ولا يفعل ما فعل في الأم والعم في غيرهما، لا يقال: يَابْنَ أَبِ ولا يَابْنَ أختِ، ولا شبهه، ولا يجوز الفتح إلا في الأم والعم، وذلك لكثرة الاستعمال.
وقرأ مجاهد ومالك بن دينار: " فَلاَ تَشْمَتْ بِيَ الأَعْدَاءُ "، بفتح " التاء " و " الميم "، ورفع: " الأعداء " بفعلهم، وهو مثل قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، أي: اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. فالمعنى: فلا تشمت من أجلي(4/2563)
الأعداء.
وحكى أبو عبيد عن حُمَيْد " تَشْمِتْ "، بفتح " التاء " وكسر " الميم ". ولا جه له؛ لأنه إنما يقال: " شَمِتَ " فإن سمع " شمت " بالفتح، فهي لغة من العرب، ولَمْ يَرُوْا ذلك.
ومعنى الآية: أن الله (تعالى) أعلم موسى (عليه السلام)، أنه قد فتن قومه، وأن/ السامري قد أضلهم، فرجع موسى غضبان على قومه أسفاً عليهم.
و" الأسف ": شدة الغضب.(4/2564)
وقال أبو الدرداء: " الأسف " منزلة وراء الغضب، أشد منه.
وقال السدي: " {أَسِفاً}: حزيناً.
وكذلك قال الحسن، وابن عباس.
ومن هذا قولهم للعبد: " أَسيفٌ "؛ لأن مقهور، وحزين مستعبد، وكذلك قيل للأجير: " أسِيفٌ ": لأنه مستخدم، ومخزون على استخدام الناس له.(4/2565)
قوله: {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي}.
أي: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم، في عبادتكم العجل.
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}.
أي: أسبقتم أمره؟ يقال: " عَجِلْتُ الرَّجُلَ ": سبقته، و " أَعْجَلْتُهُ ": استعجلته.
والفرق بين " العَجَلَة " و " السرعة "، أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أقل أوقاته.
{وَأَلْقَى الألواح}. أي: ألقاها غَضَباً على قومه.
ثم أخذ برأس أخيه يجره إليه غضباً. قاله ابن عباس.
[قال ابن عباس]: لما رجع موسى (عليه السلام)، إلى قومه، وصار قريباً منهم،(4/2566)
سمع أصواتهم، فقال: إنني لأسمع أصوات قوم لاهين، فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقال
{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92 - 93].
قال قتادة أخذ الألواح، وقال: رب، إني أجد في الألواح أمة (خير أمة) أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد قال: إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلُهُمْ في صدورهم يقرأونها، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فُضُول(4/2567)
الضَّلاَلَةِ، حتى يقاتلوا الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد قال: رب، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهمه، ثم يُؤْجَرُونَ عليها، [قال]: فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني إجد في الألواح أمة إذا هَمَّ أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عمَلِهَا كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك [أمة] أحمد! قال: رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، رب فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب [إني] أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفع لهم، فاجعلهم أمتي قال:(4/2568)
تلك أمة أحمد (قال): فذكر لنا أن نبي الله (عليه السلام)، نبذ الألواح وقال: الله اجعلني من أمة أحمد قال: فأعطى الله موسى شيئين لم يعطها نبي، قال الله: {ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144]، فرضي موسى (عليه السلام)، والثانية قوله: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، فرضي موسى (عليه السلام) كل الرضى.
ويروى أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستعة أسباعها، وبقي السبع، وكان فيما رفع: " تفصيل كل شيء ". وبقي: " الهدى والرحمة " في السبع الباقي.
قال مقاتل: كانت لوحين.
فيكون هذا مما جُمِعَ في مَوْضِعِ التَّثْنِية، كما قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، يريد:(4/2569)
داوود وسليمان. وله نظار قد ذكرت.
وقال الربيع بن أنس: كانت التوراة سبعين وسق بعير، يقرأ الجزء منها في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، وعيسى، وعُزَير، ويوشع عليه السلام.
[و] قال ابن جبير: كانت الألواح من ياقوتة.
وقال مجاهد: كانت من زُمَرُّدٍ أخضر.
وقال أبو العالية: كانت من زَبَرْجَدٍ.(4/2570)
وقال ابن عباس: لما تكسرت رفعت إلا سدسها.
وقال ابن جبير: كانت الألواح من زُمُرّدُ، فلما ألقى الألواح ذهب الفصيل، وبقي الهدى/ والرحمة، وهو قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154].
وقال الفراء: ذكر أنهما كانا لوحين.
وذك النحاس أنه قيل: إنما أخذ برأس (أخيه) هارون على جهة المسارة لا غيره، فكره هارون أن يتوهم من حضر أن الأمر على خلاف ذلك. فقال: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94].
وكان هارون أخاه لأُمِّهِ.(4/2571)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
وقيل: شقيقه.
{وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين}.
يعني: أصحاب العجل.
قوله: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي}، إلى قوله: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
والمعنى، قال موسى، لما تبين له عُذْرُ أخيه: {رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي}، أي: اغفر لي من الغضب الذي من أجله ألقيت الألواح، واغفر لأخي ما كان من مساهلته في بني إسرائيل؛ لأن هارون إنما تركهم بعد أن نهاهم ووعظهم ولم يطيعوه، فتركهم خشية غضب موسى (عليه السلام)، ألا ترى أنه قال له: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94].(4/2572)
وقيل: إنما استغفر لذنوب كانت قبل ذلك الوقت؛ لأن غضبه كان الله [عليه السلام]. وهارون إنما ترك بني إسرائيل خوفاً أن يتفرقوا وَيَتَحَازَبُوا.
وقيل: (بل) استغفر موسى من فعله بأخيه، واستغفر لأخيه من سَالِفٍ سَلَفَ بينه وبين الله، جل وعز.
ثم قال تعالى مخبراً عما يؤول إليه أمر الذين اتخذوا العجل إلاهاً: {إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ}، أي: اتخذوه إلاهاً.
قال ابن جريج: الغضب لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى، ولمن فرَّ إذ أمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، [وهي توبتهم].(4/2573)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
وقيل: الذلة: أخذ الجزية.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين}.
قال ابن عيينة: كلُّ صاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ.
وقيل الذلة: هو ما رأوه من ضلالتهم، وهو قوله: {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} [الأعراف: 149].
ثم قال تعالى: {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ}.
أي: من عمل كبيرة أو صغيرة ثم تاب، تاب الله عليه، كما تاب على متخذي العجل إلاهاً.
وقوله: {مِن بَعْدِهَا}، أي من بعد توبتهم، {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قوله: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب}، إلى قوله: {خَيْرُ الغافرين}.(4/2574)
قوله: {لِرَبِّهِمْ}.
قال المبرد " اللاَّم " متعلقة بمصدر، والمعنى: {والذين} وَهَبَتُهُمْ لِرَبِّهم.
وقال الكوفيون: هي زائدة.
وسمع الكسائي الفرزدق يقول: " نَقَدتُ لَهَا مِائةَ دِرْهِمٍ "، بمعنى " نَقَدْتُهَا ".
وحكى الأخفش: أن المعنى، والذين هم من أجل ربهم يرهبون.(4/2575)
والمعنى: ولّما سكن عن موسى (عليه السلام)، غَضَبُهُ.
يقال: سَكَتَ سَكْتاً، إذا سَكَنَ، وسَكَتَ سُكُوتاً وسُكْتاً، إِذَا قَطَعَ الكَلاَمَ.
{أَخَذَ الألواح}.
أي: أخذها بعدما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب.
وقيل المعنى: ولما سكت موسى، (عليه السلام)، عن الغضب، مثل: أدخلت القلنْسُوَةَ في رأسي.
{وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ}.(4/2576)
أي: فيما كتب منها هدى ورحمة، {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، أي: يخافون الله، (عليه السلام).
وقيل المعنى: في الذي وجد فيها بعدما تَكَسَّرَتْ هدى ورحمة.
وقال ابن كيسان: جُدِّدَت له في لوحين.
ثم قال تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا}.
قال السدي: أمر ( عز وجل) موسى (عليه السلام)، أن يأتيه في ناس [من] بني إسرائيل، يعتذرون من عبادة العجل، فاختار منهم سبعين رجلاً، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فإنَّك قد كلمته. فَأَرِنَاه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى، (عليه السلام)، يبكي ويدعو ويقول: ربِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم، وقد أهلكت خيارهم، ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيَّاي!
قال ابن عباس: لما مضوا معه ليدعوا ربهم، عز وجل، كان فيما دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله، عز وجل، ذلك من(4/2577)
دعائهم، فأخذتهم الرجفة.
قال/ الكلبي: قال السبعون لموسى (عليه السلام): يا موسى، إن لنا عليك حقاً، كنا أصحابك، ولم نختلف عليك، ولم نصنع الذي صنع قومنا، فأرنا الله جهرة كما رأيته. قال موسى (عليه السلام): لا والله ما رأيته، ولقد أردته على ذلك فأبى، وتجلى للجبل، فكان دكاً، وهو أشد مني، وخررت صعقاً، فلما أفقت سألت الله عز وجل، واعترفت بالخطيئة. فقالوا: فإنا لن نؤمنن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا من آخرهم. فظن موسى (عليه السلام) أنهم إنما احترقوا بخطيئة أصحاب العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}، يعني أصحاب العجل، ثم بعثهم الله، ( عز وجل) ، من بعد موتهم.
وروي عن علي أنه قال: انطلق موسى وهارون إلى صفح جبل فتوفى الله، ( عز وجل) هَارُونَ. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه(4/2578)
الله ( عز وجل) قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينهِ، قال: فختاروا من شئتم! فاختاروا سبعين رجلاً، فلما انتهوا إليه، قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكن توفاني الله، ( عز وجل) ! قالوا: يا موسى لن تعصى بعد هذا اليوم (أبداً)، فأخذتهم الرجفة.
فجعل موسى، (عليه السلام)، يرجع يميناً وشمالاً، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}، قال: فأحياهم الله، ( عز وجل) ، وجعلهم أنبياء كُلَّهُمْ.
قال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة، ونزل بهم البلاء؛ لأنهم لم يرضوا بعبادة العجل، ولا نهوا عنه.
والصحيح أن الرجفة إنما أخذتهم حين سألوا موسى، (عليه السلا)، أن يريهم الله جهرة.(4/2579)
قال ابن جريج: إنما أخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا العجل. وهو قول موسى، (عليه السلام)،: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}.
وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل.
قال السدي: كان موسى (عليه السلام)، يظن أن السبعين ممن لم يتخذ العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}، أي: بما فعل غيرنا، فأوحى الله، ( عز وجل) ، إليه، أنّ هؤلاء ممن عبد العجل، فعند ذلك، قال موسى (عليه السلام): {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ}.
وقيل: المعنى: أتهلك من بقي بما فعل هؤلاء السفهاء، إذ سألوا رؤية الله (سبحانه)، [جهرة]، وذلك أنه قال: لئن انصرفت إلى من بقي بغير السبعين(4/2580)
كفروا وهلكوا. فالسفهاء عل هذا، هم الذين كانوا معه، قال ذلك: بن إسحاق.
وقال ابن زيد المعنى: أتهلك هؤلاء السبعين بما فعل غيرهم ممن عَبَدَ العجل.
ومعنى {أَهْلَكْتَهُمْ}: أمتهم.
قال ابن كيسان: المعنى {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ}، أي: بذنبهم، إذ لم ينهوا عن عبادة العجل.
{وَإِيَّايَ}.
أي: بذنبي، إذ قتلت القبطي، فرحمتنا، ولم تهلكنا بذنوبنا نحن.
أفتهلكنا بذنوب الذين عبدوا العجل؟ أي: ليست تهلكنا بذلك.
وقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ}.
أي: [ما] هذه الفعلة التي فعلوا إذ عبدوا العجل، إلا فتنة منك أصابتهم.
و" الفِتْنَةُ ": الابتلاء والاختيار.(4/2581)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
وقال ابن جبير: {فِتْنَتُكَ}: بليتك.
وقال ابن عباس: عذابك.
{أَنتَ وَلِيُّنَا}.
أي: ناصرنا.
{فاغفر لَنَا}.
أي: استر ذنوبنا.
{وارحمنا}.
أي: تَعَطَّفْ عَلَيْنَا.
قوله: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ/ إِلَيْكَ}، الآية.
[والمعنى: إن الله أعلمنا أن موسى دعاه فقال: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً}،(4/2582)
وهي الصالحات من الأعمال، {وَفِي الآخرة}، أي: المغفرة.
قال ابن جريج: {حَسَنَةً}، مغفرة.
{إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ}.
أي: تبنا.
وقال علي: إنما سميت اليهود يهوداً؛ لأنهم قالوا: {هُدْنَآ إِلَيْكَ}.
قال الله، ( عز وجل) : { عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ}.
أي: كما أصبت هؤلاء أصيب من أشاء من خلقي بعذابي.
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
أي: عمت خلقي كلهم.
وقيل المعنى: إنَّه خُصُوصٌ، والمعنى: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة(4/2583)
محمد صلى الله عليه وسلم، { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}.
قال ابن عباس: جعل الله، ( عز وجل) ، الرحمة لهذه الأمة.
وروى سفيان: أن إبليس لما سمع: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، قال: أنا من " الشيء " فنزعها الله ( عز وجل) من إبليسن قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}، فقالت اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة، وتؤمن بآيات ربنا أفنزعها الله من اليهود، فقال: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي}، الآيات كلها. فجعلها في هذه الآمة.
قال الحسن: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، (وسعت) البَرَّ والفاجر في الدنيا، وهي للمتقين في الآخرة، وكذلك قال قتادة.
وروى أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن لله، ( عز وجل) ، مائة رحمة، أنزل منها(4/2584)
رحمةً واحدةً بَيْنَ الخَلْقِ، الجِنَِّ، والإِنْسِ والبَهَائِمِ والهَوَامَ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَأ يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَتَعَاطَفُ الوُحُوشَ عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعاً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ".
وقال عطاء: خلق الله ( عز وجل) ، مائة رحمة، فجعل رحمة واحدة بين خلقه، بما يتراحم الناس والبهائم والطير على أولادها، حتى إن الطير ليؤخذ على فراخه، وأخر تسعاً وتسعين رحمة لنفسه، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه الرحمة إلى التسع والتسعين فوسعت رحمته كل شيء.
وعن كعب أنه قال: ينظر الله، ( عز وجل) ، إلى عبده يوم القيامة، فيقول: خذوه، فيأخذه مائة ألف ملك حتى يتفتت في أيديهم، فيقول: أما ترحموننا؟ فيقولون: وكيف نرحمك؟ ولم يرحمك أرحم الراحمين. روى جميعه نُعَيْم بن حماد.(4/2585)
قال ابن زيد: معنى: اكْتُبْ "، أي: أكتب في اللوح الذي كتب فيه التوراة.
قال ابن عباس: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، أي: يتقون الشرك.
وقيل المعنى: يتقون المعاصي.
قال ابن عباس: {وَيُؤْتُونَ الزكاة}، أي: يعملون بما يُزَكُّونَ به أنفسهم من صالحات الأعمال.
وروى زيد بن أسلم: أن عيسى، عليه السلام، قال: يا رب، نبئني عن هذه الأمة(4/2586)
المرحومة، التي جعلت فيها من الخير ما جعلت، قال: هم يا عيسى علماء حكماء، كأنهم أبنياء.
وذكر زيد أيضاً: أن موسى، عليه السلام، قال: يا رب، نبئني عن هذه الأمة المرحومة، قال: أمة محمد، (عليه السلام)، قال: نعم، قال: (هم) يا موسى يرضون منّي بالقليل من العطاء إذا أعطيتهم، وأرضى منهم بالقليل من العمل، أدخل أحدهم الجنة، أن يقول: لا إله إلا الله.
قال النحاس في معنى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، أي: من دخل فيها، لَمْ تعْجِز عنه.
وقال ابن عباس: ومجاهد، وغيرهما: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، يعني أمة محمد، عليه السلام.
قال ابن جبير: لما قال الله، ( عز وجل) ، لموسى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، قال(4/2587)
موسى: يا رب، أتيتك بِوَفْدِ بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا! فأنزل الله ( عز وجل) ، { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
قال قتادة: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل}، أي: يجدون نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ.
{يَأْمُرُهُم بالمعروف}.
أي: يأمر أتباعه بالمعروف.
{وَ/يَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات}.
وهو ما حرمته العرب من: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث}.(4/2588)
" الخبائث " عند مالك في هذه الآية: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والزنا، والخمر، وشبه ذلك.
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}.
أي: عهدهم الذي كان أخذ على بني إسرائيل أن يعلموا بما في التوراة، قاله ابن عباس: والحسن، وغيرهما.
وقيل: هو ما أُلْزِمُوه مِن قَطْع ما أصابه البول.
وقوله: {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.
هو قول الله، ( عز وجل) : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم) ، لم تُغَلَّ يده.(4/2589)
وقيل: الأغلال إنما هو تمثيل، وهي أشياء كُلِّفوها فصارت إلى أعناقهم لازمة بمنزلة الأغلال.
{وَعَزَّرُوهُ}.
أي: وقَّروه، وحَمَوْه من النَّاس.
{واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ}.
أي: القرآن سمي نوراً؛ لأنه في البيان والاهتداء به، بمنزلة النُّور الذي يُهْتَدَى به.(4/2590)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وقرأ الجَحْدَري وعيسى: " وَعَزَرُوهُ "، مخففاً.
وروي عن ابي بكر عن عاصم: " وَيَضَعُ عَنْهُمْ أَصْرَهُمْ "، بفتح الهمزة، لغة.
قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، إلى قوله: {يَظْلِمُونَ}.
والمعنى: {قُلْ}، يا محمد: {يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، أي: لست كمن قبلي من الأنبياء الذين يبعثون إلى بعض الناس دون بعض.(4/2591)
{الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ}.
أي: وآياته.
وقيل: {وَكَلِمَاتِهِ}: عيسى ابن مريم، ( عليه الصلاة والسلام) . قاله مجاهد والسدي.
ثم قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}.
أي: يدعون الناس إلى الهداية بالحق.
{وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
أي: في الحكم.
وقيل: وبه يؤمنون.
و" الأُمَّةُ " هنا: الجماعة.(4/2592)
قال ابن جريج: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبيائهم، وكفروا، وكانوا اثني عشر سِبْطاً، تبرأ سبط منهم مما علموا، واعتذروا، وسألوا الله ( عز وجل) ، أن يُفَرِّق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك حُنفاء مسلمين، يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104].
و {وَعْدُ الآخرة}: عيسى بن مريم يخرجون معه. قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السَّرَب سنة ونصفاً.
وقيل: هم قوم في منقطع من الأرض، لا يوصل إليهم، آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم) ، وأقاموا الحنيفية كأنهم بنو أب وأم، ليس لأحد منهم مالٌ دون صاحبه، يُمطرون في كل ليلة، ويصحون في النهار، يزرعون ويحرثون، ليس يدخر أحد منهم دون أخيه شيئاً، مقيمين على عبادة الله ( عز وجل) ، لا يبكون على ميت.(4/2593)
وقيل في معنى: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}: أنه يكون هدى لمن آمن منهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم) ، ويكون لقوم قد هلكو.
ثم قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً}.
ف " أسباط " بدل من: {اثنتي عَشْرَةَ}. و {أُمَماً} نعت ل " الأسباط ".
و" الأسباط ": الفرق.
وقيل: هم القَرْنُ [الذي] يجيء بعد قَرْنٍ.
و" الأسباط " في ولد إسحاق، (عليه السلام)، بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل.
و" الأَسْبَاطُ ": مأخوذ من: السَّبط "، وهو شيء تَعْتَلِفُهُ الإبل، فكأن إسحاق (عليه السلام)، / بمنزلة شجرة، والأولاد بمنزلة أغصانها، فشُبّهَ ذلك(4/2594)
ب " السَّبَط ".
وإنما أنث في {اثنتي}؛ لأن " الأسباط " في موضع الفرقة؛ فكأنه: اثْنَتَيْ عشرة فرقة.
وقيل المعنى: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة أسباطاً.
وقال بعض الكوفيين: إنما أُنِّثَ؛ لأن الكلام ذهب (به) إلى " الأمم "، فغلّبَ التأنيث، كما قال:
وَإِنَّ كِلاَباً هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ بِرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِها العَشْرِ
فأنَّث ذهب بـ " البطن " إلى القبيلة.(4/2595)
وقال بعضهم: " إنما أنث لذكر " الأُمَمِ " بعد ذلك.
وقيل: المعنى: وقطعناهم قطعاً اثْنَتَي عَشْرَةَ، فأنث لتأنيث " القطعة "، ودل على ذلك: " قَطَعْنا ".
و" أسباط " ليس بِتَفْسير للعدد؛ لأن حق هذا أن يفسر بواحد؛ وإنما هو بَدَل.
ثم قال: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ}.
أي: لما فرقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسباطاً، أوحينا إليه إذا عطشوا، {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر}، وقد تقدم ذكر ذلك في البقرة.
{فانبجست}.(4/2596)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
أي: انفجرت.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}.
أي: لا يدخل سبط على سبط في شربه.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام}.
يعني: من حر الشمس، وذلك في التِّيهِ، وقد تقدم ذكر هذا في البقرة.
قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية}، إلى قوله: {يَظْلِمُونَ}.
قال الفراء، والكسائي: " خَطَايَا " جمع خَطِيَّة، على ترك الهمز، ك: " مَطِيَّة "، و " وَصِيَّة ".
وقال المازني: هي " فَعائِل "، أصلها همزتهان فأبدل من الثانية ياء، فأشبهت مضيف " الخطايا " إلى نفسه، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا فصارت:(4/2597)
" خطاءا "، والهمزة أخت الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فأبدل من الهمزة ياء، فصارت: " خطايا ".
ولسيبويه والخليل قول مشهور قد ذكر في غير هذا الموضع.
والأصل عند الفراء في " مَطِيَّة " و " وَصِيَّة " أن يجمع على: فَعَائِل "، إلا أنه لو جمع على ذلك للزم حذف الياء، فيصير ك: " غَوَاشٍ " فتختل، فنُقل جَمعُهُ إلى " فَعَال "، فردت اللام قبل الياء الزائدة وفتح، ك: " أسير " و " اسارى "، ثم أجرى هذه العلة في " خطية ".
ومعنى الآية: إن الله، جلّ ذكره، يقول لنبيه، (عليه السلام): واذكر، يا محمد، خطأ فعل هؤلاء وخلافَهُم لأمر ربهم، حين قال لهم [الله]: {اسكنوا هذه القرية}، وهي قرية بيت المقدس، {وَكُلُواْ مِنْهَا}، أي: من ثمارها وحبوبها ونباتها، {حَيْثُ شِئْتُمْ}، أي: أين شئتم منها.
وقوله: {حِطَّةٌ}.(4/2598)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
أي: حط عنا ذنوبنا، {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم}، أي: يستر ذنوبكم، {سَنَزِيدُ المحسنين}، أي: نزيدهم على ما وعدتهم من الغفران.
(قوله): {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ}.
أي: غَيَّروا ما أُمروا أن يقولوا. قيل لهم: قولوا: {حِطَّةٌ}، قالوا: " حنطة في شعير "، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء}، أي عذاباً، فأهلكناهم بفعلهم وتغييرهم وفسقهم.
وقيل: هو طاعون أخذهم، فهلك خَلقٌ مِنْهُمْ. وقد ذكر في البقرة.
قوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر}، إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
قوله: {إِذْ يَعْدُونَ}.(4/2599)
{إِذْ}: في موضع نصب بالسؤال، أي: واسألهم عن وقت عدوانهم.
{وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ}.
أضيف الظرف عند سيبويه لكثرة الاستعمال.
وهو عند المبرد مضاف إلى المصدر محمول على المعنى.
وهو عند الزجاج على الحكاية.
والعامل في الظرف الفعل الذي بعده.
ومعنى الآية: واسأل، يا محمد، هؤلاء اليهود الذين يجاورونك، عن أَمْرِ {القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر}.
أي: بقربه/ وشاطئه.(4/2600)
قال الكلبي: ذكر لنا أنهم كانوا في زمن داود، (عليه السلام)، وهي: أَيْلَةَ، وهو مكان كان تجتمع فيه الحيتان في شهر من السنة كهيئة العيد، يأتيهم منها حتى لا يرى الماء، وتأتيهم في غير ذلك من الشهور في كل سبت كما تأتيهم في ذلك الشهر، فلا يمسوا منها شيئاً. فعمد رجالٌ من سفهاء تلك القرية، فأخذوا الحيتان ليلة السبت ويوم السبت، فملحوا وباعوا، ولم ينزل بهم عقوبة، فاستبشروا، وقالو: إنا نرى السبت قد حُلَّ، وذهبت حرمته، إنما كان يعاقب به آباؤنا، فعملوا ذلك سنين، حتى أثرَوْا وتزوجوا النساء، واتخذوا الأموال. فمشى إليهم طوائف صالحون فوعظوهم، وقالوا: يا قوم، انتهكتم حرمة سبتكم، ووعظوهم فلم يتعظوا.
وسؤاله، ( صلى الله عليه وسلم) ، إياهم إنما كان على جهة التقرير لهم والتبكيت، ويذكرهم(4/2601)
بقديم كفرهم وفسقهم، وقد كان الله ( عز وجل) ، أعلمه بأمر القرية.
قال ابن عباس، وعكرمة هي: " أيلة "، وكان ذلك في زمن داود (عليه السلام)، وكذلك قال السدي، وغيره.
وقال قتادة: هي ساحل مَدْيَنَ.
[قال ابن زيد: هي قرية] يقال لها " مَقْنَا "، بين مدين وعَيْنُوناً.
وقال ابن شهاب: هي: طَبَرِيَّة.(4/2602)
وعن ابن عباس أيضاً: أنها مَدْيَنَ.
وأما قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} [يس: 13]، فأكثرهم على أنها أنطاكية.
ومعنى: {إِذْ يَعْدُونَ [فِي السبت]}.
أي: [إذا] يعتدون إلى ما حرم الله، ( عز وجل) .
[ و " العُدْوَانُ ": التجاوز إلى ما حرم الله].
وكان الله تعالى ذكره، قد حرم عليهم السبت، فكانت الحيتان تقل في سائر الأيام، وتكثر في يوم السبت. ابتلاهم الله، (تعالى)، بذلك فاصطادوا فيه وتركوا(4/2603)
ما حرم الله عليهم، فتجاوزوا الحق، فكانت تأتيهم يوم سبتهمه، {شُرَّعاً}، أي: ظاهرة على الماء.
وقال ابن عباس {شُرَّعاً}: من كل مكانٍ.
يقال: سَبَتَ يَسْبِتُ: إذا استراح.
وقرأ الحسن: " ويَوْمَ لاَ يُسْبِتُونَ "، بضم الياء، من: " أَسْبَتَ القَوْمُ "، إذا دخلوا في السبت.
ورُوي ذلك عن أبي بكر عن عاصم، كما يقال: " أهلَلْنَا "، دخلنا في الهلال، و " أَجْمَعْنا " مرت بنا جمعة.
