكون الأرض كالسفينة الموبقة تضربها الرياح تُكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الرياح فيميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بضعاً، وهو الذي يقول الله {يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ. . .} إلى قوله {. . . هَادٍ} فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر. فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظرو في السماء، فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم، قال(7/4835)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأموات لا ي علمون بشيء من ذلك. فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله عز وجل حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول جل ذكره: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ. . .} إلى قوله: {. . . شَدِيدٌ} ".
وقال الحسن: " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسر، ومعه أصحابه، فقال: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ. . .} إلى قوله: {. . . شَدِيدٌ}. ثم قال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قيل له: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله جل ذركه لآدم: قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: ابعث لكل ألف تعسة وتسعين وتسع مائة إلى النار، وواحد إلى الجنة قال: فاشتد ذلك على الناس حتى لم يبدوا عن واضحة. فلما رأى ما في وجوههم قال لهم: اعملوا وابشروا، فوالله ما أنتم في الناس إلا كالرقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير، أنه لم يكن رسولان إلا وبينهما فترة من جاهلية، وأهل الجاهلية أهل النار بين(7/4836)
ظهراني خليقتين لا يعادهم أحد من أهل الأرض إلا كثروهم، يأجوج ومأجوج، وتكملة العدد من المنافقين ".
وروي عن الحسن أنه قال: يخرج من النار رجل بعد ألف عام. فقال الحسن: يا ليتني أنا ذلك الرجل.
وقال قوم: يراد بهذا كله يوم القيامة، فمن قال: هو يوم القيامة قال: المعنى: يوم يرون القيامة. ومن قال: هو قبل يوم القيامة قال: المعنى: يوم يرون أشراطها تذهل. وظاهر النص يدل على أن " الهاء " في " ترونها " تعود على الزلزلة. أي: يوم ترون الزلزلة، وذلك من أشراط الساعة، وهو ظاهر النص، لأن يوم القيامة لا حامل فيها ولا مرضعة. إنما ذلك في الدنيا، فهو وقت تظهر فيه الزلازل والأشراط والشدائد الدالة على قيام الساعة فتذهب المرضعات عن أولادها، وتضع الحوامل حملهن لشدة ذلك، وعظيم خوفه وصعوبته ولما يلقى فيه من الهلع والفزع.(7/4837)
وقل من قال: هو يوم القيامة يدل على ما رواه عمران بن الحصين قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وقد فاوت السير بأصحابه إذ نادى رسول الله بهذه الآية {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ. . .} فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم ينادى آدم يناديه ربه، ابعث بعثة النار من كل ألف تسع مائة وتسع وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة. قال: فأبلس القوم، فما وضح منهم ضاحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
اعلموا وأبشروا، فإن معكم خليقتين ما كنتا في قوم إلا كثرتاه، فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إسرائيل ويأجوج ومأجوج. ثم قال: ألا أبشروا ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الناقة "، وكذلك رواه الخدري وأنس بن مالك، فهذا الحديث أصح من الأول طريقاً وزاد الحسن في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال فيه ولم يكن رسولان إلا كان بينهما فترة من الجاهلية، فهم أهل النار، وإنكم بين ظهراني خليقتين لا يعدهما أحد من أهل الأرض إلا كثروهم يأجوج(7/4838)
ومأجوج، وهم أهل النار.
وتكمل العدة من المنافقين.
وقال ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. فقال: " أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده إن لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبركم عن ذلك. إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن قلة المسلمين في الكفار يوم القيامة كالشعرة السوداء في الثور الأبيض. وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود ".
ثم قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ}.
أتت مرضعة بالهاء، لجريانها على الفعل ويجوز مرضع، كما قال: امرأة حائض وطامث وطالق. والأصل: الهاء. ولكن جرى عند سيبويه على معنى شيء حائض وطامث.
وقال الفراء: إنما قالوا: حائض وطامث، لأن المذكر لا حظَّ له في هذا الصف. فلم يحتج إلى هاء في المؤنث. وقالوا: قائم وقامئة، فِأتوا بالهاء في المؤنث لأِنه يقع للمؤنث والمذكر وهذا القول ينتقض على الفراء لأنهم قالوا ناقة ضامر، وبعير ضامر، وناقة ساغل وبعير(7/4839)
ساغل، ورجل عانس وامرأة عانٍ فلم يدخلوا الهاء في المؤنث، وقد شاركه المذكر في الفعل. وحذف الهاء عند سيبويه في هذا على أصله على تقديره بشيء عانس وساغل ونحوه، وينتقض على الفراء قوله بقولهم: حاضت الجارية وطلقت المرأة. فلو كان حرف الهاء من أجل أنه لا يشترك فيه المذكر مع المؤنث، ولم تدخل علامة التأنيث في حاضت وطمثت وينقض أيضاً قوله في قولهم رجل بالغ وامرأة بالغ، ورجل آثم وامرأة آثم. ومعنى تذهل: تنسى وتترك ولدها من هول ثقل ما ترى وتضع الحامل حملها قبل بلوغ وقته. {وَتَرَى الناس سكارى} من الخوف {وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ}.
قالت عائشة رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجري فقطرت دموعي على خده، فاستيقظ فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ذكر القيامة وهولها. فهل يذكرون أهلهم يا رسول الله؟ فقال: يا عائشة ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد إلا نفسه، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل. وعند الصحف حتى يعلم ما في صحيفته وعند الصراط حتى يجاوزه ".
وروي عن ابن عباس أنه قال: " نزلت هاتان الآياتان على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير(7/4840)
فكف ثم قرأهما على الناس ثلاثة مرات ثم قال: " يا أيها الناس، أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه اليوم الذي يقول الله فيه لآدم: ابعث بعث النار من ولدك. فيقول: أي رب، من كل كم؟ فيقول؟ من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيسكر الكبير يومئذ من غير شراب، ويشيب الصغير، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ونزل الناس ثم راحوا إلى نبي الله، فقالوا: يا رسول الله، ما سمعنا شيئاً قط أوجع لقلوبنا ولا أشد علينا من شيء حدثتنا به اليوم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فإن الأمم عرضت علي فرأيت النبي يأتي في الثمانية ورهطب ويأتي النبي في الأربعة وياتي الآخر في الاثنين، حتى رأتي النبي وليس يأتي معه أحد من أمته، حتى رأيت أمة أعجبني كثرتها لقلت أي رب، أمتي هذه؟ فقال: لا، بل هذا موسى صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ثم رأيت أمة أخرى أعجبني كثرتها، فقلت: أي رب، أمتي هذه؟ قال: لا. بل هذا يونس ومن تبعه. ثم رأيت أمة أخرى أعجبني كثرتها فقلت: أي رب، أمتي هذه؟ قال: لا، بل هذه عيسى ومن تبعه. فقلت: أي رب، فأين أمتي؟ قال لي: انظر، فنظرت قبل طريق مطة فإذا أنا بناس كثير. ثم قال: انظر: فنظرت قبل طريق الشام،(7/4841)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
فإذا أنا بناس كثير ثم قال: انظر، فنظرت قبل طريق العارق، فإذا أنا بناس كثير، ثم قال: انظر، فنظرت تحتي، فإذا كل شيء ينتغش من الناس من كثرتهم فقلت: أي رب، قد رضيت. قال: فإن مع هذا سبعين ألفاً ليس عليهم حساب ولا عذاب، فقام عكاشة بن محصن الأسدي أخو بني غنم فقال: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلني منهم، قال: جعلك الله منهم فقال رجل آخر من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فاقل: سبقك بها عكاشة ".
وقوله: {وَتَرَى الناس سكارى}.
رجع من مخاطبة الجماعة من الناس إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاز أن يخرج عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة الجماعة في قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ}.
قوله تعالى ذكره: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى قوله: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ}.
هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يخاصم ويزعم أن الله جل ذكره غير قادر على إحياء من بلى وعاد تراباً، بغير علم له في ذلك. {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ}.(7/4842)
أي يتبع في قوله ذلك كل شيطان مارد. والمريد والمارد: المتجاوز في الشر القوي فيه. ومنه قيل: صخرة مرداء، أي: ملساء. ومنه: الأمرد.
وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام.
ثم قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ}.
أي: كتب على الشيطان أي: قضى على الشيطان أنه تولاه. الهاء في " أنه " مجهول تفسره الجملة التي بعده. و " تولاه ". أي: تولى الشيطان. أي: فمن اتبع الشيطان من خلق الله، فإنه يضله. أي: فإن الشيطان يضل من اتبعه، {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير}.
أي: يسوقه إليه بطاعته له، ومعصيته لله، في " عليه " و " تولاه " و " فإنه " تعود على الشيطان.
ثم قال: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث}.(7/4843)
أي: إن كنتم في شك من أنكم تبعثون وتعودون كما كنتم فتدبروا خلقكم وابتداءكم، فإنكم لا تجدون فرقاً بين الابتداء والإعادة، إذ خلقناكم من تراب، يعني آدم. " ثم من نطفة " يعني ولد آدم، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يخرجكم طفلاً. فإذا تدبرتم ابتداءكم وانتقال أحوالكم، علمتم أن من قدر على هذا أنه قادر على الإعادة، فالنطفة ماء الرجل، والعلقة: الدم، والمضغة: لحمة صغير بقدر ما يمضغ. وقوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}. قيل: هو من نعت النطفة. فالمخلقة ما كان خلقاً سوياً، وغير المخلقة ما ألقت الأرحام من النطف قبل أن تكونوا خلقاً. قال ابن عمر: إذا وقت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال مخلقة، مجتها الأرحام دماً وإن قال: مخلقة، قال يا رب: ما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ قال: فيقال: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة. قال: فينطلق الملك،(7/4844)
فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
وقيل: معناه، تامة أو غير تامة، وهو قول قتادة.
وقال مجاهد: هو السقط، مخلق وغير مخلق.
وقال الشعبي: بعد المضغة تكون مخلقة، وهو الخلق الرابع، وإذا قذفها الرحم قيل فهي غير مخلقة.
وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - وهو الصادق المصدوق - " يجمع خلق كل أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين يوماً، ثم يكون مضغة أربعين يوماً، ثم يبعث الله إليه ملكاً، فيقول: أكتب عمله وأجله ورزقه واكتب شقياً أو سعيداً ".
وقال عبد الله: والذي نفسي بيده، إن الرجل ليعمل عمل أهل السعادة، فيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه الشقاء، فيعمل بعمل(7/4845)
أهل النار والشقاء، فيدخل النار.
واختار الطبري أن تكون المخلقة المصورة خلقاً تاماً، وغير مخلقة السقط قبل تمام خلقه فيكون مخلقة وغير مخلقة من نعت المضغة، لأ، هـ ليس بعد المضغة إلا التصوير.
ثم قال تعالى: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: فعلنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء. أي: ذكرنا لكم الأحوال الابتداء، لنبين لكم أثر الصنعة والقدرة. فقوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} جواب للقصة المذكورة في خلق الإنسان كلها. أي: أخبرناكم بهذه القدرة في خلقكم لنبين لكم أن البعث حق.
ثم ابتدأ بخبر آخر فقال: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام} ولذلك ارتفع، ولا يجوز نصبه على العطف على " لنبين "، لأنه لم يذكر القصة في قدرته ليقر في الأرحام ما يشاء، إنما ذكرها ليدل على صحة وقوع البعث بعد الموت. والمعنى: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، أي: ونبقي في الأرحام من نشاء حياته فلا يسقط إلى وقت ولادته فيخرج طفلاً.(7/4846)
وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}.
أي: يخرج كل واحد منكم طفلاً.
وقوله: {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} أي: ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم.
وقيل: معناه: ثم نخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم.
والأول أحسن، لأن هذا، يوجب زيادة " ثم "، ولا يحسن زيادتها، بل لا بد لها من فائدة، وهو ما ذكرنا من التعبير ليقع به البلوغ إلى الأشد. ومعنى أشدكم. أي كمال عقولكم {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى}.
أي: من قبل بلوغ أشده فيموت.
{وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر}.
أي: من ينسأ في أجله فيعمر حتى يهرم، فيرج إلى أرذل عمره.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: أرذل العمر، خمسة وسبعون عاماً.
ثم قال: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}.
أي: ليصير لا علم له بالأشياء بعدما كان علماً بها.
ثم قال: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً}.
أي: يابسة دارسة لا نبات فيها، وأصل الهمود، الدروس والدثور.
{فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت} أي: تحركت بالنبات.
{وَرَبَتْ} أي: وأضعفت النبات بمجيء الغيث.(7/4847)
قال قتادة: {اهتزت وَرَبَتْ} حسنت وعرف الغيث في ربوعها.
وقيل: التقدير: فإذا أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت، فيكون المهتز الزرع، يتحرك إذا نبت على الحقيقة، فيرج المعنى إلى النبات. وظاهر الإخبار عن الأرض.
وقوله: {وَتَرَى} رجوع من خطاب جماعة إلى خطاب واحد وهو حسن، قد تقدم نظائره.
وقرأ أبو جعفر القاري: {وَأَنبَتَتْ} بالهمز. أي: ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة.
وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف يقال: هو رأبئ القوم وربيئتهم. وفعيل: للمبالغة.
ثم قال تعالى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
أي: من كل نوع حسن، يعني من النبات. {بَهِيجٍ} بمعنى مبهج أي: يبهج من رآه حسنُه.
ثم قال تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق}.
أي: فعل الله ذلك بأنه الحق، أو الأمر ذلك بأنه الحق.
أي: هذا الذي تقدم ذكره من عظيم القدرة في خلق الإنسان، والأرض وغير(7/4848)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
ذلك، فعله بأنه الحق الذي لا شك فيه، وإن ما سواه باطل لا يقدر على شيء من ذلك. ومن فعل هذه القدرة، فهو قادر على قيام الساعة، وبعث من في القبور، فهو كله مَثَلٌ بعد مثل في تحقيق قيام الساعة وإحياء الموتى كما أحيا الإنسان من نطفة، ثم نقله من حال إلى حال. وكما أحيا الأرض بعد دروسها، وكذلك احتج في قوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق. . .} إلى {القبور} / وعلى إعادة الموتى وعلى ما يريج، ولذلك قال: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور}. فلا تَشُكُّوا في ذلك.
ثم قال تعالى: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى}.
أي: من يخاصم في توحيد الله بغير علم ولا هدى. أي: وبغير هادى وبغير كتاب منير، أي ينير حجته، فتضيء له.
ونزلت أيضاً هذه الآية في النضر بن الحارث.
قوله تعالى ذكره: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} إلى قوله {وَلَبِئْسَ العشير}.
أي: يخاصم في توحيد الله بغير علم، وبغير هدى وبغير كتاب، {ثَانِيَ عِطْفِهِ}. أي: معرضاً عن الحق، متحيراً فنصبه على الحال.
قال ابن عباس: " ثاني عطفه " مستكبراً في نفسه. قال: هو النضر بن(7/4849)
الحارث، لوى عنقه مرحاً وتعظماً.
وقال مجاهد وقتادة: معناه: لاوياً رقبته.
وقال ابن زيد: " لا ويا رأسه معرضاً، مولياً، لا يقبل على ما يقال له "، ومنه قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ. . .} [المنافقون: 5] لآية، وهو قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِءَايَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً}.
والعِطْفُ: ما أنثنى من العنق.
ثم قال: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله}.
أي جادل هذا المشرك في توحيد الله ونفى البعث ليضل المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم الله إليه {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ}.
وهو القتل والهوان بأيدي المؤمنين، فقتله الله بأيديهم يوم بدر. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي: نحرقه بالنار.
ثم قال: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي: يقال له إذا أذيق عذاب النار. ذلك بما قدمت يداك في الدنيا، وبأن الله ليس بظلام للعبيد.
قوله {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وقف، إن جعلت {وَأَنَّ} في موضع رفع على معنى(7/4850)
" والأمر أن الله ".
ثم قال تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}.
هذه الآية نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين من باديتهم، فإذا نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة وبعد الدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام، وإن نالوا بعد ذلك شدة وضيق عيش أو موت ماشية ونحوه، ارتدوا على أعقابهم. فالمعنى: ومن الناس من يعبد الله على شك، فإن أصابه خير - وهو السعة من العيش اطمأن به: أي استقر بالإسلام، وثبت عليه، وإن أصابته فتنة، وهو الضيق في العيش وشبهه انقلب على وجهه أي: رجع إلى الذي كان عليه من الكفر بالله.
قال ابن عباس: " كان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صح جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً، رضي به واطمأن إليه. وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقالك والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شراً، فذلك الفتنة ".
وقال مجاهد: {على حَرْفٍ}: على شك.
قال ابن جريج: كان ناس من قبائل العرب ومن حولهم من أهل القرى يقولون: نأتي محمداً عليه السلام، فإن صادفنا خيراً من معيشة الرزق ثبتنا، وإلا لحقنا بأهلنا.(7/4851)
وبهذا القول قال: قتادة والضحاك.
قيل: هم المنافقون، كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مستعلياً على أعدائه في أمن وخصب، أظهروا التصديق به، وتصويب دينه، وصَلُّوا معه وصاموا، وهم مع ذلك على غير بصيرة فيما هم عليه، فإذا أصابته فتنة من خوف أو تشديد في العبادة والأمر بالجهاد، انقلب عما كان يظهر من الإيمان والصوم والصلاة، فأظهر الكفر والبراءة من دين الله، فانقلب على وجهه خاسراً دنياه وأخراه.
وقال ابن زيد: " هي في المنافقين، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإذا أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه، ورجع إلى الكفر. وهذا التفسير كله يدل على أن السورة مدنية. ومن قال: إنها مكية، قال: نزلت في شيبة بن ربيعة، كان أسلم ثم ارتد.
وقيل: نزلت في النضر بن الحارث.
وتقدير الكلام: ومن الناس من يعبد الله على حرف الدين، أي: على طرفه لا يدخل فيه/ ويتمكن.(7/4852)
ومعنى: {انقلب على وَجْهِهِ} [أي: انقلب] عن دينه. {خَسِرَ الدنيا والآخرة} أي: خسر دنياه لأنه لم يظفر بحاجته منها. وقيل م عناه: أنه خسر حظه في الغنيمة، لأنه لا حظ لكافر فيها. وخسر الآخرة لما له فيها من العذاب، ولأنه خاسر الثواب.
ثم قال تعالى: {ذلك هُوَ الخسران المبين}.
أي: خسران الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين، أي يبين لمن تفكر فيه وتدبر.
ثم قال تعالى: {يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ}.
وإن أصاب هذا الذي يعبد الله على حرف ضر، يدعو من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها. {ذلك هُوَ الضلال البعيد}. أي: الطويل: والعرب تقول: لما لا يكون البتة: هذا بعيد.
ثم قال: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} تقدير هذا الكلام عند الكسائي والبصريين: يدعو من لضره أقرب من نفعه. أي: يدعو إلهاً لضره أقرب من نفعه، لأن من عبد الأصنام، فضررها يعود عليه في الدنيا والآخرة، ولا نفع يعود عليه من(7/4853)
ذلك، وإنما احتيج إلى تقدير تأخير اللام، لأن " يدعو " فعل لا يعلق، ولا بد أن يعمل، واللام تمنعه من العمل، فأخرت اللام ليعمل الفعل في " من " ولا يعلق. وقيل: مع " يدعو " هاء مضمرة وهو في موضع حال من ذلك. والتقدير: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، فيقف على " يدعو " في هذا القول.
وتقديره: ذلك هو الضلال البعيد في حالة دعائه إياه. ويكون لمن ضره أقر من نفعه مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء، وخبره: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير}.
وقيل: " يدعو " بمعنى يقول، فلا يحتاج إلى عمل، وتكون اللام في موضعها و " من " مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف.
والتقدير: يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهي.
وقيل: " يدعو " بمعنى: يسمى.
وقال الزجاج: " ذلك " بمعنى الذي. وهو في موضع نصب بـ " يدعو " أو التقدير: يدعو الذي هو الضلال البعيد. ثم ابتدأ: لمن ضره أقرب من نفعه. وخبره: " لبئس المولى " وها مثل قوله: " وما تلك بيمينك ". أي: وما التي بيمينك.(7/4854)
وقال الفراء: يجوز أن تكون " يدعو " مكررة تأكيداً ل " يدعو " الأولى، فيقف على " يدعو " على هذا، ويبتدئ " من ضره " على الابتداء والخبر " لَبِئْس المولى ".
وحكي عن المبرد أنه قال: التقدير: يدعو لمن ضربه أقرب من نفعه إلهاً. وهذا لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ، فلا ينصب خبره، فإن جعل الخبر " لبيس المولى " لم يكن للكلام معنى ويصير منقطعاً بعضه من بعض.
وقوله: {لَبِئْسَ المولى}: أي: لبيس العم، " ولبيس العشير " أي: الخليط والصاحب. قاله ابن زيد.
وقيل: " المولى ": الولي الناصر.
وقال مجاهد: " لبيس العشير " يعني الوثن.
ولا يوقف على " البعيد " على قول الزجاج، لأن ذلك منصوب بـ " يدعو ".
وقد أفردنا لهذه الآية كتاباً، وشرحنا ما فيه بأبسط من هذا. ومعنى: " لمن ضره(7/4855)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
أقرب من نفعه " فأوجب أن عبادة الآلهة تضر، وقد قال قبل ذلك: " ما لا يضره وما لا ينفعه " فنفى عنها الضر. فإنما يراد بذل أنها لا تضر في الدنيا، وأراد بالآية الأخرى ضرها في الآخرة. والمعنى: لمن ضره في الآخرة أقرب من نفعه. والأخرى ما لا يضره في الدنيا. وكذلك معنى ما كان مثله.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى قوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}.
أي: إن الله يدخل المصدقين به وبكتبه ورسله العاملين الطاعات بساتين. " تجري من تحتها الأنهار ". أي: من تحت أشجارها.
{إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. فيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته.
ثم قال: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة}.
أي: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً عليه السلام في الدنيا والآخرة، " فليمدد بسبب " وهو الحبل " إلى السماء " يعني سماء لبيت، وهو سقفه. " ثم ليقطع " السبب. يعني: الاختناق به. " فلينظر هل يذهبن " اختناقه، ذلك ما يغيظ. أي: ما يجد من في(7/4856)
صدره من الغيظ. هذا معنى قول قتادة وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
وقال ابن زيد معناه: من كان يظن أن لن ينصر/ الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فليقطع ذلك من أصله، من حيث يأتيه النصر، فإن أصله في السماء، فليمدد سببه إلى السماء ثم ليقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}.
أي: هل يذهب فعله ما يجد في نفسه من غيظ. في نصر الله تعالى محمداً.
وقيل: النصر هنا معناه: الرزق. وحكي عن العرب، من ينصرني نصره الله. أي: من يعطني أعطاه الله فالتقدير على هذا: من كان يظن أن لن يرزق الله محمداً عليه السلام، فليختنق في حبل في سقف بيته ثم لينظر هل يذهب فعله غيظه.
وقيل: معناه: من كان يظن أن لن يرزق الله تعالى محمداً فليمدد بسبب إلى السماء، فليقطع رزقه إن كان يقدر، فلينظر هل يذهب كيده غيظه.
وكونها عائدة على " من " - وهو قول أبي عبيدة مع طائفة من أهل اللغة - ويكون ينصره بمعنى " ينفعه ".(7/4857)
وقد قيل: إن " الهاء " تعود على الدين. أي: من كان يظن أن لن ينصر الله دنيه، فليفعل ما ذكر.
قال ابن عباس: معنه: إن لن ينصر الله محمداً. فالهاء لمحمد عليه السلام.
وقال مجاهد: معناه: من كان يظن أن لن يرزقه الله، فليمدد بحبل إلى سارية البيت فليخنق نفسه. فالهاء على هذا ل " ظن " كأنه ق: من ظن أن الله لا يرزقه، فليقتل نفسه، إذ لا حياة له مع عدم رزق الله له.
وقيل: معناه: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه في الدنيا والآخرة وأنه يتهيأ له أن يغلب نبيه أو يزيل عنه النصر الذي يريده الله به. فليطلب سبباً يصل به إلى السماء، فليقطع نصر الله عن نبيه، فلينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بكيد ويبسبب يحتاله.
وهل يتهيأ له أن يقطع النصر عن نبي الله، أو يزيل بكيده وحيلته ما يغطيه من نصر الله لنبيه، فإنما هذا دلالة على ما لا يتهيأ لهم، ولا يقدرون عليه، وفيه إعلام أن النصر لمحمد من عند الله، وتنبيه على أن محمداً منصور لا يغلب.
ثم قال تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} أي: وكما بينت لكم الحجة على من تقدم ذكره، كذلك أنزلت على محمد آيات واضحات يهتدي بها من وفقه الله للحق.(7/4858)
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى}.
أي: إن هؤلاء على اختلاف أديانهم يفصل بينهم الله يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل غيرهم النار، فهذا هو الفصل.
قال قتادة: " والصابون " قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويقرأون الزبور. والمجوس، يعبدون الشمس والقمر والنيران " والذين أشركوا يعبدون الأوثان. والأديان ستة، خمسة للشيطان وواحد للرحمن.
وقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
أي: شاهد على أعمالهم على اختلاف أديانهم، فإن الثانية تخبر عن الأولى. أي: سدت مسد خبرها، إذ هي داخلة على ابتداء وخبر. والابتداء والخبر يسدان مسد خبر أن في كثير من الكلام.
وقيل: لما طال الكلام، صارت الأولى كأنها ملغاة، فأعيدت تأكيداً وتكريراً. والأول أحسن/.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض}.
أي: يخضعون وينقادون لله.
وقيل: السجود هنا مما لا يعقل، ومن الموات والكفار إنما هو ظهور أثر الصنعة عليها، والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة. وانقيادها لله وتصريف الله لها فيما شاء.(7/4859)
أن يصرفها فهو مجاز وتوسع. وهذا القول لا يصح، لأنه تعالى قد أخبرنا بأن من الحجارة ما يخشى، وأنه سخر مع داود الجبال والطير يسبحن. وهذا لا يمتنع حمله على الحقيقة، ولا يحسن حمله على معنى ظهور الصنعة فيها، لأن ذلك مع غير داود مثل ما هو مع داود. وإذا لم يكن بد من حمله على الحقيقة، حسن حمل السجود في الموات وما لا يعقل على الحقيقة أيضاً.
وقيل: سجودها، هو تحول ظلها حين تطلع الشمس وحين تزول، فإذا تحول ظل كل شيء، فهو سجوده.
وقال مجاهد: ظلال هذا كله يسجد.
وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر وإلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين.
وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} يعني: المؤمنين {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} يعني ظل الكافر يسجد لله. قاله مجاهد، وهو عنده مع هذا منقاذ لله، خاضع وهو ساجد مع ظله، إلا أن سجود ظله ميلانه مع الشمس وسجوده هو انقياده وخضوعه على صحته وسقمه ورزقه ومنعه.(7/4860)
وقوله: " وكثير من الناس ". قيل: معناه: وكثير من الناس في الجنة بدليل قوله: " وكثير حق عليه العذاب " لأن الجنة ضد النار. ولو قال: " وكثير لا يسجد " لكان المعنى. وكثير من الناس. أي: وكثير من الناس يسجد.
وقيل: معنى: " وكثير حق عليه العذاب ": وكثير أبى السجود فحق عليه العذاب فيكون الوقف على هذا القول. " وكثير من الناس " ثم يبتدئ: " وكثير حق عليه العذاب " ولهذا المعنى رفع " كثير ". وقد عطف على ما عمل فيه الفعل. ولولا هذا المعنى، لكان النصب الاختيار. كما قال: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] " فكثير " الثاني: مبتدأ، وليس بمعطوف على الأول، فإنما هو أخبار عن خلق كثير [وجب عليه] العذاب بكفره. ما قبله إخبار عن كثير من الناس يسجدون لله، وهم المؤمنون.
[ثم قال] {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}.
أي: ومن يشقه الله فيهينه، فما له من مكرم يكرمه بالسعادة.(7/4861)
{إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} يوفق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء فيكفر.
ثم قال تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ}.
يعني: الذين تبارزوا يوم بدر. وقد ذكر ذلك في أول السورة.
وقال ابن عباس: هم أهل إيمان، وأهل كتاب. اختصموا. قال أهل الكتاب للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبيككم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. فكان ذلك خصومتهم في ربهم.
وقال الحسن: هم الكفار والمؤمنون، اختصموا في ربهم. وكذا قال مجاهد.
وقال عكرمة: " هذان " إشارة إلى الجنة والنار. اختصما في ربهما، فقال النار: خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته. فقد قص عليك من خبرهما ما تسمع.
ثم قال تعالى ذكره: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ}.
أي: قصماً من نحاص ونار.
وقال ابن جبير: ليس في الآنية أشد حراً من النحاس.(7/4862)
قال مجاهد: الكافر قطعت له ثياب من نار. والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار.
ثم قال: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} أي: ماء يغلي.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه. وهو قوله: " يصهر به ما في بطونهم ". ثم يعاد كما كان. ومعنى يصهر: يذاب ما في بطونهم من الشحوم، وتشوى جلودهم فتتساقط.
قال مجاهد وقتادة: يصهر: يذاب.
قال ابن عباس: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون.
وقال ابن جبير: إذا جاع أهل النار، يعني إذا جاعوا واستغاثوا بشجر الزقوم، فيأكلون منها، فاختلعت جلود وجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم يصب عليها العطش، فيستغيثون فيغاثون بما كالمهل، وهو الذي انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطع عنها الجلود، " ويصره به ما في بطونهم "، أي: يذاب. يمشون في أمعائهم، وتسقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد، يسقط كل عضو على حياله،(7/4863)
يدعون بالويل والثبور، نعوذ بالله من ذلك.
وقال عبد الله بن السري: يأيته الملك بالإناء يحمله بكلبتين، فإذا أدناه إليه يكرهه، فيرفع الملك بقمعه، فيضرب بها رأسه، فيفلق بها دماغه، فيكفي الإناء في دماغه، فيصير إلى جوفه. فذلك قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}.
وقوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}.
أي: عذاب مقامع أو ضرب مقامع تضربهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار، حتى يرجعوا إليها.
وقوله: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي: من العذاب، وغم الظلمة.
قال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج. إن الأيدي والأرجل لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.
قال سلمن الفارسي: النار سواد مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها.
قال مالك بن دينار: بلغني أنه إذا أحس أهل النار في النار، بضرب مقامع(7/4864)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
الحديد، انغمسوا في حياض الحميم، فيذهبون سفالاً سفالاً مقدار أربعين سنة، كما يغرق الرجل فيذهب في الماء سفالاً سفالاً.