{كَذَلِكَ نَبْلُوهُم}.(4/2604)
أي: نختبرهم.
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أنه دُخِلَ على ابن عباس، وبين يديه المصحف، وهو يبكي، وقد أتى على هذه الآية {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} [الأعراف: 165]، الآية. فقال: قد عَلِمْتُ أن الله تعالى، أهْلَكَ الذين أخذوا الحيتان، ونَجَّى الذين نَهَوْهُمْ، ولا أدري ما الذي صنع بالذين لَمْ يَنْهَوْا، ولم يُواقِعُوا المعصية.
قال الحسن: وأي نهي يكون أبين من أنهم أثبتوا لهم الوعيد، وخوّفوهم العذاب، فقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}.
{لاَ تَأْتِيهِمْ}، وقف، عند نافع، والأخفش.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ}.
أي: واذكر، يا محمد، إذ قالت طائفة من أهل [هذه] القرية، إذ ظهر من أكثرهم ما يُنْكَرُ عليهم، فأنكر ذلك طائفة، فقالت هذه الطائفة التي حكى الله عنها، للطائفة التي أنكرت ما يجب أن ينكر: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} سيلحقهم أحد هذين: العَذَابُ،(4/2605)
أو الهَلاَكُ، قالت الطائفة التي أنكرت: {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فمن رفع: {مَعْذِرَةً} فتقديره: قالوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ، أي: إنما يجب علينا أن نأمر بالمعروف، [وننهى عن المنكر]، و {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وَعَظْنَاهُمْ.
ومن نصب: فعلى المصدر، كأنهم قالوا: اعتذاراً.
وقيل: النصب على تقدير: فَعَلْنَا ذَلِك/ مَعْذِرَةً.
وَرُوِيَ وجها النصب عن الكسائي.
وفرَّق سيبويه بين الرفع والنصب، واختار الرفع، قال: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا من أمر لِيُموا عليه، ولكنّهم قيل لهم: لم وعظتم؟ فقالوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرةٌ.(4/2606)
ولو قال رجل لرجل: مَعْذِرَةً إِلَى اللهِ، ثُمَّ إِلَيْكَ مِنْ كَذَا، يريد: اعْتِذَراً، لَنصَبَ؛ لأنه إنما اعتذر من أمر ليمَ عليه.
والمعنى: واذكر، يا محمد، {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ}، أي: جماعمة الجماعة، كانوا ينهون أهل المعصية عن معصيتهم، {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً}، قال الذين كانوا يعظون: عظتنا معذرةٌ إلى ربكم، نؤدي بذلك فرضه عليها، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَعَظْنَاهُم.
قال ابن عباس: كلا الطائفتين كانت تنهى الباقين عن المنكر، فلما طال ذلك، قالت إحدى الطائفتين للأخرى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}، فلما نزل العذاب نجبت الطائفتان: التي قالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} والتي قالت: {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ}، وأهلك الله، ( عز وجل) ، أهل المعصية، فجعلهم قردة وخنازير.
قال السدي: قال الواعظون: بعضهم لبعض: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}.(4/2607)
وروي عن ابن عباس، وغيره، أنه قال: كانوا أثلاثاً، ثلث نَهَوْا، وثلث قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ}، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نَهَوْا. قال الله ( صلى الله عليه وسلم) : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} [الأعراف: 165].
ورُوِيَ عنه أنه قال: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، وما أدري ما فعلب بالساكتين.
وقال الكَلْبِي هم فرقتان: فرقة وعظت، وفرقة قالت: {لِمَ تَعِظُونَ}، وهي المَوْعُظَةُ.
وذلك أن الخاطئة لما كثر عليها الوعظ، قالت: للواعظين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} على قولكم. وقد مضى من ذكر هذا في البقرة جملة.
وقال الكلبي: كانوا فرقتين: قالت الصالحة للطالحة: يا قوم، انتهكتم حرمة سبتكم، وعصيتم ربكم، وخالفتم سنة نبيكم، فانتهوا عن هذه العمل قبل أن ينزل بكم العذاب. قالت الطالحة: فلم تعظوننا إذا كنتم علمتم أن الله، ( عز وجل) ، مهلكنا،(4/2608)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
وإن أطعتمونا لتفعلن كالذين فعلنا، فقد فعلناه منذ سنين، فما زادنا الله بذلك إلا خَيْراً. قالت الصالحة: ويلكم، لا تَغْتروا، [ولا] بأس الله، (سبحانه)، فكأنه نزل بكم، قالت لهم الطالحة: ف {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}، الآية.
فهم فرقتان على قول الكلبي. وثلاث فرق على قول أكثر المفسرين.
قوله: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ}، إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
والمعنى: فلما تركت الطائفة التي نهيت عن السؤ، ما أمرها الله ( عز وجل) به من ترك الاعتداء.
وقيل: نسوا موعظة من وعظهم من المؤمنين، {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء(4/2609)
وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، أي: وجيع أليم. قاله ابن عباس.
وقيل: {بَئِيسٍ}: رديء.
وقال مجاهد {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}: أليم شديد.
وقال قتادة {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}: موجع.
وقال ابن زيد {بَئِيسٍ}: شديد.
قوله: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ}.
أي: تجاوزوا وتمردوا. و " العاتي ": المتمرد المتجاوز في الحق.(4/2610)
{عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ}، [أي]: عن اعتدائهم في السبت، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً}، فصاروا قردة، {خَاسِئِينَ}، [أي]: مبعدين. وذلك في زمن داود، (عليه السلام)، وهو قوله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ} [المائدة: 78]، صاروا قردة كلهم، ومسخوا في زمن عيسى (عليه السلام)، خنازير، فذلك قوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78].
/ قال ابن عباس: صار شباب القوم قردة، وشيوخهم خنازير.
يقال: خَسَأْتُ الكلب: أبعدته وطردته.(4/2611)
وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ (كُونُواْ)}.
جائز أن يكون أُمِرُوْا بذلك، فيكون أبلغ في الآية والقُدرة. وجائز أن يكون من قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
ثم قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة}.
روى الأصبهاني عن أصحابه عن ورشٍ: (تأذَّنَ)، بتسهيل الهمزة.
والمعنى: واذكر، يا محمد، إذا أعْلَمَ رَبُّك.
فمعنى {تَأَذَّنَ}: أَعْلَمَ والعرب تقول: " تعلم " بمعنى " أعلم ".
وقال مجاهد {تَأَذَّنَ}: قال.(4/2612)
وقال قتادة {تَأَذَّنَ رَبُّكَ}: أمر ربك.
ومعنى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ}.
أي: ليبعثن على اليهود {مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب}، وهو قتلهم إن لم يؤدوا الجزية، وذلتهم إن ودوها.
قال ابن عباس: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمته، إلى يوم القيامة.
قال ابن المُسَيَّب: يستحب أن يبعث الأنباط في الجزية.
{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب}.
أي: لمن استوجب منهم العقوبة.
{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أي: لسائر ذنوب من تاب، متعطف عليه.(4/2613)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون}، إلى قوله: {المصلحين}.
روى أبو بكر عن عاصم: " وَقَطَعْنَهَمْ "، بالتخفيف.
والمعنى: وفرقنا بني إسرائيل في الأرض {أُمَماً}، أي: جماعات شتى. ففي كل أرض قوم من اليهود، {مِّنْهُمُ الصالحون}، أي: منهم من يؤمن بالله ورسله، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك}، وصفهم بهذا قَبْلَ كُفْرِهِمْ وارتدادهم عن دينهم، وقَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ عِيسَى (عليه السلام).
{وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات}.
أي: بالرخاء، والسعة في الرزق، {والسيئات}، بالجدب والمصائب، أي: اختبرناهم بذلك، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى طاعة الله (عزو جل).
قوله: {أُمَماً}، وقف.
و {دُونَ ذلك}، وقف.(4/2614)
و {والسيئات}، وقف.
ثم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}.
أي: حدث من بعدهم خَلْفُ سُوْءٍ، يعني: أبناءهم.
و" الخَلْف ": الرديء من القول، ومن الأنباء، يقال للواحد والاثنين والجميع، بلفظ واحد.
ويقال في المدح: " هذا خَلَف صِدْقٍ "، بتحريك اللام، ولَزِمَ تسكن اللام فيه، هذا الأشهر.
وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح، قال حسان:(4/2615)
. . .، وَخَلْفُنَا ... لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تابعُ
والخَلَفُ السُّوْءِ، مأخوذ من قولهم: " خَلَفَ اللَّبَن "، إذ حمض حتى فسد، ومن قولهم: " خَلَفُ فَمِ الصَّائِمِ "، إذا تغير ريحه.
وقال مجاهد: " الخَلْف " في الآية يراد به النصارى بعد اليهود.
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى}.
يعني الرشوة على الحكم في قول الجميع.
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}.
يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه مغفور، لا نؤاخَذُ به.
والثاني: أنه ذنب، لكن الله قد يغفره لنا، تأميلاً منهم لرحمته.(4/2616)
وهو ما عَنَّ لهم من عرض الدنيا حلالاً كان أو حراماً، يأخذونه ويتمنون المغفرة، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}، وإن وجدوا بعده مثله، أخذوه، فهم مُصِرُّونَ على أخذه، وإنما يتمنى المغفرة من أَقْلَعَ عن الذنب، فلم يعد إليه، ولاَ نَوَى الرجوع إلى مثله.
قال ابن جبير: يعملون بالذنب ثم يستغفرون منه، فإن عرض لهم ذنب رَكِبُوه.
و" العَرَضُ " عنده: الذنوب.
قال السدي: كان بنو إسرائيل لا يَسْتَقْضُونَ قَاضِياً إِلاَّ ارْتَشَىِ في الحُكْمِ، فيقال له في ذلك، فيقول: {سَيُغْفَرُ لَنَا}، فيطعن عليه بقية بني إسرائيل. فإذا مات جعل مكانه رجل ممن كان يعطن عليه، فيرتشي، أيضاً، ثم لاَ يَثُوبُونَ.
قال ابن زيد: يأتيهم المحق برشوة، فيخرجون له كتاب الله، ثم يحكمون له بالرشوة/ فإذا جاءهم الظالم بالرِّشوة، أخرجوا له الكتاب الذي كتبوا بأيديهم،(4/2617)
وقالوا: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ ميثاق الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}، وهو عَرَضُ الدنيا، هو الرُّشَى في الحكم، فيحكمون له بما في الكتاب، فهو [في كتابهم]، محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله ( عز وجل) :
{ هذا [مِنْ عِنْدِ الله] لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79].
المعنى: ألم يؤخذ عليهم الميثاق، ألا يعملوا إلا بما في التوراة، و {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق}.
[قال ابن عباس: {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق}، يعني [فيما] يوجبون به من غفران ذنوبهم التي هم عليها مصرون.
وقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}.
معناه: ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه، فَنَبَذُوهُ، وعملوا بخلاف ما فيه.(4/2618)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
وقال ابن زيد: علَّموه، فَعَلِمُوا ما فيه.
ثم قال: {والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
أي: ما فيها من النعيم.
قوله: {يَأْخُذُوهُ}، وقف.
وكذا: {إِلاَّ الحق}.
وكذا: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}.
ثم قال: {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب}.
أي: يعملون بما فيه التوراة، {وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين}، [ي: أجر المُصلِحِ منهم].
قوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} الآية.(4/2619)
والمعنى: واذكر يا محمد، {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل}، أي: اقْتَلَعْنَاهُ فرفعناه [فوق] بني إسرائيل.
وقيل: نَتْقَنَاهُ ": زعزعناه.
{كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}.
أي: غَمَامَةٌ.
و" الكاف " من {كَأَنَّهُ}، في موضع نصب على الحال، أي: نتقناه مُشْبِهاً الظلة، أي: في هذه الحال.
ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محمول على المعنى.
أو يكون خبر ابتداء محذوف، [أي]: هو {كَأَنَّهُ [ظُلَّةٌ]}.
{وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.(4/2620)
أي: أيقنوا بذلك، إذ هو فوق رؤوسهم.
{خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ}.
أي: وقيل لهم: خذوا ما في الكتاب من الفرائض بجدٍّ وَعَزْمٍ، ولا تقصروا في أداء فرائض الله ( عز وجل) ، التي فيه، وإلاَّ خَرَّ عليكم الجبل فأهلككم فقالوا: بل، نأخذه بقوة، أي: بجد وعزم، ثم نَكَثُوا بعد ذلك. هذا قول ابن عباس.
قال ابن عباس: إني لأعلم لأي شيء سجدت اليهود على حَرْفِ وُجوههم: لما رفع الجبل فوقهم سجدوا، وجعلوا ينظرون إلى الجبل بِشقِّ وجوههم، خوفاً ان يقع عليهم. قال: وكانت سجدةً رضيها الله ( عز وجل) ، فاتخذوها سُنَّة.
قال قتادة: نزع الله ( عز وجل) ، الجبل من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، وقال: لتأخُذَنَّ أمري، أو لأرمينّكم به.(4/2621)
وقال ابن جريج: كانوا قد أبَوْا أن يقبلوا التوراة.
وروى حجاج عن أبي بكر بن عبد الله أنه قال: لما قيل لهم: اقبلوا ما في التوراة، قالوا: انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة، قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها، قالوا: حتى نعلم ما فيها، فراجعوا موسى (عليه السلام)، مراراً فأوحى الله، ( عز وجل) ، إلى الجبل فانقلع وارتفع في السماء، حتى إذا ان بين رؤوسهم وبين السماْ، قال لهم موسى (عليه السلام): ألا ترون ما يقول ربّي عز جل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها رميتكم بهذا الجبل.
قال الحسن البصري: لما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منههم ساجداً على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه/ اليمنى إلى اجبل، فَرَقاً أن يسقط عليه، فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفعت عنَّا بها العقوبة. قال أبو بكر بن عبد الله: لما نشر موسى (عليه السلام)، الألواح فيها كتاب(4/2622)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
الله عز وجل، كتبه بيده ويده صفة له، لا يد جارحة، تعالى الله أن يوصف بجارحة، إذْ ليس كمثله شيء، لمي يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر، (ولا شيء) إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على الأرض من صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه.
وقيل: كان نَتْقُ الجبل أنه قُطِع منه شيء على قدر عَسْكَر موسى (عليه [السلام])، فظلل عليهم، وقال لهم موسى (عليه السلام)، إمَّا أن تقبلوا وإمَّا أن يسقط عليكم.
قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، الآية.
حجة من قرأ " ذُرَّيَّات " بالجمع، أنها الأعقاب المتناسبة الكثيرة.(4/2623)
ومن قرأ {ذُرِّيَّتَهُمْ}، بالتوحيد، قال: إنها قد أُجْمِعَ عليها في قوله: {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} [مريم: 58]، ولاشيء كثر من ذريته ( صلى الله عليه وسلم) ، فدلت على الكثير بنفسها.
ومعنى الآية: واذكر، يا محمد، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ}، أي: استخرج الأبناء من أصلاب الآباء، فقررهم بتوحيده، وأشهدهم على أنفسهم بإقرارهم، أي: أشهد بعضاً على بعضٍ بالإقرار بالتوحيد.
قال ابن عباس: أخذ الله، ( عز وجل) ، اليثاق من ظهر آدم (عليه السلام)، بنَعْمَان يعني: عرفة، فأخرج من صلبه كل ذريته، فَنَثَرهُم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلمهم قَبَلاً، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، فأشهد بَعْضَهُمْ على بعضٍ(4/2624)
بذلك الإقرار.
وقال الضحاك: إن الله (سبحانه)، مسح صلب آدم، (عليه السلام)، فاستخرج منه كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق: أن يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئاً، وتكفَّل لهم بالأَرْزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذٍ فمن أدرك منهم الميثاق (الآخر) فَوَفَى به، نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك (الميثاق) الآخر فلم يفِ به، لم ينفعه الأول، ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة. رَوَى ذلك عن ابن عباس.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتَّى يكُونَ أَبَوَاهُ اللَّذَانِ يُهوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ ".(4/2625)
والميثاق الأول، هو: ما أخذه الله، ( عز وجل) ، عليهم إذ أخرجهم من ظهر آدم، (عليه السلام).
والميثاق الآخر، هو: قبول فرائض الله، (سبحانه)، والإيمان به، وبرسالة النبي عليه السلام، وبما جاءت به الرسل.
وروى ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أُخذوا من ظهره، كما يُؤْخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى}، قالت الملائكة: {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} ".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: " إن الله جلَّ وعزّ، خلق آدم (عليه السلام)، ثم مسح ظهره بيمينه، (سبحانه)، فاستخرج منه ذرية، فقال: " خلَقْتُ هَؤلاَءِ لِلْجَنَّة، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَّنَةِ يَعْمَلُونَ ". ثم مسح ظهره فاستخرج منه(4/2626)
ذرية، فقال: " [خَلَفْتُ] هَؤُلاَءِ لِلنّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ ".
فقال/ رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال: إن الله (تعالى)، إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخِلُهُ الجَنَّةَ. وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْنَّارِ، اسْتَعَمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيُدْخِلُهُ النَّارِ ".
وقيل معنى: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ}، دلهم على توحيده؛ لأن كل بالغٍ سالمٍ من العاهات، يَعْلَمُ ضرورةً أنَّ لَهُ رَبّاً واحِداً.
وقيل: إنَّ الآية مَخْصُوصَةٌ؛ لأنه قال: {مِن بنيءَادَمَ}، فخرج من هذا من كان من ولد آدم (عليه السلام)، لصلبه وقال (الله) عز وجل: { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ}، فخرج منها كل من له آباء مشركون.
وقال أُبَيُّ بن كعب: جمعهم جميعاً، فجعلهم أَزوَاجاً، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى}؛ أنَّكَ رَبَّنَأ وإلهَنَا، لا رب لنا غيرك، ثم أخبرهم بما ينزل عليهم من كتاب وما يرسل إليهم من الرسل، وأمرهم أن يؤمنوا بذلك.(4/2627)
ومن قرأ بـ: " الياء " في: {[أَن] تَقُولُواْ}،
{أَوْ تقولوا}، رده على: {ظُهُورِهِمْ}، و: {ذُرِّيَّتَهُمْ} و {وَأَشْهَدَهُمْ}، وبعدها، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. فلما جرى الكلام قَبْلُ وَبَعْدُ على لفظ الغَيْبَة، أجرى وسطه على ذلك.
ومعنى الكلام: أنهم لما أقروا، قال الله عزّ وجل، للملائكة: " اشْهَدُوا "،
قالت الملائكة: {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}.
ومن قرأ: بـ: " التاء " ردّه على المخاطبة في قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، وهي أقرب من لفظ الغَيْبَة إلى: {تَقُولُواْ}.(4/2628)
قال أُبيُّ بن كعب: ولما أخرج الله ( عز وجل) ، الذرية كانت الأنبياء، (صلوات الله عليهم)، فهم مِثْلُ السُّرُوج، عليهم النور، فخصوا بميثاق آخر: الرِّسَالَةِ والنُّبوَّةِ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7]، الآية. فكان في علمه من يكذّب الأنبياءَ ومن يصدِّق. قال: وكان روح عيسى ابن مريم، (عليه السلام)، تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد، فأرسل الله، ( عز وجل) ، إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. قال الله جلّ وعزّ. {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17]. قال: فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى، (عليه السلام).
قال ابن جبير: فكانوا يُرَوْنَ أن القلم يومئذٍ جَفَّ بِمَا هَوَ كَائِنٌ.(4/2629)
قال ابن جبير: فكانوا يُرَوْن أن القلم يومئذٍ جفّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ.
ومعنى: {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ}، عند السدي: أنه خبر من الله، ( عز وجل) ، عن نفسه (تعالى)، وملائكته، بالشهادة على بني آدم، كيلا {تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}.
والوقف على هذا القول {بلى}.
وقال ابن عباس: المعنى، إن بضعهم شهد على بعض.
فالمعنى: {قَالُواْ بلى} شهد بعضنا على بعض كيلا {تَقُولُواْ(4/2630)
يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}، أي: كل بعض يقول: شهدنا على البعض الباقي، كيلا يقولوا: كذا.
{أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ}: وابتعناهم، {أَفَتُهْلِكُنَا}، بإشراك آبائنا واتباعنا منهاجهم على جهل منا؟
فالوقف على قول ابن عباس: {المبطلون}.
و {بلى} وقف عند نافع، والأخفش، وأبي حاتم، وغيرهم.
وهذا يدعل على أنَّ الشهادة كانت من الله ( عز وجل) ، وملائكته على المُقِرِّنَ. وهو قول مجاهد، والضحاك، والسدي. وهذا حسنٌ على قراءة [من قرأ] بـ: " التاء "، فيكون {شَهِدْنَآ}، ليس من كلام الذين قالوا: {بلى}.(4/2631)
ومن قرأ: بـ: " الياء " فأكثر أهل العربية يقولون: [{أَن تَقُولُواْ} متعلقة بـ: {وَأَشْهَدَهُمْ}، والمعنى: وأشهدهم على أنفسهمه كراهة] {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا/ غَافِلِينَ}، فالتمام (على هذا): {المبطلون}.
وقال ابن الأنباري والسجستاني {بلى شَهِدْنَآ}، التمام، وهو غلط؛ لأنّ {أَن} متعلقة بـ: {أَشْهَدَهُمْ} أو بـ: {شَهِدْنَآ} على قراءة من قرأ بـ: " الياء ".
فأما على تفسير ابن عباس: أن المعنى: [و] شهد بعضهم على بعض، فالتمام: {المبطلون} لأن {شَهِدْنَآ}، من قول الذين قالوا: {بلى}.(4/2632)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
ومعنى: {أَفَتُهْلِكُنَا}، أي: لست تفعل ذلك.
(وقوله): {وكذلك نُفَصِّلُ [الآيات]}.
" الكاف ": في موضع نصب. والمعنى: وكما فصلنا، لقومك، يا محمد، آيات هذه السورة، كذلك نفصل الآيات غيرها فنبيِّنها لقومك، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى الإيمان.
قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}، إلى قوله: {يَتَفَكَّرُونَ}.
والمعنى: {واتل}، يا محمد، عليهم: {نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}، وهو رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن باعر، (أعطي: معرفة اسم الله [الأعظم]. وقيل: أُعْطِيَ النبوة.(4/2633)
قال ابن عباس: بُلْعَم بن بَاُعُور.)
وقال ابن جبير: كان معه اسم الله، فسألوه أن يدعوَ على موسى وأصحابه ألا يدخل مدينتهم، فأبى، فخوفه الملك بالقتل والصلب والتحريق، فدعا، فاستجاب الله له، فلم يصل موسى، (عليه السلام)، إلى دخولها، ودعا موسى عليه أن ينسيه الله، ( عز وجل) ، اسمه الذي يدعو به، فأنساه الله، ( عز وجل) ، إياه، وَنَزَلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ.
قال ابن عباس: كان من مدينة الجَبَّارِينَ.
وقيل عنه: كان من اليمن.(4/2634)
وقيل: هو أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت الثقفي، كان قد قرأ الكتب، وعرف الوقت الذي يبعث فيه محمد ( صلى الله عليه وسلم) ، ويخبر الناس بذلك، فلما بعث، حسده وكفر به، وقال: والله ما كنت لأؤمن بنبيٍ من غير قومي ثقيف أبداً.
وقال عكرمة: هو من كان منافقاً من أهل الكِتَابَيْن.
قال الحسن: هو المنافق.
وقال الأنصار: هو الراهب الذي بني له مسجد الشِّقَاقِ.(4/2635)
قال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه.
قال ابن عباس: أعطي كتباً من كتب الله.
وقال مجاهد: أوتي النبوة، فَرَشَاهُ قومه على أن يَسْكُتَ، ففعل، وتركهم على ما هم عليه.
وكذلك قال المعتمر بن سليمان عن أبيه.
وهو قول مردود؛ لأن النُّبُوَّةَ لاَ يَكُونُ حَامِلُهَا قَابِلاً لِلْرِّشْوَةِ فِيهَا، يُعيذ اللهُ الأَنْبِيَاءَ مِنْ ذَلِكَ. وهذه كبيرة عظيمة، وكل الناس على أن الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبَائِرِ، فغير جائز هذا القول الذي رُوِيَ عن مجاهد، والمعتمر.(4/2636)
وروى سيار عن مالك [بن دينار، أنه قال]: بعث نبي الله موسى، (عليه السلام)، بَلْعَام، وكان مجاب الدعوة، إلى ملك مدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى. ففيه نزلت هذه الآية: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}.
وقال السدي: أعطي اسم الله الأعظم.
وروي ذلك عن ابن عباس.
قال ابن عباس: لما نزل موسى عليه السلام بالجبارين، سأل الجبارون بَلْعَم بن (باعُور) أن يدعو على موسى، فقال لهم: إني إن دعوت عليه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليه، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله:(4/2637)
{فانسلخ مِنْهَا}.
وعن ابن عباس، {فانسلخ مِنْهَا}: نُزعَ منه العلم.
{فَأَتْبَعَهُ الشيطان}.
أي: أدركه. يقال: " أَتْبَعَه ": إذا أدركه. و: " تَبِعَه ": / إذا سار في إثره. هذا الجَيِّدُ.
وقيل: هما لغتان.
وقيل: معنى: " أَتْبَعَه ": صَيَّره لنفسه تابعاً ينتهي إلى أمره في معصية الله سبحانه.
{فَكَانَ مِنَ الغاوين}.
أي: من الهالكين.
وقيل: من الخائنين.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}.(4/2638)
أي: لرفعناه بعلمه {بِهَا}.
وقيل: المعنى: لرفعناه عن الحال التي صار إليها من الكفر.
وقال مجاهد: {لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، (أي): لرفعنا عنه. أي: لعصمناه مما فعل.
وقيل: المعنى: لأَمَتْنَاهُ قبل أن يَعْصِيَ فرفعناه إلى الجنة.
{بِهَا}.
[أي]: بتلك الآيات.(4/2639)
{ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض}.
أي: سكن إلى الدنيا وشهواتها، {واتبع هَوَاهُ}.
وأصل " الإِخْلاَدِ ": الإقَامَةُ.
قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: كان بَلْعَام رجلاً، أوتي النبوة، وكان مُجاب الدعو، وإنَّ موسى (عليه السلام)، أقبل في بني إسرائيل ويريد الأرض التي فيها بَلْعَام فرعب الناس، وأتوا بلعام، وسألوه أن يدعو على موسى، (عليه السلام)، وجنده فقال: حتى أُؤَامِرَ ربي ( عز وجل) ، فوامر في الدعاء عليهم، فنهي عن ذلك، فقال لقومه: قد أمرت ألا أدعوا، فأهدوا إلأيه هدية فقبلها، ثم راجعوه أن يدعو على موسى (عليه السلام)، فقال: حتى أُؤَمِرَ ربي، فوامر ولَمْ يُؤْمر بشيء، فقال لهم: قَدْ وَامرت، فلم أؤمر بشيء فقالوا: لو كَرِهَ الله ( عز وجل) ذلك لنهاك كما نهاك أولاد فأخذ يدعو على(4/2640)
موسى (عليه السلام)، فرد الله ( عز وجل) ، لسانه بالدعاء على قومه، فأخذ يدعو بالفتح لقومه، فرد الله، ( عز وجل) ، لسانه بالدعاء بالفتح لموسى (عليه السلام)، وقومه، فقالوا: ما نراك تدعو إلا علينا قال: ما يجري لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه ما استديب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم: إن الله ( عز وجل) ، يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، فأَخْرِجوا النساء يستقبلنهم، فإ، هم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، وكان للمك ابنة ذات جمال، فقيل لها: لا تُمَكِّنِي نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا، وأتاها رأسُ سبطٍ من أسباط بني إسرائيل، فأرادها على نفسها، فقالت: ما أنا بمُمَكِّنةٍ نفسي إلا من موسى! وروادها عن نفسها، فأرسلت إلى أبيها فقال لها: أَمْكِنيه (من نفسك)، فلما أمْكَنَتْهُ، أتاها رجل من بني هارون معه رُمْحٌ فانتظمها جميعاً، فرفعهما على رمحه. فرآهما الناس ثم سلط الله ( عز وجل) ، عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً.(4/2641)
قال سيّار: ركب بلعام حمارة له، فجعل يضربها فلا تتقدم. قال: وقامت عليه، وقالت: عَلاَمَ تضربني؟ ألا ترا هذا الذي بين يديك! أنطق الله، ( عز وجل) ، الحمارة، قال: فإذا الشيطان بين يديه. قال: فنزل فسجد له، فذلك أنْسِلاخُهُ.
وَرُوي أنه لما دعا موسى (عليه السلام)، تلكم لسانه بالدعاء على قومه، ثم اندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: ذَهَبْت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، وسأمكر لكم وأحتال: جَمِّلوا النساء، وأعْطُوهنَّ السِّلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر، ومُرُهُنَّ ألا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنَّهم إن زنى رجل واحد منهم كُفِتُمُوهُمْ؛ فوقع رجل من عظماء بني إسرائيل بامرأة، فأرسل الله (عزو جل)، الطاعو فيهم، فهلك منهم سبعون ألفاً.(4/2642)
ثم قال الله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب}.
أي: مثله، إذ لم ينتفع بما أُوتي مثل/ الكلب الذي لا ينتفع بترك الحمل عليه، هو يلهث على كل حال. فكذلك هذا، هو ضال على كل حال، لا ينتفع بما أوتي من الآيات، كما لم ينتفع الكلب بترك الحمل عليه.
وقيل: إن هذا مثل من يتلو كتاب، كالله ( عز وجل) ، ولا يعمل به، هو مثل الكلب لا ينتفع بترك الحمل عليه، ولا يترك اللهث. كذلك هذا لا ينتفع بقراءة كتاب الله (عز وجل)، فيعمل. هو مثل من لا يقرأه ولا يعمل به.
ومعنى {تَحْمِلْ عَلَيْهِ}.
تطرده وتشرده، فهو يلهث طردته [أو تركته].(4/2643)
وكان الحسن يقول: هو المنافق.
قال قتادة: هُوْ مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله ( عز وجل) ، لكل من عُرِضَ عليه الهدى فَلَمْ يَقْبَلَهْ.
قال السدي وغيره: كان بَلْعَم، بعد ذلك، يلهث كما يلهث الكلب.
قوله: {واتبع هَوَاهُ}، وقف.
{أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}، وقف.
ثم قال تعالى: {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
أي: ذلك المثل الذي ضربتُه لهذا الذي انسلخ من آياتنا {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
{فاقصص القصص}.
أي: اقصص عليهم هذا القصص الذي اقتصصته عليك من نبأ آتيناه(4/2644)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
[آياتنا]، (وما حل به من عقوبتنا، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: يعتبرون فيعلموا صحة نُبُوَّتِكَ، إذْ كان نبأَ {الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا})، من خَفْي عُلُومِهِمْ، ومَكْنون أَخْبَارَهِمْ، لا يعلمه إلا من قرأ الكتب ودرسها. وفي أخبارك ذلك لهم وأنت أُمِّيٌّ لم تقرأ ولم تدرس، دَليلٌ على نُبُوتَّك، وصدق قولك، وأنَّ ذلك عندك بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ.
قوله: {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، إلى قوله: {هُمُ الغافلون}.
قال الأخفش: التقدير: سَاءَ مثلاً مَثَلَ القوم.
وقرأ الجُحْدَرِيُّ: " سَاءَ مَثَلُ القَوْمِ "، برفع " المثل "، وإضافته إلى " القوم ".(4/2645)
وقوله: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي}،
أي: من يوفقه الله ( عز وجل) ، إلى الإسلام {فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون}، أي: من يخذله فلا يوفقه إلى الإسلام فهو خاسر، أي: خسر نفسه في الآخرة، وذلك أعظم الخسارة.
روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما هلكت أُمَّةٌ قطُّ إلا بالشرك بالله، (سبحانه)، وما أشرَكَتْ أمة قط حَتَّى يَكُونَ بَدءُ شركها التَّكذِيبَ بِالقدَرِ ".
وروى زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله ( عز وجل) ، لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وأرضه لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمْ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كانت رَحْمَتُهُ خَيْراً لَهُمْ مِنْ أَعْمَالهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً فِي سَبِيل الله ما قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِن بِالقَدَرِ، وتعلم أنَّ ما أًصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، فَإِنْ مِتّ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارِ ".
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس}.(4/2646)
{ذَرَأْنَا}، أي: خلقنا.
قال سعيد بن جبير: أولاد الزَّنا مما خلق الله، (سبحاه)، لجهنم. يعني: الكفرة منهم. رواه [ابن عمر] عن النبي ( صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لَمَّا ذَرَأَ اللهِ لِجَهَنَّمِ مَا ذَرَأ، كان وَلَدِ الزِّنا ممَّا ذَرَأ ".
{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}.
أي: لهؤلاء الذين ذرأ لجهنم، {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الهدى.
أي: لا يفقهون [بها] شيئاً من أمر الآخرة.(4/2647)
{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا}، الهدى.
{وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ}، الحق.
وقيل: {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}، أي: لا يتفكرون في آيات الله، (سبحانه) / وأدلته، (جلت عظمته) على توحيده، وحججه التي أتت بها الرسل، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} آيات الله، (سبحانه، وأدلته جلت عظمته)، {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ}، أي: لا يسمعون آيات الله، (سبحانه) فيعتبرون. يقولون: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]. وهو نظير قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
{أولئك كالأنعام}.
في جهلهم وقلة تمييزهم للحق.(4/2648)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
يعني أن البهائم لا تميْيزَ لها، يلزمها نقص في جهل. وهؤلاء لهم تمييز، فالنقص له لازم في جهلهم. فهم أشَدُّ نَقْصاً في الجهل من البهائم. والبهائم مع عدم تمييزها تطلب لأنْفُسِهَا المنافع، وتفر من المضار، وهؤلاء لا يعقلون ذلك، يتركون ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم، ويلزمون ما فيه مضرتهم، فه أضل من البهائم.
{أولئك هُمُ الغافلون}.
أي: الذين غَفَلُوا عن مصالحهم ومنافعهم، وَغَفَلُوا عن آيات الله، (سبحانه)، وحججه وأعلامه الدالة على توحيده (سبحانه)، وَصِدْق رُسُلِهِ.
قوله: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه}، الآية.
" الإلْحَادُ " في اللغة: الجَوْرُ والميل عن القصد.
قال الكسائي: يقال: " أَلْحَدَ ": عدل عن القصد. و " لحَدَ ": رَكَنَ إلى الشيء. وعلى ذلك قرأ {يُلْحِدُونَ} في " النحل "، [يعني]: يَرْكنُونَ.(4/2649)
واللغة الفصيحة، " أَلْحَدَ " الرجل في دينه: إذا مال وجار. و " لَحَدَ " القبر. وقد تدخل [كل) واحدة منهما على الأخرى.
ومعنى: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ}.
قال بعض العلماء: هو نهي من الله، ( عز وجل) ، أنْ يُدْعى بِمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُوْصَفَ بِهِ، وذلك أنهم عدلوا بأسمائه فسموا ببعض اشتقاقها وبعض حروفها آلهتهم. قالوا: " اللات " مشتق من الله " الله ". وسموا بـ: " العزى "، أخذوه من " العزيز ".
قال مجاهد: أخذوا " العُزَّى " من " العِزَّة ".
قال ابن عباس {يُلْحِدُونَ}: يكذبون.
وقال قتادة: يشركون.(4/2650)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
وقال ابن زيد: هذا مَنْسُوخٌ نسخه القتال.
وقيل: إنَّ هذا مُحْكَمُ، وإنما هو تَهْدِيدٌ وَوَعيدٌ من الله ( عز وجل) ، لا أنه (تعالى)، أمر نبيه (عليه السلام)، أن يتركهم يلحدون في آيات الله ( عز وجل) ، وهو مثل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3].
قوله: {فادعوه بِهَا}، وقف.
{في أَسْمَآئِهِ}، وقف.
قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}، إلى قوله: {يَعْمَهُونَ}.
والمعنى: ومن الذين خلقناهم {أُمَّةٌ}، أي: جماعة يقْضُون {بالحق وَبِهِ(4/2651)
يَعْدِلُونَ}، أي: يأخذون به، ويعطون به.
قال ابن جريج: ذكر لنا أن نبي الله، (عليه السلام)، قال: " هذه أمتي ".
وقال قتادة: هي هذه الأمة.
وروى سعيد بن جبير [عن قتادة) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم، كان يقول إذا قرأ هذه الآية: هَذِهِ لَكُمْ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها، يعني قوله: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].
ثم قال تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}.
أي: سَنُمْهِلُهُمْ بغرتهم، ونُزَيِّنُ لهم سوء أعمالهم، حتى يحسب أنه في كفره(4/2652)
مُحْسِنٌ فإذا بلغ الغاية الت كتبت له، أُخذ بأعماله السيئة من حي لا يعلم.
وأصل " الاسْتِدْرَاجِ ": اغترار المستدرج بلُطْفٍ حتى يورّطه مكروهاً وَهَلَكَةً.
ثم قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
أي: وأؤخرهم مدة من الدهر.
و" المَلاَوةُ ": القطعة من الدهر، يقال بضم " الميم " وفتحها وكسرها، لغات فيها.(4/2653)
{إِنَّ كَيْدِي}، أي: إنَّ عذابي.
{مَتِينٌ}، أي: شَديدٌ.
وقيل: " الكَيْدُ " هنا: هو أخذهم من حيث لا يشعرون.
وأصل " الكَيْدُ ": المكر.
وقرأ ابن عباس: " أَنَّ كَيْدِي "، بفتح الهمزة، جعل " أَنَّ ": مفعولاً من أجله، أي: من أجل أنّ الكيد متين وقع الإملاء.
{وَأُمْلِي لَهُمْ}، وقف.
{لاَ يَعْلَمُونَ}، وقف.(4/2654)
إن جعلت {وَأُمْلِي} مُسْتَأْنفاً.
ثم قالت تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ}.
أي: يتفكروا في أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ، وأَنَّ الحَقَّ/ ما دعاهم إليه.
ثم قال: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ}.
قال قتادة: ذكر لنا [أن] النبي (عليه السلام)، كان على الصفا، فدعا قريشاً وجعل يُفَخِّذُهم فَخِذاً [فَخِذاً]: " يا بني فلان، يا بني فلان "، يحُذِّرُهُمْ بأس الله ( عز وجل) ، ووقائع الله، (تبارك وتعالى)، فقال قائلهم: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ! بَاتَ يُصَوِّتُ إلَى الصَّبَاحِ "، (فأنزل الله، عز وجل) ،: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}،(4/2655)
أي: ينذركم عقاب الله، ( عز وجل) ، على كفركم.
{مُّبِينٌ}.
أي: قد أبانَ لكم إنذارهُ.
و: {مِّن جِنَّةٍ}.
أي: من جنون. ومثلهُ في سورة " سبأ ".
{مِّن جِنَّةٍ}، وقف.
{تَتَفَكَّرُواْ}، وقف حسن، ومثله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ} [الروم: 8]، ومثله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} [سبأ: 46] في " سبأ ". ثم يتبدئ بـ: {مَا}، وهي: للنَّفِيْ في الثلاثة المواضع.(4/2656)
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ}.
والمعنى: أولم ينظر هؤلاء المكذبون، في ملك السموات والأرض وسلطانها، وفيما خلق الله، ( عز وجل) ، فيتدبروا، فيعلمون أنّ ذلك لا يحدثه إلا رب واحد، والله واحدٌ لا شبيه له، فيؤمنوا ويصدقوا، ويتفركوا في: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ}، فيحذروا أن يموتوا على كفرهم فيصيروا إلى عذاب الله، (سبحانه).
وقيل: إنهم كذبوا يُسَوِّفون بالتوبة والإيمان، فقيل لهم: عسى أن يكون أجلكم قد قرب، فتموتوا على كفركم.
قال سفيان: {مَلَكُوتَ السماوات} [الأنعام: 75]: الشمس والقمر.(4/2657)
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
أي: فبأي تخويف بعد تخويف محمد، ( صلى الله عليه وسلم) ، الذي أتاهم به من عند الله ( عز وجل) ، في آي كتابه {يُؤْمِنُونَ}، وهو القرآن.
ثم قال تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}.
أي: هؤلاء الذين كفروا ولم يتعظوا، إنما كان لإضلال الله، ( عز وجل) ، إياهم، ولو هداهم لا عتبروا وأبصروا رشدهم، فلا هادي لهم إذ أضلهم الله.
وقوله: {وَيَذَرُهُمْ}.
من قرأ بـ " الياء "، رده على اسم الله، (سبحانه).(4/2658)
ومن قرأ بـ: " النُّونِ "، جعله على الإخبار من الله، (سبحانه)، عن نفسه.
ومن قرأ بـ: " الرفع " قَطَعَهُ مما قبله، أو عطفه على مضع ما بعد " الفَاءِ " وهو الرفع؛ لأن " الفَاءَ " ترفع ما بدها من الأفعال.
ومن جَزَمَ، عطف على موضع " الفَاءِ "، لأنه لو وقع موضع " الفَاءِ " فِعْلٌ جُزِمَ على الجَزَاءِ، فالعطف على موضع " الفَاءِ " يُوْجِبُ الجَزْمَ.
ومعنى {وَيَذَرُهُمْ}، أي: ندعهم، {فِي طُغْيَانِهِمْ}، أي: في تماديهم(4/2659)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
على الكفر، {يَعْمَهُونَ}، يترددون ويَتَحيَّرونَ.
قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، الآية.
{مرساها}: مبتدأ، و {أَيَّانَ}: الخبر.
والمعنى على قول قتادة: أن قريشاً قالت للنبي (صلى الله عليه السلام)، إنَّ بيننا وبينك قرابة، فأسِرّ إلينا متى الساعة! فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: أتى قوم من اليهود إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم) ، فقالوا له: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً؟ أي: متى قيامها؟
و {مرساها} من: أَرْسَيْتُ، إذ أثبت. يقال: رست: إذا ثبت. وأرسيتها:(4/2660)
أثبتها.
قال الله، ( عز وجل) ، لنبيه (عليه السلام)، {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا}، أي: [لا] يظهرها ويقيمها لوقتها إلا الله، ( عز وجل) . / يقال: جَلَّى فلان الأمر، إذَا كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ وَأَظْهَرَهُ.
{ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض}.
أي: ثقل على أهل السموات والأرض أن يَعْلَمُوا وَقْتَ قِيَامِهَأ.
قال السدي: المعنى: خفيت في السموات والأرض، فلا يعلم قيامها مَلَكٌ مُقَرَّب وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ.
وقيل المعنى: ثقل علمها عليهم.(4/2661)
وقيل: المعنى: كَبُرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض.
قاله الحسن.
وقال ابن جريج: {ثَقُلَتْ}، معناه: إذا جاءت انشقت السماء، وانتشرت الكواكب، وكُوِّرت الشمس، وسيِّرت الجبال، وكان ما قال الله، ( عز وجل) . فذلك ثِقَلُها.
وحكى السدي عن بعض العلماء: {ثَقُلَتْ}: عَظُمَتْ.
وقيل المعنى: {ثَقُلَتْ} المسألة عنها.
وقال القُتَيْبِي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، أي: خَفِيَ. وَإِذَا خَفِيَ الشَّيْءُ ثَقُلَ.(4/2662)
{لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}.
أي: فجأة.
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن نبي الله [عليه السلام]، كان يقول: " إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ النَّاسَ، والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضِهُ، والرَّجُلَ يَسْقِي مَا شِيَتَهُ، والرَّجُل يُقِيمُ سِلْعَتَهُ في السُّوْقِ، وَيَخْفِضُ مِيزَانُهُ وَيَرْفَعُهُ ".
وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " تَقُوْمُ السَّاعَةُ والرَّجُلاَنِ قَدْ نَشَرَا ثَوْبَهُمَا يبيعانه فما يطويانه حتى تقوم الساعة، وتقوم الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فِيهِ فما تصل إلى فِيهِ حتى قوم الساعة ".
ثم قال: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}.
أي: يسألونك عنها {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بهم، أي: فرحٌ بسؤالهم.(4/2663)
وقال ابن عباس: {كَأَنَّكَ} بينك وبينهم مودة، أي: {كَأَنَّكَ} صديق لهم.
قال قتادة: قالوا له: نحن أقرباؤك، فأسِرَّ لنا متى (تقوم) الساعة؟ فأنزل الله، تعالى، {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، (أي): بههم.
وقيل: إنَّ الكَلاَمَ لاَ تَقْدِيمَ فِيهِ وَلاَ تَأْخِيرَ. والمعنى: يسئلونك {كَأَنَّكَ} استحفيت المسألة فعلمتها. قال مجاهد.
وقال الضحاك: {كَأَنَّكَ} عالم بها.
ف " عن " في مَوضِعِ " الباء ". كما جاز أن تقع " الباءُ " في موضع " عَنْ " في(4/2664)
قوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59]، أي: عنه.
وقيل المعنى: {كَأَنَّكَ} فَرِحٌ بسؤالهم. يقال: حفيت بفلان في المسألة، إذا سألته عنه سؤالاً أظهرت فيه المحبة. وأحفى فلان بفلان في المسألة، تأويله الكثرة. ويقال: حفى الدابة يحفى حفىً مقصورٌ، إذا أكثرت عليه المشي حتى حفى أسفل رجله. والحَفَاءُ، ممدود: مشي الرَّجُل بغير نعل.
وقدره المبرد: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بالمسألة {عَنْهَا}، أي: مُلْحّ، ومكثر السؤال عنها.
وقوله {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}.(4/2665)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
أي: علم وقوعها.
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}،.
أي: علم كنهها وحقيقتها.
ف " العِلْمَانِ ": مختلفان، وليس ذلك بتكرير.
وقرأ ابن عباس: " حَفيٌّ بِهَا ".
{إِلاَّ هُوَ}، وقف.
{عَنْهَا}، وقف، على القولين جميعاً.
قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله}، إلى كقوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
والمعنى: قل يا محمد، لسائليك عن الساعة: {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أن يملكنيه، بأن يُقوِّيني عليه، ويعينني، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: أعلم ما هو كائن {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، أي: من العمل الصالح.
وقال ابن جريج: لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي: هدى ولا ضلالة، {وَلَوْ(4/2666)
كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: متى أموت، لاستكثرت من العمل الصالح.
وقال مجاهد مثله.
وقال ابن عباس: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: أعلم السَّنَةَ الجَدْبَة من الخصبة، لاستكثرت من الرُّخْصِ.
وقيل: {[وَ] لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: مَا كَتَبَ الله.
وقيل: لو كنت أعلم ما تسرونه وما يقع بكم حتى تحذروا مكروهه أن تجيبوني إلى ما أدعوكم {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير}، أي: من إجابتكم إلى ما أدعوكم.
{وَمَا مَسَّنِيَ السوء}، منكم بتكذيب أو عداوة.
وقال الحسن {مِنَ الخير}: من الوحي.(4/2667)
وقيل: المعنى: لو كنت أعلم النصر في الحرب لقاتلت فلم أُغلب. وقيل: المعنى: لو كنت أعلم ما يريد الله مني من قبل أن يُعَرِّفَنِيه لفعلت. وهو اختيار النحاس.
{وَمَا مَسَّنِيَ السوء}، أي: الضر.
وقيل: {وَمَا [مَسَّنِيَ]} تكذيبكم وقولكم: مجنون.
ثم قال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
يعني: آدم، [عليه السلام].
وجعل {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
يعني: حواء خلقت من ضِلْعٍ من (أَضْلاعِ) آدَمَ.
{لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.(4/2668)
ليأوي إليها، لقضاء حاجته ولذته.
{فَلَماَّ تَغَشَّاهَا}.
كناية عن الجِمَاعِ.
{حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}.
يعني: الماء الذي حملته حواء من آدم، عليهما السلام.
{فَمَرَّتْ بِهِ}.
أي: استمرت به، قامت وقعدت، وأتممت الحَمْلَ.
وقيل: المعنى: {فَمَرَّتْ بِهِ}، وجاءت لم ثقلها الحَمْلَ أولاً.
قال قتادة: {فَمَرَّتْ بِهِ}، إستبان حَمْلُها.(4/2669)
وقال مجاهد: [استمر] حَمْلُها.
وقيل معنى " فَمَرَّتْ بِهِ ": فشكَّت، أحملت أم لا؟ رُوِيَ ذلك عن ابن عباس، وقاله: يحيى بن يعمر.
ورُوي: أن البطن الذي ثقل عليها حمله، كان البطن التاسع، وكانت البطون التي قبله خفيفة عليها، فلما أثقلت بهذا البطن التاسع، مرَّ بِهَا إبليسُ فشكت إليه ثِقْل حملها، فقال لها، عدو الله، سَمِيّه: " عبد الحارث " يخف عليك ففعلت.
قال أبو حاتم المعنى: فاستمر بها الحمل، فَقُلِبَ الكَلاَمُ. يقال: أدْخَلْتُ(4/2670)
الخُفَّ رجلي.
{فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ}. أي: صار حَمْلُها الخَفِيفَ ثَقِيلاً. وقال السدي {أَثْقَلَتْ}: كبر الولد.
{دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا}: يعني آدم وحواء.
{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}.(4/2671)
أي: غلاماً. قاله الحسن، ومعمر.
وقيل: إنهما أشفقا أن يكون الحمل غَيْرَ إِنْسانٍ، فسألا أن يكون إنساناً.
قال ابن عباس: إنهما أشفقا أن يكون بَهِيمَةً.
{فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً}. أي: بشراً.(4/2672)
{جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا}.
قال ابن جبير: جاءها إبليس فَخَوَّفَهَا أن يكون حَمْلُهَا بهيمة. وقال: اطيعيني وَسَمِّيهِ: " عبد الحارث " تلدين شبَهكما، فذكرت ذلك لآدم، فقال: هو صاحبنا الذي علمت: فمات الولد، ثم حملت آخرى، فعاد إليها إبليس بمثل ذلك، وكن الملعون اسمه في الملائكة: " الحارث ". وقال لها: أنا قتلت الأول، فكرت ذلك لآدم (عليه السلام)، فأبى. ثم حملت ثالثاً، وعاد إليها إبليس بمثل الأول، فذكر ذلك لآدم، فكأنه لم يكرهه، فسمَه: " عبد الحارث ".
قال ابن جبير: لم يكن إلا أن أصابها آدم فحملت، فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها. وذلك كله بعد أن أُهْبِطَا إلى الأرض.
وقول آدم: هو صاحبنا، يعني: هو الذي أخرجنا من الجنة.
قال السدي: لما حملت أتاها إبليس فخوفها أن يكون بهيمة، فعند ذلك
{دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}.(4/2673)
ومن قرأ {شُرَكَآءَ}، فقد منعه الأخفش، وقال: كان يجب أن يقرأ على هذه القراءة: جعلا لغيره شِرْكاً، وهو إبليس؛ لأن الأصل له، والشرك لغيره، فإنما جعلا لغيره الشرك.
والقراءة عند غيره جائزة، ومعناها: جَعَلاَ لَهُ ذَا شِرْكٍ، ثم حذف، مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، فالشرك على هذه لإبليس، وهو المضاف المحذوف.
و" الشرك " مصدر: شَرِكْتُهُ في الأمر.
ومن قرأ {شُرَكَآءَ}: جعله جمع شريك. وإنَّما جاءت بالجمع وهو واحد،(4/2674)
إذ المراد به: إبليس ومعه تُّباعٌ؛ لأن له جنوداً وشياطين معه، فإذا جعل هو شريك، فحكمهم حكمه، فخرج الخبر عن جميعهم.
/وقيل: إنما ذلك؛ لأن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إِذَا لَمْ تَقْصِدْ وَاحِداً بِعَيْنِهِ، وَلَمْ تُسَمْهِ، نحو قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173]، وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ.
روى سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " كانت حواء لا يعيش لها(4/2675)
ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسميه: " عبد الحارث " فعاش لها ولد، فسمته " عبد الحارث "، وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان ".
وقال بكر بن عبد الله: سمى آدم ولده عبد الشيطان.
قال عكرمة: كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان وقال لهما: إِنْ سَرَّكُما أن يعيش لكما ولد فسمياه: " عبد الحارث ". ففعلا، فذلك قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ}.
قال ابن جبير: لما أثقلت حواء في أول ولد ولدته، أتاها إبليس قبل أن تلد فقال: يا حواء، ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري! قال: من أين يخرج؟ من أنفك، أو من عينك، أو من أذنك؟ قالت: لا أدري قال: أرأيت إن خرج سليماً، أتطيعني أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم! قال: سَمِّيهِ " عبد الحارث "، فأتت آدم فأعلمته، فقال له: ذلك الشيطان فاحذريه، فإنه عدنا الذي أخرجنا من الجنة! ثم(4/2676)
أتاها إبليس ثانية فأعاد عليها، فقالت: نعم فلما وضعته سمته: " عبد الحارث ".
قال السدي: لما ولدت غلاماً أتاها إبليس فقال: سمّيه عبدي وإلا قتلته! قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة فأبى أن يطيعه، فسَّماه " عبد الرحمن " فَسُلِّط عليه إبليس فقتله. فحملت بآخر فعاد بمثل ذلك، فلم يفعل (ذلك) آدم، وسماه: " صالحاً " فسلط الله عليه إبليس فقتله. فلما كان الثالثة قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه: " عبد الحارث " وكان سامه في الملائكة " الحارث "، فسماه " عبد الحارث ".
ورُويَ عن الحسن أنه قال: هذا كان في بعض الملل ولم يكن بآدم. يعني: " الشِّرْك "، إنما كان في بعض الأمم.
وقيل المعنى: جعل أولادهما لله شركاء، يعني: اليهود والنصارى.
وروى قتادة عن الحسن: أنه قال: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله الأولاد(4/2677)
فَهَوَّدُوا ونصَّرُوْا.
وَرُوِىَ عن عكرمة أنه قال: لم يخص بهذا آدم وحواء؛ وإنما المراد بذلك الجنس.
كأنه قال: خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، أي: من جنسها، {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا}، يعني: الجنس لا يخصُّ به واحد دون آخر، {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا}، يراد به الجنسان الكافران. ثُمَّ يُحْمَل قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}، على الجمع؛ لأنهما جنسان.(4/2678)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
(قوله): {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، إلى قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وقيل: إن قوله: {فِيمَآ آتَاهُمَا}، هو تَمَامُ الكَلاَمِ في قصة آدم وحواء، ثم ابتدأ إِخْبَاراً عن المشركين من بني آدم، فقال: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}، الآية.
قال محمد بن عرفة نِفْطَوِيْه: لم يشركا بربهما، إنما أطاعا إبليس في بعضما أُمرا بتركه، أَطَاعَاهُ طَاعَةَ مُغْتَرٍ مُكَادٍ، لاَ طَاعَةَ مُلْحِدٍ مُصِرٍّ. قال: فأما قول: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فإنما أريد به: من عبد غير الله من اولاد آدم وحواء، دليله (قوله): {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}، إلى قوله: {صامتون}، فلم يعبد آدم وحواء أصناماً(4/2679)
فيكون هذا خطاباً لهما، إنما عبد ذلك أولادهما.
فالمعنى: أيشركون في عبادة الله، فيعدبون {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}، يعني تسميتهما ولدهما: " عبد الحارث ".
رُوِيَ أنّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " خَدَعَهُما (إبليس) مرتين، في الجنة وفي الأرض ".
وقال ابن زيد: لما ولد لهما ولد سمياه: " عبد الحارث " فمات، ثم ولد لهما أخرى فسمياه: " عبد الله " فأتاهما إبليس فقال: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ لا والله، ليذبهن به كما ذهب/ بالآخر! ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فَسَمّيَاهُ: " عبد شمس " فذلك قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}، يعني: الشمس.
وإنما أخرج الخبر بلفظ الجميع لأنهم كانوا يعظمون ما يعبدون ويخبرون عنها مث الإخبار عمن يعقل، فخوطبوا بما كانوا يعقلون.(4/2680)
وقيل: إنما هذا خطاب للمشركين عَبَدَةَ الأَوْثَانِ.
ثم قال: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}.
أي: ما يعبد هؤلاء، لا ينصرون من يعبدهم، ولا ينصرون أنفسهم.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ}.
والمعنى: إنكم إن دعوتم آلهتكم إلى رشاد لم تفهم، فكيف يُعْبَدُ من إذا دُعِي إلى الرشاد وعُرِّفه لم يعرفه، ولم يفهم رشاداً من ضلال، وكان دعؤه وتركه سواء، فكيف يُعْبَدُ من هذه صفته، وكيف يُشْكِل عظيمُ جهل من اتخذ ما هذه صفته إلاهاً؟
{سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون}.(4/2681)
أي صَمَتُّم. كل ذلك على آلهتكم سواء، لا تعقل ولا تفهم فهذا في الظاهر وقع للداعين والاستواء وهو في المعنى المقصود وقع للمدعويين؛ لأن حال الداعي في الصُّمَاِ والدعاء مختلفة؛ لأنه ممن يدعو ويصمت، وحال المدعويين في الدعاء والصُّمَات سواءٌ، لأنها أصنام، قد استوى الدعاء لها وتركه، إذ لا تعقل، ولا تختلف أحوالها، فلما استوى على الأصنام الدعاء والصُّمَاتُ، استوى على الداعي ذلك أيضاً، إذ يدعو ويصمت فلا يجاب فجاز لذلك، فصار الدعاء والصَّمت للداعي في الظاهر لهذا المعنى، وهو مثل قوله:
{كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} [البقرة: 171]. وقد مضى بيانه.
ثم قال: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}.
يعني: المعبودين.
قرأ ابن جبير: " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَاداً أَمْثَالَكُمْ "، بتخفيف {إِنَّ}، بجعلها بمعنى: " ما "، وبنصب " العبادَ " و " الأمثال " على النفي،(4/2682)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
أي: ليست هي مثلكم؛ وَإِنَّمَا هِيَ خَشَبٌ وَحِجَارَةٌ.
والاختيار عند سيبويه: الرفع (مع) " إِنْ " إذا كانت بمعنى " ما "؛ لأن " ما " عملها ضعيف، فعمل ما هو في معناها أضعف.
وزعم الكسائي: إن العرب لا تأتي بـ " إنْ " بمعنى " ما " في الكلام، إلا أن يكون بَعْدَهَأ إِيجَابٌ، كقوله: {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك: 20].
قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ}، الآية.
كل هذا خطاب للمشركين من عبدة الأوثان و (هو) توبيخ لهم وتقريع على عبادتهم من لا رِجْل له ولا يَدَ ولا عين، ولا يفهم، ولا يضر ولا ينفع.
فالمعنى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ}، فيسعون معكم في حوائجكم، {أَمْ(4/2683)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ}، فيدفعون عنكم الضر وتنتصرون بها عند قصد من يقصدكم بسوء، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ}، فيعرفونكم ما عاينوا مما تغيبون عنه، {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، فيخبرونكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه. فإن كانت هذه آلهتكم المُعَظَّمَةُ عِنْدَكُمْ، فما وجه عبادتكم لها، وهي خالية من هذه المنافع كلها؟.
ثم قال الله تعالى، لنبيه عليه السلام: {قُلِ} لهم: {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}، أي: ادعوهم لمعونتكم عَلَيَّ، {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وهم، " فلا تنظرون "، أي: لا تؤخرون بالكيد، ولكن عَجِّلُوا كلَّ هذا. يُنَبِّئُهُمِ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ.
قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب}، إلى قوله: {عَنِ الجاهلين}.
قرأ الجَحْدَري: " إِنَّ وَلِيَّ اللهِ "، بياء مفتوحة شديدة، وخفض الاسم. يعني(4/2684)
به جبريل، عليه السلام.
ومعنى الآية على قراءة الجماعة: قل، يا محمد، لعبدة الأوثان، {إِنَّ وَلِيِّيَ الله}، أي: (إنَّ) نصيري عليكم، {الله الذي نَزَّلَ الكتاب} عَلَيَّ بِالحَقَّ، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين}، أي: يَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ فِيهِ.
ثم قال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ/ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ}.
[أي: وقل لهم بعد إخبارك أن الله، تعالى، ينصرك: والذين تدعون من دون الله، لا يستطيعون نصركم] كما نصرني الله، ولا يستطيعون نصر أنفسهم. فأي هذين أولى بالعبادة؟ من نَصَرَ نَفْسَهُ، وَنَصَرَ مَنْ عَبَدَهُ، أو من لا يستطيع نصر لنفسه ولا نصر من عبده؟
ثم قال تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ}.
أي: وإن تدعوا، أيُّها المشركون، آلهتكم {إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ} دعاءكم.
{وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ}، يعني: آلهتكم، {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، يعني: الآلهة.(4/2685)
{وتراهم} في هذا بمعنى: الظن والحِسْبَان، لا من النَّظَر. وقد تَأوَّلهُ بمعنى: " النَّظَرِ " المُعْتَزِلَةُ، وغَلِطُوا فيه.
وقال السدي: يعني بذلك المشركين، لا يسمعون الهدى،
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} ما تدعوهم إليه.
وقيل معنى: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} هنا: يُوَاجِهُونَك ولا يَرَوْنَكَز
وحكى الكسائي: " الحَائِطُ يَنْظُرَ إِلَيْكَ ". أي: يواجهك، إذا كان قريباً منك.
وحكى: " دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِ فُلاَنَ "، أي تواجه وتحاذي وتقابل.(4/2686)
ودَلَّ قوله {وتراهم} على أن المراد المُشْرِكُونَ، إذ لو كان للآلهة لقال: " وتراها ".
وقيل: هي للآلهة؛ لأنها مثل بني آدم في صورها التي مَثَّلُوها؛ ولأنهم يعظمونها ويخاطبونها بمخاطبة من يعقل، فَخُطِبُوا كَذَلِكَ. فمن جعله للمشركين، كان " ترى " على بابه، من رؤية العين.
ثم قال تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}.
قال بعض أهل المعاني: في هذه الآية بيان قول النبي، صلى الله عليه وسلم: " أُوتيتُ جَوَامِعَ الكَلاَمِ ".
فهذه الآية قد جمعت معاني كثيرة، وفوائد عظيمة، وجمعت كل خُلُقٍ حسن؛ لأن في " أخذ العفو ": صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين.
وفي " الأمر بالمعروف ": تقوى الله ( عز وجل) ، وطاعته، (جلت عظمته)، وصلة الرجم، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن الحُرُمات.(4/2687)
وسُمِّيَ ذلك وَنَحْوَهُ " عُرْفاً "؛ لأن كل نفس تعرفه وتركن إليه.
وفي الإعراض عن الجاهلين ": الصبر، والحلم، وتنزيه النفس عن مخالطة السفيه، ومنازعة اللَّجُوج، وغير ذلك من الأفعال المَرْضَيَّةِ.
وقال أهل التفسير في قوله {خُذِ العفو}، أي: خذ فضل أموالهم، وهو حق في المال نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ.
وهو قول: ابن عباس، والسدي، وغيرهما.
وقيل: هو الزكاة. وهو قول مجاهد.
وقيل: هو أمْرٌ بالاحتمال وترك الغِلْظة، ثم نسخ بالأمر بالغلظة والأمر بالقتال. وهو قول ابن زيد.(4/2688)
وقال القاسم، وسالم: هو حق في المال سوى الزكاة.
وقال عبد الله، وعروة بن الزبير: روى هشام بن عروة عن أبيه {خُذِ العفو}، أي: من أخلاق الناس، أي: السَّهْلَ مِنْهَا.(4/2689)
{وَأْمُرْ بالعرف}.
قال عروة، والسدي: " العُرْفُ ": المعروف.
وفي الحديث معنى الآية: " أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ ".
قال سفيان بن عيينة: بلغني أن جبريل، عليه السلام، نزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم) ، فقال: يا محمد، جئتك بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ في الدنيا والآخرة {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}، وهو يا محمد أن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك.
وروى ابن عيينة عن الشعبي أنه قال: " إن جبريل، عليه السلام، (لما) نزل بهذه الآية(4/2690)
على النبي عليه السلام، قال له النبي (عليه السلام)،: ما هذا يا جبريل؟ قال جبريل: لا أدري حتى أسأل العَالمِ، ذهب فمكث شيئاً ثم رجع فقال: إن الله ( عز وجل) ، يأمرك أن تعفو/ عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك ".
وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}.
قال ابن زيد: هذا منسُوخٌ بالقتل.
وقيل: هي مُحْكَمةٌ، إنما أُمر بالاحتمال واللِّين. وذكر سفيان بن عيينة أن(4/2691)
جبريل، (عليه السلام)، فسر هذا للنبي ( صلى الله عليه وسلم) ، فقال: يا محمد، إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
قال قتادة: هذه أخلاق أمر الله، ( عز وجل) ، نبيه، (عليه السلام) (بها) وَدَلَّهُ عليها.
ورُويَ: أن جبريل عليه السلام، نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا محمد، أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}، وذلك يا محمد، أن تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتَحْلُمَ عمن هو دونك.
ورُوِيَ أن " العُرْفَ "، قول: لا إله إلا الله، أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم، أن يأمر الناس بقولها.(4/2692)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
قوله: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ}، إلى قوله: {يُقْصِرُونَ}.
والمعنى: وإما يغضبَنَّكَ من الشيطان، غَضَبٌ يَصُدُّكَ عن الإعراض عن الجَاهلين، ويحملك على مجازاتهم {فاستعذ بالله}، أي: اسْتَجِرْ بِهِ، {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لجل الجاهل عليك، ولاستعاذتك به من نزغ الشيطان، ولغير ذلك من أمورك، {عَلِيمٌ}، بما يذهب عند نَزْغَ الشَّيْطَانِ، وبغير ذلك.
وقال أبو عبيدة المعنى: وإما يستخفنك منه خفة.
وقيل " نَزْغُهُ ". وسوسته.
وقيل: " نَزْغُهُ ": فساده.(4/2693)
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ}.
و" الطَّائِفُ " و " الطَّيْفُ " عند جماعة من البصريين، سواء، وهو ما كان كالخيال، والشيء يُلِمُّ بِكَ.
وقيل: إن " طيفاً " مخفف من: " طيّفٍ "، مثل: " مَيْتٌ ومَيِّتٌ.
وقال بعض الكوفيين: " الطَّائِفُ ": ما طاف به من وسوسة الشيطان. و " الطَّيْفُ ": من اللَّمم والمَسِّ.
وقال الكسائي: " الطَّيْفُ: " اللهو، و " الطَّائفُ ": كل ما طاف حول الإنسان.
وقرأ ابن جبير: " طيِّفٌ " مشدوداً.
و" الطَّيْفُ " عند أهل العربية: مصدر طاف.(4/2694)
وقال الكسائي: هو مخفف من " طَيِّفٍ ".
وقال الكسائي: " طَافَ " من: الواو.
وقال الأَحْمَرُ سمعت: طِفْتُ أطِيفُ ".
وحكى البصريون: " طَاف بطيف " و " طِفْتُ أطِيفُ ".
قال ابن جبير ومجاهد: " الطَّيْفُ ": الغضب.
وقال ابن عباس " طَائِفٌ ": لمَّةٌ من الشيطان.(4/2695)
وقال السدي: {تَذَكَّرُواْ} أي: تذكروا عقاب الله، ( عز وجل) ، فتابوا، أي: تابوا إذا زَلُّوا.
قال ابن عباس: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}، أي: منتهون عن المعصية.
ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي}.
أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي.
{ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}.
أي: لا يقصرون عما أقصر عنه الذين اتقوا {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان}.
وهذا خبر من الله، ( عز وجل) عن حال المؤمنين وحال الكفار، أن المؤمن إذا(4/2696)
أصاب الذنب تذكر العقوبة فتاب ورجع وأبصر رشده، والكافر يمد له إخوانه من الشياطين في الغي، ثم لا يقصر عن غيه، ولا يرجع كما فعل المؤمن.
و" المَدُّ ": الزيادة، ف " الهاء " و " الميم " في: {وَإِخْوَانُهُمْ} تعود على الشياطين. ودَلَّ " الشيطان " في قوله {طَائِفٌ مِّنَ الشيطان}، على الشياطين. و " الإخوان " كناية عن الكفار.
والضمير المرفوع في: " يُمِدُّونَ " يعود على " الشياطين ".
و" الهاء " و " الميم " في {يَمُدُّونَهُمْ} تعود على " الكفار "، وهم الإخوان.
وقيل المعنى: ثم لا يقصر الشياطين في مدهم في الغي للكفار. قاله: قتادة.
وقال: {لاَ يُقْصِرُونَ} عنهم ولا يرحمونهم. / فالضمير في {يُقْصِرُونَ} للشياطين. وعلى القول الأول للمشركين، وَهُوَ الأَكْثَرُ.
و" الغَيُّ ": الجهل والوقوع في الهلكة.(4/2697)
وهذا الكلام عند أبي إسحاق مُقَدَّمٌ مُتَّصِلٌ في النبية بقوله: {ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197].
ثم قال: {وَإِخْوَانُهُمْ}، أي: وإخوانهم يعني: الشياطين، {يَمُدُّونَهُمْ}، يعنى: الكفار.
يقال: " قَصَّر " عن الشيء و " أَقْصَرَ ".
وقد أنكر أبو حاتم وأبو عُبَيْد قرأءه نافع، بـ: " ضَمَّ اليَاءِ " في: {يَمُدُّونَهُمْ} وهي مشهورة.(4/2698)
حكى المبرد: " مَدَدَتْ لَهُ في كَذَا ": " زينته له، واسْتَدْعَيْتُه أن يفعله، و " أَمْدَدْتُهُ في كذا " أي: أعنته برأيي وغير ذلك.
وحكى غير المبرد: " مَدَّهُ " و " أمَدَّهُ " بمعنىً.
وقيل {فِي الغي}: متعلق بـ " الإخوان "، التقدير: " وَإِخْوَانُهُمْ فِي الغَيِّ يُمِدُّونَهُمُ، والأول أحسن، كما قال: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15].(4/2699)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها}، إلى قوله: {تُرْحَمُونَ}.
المعنى: إنهم يقولون للنبي (عليه السلام)، إذا سألوه في آية فلم يأت بها: هلا افتلعتها من عند نفسك، فهذا قول كفار قريش للنبي، صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس: هلا أجتبيتها: تقبلتها من ربك.
{قُلْ}، يا محمد، {إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ}.
أي: هذ الذي دللتكم عليه {بَصَآئِرُ}، أي: لِيُسْتَبْصَرَ بِهِ، وهذا إشارة إلى القرآن والوحي، فلذلك وُحِّدَ.
و {بَصَآئِرُ}: حُجَجٌ وبيان لكم من ربكم.
{وَهُدًى}، أي: بيان، {وَرَحْمَةً} رحم الله بها عباده المؤمنين.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ}.(4/2700)
هذا أمر للمؤمنين أن يستمعوا القرآن ويتعظوا به، ويتدبروه، وينصتوا للقراءة ليرحمهم الله.
قال المسيب بن رافع عن ابن مسعود: ذَلِكَ في الصَّلاَةِ، وكان بعضنا يُسَلِّمُ على بعض في الصلاة، فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ}.
وقاله أبو هريرة.
وقال الزهري: نَزَلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كانوا يقرأون مع النبي، صلى الله عليه وسلم، كلما قرأ، فنهوا عن ذلك، وأُمروا بالإنصات.
وكذلك قال النخعي، وابن شهاب، والحسن: إنه أمر في الصلاة. وهو قول: مجاهد وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، والشعبي وعطاء وغيرهم.
والخطبة من الصلاة: فَالإِنْصَاتُ لَهَا وَاجِبٌ.(4/2701)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
قوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ}، إلى آخرها.
قوله: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}: مصدران. {والآصال}: جمع " أُصُلِ "، ك: " طُنُبٍ " وأطنابٍ ". وقال الفراء: هو جمع " أصِيلٍ "، ك: " يَمِينٍ " و " أَيْمَانٍ ".
وقيل: [الأُصُلُ] جمع " أصيلٍ ".
{والآصال}: جمع " الأُصُل "، وقد تجعل العرب " الأُصُل " وَاحِداً، فيقولون: " قَدْ(4/2702)
دَنَا الأصُلُ ".
ومعنى {واذكر رَّبَّكَ}: الدُّعَاءُ، وهو أمر للمستمع للقرآن بأن يذكر الله في نفسه بالدعاء، ويعتبر بما يسمع ويتعظ.
{تَضَرُّعاً}، أي: تخشعاً وتواضعاً.
{وَخِيفَةً}، أي: وخوفاً من الله.
{وَدُونَ الجهر}، أي: واذكره دون الجهر ذِكْراً خَفِيّاً باللِّسَانِ. قال ذلك ابن زيد وغيره.
قال الحسن: كانوا يتكملون في الصلاة حَتَّى نَزَلَتْ: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}. أي: مخافة منه.(4/2703)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{وَدُونَ الجهر مِنَ القول (بالغدو) والآصال}.
ما بين المغرب إلى العصر.
وقيل: هي العَشِيُّ.
{وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين}.
أي: من اللاهني.
قال مجاهد: {بالغدو}: آخر الفجر، صلاة الصبح، {والآصال}: آخر العَشِيِّ، صلاة العصر.
وهذا إنما كما إذا كانت الفريضة ركعتين " غدوة "، وركعتين/ " عشية "، قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
قال تعالى: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ}.(4/2704)
يعني: الملائكة.
{لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}. أي: لا يستكبرون عن التواضع له والتَخَشُّعِ.
{وَيُسَبِّحُونَهُ}. أي: يُعَظِّمُونه ويُنَزِّهُونه عن السوء.
{وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. أي: يُصَلُّون.(4/2705)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفال مدنية
قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} إلى قوله: {مُّؤْمِنِينَ}.
قال أبو حاتم: الوقف على {ذَاتَ} بـ: " الهاء "، وكل العلماء قال: بـ: " التاء "؛ لأَنَّها مُضَافَةٌ، ولا يحسن الوقف عليها البتة إلا عن ضرورة.
وقرأ سعد بن أبي وقاص: " يسئلونك الأنفال "، بغير {عَنِ}.(4/2707)
والمعنى: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها يوم بدر، لمن هي؟ فقيل للنبي، صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: هي لله والرسول.
و {الأنفال}: الغنائم. بذلك قال عكرمة، ومجاهد، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وعطاء.
فأكثر العلماء الذين جعلوها: الغنائم، على أنها منسوخة بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، الآية.(4/2708)
وقيل: {الأنفال} هي زِيَادَاتٌ تزيدها الأئمة لمن شاء، إذا كان في ذلك صلاح للمسلمين، فهي مُحْكَمَةٌ. وروي ذلك عن ابن عمر، وعن ابن عباس.
وقيل: {الأنفال}: ما شذَّ من العدو، من عبد أو دابة، للإمام أن يُنْفِلَ ذلك من شاء إذا كان ذلك صلاحاً. قاله الحسن.
{الأنفال}: جمع " نَفَلٍ "، و " النَّفَلُ ": الغنيمة، سميت بذلك، لأنها تَفَضُّلٌ من الله، عز وجل، على هذه الأمة، لم تحل لأحد قبلها.(4/2709)
وقوله: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، يَدُلُّ على أنهم سألوا لمن هي.
وقوله: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، يَدُلُّ على أن سؤالهم كان بعد تَنَازُعٍ فيها.
وقيل: {الأنفال}: السَّرايا. قاله علي بن صالح.
وقال مجاهد {الأنفال}: الخُمُسُ.
وهذه الآية نزلت في غنائم بدر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، زَادَ قَوْماً لِبَلاَءٍ أَبْلَوْا، فاختلفوا فيها، بعد تَقَضِّي الحرب، فنزلت الآية تعلمهم أنَّ ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ماضٍ جائز.
وروى ابن عباس (رضي الله عنهما)، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من أتى مكان كذا، وفعل كذا، فله كذا "، فتسارع الشبان، وبقي الشيوخ، فلما فتح الله عليهم، طلب الشبان ما(4/2710)
جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الأشياخ: لا يذهبوا بذلك دوننا! فأنزل الله، عز وجل: { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} الآية.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ شيئاً من الغنائم قبل أن تقسم فامتنع من ذلك فنزلت: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، فرخّص الله، عز وجل، له أن يعطي مَنْ أَرَادَ.
و [قيل]: إنهم سألوه الغنيمة يوم بدر، فَأُعْلِمُوا أن ذلك لله والرسول.
و {عَنِ} في موضع: " مِنْ ".
وقرأ ابن مسعود على هذا التأويل: " يسئلونك الانفال ".(4/2711)
وذكر ابن وهب: " أنها نزلت في رجلين أصابا سيفاً من النَّفْلِ، فاختصما فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هُوَ لي وَلَيْسَ لَكُمَا "، فنزل: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، وأمر الرجلين أن يصلحا ذات بينهما، وأن يطيعا الله ورسوله في ما أمرهما به النبي صلى الله عليه وسلم "
، / من دفع السيف إليه، ثم نُسِخَ ذلك بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} الآية.
وَرُوِيَ أن الرجلين اللذين اختصما في السيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم،: سعد بن مالك بن وُهَيْب الزُّهري، ورجل من الأنصار، فَأُمِرا في الآية أن يسلماه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن يصلحا ذات بينهما، وأن يعطيا الله ورسوله فيما يأمرانهما من تسليم السيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك.
وقيل: إن أَهْلَ القُوَّة يوم بدر غنموا أكثر مم اغنم أهْلُ الضُّعْفِ، فذكروا ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}.(4/2712)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
وقيل: إنهم اختلفوا في الغنائم، فَنَزَلَتْ: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}.
" والبَيْنُ " هنا: " الوَصْلُ ".
أُمِروا بصلاح وصلهم، وألا يتقاطعوا في الاختلاف على الغنائم، كأنه قال: كونوا مُجْتَمِعي القُلُوب.
وأُنِثَتْ {ذَاتَ}؛ لأنه يراد بها الحال التي هم عليها.
وذكر إسماعيل القاضي: أنهم اختلفوا ثلاث فرق، فقالت فرقة اتبعت العدو: نحن أولى بالغنائم، وقالت فرقة حَفَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم، نحن أولى، وقالت فرقة أحاطت بالغنائم، نحن أولى، فأنزل الله، تعالى، الآيات في ذلك.
قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، الآية.(4/2713)
فهذه الصفة صفة الكمال والتمام في الإيمان.
والمعنى: ليس المؤمن من الذي يخالف الله ورسوله، ويترك أمرهما، وإنما المؤمن الذي إذا سمع ذكر الله، عز وجل، وَجِلَ قَلْبُهُ، وَخَضَعَ، وانْقَادَ لأمْرِهِ، تبارك وتعالى، وإذا قرئت عليه آيات كتاب الله، سبحانه، صدق بها وأيقن أنها من عند الله، جلت عظمته، فازداد إيماناً إلى إيمانه.
قال ابن عباس: المنافق لا يدخل قَلْبَهُ شَيْءٌ من ذلك، ولا يؤمن بشيء من كتاب الله، أي: من آيات الله سبحانه، ولا يتوكل على الله، عز وجل، ولا يصلي إ ذا غاب عن عيون الناس، ولا يؤتي الزكاة فليس هذا بمؤمن، وإنما المؤمن من الذي وصفه الله عز وجل، بالخشية وازدياد الإيمان عند سماع آيات الله، عز وجل، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
قال مجاهد {وَجِلَتْ}: فَرِقت.
وقال السدي: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية، فيذكر الله، عز وجل، فَيْنَزعُ عنها خَوْفاً من الله، سبحانه.(4/2714)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{الذين يُقِيمُونَ الصلاة}، أي يقيمونها في أوقاتها، وقيل: يقيمونها بحدودها.
{أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} الآية، المعنى: أولئك الذين هذه صفتهم هم المؤمنون حقاً.
قال ابن عباس: {المؤمنون حَقّاً}، أي: بَرِئُوْا من الكفر.
وَهَذَا بَابٌ تُذْكَرُ فَيهَ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَا رُوِيَ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ، عز وجل.
وحقيقة الإيمان عند أَهْلِ السُّنَّة: أنه المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وكذلك رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالت المُرجئة الإيمان: قول ومعرفة بالقلب بلا عمل.(4/2715)
وقال الجهمية الإيمان: المعرفة بلا قول ولا عمل.
وأهل السنة والطريقة القويمة على أنه: المَعْرِفَةُ وَالقَوْلُ وَالعَمَلُ، كما رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْمَاعِ الأُمَّةِ.
قد أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أنه من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم أخبر أن قلبه غَيْرُ مُصَدِّقٍ بشيء من ذلك، أنَّهُ كَافِرٌ، فدل على أَنَّ الاعتقاد لا بد منه.
ثم أَجْمَعُوا على أَنَّ الكافل إذا قال: قد اعتقدت/ في قلبي الإيمان ولم يقله ويسمع منه، [أن حكمه الكافر] حتى يقوله ويسمع منه، فَإنَّ دمه لو قتل لا تلزم منه دية، فدل على أن القول مع الاعتقاد لا بد منه.
ثم أَجْمَعُوا على أن شهد الشهادتين، وقال: اعتقادي مثل قولي، ولكني لا أصوم ولا أصلي ولا أعمل شيئاً من الفروض أنه يستتاب، فإن تاب وعمل وإلا قتل كما يقتل(4/2716)
الكافر، فدل على وجوب العمل.