وروي أن جهنم تجيش فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فيريدون الخروج، فتعيدهم الخزان بالمقامع، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق، بمعنى المحروق، كالأليم بمعنى المؤلم. فهو فعيل بمعنى مفعول.
قوله: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى قوله: {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
أي: يدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار ".
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}.
ومن قرأ بالنصب، فمعناه: ويحلون لؤلؤاً. {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي: ثياب من حرير.
ثم قال: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ}.
أي: هداهم ربهم في الدنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال ابن زيد: هدوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله. وهو الذي قال جل ذكره: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وقال ابن عباس: هدوا: ألهموا.
وقيل: هدوا إلى قوله: الحمد لله الذي صدقنا وعده.
وقيل: معناه: هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من عند الله، بما لهم من دوام النعم(7/4865)
وبالسلام والتحية التي يبعثها الله إليهم مع الملائكة. كما قال: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار}.
ومعنى: {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد}. أي: إذا صاروا إلى الآخرة، وهدروا إلى صراط الجنة، وطريقها، فهو صراط الله عز وجل، يسلكه المؤمنون إلى الجنة ويعدل عنه الكافرون والمنافقون إلى طريق النار.
والحميد هو الله. بمعنى المحمود. أي: أن يحمد على نعمه، على عباده.
وقيل: معناه: وهدوا إلى صراط الحميد، أي: وهداهم ربهم في الدنيا إلى طريق الرب الحميد، وهو دين الإسلام. والحميد بمعنى المحمود عند أوليائه وخلقه. فحميد: فعيل بمعنى: مفعول. وصراط العزيز الحميد: الإسلام.
وقيل: " إن قوله: لا إله إلا هو " هدوا إلى ذلك في الدنيا.
ثم قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}.
أي: إن الذين جحدوا توحيد الله، وكذبوا رسله ومنعوا الناس الدخول في دين الله وصدوهم عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس المؤمنين كافة لم يخصص به بعض دون بعض، هلكوا. وهذا خبر أن، محذوف من الكلام.
وقيل: الخبر: يصدون. فالواو زائدة.
قال أبو إسحاق: الخبر: نذقه من عذاب أليم. وهذا غلط، لأنه جواب الشرط.
ثم قال: {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد}.
أي: معتدل في النزول فيه، المقيم والبادي. فالبادي [المنتاب إليه من غيره].(7/4866)
والعاكف أهله. أي: ليس أحدهم أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر، إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل.
قال ابن زيد ومجاهد: ذلك مباح في بيوت مكة.
وروي أن الأبواب إنما عملت على بيوت مكة من السِّرَق، لأن الناس كانوا ينزلون أينما وجدوا. فعمل رجل باباً، فأرسل إليه عمر: اتخذت باباً من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنما جعلته متحرز متاعهم. واختلف في الآية. فقيل: عُني بها المسجد الحرام خاصة.
ليس أحد أولى به من غيره.
وقيل: عني بها مكة، ليس أحد أولى بمسكن فيها من غيره.
والمعنى: والمسجد الحرام. أي: ويصدون الناس عن دخول المسجد الحرام والصلاة فيه، والطواف بالبيت، وهو موضع يستوي فيه المقيم والطارئ، حقهم فيه واحد. وهذا يدل على أن المراد المسجد الحرام، دون بيت مكة، وهو ظاهر اللفظ. وقد ملك الناس دور مكة وتبايعوا من أول الإسلام إلى الآن وهم يتوارثونها من أول الإسلام. فظاهر لفظ الآية إنما يدل على أن العاكف والطارئ حقهما في المسجد سواء، لا فضل لأحدهما على الآخر.
وقد قال ابن عباس: ذلك في المسجد الحرام خاصة.(7/4867)
وعن مجاهد وعطاء: أن المعنى: أن أهل مكة والغريب بها، هما في حرمة الإسلام سواء، لا يمنع أحد من دخوله من المؤمنين، ولا يُضر أحد منه. وهذا القول يؤيده صدر الآية، لأنه تعالى إنما ذكر [صد] الكافرين المؤمنين عن المسجد الحرام ومنعهم منه. ثم أعلمنا آخر الآية أن أهله والغريب في حرمته سواء، لا يُمنع أحد منهم.
ومن قرأ " سواءُ " بالرفع، جعله مبتدأ. والعاطف فيه خبره. وإن شئت جعلت العطاف مبتدأ وسواء خبر مقدم. فتقف على " الناس "، على تقدير الوجهين. ويكون: " للناس "، في موضع المفعول الثاني، تقف على " الناس ". من قرأ بالنصب، جعله مفعولاً ثانياً بـ " جعلنا " ويرتفع العاكف. والأحسن عند سيبويه في مثل هذا: الرفع، لأنه غير جار على الفعل. وقد قرئ " سواءً " بالنصب " العاكف " بالخفض، على أن يكون " سواء " مفعولاً ثانياً ل " جعلناه " والعاكف والبادي بدلاً من الناس، أو نعتاً لهم.
ثم قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ} فالباء في " بإلحاد " زائدة. قاله: الأخفش وأبو عبيدة. وقال الكوفيون: إنما دخلت الباء هنا، لأن معناه: ومن يرد فيه بأن يلحد. والباء تدخل وتحذف مع " أن " كثيراً ومنع المبرد، الزيادة في كتاب الله، والقول عنده: إن يرد. يدل على الإرادة. فيدخل الباء مع الفعل. على تقدير دخلوها مع المصدر. فالتقدير عنده. ومن أراد به بأن يلحد، وهو ظالم. كما قال: أريد لأنْسَى ذِكْرَه. فأكنما تخيل لي ليلاً بكل سبيل. فأدخل اللام، على تقدير دخولها مع المصدر. أي: إرادتي لكذا.
قال ابن عباس: {بِظُلْمٍ} بشرك.(7/4868)
وقال مجاهد: " من يرد فيه غير الله " وقاله الحسن.
وقال قتادة: من أشرك في بيت الله، عذبه الله.
وعن ابن عباس: أن المعنى من استحل من الحرام ما حرم الله، أذاقه الله العذاب المؤلم، ثمل القتل ونحوه.
وقال مجاهد: معناه: من يعمل فيه عملاً [سيئاً].
وهذه الآية تدل على أن الإنسان/ يجب عليه العقاب بنيته لفعل الشر في الحرم.
ألا ترى إلى قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم يقل: من يفعل ذلك. وإنما ذكر العقوبة على الإرادة فقط، فهو ظاهر الآية، وذلك لعظيم حرمة الحرم وجلالة قدره، وكذلك يضاعف فيه الحسنات أكثر مما يضاعف في غيره.
وقال ابن عمر: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، يعني: في غير الحرم وفي غير أهل الحرم، قال: ولو أن رجلاً بِعَدَن أبينَ همَّ بقتل رجل بهذا البيت إلا أذاقه الله من العذاب الأليم.
وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها(7/4869)
فتكتب عليه.
وعن ابن عباس أيضاً أن المعنى: من يرد إستحلاله متعمداً.
وقال حبيب بن أبي ثابت: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم "، هم: المحتكرون الطعام بمكة.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ أنه قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد.
وقال مجاهد: بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم.
وقال الضحاك: الإلحاد في هذا الموضع: الشرك.
وقال عطاء: هو عبدة غير الله.
وقيل: إنه كل ما كان منهياً عنه حتى قول الرجل: " لا والله وبلى والله ".
وروى مجاهد أن ابن عمر كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله، عاتبهم في الحل. فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث(7/4870)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
أن من الألحاد فيه أن يقول الرجل بمكة بلى والله، وكلا والله. وأصل الإلحاد، الميل عن القصد، ومنه سمي اللحد، ولو كان مستوياً لقيل ضريح.
ومنه قوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: 180].
يقال: لحد وألحد بمعنى واحد.
وحكى الأحمر: ألحد إذا جادل ولحد إذا عجل ومال.
قوله تعالى ذكره: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت}. إلى قوله: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}.
أي: واذكر يا محمد إذ وطأنا لإبراهيم، ومكنا له مكان البيت. وبوأ تتعدى إلى مفعولين، ولكن دخلت اللام في إبراهيم حملاً على معنى: جعلنا لإبراهيم.
وقيل: اللام متعلقة بالمصدر، أي: واذكر تبويئنا لإبراهيم.
وقال الفراء: اللام زائدة مثل {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72].
وقوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي} " أن " بمعنى: أي.(7/4871)
وقيل: التقدير: بأن لا تشرك.
وقيل: أن زائدة. مثل {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} [يوسف: 96].
قالتقدير: واذكر يا محمد نعم الله على قومك وحسن بلائه وعندهم، وهم يعبدون غيره، فمما يجب أن يذكر إذ مكنا لأبيك إبراهيم مكان البيت.
قال قتادة: وضع الله البيت مع آدم حين اهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه فنقض إلى ستين ذراعاً. وإن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، شكا ذلك إلى الله فقال الله عز وجل: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند ال العرش فانطلق إليه. فخرج آدم ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك، فأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وقال السدي: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل " أن طهرا بيتي للطائفين " انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، فأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحاً يقال لها الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا(7/4872)
الأساس، فذلك حين يقول: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أقبل إبراهيم من أرمينية ومعه السكينة تدله على البيت حتى يتبوأ البيت كما تبوأ العنكبوت بيتاً وكان يحمل الحجر من الحجارة يطيقه ولا يطيقه ثلاثون رجلاً.
وقال كعب الأحبار: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة. ومنه دحيت الأرض.
وقوله تعالى: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي} أي: عهدنا إليه ألا يشرك في عبادة الله/.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} أي: ظهره من عبادة الأوثان.
قال مجاهد: طهره من الشرك.
وقال عبيد بن عيمر: من الآفات والريب.
وقال قتادة: من الشرك وعبادة الأوثان.
وقيل: طهراه من ذبائح المشركين، وما كانوا يطرحون حوله من الدماء والفرث والأقذار، وكانوا يطرحون ذلك حول البيت.
وقيل: معناه: طهراه من دخول المشركين إياه، ومن إظهار شركهم فيه.(7/4873)
فأمرهما بتطهير البيت من جميع ذلك لمن يطوف ويقوم بأمره من المؤمنين، ولمن يصلي بحضرته " والطائفون " الذين يطوفون به، " والقائمون " المصلون قياماً.
" والركع السجود "، يعني في صلاتهم حول البيت.
ثم قال تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً}.
أي: وناد إبراهيم في الناس بالحج يأتوك رجالاً وركباناً. ورجال: جمع راجل، كقائم وقيام.
وقوله: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ}.
أي: ويأتوك على كل بعير ضامر قد أضمره بعد المسافة من كل فج عميق. والضامر: المهزول.
وقال: " يأتين " يريد به النوق. ولو قلت في الكلام: مررت بكل رجل قائمين، حسن. فكان " ضامراً " في موضع ضوامر ولكن وحد، لأن " كل " تدل على العموم. والعموم والجمع متقاربان.
وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى بالتأذين بالحج، قام على مقامه، فنادى: يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق.
وقال ابن عباس: لما فرق إبراهيم من بناء البيت، قيل له: أذن في الناس بالحج. قال: يا رب، وما.(7/4874)
وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد: أن إبراهيم لما نادى: أيها الناس، كتب عليكم الحج أسمع من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج، خفضت له الجبال رؤوسها ورفعت القرى فأذن في الناس. قال ابن عباس عنى بالناس هنا أهل القبلة ألم تسمعه قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى} [آل عمران: 96].
ثم قال: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] يقول: ومن دخله من الناس الذين أمر إبراهيم أن يؤذن فيهم فكتب عليهم الحج.
قال ابن عباس: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} أي: مشاة. قال: وما آسى على شيء، فإني آسى ألا أكون حججت ماشياً، سمعت الله تعالى يقول: يأتوك رجالاً.
وقال مجاهد: حج إبراهيم وإسماعيل ما شيين.
وقال ابن عباس: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ}: الإبل.(7/4875)
قال مجاهد: كانوا لا يركبون، فأنزل الله تعالى ذكره: " وعلى كل ضامر " فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب.
وقوله: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}.
قال ابن عباس وقتادة: من كل مكان بعيد.
والظاهر في هذه الآية والخطاب - عليه أكثر المفسرين - أن هذ كله خطاب لإبراهيم، كان ومضى، أخبرنا الله به.
وقيل: إن قوله تعالى: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}. . . - إلى - {والركع السجود} مخاطبة لإبراهيم، وقوله: " وأذن في الناس وما بعده، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي أعلمهم أن الحج فرض عليه، فيقف القاري على/ هذا القول، على " السجود " ويبتدئ " وأذن ".
وقيل: إن قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} وما بعده، خطاب للنبي عليه السلام كله، لأن القرآن عليه نزل، وهو مخاطب به، ولا يخرج عن مخاطبته إلى مخاطبة غيره إلا بتوقيف أو دليل قاطع. وأيضاً فِإن " أن لا تشرك بي " خطاب لشاهد، وإبراهيم غائب، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الشاهد الحاضر في وقت نزول القرآن، فيكون المعنى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، فجعلنا ذلك من الدلائل على توحيد الله، وعلى أن إبراهميم كان يعبد الله وحده، فلا تشرك بي شيئاً، وظهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج: أي: أعلمهم أنه فرض عليهم.(7/4876)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
وقيل: أعلمهم أنك تحج الوداع ليحجوا معك فيكون الوقف على هذا التأويل " مكان البيت " ويبتدئ في مخاطبة النبي عليه السلام " أن لا تشرك " أي وعهدنا إليك ألا تشرك بي شيئاً.
ومن جعله كله خطاباً لإبراهيم، وقف على {كُلِّ ضَامِرٍ} على أن يقطع " يأتين " مما قبله. قاله: نافع والأخفش ويعقوب، وغيرهم.
والعمق: " في اللغة: البعد. ومنه بنو عميقة أي: بعيدة.
وقرأ عكرمة: يأتوك رجالاً، جعله راجل، أيضاً مثل ركب وركاب. ويقال أيضاً: راجل، ورجله، وراجل، ورجاله.
قوله تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} إلى قوله: {البآئس الفقير}.
أي: يأتون ليشهدوا منافع لهم: وهي التجارات في الأسواق والمواسم، قاله: ابن عباس وابن جبير.
وقال مجاهد: هي منافع في الآخرة، ومنافع في الدنيا، الأجر والربح.(7/4877)
وقيل: هو المغفرة فقط.
ثم قال: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} يعني: الهدايا التي أهدوا من الإبل والبقر والغنم.
قال علي بن أبي طالب: الأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده، إذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول: ابن عمر، وأهل المدينة.
وقال ابن عباس: المعلومات: العشر، يوم النحر، منها والأيما المعدودات: أيام التشريق إلى آخر النفر. وهو قول: عطاء ومجاهد والنجعي والضحاك، وهو قول: الكوفيين. ط
وقال القتبي: المعلومات: عشر ذي الحجة. والمعدودات يوم التروية ويوم عرفة ويوم الزنية.
ثم قال تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا} أي: فكلوا من بهائم الأنعام التي ذكر اسم الله عليها هنالك. وهذه إباحة لا إيجاب. واستحب مالك والليث أن يأكل الرجل من أضحيته لقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا}.(7/4878)
وقال الزهري: من السنة أن يأكل أولاً من الكبد.
قال بعض العلماء: ذبح الضحايا ناسخ لكل ذبح كان قبله.
وقيل: قوله: " فكلوا منه " ناسخ لفعل المشركين، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم.
واختار جماعة من الصحابة، وغيرهم من التابعين أن يتصدق الرجل بالثلث ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث.
ومذهب علي بن أبي طالب وابن عمر أن لا يذخر من الضحايا شيئاً من بعد ثلاث، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال جماعة من العلماء والصحابة: يذخر منها بعد ثلاث، ورووا: أن الحديث منسوخ بالإذخار، وأن النبي عليه السلام قال: إنما أمرتكم ألا تذخروا من أجل الدافة التي دفت عليكم روته عائشة رضي الله عنها. والدفة: الجماعة.
وقال الحسن البصري: العقيقة واجبة، وهي عند مالك وأكثر العلماء مثل الضحية، منذوب إليها.
وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على كل من وجد إليها سبيلاً، وعلى الرجل أن يضحي عن ولده، والجماعة على خلافه لأن الله تعالى لم يوجبها في كتابه، ولا أوجبها(7/4879)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
رسوله، ولا اجتمعت الأمة على ذلك.
وقوله: {وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} يعني: الزمن المقتر.
وقال مجاهد: هو الذي يمد إليك يده.
وقال عكرمة: البائس: المضطر الذي عليه البؤس، والفقير: المتعفف.
والبائس عند أهل اللغة: الذي عليه البؤس من شدة الفقر.
وقيل: البائس الذي يتبين عليه اثر البؤس والضر.
قوله تعالى ذكره: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}. إلى قوله: {مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} /.
قال ابن عباس: النفث: الحلق والتقصير والرمي والذبح والأخذ من الشارب واللحية ونتف الإبط وقص الأظفار. وهو الخروج من الإحرام إلى الحل.
وقال ابن عمر: التفث: ما عليهم من الحج.
وعنه أيضاً: التفث: المناسك كلها.
وعن ابن عباس: التفث: حلق الرأس والأخذ من الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة وقص الأضفار والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة(7/4880)
والمزدلفة ومثله عن قتادة وابن جريج.
وقوله: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} يعني: ما نذروا من البدن.
وقال مجاهد: هو نذر الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج.
ثم قال تعالى ذكره: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق}.
يعني: بيت الله الذي هو مكة، سمي عتيقاً لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه، قال: قتادة ومجاهد وابن نجيح وهو مروي عن النبي عليه السلام.
وقال ابن جبير: إنه إنما سمي بالعتيق لأنه أعتق من الغرف [في] زمان الطوفان.
وعن مجاهد: أنه إنما سمي عتيقاً لأنه لم يملكه أحد من الناس.
وقال ابن زيد: " سمي بذلك لقدمه، لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم، وهو أول من بناه، ثم برأ لله موضعه إبراهيم بعد الغرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل. ومنه قيل: للسيف القديم سيف عتيق.(7/4881)
وعنى بالطواف هنا طواف الإفاضة يوم النحر وبعده، وهو الذي يقال له طواف الزيارة.
ثم قال تعالى: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله}.
أي: الأمر، ذلك من الفروض.
وقيل: معناه: ذلك الذي أمرتم به من الوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق هو الفرض الواجب عليكم في حجكم.
{وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} أي: ومن يجتنب مع ذلك ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيماً منه لحدود الله أن يواقعها، فهو خير له عند ربه في الآخرة.
قال مجاهد: {حُرُمَاتِ الله} هوي مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من المعاصي كلها.
وقال ابن زيد: {حُرُمَاتِ الله}: المسجد الحرام والبيت الحرام والبلد الحرام.
ثم قال تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} أي: أحلها الله لكم أن تأكلوها إذا ذكيتموها، لم يحرم عليكم بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
ثم قال: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي: في كتاب الله، وذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخقة والموقدة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، فذلك رجس كله.(7/4882)
وقال قتادة: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ}: الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه.
وقيل: هو الصيد المحرم على المحرمين.
فالمعنى: أحل لكم في حال إحرامكم أكل لحم الإبل والبقر والغنم، إلا ما يتلى عليكم من تحريم الصيد عليكم وأنتم محرمون.
ثم قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} أي: النتن، و " من " لبيان الجنس.
وقال الأخفش: هي للتبعيض. أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو من الأوثان، أي عبادتها.
وقال ابن عباس: معناه: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} ".
وقال ابن جريج: {قَوْلَ الزور} الكذب، والفرية على الله جلّ ثناؤه. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهم.(7/4883)
وقيل: {قَوْلَ الزور}: قولهم: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك.
وقيل: معناه: اجتبنوا تعظيم الأوثان والذبح لها.
وسماها رجساً، استقذاراً لها. وكانوا ينحرون عندها، ويصبون عليها الدماء. فيقذرونها، وهم مع ذلك يعظمونها، فنهى الله المسلمين عن ذلك كله.
ثم قال تعالى: {حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}.
أي: اجتنبوا ذلك، ما يليق إلى الحق والتوحيد والإخلاص والإيمان بالله.
ثم قال تعالى ذكر: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء}.
أي: مثل من يشرك بالله في بعده من الهدى وإصابة الحق وهلاكه، ثمل من خرّ من السماء {فَتَخْطَفُهُ الطير} أي: فهلك، أو مثل من {تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، أي: بعيد.
وقيل: المعنى: من يشرك بالله يكون يوم القيامة بهذه الصفة، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يملك له أحد من الخلق نفعاً، ولا يمكنه امتناع مما يناله من عذاب الله، فكأنه في ذلك بمنزلة من خرّ من السماء، ومن هوى لا يقدر لنفسه على دفع ما هو فيه، فتخطفه الطير وتقطع جسمه بمخالبها ومناقرها، فهلاو لا يجد سبيلاً إلى دفع ذلك عن نفسه، وهو بمنزلة من تحمله الريح من موضع مرتفع، فترمي به في منحدر بعيد/(7/4884)
سحيق، فشبه الله المشرك بمنزلة هذا الذي خرّ من السماء، فهوت به الريح وتخطفته الطير، فكما لا يملك هذا لنفسه دفع ضر، وهو في الهُوِي، كذلك المشرك، يوم القيامة لا يقدر على دفع ما نزل له من العذاب.
ثم قال تعالى: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب}.
أي: ذلك أمر الله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله}، يعني: الوقوف بعرفة وتجميع ورمي لاجمال والصفا والمروة، فهذه كلها شعائر، وتعظيمها: الوقوف والعمل بها في الأوقات المفروضة والمسنونة.
" والشعائر " جمع شعيرة، وهي ما جعله الله علماً لخلقه. وكذلك الشعائر لابدن واحدها شعيرة أيضاً، لأنها قد أشعرت، أي: جعلت فيها علامة تدل على أنها هدي، ولذلك قال بعض العلماء: إن الشعائر هنا البدن.
وقوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي: فإن الفعلة من تقوى القلوب. أي: فإن التعظيم واجتناب الرجس من وجل القلوب من خشية الله.
ثم قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}.
أي: لكم في البدن منافع قبل تسميتها بدنة وإشعارها. وذلك لبنها وركوب ظهورها، وما يرزقون من نتاجها وشعرها ووبرها، وقوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: إلى وقت يوجبها صاحبها فيسميها " بدنة " ويقلدها ويشعرها، فإذا فعل ذلك، بطل ما كان له من النفع منها. هذا معنى قول ابن عباس وعطاء. وهو قول قتادة، قال: " إلى(7/4885)
أجل مسمى " أي: إلى أن تقلد فإذا قلدت، فمحلها إلى البيت العتيق.
وعن عطاء أن المعنى: لكم في البدن التي أوجبتم هديها منافع، وذلك ركوب ظهروها إذا احتجتم إلى ذلك، وتشربون ألبانها إذا اضطررتم إلى ذلك، ويحمل عليها المضطر غير منتهك لها.
وقوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني إلى أن تنحر.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالبدن إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب غير منهوكة وإن نتجت أن يحمل عليها ولدها، ولا يشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها. فإن كان في لبنها فضل فيشرب من أهداها ومن لم يهدها.
ومن جعل الشعائر: الأماكن المذكورة، فالمعنى عنده: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى، أي: لكم في حضور هذه الأماكن منافع، وذلك تجارتهم وبيعهم " إلى أجل مسمى " أي: إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها. هذا معنى قول ابن عباس.
وقال ابن زيد: معناه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} هو الأجر الذي ربحوا في تلك الأماكن.(7/4886)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
ومعنى: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: إلى أيام معلومةن فإذا ذهبت تلك الأيام، لم يأتِ أحد لأماكن يبتغي الأجر، مثل عرفة ورمي الجمار ومزدلفة، فإنما منافعها في تلك الأيام بعينها، وهي الأجل المسمى.
ثم قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق}.
أي: ثم محل البدن أن يبلغ الحرم، فتنحر بها.
وقيل: المعنى: ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق إذا طفتم طواف الإفاضة.
وقال ابن زيد: معنا: ثم محل الحج إلى البيت العتيق. أي: إذا طافوا بالبيت طواف الإفاضة انقضت أيام الحج.
قوله تعالى ذكره: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً}. إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أي: ولكل جماعة سلفت قبلكم من أهل الإيمان جعلنا ذبحاً يهرقون دمه ليذكروا اسم الله [على ما رزقهم] عند ذبحهم إياه.
وقوله: {مِّن بَهِيمَةِ الأنعام}.
فخص لأن من البهائم ما ليس من الأنعام، كالخيل والبغال والحمير. وسميت بهائم لأنها لا تتكلم.
وقال مجاهد: منسكاً: هو هراقة الدماء.(7/4887)
وقال ابن عباس: منسكاً عبداً.
وقال عكرمة: مذبحاً.
والمَنْسِك بالكسر موضع الذبح، كالمجلس موضع الجلوس لأن اسم المكان من فعل يفعل المفعل.
والمَنْسَك بالفتح: المصدر فيكون معنى قراءة من كسر، ولكل أمة جعلنا موضع ذبح.
ومن قرأ بالفتح، فتقديره: ولكل أمة جعلنا أن يتقربوا بذبح الذبائح.
وقيل: {مَنسَكاً} متعبداً، وهو ما يعبد الله به.
" والمنسك ": العبادة والناسك: العابد.
وأصل المنسك أن يكون اسم المكان الذي يعبد الله فيه.
ثم قال تعالى: {فإلهكم إله وَاحِدٌ}.
أي: فإلهكم إله واحد فلا تذكروا معبوداً غيره على ذبائحكم.
وقيل: المعنى: فاجتبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. /(7/4888)
{فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ}، أي: اخضعوا بالطاعة.
{وَبَشِّرِ المخبتين}.
أي: الخاشعين المطمئنين إلى الله، قاله مجاهد.
قال ابن عيينة: " المخبتين ": المطئنين.
وقال قتادة: المتواضعين.
وقيل: المخبتون: الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
والخبت في اللغة: المكان المطمئن المنخفض، والزور: الباطل.
وقيل: إنه أريد به في هذا الموضع الكذب.
وقيل: المخبتين: المخلصين.
ثم قال تعالى: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
أي: خشعت قلوبهم وجلاً من عقابه.
قال ابن زيد: وجلت قلوبهم: لا تقسوا {والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ} أي: من(7/4889)
شدة في أمر الله. {والمقيمي الصلاة} " يعني المفروضة " وما رزقانهم ينفقون، أي: يزكون وينفقون على عيالهم.
ثم قال {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله}.
أي: هي ما أشعرهم الله به، وأعلمهم إياه من أمر دينه. فبين أن ذبح البدن هو مما أعملهم الله به من أمور دينه والتقرب إليه به. أي: من إعلام الله، أمركم بنحرها في مناسك حجكم إذا قلدتموها وأشعرتموها.
" والبدن " جمع بدنة، كخشبة وخشب، إلا أن الإسكان في " بدن " أحسن، والضم في " خشب " أحسن، لأن بدناً أصله النعت، لأنه من البدانية وهو السمن وخشبة اسم غير نعت. والنعت أثقل من الاسم، فكان إسكانه وتخفيفه أولى من الاسم.
" والبدن ": الإبل. وإنما سميت بدناً لأجل السمانة والعظم. وقوله:
{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}.
أي: أجر من الآخرة بنحرها والصدقة منها وفي الدنيا: الركوب إذا احتيج إلى ركوبها.
ثم قال تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} أي: انحروها واذكروا اسم الله عليها قائمة على ثلاثة تعقل اليد اليسرى.
وقال ابن عباس: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} قال: الله أكبر، الله أكبر، اللهم منك(7/4890)
ولك. {صَوَآفَّ} قياماً على ثلاثة.
وقرأ الحسن والأعرج: صَوَافِي، جمع صافية، ومعناها مخلصين في نحرها لله لا شرك فيها لأحد.
وقرأ ابن مسعود: صَوَافِنَ. جمع صافنة، وهي القائمة على ثلاث.
وروي عن مجاهد أنه قال: " صواف "، قائمة على أربع مصفوفة. و " صوافن ": قائمة على ثلاث.
قال قتادة: معقولة اليد اليمنى.
وقال مجاهد: " اليسرى ".
ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنة قياماً. ودل على ذلك قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}.
أي: إذا اسقطت على جنوبها. وهو قول: مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. واستحب عطاء أن تنحر باركة معقولة لئلا تؤذي بدمها أحداً. وقد روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى قائمة(7/4891)
على ما بقي من قوائمها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذبح: " بسم الله والله أكبر ".
وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا}. إباحة، لأن المشركين كانوا لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص الله للمسلمين في ذلك. ثم قال: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر}.
قال ابن عباس: القانع: المستغنى بهما أعطيته وهو في بيته، والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم [رجاء] أن تعطيه، ولا يسأل.
وقال مجاهد: " القانع " جارك، يقنع بما أعطيته. " والمعتر ": الذي يتعرض لك، ولا يسألك.
وعن ابن عباس: " القانع " الذي يقنع بما عنده ولا يسأل، " والمعتر " الذي يعترك فيسألك.
وقال قتادة: " القانع ": المتعفف الجالس في بيته، " والمعتر " الذي يعتريك(7/4892)
فيسألك.
وقال الحسن: " القانع السائل "، " والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل.
وكذلك قال زيد بن أسلم وابن جبير أن القانع: السائل.
وعن مجاهد: " القانع " جارك وإن كان غنياً. " والمعتر ": الذي يعتريك.
وعن زيد بن أسلم أيضاً: القانع ": المسكين الطواف. " والمعتر ": الصديق الضعيف الذي يزور.
وقال محمد بن كعب القرظي: " القانع ": الذي يقنع بالشيء اليسير يرضى به، و " المعتر " الذي يمر بجانبك ولا يسأل شيئاً.
وقيل: " القانع " الذي هو فقير لا يسأل. " والمعتر " الفقير الذي يسأل.
وعن مجاهد: " القانع ": الطامع. " والمعتر " الذي يعتر من غني أو فقير.
وقال عكرمة: " القانع ": الطامع.
وقال ابن زيد: " القانع ": المسكين. " والمعتر ": الذي يتعرض للحم وليس(7/4893)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
له ذبيحة، يجيء إلى القوم من أجل لحمهم.
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع هو الفقير، وأن " المعتر " هو الزائر.
يقال: قنع الرجل يقنع قنوعاً، إذا سأل، وقنع يقنع قناعة، إذا رضي/ " فهو قنع ".
وقرأ أبورجاء: {وَأَطْعِمُواْ القانع} على معنى الذي يرضى بما عنده.
وقرأ الحسن: {والمعتر} وهي لغة فيه، يقال: اعتراه إذا تعرض لما عنده وإن طلبه.