فصح من هذا الإجماع، أن الإيمان هو الاعتقاد والقول والعمل، وتمامه: موافقة السنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله}، ثم قال: {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ دِينُ القيمة} [البينة: 5]، أي: دين الملة القيمة. ومن لم يقل: إن الله تعالى، أراد الإقرار والعمل من العباد فهو كافر. فإن قيل: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أيكون مؤمناً بهذا الإقرار أم لا؟ قيل: له لا يطلق عليه اسم مؤمن إلا ونيته أنه لم يطلق عليه اسم مؤمن، ولو أنه أقرّ في الوقت وقال: لا أعمل إذا جاء وقت العمل، لم يطلق عليه اسم مؤمن.
والأعمال لا يقبل منها إلا ما أريد به وجه الله، (سبحانه)، فأما من أراد بعمله مَحْمَدَةَ الناس وَرَايَا به فليس مما يقبله الله، عز وجل، وصاحبه في مشيئة الله سبحانه.
روى أبو هريرة أن النبي ي صلى الله عليه وسلم قال: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل(4/2717)
استشهد فأمر به، فَعَرَّفَهُ نِعمهُ فَعَرَفَهَا؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كَذبْتَ ولكن قاتلت ليقال: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وحهه حتى ألقي في النار. ورحل تَعَلَّمَ العلم وعَلَّمَهُ، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به، فعرَّفه نعمه، فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: تعملت فيك العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كَذَبْتَ، ولكنَّك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، فقد قيل، وقرأت القرآن ليقال: إنك قارئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار. ورَجل وسَّع الله عليه، وأعطاهُ أنواع المال كله، فَعَرَّفه نِعمه فَعَرَفَها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت في سبيل الله شيئاً تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جَوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ".
وروى أبو هريرة أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم، ق ل: " قال الله جلّ ذكره من قائل،: أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فمن عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه غيري، فهو للذي أشركه، وَأَنَا بَرِيءٌ منه ".(4/2718)
وفي خبر آخر: " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ ".
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أَشَدُّ النَّاسِ يوم القيامة عَذَاباً، من يرى النَّاس أَنَّ فِيهِ خَيْراً وَلاَ خَيْرَ فِيهِ ".
وعنه، صلى الله عليه وسلم،: " مَنْ رَاءَا بأمر يريد به سُمْعَةً فإنه في مَقْتٍ من اللهِ عز وجل، حتى يجلس ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تخادعوا الله فإنه من خادع الله بخدعة فنفسه يخدع لو يشعر ". قالوا: يا رسول الله، وكيف يُخادع الله، قال: " تعمل ما أمرك به تطلب غيره، فاتقوا الرياء، فإنه الشرك، فإن المرائي يدعى يوم القيامة على/ رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء، ينسب إليها: يا كافر، يا خاسر، يا فاجر، يا غادر، ضل أجرك، وبطل عملك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا خادع ".
وعنه، صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى الرِّياء شِرْكٌ ".(4/2719)
فيجب على المؤمين الراجي ثواب الله عز وجل، الخائف من عقابه، سبحانه، أن يخلص العمل لله سبحانه، ويريد به وجهه، تبارك وتعالى. وألاَّ يتباهى بعمله عند أحد فيشركه في علمه.
فإنَّ عَمِلَ عاملٌ عَمَلاً مُخْلِصاً لله صلى الله عليه وسلم، في السر، فَسُرّ به، وأُعْجِبَ به إذ وفقه الله عز وجل، لذلك فهو حسن، وليس ذلك برياء، وهو ممدوح إنْ سلم من الإعجاب بنفسه؛ فَإنَّ الإعجاب ضَرْبٌ من التكبر، والتكبر يُحْبِطُ الأَعْمَالَ.
فإن ظَهَرَ عَمَلُهُ الذي أَسَرَّه للناس من غير أن يُشْهِّره هو على طريق الافتخار به، فأثنوا عليه بفعله فَسَرَّه ذلك فليس برياء، بل له أجر على ذلك؛ لأن الأصل كان لله عز وجل، والناس يَتَأَسَّونَ به في فعله.
وقد روى أبو هريرة:
" أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، دخل علي رجل وأنا أصل فأعجبني الحال التي رآني عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " فلك أجران: أَجْرُ السَّرِ، وأَجْرُ العَلاَنِيَّة ".
وروى حبيب بن ثابت عن أبي صالح قال: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم، [ رجل]، فسأله(4/2720)
عن رجل يعمل العمل من الخير يُسِرُّه، فإذا ظهر أعجبه ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " له أجران: أجرُ السّرِّ وأجرُ العلانيَّة ".
وروى حبيب: " أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله، إنَّا نعمل أعمالاً في السر، فنسمع الناس يذكرونها فيعجبنا أن تُذْكَرِ بِخَيْرٍ، فقال: " لكم أجر السر وأجر العلانية ".
وقد روىأنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم، وجد ذات ليلة شيئاً، فلما أصبح قيل: يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبيّن، فقال: " أما إني على ما ترون بحمد الله، قد قرأت البارحة السبع الطُّوَلُ ".
وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدعاءٌ بأن يعمل الناس على مثل عمله، ويرغبوا في الخير، ويجتهدوا، ولو وقع مثل هذا لمن صح قصده ونيته، وأراد به مثل ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد المَحْمَدَةَ والافتخار، لكان حسناً، وصاحِبُهُ مَأْجُورٌ؛ لأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَقْتَدَى بِهِ، وَيَعْمَلَ مِثْلُ عَمَلِهِ، وهذا طريق من الدعاء إلى الخير، إذا صحت النية، فهو طريق شريف غير مستنكر.(4/2721)
فحق العامل المجتهد أن يُجْهِدَ نسه في تكذيب وساوس الشيطان، ولا يلتفت ما يوسوس إليه، وليقبل على عمله بنية خالصة لله، ويجهد نفسه في طاعة الله، عز وجل، والعمل لله، سبحانه، فلا شيء أبغض إلى الشيطان من طاعة العبد لربه، ( عز وجل) ، ولا شيء أسر إليه من عصيان العبد لربه، سبحانه، نعوذ بالله منه.
فحسب أَهْلِ الخَيْرِ أن لا تأتي عليهم حال إلا وهم للشيطان مرغمون، ولطمعه في أنفسهم حاسمون. فإن عجزوا عن ذلك في كل الأوقات فيلفعوه في حال اشتغالهم بأعمال الطاعة حتى تخلص أعمالهم لله عز وجل، وتسلم من الشيطان من أولها إلى آخرها فإن عجزوا عن ذلك فلا يعجزوا عن أن يكون ذلك منهم في أول أعمالهم، وفي آخرها، فإن عجزوا عن/ ذلك، فلا بد من إخلاصها في أولها ليكون الابتداء بالنية لله عز وجل، والإخلاص له، سبحانه؛ فإنه إذا كان [ذلك] كذلك، ثم عرض في أضعاف العمل عوارض الشيطان وساوسه، رجي له ألا يضره ذلك، فإن عجز عن ذلك وغلبه الشيطان حتى ابتدأ بغير إخلاص. ثم حدث له في بعض العمل إخلاص وإنابة عما فعل رجي له، لقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].(4/2722)
فإن ابتدأ بغير إِخْلاَصٍ وتمادى حتى فرع عن ذلك، كان ثمرة عمله سخط ربه.
والله عز وجل، حسن العفو كريم. روينا في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ الرجل إذا ابتدأ العمل بنية لله، عز وجل، ثم عرض له الشيطان في آخر عمله فَغَيّر نيته، أن الله سبحانه، يعفو له عما عرض له، ويكتب له عمله على ما ابتدأه به، وأَنَّ الرجل ليبتدئ بالعمل بغير نية، فتحدث له نية لله عز وجل، في آخره أن الله، يعفو له عن أوله، ويكتب له عمله على ما حدث له في آخره " هذا معنى الحديث الذي رؤينا، وهو حديث مشهور بنحو هذا اللفظ وبمثله في المعنى.
فقال ابن حازم: انظر إلى العمل الي تُحِبُّ أن يأتيك الموت وأنت عليه، فخذه الساعة، وإذا قال لك الشيطان: أنت مُراءٍ فلست مرائياً، وإذا خرجت من بيتك، وأنت صادق النية، فلا يضرك ما جاء به الشيطان.
وكان رجل حَسَنُ الصَّوْتِ بالقرآن يأتي الحسن، فربما قال له الحسن: اقرأ، فقال: يا أبا سعيد، إني أقوم من الليل فيأتيني الشيطان إن رفعت صوتي، فيقول: إنما تريد الناس، فقال له الحسن: لك نيتك إذا قمت من فراشك.
فالشيطان، عليه لعنة الله، عدو الله، سبحانه، لطيف المدخل لابن آدم، كثير(4/2723)
الرصد له بما يُوبِقُهُ. قد أَوْبَقَ كثيراً من القرون السالفة، فَنَفَذَت فيهم سهامة، وصدق عليهم ظنه، فاللَّجَأُ منه إلى الله، عز وجل، والمستغاث على دفع شره الله، تبارك الله وتعالى.
وروى معقل بن يسار عن أبي بكر الصديق، (رضي الله عنهـ)، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ". قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا أن يُدعى مع الله إله آخر، فقال: " الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " ثم قال: " يا أبا بكر، ألا أدلك على ما يذهب صغير ذلك وكبيره؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذَ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ أَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ ".
قوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
أي: يَكِلُونَ أمرهم إلى الله (سبحانه).(4/2724)
وَِِِهَذَا بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا رُوِيَ في التَّوكُّلِ وَصِفَتِهِ وَفَصْلِهِ.
روى ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ سَرَّهُ أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه ".
روى عمر رضي الله عنهـ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لو أنك تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً ".
وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من انقطع إلى الله كفاه كُلَّ مُونَتِهِ ورزقه/ من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَلَهُ الله إليهاً ".
وروى أبو سعيد الخدري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَوْ فَرَّ أَحَدَكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لأَدْرَكَهُ كَمَا(4/2725)
يُدْرِكُهُ المَوْتُ ".
وعن أبي ذر مثله.
وقد قال الله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]. وقال: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51].
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: " يقول الله، جلّ ذكره: يَابْنَ آدم تَفَرَّغْ لِعَبَادَتِي أَمْلأُ صدرك غِنىً، وأَسُدَّ فقرك، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأَتْ صَدْرَكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فُُقْرَكَ ".
وعن أبي [بن] كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ نِيّتَهُ الآخِرَةَ جعل الله غناه في قلبه، وَكفَّ عنه ضَيْعَتَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيا [وهي] رَاغِمَةٌ، ومن كانت نيته الدنيا شتت الله، عز وجل، عليه ضَيْعَتَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له ".(4/2726)
وعن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: " مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا نِيَّتَهُ فَرْقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله [له] أمره وجعل غناه في قلبه وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ".
وفي هذه الآية دلالة على زيادة الإيمان ونقصه؛ لأن قوله: {زَادَتْهُمْ إيمانا} [الأنفال: 2]، يَدُلُّ على نقصٍ كان قبل الزيادة.
وعن أبي الدرداء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تَفَرَّغُوا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيا ما استطعتم، فإنه من كانت الدنيا أكْبَر همَّهِ، أقضى الله عليه ضَيْعَةَ، وجعل فقره بين عَيْنَيْه، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه، وما أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل(4/2727)
خَيْرٍ أَسْرَعَ ".
والتوكل على الله، عز وجل عند أهل النظر والمعرفة بالأصول، هو: الثقة بالله، سبحانه، في جميع الأمور، والاستسلام له، ( عز وجل) ، والمعرفة بأَنَّ قضاءه ماضٍ، واتباع أمره، وليس هو أن يطرح العبد بنفسه فلا يخاف شيئاً ولا يحذر أمراً، ويلقى بنفسه في التهلكة؛ لأن الله، سبحانه، يقول لأصحاب نبيه، عليه السلام: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [البقرة: 197]، فأمرهم أن يتزودوا في أسفارهم: لأنهم كانوا ربما خرجوا بلا زاد، فلي يجوز لأحدٍ أن يلقى عَدُوَّه بغير سلاح ولا عُدَّةٍ ويجعل هذا تَوَكُلاً. فقد لَبِسَ النبي صلى الله عليه وسلم، السلاح، وقال الله، عز وجل،: { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60]. وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الغار.
ودخل مكة وعلى رأسه المِغْفَرُ، وخرج يوم أُحد وعليه درعان. وفرّ(4/2728)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة بعد ذلك خوفاً على أنفسهم، فلو كان من التوكل إلقاء العبد نفسه في التهلكة، وترك الاحتراز من المَخُوفِ، ولَقْيُ العدو بغير سلاح، ومباشرةُ السباع، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أولى بذلك بل خافوا وفرُّوا، وسلحوا واحترزوا.
وقد حكى الله عز وجل، عن موسى، عليه السلام، الخَوْفَ فقال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]، وقال: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18]، وقال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ} [طه: 67 - 68].
فالملقي بيده إلى التهلكة من عدو أو سبع، ولا علم عنده أن الله عز وجل، لا يسلطه عليه آثم في نفسه، مُعِينٌ على قتل نفسه، مُجَرِّبٌ لقدرة ربه، جلت عظمته، مُعْجَبٌ بنفسه، دَالٌ على ربه، سبحانه، / وليس هذا من صفات الصالحين، بل أنفسهم عندهم أَنْقَصُ وَأَذَلُّ، هم وَجِلُون ألا تقبل منهم أعمالهم! فكيف يدلون بأعمالهم! قال الله عز وجل: { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} المؤمنون: 61]، أي: يعلمون ما عملوا من الخير وهم خائفون(4/2729)
ألاَّ يقبل منهم [عملهم]، فهذه صفات الصا لحين. ليس صفاتهم الإعجاب بأعمالهم والدلة على مالله عز وجل، بأفعالهم، وقد قال عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ اليوم يلتوى، ما يجد ما يملأ به بطنه. وقد روي عَمَّنْ مضى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من الجوع والشدة ما لا يُحْصَى.
فهذا يدفع قول من يدعي في توكله نزول الطعام الكَوْنِي، ووجود الرُّجَب في غير وقته، وشبه ذلك من المعجزات التي لا تكون إلاَّ للنبي، تدل على صدقه في ما أتى به.
فأما كرامات الله، سبحانه لأوليائه وإجابة دعائهم، فليس ينكر ذلك أحدٌ مِنْ أهْلِ السُّنَّة، وإنما ينكرون على ما أجاز حدوث المعجزات على يدي غير الأنبياء؛(4/2730)
لأن في ذلك إبطال النبوة وهدم الشريعة.
وقوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
الدَّرجات: منازل ومراتب رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم.
قال مجاهد [الدَّرَجَات]: أعمال رفيعة.
وقال ابن مُحَيْرِيز الدَّرَجَاتُ: سبعون درجة، كل درجة خطو الفرس الجواد المُضَمَّر ستين سنة.(4/2731)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
{وَمَغْفِرَةٌ}: أي: مغفرة لذنوبهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: الجنة.
قال الضحاك: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي فوق، فضله على الذي أسفل منه، ولا يرى الأسفل أنه فضل عليه أحد.
قوله: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، الآية.
قال الكسائي: " الكاف ": نعت لمصدر: {يُجَادِلُونَكَ}، والتقدير: يجادلونك في الحق مُجَادَلَةً {كَمَآ أَخْرَجَكَ}.
وقال الأخفش: " الكاف " نعت ل: " حق "، والتقدير: هم المؤمنون حقاً(4/2732)
{كَمَآ أَخْرَجَكَ}.
وقيل: " الكاف " في موضع رفع، والتقدير: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} {فاتقوا الله}، كأنه ابتداء وخبر.
وقال أبو عبيدة: هو قَسَمٌ، أي: لهم درجات ومغفرة ورزق كريم، والذي أخرجك من بيتك بالحق، ف: " الكاف " بمعنى: " الواو ".
وقال الزجاج: " الكاف " في موضع نصب، والتقدير: الأنفال ثابتة لك ثباتاً {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ}، والمعنى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} وهم كارهون، كذلك(4/2733)
تَنْفُلُ من رأيت.
وقال الفراء التقدير: أمض لأمرك في الغنائم، ونَفِّلْ من شئت وإن كرهوا {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}.
وقيل: " الكاف " في موضع رفع، والتقدير:
{إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، إلى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، هذا وعد وحق {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}.
وقيل: المعنى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} ذلك خير لكم {كَمَآ أَخْرَجَكَ}، ف: " الكاف ": نعت لخبر ابتداء محذوف هو الابتداء.
وقيل التقدير: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} {كَمَآ أَخْرَجَكَ}.(4/2734)
قال عكرمة في الآية: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، أي: الطاعة خَيْرٌ لَكُمْ، كما إخراجك من بيتك بالحق خيراً لك.
وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ}.
قال ابن عباس: " لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي سفيان أنه مقبل من الشام، ندب إليه من المسلمين، وقال: هذه عِيرُ قريش فيها/ أموالهم، فاخرجوا إليها، لَعَلَّ الله أن يُنْفِلَكُمُوهَا! فانتدب الناس، فَخَفّ بعضهم وَثَقُلَ بَعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً. فَنَزَلَتْ: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} ".
قال السدي {لَكَارِهُونَ}: لطلب المشركين.
{للَّهِ والرسول}، وقف.
و {مُّؤْمِنِينَ}، وقف.(4/2735)
ويكون تقدير الآية وتفسيرها: " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، لما نظر إلى قلة المسلمين يوم بدر وإلى كثرة المشركين قال: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وإِنْ أَسِرَ أَسِيراً فَلَهُ كَذَا وَكَذَا "، ليرغبهم في القتال، فلما هزمهم الله، عز وجل، وأَظْفَرَه بهم، قال إليه سعد بن عبادة، فقال له: يا رسول الله؛ إن أعطيت هؤلاء ما وعدتهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء، فأنزل الله: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} "، أي: يصنع فيها ما يشاء. فأمسكوا لما سمعوا ذلك على كراهية منهم له، فَأَنْزَلَ الله، عز وجل،: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، أي: أمض لأمر الله في الغنائم، وهم كارهون لذلك، أي: بعضهم، كما مضيت لأمر الله عز وجل، في خروجك، وهم له كارهون، أي: بعضهم.
فإن جعلت التقدير: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: لم تخرجنا للقتال فنستعد له، إنما أخرجتنا للغنيمة، فلا يحسن الوقف على ما قبل " الكاف " على هذا.(4/2736)
وعلى قول أبي عبيدة أن " الكاف " في موضع:: واو القسم، يحسن الوقف على ما قبل " الكاف " كأنه قال: والذي أخرجك من بيتك بالحق، كما قال: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3]، أي: والذي خلق الذكر.
وقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق}، الآية.
قال ابن عباس: لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم، في لقاء القوم، قال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس فتعبّوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأَنْزَلَ الله، عز وجل، { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، إلى {وَهُمْ يَنظُرُونَ}.
قال ابن إسحاق: خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون العِيَر طمعاً بالغنيمة، فلما عرفوا أن قريشاً قد سارت إليهم، كرهوا ذلك، وكأنهم يساقون إلى الموت؛ لأنهم لم يخرجوا للقتال. فالذي عُني بهذا هم المؤمنون، فَأَنْزَلَ الله عز وجل، { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، إلى: {وَهُمْ يَنظُرُونَ}.(4/2737)
وقال ابن زيد: عني بذلك المشركون، قال: هم المشركون جادلوا في الحق، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} حين يدعون إلى الإسلام، {وَهُمْ يَنظُرُونَ}.
قال الطبري: المراد بذلك المؤمنون. ودَلَّ عليه قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ}، لما كرهوا القتال جادلوا فقالوا: لم تعلمنا أنَّا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، إِنَّمَا خرجنا لِلْعِير. وَيَدُلُّ على ذلك قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ}، ففي هذا دليل أنّ القوم كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم في القتال، [كما] قال مجاهد، كراهية منهم له.
وروي عن ابن عباس: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق}، أي: في القتال، {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ}، أي: بعد ما أمرت به.(4/2738)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين}، إلى قوله: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}؟
والمعنى: واذكروا، أيها المؤمنون {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ}، والطائفتان: إحداهما فرقة أبي سفيان والعير، والطائفة الأخرى: فرقة المشركين الذين خرجوا من مكة لمنع العير.
وقوله: {أَنَّهَا لَكُمْ}.
أي: أن ما معهم غنيمة لكم.
وقوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ}.
أي: تحبون أن تكون لكم العير التي لا قتال فيها ولا سلاح دون/ فرقة المشركين المقاتلة المسلحين.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أحبوا أن يَظْفَروا بالعير، فأراد الله عز وجل، غير ذلك، أراد أن يَظْفَروا بالمقاتلة، فيكون ذلك أذل لهم وأخزى وهيب في قلوب المشركين؛ لأن المسلمين لو ظَفِروا بالعير ولا مقاتلة معها ما كان في ذلك هيبة ولا ردعة عند المشركين، وإذا ظَفِروا بالمقاتبلة وأهل الحرب والبأس كان ذلك أهيب وأروع لمن بقي منهم.(4/2739)
و {الشوكة}: السلاح.
وقال أبو عبيدة: غير ذات الحد.
يقال: فلان شَائِكٌ في السلاح وشَاكٌ، من الشِّكَةِ.
وقال ابن عباس: " لما خُبِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي سفيان مُقْبلاً من الشَّأْم، ندب المسلمين إليهم، فقال: هذه غير قريش، فيها أموالٌ، أخرجوا إليها لعلّ الله أن يملككموها! فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم؛ لأنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقى حرباً، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفاً على أموال النس، حتى أصاب خبراً من بعض(4/2740)
الركان: " إن محمداً قد استنفر [أصحابه] لك ولِعِيرك " فَحَذِرَ عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فمضى ضَمْضَم. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر، فقال فأحسن. وقام عمر، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن اذهب (أنت) وربك فقاتلا، إِنَّا معكم مقاتلون! والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد، يعنى: مدينة الحبشة، لجالدنا معك مَنْ دونه! ثم قالت(4/2741)
الأنصار بعد أن استشارها: امض يا رسول الله، لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخصناه معك. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى التقى بالمشركين ببدر، فسبقوا الماء، والتقوا، ونصر الله عز وجل، النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فَقُتِلَ من المشركين سبعون، وَأُسِرَ منهم سبعون، وغنم المسلمون ما كان معهم، وسلمت العير مع أبي سفيان، وكان قد أخذ بها الساحل، أسفل من موضع القتال، وهو قوله تعالى: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} ".
وروى عكرمة عن أبن عباس قال: " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، حين فرغ من بدر، عليك العير ليس دونها شيء، قال: فناداه العباس: لا يصلح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لِمَ "؟(4/2742)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قال: لأن الله عز وجل، وعد إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. قال: " صَدَقْتَ ".
قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} إلى قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قرأ عيسى بن عمر: " إنِّي مُمِدُّكُم "، أي: قال: إني ممدكم.
ومن قرأ: {مُمِدُّكُمْ}، بفتح الدال، يجوز أن يكون نصباً على الحال من الضمير في: {مُرْدِفِينَ}.
وقيل: هو في موضع خفض نعت ل: " ألف ".(4/2743)
ومن كسر الدال فمعناه: يُرْدِف بعضهم بعضاً، أي: يتبع بعضهم بعضاً. يقال: رَدِفْتُهُ وأَرْدَفْتُهُ: إذا تَبِعْته.
وأنكر أبو عبيد أن يكون/ المعنى: يُرْدِف بعضهم بعضاً، أي: يحمله خَلْفَهُ، ودفع قراءة الكسر على هذا التأويل.(4/2744)
والوجه أنهم يتبعون بعضهم بعضاً في الإتيان لا في الركوب، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: وَرَاءَ كُلِّ مَلِكٍ مَلَكٌ.
فمعنى الكسر: أَنَّ الملائكة يُرْدِفُ بعضها بعضاً، أي: يتبع.
ومعنى الفتح: أن الله أَرْدَفَ بهم المؤمنون.
حكى سيبويه " مُرَدِّفينَ ": بفتح الراء، وتشديد الدال وكسرها.
وأصله: " مُرْتدِفِينَ "، ثم أدَغم " التاء " في " الدال " بعد أن ألقى حركتها(4/2745)
على " الراء ".
وحكى أيضاً: " مُرِدِفِّينَ " بكسر الراء، على أنه " مُرْتَدِفِينَ " أيضاً، لكن أدغم وكسر الراء لالتقاء الساكنين، ولم يلق عليها حركة " التاء ".
ومعنى الآية: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} [الأنفال: 8]، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، أي: حين ذلك، أي تستجيرون به من عدوكم، {فاستجاب} ربكم {لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ}، أي: بأني {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} يردف بعضهم بعضاً، أي: يتلوا. وَرُوِيَ عن(4/2746)
عاصم: " آلفٌ "، على وزن " أَفْعُلٍ ".
قال ابن عباس: لمَّا اصطفَّ القوم، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره! ورفع النبي صلى الله عليه وسلم، يده وقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً.
قال السدي: فاستجاب الله، عز وجل، له ونصره بالملائكة، وذلك يوم بدر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المشركين وَهم ألفٌ، وأصحابه ثلاث مائة وبضعة عشر، استقبل القبلة، ثم مدَّ يدَهُ، وجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز ما وعدتني "، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه صلى الله عليه وسلم، عن منكبيه، فرده أبو بكر على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، فقال: يا نبي الله كَذَلك مناشدتك(4/2747)
رب، فَإِنَّه سينجز لك ما وعدك!.
وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله}.
" الهاء " تعود على " الإمْدَادِ ".
وقيل: على " الإِرْدَافِ ".
وقيل: على " الأَلْفِ ".
وقيل: على قبول الدعاء.(4/2748)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
والمعنى: {وَمَا جَعَلَهُ الله}: إرداف الملائكة بعضها بعضاً. {إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، أي: ولكي تسكن إلى ذلك قلوبكم، وتوقن بنصر الله عز وجل، فليس النصر إلا من عند الله، سبحانه {إِنَّ الله عَزِيزٌ}، أي: لا يقهره شيء، {حَكِيمٌ} في تدبيره.
و" الهاء "، في {بِهِ} تحتمل ما جاز في " الهاء " في: {جَعَلَهُ}.
ويجوز رجوعها على " البشرى "؛ لأنها تعني الاستبشار.
قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس}، الآية.
من قرا: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}، احتج بإجماعهم على: {يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ} [آل عمران: 154].(4/2749)
ومن قرأ: {يُغَشِّيكُمُ}، مشدداً فرد الفعل إلى الله، عز وجل، احتج بقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم}، وهو الله بلا اختلاف. فكون الكلام على نظام واحد أحسن.
وقوله: {أَمَنَةً}: مفعول من أجله.(4/2750)
وقيل: هو مصدر.
وقوله {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}: العامل في {إِذْ} قوله: {إِلاَّ بشرى} [الأنفال: 10]، {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}، أي: حين يغشيكم.
ومعنى {يُغَشِّيكُمُ}: يلقى عليكم، و {أَمَنَةً}: أماناً من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وذلك يوم أحد أنزل الله، عز وجل، عليكم النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد.
وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً}.