ثم قال: {كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أي: هكذا سخرنا لكم البدن لعلكم تشكرون على تسخيرها أيها الناس.
قوله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} إلى قوله: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
أي: لن يصل إلى الله لحوم هديكم، ولا دماؤها ولكن يناله اتقاؤكم إياه وإرادتكم بها وجهه وتعظيمكم حرماته. وتقديره: لن يتقبل الله لحوم هديكم ولا دماؤها، وإنما يتقبل إخلاصكم الله وتعظيمكم لحرماته.
وقيل: المعنى: لن يبلغ رضى الله لحومها ولا دماؤها ولا يرضيه ذلك عنكم، ولكن يبلغ رضاه التقوى منكم، ويرضيه ذلك عنكم.
وفي الكلام مجاز وتوسع، إذا أتى " لن ينال الله " في موضع لن يبلغ رضا الله وحَسُنَ ذلك، لأن كل من نال شيئاً فقد بلغه.(7/4894)
وقال ابن عباس: كانوا في الجاهلية ينضحون بدم البدن ما حول البيت، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فأنزل الله الآية.
ثم قال: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ}.
أي: هكذا سخر لكم البدن لكي تعظموا الله على توفيقه لكم لدينه والنسك في حجكم.
وقيل: معناه: لتكبروا الله على ذبحكم في الأيام المعلومات.
{وَبَشِّرِ المحسنين} أي: وبشر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة إلى الآخرة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا}.
أي: يصرف عن المؤمنين مرة بعد مرة غائلة المشركين وما يريدون بالمؤمنين. فيكون " يدافع " على معنى: تكرير الفعل من الله، لا على معنى مدافعة اثنين. وهذا كقوله: فيضاعفه له: فيفاعل للتكرير. أي: يضعف له مرة بعد مرة، لا أن ثم فاعلين مثل: قاتل.
ومن قرأ. يَدْفَعُ: أراد مرة واحدة. وعدل من يفاعل، لأن أكثر باب المفاعلة أن يكون من اثنين، والله تعالى ذكره، لا يمانعه شيء.(7/4895)
وقيل: معناه: أن الله يدفع عن المؤمنين شدائد الآخرة وكثيراً من شدائد الدنيا.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.
أي: كل من خان الله فخالف أمره ونهيه، وجحد كتبه ورسله.
ومعى لا يحب كل كفار أي: لا يحب إكرامه وإعزازه، بمعنى لا يريد ذلك كما يريده بالمؤمنين، فعنى الله بهذه الآية دفعه تعالى ذكره كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم.
و" خوان " فعال: من الخيانة وهو من أبنية المبالغة وكذلك كفور.
ثم قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}.
أي: أذن الله للذين يقاتلهم المشركون أن يقاتلوهم. ففي الكلام حذف على قرءاة من فتح التاء. ومن كسر التاء، فمعناه: أذن الله للذين يقاتلون المشركين في سبيله بالقتال لظلم المشركين لهم: فثم حذف أيضاً.
وقرأ ابن عباس: {يُقَاتَلُونَ} بكسر التاء. وقال: هي أول آية نزلت في القتال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة.
وقال: عنى الله بها محمداً وأصحابه إذ أخرجوا من مكة إلى المدينة. يقول الله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. قال ابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من(7/4896)
مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن، فأنزل الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ. . .} الآية.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ: فعرفت أنه سيكون قتال، وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن زيد: أذن لهم في قتالهم بعدما عفا عنهم عشر سنين. وقرأ: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ}. وقال: هؤلاء المؤمنين.
وقيل: إن هذه الآية إذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالخروج من مكة وقتال المشركين، لأن الآية نزلت بمكة، ويعقبها خرج النبي من مكة إلى المدينة، ثم بعقب ذلك كانت وقعة بدر، وهو النصر الذي وعدهم الله في قوله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
ومعنى: بأنهم ظلموا " أي: لأنهم ظلموا. فمن أجل الظلم الذي لحقهم أذن لهم في قتال من ظلمهم، فأخرجهم من ديارهم ووعدهم بالنصر على من ظلمهم بقوله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
وقال مجاهد: الآية مخصوصة، نزلت في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة/، فكانوا يمنعون، فأذن الله عز وجل للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم حين أرادوا ردهم عن الهجرة.
قال مجاهد وقتادة: هي أول آية نزلت في القتال.(7/4897)
وقال الضحاك: " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أستأذنوه في قتال الكفار بمكة قبل الهجرة فأنزل الله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}. فلما هاجر رسول الله وأصحابه إلى المدينة، أطلق الله لهم قتل الكفار وقتالهم فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ. . .} الآية. فالآية ناسخة عند الجميع لكل ما في القرآن من الأمر بالصفح عنهم، والصبر على أذاهم والمنع من قتالهم.
وقال ابن زيد: هذا ناسخ لقوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ} وخولف في ذلك، لأن هذا تهدد ووعيد، فلا ينسخ.
ومعنى: " بأنهم ظلموا " بسبب ظلمهم.
ثم قال: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} هذا وعد من الله للمؤمنين بالنصر، فقد فعل تعالى ذلك بالمؤمنين، أعزهم ونصرهم، وأعلى كلمتهم. أهلك عدوهم.
ثم قال: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ}.
تقديره: أذن للذين أخرجوا من ديارهم بغير حق.
فالذين: بدل من الذين الأولى ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ. أو في موضع نصب على إضمار أعني.
وقوله: إلا أن يقولوا. " إن ": في موضع خفض بدل من حق. هذا قول: الفراء وإبي إسحاق.(7/4898)
وقال سيبويه: هي في موضع نصب استثناء ليس من الأول. فمعنى الآية: أذن للذين يقاتلون الذين أخرجوا من ديارهم. يعني من مكة، أخرجهم كفار قريش بغير حتق إلا بتوحيدهم الله، وذلك أن كفار قريش كانوا يسبون المؤمنين، ويعذبونهم ويوعدونهم حتى اضطروهم إلى الخروج عنهم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}.
قال ابن جريج: معناه: ولولا دفاع الله المشركين بالمؤمنين.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: إنما نزلت هذه الآية في أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا ما يدفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن التابعين لهدمت صوامع وبيع.
وقال ابن زيد: المعنى: لولا الجهاد والقتال في سبيل الله.
وقال علي بن أبي طالب: نزلت الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمعنى: لولا دفاع الله المشركين بأصحاب رسول الله، لهدمت صوامع وبيع.
وقيل: معناه: لولا أن الله يدفع أي يأخذ الحقوق والشهادات لمن أوجب قبلو شهادته عمن لا يجوز قبول شهادته، فتركوا المظالم من أجل ذلك، لتظالم الناس، فهدمت صوامع، قاله: مجاهد.(7/4899)
وقال أبو الدرداء معنى: لولا أن الله يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزوا عمن ليس يغزو. لأتاهم العذاب ولاختلفوا، فهدمت صوامع.
قال مجاهد والضحاك: هي صوامع الرهبان بينونها على الطريق.
وقال قتادة: هي صوامع الصابئين. وقال البيع: بيع النصارى.
وقال مجاهد: البِيَع: كنائس اليهود.
وقال ابن زيد: البيع: الكنائس.
وقال ابن عباس: الصلوات: الكنائس، يعني: ومواضع صلوات.
وقال الضحاك: هي كنائس اليهود، يسمون الكنائس صلوات، وقاله: قتادة.
وقال أبو العالية: الصَّلَوَاتُ: مساجد الصابئين.
وقال مجاهد: هي مساجد لأهل الكتاب، ولأهل الإسلام على الطرق.
وقال ابن زيد: هي صلوات أهل الإسلام، تنقطع إذا دخل العدو عليهم.(7/4900)
يعني النوافر. قال: وتهدم المساجد كما صنع بختنصر.
وقوله: " وَمَسَاجِدُ " قال قتادة: هي مساجد المسلمين.
وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله}.
يعني: في المساجد، لأنها أقرب إلى الضمير من غيرها. وقيل الضمير في " فيها " يعود على جميع ما ذكره ومعناه: يذكر فيها اسم الله في وقت شرائعهم وإقامتهم للحق.
قال خصيف: أما الصوامع، فصوامع الرهبن وأما " البيع "، فكنائس النصارى، وأما " الصلوات " فكنائس اليهود، وأما " المساجد " فمساجد المسلمين.
ومعنى: " وصلوات " أي: مواضع صلوات، قاله: أبو حاتم.
وقال الحسن: هدمها: تركها.
وقال الأخفش: التقدير: وتركت صلوات.
وقرأ عاصم الجحدري: " وصُلُوب " بالباء المعجمة، واحدة من أسفل من غير ألف بعد الواو، وضم اللام، يريد به الصلبان، كأنه اسم للجمع على فعول.
وقرأه جعفر بن محمد، بإسكان اللام، وبالتاء المعجمة، باثنتين من فوق.(7/4901)
ويروى أن مساجد اليهود تسمى صلوات.
وعن مجاهد أنه قرأ: وَصِلْوِيتاً، بالياء والتاء، وبكسر الصاد والواو وإسكان اللام، وقال: هي القباب على شاطئ الأنهار.
وقرأ الضحاك، بضم اللام من غير ألف بعد الواو على وزن فعول وبالثاء المعجمة، ثلاثة من فوق.
وروي: أن مساجد الصابئين تسمى صُلُوثاً، وبذلك قرأ الكبي أعني بالثاء المعجمة ثلاثاً من فوق.
ومعنى: " لهدمت " لضيعت وتركت.
ومن جعل الضمير في " يذكر فيها " يعود على المساجد خاصة، وقف على صلوات، وهو قول نافع.
ثم قال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي: وليعينن الله من يقاتل في سبيله فيجعل كلمته العليا، كما أنه إنما يقاتل لتكون كلمة الله هيا العليا.
{إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: قوي على نصر من جاهد في سبيله، ونصر دنيه منيع لا يغلبه غالب.(7/4902)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قوله تعالى ذكره: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} إلى قوله: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}.
المعنى: الذين إن وطأنا لهم في الأرض، فقهروا المشركين وقتلوهم، أقاموا الصلاة بحدودها، وآتوا الزكاة مما يجب عليهم فيه الزكاة من أموالهم، " وأمروا بالمعروف " اي: دعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته. " ونهوا عن المنكر " أي: عن الشرك والعمل بمعاصيه يعني بذلك: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا بتوحيدهم لله وقد تقدم ذكرهم.
وقيل: إن هذه الآية مخصوصة في أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أذن لهم بقتال المشركين في الآية الأولى، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
وقال الحسن: " هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ".
قال ابن أبي نجيح: " هم الولاة ".
وروي: أن عثمان رضي الله عنهـ قال للذين أرادوا قتله: فينا نزلت هذه الآية.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ. . .} إلى {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور}. وقال: نحن الذي قوتلنا وظلمنا وأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، فنصرنا الله عز وجل، فمكننا في الأرض، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر فهذه لي ولأصحابي وليست لكم.(7/4903)
وقال الضحاك: هذا شرط اشترطه الله على من أعطاه الله الملك من هذه الأمة.
ثم قال: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور}.
أي: له آخر أمور الخلق، يثيب على الحسنات مع الإيمان، ويعاقب على السيئات مع الكفر.
ثم قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}.
هذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وتعزية له، ليقوى عزمه على الصبر على ما يناله من المكذبين له، فالمعنى: أن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فيما جئتهم به من الحق، فالتكذيب سنة أوليائهم من الأومم الخالية، كذبت رسلها فأمهلتهم، ثم أحللت عليهم نقمتي، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: انظر يا محمد: كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة، فكذلك أفعل بقريش الذين كذبوك، وإن أمليت له إلى آجالهم، فإني منجزك وعيدي فيهم، كما أنجزت ذلك لغيرك من الرسل في الأمم المكذبة لهم.
وقوله: {وَكُذِّبَ موسى} ولم يقل: وقوم موسى، كما قال في نوح وعاد وثمود وإبراهيم، فإنما ذلك، لأن قوم موسى هم بنو إسرائيل وكانوا مؤمنين به وإنما كذبه فرعون وقومه، وهم من القبط ليسوا من قومه فلذلك قال: وكذ موسى ولم يقل وقوم موسى.(7/4904)
قال أبو إسحاق: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار.
ثم قال تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: وكثير من القرى أهلكنا أهلها وهم ظالمون.
فعبر عن إهلاك القرية وهو يريد أهلها، مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
فالمعنى: فما أهلكنا كثيراً من أهل القرى بظلمهم، كذلك نهلك أهل قريتك يا محمد بظلمهم إذا جاء الأجل. كل هذا تخويف وزجر لقريش/ و " كأين " هي كاف التشبيه دخلت على " أي " فصارتا بمنزلة " كم " في الخبر، هذا مذهب الخليل وسيبويه، والوقف على قولهما على الياء، لأنه تنوين دخل على " أي " فأما قراءة ابن كثير وكَائِنْ " يروى عن الخليل أنه قال: من قال كإن فإنه قدم الياء الساكنة قبل الهمزة ثم خلفها بألف، كما قالوا:، إن أصل آية: إيَّة، ثم أبدلوا من الياء الساكنة ألفاً، ثم اعتلت الياء الثانية، لأنها بعد متحرك وهو الهمز فصارت كياء قاض وارم.
وقال ابن كيسان: هي أي: دخلت عليها الكاف وكثر استعمالها في الكلام حتى صار التنوين فيه بمنزلة النون الأصلية، فقالوا: كأين بنون في الوقف.(7/4905)
قال: وفيها لغة أخرى، يقولون: كا إن، كفاعل من كنت، قال: وأصلها في المعنى كالعدد، كأنه قال كشيء من العدد لأن " أيا " شيء من الأشياء، فكأنه قال: كعدد كثير فعلنا ذلك بهم، فخرجت في الإبهام إلى باب " كم " وأكثر ما جاءت " كأي " مفسرة بـ " من " نحو: كأين من رجل رأيت فإن حذفت " من " نصبت، فقلت كأي رجلاً، كما قتول: عندي كذا وكذا درهماً فتنصب، وتقول: عندي كذا وكذا من رهم. وتقول: كم لك من درهمه، وكم لك درهماً، ولو خفضت فقلت كأين رجل جاز، كما تقول: كم رجل جاءك في الخبر. فتقدير النصب في ذلك أن تجعله بمنزلة عدد فيه نون أو تنوين. وتقدير الخفض أن تجعله بمنزل عدد يضاف إلى ما بعده.
ثم قال تعالى: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}.
أي: فالقرية خالية من سكانها فخربت وتداعت، فتساقطت حيطانها على سقوفها فصارت القرية عاليه سافلها السقوف تحت الحيطان.
ثم قالت: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ}.
أي: تعطلت البير بهلاك أهلها ولا وارد ولا شارب منها، وخفض " البير " على العطف على العروش، وإن كان غير داخل في معنى العروش، ولكنه مثل: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالخفض كأنه أراد وثم بير وقصر، فلما لم يكن في الكلام ما يرفعه،(7/4906)
عطفه على ما قبله، هذا مذهب الفراء.
وقال أبو إسحاق هو عطف على " قرية ". أي: وكم من قرية وكم من بير ومن قصر.
و" البير " مشتق من بأرت الأرض، إذا حفرتها، وابتأرتها، احتفرتها.
وقوله: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}.
أي: مجصص، قاله عكرمة.
وقال الضحاك: " مشيد " طويل.
وقال أهل اللغة، شاد القصر يشيده، إذا بناه بالشيد وهو الجص. ومشيد: مفعل بمعنى مفعول، كمبيع بمعنى مبيوع. يقال قد شيد القصر: إذا طوله وأشاده أيضاً.
وقال قتادة: " مشيد ": رفيع طويل.
وعن ابن عباس: أن المشيد الحصين.(7/4907)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
قوله تعالى ذكره: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هذا تقرير وتوبيخ للكفار من قريش وغيرهم. ومعناه: أفلم يسر هؤلاء المكذبون بك يا محمد، فينظروا إلى مصارع أشباههم من الأمم المكذبة للرسل قبلهم، فيخافوا أن يحل عليهم مثل ذلك بتكذيبهم لك، فيرجعوا عن التكذيب إلى الإقرار والتصديق لك، ويفهموا ذلك بقلوبهم، ويسمعوه بآذانهم.
وقوله: " فَتَكُونَ " جواب النفي. وقيل: هو جواب الاستفهام والمعنى: قد ساروا في الأرض فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها مصارع من كان قبلهم من الأمم الماضية، يخاطب قريشاً، لأنهم كانوا يسافرون إلى الشام فيرون آثار الأمم الهالكة، فهو في المعنى: خبر فيه تنبيه وتقرير إخبار عن أمر قد كان. كما قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. أي: قد شرحنا لك صدرك.
ونصب " فَتَكُون " عند الكوفيين على الصرف، أذ معنى الكلام الخبر، فأكنهم صرفوه عن الجزم على العطف على يسيروا، فلما صرف عن الجزم، رد إلى آخر الجزم وهو النصب، فهذا معنى الصرف عندهم.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار}.
أي: فإن القصة لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص، ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن إبصار الحق ومعرفته.(7/4908)
قال قتادة: البصر: الناظر بلغة ومنفعة والبصر النافع في القلب.
وقال مجاهد: ليس من أحد إلا له عينان في رأسه وعينان في قلبه فأما اللتان في الرأس فظارهتان يبصر بهما الظاهر، وأما اللتان في القلب، فباطنتان يبصر بهما الغيب، وذلك قول الله عز وجل: { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}.
وقال ابن جبير نزلت في أبن أم مكتوم وكان أعمى {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} الآية. فالمعنى: لا تعمى الأبصار السالمة عن رؤية ما تعبتر به، ولكن تعمى القلوب عن رؤية الدلالات على صحة ما تعاينه الأبصار.
وقوله: {فِي الصدور} توكيد، لأنه قد علم أن القلب لا يكون إلا في الصدور، ولكن/ أكده به كما قال: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وكما قال: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
ثم قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ}.
أي: ويستعجلك يا محمد مشركوا قومك بما تعدهم به، من عذاب الله على شركهم به، وليس يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه عليهم.
ثم قال: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}.
يعني: أحد الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. قاله ابن عباس،(7/4909)
وقاله مجاهد وهي ستة أيام، كل يوم مقداره ألف سنة مما تعدون.
وعن ابن عباس أن ذلك هو اليوم من أيام الآخرة في مقدار الحساب.
وروى أبو هريرة أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، فقيل له: وما نصف يوم؟
فقال: أو ما تقرأ القرآن: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} فهذا يدل على أن المراد بالآية أيام الآخرة، وهو قول عكرمة.
وروي أيضاً عن مجاهد وهو قول ابن يد.
ومعنى إضافة ذكر اليوم إلى الاستعجال بالعذاب، أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا التي أيامها قليلة قصيرة، فاعلموا أن العذاب يحل بهم في وقتٍ اليوم منه كألف سنة من سني الدنيا، فلذلك أبقى لعذابهم وأشد.
وقل: المعنى: أن الله جلّ ذكره أعلمهم أن الأيام التي بقيت لهم ويحل عليهم العذاب قليلة عنده، إذ اليوم عنده كألف سنة مما تعدون فوقت العذاب عندكم بطيء أيها المشركون، وهو قريب عند الله. وقيل معنى ذلك: وأن يوماً في الشدة والخوف(7/4910)
في الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا فيها شدة وخوف وصعوبة، وهذا قول حسن.
وقيل: المعنى، وإن مقدار يوم واحد من أيام الدنيا يعذب فيه الكافر في الآخرة كمقدار ألف سنة من الدنيا، يعذب فيها الكافر لو عذبه فيها ذلك المقدار. وذلك في كثرة الآلام والغموم، فالشدة على المعذبين، أجارنا الله من ذلك.
قال بعض المفسرين، وكذلك سبيل المنعم عليه في الجنة، ينال فيها من اللذة والنعيم في قدر يوم من أيام الدنيا مثل ما كان ينال في نعيم الدنيا ولذتها في ألف سنة لو نعم فيها منعماً مسروراً.
ثم قال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ}: أي: وكم من أهل قرية أمهلتهم وأخرت عذابهم " وهم ظالمون " أي: مشركون بالله، ثم أخذتهم بالعذاب. واستغنى عن ذكر العذاب لتقدم ذكره، فعذبتهم في الدنيا بعد الإمهال وإلى المصير في الآخرة، فليقون عذاباً لا انقطاع له. وفي الكلام حذف. والتقدير: فكذلك حال متسعجليك بالعذاب يا محمد، فإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإني آخذهم بالعذاب في الدنيا بالسيف والمصائب ثم يصيرون إلي في الآخرة فيصل بهم العذاب المقيم. كل هذا تخويف ووعيد وزجر للكفار من قريش وغيرهم.
ثم قال: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
أي: قل يا محمد لمشركي قومك إنما أنذركم عذاب الله أن يحل بكم في الدنيا والآخرة " مُبِينٌ " أي: أبين لكم إنذاري وأظهره لتحذروا وتزدجروا وتتوبوا من شرككم لم أملك لكم غير ذلك، فأما استعجالكم بالعذاب، فليس ذلك إلي، إنما هو(7/4911)
إلى الله جلّ ذكره.
ثم وصف مَنْ قبل إنذاره وآمن به فقال: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}: أي، منكم ومن غيركم {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي، ستر من الله على ذنوبهم التي سلفت، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: الجنة.
ثم وصف من لم يقبل إنذاره وتمادى على كفره فقال: {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي: عملوا في الصد في أتباع النبي عليه السلام، وترك الإقرار بما جاء به ورد آيات الله، والتكذيب بها.
ومعنى: {مُعَاجِزِينَ}: معاندين، قاله: الفراء.
وقال ابن عباس: معاجزين: مشاقين.
وقال قتادة: سابقين، قال: ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه.
وقيل: معناه معاندين للنبي صلى الله عليه وسلم مغالبين له، يفعلون من ذلكما يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعجز عن رده وإنكاره.(7/4912)
ومن قرأه مُعْجِزِينَ بغير ألف مشدداً، فمعناه مثبطين مبطئين. تأويله يتبطون الناس ويبطئونهم عن اتباع النبي عليه السلام.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ}. قوله: " من رسول ولا نبي ": يدل على أن النبي هو المرسل، وأن المرسل نبي، لأنه أوجب في الآية للنبي الرسالة، لأن معنى نبي: أنبأ عن الله، ومعنى أنبأ عن الله: هو أخبر عن الله بما أرسله به، فالنبي رسول والرسول نبي.
وقد قال قوم: / كل رسول نبي وليس كل نبي رسول، وهذه الآية تدل على(7/4913)
القول الأول.
ومعنى الآية عند أهل القول الثاني: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى أمة ولا نبي محدث ليس بمرسل.
وكان نزول هذه الآية، أن الشيطان ألقى لفظاً من عنده على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يتلوه من القرآن، فاشتد ذلك على رسول الله فسلّى الله بهذه الآية.
قال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس: جلس رسول الله في نادٍ من أندية قريش، كثير أهله، يتمنى ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه، فأنزل الله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ. " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى "، ألقى الشيطان في تلاوته كلمتني " تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترجى ". فتكلم بها ثم مضى فقرأ إلى آخر السورة كلها فسجد وسجد القوم معه جميعاً ورضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك. فلما أمسى النبي أتاه جبريل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبريل صلى الله عليه وسلم: ما جئتك بهاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله تعالى إليه {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} إلى(7/4914)
قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 73 - 75] فما زال النبي صلى الله عليه وسلم مغموماً بذلك حتى نزلت: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وعلى هذا المعنى ذكره ابن جبير وأبو معادز
وقال ابن عباس: في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا سمعناه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه فينما هو يتلوها وهو يقول: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألقى الشيطان أن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فجعل يتلوها، فنزل جبريل عليه السلام فنسخها قال له: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} إلى {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وكذلك رواه ابن شهاب على هذا المعنى وان اختلفت الألفاظ.
وقيل: معنى الآية: هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو والغلط إذ قرأ فينتبه إلى ذلك أو ينبهه الله عليه، فيرجع عنه كما يعرض له من السهو في الصلاة فنسخ الله لذلك هو تنبيه نبيه عليه.
وقوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ}.
هو رجوع النبي صلى الله عليه وسلم عن سهوه وغلطه إلى الصواب، كل بلطف الله وتيسيره له.
وقوله: {وَأَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} أي: وسوس إليه فغلطه في قراءته. وقوله: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. هو أن المشركين والمنافقين كانوا يطلبون(7/4915)
على النبي عليه السلام زلة أو غلطاً يطعنون بذلك عليه. فإذا غلط في قراءته أو سهى، تلقوا ذلكك بالقبول، وقالو: رجع عن بعض ما قرأ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يبين فيها أن الغلط والسهو لا حجة فيهما على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا طعن، لأنه شيء يجوز على جميع الخلق، ولا يمتنع من ذلك أحد إلا رب العالمين، فأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد والرسل هكذ كانوا، فلا نقص في ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل بعض الناس على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي بهذه الآية، لأنه قال في النبي والرسول: إذا تمنى، أي قرأ ما أرسل به إلى قومه، فكلاهما مرسل ونبي، وقال: إن الأنبياء إنما يصيرون أنبياء إذا أرسلهم الله إلى عباده، ومن لم يرسله الله إلى عبده فليس بنبي، كما لا يكون رسولاً. والذي عليه أكثر الناس، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. والرسل قليلون، والأنبياء كثيرون. وقد ذكرنا عدة هؤلاء وهؤلاء في غير هذ الموضع، وعلى هذا دلائل كثيرة تدل على صحته بطول ذكرها.
ومعنى: " إذا تمنى " إذا تحدث في نفسه.
وقال ابن عباس: " إذا تمنى " إذ حدث.
وقال الضحاك إذا قال.(7/4916)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
وقال مجاهد: إلا تلا وقرأ.
وقيل: إن قوله: (والغرانيق العلى) عنى بها الملائكة، وكذلك الضمير في وأن شفاعتهم ترتجى، هو للملائكة/.
واختار الطبري أن يكون تمنى، بمعنى حدث، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقيل: معنى الآية، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة فيقول: لو سألت الله أن يغنمك كذا ليتسع المسلمون، ويعلم الله الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقى الشيطان.
وحكى الكسائي والفراء " تمنى " بمعنى حدّث نفسه.
وقوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي: يبطله، من قولهم: نسخت الشمس الظل.
وقوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} أي يخلصها من الباطل الذي ألقى الشيطان. والله عليهم بما يحدث في خلقه من حدث، حكيم في تدبيره إياهم.
قوله تعالى ذكره: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً}. إلى قوله: {يَوْمٍ عَقِيمٍ}.
المعنى: فعل ذلك من نسخ ما ألقى الشيطان ليجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض، أي: اختباراً للذين في قلوبهم نفاق {والقاسية قُلُوبُهُمْ} هم المشركون الذين(7/4917)
قست قلوبهم عن الإيمان فلا تلين ولا ترعوي.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.
أي: وإن مشركي قومك لفي خلاف لله، في أمر بعيد من الحق. والشقاق: أشد العداوة.
ثم قال: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ}.
أي: نسخ ما ألقى الشيطان ليعلم الذين أتوا العلم بالله أنه الحق من ربك. أي: أن الذي أنزله إليه هو الحق، لا ما نسخ مما ألقى الشيطان {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي: فيصدقوا به. {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي: تخضع للقرآن قلوبهم وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه.
ثم قال: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا}.
أي: المرشد المؤمنين إلى الطريق القاصد والحق الواضح، فينسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يضرهم كيد الشيطان شيئاً.
وقيل: المعنى: لهاديهم إلى طريق الجنة في الآخرة.
وقيل: المعنى: لهاديهم إلى الثبات على الإيمان في بقية أعمارهم.
وقال ابن جريج: {أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} يعني: القرآن.
ويروى: أن قوماً من المهاجرين بأرض الحبشة بلغهم أن أهل مكة سلموا حين تقربوا من النبي عليه السلام لما سمعوا منه ما ألقى الشيطان في تلاوته، فرجعوا إلى(7/4918)
عشائرهم، وقالوا هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشطيان.
وقوله: " الهاد " حذفت الياء في الوصل لسكونها وسكون اللام بعدها وحذفت من الخط، لأن الكاتب كتبها على لفظ الوصل، ولو كتبها على الوقف لكتبها بالياء كما كتب {بِهَادِي العمي} [النمل: 81] في النمل بالياء على الوقف، وكتب " بهاد العمي " في الروم بغير ياء على الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، لأنك إن وقفت بالياء خالفت الخط، وإن وقفت بغير ياء، حذفت لام الفعل لغير علة.
وقد قال يعقوب وسلام: الوقف " الهادي " بالياء على الأصل، والأحسن ألا تقف عليه لما ذكرت لك. ولأنه ليس بتمام ولا قطع، ولأنك تفرق بين المضاف والمضاف إليه، وكلاهما كالشيء الواحد.
وقد روى أبو محمد اليزيدي عن أبي عمرو في " لهاد الذين آمنوا " قال: الوصل بالياء، والوقف على الكتب. وروي ذلك عن اليزيدي أبو عبد الرحمان وأبو حمدون. ومعنى هذا أنه ينوي الياء في الوصل وإن كان لا يلفظ بها، فإذا وقف،(7/4919)
وقف بغير ياء اتباعاً للخط فكأنه قال: الوصل بنية الياء. وهذا كلام مستقيم. وقد استجهل اليزيدي في هذه الرواية ومجازها ما ذكرنا.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ}.
أي: لا يزال الكفار في شك من القرآن.
وقيل: من النبي.
وقيل: من سجوده معهم في آخر النجم.
وقيل: مما ألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: تلك الغرانيق العلى " قال هذا القول الأخير ابن جبير وابن زيد.
قال ابن زيد: لا يخرج ذلك من قلوبهم زادهم ضلالة. وكونها تعود على القرآن أبين، لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} يعني: القرآن وهو أقرب إليه.
وقوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً}.
أي: حتى تأتيهم ساعة حشر الناس لموقف الحساب " بغتة " أي: فجأة، وهو مصدر في موضع الحال.(7/4920)
ثم قال تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}.
أي: عذاب يوم القيامة، ومعنى عقيم لا ليلة له شبهت/ الليلة باليوم، بمنزلة الولد للوالدة، هذا قول الضحاك وعكرمة.
وقيل: عنى به يوم بدر. وسمي عقيماً لأنهم لم ينظروا إلى الليل، قال ذلك: مجاهد وابن جبير وقتادة وأبي بن كعب. وهذا القول: حسن لأنه قد تقدم ذكر يوم القيامة في قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فلا يكون يوم القيامة مرة آخرى، وإنما المعنى: لا يزالون في شك من القرآن حتى تقوم الساعة أو يقتلوا يوم بدر.
قال أبي بن كعب: " عذاب يوم عقيم "، يوم بدر، والزام: القتال في يوم بدر، {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} [الدخان: 16] يوم بدر، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى} [السجدة: 21]، يوم بدر، فذلك أربع آيات نزلن في يوم بدر.
وقيل: إنما سمي يوم بدر عقيماً لأنه عقيم فيه الخير والفرج عن الكفار.
وقيل: هو يوم القيامة، عقم أن يكون بعده يوم مثله، أي: منع من ذلك.(7/4921)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
قوله تعالى ذكره: {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. إلى قوله: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
أي: السلطان لله وحده يوم مجيء الساعة لا ينازعه فيه أحد إذ قد كان في الدنيا ملوك يدعون ذلك، قد ملكهم الله أمر عباده، فيوم القيامة لا يملك الله فيه أحداً شيئاً من الأمور، بل هو المتفرد بذلك، والحاكم فيه كله، وقد كان الملك كله لله في الدنيا، إلا أنه تعالى ملك قوماً أمور عباده، وليس يكون ذلك في الآخرة، لا يملك أحد أمر أحد.
{يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بين خلقه، المؤمن والكافر، {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم} يومئذ {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، أي: مذل لهم في جهنم.
ثم قال تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ}.
أي: والذين فارقوا أوطانهم وهجروا بلدهم في رضى الله ثم قتلوا في ذلك أو ماتوا {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} وهو الثواب الجزيل، {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي: خير من بسط رزقه على أهل طاعته.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله، فقال بعضهم: الميت والمقتول منهم سواء، وقال آخرون: بل(7/4922)
المقتول أفضل فأعلمهم الله جلّ ذكره بهذه الآية أن المقتول في سبيل الله والميت فيه سوا عنده في الثواب.
ثم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ}.
يعني: الجنة. وقال: {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي: " لعليم بمن هاجر في سبيله ممن خرج لغنمية أو عرض من أعراض الدنيا ". " حليم " عمن عصاه من خلقه لا يعاجله بالعقوبة ثم قال: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}.
أي: الأمر ذلك وعن عاقب.
وقيل: معناه: هذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ولهم مع ذلك القضاء على المشركين الذين بغوا عليهم، وآخرجوهم من ديارهم.
قال ابن جريج في الآية: هم المشركون، بغوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، فوعده الله أن ينصره وقال: إن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فكره المسلمون القتال في الشهر الحرام، وسألوا المشركين أن يكفروا عن القتال، فأبى المشركون ذلك فقاتلوهم وبغوا عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله الآية فيكون معنى {ثُمَّ بُغِيَ}: بدئ بالقتال وهو له كاره لينصرنه الله على من بَغَى عليه. وسمى الجزاء عقوبة لأنه جزاء على عقوبة فسمي(7/4923)
باسمه، كما قال: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] و {مَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وشبهه، ومثل {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}
[الشورى: 40] فالأولى: سيئة والثانية حسنة، إلا أنها سميت سيئة، لأنها وقعت إساءة بالمفعول، لأنه فعل به مايسوء، كذلك سمي الجزاء على العقوبة عقوبة لأنه عقوبة بالمبتدئ بالشر.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
أي: لذو عفو وصفح لمن انتصر به من ظلمه من بعدما ظلمه الظالم، غفور لمن فعل بمن ظلمه.
ثم قال: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي: يقول الله جلّ ذكره: هذا النصر الذي أنصر من بُغِيَ عليه بأني قادر على ما شاء، ومن قدرتي أني أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل. ومعناه: يدخل ما انتقص/ من ساعات الليل في ساعات النهار، وما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، فما نقص من طول هذا، زاد في طول هذا.
فالبقدرة: التي فعل هذا، ينصر محمداً وأصحابه على الذين بغوا عليهم،(7/4924)
وأخرجوهم من ديارهم.
ثم قال: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي، وفعل ذلك بهم أيضاً، لأنه ذو سمع لما يقولون من قول خفي وغيره، عليم بكل شيء.
ثم قال: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق}.
أي: ذلك الفعل الذي فعل من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، ونصره أولياءه لعى من بغى عليهم، لأنه الحق الذي لا مثل له، ولا شريك، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون آلهة من دونه، هو الباطل الذي لا يقدر على شيء.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير}.
أي: هو العلو على كل شيء وهو فوق كل شيء، وكل شيء دونه.
" والكبير: " أي: العظيم الذي لا شيء أعظم منه.
قال ابن جريج: " هو الباطل " يعني: الشيطان.
ثم قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً}.
" فتصبح " مرفوع لأن صدر الكلام واجب، ولس استفهام، إنما هو تنبيه، هذا قول الخليل.
وقال الفراء: " ألم تر " خبر، كما تقول في الكلام: أعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا. وخص ذكر الصباح بهذا دون سائر أخواتها، لأن رؤية الخضرة بالنهار أوضح(7/4925)
منه بالليل، والمعنى: أن الأرض صارت على هذا بالليل والنهار، فتصبح بمعنى فأصبحت، وهذه أصول من باب صار وأخواتها، وأعلم أن أصل أصبح وأمسى أن تقول: أصبح الرجل وأمسى أي: وافق الصباح ووافق المساء، وكذلك أصبحنا وأمسينا، معناه: دخلنا في الصباح والمساء.
ثم قالوا: أصبح زيد عالماً، وأمسى جاهلاً. أي: تبين ذلك منه في وقت الصباح والمساء ولم يرد أنه يكون في الصباح على حال لا يكون عليها في المساء، وقولهمه ظل فلان قائماً، فلا يكون ظل إلا بالنهار، كما أن بات بالليل، واشتقاقه من الظل، والظل إنما يكون بالنهار، فلذلك لم يقع " ظل " إلا بالنهار.
وقولهم: " صار زيد عالماً. أصلها من صرت إلى موضع كذا، أي: بلغته، فالمصير انقطاع البلوغ. ومنه قوله: " إليه المصير "، أي: غاية البلوغ والانتهاء، ثم اتسع فيها حتى جعلت للخبر، فقيل: صار عبد الله عالماً أي: بلغ هذه الصفة، فلذلك كانت للشيء الذي ينقطع إلى وقتك تقول: صار عبد الله رجلاً. أي: بلغ ذلك هذا الوقت، وليست بمنزل " كان " التي توجب علمه قبل ذلك، فصارت لانقطاع الغاية، وانطقاع الغاية وقت خبرك، فإن أردت أن تخبر بـ " صار " إنما هو كان قبل وقتك، أدخلت " كان " فقلت: كان زيد قد صار عالمً، ورأيته أمسى صار عالماً.(7/4926)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
وأما ما زال فأصلها من زال الشيء عن الموضع، إذا فارقه وما زلت عن موضع، أي: ما فارقته. ثم جعل ذلك للخبر فلزمه الجحد، فثبت الخبر عن الاسم بنفي مفارقته، فقلت: ما زال زيد عالماً، فنيت مفارقته للعلم، ونفي ذلك إيجاب له، فصار المعنى: زيد علام، ففيه معنى تراخي الزمان، فإذا قلت ما زلت سائراً، فمعناه ما زلت أسير شيئاً بعد شيء. ونظير ما زال، ما برح وما انفك، وما فتئ. فأصل ما برح، من برحت من موضع، أي: فارقته. وأصل ما انفك من انفكاك الشيء من الشيء ومفارقته إياه. وأما ما فتئ، فلم ينفرد باسم كظلت. وأما ما دام، فما فيها غير جحد، إنما هي زمان. وأصل دام، من دمت على الشيء، مكثت فيه، وطاولته، ثم جعلت لديمومة الخبر، وجعل الاسم وخبره صلة " ما " التي هي وقت. ولو قلت دام زيد عالماً، لم يكن كلاماً حتى تأتي الموصول، وهو " ما ". ولو قيل: قد دام زيد أميراً، لجاز في القياس، لأن معناه: طالت إمارته، ولكن لم يستعمل وقوله: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
أي: لطيف باستخراجه النبات من الأرض بالماء الذي ينزل من السماء. " خبير " بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره.
قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}.
أي: له ملك ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله لهو الغني عن خلقه. وهم(7/4927)
المحتاجون إليه.
{الحميد} أي: المحمود عند/ عباده في أفضاله ونعمه عندهمه.
ثم قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض}.
أي: سخر لكم ما في الأرض من الدواب والأنعام وغير ذلك تنتفعون وتأكلون وتركبون وتلبسون منه، وسخر لكم " الفلك لتجري في البحر بأمره " أي: بقدرته وتذليله أياها لكم.
ثم قال: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
أي: يمسكها بقدرته لئلا تقع على الأرض. {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. أي: لذو رأفة ورحمة بهم.
ثم قال: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}.
أي: والذي أنعم عليكم هذه النعم المذكورة، هو الذي خلقكم أجساماً أحياء بحياة أحدثها فيكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يميتكم فيفنيكم عند مجيء آجالكم، ثم يحييكم عند بعثكم لقيام الساعة، {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي: إن ابن آدم لجحود لنعم الله عليه، إذ يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المتكررة وبغيرها.
ثم قال تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ}.
أي: لكل جماعة قوم لنبي خلا قبلك يا محمد، جعلنا مألوفاً يألفونه، وماكناً يعتادونه لعبادة الله تعالى، وقضاء فرائضه، وعملاً يلزمونه.(7/4928)
وأصل المنسك: المكان المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر، وإنما سميت المناسك مناسك الحج لتردد الناس إليها للعمل الذي فرض عليهم لعمل الحج والعمرة فألفوه.
وكسر " السين " لغة أهل الحجاز، وفتحها لغد أسد.
قال ابن عباس: جعلنا منسكاً. أي: عيداً.
وقال مجاهد: وهو أراقة الدم بمكة.
وقال قتادة: " منسكاً " ذبحاً وحجاً.
وقد رويَ أن المشركين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في إراقة الدم أيام النحر. فهذه الآية في ذلك والله أعلم. دل على هذا التأويل قوله: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر} أي: فلا يجادلنك في ذبحك ونسكك قولهم: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله وهو الميتة.
ومعنى: " فلا ينازعنك "، أي: فلا تنازعنهم لأنهم قد نازعوه في ذلك قبل نزول الآية.(7/4929)
ثم قال: {وادع إلى رَبِّكَ}.
أي: ادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك بأن يأكلوا ما ذبحوه بعد اتباعك والتصديق بما جئتهم به. {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أي: طريق غير زائل عن الحق والصواب.
ثم قال تعالى: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
أي: إن جادلك هؤلاء المشركون في نسكك، {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي: يقضي بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون من أمر دينكم.
فتعلمون حينئذٍ المحق من المبطل.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض}.
أي: يعلم ما في السماوات السبع وما في الأرضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بجميع ما علموه في الدنيا، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. {إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ} أي: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ذكره قبل أن يخلق الخلق ما هوكائن إلى يوم القيامة. {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: سهل. يعني: حكمه بين المختلفين يوم القيامة.
وقيل: معناه: أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن يسير على الله. أي: هين. فصاحب هذا القول رده على الأقرب، وهو: " أن ذلك في كتاب ". وصاحب القول الأول رده على " يحكم بينكم ".
قال ضمرة بن حبيب: إن الله جلّ ذكره كان عرشه على الماء، فخلق السماوات(7/4930)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يبتدئ شيئاً من الخلق.
وقال كعب الأحبار " علم الله تعالى ما هو خالق، وما خلقه عاملون ".
وقال ابن جريج قوله: " إن ذلك في كتاب " يعني: قوله: {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة/ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
ثم قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}.
أي: يعبد هؤلاء المشركون من دون الله ما لم ينزل لهم به حجة من السماء في كتاب من كتبه التي أنزلها على رسله، وما ليس لهم به علم، أي: لا علم لهم أنها آله، فيعبدونها بعد علم، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ينصرهم من عذاب الله.
قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} إلى قوله: {حَقَّ جِهَادِهِ}.
أي: وإذا تتلى على المشركين آيات القرآن واضحات حججها وأدلتها، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر}، أي تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان بالله من تغيرها بسماعهم القرآن.(7/4931)
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ}.
أي: يبطشون بالذين يتلون عليهم كتاب الله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لشدة كراهيتهم أن يسمعوا القرآن ويتلى عليهم.
قال الضحاك: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} أي: يأخذون المؤمنين بأيديهم أخذاً.
والسطو في اللغة: البطش.
وروى أحمد عن قالون والأعشى عن أبي بكر " يصطون " بالصاد من أجل الطاء.
ثم قال: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار}.
أي: قل يا محمد للمشركين أفأنبئكم بشر مما تكرهونه من قراءة القرآن عليكم؟ فقالوا: ما هو فقيل لهم: النار، أي هي النار وعدها الله الذين كفروا، أي: وعدكم وأمثالكم من الكفار أياها.
وروي: أن المشركين قالوا محمد وأصحابه شر خلق، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد أفأنبئكم بشر من محمد وأصحابه على قولكم وزعمكم، أهل النار فهم أنتم شرار خلق الله تعالى لا محمد وأصحابه.(7/4932)
وقوله: {وَبِئْسَ المصير} أي: وبيس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المشركون يوم القيامة.
ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ}.
{ضُرِبَ} هنا بمعنى: جعل: من قولهم: ضربت الجزية على النصارى، أي: جعلت. وضرب السلطان الخراج على الناس.
أي: جعل، " والمثل " الشبه الذي جعلوه لله من الأصنام.
فالمعنى: يا أيها الناس جعل شبه لي في عبادتي، يعني: الأصنام التي جعلوها شبهاً لله فعبدوها.
ثم قال: فاستعموا الخبر هذا الذي جعل شبهاً لي. {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} من الأصنام والأثان، لن يخلقوا ذباباً، على صغر الذباب ولفطه، ولو أن الأصنام اجتمعت كلها لم تخلق ذلك ولا استطاعته، على أن الذباب واحد وهي كثيرة. وأن يسلبهم هذا الذباب على ضعفه وكثرتها شيئاً مما عليها من طيب وغيره، لا يقدرون بجماعتهم على استقاذ ذلك الشيء من الذباب الضعيف.
روي أنهم كانوا يطلون آلهتهم بالزغفران، فكانت الذباب تختلس الزعفران، فلا تقدر الأصنام - وهي آلهة لهم - على استنقاذ ما تأخذ الذباب منها.(7/4933)
ثم قال: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب}.
أي: ضعفت الآلهة عن طلب ما أخذ الذباب منها، وضعف الذباب، قاله: ابن عباس.
وقيل: المعنى: ضعف الطالب من بني آدم إلى الصنم حاجته، والمطلوب إليه أن يعطي سائله من بني آدم ما سأله - فهذا توبيخ من الله لقريش وتنبيه، ومعناه: كيف تجعلون الله في العبادة مثل ما لا يقدر على خلق ذباب.
{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} لم يمتنع ولا أنتصر، والله خالق من في السماوات والأرض. ومالك جميع ذلك، والمحيي جميع ذلك والمفني لهم.
ثم قال تعالى: {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}.
أي: ما عظموه في العبادة حق عظمته حين عدلوا به من يضعف عن الامتناع من أذى الذباب. هذا معنى قول ابن زيد.
وقد قال قوم: قوله تعالى: ضرب مثل، فأين المثل، ليس في الآية مثل والمعنى فيه على ما قمنا أن معناه، ضربتم لي مثلاً، أي جعلتم لي شبهاً ونداً. كما قال:
{وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [إبراهيم: 30] {فاستمعوا لَهُ} أي: / فاستمعوا جواب ما ضربتموه شبهاً لله(7/4934)
ونداً، فالضرب إنما هو للمشركين الذين عدلوا الله بالأصنام، فخبرنا الله تعالى عن ضعف الشبه والند الذي جعلوه له.
قال الكلبي: كانوا يعمدون إلى المسك والزعفران، فيسحقونهما جميعاً، وهو عطر العرب ويطلون بهما الأصنام، فإذا يبس تشققق فربما وقع عليه الذباب فيأخذ منه، فكان يشتد عليهم.
ثم قال: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
أي: قوي على خلق ما يشاء من صغير وكبير، " عزيز " أي: منيع في ملكه، لا يقدر أحد أن يسلبه من ملكه شيئاً، وليس كآلهتهم التي يدعون من دون اكلله التي لا تقدر على خلق ذباب، ولا على الامتناع عن الذباب.
ثم قال: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس}.
أي: الله يختار من الملائكة رسلاً يرسلهم إلى من يشاء من خلقه، كجبريل وميكائيل صلى الله عليهما وسلم. ومن الناس، أي: يختار من شاء من الناس رسلاً يرسلهم إلى خلقه.
ويقال: إن هذه الآية جواب لقول المشركين، {أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] فأنزل الله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} أي: ذلك إليه، يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه.(7/4935)
ثم قال: {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي: يسمع ما يقول المشركون في محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به وغير ذلك من كلامهم وسرهم، {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته.
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
أي: ما بين أيدي ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: وما هو كائن بعد فنائهم. {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي: إلى الله ترد أمور الدنيا والآخرة.
ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ}.
أي: يا أيها الذين صدقوا الله ورسله وكتبه، اركعوا واسجدوا في صلاتكم، {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ}، أي: ذلوا له واخضعوا بالطاعة {وافعلوا الخير} الذي أمركم بفعله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تدركون طلباتكم عند ربكم.
وقال الطبري: لعل هنا بمعنى كي، وهي عند غيره على معنى، الرجاء و " لعل " من الله واجبة. ومذهب أهل المدينة، مالك وغيره أن لا يسجد في آخر هذه السورة، وإنما فيها سجدة واحدة عند قوله يفعل ما يشاء.
ورأي جماعة من الفقهاء، السجود في آخر السورة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: فضلت سورة الحج بسجدتين على سا ئر القرآن.
وعن عمر أنه سجد في آخرها.
وعن ابن عباس ابن عمر أنهما لم يعدا الثانية في سجود القرآن.(7/4936)
ثم قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ}.
أي: جاهدوا المشركين حق الجهاد. قاله: ابن عباس.
وعن ابن عباس: أن المعنى: لا تخافوا في الله لومة لائم، فذلك حق جهاده.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل ".
وعنه أنه قال: " أفضل الجهاد، كلمة عدل عند سلطان جائر "، ومعنى: " حق جهاده " هو استفراغ الطاقة. يقول الله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم}. وأكثر الناس على أنه غير منسوخ وواجب على كل مسلم أن يجاهد في الله حق جهاده على قدر استطاعته ويكون قوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] بياناً لهذا وليس بناسخ له.
قوله تعالى ذكره: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} إلى آخر السورة.
أي: هو اختاركم لدينه، واصطفاكم لحرب أعدائه.
وقال ابن زيد: " هو اجتباكم " أي: هَدَاكم. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} أي: من ضيق لا مخرج لكم منه، بل وسع عليكم، فجعل التوبة من بعض مخرجاً، والكفارة من بعض، والقصاص من بعض. فلا ذنب يذنبه المؤمن إلا وله في دين الإسلام منه مخرج، هذا معنى قول ابن عباس.
" وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: هو الضيق " يعني أن الحرج: الضيق.(7/4937)
وقيل: معناه، أن الله جعل للمؤمنين/ مكان كل شي يثقل في وقت ما هو أخف منه، فجعل للصائم الإفطار في السفر، وتقصير الصلاة وللمصلي إذا لم يطق القيام أن يصلي قاعداً، أو أن يتزوج أربعاً وما شاء من ملك اليمين.
وعن ابن عباس أنه قال: هذا في شهر رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شك في الهلال، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليكم ستهلاله.
وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: وما جعل عليكم في الإسلام من ضيق بل وسعه عليكم، وهو قول الضحاك.
وقال ابن عباس: وسع الله في الدين ولم يضيقه فبسط التوبة، وجعل الكفارات مخرجاً.
ثم قال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} اختلف في " هو " فقيل: ضمير الله جلّ ذكره. وقيل ضمير إبراهيم صلى الله عليه وسلم أي: الله سماكم المسلمين، هذا قول: قتادة والضحاك ومجاهد.
وقيل: المعنى: إبراهيم سماكم المسلمين، وهو قول الحسن وابن زيد لأن(7/4938)
إبراهيم عليه السلام قال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}.
وهذا القول يضعفه قوله من قبل. وفي هذا، فيكون إبراهيم سمانا مسلمين من قبل القرآن وفي القرآن، والقرآن إنما نزل بعد إبراهيم، فهذا بعيد، وإنما يجوز قول ابن زيد والحسن على معنى، إبراهيم سماكم المسلمين فيما تقدم وفي هذا، أي: وفي حكمه أن من اتبع محمداً موحد. والأحسن أن يكون سمانا بذلك، من قبل القرآن، وفي الكتب المتقدمة وفي القرآن.
قال مجاهد سماكم الله مسلمين في الكتب كلها، وفي الذكر، وفي هذا القرآن. وكل من آمن بنبيه من الأمم الماضية، فإنما سميت بالإيمان ولم يسم بالإيمان والإسلام غير هذه الأمة.
ثم قال: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ}. أي: اجتباكم وسماكم مسلمين ليكون محمد شهيداً عليكم يوم القيامة، لأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا أنتم حنيئذٍ شهداء على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أمتهم ما أرسلوا به إليهم.
قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي كان. يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وكان يقال للنبي: إنك شهيد على قومك. وقال الله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ}، وقال: " لتكونوا شهداء على الناس " وكان يقال للنبي: سل تعطه، وقال الله جلّ ذكره: ادعوني أستجب لكم.
ثم قال: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}. أي: أقيموها بحدودها في أوقاتها، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم.
ثم قال: {واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ} أي: ثقوا بالله وامتنعوا به من عدوكم، وتوكلوا(7/4939)
عليه في أموركم، {فَنِعْمَ المولى} هو لمن فعل ذلك منكم {وَنِعْمَ النصير}، أي: نعم الناصر هو على من بغاه بسوء.
وقوله: {مِنْ حَرَجٍ} وقف، إن نصبت ملة، بمعنى اتبعوا ملة فإن نصبته على قول الفراء على معنى كَ " مِلّةِ " إبراهيم لم تقف على " حرج " ويلزم الفراء في النصب عند عدم الكاف أن يقول زيد الأسد، فينصب الأسد، لأن المعنى، زيد كالأسد، وهذا لا يجوز عند أحد. " إبراهيم " وقف، إن جعلت " هو " من ذكر الله جلّ ثناؤه، وهو مذهب نافع ويعقوب وغيرهما. وإن جعلت " هو " من ذكر إبراهيم لم تقف على " إبراهيم "، وكان التمام " وفي هذ " إن جعلت اللام من لتكون متعلقة بفعل مضمر، فإن جعلتها متعلقة بـ: " اجتباكم " و " سماكم " لم يكن التمام إلا على الناس.(7/4940)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المؤمنون: مكية
قوله تعالى ذكره: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} إلى قوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}.
قال مجاهد إن الله تعالى وجلّ ثناؤه غرس جنة عدن بيده، ثم قال حين فرغ، {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون. . .} الآيات، ثم أغلقت فلم يدخلها إلا من شاء الله، ولا تفتح إلا بالسحَر مرة، ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون.
وعن ابن عباس: أنه قال: خلق الله جنة عدن بيده، فتكلمت فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} / أي: قد سعد المصدقون وبقوا في الجنة.
فالمعنى: قد بقي الذي صدقوا محمداً وما جاء به في النعيم الدائم، وأصل الفلاح، البقاء في الخير.
ثم قال: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}.
أي: هم متذللون لربهم إذا قاموا إلى صلاتهم.(7/4941)
قال أنهم خشعت قلوبهم، فلا يعرف أحدهم من عن يمينه ولا من عن شماله، كان يستجب أن لا يجاوز المصلي ببصره موضع سجوده إلا بمكة، فإنه يستحب أن ينظر إلى البيت ولم يوقت مالك في ذلك وكان يقال: نزلت أدباً لقوم كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء فنهوا عن ذلك.
قال ابن سيرين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في صلاته، فلما أنزل الله هذه الآية، جعل رسول الله وجهه حيث يسجد.
وقال مجاهد والزهري: الخشوع: سكون الأطراف في الصلاة.
وقال الحسن: خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا به الجناح.
وقال علي بن أبي طالب: خشوع في القلب، لا تلتفت في صَلاتك.(7/4942)
وقال معمر عن الحسن: خاشعون " خائفون.
وعن ابن عباس: خاشعون "، خائفون ساكنون.
وحقيقة الخاشع، المنكسر قلبه إجلالاً لله ورهبة منه.
وقال مالك: الخشوع في الصلاة: الإقبال عليها. السكون فيها.
ثم قال تعالى ذكره: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ}.
أي: هم عن الباطل وما يكرهه الله معرضون.
قال ابن عباس: عن الباطل.
وقال الحسن: عن المعاصي.
وقال ابن زيد: هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا عن اللغو [معرضين].
وقال الضحاك: اللغو: الشك.
وقيل: الغناء.
وروى مالك عن محمد بن المنكدر أنه قال: يقول الله جلّ ذكره يوم القيامة أين(7/4943)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللغو ومزامير الشيطان، أدخلوهم في رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي علي وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال الضحاك: اللغو: الشرك بالله.
" واللغو " في اللغة، ما يجب أن يلغى ويطرح ويترك من اللعب والهزل والمعاصي. والمعنى، والذين شغلهم الجد عن اللغو.
ثم قال تعالى: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}.
أي: مؤدون زكاة أموالهم، فمدح الله مخرجي الزكاة، وإن لم يخرجوا غيرها، وذم الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يزكون.
قوله تعالى ذكره: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله: {أَحْسَنُ الخالقين}.
أي: والذين يحفظون فروج أنفسهم فلا يستعملونها في شيء إلا في أزواجهم التي أحلها لهم النكاح، أو في ملك أيمانهم، يعني: الإماء، فليس يلامون على ذلك.
ثم قال: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون}.
أي: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، فهم العادون(7/4944)
حد الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
قال ابن عباس: الزاني من العادين. وقاله عطاء.
قال ابن زيد: {فأولئك هُمُ العادون} يقول: الذين يعبدون من الحلال إلى الحرام.
وقال الزهري سألت القاسم بن محمد عن المتعة، فقال: هي محرمة في كتاب الله، ثم تلا. {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. . .} إلى قوله: {العادون} أي: فمن طلب سوى أربع نسوة وما ملكت يمينه فهو متعد إلى ما لا يحل له. وهذه الآية عمت تحليل الأزواج وملك اليمين على كل حال، وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين اختلاف، وكذلك الجمع بين المملوكة وعمتها، وبين المملوكة وخالتها، وفيها تخصيص بالتحريم لوطإ الحائض، وتحرم وطئ الأمة إذا زوجت وتحريم وطئ المظاهر منها حتى يكفر.
ثم قال تعالى: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}.
أي: يقومون حفظ أماناتهم وعهدهم ويرعون ذلك.
قيل: عنى بالأمانات هنا، الصلاة والطهر من الجنابة وجميع الفرائض.(7/4945)
وقيل: هو عام في كل أمانة.
وأصل الرعي في اللغة القيامة على إصلاح ما يتولاه الراعي لأحواله.
ثم قال: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
أي: يحافظون على وقتها وأدائها/ بحدودها، لا يفوتهم وقتها.
وقال النخعي: " يحافظون " يداومون على أداء المكتوبة.
ثم قال تعالى: {أولئك هُمُ الوارثون}.
أي: أولئك الذين تقدمت صفتهم هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار في الجنة.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما منكم أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. قال: فذلك قوله: {أولئك هُمُ الوارثون} ".
قال أبو هريرة: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله.(7/4946)
وقال مجاهد يرث [الذي] من أهل الجنة، أهله وأهل غيره، ومنزل الذي من أهل النار. فهم يرثون أهل النار، فلهم منزلان في الجنة وأهلان، وذلك أن له منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فأما المؤمن فيبني منزله الذي في الجنة، ويهدم منزله الذي في النار، وأما الكافر فيورث منزله الذي في الجنة، ويبني منزله الذي في النار.
وروى عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد أنزلت عَليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ".
يعني: من قام عليهن ولم يخالف ما فيهن، يعني: ثمان آيات في أول هذه السورة، وآيتين فيهما فرض الصوم والحج.
ثم قال: {الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
أي: يرثون الجنة، مقامهم دائم فيها.
والفردوس عند العرب، البستان ذو الكرم.
وروى قتادة عن أنس أن الفردوس ربوة الجنة، أو وسطها وأفضلها.
وقال كعب: خلق الله جلّ ذكره بيده جنة الفردوس، وغرسها بيده، ثم قال(7/4947)
لها: تكلمي، فقالت: " قد أفلح المؤمنون ".
وقال داود بن بقيع لما خلقها الله قال لها: تزيني، فتزينت.
ثم قال لها: تكلمي، فقالت: طوبى لمن رضيت عنه.
وقال أحمد بن حنبل في كتاب التفسير: إن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل جبالها المسك الأذفر.
وعن أبي هريرة أنه قال: " الفردوس جبل في الجنة من مسك تفجر من أصله أنهار [أهل] الجنة ".
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، ومنها تفجر أنهار الجنة ".
ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ}.
يعني: آدم استل من الطين والسلالة: القليل منه، وكذلك باب الفعالة، يأتي للتقليل من الشيء، كالقلالة والنخالة، فالسلالة المستلة من كل تربة فكان خلق آدم عليه السلام من تربة أخذت من أديم الأرض، وخلقت حواء من ضلعه.
وقيل: خلقت من فضلة طين آدم.(7/4948)
قال قتادة: استل آدم من الطين، وخلقت ذريته من ماء مهين.
وقيل: معناه، ولقد خلقنا الإنسان، يعني: ولد آدم من سلالة، وهي النطفة استلت من ظهر الرجل " من طين " وهو آدم الذي خلق من طين، وهو قول مجاهد، وهو اختيار الطبري كأنه قال: ولقد خلقنا ولد آدم من سلالة آدم. وآدم: هو الطين، لأنه منه خلق، ودل على صحة هذا المعنى قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}. وآدم لم يكن نطفة، إنما كان ولده نطفة، فدل على أن المراد بالإنسان ولد آدم، دون آدم. فالطين كناية عن آدم، كأنه قال: خلقنا ولد آدم من سلالة والسلالة من طين، أي: من آدم.
والعرب تسمى ولد الرجل ونطفته سليلته وسلالته لأنه مسلول منه.
قال ابن عباس: السلالة، صفوة الماء.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}.
أي: ثم جعلنا الإنسان الذي خلقناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين، يعني: الرحم، وسمي " مكين " لأنه مكن لذلك، وهيء له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره.(7/4949)
ثم قال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً}.
أي: قطعة من دم {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً}، هي القطعة من اللحم، وسميت مضغة لأنها قدر ما تمضغ {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً}.