كان هذا يوم بدر، أصبح المسلمون مُجْنِبِين على غير مَاءٍ، فأنزل الله عز وجل،(4/2751)
(عليهم) مطراً فاغتسلوا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حَزَنَهم به من إصباحهم مُجنبين على غير ماء؛ لأنَّ المشركين سبقوا المسلمين ببدر، إلى الماء فأصبح المسلمون عِطَاشاً مُجْنبين ومُحدثين، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: عدوكم على الماء، وأنتم تزعمون/ أنكم مسملون، فأزال الله الأحداث والعطش والوسوسة بالمطر الذي أنزل عليهم، وسكن به الغبار، وتمهدت الأرض للوطء عليها.
قيل: كانت سَبْخَةً لا تثبت عليها الأقدام.(4/2752)
وقيل: كانت رَمْلاً.
وكانت آية عظيمة في ثبات أقدامهم في المطر على سَبِخَةٍ.
وقول من قال: كانت الأرض رَمِلَةً أَوْلَى، لقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام}.
قال قتادة: ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً، وكانوا قد التقوا على كثيب أعفر فَلَبَّده الله عز وجل بالماء، وشرب المسلمون واستقوا، [و] أذهب الله عز وجل، عنهم وساوس الشيطان وأحزانه.
وكان المشركون سبقوا إلى الماء وإلى الأرض الشديدة، ونزل المسلمون على غير ماء وعلى رمل، فأراهم الله، عز وجل، بنزول المطر قدرته، وأثبت في قلوبهم أمارة النصر والغلبة فتقَّوت نفوسهم وتشجعوا، وذهب عنهم وسوسة الشيطان.
وقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام}.
أي: بالمطر، وذلك أنهم التقوا مع عدوهم على رَمْلة فَلَبَّدَهَا المطر حتى تثبت الأقدام عليها، وكان هذا كله ليلة اليوم الذي ألتقوا فيه في بدر.(4/2753)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان}.
أي: وساوسه.
وقال القُتَيْبِي: كيده.
والعامل في {إِذْ يُوحِي}، {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام}.
وقيل المعنى: واذكر {إِذْ يُوحِي}.
وقيل: أوحى الله، عز وجل، { إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ}، فكان المَلَكُ يظهر للرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجلفيقول: سمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: لئن حَمَلَ علينا هؤلاء لَنُهْزَمَنَّ! فتقوى بذلك قلوب المؤمنين.
وقوله: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق}.(4/2754)
أي: اضربوا الأعناق.
وقال الأخفِ: {فَوْقَ} زائدة.
وقيل المعنى: اضربوا الرؤوس؛ لأنها فوق الأعناق.
وقال أبو عبيدة: {فَوْقَ} بمعنى: " على "، والمعنى " فاضربوا على الأعناق.(4/2755)
يقال: ضَرَبْتُهُ على رَأْسِهِ فَوْقَ رَأْسِهِ بِمعنى.
وقوله: {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
أي: اضربوا الأطراف من الأيدي والأرجل.
و" البَنَانُ ": [أطراف] أصابع اليدين والرجلين.
وقال عطية، والضحاك: " البَنَانُ ": كل مَفْصلٍ.(4/2756)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
وواحد " البَنَانِ " " بَنَانَةٌ "، وهي: الأصابع وغيرها من الأعضاء، وهذا قول الزجاج.
وقوله: {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ}.
هذا أمر من الله، عز وجل للملائكة.
وقيل: إِنَّ الملَكَ كان يأتي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين، يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! فيتحدث بذلك المسلمون، وتقوى نفوسهم.
وقيل معنى ثَبِتُّوهم أي: بالمدد.
قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ}، إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
والمعنى: هذا الفعل الذي فُعل بهم من ضرب الأعناق وغير ذلك، {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ}، أي: خالفوه، كأنهم صاروا فِي شِقٍّ آخر بمخالفتهم له.(4/2757)
{وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ}.
أي: يخالفه.
أَجْمَعَ القراء على الإظهار، إذ هو في الخَطِّ بقافين.
والإظهَارُ لغة أهل الحجاز، وغيرهم يُدْغِمُ، وعليه أُجْمِعَ في: " الحشر ".
ويحسن " الرَّوْمُ "، في الوقف في: " الحشر " /؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله الثاني لازم في الوقت، وهو " القاف " الأولى المُدْغَمة في الثانية، ولا يحسن " الرّوْمُ " في الوقوف [في الأفعال؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله " القاف " الثانية غير لازم(4/2758)
في الوقت] وهو " اللام " في اسم الله، جل ذكره، فقس عليه ما كان مثله.
وقوله: {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ}.
{وَأَنَّ}: في موضع رفع عطف على: {ذلك}.
وقيل المعنى: وذلك وأن للكافرين، و {ذلكم}: في موضع رفع على معنى: الأمر ذلكم، أو: ذلك الأمر.
وقيل: {وَأَنَّ} في موضع نصب على معنى: واعلموا أن للكافرين، كما قال.
يَالَيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً(4/2759)
أي: وحاملاً رمحاً.
ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: وأن للكافرين.
ومعنى الكلام: هذا الذي عُجَّلَ لكم من ضرب الأعناق وضرب كلِّ بنان في الدنيا ذوقوه، أيها الكافرون، واعلموا أن لكم في الآخرة عذاب النار.
ثم قال تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ} الآية.
والمعنى: إن الله أمر المؤمنين ألا يَفِرُّوا من الكفار إذا تدانى بعضهم من بعض(4/2760)
عند القتال.
وقيل: المعنى: إذا وَاقفَتْمُوهُم فلا تفروا منهم، ولكن أثبتوا فإنّ الله معكم.
ثم توعد من يتولى أنه يرجع بغضب من الله، وأنَّ مأواهم جهنم، وأرخص لهم أن يتحرف الرجل لتمكنه عودة إلى الظفر، لا ليولي هارباً، وأرخص أن ينحاز الرجل إلى فئة من المؤمنين ليكون معهم.
يقال: تحوَّزت وتحيّزتُ.
قال الضحاك: " المُتَحَرِّفُ ": المتقدم من أصحابه ليظفر بعودة للعدو، و " المُتَحَيَزُ ": الذي يرجع إلى أميره وأصحابه.
قال عطاء: هذا مَنْسُوخٌ، نسخه: {يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] الآية،(4/2761)
فأُمِروا أن يَفِرُّوا ممن هو أكثر من مِثْلَيْهم.
وقال الحسن: الآية مخصوصة في أهل بدر خاصة، وليس الفرار من الكبائر.
وقال أبو سعيد الخدري: نَزَلَتْ في أهل بدر، يعني: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}.
ودليل أنها مخصوصة يوم بدر قوله: {يَوْمَئِذٍ}، فعلق الحكم بيوم معلوم.(4/2762)
وقال ابن عباس: الآية محكمة، وحكمها باق إلى اليوم، والفرار من الكبائر.
ومعنى: {بَآءَ بِغَضَبٍ}.
أي: رجع به.
وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}.
أي: لم تقتلوا أيها المسلمون المشركين.
{ولكن الله قَتَلَهُمْ}.
أضاف ذلك إلى نفسه، تعالى، إذ كان هو المسبِّب قتلهم، والمعين عليه، وعن أمره كان، وينصره تَمَّ.
رُوِيَ أن جبريل عليه السلام، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، عند الزحف: خُذْ قبضة من تراب فَارْمِهِم بها، ففعل يبق أحد من المشركين إلا أصابت عينه وأنفه وفمه، فولَّوا مُدْبِرِين.(4/2763)
فلما أظْفَرَ الله المؤمنين بالمشركين، جعل كل واحد يقول: فعلت كذا، وصنعت كذا، فأنزل الله، عز وجل: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}.
وهذا يدلُّ على خلاف قول من يقول: إنَّ العبد يفعل حقيقة.
ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، { ولكن الله رمى} أي: الله المسبِّب للرمية، وهذا حين حَصَبَ النبي صلى الله عليه وسلم، الكفار فهزمهم الله.
قال عكرمة: ما وقع منها شيء إلا عَيْنِ رجل.
وقيل: " إن النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، لما دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وقال: " شاهت الوجوه! " فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل(4/2764)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم من رَمْيَةٍ رسول الله/ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} الآية ".
قال قتادة: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم، يوم بدر ثلاثة أحجار فرمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، رمى أُبَيَّ بن خلف الجمحي يوم بدر بحربة في يده فسكر له ضلعاً فمات منه، وكان النبي، عليه السلام، قد أوْعَدَهُ أنه يقتله.
وَيُرْوَى " أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان جالساً يوم بدر في عريش، وأبو بكر في يمينه، والنبي صلى الله عليه وسلم، يدعو ويقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد! اللهم النصر الذي وعدتني "، فألح النبي صلى الله عليه وسلم، في الدعاء، فقال أبو بكر، رضي الله عنهـ: " خفض يا رسول الله، دعاءك، فإنَّ الله متممٌّ لك ما وعدك، فَخَفَقَ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] ، من نعسة نعسها،(4/2765)
ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر، فقال: " أبشر بنصر الله، رأيت في منامي بقلبي جبريل عليه السلام، يَقْدُمُ الخيل على ثنية النقع ". فلما التقى الجمعان خرج النبي صلى الله عليه وسلم من العريش، فأخذ حَصْباً من الأرض فرمى بها في وجوههم، ثم قال: " شاهت الوجوه ثم لا ينصرون، لا ينبغي لهم أن يظهروا " فرمى مقابل وجوههم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم ثلاث مرات فلم تقع تلك الحصباء على أحد إلا قتل وانهزم، وصار في جسده خضرة ".
قال أبو عبيدة معناه: ما ظفرت ولا أَصَبَتَ، ولكن الله أظفرك ونصرك. يقال: رمى الله لك، [أي]: نصرك.
وحُكِى أن بعض العلماء قال في معناها: وما رميت قلوب المشركين إذ رميت وجوههم بالرمل والتراب، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع فهزمهم عنك برميته لا برميتك.(4/2766)
وقوله: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً}.
يريد به من استشهد ذلك اليوم، وكان قد استشهد من المؤمنين ذلك اليوم أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وهم:
عُبَيْدَة بن الحارث بن عبد المطلب، توفي بـ: " الصَّفْرَاءِ "، من ضَرْبَةٍ في سَاقِهِ.
وعُمَيْرُ بن مالك بن وُهَيْب.(4/2767)
وأبو سعيد بن مالك.
وذو الشِّمَالَِيْنِ: عمير بن عمرو بن نَضْلة.
وغَافِلُ بن البُكَيْر، سماه النبي: عاقل بن بكير وهو حليف لبني عَدِيٍّ.
ومَهْجَع، مولى عمر من الخطاب، (رضي الله عنهـ)، وهو أول من قتل يوم بدر.
وصفوان بن بَيْضاء، من بني الحارث بن فِهر.(4/2768)
وثمانية من الأنصار من الأوس، وهم.
سَعْد بن خيثمَةَ بن الحارث.
وَمُبَشِّر بن عبد المنذر، وهو أخو أبي لُبابة، وهو نقيب.
وعُمَير بن الحُمام.(4/2769)
وابنا عفراء: معاذ وعمرو.
ورَافِعُ بن المُعَلّى.(4/2770)
ويزيد بن الحارث ابن فُسْحُم.
[وحارثة] بن عندي بن سُرَاقَة.
" وكان حارثة صغير السن بعثته أمه مع عمر بن الخطاب يخدمه، فكان يعجن، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله ليضحك إلى عبده يخرج [متفضلاً في ثوبه شاهراً سيفه فيقاتل حتى يقتل "، فترك العجين وخرج] إلى القتال فاستشهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، المدينة، أتت أمه وأخته إلى عمر فسألتاه عن حارثة، فقال: استشهد، ثم ذهبتا إلى أبي بكر فسألتاه عن حارثة، فقال لأنه: أبنك في الجنة، ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله ابني، فقال: " ابنك في الرفيق/ الأعلى "، فحمدت الله، وقالت: طوبى لمن كان منزله في الرفيق الأعلى، فكان الناس يعدون، وهي تهنأ ".(4/2771)
وأم حارثة هذه هي بنت النضر، عمة أنس بن مالكل بن النضر.
وروى ابن وهب: أنّ عبد الرحمن بن عوف؛ قال: بينا أنا يوم بدر في الصَّفِّ إذا غلام عن يمين وآخر عن يساري، يغمزوني أحدهما سراً من الآخر، فقال: يَاعَمَّ، فقلت: ما تشاء، قال: أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا؛ إنه بلغني أنَّهُ يَسُبُّ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] ، قال عبد الرحمن بن عوف: (ثم غمزني) الآخر سراً، فقال: يا عم، أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا.
قلت: بأبي أنتما وإمي، وأشرت لها إليه، فبلغني أنه قتلهما، وهما: ابنا عفراء، وقطعا يده ورجله قبل أن يقتلهما.
وقال ابن مسعود: فجئت أبا جهل، وهو فرعون هذه الأمة فوجدته مقطوع اليد والرجل، فقلت: أخزاك الله، فقال: رُوَيْع غنم ادْنُهْ فإن الفحل يحمي إبله وهو معقول. قال ابن مسعود: وكان معه سيف جيّد، ومعي سيف ردي، فأدرت به حتى أخذت سيفه، ثم ضربته به حتى مات، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بقتلي لأبي جهل(4/2772)
فقال: آلله، قلت آلله، فقال: آلله، قلت: آلله، مرتين أو ثلاثاً.
وقتل يومئذ من المشركين أكثر من سبعين، وأسر سبعون.
وكان الأسود بن عبد الأسد المخزومي حلف قبل القتال بآلهته ليشربن من الحوض الذي صنع محمد، وليهدمنّ منه، فلما دنا من الحوض لقيه حمزة بن عبد المطلب. فضرب رجله فقطعها، فأقبل يحبوا حتى وقع في الحوض، وهدم منه، وأتبعه حمزة فقتله فكان أول من قتل من المشركين، فاحتمى له المشركون، فبرز منهم ثلاثة: عُتْبة بن ربيعة، وشيبة [بن ربيعة]، والوليد بن عتبة [بن ربيعة]، ونادوا بالمبارزة فقام(4/2773)
أليهم نفر من الأنصار. فاستحيى النبي صلى الله عليه وسلم وأحبَّ أن يَبْرَزَ إليهم من بني عمه، فناداهم: أن ارجعوا إلى مصافكم. وليقم إليهم بنو عمهم، فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب. وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فبرز حمزة: لعتبة، وعبيدة: لشيبة، وعلي: للوليد فقتل حمزة: عتبة، وقتل علي: الوليد، وقتل عبيدة: شيبة، بعد أن ضرب شيبةُ رِجْل عبيدة فقطعها، فَحُمِل حتى توفي بـ: " الصَّفْراء ".
فكان قتل هؤلاء النفر أن يلتقي الجمعان.
وقيل معنى: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين}.
أي: وليُنعم عليهم نعمة حسن بالظفر والغنيمة والأجر.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
أي: {سَمِيعٌ} لدعاء نبيكم، {عَلِيمٌ} بمصالحكم.
وقيل: معناه: وليختبر الله المؤمنين اختباراً حسناً.(4/2774)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قوله: {ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ} إلى: {المؤمنين}.
{ذلكم}: في موضع رفع على معنى الأمر: {ذلكم}.
أو: الأمْرُ.
ويجوز فيها، وفيما تقدم أن تكون في موضع نصب على معنى فعل: {ذلكم}.
و {ذلكم} إشارة إلى ما تقدم من قتل المشركين والظفر بهم.
وقوله: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ}، أي: واعلموا أن الله مُضْعِفٌ {كَيْدِ الكافرين}، حتى ينقادوا.(4/2775)
وكل ما جاز في {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} [الأنفال: 14]، جاز في هذه.
وقيل معنى {مُوهِنُ}: يلقي الرعب في قلوبهم.
وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح}.
هذا خطاب للكفار، قالوا: اللهم انصر أحب الفريقين إليك.
ومعنى {تَسْتَفْتِحُواْ}: تستحكموا/ على أقطع الحزبين للرحم. أي: إن تستدعوا الله أن يحكم بينكم في ذلك {فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح}، أي: الحكم.(4/2776)
{وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
أي: إن تنتهوا عن الكفر بالله، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
قال السدي: كان المشركون إذا خرجوا من مكة إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا أستار الكعبة فاستنصروا الله.
وقوله: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ}.
أي: إن عدتم إلى القتال عُدْنا لمثل الوقعة التي أصابتكم يوم بدر.
{وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً}.
أي: جنودكم وإن كانت كثيرة.
وقيل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح}: للمؤمنين، وما بعده للكفار.
وقوله: {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين}، عطف على: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ}.
وقيل: المعنى: ولأنَّ الله مع المؤمنين.(4/2777)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
وقيل المعنى: واعلموا أنّ الله.
فيجوز الابتداء بها مفتوحة على هذا القول.
وقيل: إنه كله خطاب للمؤمنين، أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتم من أخذ الغنائم والأسرى قَبْل الإذن {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نَعُدْ إلى توبيخكم، كما قال تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ (لَمَسَّكُمْ)} [الأنفال: 68] الآية.
وقيل المعنى: {وَإِن تَعُودُواْ} أيها الكفار، إلى مثل قولكم واستفتاحكم نعد إلى نصرة المؤمنين.
قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ}، إلى قوله: {وهم مُّعْرِضُونَ}.(4/2778)
المعنى: إنّ الله نهى المؤمنين أن يُدْبِروا عن النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفين لأمره، وهم يسمعون أمره، ولا يكونوا كالكفار الذين قالوا: {سَمِعْنَا}، بآذاننا {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، بقلوبهم، ولا يعتبرون ما يتلى عليهم. وأنَّما قيل:
{وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، وقد سمعوا؛ لأنّ من لم ينتفع بما سمع كان بمنزلة من لم يسمع.
وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم}.
أي: إنَّ شرَّ ما دبّ على وجه الأرض من خلق الله عند الله {الصم}: عن الحق، فلا ينتفعون به. ولا يتدبرونه، {البكم}: عن قول الحق والإقرار بالله، عز وجل، ورسله، صلوات الله عليه {الذين لاَ يَعْقِلُونَ}: العُمْيُ عن الهدى.
قال مجاهد هم صُمُّ القُلوبِ وبُكْمها وعُميها، وقرأ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] الآية.
وعُني بهذه الآية عند ابن عباس: نفر من بني عبد الدار.(4/2779)
وقيل عُني بها: المنافقون.
ثم قال: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}.
أي: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه. أي: لو علم من نياتهم وضمائرهم مثل ما ينطقون به بأفواههم من الإيمان الذي لا يتعقدونه {لأَسْمَعَهُمْ}، أي لجعلهم يعتقدون بقلوبهم مثل ما ينطقون به بأفواههم، فالإسماع في هذا إسماع القلوب وقبولها ما تسمع الآذان.
وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ}.
عاقبهم بالطبع على قلوبهم، لِمَا علم من إعراضهم عن الإيمان، وما علم من كفرهم، ولذلك دعا موسى عليه السلام. على قومه، فقال: {واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88]. عاقبهم بالدعاء عليهم لِمَا تبين من إصراررهم على الفكر، وتماديهم عليه، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} ذلك {لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}، حسداً ومُعاندةٌ.(4/2780)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
وقيل: المعنى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ/ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}. أي: لَفَهَّمَهُم مواعظ القرآن حتى يعقلوا، ولكنه علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب عليهم الشقاء، فلو فهَّمهم ذلك {لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}؛ لأنه قد سبق فيهم ذلك، والآية للمشركين، وقيل: للمنافقين.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ}، إلى قوله: {شَدِيدُ العقاب}.
قال أبو عبيدة معنى {استجيبوا}: أجيبوا، كما قال: فلم يستجب عند ذك مُجيب، أي: يجبه.
ومعنى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}.(4/2781)
أي: للإيمان. وقيل: للإسلام. وقيل: للحق. وقيل: للقرآن ومافيه.
وقيل: إلى الحرب وجهاد العدو.
وسماه " حياةً "؛ لأنَّ الكافر مثل الميِّت.(4/2782)
وقيل معنى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، أي: لما تصيرون به إذا قبلتموه إلى الحياة الدائمة في الآخرة.
" ورُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا أُبيّا وهو يصلي فلم يجبه أبيّ، فخفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي، قال له: أفلم تجد فيما أوحي إليَّ: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ قال: بلى، يا رسول الله، ولا أعُودُ ".
فهذا يبين أن المعنى يراد به الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى ما فيه حاية لهم من الخير بعد الإسلام المدعو إيمانه.(4/2783)
وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ}.
قال ابن جبير: يحول بين الكافر أن يؤمن، وبين أن يكفر.
وكذلك قال ابن عباس.
وقال الضحاك: يحول بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته.
وقال مجاهد معناه: يحول بين المرء وعقله (حتى لا يدري ما يصنع. وقال السدي في معناه: يحول بين الإنسان وقلبه). فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه.
وقيل المعنى: يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه من طول العيش وامتداد الآمال والتسويف بالتوبة، فيعاجله الموت قبل بلوغ شيء من ذلك.(4/2784)
وقال قتادة معناه: إنَّه قريب من قلب الإنسان، لا يخفى عليه شيء أظْهَرَهُ، ولا شيء أسَرَّهُ، وهو مثل قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16].
وقال الطبري: هو خبر من الله عز وجل، أنه أملك بقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً من الإيمان ولا الكفر، ولا يَعِي شيئاً. ولا يفهم شيئاً، إلا بإذنه ومشيئته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، كثيراً ما يقول في دعائه: " يا مُقَلِّب القُلُوبِ قَلِّبْ قلبي إلى طَاعَتِك ".
وفي رواية أخرى: " ثبِّتْ قلبي على طاعتك ".
وكان يحلف: " لاَ ومُقلِّب القُلُوب ".(4/2785)
ومن هذا يقال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله، فمعناه: لا حولَ عن معصية، ولا قوة عن طاعةٍ إلا بالله.
(وقال النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى زوجة زيد) فاستحسنها، وقد كان عرضت عليه نفسها فلم يستحسنها: " سُبْحَانَ مُقلِّبَ القُلُوبِ ".
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
أي: تردون.
وقوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}.
المبرد يذهب إلى أنَّ {تُصِيبَنَّ}، نَهْيٌ، فلذلك دخلت " النون ".(4/2786)
والمعنى في النَّهي: للظالمين، أي: لا تقربوا/ الظلم، وهو مثل ما حكى سيبويه من قوله: (لا أرينَّك هاهنا)، أي: لا تكن هاهنا؛ فإنَّ من يكون هاهنا أراه.
وقال الزجاج: هُوَ خَبَرٌ. ودخلته " النون "؛ لأن فيه قوة الجزاء، قال: وزعم بعضهم أنه جزاء فيه ضرب من النهي. ومثله مِمَّا اخْتلفَ فيه: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} [النمل: 18].(4/2787)
ومعنى ذلك: أنها أمر من الله للمؤمنين أن يتقوا اختباراً وبلاء يبتليهم به، لا يُصيبنَّ ذلك {الذين ظَلَمُواْ}، بل يصيب الظالمين وغيرهم. فالظالمون هم الفاعلون الكفر.
وقيل: نَزَلَتْ في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب الجمل.
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يُقِرُّوا المنكر بين أظهُرِهِمْ، فيعمهم الله بالعذاب.
وقال الزبير، يوم الجمل لما لقي ما لقي، ما توهمت أن هذه الآية نزلت في(4/2788)
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، إلا اليوم.
وقال القُتَيْبي معناه: لا تخص الظالم، ولكنها تعم الظالم وغيره.
وقوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} [الأنعام: 47].
يَدُلُّ على أنَّ العقوبة تخص الظالم. وقد يدخل المداهن الساكت على رؤية المنكر في الظُّلم، فيكون ممن يلحقه العقاب مع الظالم.
وقد قال الحسن: إنَّ الآية نزلت في علي، وعثمان. وطلحة، والزبير [رضي الله عنهم].
وأكثر النَّاس على أن حكمها باقٍ في الظالم، والمداهن الساكت على إنكار المنكر،(4/2789)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
وهو يقدر على إنكاره، فإن كان لا يقدر على الإنكار، وخاف على نفسه، أنكر على قدر استطاعته أو بقلبه.
قوله: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}.
أي: لمن عصاه وخالف أمره.
قوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض}، إلى قوله: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هذه الآية تذكيرٌ من الله عز وجل، للمؤمنين بما أنعم عليهم من العز، بعد أن كان المشركون يستضعفونهم. وهُم قَلِيلٌ، ويفتنونهم عن دينهم، ويسمعونهم المكروه.
قوله: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس}. أي: يقتلونكم.
{فَآوَاكُمْ}. أي: جحعل لكم مأْوى تأوون إليه منهم.
{وَأَيَّدَكُم}.
أي: قوّاكم بنصره إياكم عليهم حتى قتلتموهم.(4/2790)
{وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات}. أي: أحلَّ لكم غنائمهم.
ف: {الطيبات}، هنا: الحلال. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. و " لعلّ " هاهنا: ترج يعود إليهم.
والطبري يجعلها بمعنى: " كَيْ ".
و {الناس}، في هذا الموضع: الذين كانوا يخافون منهم، كفار قريش بمكة، كان المسلمون قِلَّةً يُستَضعفونَ بمكة.
قال الكبي، وقتادة: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا يومئذ قلة يخافون أن يتخطفهم الناس، فقوَّاهم الله بنصره، ورزقهم غنائم المشركين حلالاً.(4/2791)
وقال وهب بن مُنَبِّه: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس}: فا رس.
وقيل: هي: فارس والروم.
وقال الطبري معنى: {فَآوَاكُمْ}، أي: إلى المدينة، {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ}، أي: بالأنصار.
وكذلك قال السدي.
ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول}.
قوله: {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ}.
في موضع نصب على الجواب. على معنى: أنكم إذا ختم الله والرسول خنتم(4/2792)
أماناتكم.
وقيل: هو موضع جزم على النهي نسَقاً على: {لاَ تَخُونُواْ}.
ومعنى خيانة الله والرسول: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
وقيل: هذه الآية نزلت في منافق كتب إلى إبي سفيان/ يطلعه على سر المسلمين.
وقيل: خيانة الرسول (صلى الله عليه سلم): ترك العمل بسنته.
وقليل: نزلت في أبي لُبَابَة. لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى بني قريظة فأشار إليهم إلى(4/2793)
حلقة: إنَّه الذَّبحُ. قال الزُّهْري: فقال أبو لُبابة: لا والله، لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ، فمكث سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب حتَّى خَرَّ مغشياً عليه، حتى تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تاب الله عليك، قال: لا والله، لا أَحُلُّ نفسي حى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يَحُلُّني. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلَّهُ بيده. ثم قال أبو لبابة: إنَّ توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع عن مالي، قال: يَحْزِيك الثلث أن تتصدَّق به.
وقيل: الآية عامة. نُهوا ألاَّ يخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون.
وقوله: {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ}.
أي: لا تفعلوا الخيانة، فإنها خيانة لأماناتكم.(4/2794)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
وقيل المعنى: ولا تخونوا أماناتكم.
و" الأمانة " هاهنا: ما يُخفى عن أعين النَّاس من ترك فرائض الله، عز وجل، وركوب معاصيه.
قوله: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}.