أي: كل عضو عظم، {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي: ألبسنا كل عظم لحماً.
ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}.
أي: أنشأنا الإنسان خلقاً آخر.
وقيل: المعنى، ثم أنشأنا/ هذا الخلق المتقدم ذكره وانتقاله خلقاً آخر، وهو نفخه الروح فيه، فيصير إنساناً، وكان قبل ذلك صورة، هذا قول: ابن عباس وأبي العالية والشعبي وأبن زيد.
وقال ابن عباس: هو انتقاله في الأحوال بعد الولادة من الطفولة إلى الصبا إلى الكهولة، ونبات الشعر وخروج السن وغير ذلك من الأحوال.
وقال قتادة قيل: هو نبات الشعر وقيل هو نفخ الروح.(7/4950)
وقال مجاهد: هو استواء شبابه.
وقيل: هو خلقه ذكراً أو أنثى.
وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: " إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ".
وروي: أن النطفة تقيم في الرحم أربعين يوماً نطفة، ثم تصير علقة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير مضغة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير عظاماً مكسواً لحماً، وذلك في تمام أربعة أشهر، ثم في العشر الأول من الشهر الخامس يصور وينفخ فيه الروح ويتحرك، ولذلك جعل الله عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، لأنها تعلم في ذلك هل في جوفها حمل أو لا، إذ مدة تحرك المولود في البطن أربعة أشهر وعشر، فإذا تحرك، انتقلت عدتها إلى أن تضع حملها. ط
ثم قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} أي: أحسن الصانعين قاله مجاهد.
ويروى: أن هذا مما تكلم به عمر قبل أن ينزل، فنزل على ما قاله عمر(7/4951)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
و " تبارك " تفاعل من البركة.
وقال ابن جريج: كان عيسى يخلق بأمر الله تعالى فلذلك قال: {أَحْسَنُ الخالقين}.
وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين، وهذا اختيار الطبري. لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً. قال الشاعر، وهو زهير:
ولأَنْتَ تَفْرِيَ ما خَلقْتَ وَبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَيَفْري.
أي: ما صنعت.
وقيل: معناه، أحسن المقدرين. فالناس يقدرون. ولا يتم ما يريدزون لعجزهم والله يتمم ما يقدر، فهو خير المقدرين.
وقيل المعنى، أن المشركين صنعوا تماثيل ولا ينفخون فيها الروح فخلق الله آدم ونفخ فيه الروح، فهو أحسن الصانعين، إذ لا يطيق أحد نفخ الروح غيره.
ورويَ: أن عمر بن الخطاب لما سمع الآيات إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. فنزلت {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}.
قوله تعالى ذكره: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ}. إلى قوله: {في آبَآئِنَا الأولين}.
أي: ثم إنكم يا بني آدم بعد إنشاء الله لكم خلقاً آخر تموتون تصيرون رفاتاً ثم(7/4952)
إنكم بعد موتكم وتصييركم رفاتاً تبعثون فتحيون للحساب والجزاء في القيامة.
ثم قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ}.
يعني: سماوات بعضها فوق بعض.
والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. فلذلك قيل للسماوات طرائق، إذ بعضها فوق بعض.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ}.
أي: لم نغفل عن خلق السماوات أن تسقط عليكم، بل كنا حافظين لهن. وهذا بمنزلة قوله: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] أي: محفوظاً أن يسقط عليكم.
وقيل: محفوظاً من الشياطين.
وقيل: المعنى، إنا لحفظنا إياكم خلقنا السماوات هذا الخلق، ويجوز أن يكون المعنى: ليس يغفل عن أعمال الخلق، وأحصى أفعالهم مع كون سبع طرائق فوقهم.
ثم قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ}، يعني: مياه الأرض كلها أصلها من السماء، أسكنه الله الأرض لينتفع به خلقه.
قال ابن جريج: " ماء الأرض هو ماء السماء ". فماء الآبار والأدوية والعيون، هو من ماء السماء أصله، أسكنه الله الأرض.(7/4953)
قوله تعالى: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون}.
أي: وإنا لقادرون على أن نذهب بالماء الذي أسكناه الأرض فتهلكوا بالعطش وتهلك مواشيكم وهذا مثل قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ/ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30]. فمن نعمة الله على خلقه أن أسكن لهم الماء في الأرض مخزوناً يشربونه ويسقون مواشيهم ويسقون زرعهم وأَجْنُنَهم، ويتطهرون به وغير ذلك من منافعهم به.
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسى أنهار: سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنير وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها، فاستودعها الجبال وأجاراها في الأرض، وجعل فيها معايش للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله تعالى ذكره: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فأسكناه فِي الأرض} وإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله عز وجل جبريل صلى الله عليه وسلم، فرفع من الأرض القرآن والعلم وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} ".
ثم قال تعالى ذكره: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}.
أي: فأحدثنا لكم بالماء بساتين من نخيل وأعناب {لَّكُمْ فِيهَا} أي: من(7/4954)
الجنات فواكه كثيرة، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
أي: ومن الفواكه تأكلون.
وقيل المعنى: ومن الجنات تأكلون.
وقيل المعنى: من النخيل والأعناب تأكلون.
وخص ذكر النخيل والأعناب دون سائر الثمار، لأن القوم الذين نزل عليهم القرآن كان عامة فاكهة بلدهم النخيل والأعناب، فخوطبوا بهما عندهم من الثمار ليذكروا أنعم الله عليهم، فكان النخيل لأهل الحجاز والمدينة، وكانت الأعناب لأهل الطائف.
ثم قال: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن}.
أي: وأنشأنا لكم ذلك، يعني شجرة الزيتون تخرج من جبل فلسطين. " وطور سيناء " الجبل الحسن.
فالمعنى وأنشأنا لكم شجرة خارجة من هذا الجبل.
ومن كسر السين من " سيناء " جعله فعلالاً وليس بفعلاْ إذ ليس في الكلام هذا المثال فيه همزة التأنيث، ولم يصرف لأنه اسم للبقعة، ولأنه معرفة.
وقال الأخفش: هو اسم أعجمي.(7/4955)
فأما من فتح السين، فإنه فعلاء، كحمراء، فلم ينصرف للتأنيث وهما لغتان وقال أبو عمرو: الفتح لغة بني تميم.
وقال الفراء: لم يكسر السين إلا بنو كنانة.
وقال مجاهد: معنى سيناء: المبارك.
وقال ابن عباس: هو جبل بالشام مبارك.
وقال قتادة: معنى: " سيناء " و " سينين "، حسن.
وقال ابن عباس أيضاً: سيناء، الجبل الذي نودي منه موسى.
وقال ابن زيد: هو الطور الذي بالشام جبل ببيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة.
وقيل: هو جبل ذو شجر.
والمعنى فيه: أن سيناء اسم معرفة، أضيف إليه الطور فعرف به كما قيل: جبلا طيء، وهو معنى قول ابن عباس: أن سيناء الجبل الذي نودي منه موسى، وهو مع ذلك مبارك.(7/4956)
ويلزم من قال معناه جبل مبارك أو جبل حسن أون ينون طوراً ويجعل سيناء له نعتاً.
وقوله: {تَنبُتُ بالدهن} مذهب أبي عبيدة أن الباء زائدة والتقدير، تنبت الدهن.
ومذهب الفراء وأبي إسحاق أن الباء متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، فالمصدر في كل الأفعال يحسن دخول الحرف معه على المفعول، وإن كان لا يحسن مع الفعل. ألا ترى أنك تقول: هو ضارب لزيد، فتدخل اللام. وتقول: أعجبني أكل للخبز زيد، ولو قلت: هو ضارب لزيد لم يجز، لأن اسم الفاعل أضعف في العمل من الفعل. فكذلك المصدر، هو أضعف في العمل من الفعل. فجاز دخول حرف الجر معه، وإن كان لا يدخل مع الفعل لقوة الفعل في التعدي.
وتنبُتُ وتنبِتُ لغتان بمعنى كما يقال: مطرت السماء، وأمطرت وسرى وأسرى بمعنى والتقدير في العربية تنبت وفيها دهن أو معها دهن.
وقوله: {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} يعني الزيتون.(7/4957)
قال ابن عباس: يصطبغ بالزيت الذي يأكلونه. يعني يأتدمون به/.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا}.
أي: وإن لكم أيها الناس في الإبل والبقر والغنم والمعز لعبرة تعتبرون بها فتعرفون نهم الله عندكم، وأنه لا يعجزه شيء أراده فهو يسقيكم من اللبن الخارج من بين الفرث والدم، ولكم فيها أيضاً مع ذلك منافع كثيرة، كالإبل يحمل عليها، وكالبقر يحرث بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
أي: من لحومها تأكلون.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي: وعلى الإبل والسفن يحملون براً وبحراً.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}.
أي: أرسل نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الإيمان بالله وإلى طاعته. فقال لهم: {ياقوم اعبدوا الله} أي: ذلوا له بالطاعة لا معبود لكم غيره {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي: تخشون بعبادتكم سواه العقوبة أن تحل بكم.
ثم قال تعالى: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ}.
أي: فقال جماعة أشراف قومه الذين جحدوا توحيج الله وكذبوه لقومهم: يا قوم، ما هذا إلا بشر مثلكم. أي: ما نوح إلا ابن آدم {مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يريد أن يكون له الفضل عليكم، فيكون متبوعاً وأنتم له تبع.
{وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً}.(7/4958)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
أي: لو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل إلينا ملائكة تدعونا إلى ذلك.
{مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} أي: قالوا لهم: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه نوح من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية، وهم آباؤهم.
قوله تعالى ذكره: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} إلى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
أي: قال أشراف قوم نوح: ما نوح إلا رجل به جنون {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} أي: تملهوا به إلى وقت ما.
قال نوح: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} أي: بتكذيبهم إياي. دعا صلى الله عليه وسلم واستنصر بالله لما طال عليه أمرهم وأبو إلا تكذيبه.
ثم قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}.
أي: فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع الفلك بمرأى منا وتعليم لك بما تصنع. {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: قضاؤنا في قومك بالعذاب والهلاك. {وَفَارَ التنور} قد تقدم في " هود " ومعنى " فار التنور ". وقد قال علي بن أبي طالب: " فار التنور " من مسجد الكوفة.
وعنه أنه قال: " فار التنور " هو تنور الصبح.
قال الضحاك: كان التنور آية فيما بين الله وبين نوح، قال له: إذا رأيت الماء قد(7/4959)
خرج من التنور فاعلم أن الهلاك والغرق قد أتى قومك.
ثم قال: {فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين}.
أي: فادخل في الفلك، يقال سلكته في كذا وأسلكته أدخلته.
{ن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ} أي: وأدخل أهلك في الفلك يعني ولده ونساءه. {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي: لا تحمل من سبق عليه القول من الله أنه هالك مع أهلك يعني ابنه الذي غرق.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا}.
أي: لا تسألني في الذين كذبوك أن أنجيهم، {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي: قضيت أن أغرق جميعهم.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ}.
أي: إذا اعتدلت أنت ومن حملته معك في السفينة، فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين {وَقُل} أيضاً يا نوح: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً}، إذا خرجت من السفينة وسلمك الله ومن معك. قاله مجاهد.
{وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} أي: خير من أنزل عباده المنزل المبارك ومن قرأ " مُنزَلاً "(7/4960)
بضم الميم، جعله مصدراً، لأن مصدر الكلام قد مضى على: أنزل، فصار بمنزلة {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] يقال: أنزلته إنزالاً ومنزلاً.
ومن قرأ بفتح الميم جعله اسماً لكل ما نزل فيه، فمعناه: أنزلني مكاناً مباركاً وموضعاً مباركاً. ويجوز في النحو فتح الميم والزاي يجعله مصدر نزل، كالمدخل مصدر دخل.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}.
أي: إن فيما فعلنا بنوح وقومه من إنجائه وإهلاكهم حين كذبوه لَعِبراً لقومك وغيرهم، فيزدجروا عن كفرهم لئلا يحل عليهم مثل ما حل على قوم نوح من العذاب.
وقوله/: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي: وإن كنا لمختبرين لقومك بتذكيرنا إياهم بآياتنا لننظر ما هم عاملونه قبل حلول العقوبة بهم.
وقيل معنى " لمبتلين " لمتعبدين الخلق بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، فيعرفون شكره ونعمه عليهم، فيخلصون له العبادة.
ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}.
أي: ثم أحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح قوماً آخرين فأرسلنا فيهم رسولاً منهم(7/4961)
أن يدعوهم إلى الإيمان، فقال لهم: {أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي: ما لكم معبود تجب له العبادة غير الله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي: أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم الأصنام من دون الله.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ}.
أي: قال أشراف قومه المكذبون، الكفار بالبعث، يعني قوم هود عليه السلام.
وقوله تعالى: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا}.
أي: ونعمناهم في الدنيا بسعة الرزق حتى بطروا وعتوا، فكفروا وكذبوا الرسل.
{مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}.
أي: إنسان مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مثل ما تشربون، وليس بملك فتصدقه.
(ولئن أطعتم بشراً مثلكم، فاتبعتموه) أي: قالوا ذلك لقومهم وسفلتهم.
{إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}. أي: لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة باتباعكم إياه.
ثم قال تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ}.(7/4962)
" أنّ " الثانية، بدل من الأولى عند سيبويه. المعنى عنده أنكم مخرجون إذا متم.
وقال الفراء والجرمي " أنَّ الثانية مكررة للتأكيد. وحسن تكريرها لما طال الكلام.
وذهب الأخفش إلى " أنّ " الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، دل عليه إذا، ومعناه عنده: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً يحدث إخراجكم. كما تقول: اليوم القتال. المعن عنده اليوم يحدث القتال.
ومعنى الآية أن الأشراف من وقم هود قالوا لقومهم: أيعدكم هود أنكم تبعثون بعد أن تكونوا تراباً وعظاماً فتخرجون من قبوركم.
ثم قالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}.
مذهب سيبويه والكسائي أن يوقف عليها بالهاء، لأنها واحدة، وفتحت للبناء، وبنيت لأنها لم تشتق من فعل فأشبهت الحروف واختير لها الفتح للألف التي قبلها ولأن هاء التأنيث بمنزلة اسم ضم إلى اسم فصارت بمنزلة عشر في خمسة(7/4963)
عشر، وموضعها رفع. معناها: البعد البعد لما توعدون.
وقال الفراء الوقف عليها بالتاء. فأما من كسر التاء فإنه يقف بالتاء عند الجماعة نُوِّنَ أو لم يُنَوَّنْ، لأنه جمع المؤنث لازم.
وقيل: " هو " في هذا فرق بين المعرفة والنكرة وهي عند سيبويه كناية عن البعد، كما يكنى بقولهم " صه " عن السكوت.
فالتقدير: البعد البعد لما توعدون من البعث بعد الموت يقوله أشراف قوم هود لقومهم.
قال ابن عباس: " هيهات هيهات ": بعيد بعيد.
ودخول اللام مع هيهات وخروجها جائزان تقول هيهات ما تريد وهيهات لما تريد.
فإذا أسقطت اللام رفعت الاسم، كما قال [الشاعر].
فَهَيْهَات هَيْهَات العَقِيقُ وَمَنْ به ... وَهَيْهَاتَ خِلّ بالعُقِيقِ نُوَاصِلُهُ
كأنه قال: بعيد العقيق ومن به وأهله.(7/4964)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
وقد قيل إنها في موضع نصب على المصدر،: أنه قال: بعداً بعداً لما توعدون.
ثم قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
أي: قال الإشراف من قوم هود: ما حياتنا إلا حياتنا في الدنيا نموت فلا نرجع، ويحيى آخرون فيولدون أحياء وما نحن بمبعوثين بعد الموت، وهذا مثل قولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] فتحقيق المعنى أنهم قالوا: نموت نحن ويحيا أولادنا، ولا بعث بعد الموت.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: نحيا ونموت فلا نحيا.
وقيل: المعنى: نكون أمواتاً نطفاً، ثم نحيا في الدنيا.
قوله تعالى ذكره: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} إلى قوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.
أي: قالوا: ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا في قوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} وفي وعده/ إياكم بالخروج بعد موتكم وكونكم تراباً وعظاماً.
{وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي: بمصدقين له فيما قال.
{قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ}.
أي: قال، هود يا رب، انصرني بتكذيبهم إياي، وذلك لما يئس من إيمان قومه، فأجابه الله جلّ ذكره: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي: عن وقت قليل ليندمن على تكذيبهم لك وذلك حين ينزل بهم العذاب.(7/4965)
ثم قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق}.
أي: فانتقمنا منهم ونصرناه عليهم، فأرسلنا الصيحة عليهم، فأخذتهم بالحق. أي: باستحقاقهم لذلك. فمعنى " بالحق " باستحقاقهم للهلاك بكفرهم.
وقيل: معنى " بالحق " بالعدل من الله لهم، لم يظلمهم فيما أنزل عليهم من العذاب.
{فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً}.
أي: بمنزلة الغثاء، وهو ما ارتفع من السيل ونحوه مما لا ينتفع به في شيء، فهو مثل.
وتقدير الكلام: فأهلكناهم، فجعلناهم كالشيء الذي لا ينتفع به.
قال ابن عباس: جُعِلوا كالشيء البالي من الشجر ".
وقال مجاهد: " كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل "، وهم قوم صالح.
روي أن الله جلّ ذكره بعث ملكاً من ملائكته فصاح بهم صيحة هلكوا بأجمعهم.
وروي أنه جبريل صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وقوله تعالى: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين}.
أي: أبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم إذا كفروا بربهم فأبعدهم من كل خير ومنفعة.(7/4966)
وقال مجاهد أولئك ثمود.
وقيل: هم عاد، لأن عاداً كانوا قبل ثمود.
ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي: ثم خلقنا من بعد هلاك ثمود قروناً آخرين، ما يتقدم هلاك أمة من تلك الأمم قبل مجيء أجلها الذي أجله الله تعالى لهلاكها.
{وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن الهلاك بعد مجيء الأجل الذي أجل لهلاكها وهذا كله وعيد لقريش وإعلام منه أن تأخيره في آجالهم مع كفرهم إنما ذلك ليبلغوا الأجل الذي أجل لهم، فتحل بهم نقمته كسنته فيمن قبلهم من الأمم السابقة وفيه دلالة على رد قول من يقول إن الإنسان يجوز أن يقتل قبل أجله الذي سماه الله له وقدره أجلاً لموته، وهو قول خارج عن مذاهب أهل الحق، بل كل يموت عند انقضاء أجله بموت أو قتل أو غرق أو حرق أو بغير ذلك. لا تموت نفس قبل أجلها الذي كتبه الله لها، ولا تتأخر في البقاء بعد ذلك الأجل.
ثم قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}.
أي: ثم أرسلنا إلى الأمم التي أنشأناها بعد ثمود رسلاً يتبع بعضها بعضاً، وبعضها في أثر بعض، قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
ثم قال: {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي: بالهلاك، أهلك(7/4967)
بعضهم في آثار بعض.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي: يتحدث بهم من يأتي بعدهم في الشر. ولا يقال: جعلناهم أحاديث في الخير. والأحاديث جمع أحدوثة وقيل جمع حديث.
ثم قال تعالى: {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.
أي: فابعد الله قوماً لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله.
ثم قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} أي: ثم أرسلنا موسى بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم وأخاه هارون بأدلتنا {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: وحجة ظاهرة لمن رآها إنها من عند الله. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، أي وأشراف قومه من القبط، فاستكبروا عن الإيمان بها {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ}، أي: قد علوا على من في ناحيتهم وعلى بني إسرائيل بالظلم وقهروهم.
وقال ابن زيد: {قَوْماً عَالِينَ} أي: علوا على رسلهم وعصوا ربهم.
ثم قال تعالى: {فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}.
أي: لنا مطيعون متذللون، يأتمرون لأمرهم، ويدينون لهم. يقال لكل من دان لملك: هو عابد له.
ثم قال: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين}.(7/4968)
أي: فكذب فرعون وملاؤه موسى وهارون فكانوا ممن أهلكهم الله. كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبها رسله.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
أي: ولقد أعطينا موسى التوراة ليهتدي بها بنو إسرائيل ويعملوا بما فيها، {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي: حجة لنا ودلالة على قدرتنا على/ إنشاء الأجسام من غير أصل، كما أنشأنا خلق عيسى من غير أب. وقال آية، لم يقل آيتين، لأن الآية فيهما واحدة.
وقيل في الكلام حذف، مثل والله ورسوله أحق أن يرضوه. تقديره: وجعلنا ابن مريم آية وأمة آية، ثم حذف إحدى الآيتين لدلالة الباقية عليها. فالآية في مريم، ولادتها من غير ذكر، والآية في عسى، إحياؤه الموتى، وإبراؤه الأكمة والأبرص وإخراجه من الطين طيراً يطير وكل بإذن الله جلّ ذكره.
ثم قال: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي وضممناهما إلى ربوة، أي إلى مكان مرتفع عما حوله.
قال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين. " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي الرملة(7/4969)
" وقال ابن المسيب هي دمشق، وقاله ابن عباس وقال قتادة هي بيت المقدس.
وكان كعب يقول بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقال وهب بن منبه هي مصر وكذلك قال ابن زيد عن أبيه زيد. قال ابن زيد: الربوة من ربا مصر. وليس الربا إلا بمصر والماء يرسل فتكون الربا عليها القرى ولولا الربا لغرقت تلك القرى.
قال ابن جبير الربوة: النشرز من الأرض.
وقال الضحاك: ما ارتفع من الأرض.
وقال ابن عباس: الربوة المستوى، وكذلك قال مجاهد. وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي: ذات أرض منبسطة وساحة واسعة وذات ماء طاهر لعين الناظر.(7/4970)
قال ابن عباس " ومعين " هو الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ".
وقال الضحاك: " ومعين " الماء الظاهر.
وقال قتادة ذات قرار أي ثمار " ومعين " وماء وهي بيت المقدس.
وقوله: " ومعين " هي فعيل بمعنى مفعول على قول من جعله لما يرى بالعين فالميم زائدة.
وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول والميم أصلية.
قال علي بن سليمان: يقال معن الماء إذا جرى وكثر، فهو معهين وممعون.
وحكى ابن الأعرابي: معن الماء يمعن: إذا جرى وسهل وأمعن أيضاً.
وقيل: يجوز أن يكون فعيلاً من المعنى مشتقاً من الماعون والمعنى في اللغة: الشيء القليل، والماعون، فاعول وهو الزكاة، مشتق أيضاً من المعن، سميت الزكا.(7/4971)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
ماعوناً، لأنها شيء قليل من المال، إذا هي ربع عشرة في العين.
قوله تعالى ذكره: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} إلى قوله: {إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
معناه وكلوا من الحلال الطيب دون الحرام {واعملوا صَالِحاً} أي: بما أمرتكم به.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله جل ذكره طيب لا يقبل إلا طيباً "، وإن الله أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين فقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات}.
وقد قيل: إن قوله يا أيها الرسل مخاطبة للنبي وحده كما قال: " الذين قال لهم الناس " يعني نعيم بن مسعود وحده.
وقيل: إنما قيل للنبي وحده {يا أيها الرسل} " لتدل بذلك على أن الرسل كلهم أمروا بأكل الطيبات وهو الحلال الذي طيبه الله تعالى لآكله.
وقيل: هو مخاطبة لعيسى، وهو قل الزجاج وهو اختيار الطبري.(7/4972)
روى: أن عيسى كان يأكل من غزل أمه.
ثم قال: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " فتح " إن " في هذا على معنى " ولأن هذه ". هذا قول البصريين.
وقال الكسائي والفراء: هي في موضع خفض عطف على ما قوله: إني بما تعلمون.
وقال الفراء أيضاً: تكون في موضع نصب على إضمار فعل، والتقدير: واعلموا أن هذه أمة: نصب عل الحال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: " أمة واحدة "، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: هي أمة وعلى البدل من أمتكم، أو على أنها خبر بعد خبر، والمعنى أن الأمة هنا الدين: أي: وأن هذا دينكم دين واحد قاله ابن جريج.
ثم قال تعالى: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون}.(7/4973)
أي فاتقون بطاعتي، تأمنوا عقابي.
ثم قال: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً}.
أي: فتفرق القوم الذين أمروا بالإيمان/ واتباع عيسى ليجتمعوا على الدين الواحد وزيراً، أي كتباً قد بان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي بان به الفريق الآخر، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة، وكذبوا بحكم الإنجيل والقرآن وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل وكذبوا بحكم القرآن.
قال قتادة: " براً " كتباً.
وقال مجاهد: كتباً لله فرقوها قطعاً.
والزبر: جمع زبور، كعمود وعمد.
وقيل: المعنى، فتفرقوا دينهم بينهم كتباً أحدثوها يحتجون بها لمذابهم.
قال ابن زيد: هو ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب، وكل واحد منهم كان له أمر وكتب، وكل قوم يعجبون برأيهم، ليس أهل هوى إلا وهم يعجبون برأيهم وبصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم وقرأ الأعمش " زُبراً " بفتح الباء جعله جمع زبرة، ومعناه: فتفرقوا عن دينهمه بينهم قطعاً كزبر الحديد، فصار بعضهم يهود، وبعضهم(7/4974)
نصارى.
وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
أي: كل فريق من تلك الأمم بما اختاره من الدين لأنفسهم فرحون معجبون به لا يرون أن الحق سواه.
ثم قال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ}.
أي: فذر هؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً في غمرتهم، أي: في ضلالتهم وغيهم.
قال ابن زيد: الغمرة العمى.
{حتى حِينٍ}: أي إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به العذاب، وقال مجاهد " حتى حين " حتى الموت.
ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات}.
أي: أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين تفرقوا في دينهم زبراً أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال وبنين " فسارع لهم " " أي نسابق لهم في خيرات الآخرة ونبادر(7/4975)
فيها ثم أكذبهم فيما يحسبون، فقال: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أي: بل لا يعلمون أن امدادنا إياهم ما نمدهم به من ذلك إنما هو إملاء واستدراج لهم.
وقوله: {فِي الخيرات} معه إضمار، أي: نسارع لهم به في الخيرات، قاله الزجاج.
وقال هشام: تقديره: نسارع لهم فيه، ثم أطهر فقال: " في الخيرات " كما قال: ولا أدى الموت سبق الموت بشيء. وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأن الخبر لا بد أن يكون فيه ضمير يعود على اسم " أن ".
وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة: " يُسارع " بالياء رده على الإمداد، فلا يحتاج هذا إلى ضمير محذوف، لأن ما والفعل مصدره ففي " يسارع " ضمير اسم أن، وهو ضمير المصدر.
ومذهب الكسائي أن " إنما " حرف واحد، فلا يحتاج الكلام إلى شيء، من الإضمار والحذف، ويقف على مذهبه على " نبين " ولا يقف عليه على مذهب غيره.
وتقدير الآية أيحسبون الذين نمدهم به من مامل وبنين في الدنيا نسارع لهم به في الخيرات، أي: نجعله لهم ثواباً، فليس الأمر كذلك، إنما هو استدراج ومحنة لهم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ}.(7/4976)
أي: من خوف عذاب ربهم مشفقون، فهم دائمو على طاعته جادون في طلب مرضاته.
ثم قال: {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ}.
أي بكتابه يصدقون {والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ}.
أي: يخلصون عبادتهم لربهم، لا يشركون به فيها أحداً.
ثم قال تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}.
أي: يعدون أهل سهمان الصدقة، ما فرض الله لهم من أموالهم فما أتوا معناه: ما أعطوهم إياه من صدقة.
{وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي: خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون، فيخافون ألا ينجيهم ذلك من عذابه.
قال الحسن: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وأن المنافق جمع إساءة وأمناً، ثم تلا هذه الآية إلى {إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
وقال الحسن: يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم خائفون ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله.(7/4977)
وقال ابن عباس: مال المؤمن ينفق يتصدق به وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع.
وسئلت عائشة: عن هذه الآية فقالت: كانوا يقرأونها، يأتون ما أتوا بألف.
وكذلك روى عنها أنها كانت تقرأه من المجيء، تعني إتياه الذنوب، أي: يأتون الذنوب وهم خائفون.
وقال ابن عمر: " يؤتون ما أتوا ": الزكاة.
وقال مجاهدك المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل.
وقال ابن جبير: / يفعلون ما فعلوا وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت وهي من المبشرات.
وقال قتادة: يعطون ما أعطوا، ويعملون ما عملوا من خير، وقلوبهم وجلة خائفة.
" وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله.
{والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهم الذين يذنبون وهم مشفقون؟ فقال: لا بل هم الذين يصلون وهم مشفقون، ويصدقون وهم مشفقون، ويوصومون وهم مشفقون ".(7/4978)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
وروي عن عائشة أيضاً أنها قالت: قلت للنبي: يا رسول الله،
{والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي، هو الرجل يزني أو يسرق أو يشرب الخمر، قال: لا يا ابنة أبي بكر، أو قال يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يتقبل منه ".
وقرأ ابن عباس: (يأتون ما أتوا من المجيء). وروى ذلك عن عائشة على تقدير: يعملون ما علموا وهم خائفون.
قوله تعالى ذكره: {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} إلى قوله {سَامِراً تَهْجُرُونَ}.
معناه: أولئك يسارعون في الخيرات، أي: الذين [هم] هذه صفتهم " يسارعون " أي: يسابقون في الأعمال الصالحة.
قال ابن زيد: " الخيرات " المخافة، والوجل، والإيمان، والكف عن الشرك بالله.
ثم قال: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.
أي: قد سبقت لهم من الله السعادة فذلك سبقهم في الخيرات كل من عنده.
قال ابن عباس: " وهم لها سابقون " سبقت لهم من الله تعالى السعادة.
وقيل: معناه: وهم إليها سابقون.
وقيل المعنى: وهم من أجلها سابقون، أي من أجل اكتسابهم الخيرات يسبقون(7/4979)
إلى رحمة الله.
وقيل المعنى: فهم إلى أوقاتها سابقون، لأن الصلاة في أول الوقت أفضل.
ثم قال تعالى ذكره: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
أي: إلا ما تطيق من العبادة. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} أي: وعندنا كتاب يبين بالصدق عما عملوا من عمل في الدنيا.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
أي: لا يزاد على أحد من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وهو الكتاب الذي كتبت فيه أعمال الخلق عند الملائكة تحتفظ به.
ثم قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا}.
أي في عمامية من هذا القرآن.
وقيل: المعنى: بل قلوبهم في غطاء عن المعرفة بأن الذي نمدهم به من مال وبنين، إنما هو استدراج لهم.
وقال قتادة: المعنى، بل قلوبهم في غمرة من وصف أهل البر ببرهم، وهو ما تقدم من صفة المؤمنين.
والغمرة، الغطاء والغفلة.
ثم قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}.(7/4980)
أي: ولهؤلاء الكفار أعمال من المعاصي والكفر من دون أعمال أهل الإيمان بالله، قاله قتادة.
قال مجاهد: " من دون ذلك " من دون الحق.
وقال الحسن: معناه: ولهم أعمال لم يعملوها، سيعملونها يعني الكفار.
وقيل: معناه، لهؤلاء الكفار أعمال سبقت في اللوح المحفوظ أنهم سيعملونها ويسعلمونها.
وقال مجاهد: لم يعملوها وسيعملونها.
ثم قال تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب}.
أي: لكفار قريش أعمال من الشر من دون أعمال أهل البر هم لها عاملون إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم بالعذاب إذا هم يضجون ويستغيثون.
قال ابن زيد: " المترفين " العظماء.
قال مجاهد: " حتى إذا أخذنتا مترفيهم بالعذاب ". قال: بالسيوف يوم بدر.
وقال الربيع بن أنس: {يَجْأَرُونَ} يجزعون.
قال ابن جريج: " بالعذاب " يعني عذاب يوم بدر، {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يعني أهل(7/4981)
مكة يعني يضجون ويستغيثون على قتالهم.
قال الضحاك: أهل بدر أخذوا بالعذاب يوم بدر.
ثم قال: {لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ}.
أي: لا تضجوا وتستغيثوا قد نزل بكم العذاب، فلا ناصر لكم منه.
وقد قيل: هو عذاب الآخرة.
وعلى القول الأول أكثر الناس.
ثم قالت: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}.
هنا مخاطبة للمشركين، أي: قد كانت آيات القرآن تتلى عليكم.
قال الضحاك: وذلك قبل أن يعذبوا بالقتل، فكنتم تولون مدبرين/ عنها تكذيباً بها وكراهة أن تسمعوها.
تقول العرب لكل من رجع من حيث جاء، نكص فلان على عقبيه.
قال ابن عباس: يعني بذلك أهل مكة.
ثم قال تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ}.
أي: بالحرم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو مالك.(7/4982)
قال أبو مالك وذلك لأمنهم والناس يتخطفون من حولهم.
وقيل: الهاء عائدة على الكتاب، أي مستكبرين بالكتاب.
أي: يَحْدُثُ لكم بتلاوته عليكم استكبارٌ.
وقوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ}.
أي: تسمرون بالليل في الحرم.
يقال لجماعة يجتمعون للحديث " سامر " كما يقال: " باقر " لجماع البقر، " وجامل " لجماعة الجمال.
وأكثر ما يستعمل " سامراً " للذين يسمرون بالليل، وأصله من قولهم لا أكلمه السمر والقمر أي: الليل والنهار.
وقال الثوري: يقال لظل القمر، السمر، ومنه السمرة في اللون وقرأ أبو رجاء: سُمّاراً، جعله جمع سامر.
قال ابن عباس وابن جبير: معناه: يسمرون بالليل حول الكعبة، يقولون المنكر.(7/4983)
وقال الضحاك: يعني سمر الليل.
قال الطبري: إنما وحد " سامر "، وهو في موضع جمع، لأنه وضع موضع الوقت، ومعنى الكلام تهجرون ليلاً، فوضع السامر موضع الليل فوحد لذلك.
ومن قرأ: تُهجرون بالضم في التاء، أخذه من أهجر يهجر، إذ نطق بالفحش.
وقيل: الخنا ومعناه التجاوز ومنه قيل: " الهاجرة، لأنه وقت تجاوز الشمس من الشرق إلى الغرب ".
وأما معناه، فقال ابن عباس فيه: معناه، تسمرون برسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون الهجر.
وقال عكرمة: تشركون.
وقال الحسن: تسبون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: تقولون القول السيء في القرآن.
ومن قرأ بفتح التاء فهو من هجر المريض إذا هذى، هذا قول الكسائي.(7/4984)
ويقال هجر المحموم، إذا غلب على عقله، فيكون معناه: إنكم كالهاذي في مرضه بما لا ينتفع به، كذلك أنتم تتكلمون في النبي عليه السلام بما لا يضره.
وقيل: معناه: من هَجَرَهُ، إذا لم يكلمه فمعناه على هذا: تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقد قال الحسن: تهجرون نبيي وكتابي.
وقال ابن عباس: معناه: تهجرون ذكر الله والحق.
وقال السدي: تهجرون البيت.
وقال ابن جبير: تسمرون بالليل وتخوضون في الباطل.
وقال أهل اللغة: يقال هجر وأهجر في كلامه، إذا أفحش غير أن الأصمعي قال: هجر يهجر، إذا هذى، وأهجر إذا تكلم بالقبيح. " ومستكبرين " وقف عند أبي حاتم ثم تبتدئ: " سامراً تهجرون " أي في البيت.
وقيل: " مستكبرون به " الوقف.
وقيل: تهجرون التمام.(7/4985)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قوله تعالى ذكره: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ} إلى قوله: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.
معنى هذا القول التوقيف والتقبيح كقول العرب: الخير أحب إليك أم الشر. أي: إنك قد اخترت الشر. ومعناه: أفلم يدبر هؤلاء المشركون كلام الله فيعلموا ما فيه من العبر والحجج {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} يعني أسلافهم من الأمم المكذبة قبلهم، بل جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بمثل ما أتت به الرسل قبله لآبائهم، فواجب عليهم ألا ينكروا ما جاءهم به محمد عليه السلام، لأنه أتى بمثل جاء به غيره من الرسل لآبائهم. وقيل: " أم " هنا بمعنى " بل "، والتقدير: بل جاءهم ما لم يأت أسلافهم فتركوا تكدبره إذ لم يكن عند من سلف لهم مثله ولا أرسل إليهم مثله.
ثم قال: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ}.
أي: أم لم يعرفوا صدق محمد وأمانته " فهم له منكرون " أي: فينكروا قوله إذ لم يعرفوه بالصدق فكيف يكذبونه وهم يعرفونه بالصدق والأمانة. ثم قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ}.
أي: أيقولون بمحمد مجنون فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يفهم.
{بَلْ جَآءَهُمْ بالحق}.
أي: جاءهم بحق لا تخفى صحته والمجنون لا يتكلم بكلام فيه حكمة ولا يصح له معنى، فكيف يكون مجنوناً من يأتي بالحق والحكمة، وإنما نسبوه إلى الجنون لأن الذي جاءهم به بَعُدَ عندهم قبولهم له كما يقال لمن سأل ما لا يتمكن فعله(7/4986)
هو مجنون أي: لا يسأل مثل هذا السؤال إلا مجنون/.
فلما دعاهم مع شرفهم عند أنفسهم إلى اتباعه والقبول لقوله وذلك عندهم متعذر منهم، نسبوه إلى الجنون.
ثم قال: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي: قد علموا أنه محمق فيما جاءهم به، وليس بمجنون، ولكن أكثرهم كاره لا تباع الحق الذي قد صح عندهم وعلموه حسداً منهم له، وبغياً عليه واستكباراً في الأرض.
ثم قال تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ}.
أي: ولو اتبع الله عز وجل أهواء الكفار، قاله السدي.
وتقديره على قوله: ولو اتبع صاحب الحق أهواء المشركين {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} باتباع آرائهم، لأنهم لا يعلمون العواقب، وأهواء أكثرهم على إيثار الباطل على الحق، والسماوات والأرض وما بينهما لم يقمن إلا بالحق.
وقيل: الحق هنا: القرآن، والمعنى: ولو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
وقيل: هو مجاز، والتقدير: ولو وافق الحق أهواءهم، فجعل موافقته اتباعاً، مجازاً ويكون التقدير على هذا، لو كانوا يكفرون بالرسل، ويعصون الله، ولا يجازون على ذلك ويعاقبون لفسدت السماوات والأرض.
وقيل: المعنى: لو كان الحق فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتعالت بعضها على بعض واضطرب التدبير ففسدت لذلك السماوات والأرض.(7/4987)
ثم قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}.
أي: بينا لهم الحق، قاله ابن عباس.
وقيل: معناه: بل آتيناهم بشرفهم إذ نزل القرآن بلغتهم وعلى رجل منهم. {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي: فاعرضوا عنه فكفروا به، ومثله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
وقال قتادة: " بذكرهم ": بالقرآن، وتقديره: بل آتيناهم بذكر ما فيه النجاة لو اتبعوه.
ثم قال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}.
أي: أم تسألهم يا محمد على ما جئت به أجراً فيعرضوا عما جئتهم به من أجل أخذ منهم الأجر عليه، وهو قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23].
ثم قال: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}.
أي: لم تسألهم رزقاً على ماجئتهم به. فرزق ربك خير.
قال الأخفش: الخَرْج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن.
وقال أبو حاتم: الخرج: الجعل والخراج: العطاء.
وقال المبرد: الخرج: المصدر، والخراج الاسم.(7/4988)
وأصل الخراج الغلة والضريبة، كخراج العبد والدار وغيرهما.
وقوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}.
أي: الله خير من أعطى عوضاً على عمل ورزق رزقاً.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ}.
يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم { إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام، وسمي مستقيماً لأنه يؤدي إلى الجنة والنجاة من النار.
ثم قال: {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ}.
أي: إن من ينكر البعث والمعاد إلى الآخرة عن محجة الحق وقصد السبيل - وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده - لناكبون أي: لعادلون.
قال السدي: {عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ}: عن دين الله لمعرضون.
وقيل: عن صراط جهنم لناكبون في جهنم، وذلك في الآخرة.
وقيل: عن طريق الجنة لعادلون إلى طريق النار.
ثم قال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ}.
أي: لو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، {وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ}. أي: ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب، وضر الجوع. {لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: لتمادوا في عتوهم وجزاءتهم على الله. {يَعْمَهُونَ} أي: يترددون. قال ابن جريج: هو كشف الجوع عنهم.(7/4989)
وقيل: المعنى، لورددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجو في طغيانهم يعمهون.
ثم قال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}.
يعني أهل مكة أحل بهم الجوع والجدب وقتل سراتهم بالسيف، {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ} أي: فما/ خضعوا لربهم، فينقادوا لأمره ونهيه: {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: يتذللون.
ويروى أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشاً بسني الجدب إذ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: " جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد نشدتك الله والرحمن، لقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم، فأنزل الله {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}. الآية ".
وروى في هذا الحديث " أن أبا سفيان قال للنبي عليه السلام: أليس قد بعثت رحمة للعالمين. قال: نعم قال: فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب. . .} الآية ".(7/4990)
قال الحسن: إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلا فإنما هي نقمة، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية، ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله، وقرأ هذه الآية {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}. . . الآية.
قال ابن جريج، هو الجوع والجدب.
ثم قال: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
قال ابن عباس: هو يوم بدر، وقد مضى، وقاله ابن جريج.
وقال مجاهد: هو الجوع أيضاً مثل الأول.
وقال عكرمة: هو باب آخر من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربع مائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو يخطر الطائر من منكب أحدهم لطار شهري قبل أن يبلغ نكبه الآخر، حتى إذا انتهوا إليه فتحه الله عليهم فهو قوله: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.
ثم قال تعالى: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.
أي: يائسون من الخير.
وقيل: المبلس، الساكت المتحير.
وقيل المعنى: نادمون على ما سلف.(7/4991)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع} إلى قوله: {مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}.
أي: والله الذي أحدث لكم أيها المكذبون السمع لتسمعوا به والأبصار لتنظروا بها، والأفئدة: أي والقلوب لتفهموا بها فكيف يتعذر على من أنشأ ذلك على غير مثال الإعادة، وقد تقدم المثال.
ثم قال تعالى: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}.
أي: قليلاً شكركم على ما أعطاكم من النفع بهذه الجوارج وغيرها.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض}.
أي: أنشأكم فيها {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: بعد مماتكم، أي تصيرون إلى حكمه فيكم وعدله، وليس هو حشر وصيرورة إلى قرب مكان، لأن القرب والبعد في الأمكنة إنما يجوز على المحدثين الذين تحويهم الأمكنة، والله لا يجوز عليه ذلك، إنما هو حشر إلى وعده وحكمه فيهم، وكذلك كل ما كان في القرآن من قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} و {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} كله معناه تصيرون إلى حكمه ووعده ومجازاته ليس هو صيرورة إلى قرب مكان، سبحانه لا تحويه الأمكنة ولا تحيط به المواضع، وليس كمثله شيء. الأمكنة كلها مخلوقة والأزمننة محدثة وهو قديم إلا إله إلا هو، فلا يحوي المحدث إلا محدثاً. فافهم هذا واستعمله في كل ما جاءك منه في كتاب الله، ولا تتوهم فيه قرب كان ولا دنوا من موضع دون موضع ألزم فهمك ونفسك أنه تعالى لا يشبهه شيء ولا مثله شيء.
ثم قال: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
أي: والله الذي جعل خلقه أحياء بعد أن كانوا نطقاً أمواتاً فنفخ فيهم الروح، وهو يميتهم بعد إحيائهم.
{وَلَهُ اختلاف الليل والنهار}.(7/4992)
أي: هو الذي خلق الليل والنهار مختلفين.
ثم قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
أي: تفهمون ما وُصف لكم ونُبهتم عليه.
ثم قال تعالى: {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون}.
أي: بل قال المكذبون لك يا محمد من قريش مثل ما قال الأولون من الأمم المكذبة بالبعث/. قالوا: أنبعث إذا كنا تراباً وعظاماً. استبعدوا ذلك فأنكروه.
ثم قال: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ}.
أي: لقد وعدنا ووعد آباؤنا من قبل بالبعث بعد الموت فلم نر له حقيقة، {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي: ما سطره الأولون في كتبهم من الأحاديث والأخبار التي لا صحة لها ولا حقيقة.
ثم قال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين البعث من قومك: لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق إن كنتم تعلمون من مالكها، ثم اعلمه جل ذكره، أنهم سيقولون لله ملكها. فقل لهم إذا جاوبوك {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي: أفلا تعتبرون أن من خلق ذلك وابتدأه وملكه أنه يقدر على إحيائكم بعد مماتكم وإعادتكم خلقاً كما كنتم.
ثم قال: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم}.
أي: من خالق ذلك ومالكه، سيقولون لك: ذلك كله لله وهو ربه.
فقل لهم أفلا تتقون عقابه على كفركم به، وتكذيبكم رسله.(7/4993)
ثم قال تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}.
أي: من بيده خزائن كل شيء، قاله مجاهد.
{وَهُوَ يُجْيِرُ} من عذابه من خلقه من شاء {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ}.
أي: ولا يجير عليه أحد من خلقه ولا من عذابه، ومعنى:
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: من يملك كل شيء. وذكر اليد في هذا إنما يعني به الملكم لا الجارحة تعالى الله عن ذلك. وهذا أتى على لسان العرب. تقول: هذه الدرابيد فلان، أي: ملكه، لا يريدون أن ذلك مستقر في يده يد الجارحة، إنما يريدون أنه مستقر في ملكه.
وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي تعلمون مَن هذه صفته، فإنهم سيقولون أن ذلك هو الله، وملك ذلك كله لله، فقل لهم: {فأنى تُسْحَرُونَ}.
أي: من أي وجه تصرفون عن التصديق بآيات الله والإقرار برسوله. ومن قرأ الثاني والثالث الله الله، جعل السؤال والجواب من جهة واحدة، لأن الله جل(7/4994)
ذكره علم بجوابهم وسؤالهم قبل خلقهم، فأخبر عن جوابهم من جهة السؤال.
ومن قرأ: لله لله، أتى الجواب من عند المسؤول، وهو الأصل.
قال ابن عباس: " تسحرون ": تكيدون.
وحقيقة السحر أنه تخييل الشيء إلى الناظر أنه على خلاف ماهو به من هيئته. فكذلك معنى {فأنى تُسْحَرُونَ} أي: من أي وجه يخيل لكم الكذب حقاً، والفاسد صحيحاً، فتصرفون عن الإقرار بالحق الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذا الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين وإقامة الحجة عليهم، وإظهار إبطال الباطل من قولهم ومذبهم، ووجوب النظر في الحجج على من خالف دين الله وقد أمر الله تعالى نبيه في غير ما موضع بالاحتجاج عليهم وعلمه كيف يحتج عليهم، وكذلك أخبر عن إبراهيم عليه السلام بما احتج به على قومه، وأخبرنا الله تعالى أنها حجة أتاها إبراهيم عليه السلام وعلمه إياها، فاحتج بها عقى قومه وبينا لهم خطأهم فيما يعبدون، وكذلك أخبرنا الله في غير موضع باحتجاج الأنبياء على قومهم، وإقامة حجة الله عليهم، ومناظرتهم لهم، وهو كثير في القرآن، دل على جواز إقامة الحجة على أهل الزيغ الكفر. فأما قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] فقد ذكرنا معناها في موضعها. وليست في هذا الباب، ولها معاني قد بيناها.
ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.(7/4995)
أي: ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون أن الملائكة بنات الله أو أن لهم آله دمن الله، بل أتيناهم بالبقين، وهو ما أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الإسلام، وأن لا يُعبد شيء سوى الله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يضيفون إلى الله من الولد والشريك {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ} في القدم حين ابتدع الأشياء.
{مِنْ إِلَهٍ} أي: لاعتزل كل إله منهم بما خلق فانفرد به {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}. أي: ولتغالبوا، فغلب القوي الضعيف، لأن القوي لا يرضى أن يحاده الضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلهاً/، لأنه عاجز بضعفه. والعاجز مذولو مغلوب مقهور، وليس هذه من صفات المعبود الخالق، وإنما هي من صفات المخلوق المملوك.
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}.
أي: عما يصفون به الله.
ثم قال تعالى ذكره: {عَالِمِ الغيب والشهادة}.
أي: يعلم ما غاب عن خلقه من جميع الأشياء. فلم يروه ولم يعلموه وما شاهدوه، فرأوه وعلموه.
والرفع الاختيار عند النحويين البصريين والكوفيين في " عالم الغيب " على إضمار مبتدأ، أو على البعث لله في قوله: {مَا اتخذ الله} عالم الغيب، وحجة البصريين في اختيارهم الرفع أن قبله رأس آية، وقد تم الكلام دون، فاستؤنف على إضمار مبتدأ.
وحجة الكوفيين منهم الفراء أن الرفع أولى به، لأنه لو كان مخفوضاً لقال:(7/4996)
(وتعالى) بالواو. فدخول الفاء بعده يدل على أنه أراد " هو عالم " واحتج في ذلك بأنك لو قلت: مررت بعبد الله المسحن وأحسنت إليه، جئت بالواو، لأنك خفضت ولم تستأنف، تريد: مررت بعدب الله الذي أحسن وأحسنت إليه. قال: ولو قلت: " المحسن " بالرفع، لم يكن إلا بالفاء، تريد: هو المحسن فحسنت إليه، فالفاء عنده تدل على انقطاع الكلام. وقد خالف هو نفسه هذا الأصل في المزمل، فاختار: " ورب المشرق " بالخفض، وبعده " فاتخذه " ومن أصله أن الفاء تدل على الاستئناف.
ثم قال تعالى ذكره: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}.
أي: قل يا محمد: رب أن ترني ما يهلك به هؤلاء المشركين، فلا تهلكني بما تهلكهم به، أي: إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم ولا تجعلني في القوم الظالمين، ولكن اجعلني فيمن قد رضيت عنه.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}.
أي: إنا نقدر يا محمد أن نريك تعجيل العذاب في هؤلاء المشركين فلا يحزنك كفرهم وتكذيبهم إياك، فإنما نؤخرهم ليبلغ الكتاب أجله فيستوفوا أيامهم وما قدر لهم من رزق.(7/4997)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
قوله تعالى ذكره: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} إلى قوله: {وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}.
أي: ادفع يا محمد فعل هؤلاء المشركين بالخلة التي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلهم، والصبر على أذاهم، وهذا قبل أن يأمره بحربهم. فهو منسوخ بالأمر بالقتال.
والسيئة هنا هي أذى المشركين إياه، وتكذيبهم له.
قال مجاهد: معناه: أعرض عن أذاهم إياك.
وروي عنه أنه قال: هو السلام يسلم عليهم إذا لقيهم.
ثم قال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}.
أي: ما يصفون الله به جل ذكره من السوء، وهو مجازيهم عليه.
ثم قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين}.
أي: رب استجيرك من وسوسة الشياطين ".
وقال ابن زيد: " همزات الشياطين " خنقهم للناس.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}.
أي: يحضرون في شيء من أموري.(7/4998)
وقيل: " همزات الشياطين " الجنون الذي يعرض للناس والصرع وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الشيطان، ويقول: " من همزة ونفثه ونفخه فقيل: يا رسول الله، وما همزه فذكر هيئة الموتة الذي تأخذ الناس، وهو الجنون والصرع، فقيل له: وما نفثه؟ قال: الشِعر. فقيل له: وما نفخه؟ قال: " الكفر ".
ثم قال: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت}.
أي: إذا عاين أحد هؤلاء المشركين الموت ونزل به أمر الله تعالى: {قَالَ} لعظيم ما يعاين من عذاب الله: {رَبِّ ارجعون} إلى الدنيا {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} قبل اليوم من العمل فضيعته وفرطت فيه. وذلك تندماً منه على ما فات وتلهفاً.
يقول الجبار: {كَلاَّ} أي: لا ترد، وذلك لا ينفعه، لأنه وقت رفع عنه حد التكليف، فلا تنفع فيه توبة، وذلك عند اليقين بالمو، والبشارة بما أعد له من العذاب، والإعلام بما كان عليه من الخطأ في دينه، فإذا عاين ذلك كله، لم ينفعه ندم ولم يتقبل منه توبة ولم يقل من ندامته.
وليست " لعل " في هذا للشك، لم يرد لعلي أعمل أو لا أعمل إنما هي لليقين، أي: إن رددت عملت، وهو لا يرد أبداً.
قال ابن زيد: ذلك حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.(7/4999)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا حضر الإنسان/ الموت جمع له كل شيء كان يمنعه من ماله من حقه، فجعل بين يديه، فعند ذلك يقول: {رَبِّ ارجعون. . .} الآية.
وروى ابن جريج " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا عاين المؤمنا الملائكة، قالوا: نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدماً إلى الله جل ثناؤه، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ".
قال الضحاك: يعني به أهل الشرك.
وقوله: {رَبِّ ارجعون}، بالتوحيد ثم بالجمع فإنما ذلك لأن الكافر ابتدأ سؤاله إلى الله، ثم رجع إلى خطاب الملائكة الذين يتولون القبض روحه، فأتى بلفظ الجمع لأنهم جماعمة، ووحد أولاً لأن الله واحد.
وقيل: إنه إنما جمع لأن الجبار يخبر عن نفسه بلفظ الجمعة تعظيماً، فإذا خوطب جرى أيضاً على ذلك، فجرى أول الكلام على التوحيد وآخره على لفظ الجمع للتعظيم.
وقيل: إنما جاء " ارجعون " بلفظ الجمع، لأنه بمعنى: ارجع ارجع ففيه معنى التكرير، وكذلك قال المازني في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] قال: معناه: الق الق.(7/5000)
ثم قال: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا}. قال ابن زيد: لابد كل مشرك أن يقولها.
ثم قال تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
البرزخ هو مقامهم تحت التراب إلى يوم البعث فهو حاجز بينهم وبين الرجوع.
قال ابن عباس: " برزخ " أجل إلى حين.
وقال ابن جبير: برزخ ما بعد الموت.
وحضر أبو أمامة جنازة، فلما وضعت في اللحد قال: هذا برزخ إلى يوم يُبعثون.
وقال مجاهد: " البرزخ ". ما بين الموت إلى البعث.
وقال الضحاك: " البرزخ " ما بين الدنيا والآخرة.
وحقيقة البرزخ في اللغة أنه كل حاجز بين شيئين.
وقال رجل بحضرة الشعبي رحم الله فلاناً صار من أهل الآخةر فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}.
أي: فإذ نفخ إسرافيل في القرن.(7/5001)
وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، ومعناه: فإذا نفخ في صور الناس الأرواح.
قال ابن مسعود: " الصور ": قرن.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبتهه وأصغى سمعه، ينتظر متى يؤمر ".
ثم قال: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}. وقد قال في موضع آخر: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} فمعنى قول ابن عباس فيه، أنه إذا نفخ في الصور أول نفخة، تقطعت الأرحام، وصعق من في السماوات ومن في الأرض، وشغل بعض الناس عن بعض بأنفسهم، فعند ذلك لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فإذا نفخت النفخة الثانية قاموا ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فذلك في وقتين مختلفين.
وقيل: معناه: لا تفاخر بينهم بالأنسان في القيامة كما يتفاخرون في الدنيا بالأنساب. ولا يتساءلون في الآخرة كما يتساءلون في الدنيا فيقولون من أي قبيلة الرجل.
وعن ابن عباس: أيضاً أن رجلاً سأله عن الآيتين فقال: أما قوله:(7/5002)
{فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فذلك في النفخة الأولى، لا يبقى على الأرض شيء، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وأما قوله: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فإنهم لما دخلوا الجنة، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وبذلك قال السدي.
وعن ابن مسعود أن ذلك في الموقف في النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين قال وينادي مناد: هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبلهُ فليأت إلى حقه. قال: فتفرح المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو على ابنها أو على أخيها أو على زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلونن فيقول الرب عز وجل للعبد: اعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي: رب، فنبت الدنيا، فمن أين أعطيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا كل إنسان مقدار طلبته، فإن كان له فضل/ مثقال حبة من خردل ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة، ثم تلا ابن مسعود: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها}. . . الآية، وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: ربنا فنيت حسناه وبقي طالبون كثير، فيقول تعالى: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته، وصكوا له صكاً إلى النار.
وقال ابن جريج في الآية: لا يسأل يومئذ أحد شيئاً، ولا يمت إليهم برحم، ولا يتساءلون.
وقال قتادة: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه(7/5003)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
مخافة أن يدعى عليه شيئاً، ثم قرأ: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ}. . . إلى. . . {يُغْنِيهِ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد من تحت العرش. يا أهل المظالم تداركوا مظالمكم وأدخلوا الجنة.
ومعنى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} أي: لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة ولا يتساءلون بها كما كانوا يفعلون في الدنيا.
وقيل: إن يوم القيام مقداره خمسين ألف عام، ففيه أزمنة فأحوالهم تختلف فيه، فمرة يتساءلون، ومرة لا يتساءلون.
قوله تعالى ذكره: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون}. إلى قوله: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}.
أي: فمن ثقلت موازين حسناته، وخفت موازين سيئاته فأولئك هم الباقون في النعيم، ومن خفت موازين حسناته وثقلت موازين سيئاته {فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ}، أي: غبنوا أنفسهم حظها من رحمة الله في جهنم، {خَالِدُونَ} أي ماكثون {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} أي: تنفح وجوههم النار.
ثم قال: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}.
قال ابن مسعود: " الكالح ": الذي قد بدت أسنانه، وتقلصت شفتاه، كالرأس المشيط بالنار.(7/5004)
وقال ابن عباس: " كالحون " عابسون.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تشوي أحدهم النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ".
قال الحسن: لفحتهم النار لفحة، فلم تدع لحماً ولا جلداً إلا ألقتهُ عند العراقيب وبقيت العظام بيضاء تلوح.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
أي: يقال لهم: ألم تكن آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا فكنتم بها تكذبون.
ثم قال: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}.
أي: غلب علينا ما سبق في سابق علمك وخط لنا في أم الكتاب.
قال مجاهد: شقوتنا التي كتبت علينا.
قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خزنة جهنم أن.
{ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} [غافر: 49] فلم يجيوبهم ما شاء الله، فلما أجابوهم بعد حين قالوا: {فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر: 50].
قال: ثم نادوا مالكاً: {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قال: فسكت عنهم مالك خازن(7/5005)
جهنم أربعين سنة ثم أجابهم فقال: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، ثم نادى الأشقياء ربهم فقالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}: قال: فسكت عنهم مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد ذلك {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}.
وروى أن لأهل جهنم أربع دعوات، أولها ما حكى الله جل ذكره في غافر من قولهم: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11]، والثانية، ما حكى الله عنهم في غافر أيضاً قوله: {وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} [غافر: 49] فأجابتهم الخزنة: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}، قالوا: " بلى "، قالت لهم الخزنة: {فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر: 50].
والثالثة ما حكى الله تعالى عنهم في الزخرف من قوله: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فأجابهم مالك فقال: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}، والرابعة في قد أفلح: قوله:
{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيجيبهم الرب اخسئوا فيها ولا تكلمون، فتصير لهم همهمة كنباح الكلاب.
ومعنى: " اخسئوا " ابعدوا من رحمتي وعطفي، يقال: خسأت الكلب، أبعدته، وقال تعالى ذكر، ينقلب إليك البصر خاسئاً " أي مبعداً.
وقال/ محمد بن كعب: بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب، فردوا عليهم ما قال الله جل ذكره، فلما يئسوا نادوا: يا(7/5006)
مالك، وهو عليهم، وله مجلس في وسطها تمر عليه ملائكة العذاب، وهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك، سألوا الموت فمكثوا لا يجيبهم ثمانين سنة من سني الآخرة، ثم لفظ إليهم فقال: إنكم ماكثون، فلما سمعوا ذلك قالوا: فاصبروا، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله قال: فصبروا، فطال صبرهم، فنادوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}، أي: منجى، فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق}، إلى قوله: {أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، فلما سمعوا مقالته، مقتوا أنفسهم قال فنودوا: {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} إلى قوله: {مِّن سَبِيلٍ}. . . قال فيجيبهم الله جل ذكره فيها: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} إلى {الكبير}.
قال: فيقولون: ما أيأسنا بعد. قال ثم دعوا مرة أخرى، فيقولون:
{رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}. . . إلى. . . {مُوقِنُونَ}. قال: فيقول الرب:
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. قال فيقولون: ما أيأسنا بعد قال: فيدعون مرة أخرى: {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل}. قال: فيقول لهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}. . الآية. قال: فيقولون: ما أيأسنا بعد ثم قالوا مرة أخرى: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ}. قال: فيقول لهم:
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ} من تذكر. . . {مِن نَّصِيرٍ}. . . قال: ثم مكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}، فلما سمعوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك: ربنا غلبت علينا شقوتنا أي: الكتاب الذي تقدم فيه أنا أشقياء، {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ. . .} إلى {. . . ظَالِمُونَ}. فقال لهم ذلك: اخسئوا فيها ولا(7/5007)
تكلمون قال: فلا يتكلمون فيها أبداً. قال: فانطقع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم، وأقبل بعضهم بنبح في وجه بعض، فأطبقت النار عليهم قال عبد الله بن المبارك: فذلك قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}.