أي: اختباراً اختبرتم بها. وابتلاءً ابتليتم بها. لينظر كيف أنتم فيها عاملون.
{وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
أي: جزاء وثواباً على طاعتكم.
قوله: {يا أيها الذين ءامنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}، إلى قوله: {خَيْرُ الماكرين}.
والمعنى: إن تتقوا الله في أداء فرائه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم: { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}، أي: فَصْلاً. وفرْقاً بين حقكم وباطل(4/2795)
مَنْ يبغيكم السوء، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، أي: يمحها، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}. أي: يستتر لكم على ذنوبكم، {والله ذُو الفضل العظيم}، عليكم وعلى غيركم.
وقيل: {فُرْقَاناً}: مخرجاً.
وقيل: نجاةً.
وقيل: نصراً.(4/2796)
وقال ابن زيد معناه: يفرق في قلوبكم بين الحق والباطل حتى تعرفوه.
وقال مجاهد: مخرجاً من الضيق إلى السعة، ومن الباطل إلى الحق.
قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ}، الآية.
المعنى: واذكر، يا محمد إذ يمكر.
وهذه الآية تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم، بنعم الله عز وجل عليه، {الذين كَفَرُواْ}: هم مشركو قريش.
قال [ابن عباس] معنى {لِيُثْبِتُوكَ}، أي: ليُوثِقُوك وليثقفوك.(4/2797)
وكذلك قال مجاهد: وقتادة. وذلك بمكة.
وقال السدي: {لِيُثْبِتُوكَ}: ليحبسوك ويوثقوك.
وقال ابن زيد، وابن جريج: ليحبسوك.
وقال ابن عباس: اجتمع نَفَرٌ من قريش من أشرافهم، في دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأَوْهُ قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نَجْد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولَنْ يَعْدَمَكم منِّي رأيٌّ ونُصْحٌ. قالوا: أجَل، ادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في أمر هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثَاق. ثم تربصوا به ريب(4/2798)
المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء. فصرخ عدو الله الشيخ النَّجدي وقال: والله، ما هذا بِرأْي، والله ليخرجنه رأيه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فمنعوه منكم، / فما آمنُ أنْ يخرجوكم من بلادكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا برأي، ألْم تروا حلاوةَ قوله ولطافةَ لسانه، وأخْذَ القلوب لما يُسْمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ليستعرضن وليجمعن عليكم، ثم ليأتينَّ إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق، قال أبو جهل: والله لأشيرنَّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً وسيطاً شاباً، ثم نعطي كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا أظُنّ هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش، وأنَّهم إذا(4/2799)
رأوا ذلك قَبِلوا العقل واسترحنا. فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأيُ، القول ما قال الفتى، فتفرقوا على ذلك، وأتى جبريل (النبيَّ) صلى الله عليه وسلم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، ثم أمره بالخروج، فأنزل الله عليه بالمدينة: " الأنفال " يذكره نِعَمه عليه في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ}، الآية.
فأنزل في قولهم " نتربص به حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ": {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30].
وكان يسمى ذلك اليوم الذي اجتمعوا فيه " يوم الزحمة ".
ولما أجمعوا على ذلك باتوا يحرسونه ليوقعوا به بالغداة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو(4/2800)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
بكر إلى الغار، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، عليّاً أ، ْ يبيت في موضعه، فتوهم المشركون أنه [النبي] صلى الله عليه وسلم، فباتوا يحرسونه، فلما أصبح وجَدوا عليًّا، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فركبوا وراءه كل صعب وذلول يطلبونه، ومَرُّوا بالغار قد نسج على فمه العنكبوت، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم. فيه ثلاثاً.
" ويُرْوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعليّ: نَمْ على فراشي وتَسَجَّ بِبُرْدي هذا الحَضْرَمي؛ فإنه لن يخلص إليك شيءٌ تكرهه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل وأصحابه على الباب، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، حَفْنَة من تُراب، وأخذ الله بأبصارهم فلا يرونه، فجعل يثير التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: {يس}، إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} فلم يبق منهم رجلٌ إلا وضع النبي صلى الله عليه وسلم، على رأسه تراباً، وانصرف إلى حيث أراد، فآتاهم آتٍ فأعلمهم بحالهم، فوضع كُلُّ رجل منهم يده على رأسه فوجد تُراباً، فانصرفوا بِخِزْي وَذُلٍّ. "
قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ [قَدْ] سَمِعْنَا} إلى قوله: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.(4/2801)
المعنى: أنَّ الله عز وجل، حكى عنهم: أنهم يقولون إذا يُتلى عليهم القرآن: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا} مثله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين}، أي: سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأُمم.
قال ابن جريج: كان النضرُ بنُ الحارث يختلف تاجراً إلى فارس، فيَمرُّ بالعبادِ وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. فجاء مكة، فوجد/ محمداً صلى الله عليه وسلم، قد أُنْزِلَ عليه وهو يركع ويسجد، فقال: {قَدْ سَمِعْنَا}، مثل هذا {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا}، يعني: ما سمع من العِبَادِ.
وقال السدي: كان النَّضْر يختلف إلى الحيرة. فيسمع سجْع أهْلها وكلامهم، فلما سمع بمكة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن، قال: قد سمِعْتُ مثله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين}، يقول: أسَاجيع أهل الحيرة. و {أَسَاطِيرُ}: جمع الجمع،(4/2802)
فهو جمع " أسطر "، و " أسطر " جمع سطر.
وقيل: إنه جمع، وواحده: " أسطورة ".
وقُتِل النَّضر هذا وهو أسير يوم بدر صَبْراً. أسره المقداد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، اقتله؛ فإنَّه يقول في كتاب الله ما يقول، فراجعه المقداد ثلاث مرات، كل ذلك يأمره بقتله، فقتل.
وقوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم}، الآية.
معناه: واذكر، يا محمد، إذْ قالوا ذلك.
والذي قاله عند ابن جُبير: هو النَّضْر بن الحارث.
وقال مجاهد: هو النَّضْر بن كَلَدَة، وأنَّه قتل بمكة بدليل قوله: {وَمَا كَانَ(4/2803)
(الله) لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}.
ومعناه أنه قال: اللهم إنْ كان هذا الذي أتى به مُحمّدٌ هو الحق، {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
قال عطاء: لقد نزل فيه بضع عشرة آية، منها: ما ذكرنا ومنها قوله:
{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16]، الآية، ومنها: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} [الأنعام: 94]، الآية.
ومنها: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] الآية.(4/2804)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قال أبو عبيدة: كلُّ شيء من العذاب فهو " أمطرت "، ومن الرحمة " مَطِرت ".
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، إلى قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ}.
والمعنى: وما كان الله ليعذِّب هؤلاء الذين تمنوا العذاب وأْنت مقيم بين أظهرهم. وكان قد نزلت عليه وهو مقيم بمكة. ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، من مكة، فاستغفر من بها من المؤمنين، فنزلت عليه بعد خروجه: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
ثم خرج أولئك البقية من المؤمنين، فأنزل الله، عز وجل: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، الآية، بالمدينة، فعذَّب الله، ( عز وجل) . الكفار، إذْ أذِنَ للنبي صلى الله عليه وسلم، بفتح مكة، فهو العذاب الذي وُعِدوا به. قال ذلك ابن أبي أبزى.(4/2805)
وقال أبو مالك نزل الجميع بمكة، فقوله: {وَمَا كَانَ [الله] لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، { وَمَا كَانَ [الله] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يعني: من بِها من المسلمين {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: من بمكة من الكفار.
فمعنى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، أي: خاصة، فعذبهم الله ( عز وجل) . بالسيف، وفي ذلك نزلت: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، الآية. وهو النَّضْر. سأل العذاب.
ورُوِيَ عن ابن عباس [أنَّ] المعنى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، يا محمد، أيْ: حتى نخرجك من بين أظهرهم، {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، قال: كان المشركون يطوفون بالبيت يقولون: " لبَّيْك لبَّيْك، لا شريك لك "، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم " قَدْ، [قَدْ] "، فيقولون: " إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك "، ويقولون: " غُفرانك،(4/2806)
غُفرانك "، فهذا استغفارهم. قال: وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني في الآخرة.
وقال قتادة المعنى: {وَمَا كَانَ (الله) مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: لو استغفروا لم يعذّبهم، ولكنهم ليس يستغفرون، فلذلك قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، وهم لا يستغفرون، ويصدون عن المسجد الحرام.
وهو اختيار الطبري. قال: كما نقول: " ما كنتُ لأُحسن إليك وأنت تسيء إليَّ "، يراد به: لا أحسن/ إليك إذا أسَأْتَ إليَّ، أي: لو أسَأْتَ إِلَيَّ لم أُحسن إليك.
وكما قال:
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشْيمُوا سُُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ(4/2807)
أي: إنما شاموها بعد أن كثرت القتلى.
وشمتُ السيف من الأضداد، شمتُه: سللته وأغمدته.
وقال بعض العلماء: هما أمانان أنزلهما الله عز وجل، فالواحد قد مضى وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني باق وهو استغفار (أمِنَ) من نزول العذاب به في الدنيا.
وقال ابن زيد معنى: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: لو استغفروا لم أعذبهم. وهم لا يستغفرون، فما لهم ألاَّ يُعَذَّبوا.
وهو قول قتادة الأول.
ومعنى ذلك قال السدي.(4/2808)
وقال عكرمة المعنى: لم يكن الله ليعذبهم وهم يُسلمون.
و" الاستغفار " هنا: الإسلام.
وقال مجاهد: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: وهم مسلمون، {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: قريشاً، بصدهم {عَنِ المسجد الحرام}.
ورُوِيَ عن ابن عباس، أيضاًُ أنَّه قال: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، [أي:] فيهم من سبق له [من الله] الدخول في الإسلام، فاستغفار مقدر فيهم يكون قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: يوم بدر بالسيف.
ورُوِيَ عنه أيضاً: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: وهم يصلون.
ورُوِيَ عنه أيضاً: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وفيهم مؤمنون يستغفرون فلما خرجوا(4/2809)
مع النبي صلى الله عليه وسلم، أنزل الله عز وجل: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: من بقي من الكفار بمكة.
وعن مجاهد أيضاً: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: يصلون.
وكذلك قال الضحاك.
ورُوِيَ عن عكرمة، والحسن أنهما قالا: قوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يعني: المشركين، ثم نسخ ذلك قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ [الله] وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام}.
وقيل المعنى: وأولادهم يستغفرون، قد سبق في علم الله، عز وجل، أنهم يؤمن أولادهم ويستغفرون، فلم يكن ليعذب هؤلاء بالاستئصال. وقد سبق أنهم يلدون(4/2810)
من يؤمن ويستغفر.
وقيل المعنى: وفيهم من يستغفرون. وهم من كان بمكة بين أظْهُرهم من المؤمنين لم يخرجوا بعد من المستضعفين وغيرهم، وقاله الضحاك. قال: وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: الكفار خاصة.
قال مجاهد: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: يصلون، يعني: من بمكة من المؤمنين.
وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}.
" أنْ ": في موضع نصب.
والمعنى: وأي شيء لهم في دفع العذاب عنهم. وهذه حالهم.(4/2811)
وقيل: هي زائدة.
وقيل المعنى: وما كان يمنعهم من أن يعذبوا. وهذه حالهم.
قوله: {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ}.
يعني: مشركي قريش.
{إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون}.
يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد {إِلاَّ المتقون}، أي كانوا أو حيث كانوا.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ}.
أي: أكثر المشركين: {لاَ يَعْلَمُونَ}، أنّ أولياء الله هم المتقون، بل يحسبون(4/2812)
أنهم هم أولياء الله.
ومن قال: إنّ قوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يعني به المؤمنين، وقف على: {وَأَنتَ فِيهِمْ}، لأن الأول للكافرين، والثاني للمؤمنين، وهو قول الضحاك، وعطية، وابن عباس في بعض الروايات عنه.
ومن قال: إنّ الكلام كله للكفار، وهو ما روي عن ابن عباس، وأبي زيد، والسدي، لم يقف على: {وَأَنتَ فِيهِمْ}.
{وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ}، وقف.
والأحسن في هذه الآيات أن يكون المعنى: أن منهم من سيؤمن فيستغفر،(4/2813)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
وقد علم الله عز وجل، ذلك منهم، فهو قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، / أي: سيكون منهم ذلك، ومنهم من يموت على الكفر، علم الله ذلك منهم، فهم الذين قيل فيهم: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، والسورة مدنية كلها.
قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}، إلى قوله: {يُحْشَرُونَ}.
رُوي عن أبي بكر عن عاصم:
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ}، بالنصب، {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}، بالرفع، مثل قول(4/2814)
الشاعر:
يكون مِزَاجَهَا عسل وماء. ... ومعنى الآية: وما كان يا محمد، صلاة هؤلاء المشركين عند البيت الحرام {إِلاَّ مُكَآءً}، أي: تصفيراً، {وَتَصْدِيَةً}، أي: تصفيقاً.
يُقال: مَكا يَمْكُو مَكْواً ومُكاءً، إذا صَفَر.(4/2815)
وصدَّى يُصدِّي تصدية، إذا صفَّق.
وقال ابن زيد، وابن جبير: (التصدية): صدهم عن سبيل الله.
وهذا إنما يجوز على أن تقدر أنَّ " الياء " بدل من " دال "، مثل: تظَنَّيتُ في تَظَنَّنْتُ.
وحكى النحاس: أنه يجوز أن يكون معناه: الضجيج والصياح، من قولهم: " صدَّ يَصُدُّ " إذا ضجَّ.
وتبدل من إحدى " الدالين " " ياء " أيضاً كالأول، وأصله: " تَصْدِدَة " في(4/2816)
القولين جميعاً، ثم أبدلت من " الدال الثانية " " ياء ".
قال ابن عباس: كانت قريش تطوف حول البيت عراة يُصفرون ويصفقون، فأنزل الله عز وجل، { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]، فأُمر بلبس الثياب.
وقال مجاهد " المُكاء ": إدخالهم أصابعهم في أفواههم ينفخون، و " التَّصْدِيَةُ ": الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة.
وقال قتادة " المُكَّاءُ ": الصَّفير بالأيدي، و " التَّصْدِيَةُ ": صياح كانوا يعارضون به القرآن.
وقال السدي " المُكاء ": صفير على لحن طير أبيض يقال له: " المُكَّاء "، يكون بأرض الحجاز.(4/2817)
وقوله: {فَذُوقُواْ العذاب}.
هو العذاب بالسيف الذي نزل بهم يوم بدر.
وهذا ذوق بالحس يصل ألمه إلى القلب كما يصل الذوق في مرارته وطيبه إلى القلب فسمي ذوْقاً لذلك.
ثم أخبرنا، تعالى، أنّ الذين كفروا يعطون أموالهم للمشركين مثلهم ليتقوَّوا بها على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فيصدون بذلك عن سبيل الله، وهو الإسلام، فيسنفقون أموالهم {ثُمَّ تَكُونُ} نفقتههم عليهم {حَسْرَةً}؛ لأنَّ الأموال تذهب، ولا يصلون إلى ما أمَّلوا، فذهابها في الدنيا حسرة عليهم، وما اجترحوا من إثمها عليهم حسرة في(4/2818)
الآخرة أيضاً، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ}، ولا تنفعهم نفقتهم، وهم إلى ربهم يحشرون في المعاد.
قال ابن أبزى: نزلت هذه الآية في أبي سفيان، استأجر يوم أُحد ألفين ليقاتل بهم النبي صلى عليه السلام، سوى من استجاش من العرب.
قيل: إنَّه أنفق أربعين أوقية [من ذهب]، يوم أحد، والأوقية يومئذ: اثنان وأربعون مثقالاً.
وذلك أنه لما وصل بالعير إلى مكة دعا الناس إلى القتال، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل إلى أحد. وكانت بدر في رمضان، يوم جمعة صبيحة عشرة من رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه في العام الثاني من بدر، وهو العام الرابع من الهجرة.
وروى جماعة من التابعين: أن أبا سفيان لما سلم بعيره [إلى مكة] / كانت العير لجماعة، فتكلم قريش إلى أصحاب العير أن يعينوهم بمالها على حرب النبي عليه السلام، ليطلبوا أَثْأَرهُم ففعلوا، فأنزل الله، عز وجل: { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية.(4/2819)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث (مِنَ الطيب)}، إلى قوله: {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
المعنى: إن الله عز وجل، يحشرهم ليميز الخبيث من الطيب، أي: أهل السعادة من أهل الشقاء.
وقيل: المؤمن من الكافر، فيجعل الخبيث بعضه على بعض. (أي: يجعل الكافر بعضهم على بعض، أي: فوق بعض).
{فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً}.
أي: يجمعه بعضه إلى بعض. و " الرُّكَامُ ": المُجْتمع، ومنه قوله في السحاب:(4/2820)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، أي يجمع المفترق، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43]، أي: مجتمعاً كثيفاً.
{فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}.
أي: الخبيث فوحد اللفظ ليرده على الخبيث، ثم جمع آخراً رداً على المعنى.
وقيل معنى: ليميز الخبيث من الطيب، أي: ما أنفقه الكافرون في معصية الله، سبحانه، فيجمعه فيجعله في جهنم، فيعذبون به. و {الطيب}: ما أنفقه المسلمون في رضوان الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ}.
أي: {قُل}، يا محمد، {لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ}، أي: عما نُهوا عنه، {يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}، أي: ما سلف وتقدم من ذنوبهم، {وَإِنْ يَعُودُواْ}، أي: إلى ما نهوا عنه من الصد عن سبيل الله عز وجل، والكفر بآيات الله سبحانه، وإلى مثل قتالك يوم بدر، {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}، أي: سنة من قتل يوم بدر، ومن هو مثلهم في أهلاك الله عز وجل، إياهم يوم بدر وغيرها.
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، إلى قوله: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.(4/2821)
المعنى: إن الله ( عز وجل) ، أمر المؤمنين بقتالهم لئلا تكون {فِتْنَةٌ}، أي: شرك. ف " الفتنة " هنا: الشرك، ولا يعبد إلا الله سبحانه.
وقال قتادة: المعنى: حتى يقال: لا إله إلا الله.
وقال الحسن: {فِتْنَةٌ}: بلاء.
وقال ابن إسحاق معناه: حتى لا يفتن مؤمن عن دنيه، ويكون التوحيد لله خالصاً.
{فَإِنِ انْتَهَوْاْ}.
أي: عن الفتنة، وهي: الشرك، فإن الله لا يخفى عليه عملهم.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ}.
عن الإيمان، وأبو إلا الفتنة، فقاتلوهم، واعلموا أن الله معينكم وناصركم، {نِعْمَ المولى} هو لكم، أي: المعين، {وَنِعْمَ النصير}، أي: الناصر.(4/2822)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} الآية.
هذه الآية تعليم من الله عز وجل، للمؤمنين، أن كل ما غنموه من غنيمة، وهو " الفيْ ".
وقيل: " الغّنِيمَةُ ": ما أُخذ عنوة، و " الفَيْءُ ": ما أُخذ صلحا. ف: " الغَنِيمَةُ ": أربع أخماسها لمن شهد القتال، للراجل: سهم، وللفارس: سهمان.(4/2823)
والصلح على ما صولحوا عليه، وليس فيه خمس، إنما هو لمن سمى الله عز وجل، في قوله: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} [الحشر: 7].
وقيل: " الغنيمة "، و " الفي " واحد، فيه الخمس في " الحشر " قاله قتادة.
وقوله: {للَّهِ خُمُسَهُ}.
مفتاح كلام، والدنيا والآخرة لله، عز وجل/ وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يقسم " الخمس " على(4/2824)
خمسة: فخمس لله وخمس لرسوله هو [خمس] واحد.
وقيل: إنَّ خمس لخمس لله وللرسول، كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقبض في " الخمس " قبضة فيجعله للكعبة، ثم يقسم باقي الخمس إلى خمسة.
وقال ابن عباس: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذ من " الخمس " شيئاً، إنما كان يعطي ذلك لقرابته مع نصيبهم.
وقد أجْمَعُوا على أنَّ " الخمس " لا يقسم على ستة.(4/2825)
ومذهب الشافعي أن يقسم الآن على: خمسة، فيجعل، جزء فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يجعله، وذلك أن يجعل تقوية للمسلمين، وكذا رُوي أنه كان يفعل، ويعطي الأربعة الأخماس: الخمس {وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} سهماً سهماً.
وقال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة: للفقراء: ثلث، وللمساكين ثلث، ولابن السبيل ثلث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ "، فسقط خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وخمس ذوي القربى.
ومذهب مالك رضي الله عنهـ: أنَّ الإمام يعطي من رأى من هؤلاء المذكورين من هو أحوج، فإذا جعلت في بعض دون بعض جاز.(4/2826)
ومعنى: {وَلِذِي القربى}.
هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني هاشم.
وقال أبو سعيد الخدري عن ابن عباس: إنهم قريش كلهم.
{واليتامى}.
أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم.
{والمساكين}.(4/2827)
أهل الفاقة.
{وابن السبيل}.
المجتاز مسافراً قد انقطع به.
{إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله}.
أي: صدقتم بتوحيده، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا.
{يَوْمَ الفرقان}.
وهو يوم بدر، فرق فيه بين الحق والباطل.
{يَوْمَ التقى الجمعان}.
يعني: جمع المسلمين وجمعْ المشركين، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم،(4/2828)
كان المشركون ما بين الألف والتسعمئة والمسلمون ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فقتل من المشركين أزيد من سبعين، وأسر مثل ذلك.
وقال بعض نحويي البصرة قوله: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله}، متعلق بقوله: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.
وقيل: هو متعلق بما قيل من ذكر الغنيمة وقسمتها، وجواب الشرط محذوف، والمعنى: إن كنتم [آمنتم] بالله فاقبلوا ما أمرتم به.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.(4/2829)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
أي: على إهلاك أهل الكفر، وغير ذلك مما يشاء قدير.
قوله: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} إلى قوله: {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
العامل في {إِذْ} قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] {إِذْ أَنتُمْ}.
والمعنى: إذ أنتم نزُولُ شفير الوادي الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بشفير الوادي الأقصى إلى مكة.
{والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ}.
أي: والعير التي فيها أبو سفيان وأصحابه أسفل منكم إلى ساحر البحر.
ولا يقال: ركب إلا للذين على الإبل.(4/2830)
وكان أبو سفيان قد أتى هو وأصحابه تجاراً من الشام، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. بكفار قريش، ولا كفار قريش بأصحاب محمد عليه السلام، حتى التقوا على ماء بدر.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد}.
أي: لو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه عن ميعاد، لاختلفتم، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم.
{ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}.
أي: جمعكم الله عز وجل، وإياهم {لِّيَقْضِيَ الله} عز وجل، { أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}، وذلك القضاء هو/ نصره للمؤمنين، وتعذيبه للمشركين بالسيف والأسر.
وقيل: المعنى: لو كان [ذلك] [عن] ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة(4/2831)
عددهم مع قلة عددكم، ما لقيتموهم.
قال كعب بن مالك: إنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى بدر يريد عِيرَ قريش، حتى جمع الله عز وجل، بينهم وبين عدوهم؛ لأن أبا جهل خرج ليمنع النبي صلى الله عليه وسلم، من العير، فالتقوا ببدر، ولا يشعر كل واحد بصاحبه.
ثم قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ}.
أي: ليموت من مات عن حجة، أي: جمعهم على غير ميعاد، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ}، أي: عن حجة قطعت عذره، ويعيش من عاش عن حجة قد ظهرت له.(4/2832)
وقيل المعنى: ليكفر عن أمر بيّن، ويؤمن من آمن عن أمر بَيّن.
{وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
أي: لقولكم: {عَلِيمٌ} بما تضرمه نفوسكم في كل حال.
قوله: {مَنْ حَيَّ}.
من قرأ بـ " الإِدْغامِ "، فإنه أدْغم لاجتماع المثلين؛ ولأنه في السواد بـ: " يَاءٍ " واحدة.
ومن أظهر أجراه مجرى المستقبل، فلما لم يجز الإدغام في المستقبل (أجري(4/2833)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
الماضي على ذلك، فأظهر وقد أجاز الفراء الإدغام في المستقبل)، ومنعه جميع البصريين؛ لأنه يجتمع في المستقبل حرفان متحركان، ف: " الياء " الثانية حق أصلها أن تكون ساكنة، ولا يقاس هذا على ما صح لم يخف؛ لأنَّ " يحيى " يحذف ياؤه للجزم، ولا يحذف في " يخف " شيء للجزم.
قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً}، إلى قوله: {تُرْجَعُ الأمور}.
والمعنى: إنّ الله عز وجل، يا محمد، {لَسَمِيعٌ} لما يقول أصحابك {عَلِيمٌ} بما يضمرون، إذ يريك عدوك وعدوهم {فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً}، فتخبر أصحابك بذلك، فتقوى(4/2834)
نفوسهم، ويجترئون على حرب عدوهم، ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيراً، لفشل أصحابك فجبنوا على قتالهم، وتنازعوا في ذلك، {ولكن الله سَلَّمَ}، من ذلك بما أراك في منامك من قتلهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ}، بما تُجِنُّه الصدور.
قال مجاهد: أراهم الله عز جل، نبيّه عليه السلام، في منامه قليلاً، فأخبر أصحابه، فكان تثبيتاً لهم.
وقال الحسن: كان ذلك رؤية حق غير منام.
والمعنى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ [الله]} بعينك التي تنام بها {قَلِيلاً}، فالمعنى على هذا: في موضع منامك.(4/2835)
وهو عند جميع أهل التفسير رؤيا في النوم كانت، إلا الحسن: فأمّا قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم}، فهي رؤية حق لا منام، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه.
ومعنى: {ولكن الله سَلَّمَرِ}.
أي: سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظفرهمه.
وقيل المعنى: سلم أمره فيهم.
وقيل: سلم القوم من الفشل بما أرى نبيهم صلى الله عليه وسلم. من قلتهم. قاله ابن عباس. يقال: فَشِل الرجل، أي: جَبُن.(4/2836)
ثم قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً}.
أي: أراكم، أيها المؤمنون، عدوكم، قليلاً، وهم كثير ليهون عليكم أمرهم، فلا تجزعوا ولا تجبنوا، ويقلل المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم.
قال عبد الله بن مسعود: قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جانبي: أراهم سبعين؟ قال: أراه مائة، قال: فأسرنا رجلاً منهم/ فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا.
وكان من قول أبي جهل لأصحابه لما قلّل الله عز وجل، المسلمين في عَيْنَيْه: يا قوم، لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خُذُوهم أَخْذاً، فاربطوهم بالحبال.(4/2837)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
ثم قال: {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}.
أي: فعل ذلك، فيظفركم بعدوكم، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.
أي: تصير في الآخرة إليه، فيجازي كل نفس بماكسبت.
قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا}، إلى قوله: {مَعَ الصابرين}.
هذه الآية تحريض من الله، عز وجل، للمؤمنين في الثبات عند لقاء العدو، وأمرهم بذكر الله، سبحانه {كَثِيراً}، أي: يذكرونه في الدعاء إليه في النصر على عدوهم، {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}.