وروي عن زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون.
وقال أبو الدرداء يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ألا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلابيب الحديد، فإذا دنا من وجوههم، شوى وجوههم، فإذا دخل بطونهم، قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيدعون خزنة جنهم، فيقولون لهم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب كالحديث الأول.
وقوله: {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ}.
أي: ظللنا عن سبيل الرشد وقصد الحق.
والشقوة والشقاوة لغتان بمعنى عند الكسائي والفراء.
وقيل: معنى ذلك: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسميت اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها، كما قال: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}. فسمى أكل مال(7/5008)
اليتيم ناراً لأنه يؤدي إلى النار. ومعنى: " اخسئوا فيها ": تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا}.
أي: كان جماعة من عبادي، وهم أهل الإيمان بالله.
قال مجاهد: هم صهيب وبلال وخباب وشبههم من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم، وكانوا يقولون ربنا آمنا. فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها علينا وارحمنا وأنت خير من رحم أهل البلاء. {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} أي جعلتم تهزءون منهم.
هذا على قراءة من كسر السين/ ومن ضمها فمعناه فجعلتم تسخرونهم.
هذا مذهب أبي عمرو وأبي عبيدة وقطرب.
وهو قول الحسن وقتادة. وهما لغتان عند الكسائي والفراء.
بمعنى الهزء، فإذا كان بمعنى السخرة والتسخير فهو بالضم لاغير، نحو:(7/5009)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32]، ثم قال: {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}.
أي: لم تزالوا تستهزءون بهم حتى أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري فألهاكم عنه.
قال ابن زيد: أنساهم الاستهزاء بهم والضحك ذكر الله، وقرأ:
{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ}. . إلى قوله. . {لَضَالُّونَ} [المطففين: 29 - 32]. ومثله في إضافة الفعل إلى غير فاعله قوله {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] أي: ضل بهن كثير من الناس لم يكن له صنام فعل يضل به الناس. الناس هم الضالون لعبادتهم الأصنام، فكذلك أنسوكم ذكري، لم ينسيهم المؤمنون ذكر الله بل نسوا ذلك، أي تركوه.
قوله تعالى ذكره: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا}. إلى آخر السورة
أي: إني جزيت الذين اتخذهم الكفار سخرياً يصبرهم على دينهم وعلى ما كانوا يلقون في الدنيا من أذى الكفار، الفوز وهو النجاة من النار، والخلود في الجنة.
ثم قال: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ} أي: قال الله لهؤلاء الأشقياء الذين كانوا يظنون أنهم لا يبعثون، وأن الدنيا باقية: كم لبثتم في الأرض من الزمان بعد موتكم، فأجابوا وقالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، فنسوا عظيم ما كانوا فيه من البلاء وطول مكثهم في القبور في العذاب لما حل عليهم من نقم الله في الآخرة حتى ظنوا أنهم لم يلبثوا في البرزخ إلاّ يوماً أو بعض يوم.(7/5010)
وروي أن الله جل ذكره ينسبهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية.
وقوله: {فَسْئَلِ العآدين}.
أي: قالوا: فاسأل الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم.
قال مجاهد: العادين الملائكة.
وقال قتادة: هم الحساب.
وعنه: يعني أهل الحساب.
وقوله: " عَدَدَ سنين " منصوب على التفسير.
وقرأ الأعمش: " عدداً " بالتنوين، فيكون " سنين ".
في موضع نصب على التفسير أيضاً، أو على البدل من عدد.
ثم قال: {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي: ما لبثتم على قولكم إذاً في الأرض إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون مقدار لبثكم فيها، وقد كنتم تزعمون أن الدنيا باقية أبداً، لا بعث ولا حشر، ثم قلتم الآن لم نلبث إلا يوماً أو بعض يوم، فقد صار الباقي عندكم يوماً أو بعض يوم. وجعل الله لبثهم قليلاً لفنائه وقلة دوامه، فكل ما يفنى، فبقاؤه قليل وإن تطاول زمانه قال الله(7/5011)
جل ذكره: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] أي ما تستمتع به الخلق من طلول أيام الدنيا قليل، إذ مصيره إلى الفناء والذهاب.
ثم قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}.
أي: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم لعباً وباطلاً، وإنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا ترجعون فتجزون بأعمالكم في الدنيا.
ثم قال: {فَتَعَالَى الله الملك الحق}.
أي: فتعالى الله عما يصفه به هؤلاء المشركون من اتخاذه الولد والشريك.
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي: لا مبعود ولا رب إلا الله الملك الحق {رَبُّ العرش الكريم}.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}.
أي: ومن يعبد مع الله معبوداً آخر، لا حجة له بما صنع وبينة {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ}. أي: حساب عمله السيء عند ربه فيوفيه جزائه إذا قدم عليه.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} أي: لا ينجح ولا يدرك البقاء والخلود في النعيم أهل الكفر بالله. وهذا يدل على أن الحق يثبت بالبرهان والحجة، والباطل يذهب بالبرهان، والحجة على بطلانه. فالتقليد لمن قدر على الحجة والبرهان خطأ منه. ثم قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم} أي: استر علي ذنوبي بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتي منها، وأنت خير من رحم من أذنب فقبلت توبته.(7/5012)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سورة النور
مدنية
قوله تعالى ذكره: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}، إلى قوله: {طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}.
سورة مرفوعة على إضمار مبتدأ، أي هذه سورة، وأنزلناها نعت للسورة، وقبح رفعها على الابتداء لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرات إذ لا فائدة فيها، وقد أجازه أبو عبيدة.
وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على معنى: اتل سورة، أو على معنى: أنزلنا سورة أنزلناها.(8/5013)
ومن شدد {فَرَضْنَاهَا} جعله بمعنى: فضلناها، فجعلنا فيها فرائض مختلفة.
وقيل: معنى التشديد أنه فرضها على من أنزلت عليهم، وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة، فشدد ليدل على معنى التكثير من المأمورين.
ومن خفف جعله على معنى: أوجبنا ما فيها من الأحكام فجعلناه فرضاً عليكم. وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، يدل على اختيار التخفيف، لأنه فيه معنى تكثير المأمورين، لنه فرض علينا وعلى من بعدنا ومن قبلنا، وفيه فرائض مختلفة أيضاً، وقد أجمع على تخفيفه.
قال ابن عباس {فَرَضْنَاهَا} بيناها.(8/5014)
وقيل {فَرَضْنَاهَا} فرضنا العمل بما فيها، وهذا يدل على التخفيف.
وقول ابن عباس يدل على اتشديد.
وقوله: {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، أي دلالات وحجج على الحق، واضحات لمن تأملها وآمن بها.
قال ابن جريج: آياتٍ بينات: يعني الحلال، والحرام، والحدود.
{لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي تذكرون بهذه الآيات التي أنزل عليكم.
ثم قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}.
كل القراء على الرفع إلا عيسى بن عمر فإنه قرأ بالنصب، وهو اختيار(8/5015)
الخليل وسيبويه لأن الأمر بالفعل أولى، وسائر النحويين على خلافهما في هذا الاختيار، واستدل المبرد على خلافهما، بإجماع الجميع على الرفع في قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وإنما اختار النحويون الرفع لأنه مبهم لا يقصد به شخص بعينه (زنى)، وتقدير الرفع عند سيبويه والخليل " وفيما يتلى عليكم الزانية والزاني، ويحسن الرفع بالابتداء وما بعده خبره، والمعنى من زنى من الرجال والنساء، وهو حر بكر غير محصن فاجلدوه ضرباً مائة جلدة. {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} أي رقة، ورحمة(8/5016)
عند الجلد في دين الله، أي في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحدود، فكل من أقام الحد. فهو ممن لا تأخذه رأفة في حدود الله.
والرأفة من الآدميين، رقة القلب، وهي من الله تعالى رحمة وإنعام ولا يجوز عليه رقة القلب.
وقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} لأن لا تقصروا في إقامة الحدود.
{إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وهذا يدل على أن إقامة حدود الله من الإيمان بخلاف ما تدعيه المرجئة من أن الإيمان قول بلا عمل.
وقال ابن المسيب والحسن: معناه لا تخففوا الضرب ولكن أوجعوا،(8/5017)
قالا: هو الجلد الشديد.
وقيل: معناه انزعوا الثياب عنهما قبل الجلد، قاله حماد.
وقال الزهري: يجتهد في حد الزاني والفرية، ويخفف في حد الشارب.
وقال قتادة: يخفف في الشارب والفرية، ويجتهد في الزاني فهذا حد الزاني، وليس في كتاب الله تعالى دلالة على كيفية الجلد، ولكن أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط سوط بين السوطين.(8/5018)
وروي أن عمر رضي الله عنهـ أتي برجل وجب عليه حد فدعا بسوط فقال: إيتوني بألين منه، فأتي بألين منه، فقال: إيتوني بأشد، فأوتي بسوط بين السوطين، فقال: اضرب ولا ترين إبطك، وأعط كل عضو حقه.
والزنا من أعظم الكبائر والفواحش.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: بلغنا أنه يرسل يوم القيامة على الناس ريح منتنة حتى تؤذي كل بر وفاجر حتى إذا بلغت من الناس / كل مبلغ، وكادت أن تمسك بأنفاس الناس ناداهم مناد يسمع صوته كلهم: أتدرون ما هذه الريح التي آذتكم؟ فيقولون: لا ندري غير أنها قد بلغت منا كل مبلغ، فقال: ألا إنها ريح فروج الزناة(8/5019)
الذين لقوا الله بزناهم لم يتوبوا منه، ثم ينصرف بهم ولم يذكر جنة ولا ناراً.
وهذه الآية ناسخةٌ للآيتين اللتين في سورة النساء، قوله تعالى {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} [النساء: 15] إلى {رَّحِيماً} [النساء: 16].
ورأى عثمان بن عفان رضي الله عنهـ، وأبو عبيدة بن الجراح، وابن مسعود والمغيرة ابن شعبة: أن لا يجرد ثوب المضروب، وبه قال الشعبي(8/5020)
والنخعي وطاوس وقتادة.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه ضرب قاذفاً مجرداً.
وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء نزع، وإن شاء ترك. وقال مالك: لا تجرد المرأة، ويترك عليها ما يسترها.(8/5021)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: يضرب الرجال قياماً، والنساء قعوداً، وهو قوله الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: يضرب المرأة والرجل وهما قاعدان، ومنع ابن مسعود والحسن والثوري وابن حنبل من مد المضروب.(8/5022)
وقال الشافعي: لا يمد ويترك له يد يتقي بها ولا يربط. وأمر عمر بضرب امرأة، فقال: اضرباها ولا تحرق جلدها.
وقال الحسن: يضرب السكران ضرباً غير مبرح.
وقال مالك: يضرب ضرباً لا يشق ولا يضع سوطاً فوق سوط. قال الشافعي: لا يبلغ أن ينهمر الدم في شيء من الحدود والعقوبات؛ لأنه من أسباب التلف، وليس يراد بالجلد التلف، إنما يراد به النكال والكفارة.
وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، يعطى كل عضو من الضرب حقه. قال الشافعي: ويترك الجلاد في الوجه والفرج.
وقال الشافعي: يجلد العليل المضني بأنكول النخل، ولم يرد ذلك مالك، ولا أرى أنه يبرئ الرجل من يمينه إذا حلف على ضربات وإن كان فيه قضبان كثيرة.(8/5023)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: نفي البكر، والزاني بعد جلد مائة، وكذلك فعل أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
وروي ذلك عن ابن عمر، وأبيّ بن كعب، وبه قال عطاء، وطاووس، ومالك، والثوري، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.(8/5024)
وروي عن ابن عمر أنه رأى نفي المملوك البكر إذا زنى، وهو قول الشافعي، وأبي ثور.
وقال الشافعي، وحماد بن أبي سليمان، ومالك، وأحمد، وإسحاق: لا نفي على المملوك.
ونفى عمر إلى فدك.
وقال الشعبي: ينفى الزاني عن عمله إلى عمل غير عمله.
وقال ابن أبي ليلى: ينفى سنة إلى بلد غير البلد الذي فجر فيه.
وقال مالك: يغرب عاماً في بلد يحبس فيه لئلا يرجع إلى البلد الذي نفي منه.
ثم قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}.(8/5025)
قال مجاهد وابن أبي نجيح: أقل الطائفة رجل، وكذلك قال النخعي.
وقال الحسن، والشعبي: الطائفة رجل فما زاد.
وقال عطاء، وعكرمة: أقل الطائفة هما رجلان.
وقال الزهري: الطائفة ثلاثاً فصاعداً.(8/5026)
وقال قتادة: هم نفر من المسلمين.
وقال ابن زيد: الطائفة هنا أربعة، وكذا قال: مالك، والليث. وإنما جعلت الطائفة أربعة ليشهدوا أنه محدود على الزنا متى قذفه أحد بالزنا، فسقط حد القذف عن القاذف بتلك الشهادة، والزنا لا يقبل فيه أقل من أربعة، ومنع الزجاج أن تكون الطائفة واحداً، لأن معناه معنى الجماعة، ولا تكون الجماعة لأقل(8/5027)
من اثنين، واختار الطبري قول من رأى أن أقل الطائفة رجل واحد.
قال: واستحب لأن لا يقصر على أربعة عدد، من تقبل شهادته على ذلك لأنه إجماع.
وأجاز جماعة من أهل اللغة أن يقال للواحد طائفة، وللجماعة طائفة، لأن معنى طائفة: قطعة، يقول: أكلت طائفة من الشاة، أي قطعة منها.
واستدل من قال: إن الطائفة تقع على الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة: 123] ولم يختلف أن الواحد إذا نفر من جماعة لطلب العلم والتفهم / في الدين: أنه يجزئ: فهو طائفة.(8/5028)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
قوله تعالى ذكره: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، إلى قوله: {عَلَى المؤمنين}.
هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح نسوة من أهل الشرك معروفات، كن يكرين أنفسهن للزنا، فأنزل الله تعالى تحريمهن على المؤمنين فقال: الزاني من المؤمنين لا يتزوج امرأة من أولئك البغابا، فإن تزوجها فإنما يتزوج زانية أو مشركة لأنهن كن مشركات، والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان من المؤمنين أو مشرك مثلها.
{وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين}، أي حرم الله نكاحهن على المؤمنين.
قال ابن عمر: استأذن رجل من المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها: أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فنزلت الآية.
قال مجاهد: وقتادة، والزهري: نزلت الآية في نساء معلوم منهن الزنا في الجاهلية، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فالآية على هذا القول مخصوصة محكمة في نساء بأعيانهن.(8/5029)
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب: هي عامة ولكنها نسخت بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الآية، فكل من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها بعد الاستبراء، وهو قول ابن عمر، وسالم، وجابر بن زيد، وعطاء، وطاووس، ومالك وأبي حنيفة، والشافعي.
قال الشافعي: الآية منسوخة إن شاء الله، كما قال ابن المسيب.
قال الشافعي: الآية منسوخة إن شاء الله، كما قال ابن المسيب.
وروي عن بعض أهل العلم أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم ظهر له أن(8/5030)
يتزوجها فليتعرض لها في الزنا فإن قبلت منه، وساعدته فلا يتزوجها، وإن أبته من العودة فليتزوجها إن شاء. وعن ابن عباس: أن النكاح هنا الوطء، أي الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان من أهل القبلة مثلها أو مشرك.
{وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين}.
أي وحرم الزنا على المؤمنين، واختار الطبري هذا القول، واحتج في ذلك بأن الزانية من المسلمين لا يحل أن تتزوج مشركاً بحال، ولا يجوز للزاني من المسلمين أن يتزوج مشركة وثنية بحال، فيكون المعنى: الزاني من المسلمين لا يزني إلا بزانية من المسلمين لا تستحل الزنا أو بمشركة تستحل الزنا والزانية لا تزني إلا بزان من المسلمين لا يستحل الزنا أو بمشرك يستحل الزنا، وأنكر هذا القول بعض العلماء، لقوله تعالى ذكره: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} لأنه لا يلزم على قول ابن عباس أن يكون المعنى وحرم الزنا على المؤمنين وليس هو محرم على المؤمنين خاصة، وإنما التقدير: حرم هذا النكاح على المؤمنين، أي نكاح البغايا، والزنا محرم على المؤمن والكافر.(8/5031)
وقال الحسن: معنى الآية: الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة أو مشركة، وكذا الزانية. وهو مذهبه.
وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله ".
فعلى قول الحسن تكون المشركة هنا يراد بها الكتابية، وليس على هذا القول أحد من فقهاء الأمصار، والحديث عندهم منسوخ بإنكاح الأيامى في القرآن.
قال أحمد بن يحيى: حقيقة النكاح الوطء.
تقول العرب: أنكحت الأرض الحنطة، وأنكر هذا أبو إسحاق وقال: النكاح ليس هو الوطء، إنما هو عقده.(8/5032)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وقيل الآية محكمة، والمعنى الزاني المشهور ثلاثاً لا يحل لمؤمنة أن تتزوجه، والزانية المشهورة بالزنا لا يحل لمؤمن أن يتزوجها.
وقيل: هو منسوخ بإجماع المسلمين، إن المؤمن لا يحل له نكاح مشركة ولا لغير زان، وكذلك الزانية المؤمنة لا يحل لها نكاح مشرك أي زواجه بإجماع.
قوله تعالى ذكره: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ}.
أي والذين يشتمون العفائف من الحرائر المسلمات / فيرمونهن بالزنا ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون عليهن بالزنا، {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون}، أي الخارجون عن أمر الله وطاعته، ومعنى أبداً مدة حياتهم، ووقع اللفظ على رمي النساء، ورمي الرجال مثل ذلك، كما وقع الحكم على رمي الرجال في قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات}، والنساء كذلك يحددن إن قذفن.(8/5033)
وقيل إن المعنى: والذين يرمون الأنفس المحصنات فهو للرجال والنساء.
وهذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة رضي الله عنها بما رموها به من الإفك، قاله ابن جبير.
وقال الضحاك: هي في نساء المسلمين.
وقال ابن زيد: الفاسقون: الكاذبون.
ومعنى الإحصان هنا العفة.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أي إلا من تاب من بعد قذفه، وأخذ الحد منه وهو استثناء من قوله:(8/5034)
{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}، فإذا تاب قبلت شهادته وهو مذهب أكثر الفقهاء منهم: الشعبي، والزهري، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وهو قول عمر بن الخطاب، وابن أبي طلحة عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عتبة، وابن المسيب.(8/5035)
وقال شريح: لا تجوز شهادته وإن تاب، يجعل الاستثناء من الفاسقين لأنه قد منع قبول شهادته بالأبد، فلا تقبل أبداً.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تجوز شهادة محدود في الإسلام "، وبهذا القول يقول ابن عباس في رواية عنه، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي والثوري، وأصحاب الرأي. فيكون أبداً وقف على قول من قال: لا تقبل شهادته ولا يوقف عليه، وعلى قول من قال: تقبل إذا تاب.(8/5036)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
واحتج الشافعي على من منع قبول شهادته إذا تاب بأنهم يقبلونها إذا تاب قبل أن يحد، فينبغي إذا حد أن يكون قبولها أولى، لأن الحدود كفارات للذنوب، وهم كلهم يقبلون شهادة المحدود في الزنا، وشرب الخمر، والمسكر إذا تاب، وكذلك الزنديق، والمشرك.
وقد قال تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}، فهو راجع إلى كل من تقدم ذكره، إلا أن يأتي خبر يدل على الخصوص.
قال تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين}.
ارتفعت الشهادة بالابتداء، أي فعليه أن يشهد أربع شهادات بالله، وكسرت إن في " إنه لمن "، و " إنها لمن " لأنها جواب القسم.(8/5037)
وقوله: " أربع " من نصبه أعمل فيه فشهادة أحدهم، لأن التقدير: فإن شهد أحدهما أربع شهادات بالله فهو مصدر ولا يحسن أن يكون مفعولاً به، لأنّ شهد لا يتعدى إلا أن يكون من الحضور نحو: شهدت العيد أي حضرته، ومعنى الآية والذين يرمون نساءهم بالزنا، وليس لهم من يشهد بصحة قولهم فالذي يقوم مقام الشهداء في دفع الحد عنه أن يحلف بالله أربعة أيمان أنه صادق في قوله فيها، يقول: أشهد بالله إني لصادق أربع مرات.
وقيل بل يقول: بالله الذي لا إله إلا هو أربع مرات أنه رأى رجلاً جامع امرأته، ويقول في الخامسة: اللهم العنيّ إن كنت كذبت عليها، وقيل: بل يقول في(8/5038)
الخامسة: لعنة الله عليه إن كان كاذباً عليها ومن نصب الخامسة عطفها على أربع شهادات، وتقديره: ويشهد الشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان كاذباً فيما رماها به من الزنا، والذي يزيل عنها حد الزنا أن تحلف أيضاً بعد يمينه أربع شهادات أنه لكاذب عليها، وتقول في الخامسة: غضب الله / عليها إن كان صادقاً في قوله. وهذه الآية نزلت في هلال بن أمية رجل من الأنصار وغيره رأوا زنا نسائهم وتيقنوه فأتوا النبي عليه السلام فأخبروه، فشق ذلك على النبي وهمَّ بحدهم على القذف، فأنزل الله ما يقوم مقام الحد لمن لم يكن عنده شهداء، فدعا رسول الله بامرأة هلال، فتلاعنا بين يديه ففرق رسول الله بينهما، وقضى بالولد لأمه ولا يدعى لأب.(8/5039)
قال ابن عباس: ولا يجتمعان أبداً فمن لم يحلف منهما أقيم عليه الحد.
وقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب}، يعني الحد أي يدفع عنها حد الزانية شهادتها بالله أربع شهادات أنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
وقيل: العذاب هنا: الرجم، ومعناه العذاب الذي عهدتم من فعل نبيكم، ولذلك أتى بالألف واللام.
وقيل: هو الجلد إن كانت غير محصنة، والرجم إن كانت محصنة، ولو امتنعت هي أو هو من الخامسة لوجب الحد، ولا يجب عليها الحد إلا إذا امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج أو من الخامسة، لأن التعان الزوج قد جعله الله يقوم مقام أربعة شهداء، فكا يلزمها الحد لو أتى بأربعة شهداء، كذلك يلزمها إن التعن.
فإن التعنت هي دفع ذلك عنها الحد، ولا يكون لعان إلا أن يقول: رأيت بعيني أو ينكر الحمل، ويدعي الاستبراء قبله، أو ينكر ولداً فإن أنكر الحمل فولدت لأقل من ستة أشهر فلا لعان بينهما وعليها الحد، فإذا تلاعنا فرق بينهما، ولم يلحقه(8/5040)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
الولد ولا يتزوجها أبداً. فإن اعترف بعد ذلك بالولد لحق به وحُدَّ حَدّ الفرية. وإذا امتنعت من الالتعان أو من الخامسة فحُدَّت بالرجم ورثها زوجها وإن كان لم يدخل بها فحدت بالجلد بقيا على نكاحهما، وإنما يسقط الميراث، ويقع الفراق بإكمالها للالتعان.
جواب لولا محذوف أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم، لأن الله تواب يتوب على من تاب إليه من الزنا ومن غيره، حكيم في تدبيره.
قال: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم.(8/5041)
{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ}،، أي لا تحسبوا ما جاءوا به من الكذب عليكم شراً لكم عند الله وعند الناس، بل هو خير لكم عند الله وعند المؤمنين، لأن الله يجعل ذلك كفارة لمن كذب عليه، وتطهيراً له، ويجعل له منه مخرجاً.
ويروى أن الذي عني بالذين جاءوا بالإفك حسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش.(8/5042)
قال عبد الله بن عباس: عبد الله بن أبي بن سلول المنافق وهو الذي تولى كبره.
والخطاب في هذه الآيات كلها لعائشة رضي الله عنها وأهلها. وقوله تعالى: {لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم}، يعني لكل واحد من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما جاء به من الإفك.
ثم قال: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، يعني والذي يحمل معظم الإثم، والإفك منهم وهو الذي بدأ بالخوض في ذلك.
روي أنه حسان بن ثابت، وكان قد ذهب بصره في كبره.(8/5043)
وقالت عائشة رضي الله عنها: لعل الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره في الدنيا، رحمة ورقة عليه رضي الله عنها.
وقيل: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، قال ابن عباس وابن زيد، ومجاهد، وهو ابتدأ الكلام في ذلك.
وحديث الإفك طويل مشهور في أكثر الكتب فتركته لطوله واشتهاره.(8/5044)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
قوله تعالى ذكره: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات}.
هذه الآية عتاب " من الله تعالى لأهل الإيمان فيما وقع في أنفسهم من أمر عائشة، فالمعنى: هلا إذ سمعتم أيها المؤمنون ما قال أهل الإفك في عائشة، ظننتم خيراً بمن قذف، ولا تظنوا الفاحشة.
قال ابن زيد معناه: هلا ظن المؤمن أن المؤمن لم يكن يفجر بأمه.
ثم قال: {هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ}،، أي وقال المؤمنون: هذا الذي جاء به هؤلاء كذب ظاهر.
ثم قال تعالى: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ}، أي هلا جاء هؤلاء المبطلون القائلون في عائشة الكذب بأربعة شهداء على تصحيح قولهم فيها، فإذ لم يأتوا بالشهداء على ما رموها به فأولئك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك.
ثم قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، يعني الخائضين في الإفك.
{لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، أي لعجل عليكم بالعقوبة، ولكن تفضل عليكم بتأخيرها، ورحمكم فقبل توبتكم من ذلك.
ثم قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}، أي لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم(8/5045)
حين تتلقونه بألسنتكم، أي تتلقون الإفك: أي يأخذه بعضكم عن بعض، ويقبله منه.
روي أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول: أو ما بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ لتشيع عليها الفاحشة.
قال مجاهد: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} يرويه بعضكم عن بعض.
وقرأت عائشة رضي الله عنها: " إذ تلقونه " بكسر اللام وضم القاف مخففاً. يقال: ولق، يلق إذا أسرع في الكذب واشتقاقه من الولق، وهو الخفة والسرعة.
وقوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي تقولون من الخبر الذي تروونه ولا تعلمون حقيقته ولا صحته.
وقال {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً}، أي وتحسبون أن قول ذلك وروايتكم الكذب(8/5046)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
والبهتان هيناً أي سهلاً، لا إثم فيه عليكم، وهو عند الله عظيم؛ لأنكم تؤذون به النبي صلى الله عليه وسلم وحليلته.
ولا يوقف على ذلك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنه عامل في " إذ "، والوقف على {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ}.
قال: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا}، أي هلا إذ سمعتم الإفك أيها الخائضون فيه قلتم: ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك أي تنزيهاً لك وبراءة لك من السوء، هذا القول بهتان عظيم.
قال تعالى: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً}، أي يذكركم الله، وينهاكم بأي كتابه لئلا تعودوا لمثله، أي لمثل فعلكم في تلقيكم الإفك، وقبولكم له، وخوضكم فيه {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}، أي إن كنتم تتعظون بعظات الله وتأتمرون لأمره.
قال: {وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي يبين ما تهلكون بوقوعكم فيه لتجتنبوه. {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، أي عليم بخلقه ومصالحهم، حكيم في تدبيره.(8/5047)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
قال تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}،، أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في الذين صدقوا الله ورسوله لهم عذاب مؤلم في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بعذاب النار إن مات مصراً على ذلك غير تائب منه.
قال ابن زيد: عني به الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، هو أشاع على عائشة ما أشاع من الفرية.
ثم قال تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، أي والله يعلم كذب الذين جاءوا بالإفك وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك لأنكم لا تعلمون الغيب.
وقيل: المعنى والله يعلم مقدار هذا الذنب، والمجازاة عليه، وأنتم لا تعلمون ذلك.
أي ولولا أن الله تفضل عليكم أيها الناس ورحمكم لهلكتم فيما أفضتم فيه، ولكن الله ذو رأفة، ورحمة بخلقه فلم يعاجلكم بالعقوبة.(8/5048)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}، أي لا تسلكوا سبيل الشيطان وطرقه فتشيعوا الفاحشة في من لم يأتها. {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان}، أي من يسلك طرقه وسبله.
{فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر}، أي بالزنا والمنكر من القول. ثم قال:
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ / وَرَحْمَتُهُ مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً}، أي يطهر من يشاء من خلقه.
قال ابن عباس: {مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئاً من الشر يدفعه عن نفسه.
وقال ابن زيد: " ما زكى " ما أسلم، قال: وكل شيء في القرآن زكى وتزكى فهو الإسلام.
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، أي سميع لما تقولون بألسنتكم وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من سائر الأمور.(8/5049)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
وقال الكسائي: {مَا زكى مِنكُمْ}، جواب لولا الأولى والثانية.
قال تعالى:: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى}، أي: ولا يحلف بالله ذو الفضل والجدة أن لايؤتوا أولي القربى. ويأتل: يفتعل من الآلية، وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: يتأل على يفتعل من الآلية أيضاً، عني بذلك أبا بكر رضي الله عنهـ حلف ألا ينفق على مسطح وهو ابن خالته، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً، وكان قد خاض في أمر الإفك مع من خاض فيه.
ثم قال: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا}، أي لِيَعْفُ أبو بكر عما فعل مسطح من(8/5050)
الإشاعة في أمر عائشة، وليترك عقوبته على ذلك.
ثم قال تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ}، أي ألا يحب أبو بكر أن يستر الله عليه ذنوبه {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال أبو بكر لما نزلت هذه الآية: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه. وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
وقال ابن عباس: معناها لا تقسموا ألا تنفعوا أبداً.
وعن ابن عباس أن ناساً رموا عائشة بالقبيح، فأقسم ناس من(8/5051)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر ألا يتصدقوا عليهم ولا يصلوهم، فنزلت الآية في ذلك فرجعوا إلى الصلة والصدقة هذا معنى قوله. وكذلك قال الضحاك: كان أبو بكر وغيره من المسلمين ينفقون كالأول فلذلك أتى الخطاب بلفظ الجماعة.
وقد قيل: إن معنى {وَلاَ يَأْتَلِ}، لا يقصر، من قولهم ما ألوت في كذا أي ما قصرت، فيكون التقدير: ولا يقصر أولو الفضل عن أن يؤتوا أولي القربى، وعلى القول الأول: ولا يحلف بالله أولوا الفضل كراهة أن يؤتوا، ولئلا يؤتوا.
قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات}،
أي إن الذين يرمون بالفاحشة المحصنات، أي العفيفات الغافلات عن الفواحش، المؤمنات بالله ورسوله لعنوا في الدنيا والآخرة، أي أبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة.(8/5052)
{وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
قال ابن جبير: هذا في عائشة خاصة لأن الزنا أشد من قذف المحصنة وقد جعل الله في الزنا التوبة.
وقال الضحاك: ذلك لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن خاصة.
وقال ابن زيد: هو في عائشة، ولمن صنع ذلك اليوم في المسلمات فله مثل ذلك.
وقال ابن عباس: هي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رماهن أهل النفاق فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل(8/5053)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
بعد ذلك: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ}، [النور: 4] إلى {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 5] فأنزل الله عز وجل الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل والشهادة ترد. فقول ابن عباس، والضحاك يوجب أن من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في الدنيا والآخرة، ومن قذف غيرهن فهو فاسق.
واختار النحاس أن يكون عاماً للمذكر والمؤنث والتقدير: والذين يرمون الأنفس المحصنات، فيدخل فيه المذكر والمؤنث، وإنما غلب المؤنث هنا لأنه إذا قذف امرأة فقد قذف معها رجلاً فاستغنى بذكر المرأة عن الرجل.
أي ولهم عذاب عظيم في يوم تشهد عليهم جوارحهم بعملهم، يعني: يوم القيامة، وألسنتهم تشهد عليهم بعد الختم على أفواههم.(8/5054)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
وقيل: إن ألسنة بعضهم تشهد على بعض.
وقد روى الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقول الله عز وجل: أتحلفون؟ فيحلفون ثم يصمتهم الله وتشهد ألسنتهم، ثم يدخلهم النار ".
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق}، أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بالحق يوفيهم الله في جزاءهم الحق على أعمالهم، والذين: الجزاء والحساب.
ثم قال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين}، أي ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق،(8/5055)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
أي هو الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، فمجازاة الكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاة المحسن بالفضل والإحسان.
قال تعالى ذكره: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ}، الآية.
قال ابن جبير، وعطاء، ومجاهد: معناها الكلمات الخبيثات للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من القول والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
وتقديره: الكلمات الخبيثات لا يقولهن إلا الخبيث من الناس، والكلمات الطيبات لا يقولهن إلا الطيب من الناس، ودل على صحة هذا المعنى قوله:
{أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان بن المعطل مبرءون مما(8/5056)
يقول الخبيثون والخبيثات، وجمع وهما اثنان كما قال تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} يريد أخوين فأكثر وقيل: معناه الخبيثات من الكلام إنما يلصق بالخبيثين والخبيثات من الناس، لا بالطيبين والطيبات.
وقيل: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، قاله ابن زيد، قال: كان عبد الله بن أبيّ خبيثاً فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً وكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة طيبة، فكانت أولى بأن يكون لها الطيب، ولذلك سميت عائشة بالطيبة.
وقيل: سميت بالطيبة لأن الله طيبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
روي أن جبريل عليه السلام أتاه بها في سرقة من حرير قبل أن تصور في(8/5057)
رحم أمها فقال له، هذه عائشة ابنة أبي بكر زوجتكها في الدنيا، وزوجتكها في الجنة.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على صدر السورة في قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، فبين في هذا أن الخبيثات وهن الزواني للخبيثين من الرجال، وهم الزناة، والخبيثون من الرجال وهم الزناة للخبيثات من النساء وهن الزواني وكذلك الطيبات المؤمنات العفائف للطيبين المؤمنين الأعفاء، فهذا مثل ما في أول السورة، ثم نسخ ذلك كله بما نسخ به ما في أول السورة، وقد مضى ذكره على الاختلاف المتقدم الذكر، وهذا كله هو يرجع إلى قول ابن زيد المذكور، فالمعنى على هذا نكاح الزواني للزناة، ونكاح الزناة للزواني، ونكاح العفائف للأعفاء، ونكاح الأعفاء للعفائف، ثم نسخ ذلك بقوله جل(8/5058)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
ذكره: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] فهم جميع الأيامى.
ثم قال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، أي لعائشة، وصفوان ستر من الله على ذنوبهما ولهم الجنة كذلك.
قال قتادة: ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ}، الآية، يعني به البيوت التي لها أرباب، أمر المؤمنين ألا يدخلوها حتى يستأذنوا، ويسلموا على أربابها، ثم أعلمهم أن ليس عليهم جناح أن يدخلوا البيوت التي ليس لها أرباب ولا سكان بغير استئذان / هذا قول ابن جبير.
وروي عن ابن عباس، وعكرمة أن الآية فيها تقديم وتأخير يعني: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، ثم استثنى البيوت التي على طرق الناس، والتي ينزلها(8/5059)
المسافرون فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} [النور: 29]، ومعنى متاع لكم أي منفعة لكم، ومنعة من الحر والبرد وغير ذلك.
وعن ابن جبير أنه قال: أخطأ الكاتب إنما هو حتى تستأذنوا، وهذا القول منكر عند أهل العلم، لأن الله قد حفظ كتابه من الخطأ.
ومعنى: حتى تستأنسوا: تستأذنوا، قاله عكرمة.
وقال مجاهد: هو التنحنح والتنخم.
وقال أهل اللغة: معنى تستأنسوا: تستعملوا، من قوله:(8/5060)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي إن علمتم. فالمعنى حتى تستعلموا أيؤذن لكم أم لا؟
ثم قال: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}، أي الاستعلام، والسلام على أهل البيت خير لكم لأنكم لا تدرون لو دخلتموه بغير استئذان على ما تهجمون أعلى ما يسؤكم أم على ما يسركم؟
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي لتذكروا بفعلكم ذلك أمر الله لكم فتطيعوه.
قوله تعالى ذكره: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ}.
أي فإن لم تجدوا في البيوت التي تستأذنون فيها أحداً يأذن لكم بالدخول فلا(8/5061)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
تدخلوها، لأن دخولها لا يحل إلا بإذن أهلها، فإن قال لكم أهل البيوت: ارجعوا عنها فارجعوا ولا تدخلوها {هُوَ أزكى لَكُمْ}، أي الرجوع أزكى لكم: أي أطهر لكم عند الله.
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، أي بما تعملون من رجوعكم إذا قيل لكم ارجعوا، وطاعتكم لما أمركم به.
ثم قال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}، أي ليس عليكم إثم أن تدخلوا بيوتاً لا يسكنها أحد بغير استذان.
قال محمد بن الحنفية: هي الخانات التي تكون في الطرق، والخانات: الفنادق.
وقال قتادة: هي الخانات وبيوت أهل الأسفار.(8/5062)
وقال الضحاك: هي البيوت التي تكون في الطرق والخربة.
وقوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}، أي منفعة للمسافرين في الشتاء والصيف يأوي إليها،
وعن ابن الحنفية: أنها بيوت مكة.
وقال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: هي الخرب، ومعنى {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}، يعني الخلاء، والبول، والاستتار فيها.
وقال ابن زيد: هي البيوت التجار فيها أمتعة الناس يعني الحوانيت والتي في القياسير.
وتحقيق الآية: لا حرج على من دخل بيتاً لا ساكن له، ولا دافع عنه من غير أن يستأذن، فبيوت التجار مملوكة لهم لا يحسن دخولها إلا بإذنهم إلا أن يكون قد(8/5063)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
علم منهم أنهم إنما فتحوها ليدخل عليهم فلا يستأذن، لأن فعلهم كالإذن.
ثم قال: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}، أي ما تظهرون من الاستئذان على أهل البيوت المسكونة {وَمَا تَكْتُمُونَ}، أي ما تضمرون في صدوركم عند فعلكم ذلك؛ أطاعة الله تريدون أو غير ذلك.
قال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، أي يكفوا عن نظر ما لا يحل لهم والنظر إليه {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}، أن يراها من لا يحل له أن يراها، أي يلبسوا ما يسترها عن أبصارهم.
وقيل لا يستمتعون إلا لمن يحل لهم من زوجة أو ملك يمين. ولما كان استعمال الفرج فيما لا يحل منهياً عنه، لم تدخل " من " فلم يقل ويحفظوا من فروجهم، ولما كانت النظرة الأولى لا تملك، قال: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فدخلت " من " للتبعيض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من خير عين تنشر يوم القيامة عين رجل من بني إسرائيل، بينما هو قائم يصلي نظر إلى امرأة بإحدى عينيه، فهوى إلى الأرض فأخذ عوداً ففقأ به العين التي نظر بها إلى المرأة ".
ثم قال: {ذلك أزكى لَهُمْ}، أي حفظها، وغض أبصارهم أطهر(8/5064)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
لهم عند الله، {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، أي ذو خبر بما يصنعون مما أمركم به من غض البصر، وحفظ الفرج.
قال أبو العالية: كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا في هذه الآية، يريد أنه إنما أمروا أن يستروا فروجهم لئلا يراها من لا يحل له رؤيتها.
قال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، يعني التستر.
قال ابن عباس: يغضوا من أبصارهم عن سوآتهم.
قال ابن زيد: يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له، إذا رأى ما لا يحل(8/5065)
له، غض بصره، ولا ينظر إليه، ولا يستطيع أحد أن يغض بصره كله، إنما قال: " يغضوا من أبصارهم "، يريد أن النظرة الأولى لا يقدر أحد أن يملكها، فالنهي إنما وقع على النظرة بعد النظرة الأولى، ولذلك قال: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولم يقل: يغضوا أبصارهم؛ لأن النظرة الأولى لا يقدر على الكف عنها، لأنها فجأة.
قال بعض العلماء: حرم الله على المسلمين نصاً أن يدخلوا الحمام بغير مئزر.
وأجمع المسلمون أن السوءتين عورة من الرجل، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها، فإنهم اختلفوا فيهما.
وأكثر أهل العلم: على أن من سرة الرجل إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى.
و" سأل جرير بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فقال: اصرف(8/5066)
بصرك، لأنه لو لم يصرف بصره لكان تاركاً لما أمره الله به، ناظراً اختياراً ".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب يا علي: " إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة ".
وروي عن أم سلمة: زوج النبي عليه السلام: أنها قالت: " استأذن ابن أم مكثوم، وأنا وعائشة عند النبي عليه السلام، فقال لنا:(8/5067)
احتجبن فقلنا: أو ليس بأعمى لا يبصرنا، فقال: أفَعَمْيَاوَانِ أنتما ".
قال أبو محمد: وهذه الآية تضمنت خمسة وعشرين ضميراً بين مرفوع ومخفوض، كلها تعود على المؤمنات، أولها الضمير المرفوع في {يَغْضُضْنَ} وآخرها الضمير المخفوض في قوله تعالى: {مِن زِينَتِهِنَّ} ولا أعلم لهذه الآية نظيراً في القرآن في كثرة ضمائرها فاعلمه.
ثم قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أي ولا يظهرن لمن ليس بذي محرم زينتهن في بيوتهن، كالخلخال، والسوارين، والقُرْطِ، والقلادة.
ثم قال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.(8/5068)
قال ابن مسعود: هي زينة الثياب، وكذلك قال النخعي، والحسن.
وقال ابن عباس: هو الكحل، والخاتم.
وقال ابن جبير: هو الوجه والكف.
وقال عطاء: الكفان والوجه.
وقال قتادة: الكحل، والسوار، والخاتم.(8/5069)
وعن ابن عباس أنه قال: الزينة الظاهرة الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم، قال: فهذا ما تظهر في بيتها لمن دخل عليها من الناس.
وقالت عائشة رضي الله عنها: هو القُلْبُ والفَتْحَة، يعني السوار والخاتم.
وقيل: الفتحة حَلَقٌ من فضة، تجعلها النساء في أصابعهن.
وقول من قال: هو الوجه والكفان أحسنها، لأن العلماء قد أجمعوا أن للمرأة أن تكشف وجهها، وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه أباح لها أن تبدي من ذراعيها إلى قرب النصف "، فالكحل، والخاتم، والخضاب، والبنان داخل تحت هذا، فإذا كان لها ذلك مباحاً في الصلاة علم أنها ليس بعورة، وإذا لم يكن عورة جاز لها إظهاره، كما أن ما ليس بعورة من الرجل جائز له إظهاره، فيكون هذا مما استثناه الله جل ذكره.(8/5070)
ثم قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}، أي وليلقين خمرهن، وهو جمع خمار على جيوبهن، ليسترن شعورهن وأعناقهن.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}، وما بعد ذلك من القرابة، يعني الزينة التي هي غير ظاهرة كالخلخال والدملج والقرط، وما أمرت أن تغطيه بخمارها من فوق الجيب، وما وراء ما أبيح لها كشفه وإبرازه في الصلاة للأجنبيين من الناس، من الذراعين إلى ما فوق ذلك /.
وقال قتادة: يبدين لهؤلاء الرأس.
قال ابن عباس: الذي يبدين لهؤلاء هو قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالاها ومعضداها، ونحرها وشعرها، فإنه لا تبديه إلا لزوجها.(8/5071)
وقال ابن مسعود: أي هو الطوق والقرطان.
وقيل: معنى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}، أي ليغط شعرها وصدرها وتوائبها، وكلما زين وجهها، ومعنى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}، ومن بعدهم أي لا يضعن جلابيبهن، وهي المقانع التي فوق الخمار، إلا لهؤلاء المذكورين.
وقوله: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني بذلك نساء المسلمين، يعني المؤمنات منهن. قاله ابن جريج، قال: ولا يحل لمسلمة أن تري مشركة عورتها، إلا أن تكون لها، فذلك قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة(8/5072)
ابن الجراح رضي الله عنهما " أما بعد فإنه بلغني، أن نساء يدخلن الحمامات/ معهن نساء أهل الكتاب، فامنع ذلك وحل دونه "، ثم إن أبا عبيدة قام في ذلك المقام متبتلاً، فقال: اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة، ولا سقم، تريد البياض لزوجها، فسود وجهها يوم تبيض الوجوه.
وقوله تعالى ذكره: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، يعني الماليك، لها أن تبدي له من الزينة، ما تبدي لغيره من ذوي المحارم، وهو قول عائشة وأم سلمة جعلنا العبد بمنزلة ذي المحرم في هذه الآية، فلا يحل له أن يتزوج سيدته، وهو في ملكها، لأنه ما دام مملوكاً فهو بمنزلة (ذوي المحارم)، وهذا هو قوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} [النور: 58].(8/5073)
وقيل: إنه ليس للعبد أن يرى منها إلا ما يرى الأجنبي.
قال ابن عباس: لا ينظر عبدها إلى شعرها ولا إلى نحرها وهو مذهب: ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، فأما الخلخالان عند ابن عباس فلا ينظر إليه إلا الزوج، فيكون التقدير على هذا القول الثاني: أو ما ملكت أيمانهن غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة ثم حذف.
وقيل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، إنما هو للإماء خاصة. قال ابن المسيب. وقيل: للصغار خاصة.
وقوله: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال}، أي والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم ممن لا أرب له في النساء من الرجال.
قال قتادة: " هو الرجل يتبعك ليصيب من طعامك ".(8/5074)
وقال ابن عباس: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء، وقاله الزهري.
قال مجاهد: هو الذي يريد الطعام ولا يريد النساء، ولا يهمه إلا بطنه ولا يخاف منه على النساء. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل عليه النبي يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، فقال: إنها إذا أقبلتْ بأربع، وإذا أدبرتْ أدبرتْ بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأرى هذا يعلم ما ها هنا، لا يدخلن عليكم(8/5075)
فحجبوه.
وقال عكرمة: " غير أولي الإربة "، هو المخنث، الذي لا يقوم له: يريد العنين.
وقيل: هو الشيخ الهرم، والخنثى، والمعتوه، والطفل، والعنّين.
والإربة والأرب: الحاجة. ومن نصب غيراً نصبه على الحال.
وقيل: على الاستثناء، ومن خفضه جعله نعتاً للتابعين.
وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء}، أي الذين لم يكشفوا عن هورات النساء لجماعهن فتطلعوا عليها.(8/5076)
قال مجاهد: الذين لم يدروأ ما هي من الصغر قبل الحلم، وقيل: لم يظهروا: لم يطيقوا ذلك، كما يقال: ظهر فلان على فلان: أي قدر عليه وغلبه. والطفل هنا بمعنى الأطفال، دل على ذلك نعته بالذين.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، أي لا يجعلن في أرجلهن من الحلي ما إذا مشين أو حركنهن علم الناس ما يخفين من ذلك.
قال ابن عباس: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال أو يكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال / فنهى الله جل ثناؤه عن ذلك لأنه من عمل الشيطان.
وقال السدي: عن أبي مالك: كانت المرأة تلبس(8/5077)
في رجليها الخلاخل، وتمر على المجلس، فتضرب برجليها ليسمع صوت خلاخلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.
وعن ابن عباس أنه قال: لا تضرب إحدى رجليها بالأخرى ليقرع الخلخال الخلخال فيظهر صوته.
ثم قال: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون}، أي ارجعوا إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر، وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غيركم إلا بعد الاستئذان، وغير ذلك من أمره ونهيه.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لعلكم تدركون طلباتكم عنده بالنجاة والبقاء في النعيم.
روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الندم على الدنيا توبة ".
وروى ابن مسعود: أن النبي عليه السلام قال: " لله أفرح بتوبة عبده إذا(8/5078)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
تاب إليه من رجل ضلت منه راحلته بداوية قفر عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا جهده الطلب، قال: أرجع فأموت في موضع رحلي، فجاء موضع رحله فوضع رأسه فبينما هو كذلك، إذا هو براحلته عليها طعامه، وشرابه عند رأسه ".
قوله تعالى ذكره: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ}، إلى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وزوجوا أيها المؤمنون الأيامى منكم، أي من لا زوج لها من المسلمات الحرائر، ومن لا زوجة له من الرجال، وأهل الصلاح من عبيدكم، ومن مملوكاتكم.
والأيامى جمع أيم مشبهة بيتيمة ويتامى، يقال: أيم وأيامى، وأيايم، وأيام مثل: جيد وجياد.
والإيم عند أهل اللغة: من لا زوج لها كانت بكراً أو ثيباً. حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما، وهو قول مالك وغيره.
يقال: رجل أيم، وامرأة أيم وأيمة: إذا لم يكن لواحد منهما زوج.(8/5079)
وقرأ الحسن: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ} وعبيد اسم للجمع.
وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه قال: من كانت له جارية فلم يصبها، أو لم يزوجها، أو كان له عبد فلم يزوجه، فما صنعا من فاحشة فإثم ذلك على السيد. وهذا يدل على أن الآية على الحتم والأمر للسادة بذلك.
ثم قال تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}، أي إن يكن هؤلاء الذين أمرتم بإنكاحهم ذوي فاقة، وفقر يغنهم الله من فضله، فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم.
وقال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله سبحانه:(8/5080)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
ويروى عن عمر أنه قال: عجبت لامرئ كيف لا يرغب في الباءة، والله يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وقيل: معنى الآية: يغنهم الله من فضله بالنكاح، وكذلك:
{وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] أي بالنكاح يعني بالتزويج، لأنه لم يجعل كل زوج مقصوراً على زوج أبداً.
وقوله تعالى: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، أي واسع الفضل يغني من يشاء من فضله عليم بمصالح خلقه وأعمالهم.
قوله تعالى ذكره: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً}.
أي وليمتنع عن الحرام الذين لا يجدون ما ينكحون حتى يوسع الله(8/5081)
عليهم من فضله، فالنكاح في هذا الموضع: اسم لما ينكح به من المهر، والنفقة فسمي ما ينكح به نكاح، كما قيل: لما يلتحف به كاف ولما يرتدي به رداء، ولما يلبس لباس.
ثم قال: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، هذا ندب ندب الله عباده إليه ومعنى {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إن علمتم فيهم مقدرة على التكسب لأداء ما كتب عليه مع القيام بما يلزمه من أمر نفسه، ومع إقامة / فروضهم، فالمكاتبة معلومة ما هي، وولاء المكاتب لمن كاتبه.
وقد قال ابن جريج: فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيراً، إذا سأله العبد ذلك، وقال عطاء، وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وهو(8/5082)
اختيار الطبري لأن ظاهر الآية الأمر بالمكاتبة، وأمر الله فرض، إلا أن يدل على أنه ندب إجماع أو سنة.
ومذهب أهل المدينة مالك وأصحابه: أنه ندب من غير فرض.
وقال الثوري: لا يجير السيد على المكاتبة.
وكره ابن عمر أن يُكَاتَبَ العبد إذا لم تكن له حرفة وقال: تطعمني أوساخ أيدي الناس.
قال ابن عباس: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، أي إن علمتم أن لهم حيلة لا يُلقون مؤنتهم على الناس.
وقال مالك: إنه ليقال: الخير القوة والأداء، وهو قول ابن زيد.(8/5083)
وقال الحسن: معناه: إن علمتم فيهم صدقاً، ووفاء وأداء الأمانة.
وقال مجاهد وطاوس: مالاً وأمانة.
وعن ابن مسعود: الخير إقامة الصلاة، وكذا قال ابن سيرين، وعبيدة.
وقال مالك: الخير القوة على الأداء، وقال أبو صالح وعطاء: إن علمت فيهم خيراً لنفسك يؤدي إليك، ويصدقك ما حدثك فكاتبه.
وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن جريج: معناه: إن علمتم(8/5084)
لهم مالاً.
ويقال: إن هذه الآية نزلت في صبيح القبطي مملوك الحاطب بن أبي بلتعة، وكان صالحاً، ثم هي عامة لجميع المسلمين.
قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ}، يعني هبوبهم من مال الكتابة.
قال علي بن أبي طالب: ربع الكتابة يحطها عنه.(8/5085)
وقال ابن عباس: ضعوا عنهم مما قاطعنموهم عليه، وكان ابن عمر: يضع عن المكاتب في آخر كتابته ما شاء، وهو قوله مالك.
وقال النخعي: هو أمر للمسلمين أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم يتقوون بها على أداء الكتابة، وهو قوله: (في الصدقات وفي الرقاب).
وقيل: إن قوله: " وآتوهم " ترغيب لكل الناس من الموالي وغيرهم حضهم الله أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم ليتقووا بها على أداء كتابتهم.
وقيل: هو خطاب لغير الموالي المخاطبين بالمكاتبة رغّب الناس أن يعطوهم من زكواتهم، والضميران مختلفان بمنزلة قوله تعالى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] هو خطاب للأولياء، وصدر الكلام خطاب(8/5086)
للأزواج.
وقال ابن زيد: ذلك من الزكاة.
ثم قال: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء}، أي: الزنا {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: تعففاً {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا}، أي: ليكسبن لكم من زنائهن.
وقيل قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} متعلق بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ * إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
ويقال: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، كانت له جاريتا: معاذة وزينب، وكانتا تردان عليه خرجاً من زنائهما، قبل أن يسلما، فلما دخلتا في الإسلام، امتنعتا من الزنا فكان يكرههما على الزنا، فنهى الله عن ذلك، وأعلم المكره إنه له غفور رحيم.(8/5087)
وقوله: {وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ومعاذة هذه أم خولة، وخولة هي التي جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، وفي ذلك نزل: {قَدْ سَمِعَ الله} [المجادلة: 1] الآية.
ويروى أن عبد الله بن أبي: أمر جاريته أن تزني فجاءته ببرد، فأمرها أن تعود إلى الزنا، فأنزل الله جل ذكره: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الآية.
وقال جابر: كانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها مسيكة، وكان يأمرها بالبغاء لتكسب له فنهى الله عن ذلك.
قال مجاهد: معناه: فإن الله للمكرهات من بعد إكراههن غفور رحيم.
وقيل إن معاذة وزينب جاريتا عبد الله بن أبي لما أسلمتا أتيا إلى النبي عليه السلام، فشكتا إليه أن مولاهما يكرههما على الزنا فنزلت الآية في ذلك.(8/5088)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
ومن قال: إن {فَكَاتِبُوهُمْ} ندب، و {وَآتُوهُمْ} حتم، وقف على {خَيْراً} ثم ابتدأ بالحتم بعد / تقدم الندب، لأنه ليس بمعطوف عليه لاختلاف معنييهما، وهذا قول الشافعي. قال: المكاتبة: ندب، ويجير السيد أن يضع عن عبده من المكاتبة.
ومن قال: هما واجبان لم يقف إلا على {آتَاكُمْ} لأن الثاني معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً: عنده الحتم.
ومن قال: كلاهما ندب لم يقف أيضاً إلا على {آتَاكُمْ} لأن الثاني أيضاً معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً الندب وهو مذهب مالك والثوري.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}، من كسر الياء من {مُّبَيِّنَاتٍ}.(8/5089)
فمعناه موضحات للأحكام والشرائع، لدلالة قوله: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} [التوبة: 64] فأضاف الفعل إلى السورة، والبيان في الحقيقة إلى الله جل ذكره، ولكن أضيف إلى السورة وإلى الآيات لعلم السامعين بالمراد، فمن كسر الياء جعل الآيات فاعلات، وأما من فتح الياء، فمعناه مفصلات، كما قال تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، ويدل على صحة قوله {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118]، فهي الآن مبينة، فالله جل ذكره هو الذي بينها كما قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118] فمنه فتح الياء جعل الآيات مفعولاً بها والفاعل هو الله، لأنه تعالى بيّنها وأظهرها، والكسر يدل على أن الايات فاعلات أي بينات لكم الأحكام والفرائض، والفاعل هو الله في المعنى في القراءة بالكسر على ما ذكرنا فافهم. والمعنى: ولقد أنزلنا إليكم دلالات وعلامات مفصلات أو موضحات، على ما تقدم من الفتح والكسر.(8/5090)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
وقوله تعالى ذكره: {مَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ}، أي مضوا قبلكم من الأمم.
{وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أي لمن اتقى الله فخاف عقابه.
قال تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض}.
قال أبو محمد: قد كثر الاختلاف في معنى هذه الآية ونحن نذكر ما بلغنا فيها.
قيل: المعنى: الله ذو السماوات والأرض مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقيل: معناه: الله هادي أهل السماوات والأرض قاله ابن عباس ثم استأنف فقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية، أي مثل هداه في قلب المؤمن كالكوة التي هي غير نافذة. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وذلك المصباح في زجاجة، الزجاجة صافية اللون كالكوكب الدري، يوقد ذلك المصباح من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء من غير نار لصفاه، الكوة التي هي غير نافذة أجمع للضوء فيها إذا كان فيها المصباح، والمصباح إذا كان في زجاجة كان أظهر(8/5091)
لضوئه، فإن كانت الزجاجة صافية اللون كان ذلك أظهر للضياء، وإذا كان الزيت الذي فيها صافياً، كان أظهر وأكثر للضوء، فذلك كله مبالغة للضياء والنور، فكذلك الهدى في قلب المؤمن. ومعنى هذا القول مروي: عن ابن عباس فهو مثل ضربه الله لنور الهدى والإيمان في قلب المؤمن.
وعن ابن عباس أيضاً، وعن مجاهد: {الله نُورُ السماوات والأرض}، أي مدبرهما: شمسهما وقمرهما ونجومهما.
وقال أبي بن كعب: بدأ الله بنوره وذكره، ثم ذكر نور المؤمن في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ}.(8/5092)
وقيل المعنى: مثل ما أنار الله من الحق بهذا التنزيل كمشكاة على هذه الصفة، فالهاء في نوره تعود على الله جل ذكره أي مثل هداه في قلب المؤمن وهو القرآن. والتقدير: الله هادي أهل السماوات بآياته البينات، مثل هداه وآياته التي هدى الله بها خلقه في قلوب المؤمنين، كنور هذا المصباح الموصوف بهذه الصفات. وهو قول ابن عباس الذي تقدم ذكره.
وقال: كعب الأحبار: النور هنا لمحمد، والهاء لمحمد عليه السلام والمعنى: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة، وكذلك روي عن ابن جبير. فيكون المعنى: الله هادي أهل السماوات والأرض ثم استأنف فقال: مثل نور محمد إذا كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة هذه صفتها، والمصباح عني به قلب محمد صلى الله عليه وسلم، شبه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة.
{المصباح / فِي زُجَاجَةٍ}، يعني قلبه في صدره كأنها كوكب دري أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة، {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} يعني به الزهرة(8/5093)
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، أي استنار نور محمد من نور إبراهيم، فإبراهيم هو الشجرة المباركة ومحمد عليه السلام على ملته ودينة، فمنه استنار ثم مثل الله. إبراهيم فقال: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي إن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب، فهو في الضياء مثل هذه الزيتونة التي لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا إذا طلعت فزيتها على هذا أطيب، وأصفى وأضوى.
وهذا التفسير قد روي من طرق وغيره أشهر وأكثر، وقد ذكرناه ونذكره أيضاً فيما بعد إن شاء الله.
وقال زيد بن أسلم والحسن: الهاء لله والتقدير: الله نور السماوات والأرض مثل نوره، ونوره القرآن أي مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة هذه صفتها.(8/5094)
وعن ابن عباس: إن النور هنا الطاعة سمى طاعته نوراً.
وقيل: الهاء تعود على المؤمن أي مثل نور المؤمن والذي في قلبه من الإيمان، والقرآن كمشكاة، قاله: أبي بن كعب. وقال ابن جبير والضحاك: {مَثَلُ نُورِهِ}، مثل نور المؤمن كمشكاة والمشكاة كل كوة لا منفذ لها.
وقيل: هو مثل ضربه الله لقلب محمد عليه السلام.
قال كعب الأحبار: المصباح قلب محمد في زجاجة الزجاجة صدره كأنها كوكب دري، شبه صدر النبي عليه السلام بالكوكب الدري، ثم(8/5095)
رجع في المصباح إلى قلبه فقال: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي لم يمسها شمس المشرق، ولا شمس المغرب {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء}، أي يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتميز للناس، ولو لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم يتمسه نار {نُّورٌ على نُورٍ}.
وقال ابن عباس: المشكاة كوة البيت.
وقال آخرون: عني بالمشكاة صدر المؤمن، والمصباح القرآن والإيمان والزجاجة قلبه. وهذا المثل ضربه الله للمؤمنين. هذا قول أبي بن كعب.
قال أبيّ: جعل القرآن والإيمان في صدر المؤمن كمشكاة، فالمشكاة صدره {فِيهَا مِصْبَاحٌ} المصباح القرآن والإيمان اللذان جعلا في صدره. {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، قال: فالزجاجة قلبه فيه القرآن والإيمان {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} قال: فمثل ما استنار فيه من القرآن والإيمان كأنه كوكب دري أي مضيء(8/5096)
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، فالشجرة المباركة أصله وهو الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي مثله كمثل شجرة التفت بها شجرة، فهي ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد ابتلي بها فثبته الله فيها فهو بين أربع خلال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
ثم قال تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ}، فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة: إلى الجنة.
وقال ابن عباس: {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هدى الله في قلب المؤمن.(8/5097)