{وَأَطِيعُواْ الله} عز وجل، { وَرَسُولَهُ} عليه السلام، أي: فيما أمركم به، {وَلاَ تَنَازَعُواْ}، أي: تختلفوا فتفترق قلوبكم، {فَتَفْشَلُواْ}، أي: تضعفوا وتجنبوا، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، أي: قوتكم وبأسكم ودولتكم، فتضعفوا، {واصبروا}، أي: اصبروا مع نبي الله عز وجل، عند لقاء عدوكم، {إِنَّ الله مَعَ الصابرين}، أي: معكم.(4/2838)
قال مجاهد، وابن جريج ذهب ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين نازعوه يوم أحد، أي: تركوا أمره، يعني: الرُّماة.
قال ابن زيد، ومجاهد، وغيرهم: (الرِّيحُ) ريح النّصر.
قال ابن زيد: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله عز وجل، يضرب بها وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَامٌ.
فمعنى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
(أي): الريح التي هي النصر، وعلى ذلك قال قتادة ومجاهد: {رِيحُكُمْ}: نصركم.(4/2839)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ}، الآية.
هذه الآية تنبيه للمؤمنين ألاّ يعملوا عملاً إلا الله عز وجل، وطلب ما عنده تبارك وتعالى، ولا يفعلوا كفعل المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس. وذلك أنهم أُخبروا أن العير قد فاتت النبي صلى الله عليه وسلم، [ وأصحابه]، وقيل لهم: ارجعوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها، فأبوا الرجوع، وقالوا: نأتي بدراً فنشرب بها الخمر، وتعزم علينا بها القيان، وتتحدث بنا العرب، فسُقُوا مكان الخمر المنايا.
وفيهم نزل: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} الآية.
قال ابن عباس: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عِيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجت، فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والكله لا نرجع حتى نَرِد بدراً، وكان " بدر " موسماً من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم عليهم ثلاثاً، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، فمضوا حتّى أتوا بدراً، فاجتمع السقاة على الماء من هؤلاء ومن هؤلاء، فجاز المشركون الماء.(4/2840)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
ومعنى " البَطَرُ ": التقوية بنعم الله، تعالى على المعاصي، فأمر الله عز وجل المؤمنين بإخلاص العمل له، ولا يكونوا كهؤلاء، الذين أتوا بدراً للرياء والسمعة بَطَراً منهم.
قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}، الآية.
المعنى: اذكر إذ زيّن لهؤلاء الكفار الشيطان أعمالهم.
وقيل: المعنى: {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، في هذه الأحوال، وحين زيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم.
قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر بجنوده فزين لهم أنهم لن ينهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم، وأنه جَارٌ لهم، فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ}، أي: رجع مدبراً، وقال لهم: {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ}.(4/2841)
قال السدي: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك الكِناني الشاعر/ على فرس فقال: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس}، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا جَارُكُمْ سراقبة بن مالك، وهؤلاء كنانة قد أتوكم.
وقال قتادة: لما رأى الملعون جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة، علم أنه لا يدين له بالملائكة، فقال: {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ}، وقال: {إني أَخَافُ الله}، وكذب الملعون، ما به مخافة الله عز وجل، ولكن لما رأى ما لا منعة له منه، فرق وقال ذلك، وهو كاذب على نفسه.(4/2842)
وقيل: إنه ظنَّ أنَّ الوقت الذي أُنظِر إليه قد حضر، فخاف.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما رُئِيَ إبليس يوماً هو فيه أصْغَرُ، [ولا أدحر]، ولا أحْقَرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر "، قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: " أما إنه رأى جبريل عليه السلام، يَزَعُ الملائكة ".
قال الحسن: رأى جبريل عليه السلام، مُعْتَجِراً بِبُرْد، يمشي بين يدي النبي عليه السلام، وفي(4/2843)
يده اللجام.
ومعنى: {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ}. رجع القهقري.
وقيل معناه: رجع من حيث جاء.
وكانت وقعة بدر لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، من مكة.
قال مالك: على رأس سنة ونصف.
وكانت وقعة أحد بعد بدر بسنة.(4/2844)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
قوله: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} إلى قوله: {لِّلْعَبِيدِ}.
المعنى: واذكر، يا محمد، {إِذْ يَقُولُ}.
وقيل المعنى: {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، في هذه الأحوال، وحين يقول المنافقون: كذا وكذا.
و {المنافقون} هنا: نَفَرٌ لم يستحكم الإيمان في قلوبهم من مشركي قريش، خرجوا مع المشركين من مكة وهم على الارتياب، فلما رأوا قلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ}، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلبة عددهم.
وقال الحسن: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا: " منافقين ".
وقال معمر: هم قوم أقروا بالإسلام بمكة، ثم خرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ}.
قال ابن عباس: إنّما قالوا ذلك حين قلل الله المسلمين في أعين المشركين، فظنوا(4/2845)
أنهم يغلبون لا محالة.
وقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله}.
أي: يسلم أمره إلى الله عز وجل { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ}، أي: لا يغلبه شيء، ولا يقهره أمر {حَكِيمٌ} في تدبيره.
ف {المنافقون}: هم الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الشرك، {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}: هم الشاكون في أمر الإسلام. وقيل: هما واحد، كما قال: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3]، ثم قال: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4]، وهما واحد.
ويُروى أن رجلاً من الأنصار رأى الملائكة يوم بدر، فذهب بصره، فكان يقول: لولا ما ذهب بصري لأرَيْتكُم الشِّعْب الذي خرجت منه الملائكة.
قال: ولقد سمعت حَمْحَمة الخيل.
قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة}.(4/2846)
أي: لو عاينت ذلك، يا محمد، رأيت أمراً عظيماً، يضربون وجوههم وأستاههم، يقولون لهم: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، أي: النار. ف: " يقولون " محذوفة من الكلام.
وجواب {لَوْ} محذوف. والمعنى: ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وشبه هذا.
وهذا إنما يكون عند قبض أرواحهم.(4/2847)
وقيل: إنما يكون يوم القيامة.
وقيل: أريد به يوم بدر، قاله مجاهد.
قال مجاهد {أَدْبَارَهُمْ}: أستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي.
قال ابن عباس: / كان المشركون إذا أقبلوا بوجوهم يوم بدر إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولَّوا، أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم.
قوله: {الذين كَفَرُواْ}. وقف، إن جعلت المعنى: إذ يتوفى الله الذين كفروا، ثم تبتدئ: {الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، على الابتداء والخبر.
ويدل على هذا المعنى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42].(4/2848)
وإن جعلت الملائكة هم يتوفونهم، وقفت على {الملائكة}، وهو مروي عن نافع، وجعلت {يَضْرِبُونَ}، على إضمار مبتدأ، أي: هم يضربون.
والأحسن الوقف على {أَدْبَارَهُمْ}، وهو التمام وتبتدئ: {وَذُوقُواْ}، على معنى: ويقولون.
{وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} تمام، إن قدرت " الكاف " في {كَدَأْبِ} [الأنفال: 52]، متعلقة بقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لِّلْعَبِيدِ}.
فإن قدرت أنها متعلقة بقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. فإن قدرت أنها متعلقة بقوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، لم تقف على: {الحريق}؛ لأنّ المعنى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} ذوْقاً {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}. ف: " الكاف " على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف.(4/2849)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
و {ذلك}، في موضع رفع بالابتداء، والخبر: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، والتقدير: ذلك العذاب لكم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، أي: من الآثام.
وقيل: هو في موضع رفع إضمار مبتدأ، والتقدير: الأمر ذلك.
{وَأَنَّ الله}، " أن " في موضع خفض عطفاً على " ما ".
أو في موضع نصب على حذف حرف الجر.
أو في موضع رفع نَسَاقاً على: {ذلك}.
أو على إضمار مبتدأ، والتقدير: وذلك أنَّ الله.
قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.(4/2850)
" الدَّأْبُ ": العادة، وأصله من قولهم: " فلان يَدْأَبُ على الشيء ":
أي: يدوم عليه ويلزمه.
و" الكاف " متعلقة بقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}.
من المعاصي كعادة آل فرعون والذين من قبلهم.
و" الكاف " من: {كَدَأْبِ}، في موضع رفع على إضمار مبتدأ.
أي: العادة في تعذيبكم عند قبض الأرواح وفي القبور مثل العادة في آل فرعون.
ويجوز أن تكومن " الكاف " متعلقة بـ: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، فتكون في موضع نصب على معنى: ذوقوا مثل عادة آل فرعون في إذاقتا إياهم العذاب.
فالمعنى: فعل هؤلاء المشركون كما فعل آل فرعون، أو فعلنا، بهم كفعلنا بآل فرعون، فإذا رددت التشبيه إلى فعل المشركين وفعل آل فرعون جاز، وإذا رددته إلى(4/2851)
فعل الله عز وجل بهؤلاء كفعله بهؤلاء جاز، ويتمكن في كلا الوجهين في: " الكاف " الرفع والنصب.
قال مجاهد المعنى: كَسُنَنِ آل فرعون.
وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ}.
أي: فعاقبهم الله بتكذيبهم.
{إِنَّ الله قَوِيٌّ}.
أي: لا يغلبه غالب.
{شَدِيدُ العقاب}.
لمن كفر به.
قوله: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ}، الآية.
{ذلك}: في موضع نصب، على معنى: فعلنا ذلك.(4/2852)
ويجوز أن يكون في موضع رفع، على معنى: هذا ذلك.
وقوله: {بِأَنَّ الله}: في موضع رفع أو نصب عطف على: {ذلك}.
والمعنى: فعلنا ذلك بمشركي قريش ببدر بذنوبهم، بأنّهم غيَّروا نعم الله عليهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وتغييرهم لها هو كفرهم بما أتاهم به، وإخراجه من بين أظهرهم، وحربهم إياه.
قال السدي " نعمة الله " على قريش: محمد صلى الله عليه وسلم كفروا بها، فنقله الله إلى الأنصار.
{سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: تمام، إن جعلت المعنى فيما بعده: عادتهم كعادة فرعون، فتضمر مبتدأ تكون " الكاف " خبره.
وإن جعلت {كَدَأْبِ} متعلقة بقوله: {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} لم تقف على: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
ويكون التقدير/ في التعليق: {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، كعادة آل فرعون في(4/2853)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
التغيير والإهلاك.
قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ}.
{كَدَأْبِ} في هذه ليست بتكرير للأولى، لأن المعنى في الأولى: العادة في التعذيب، أو العادة في فعل المشركين بنبيهم كالعادة في آل فرعون، وهذا الثاني المعنى فيه: العادة في التغيير من هؤلاء كعادة آل فرعون في ذلك، فأهلك من كان قبل فرعون بذنوبهم، وأغرق (آل) فرعون، والجميع كانوا ظالمين، فكذلك أهلك هؤلاء بالسيف ببدر، إذ غيّروا نعمة الله وهي الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ}، إلى قوله: {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}.
المعنى: إنّ شر من دَبَّ على وجه الأرض، الذين كفروا بالله ورسوله.
و {الدواب}: يقع على الناس وعلى البهائم، وقد قال تعالى في موضع آخر: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6].(4/2854)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
وقوله: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ}، بدل من {الذين كَفَرُواْ}.
والمعنى: الذين أخذوا عهدك ألاّ يحاربوك، ولا يعاونوا عليك كقريظة، إذ والت على النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الخندق أعداءه بعد عهدهم له ألا يفعلوا ذلك، {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}، الله في ذلك، ولا يخافون أن يوقع بهم الهلاك لفعلهم ذلك.
قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب}، إلى قوله: {الخائنين}.
" إمّا ": للشرط، وتلزمه النون الشديدة توكيداً، لدخول " ما " من " إنْ "، هذه علة البصريين.(4/2855)
وقال الكوفيون: تدخل " النون " الخفيفة والشديدة مع " إمّا " للفرق بين كونها للشرط وكونها للتخيير.
ومعنى الآية: إنْ لقيت يا محمد، هؤلاء الذين عاهدتم، ثم نقضوا عهدك في الحرب {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}.
أي: افعل بهم فعلاً يكون مُشَرَّداً لمن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عَهْد.
و" التَّشْرِيدُ ": التطريد والتبديد والتفريق.(4/2856)
فأُمر بذلك صلى الله عليه وسلم ليكون أدباً لغيرهم، فلا يجترئوا على مثل ما فعله [هؤلاء] من نقض العهد.
وقال السدي: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}، أي: نكل بهم، ليحذر من خلفهم ممن بينك وبينه عهد.
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
أي: يتعظون إذا رأوا ما صنع بمن نقض العهد.
وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً}.
أي: إن خفت يا محمد، من قوم بينك وبينهم عهد (وعقد) أن يخونوك وينقضوا عهدك، {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ}، أي: حاربهم وأعلمهم قبل إتيانك لحربهم أنك فسخت عهدهم، لِمَا كان منهم من أمارة نقض العهد، وإتيان الغدر والخيانة منهم، فيستوي علمك وعلمهمه في الحرب، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين}، أي: من خان(4/2857)
عهداً، أو نقض عهداً.
و" الخَوْفُ " هنا: ظهور ما يتيقن منهم من إتيان الغدر، وليس هو الظن.
ومعنى: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ}.
أي: انبذ إليهم العهد، وأعلمهم بأنك قد طرحته، لما ظهر إليك منهم، وأنك محارب لهم، فيستوي أمركما في العلم.
قال الكسائي: {على سَوَآءٍ}: على عدل، أي: تعدل بأن يستوي علمك وعلمهم.
وقال الفراء المعنى: افعل بهم كما يفعلون سواء.(4/2858)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
وقال أيضاً: {على سَوَآءٍ}: جهراً لا سراً.
قال أبو عبيدة معنى: {تَخَافَنَّ}: تُوقِنَنَّ.
قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا}، إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.
خطَّأ أبو حاتم من قرأ بـ: " الياء "، ووجهها عند غيره ظاهر حسن.(4/2859)
والمعنى في " الياء ": ولا يَحْسَبَنَّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون ضمير الفاعل في {يَحْسَبَنَّ}، يعود على {مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، و {الذين كَفَرُواْ}: مفعول أول، و {سبقوا} في موضع الثاني.
وقال الفراء التقدير: أن سَبَقَوا.
وقال: وفي حرف عبد الله: / {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}.
ورُوي عنه: " ولا يَحْسَبَ "، بفتح الباء، على إرادة النون [الخفيفة].(4/2860)
ومن فتح: {إِنَّهُمْ}، وقرأ بـ " الياء " أو بـ: " التاء " فمعناه: لأنهم، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً بـ: " حسب "، كما لا يجوز: حَسَبْتَ زيداً أنه قائم؛ لأن زيداً غير قيامه، ولو قلت: حسبت أمرك أنك قائم، جاز فتح " أن " لأن أمرك هو قيامك.
ومعنى ذلك: لا يحسب من ظفر بالخلاص مَنْ هذه الوقعة سبق.
ثم قال: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}، لا يفترون.
ومن قرأ بـ: " الياء " فمعناه: لا يحسب مَنْ خلفهم الذين كفروا سبقوا،(4/2861)
أي: بالخلاص، ثم قال: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}، أي: لا يفوتون.
ثم حضّ المؤمنين على أن يُعِدُّوا لهؤلاء الذين خِيَف منهم نقض العهد ما استطاعوا {مِّن قُوَّةٍ}.
أي: من الآلات التي تكون قوة في الحرب مثل: السلاح، والنبل، والخيل.
و" القوَّة: الرَّمْيُ "، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عكرمة: {مِّن قُوَّةٍ}: الحصون.
وقال مجاهد: {مِّن قُوَّةٍ}: ذكور الخيل، {وَمِن رِّبَاطِ الخيل}: إناثها.
قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله}.
أي: تخيفونهم به.(4/2862)
ورُوَي: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ألاَ إنَّ القُوةَ الرَّمْيُ "، وأعادها ثلاثاً.
قال عكرمة: [القُوّة]: ذكور الخيل، ورباطها: إناثها.
قال عقبة بن عامر الجُهَني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانِعُه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومُنْبِلَه، فارموا واركبوا، وأن تَرْمُوا أحب إلي من أن تركبوا، وليس اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل(4/2863)
فرسَه، وملاعبتَه امرأته، ورميه بقوسه ونَبْله. ومن ترك الرّمي من بعد ما علمه فإنه نعمة كفرها أو كفر بها ".
قال أبو نجيح السُّلَمي: حاصَرْنا قصر الطائف فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " مَنْ رمى بسهم في سبيل الله، فهو له عدل رقبة، ومن شاب شيبة في الإسلام فهو له عدل مُحَرَّرٍ من النار ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الخَيْل مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْر إلى يوم القيامة: الأجر والمَغْنَمُ "
، رواه عروة البَارِقِيُّ عنه، وكذلك رواه أبو هريرة وابن عمر.
وروى أنس بن مالك عنه أنه قال: " البَرَكَةُ في نواصي الخَيْل ".(4/2864)
وروى عنه أبو هريرة أنه قال: " من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعد الله، كان شِبَعُهُ وَرِيُّهُ وَبَوْلُهُ ورَوْثُه حسناتٍ في ميزانه يوم القيامة ".
قوله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}.
يعني بهم: بني قريظة.
قال السدي: هم أهل فارس.
وهذان القولان يردهما علم المؤمنين ببني قريظة وبفارس، وقد قال تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}.(4/2865)
وقال ابن زيد: هم المنافقون لا تعلمونهم؛ لأنهم [معكم]، يقولون: لا إله إلا الله، لا يعلمهم إلا الله.
وهذا قول حسن موافق لقوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}، فالله هو المطلع على سرائرهم.
وقيل: هم الجن.
وهو اختيار الطبري.(4/2866)
وهو أحسن الأقوال، لما رُوي أن الجن تفرُّ من صهيل الخيل.
ورُوِيَ: أن الجن لا تقرب داراً فيها فرس، وأيضاً: فإن لا نعلمهم، كما قال عز وجل.
روى ابن مِقْسَمِ: أن رجلاً أتى ابن عباس، فشكا إليه ابنته تُعترى، فقال له: ارتبط فرساً، إن كنت ممن يركب الخيل وإلا فاتخذه، فإن الله جل اسمه، يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}، فإن الجن من الذين لا تعلمونهم، ففعل الرجل ما أمره، فانصرف عن ابنته العارض.
وقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}.(4/2867)
أي: لا يضي (لكم) عند الله/ أجره في الآخرة، ولا خَلَفه في الدنيا.
قوله: {وَآخَرِينَ}.
منصوب على معنى {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ}: وتَوَقَّوا آخرين، فلا تقف على ماقبله على هذا.
ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل غير هذا، فتبتدئ به إن شئت.
وإن جعلته معطوفاً على: {عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ}، أي: وترهبون آخرين، لم تقف أيضاً قبله.
{لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} وقف.(4/2868)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا}، إلى قوله: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قد تقدم ذكر " السلم " في الفتح والكسر في " البقرة ".
والمعنى: إن جنح هؤلاء الذين أمرت أن تنبذ إليهم على سواء إلى الصلح، أي: [مالوا إليه] فمل إليه، إمّا بالدخول في الإسلام، أو بإعطاء الجزية، وإما بموادعة.
قال قتادة: وهي منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وقال ابن عباس نسخها: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} [محمد: 35].(4/2869)
وقال عكرمة والحسن نسخها: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29]، الآية.
وقيل: إنها مُحْكَمةٌ.
والمعنى: إن دعوك إلى الإسلام فصالحهم. قاله ابن إسحاق.(4/2870)
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله}.
أي: فوض أمرك إلى الله، {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}.
ثم قال: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله}.
أي: إن يرد هؤلاء الذين أمرناك أن تجنح إلى السلم إن جنحوا لها خداعك وخيانتك، {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله}، أي: كافيك الله.
{هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين}.
أي: قوَّاك بذلك على أعدائك، {وبالمؤمنين} هنا: الأنصار. وهذا كله في بني قريظة.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}.
أي: بين قلوب الأنصار: الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، {لَوْ(4/2871)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً}، أي من ذهب وفضة {مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله [أَلَّفَ] بَيْنَهُمْ}، على الهدى، فقواك بهم.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله عز جل: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، الآية.
وقال مجاهد: [إذا] التقى المسلمان وتصافحا غُفِر لهما.
قوله: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك}، الآية.
{حَسْبُكَ الله}: تمام، إن جعلت {وَمَنِ اتبعك} ابتداء.(4/2872)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
أي: ومن اتبعك من المؤمنين حسبه الله، أي: يكفيك ويكفيه.
وقال الكسائي: {وَمَنِ اتبعك}: في موضع نصب عطفاً على موضع " الكاف " في التأويل.
وقيل عنه: {مَنِ} في موضع رفع عطفاً على أسم {الله}، جل ذكره، أي: يكفيك الله ويكفيك من اتبَعَك من المؤمنين.
ولا يحسن الوقف على: {حَسْبُكَ الله} على هذين التأويلين.
قوله: {يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} إلى قوله: {مَعَ الصابرين}.
والمعنى: إن الله، تبارك وتعالى، أمر نبيه عليه السلام، أن يحث من آمن به على(4/2873)
قتال المشركين.
و" التَّحْرِيضُ ": الحث الشديد، وهو مأخوذ من: " الحَرَضِ "، وهو: مقاربة الهلاك.
قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}.
أي: يصبرون على لقاء العدو، ويثبتون {يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}.
من عدوهم، {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً}، من العدو، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}، أي: من أجل أنّ المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر، فهم لا يثبتون عند اللقاء، خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم.
ثم خفف تعالى ذلك عن المؤمنين، فقال: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، أي: تضعفون عن أن يلقى الواحد منكم عشرة منهم، {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ}، على المكاره عند لقاء العدو، {يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} من العدو {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله}، أي: بمعونته {والله مَعَ الصابرين}.(4/2874)
قال عطاء: لما نزلت الآية الأولى، ثقل ذلك على المسلمين، وأَعْظَموا أن يقاتل عشرون منهم مئتين، ومئة ألفاً فَخَفَّف [الله] ذلك عنهم، فنسخها بالآية الآخرى فردهم يقفون إلى من هو مثلا عددهم، فإن (كان) المشركون أكثر من المسلمين، لم يلزم المسلمين الوقوف لهم، وحلَّ لهم أن يَتَحَوَّزُوا عنهم.
وقاله: عطاء، وعكرمة، والحسن، والسدي.
وقيل: إن هذا من الله تخفيف وليس بنسخ، فإنه لم يقل: لا يقاتل الواحد العشرة، إنما خفف عنهم ما كان فرض عليهم، ونظير ذلك: إفطار الصائم في السفر، إنما هو تخفيف، ولا يقال له نسخ، ألا ترى أنه لو صام لم يأثم، وأجزأه صومه.(4/2875)
ومن قرأ: {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ}، بـ " التاء "، فعل تأنيث اللفظ.
ومن قرأ بـ: " الياء "، فلأنه تأنيث غير حقيقي، إذ المعنى: مائة رجل.
وقرأ أبو جعفر: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، بالمد، جمع ضعيف.(4/2876)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى}، إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
المعنى: ما كان لنبيٍ أن يَحْبَسٍ كافراً قَدَر عليه للغاية والمن.
و" الأسْر ": الحبْس.
قوله: {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض}.
أي: حتى يبالغ في قتل المشركين وقهرهم.(4/2877)
وهذا تعريف من الله عز وجل لنبيه عليه السلام، قتل من فادى به يوم بدر، كان أولى من المفاداة وإطلاقهم.
وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا}.
هذا للمؤمنين الذين رَغِبُوا في أخذ المال والفداء.
{والله يُرِيدُ الآخرة}، أي: يريد لكم زينة الآخرة وخيرها.
قال ابن عباس: كان هذا يوم بدر، والمسلمين قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل، في الأسرى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4]، فجعل الله المؤمنين بالخيار في أسَارَاهُم.(4/2878)
وقال مجاهد: " الإثْخان ": القتل.
وقال ابن مسعود: لما كان يوم بدر وجيء بالأسَارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر، رضي الله عنهـ: يا رسول الله، قومك وأهلك، فأستبقهم، لعل الله أن يتوب عليهم.
وروي عنه أنه قال: يا رسول الله، بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام.
وقال عمر رضي الله عنهـ، كذبوك وأخرجوك، فاضرب أعنقاهم.
ورُوي عنه أنه قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي قال أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضْرمه عليهم. فقال له العباس: قطعتك رحمك. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ناس: نأخذ برأي أبي بكر. وقال ناس: نأخذ برأي عمر.
وقال ناس: نأخذ برأي عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/2879)
فقال: " إن الله ليُليّنُ قلوب رجال [حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة]، وإن مثلك يا أبا بكر، مثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَن تَبِعَنِي [فَإِنَّهُ] مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، ومثلك يا عبد الله كمثل موسى، قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ/ واشدد على قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88]، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتم اليوم عالة، فلا يقتلنّ أحد منكم إلا بفداءٍ أو ضربة عُنُق ".(4/2880)
قال قتادة: فَادَوْهُم بأربعة آلاف أربعة آلاف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يثخن في الأرض، وكان أول قتاله المشركين.
قال مالك: الإمام مخير في الرجال، إن شاء قتل، وإن شاء فادى بهم أسارى المسلمين، قال: وأمثل ذلك عندنا أن يقتل من خفيف منه.
وقال جماعة من العلماء: الإمامُ مُخيَّر، إن شاء قتل، وإن شاء أسر، وإن شاء فادى، وهو قول الشافعي وغيره).(4/2881)
من قتل أسيراً قبل أن يوصله إلى الإمام فلا شيء عليه، وقد أساء، فإن قتل صبياً أو امرأة عوقب وغرم الثمن، هذا قول الشافعي وغيره.
وقال الأوزاعيي والثوري: لا يقتل الأسير حتى يبلغ الإمام، إلا أن يخافه، فإن قتله بعدها وصل به إلى الإمام غرم ثمنه، وإن قتله قبل أن يصل عوقب ولا غرم عليه.
قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ [مِّنَ] الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
هذا خطاب لأهل بدر في أخذهم الغنائم والفداء.
وروي أن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر، ولو بعث بعدي نبي لبعث عمر "، رضي الله عنهـ.
وذلك أن عمر رضي الله عنهـ أشار على النبي صلى الله عليه وسلم، بقتل الأسارى، وألا تؤخذ منهم الفدية، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: كذّبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم. وخالفه أبو بكر رضي الله عنهـ، وغيره في ذلك.(4/2882)
والمعنى: لولا أنّ الله قد سبق قضاؤه في اللوح المحفوظ، أنه يحل لكم ذلك، لعقوبتم بما فعلتم؛ لأنه تعالى لم يكن يحل ذلك لأحد من الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أخذوا الغنائم وقبلوا الفداء، قبل أن ينزل عليهم ما قد سبق منه، تعالى، أن يحله لهم، وكانت الأمم قبل محمد، عليه السلام، إذا غَنِمُوا شيئاً جعلوه للقربان فتأكله النار، فهو حرام عليهم، لا يحل لأحد منهم شيء منه.
وقيل: المعنى: لولا أن سبق في علمي أني سأحل لكم الغنائم، لمسكم في أخذكم إياها عذاب عظيم.
وقيل المعنى: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم لمسهم في أخذهم الغنائم عذاب عظيم، قال ذلك: الحسن، وقتادة وابن جبير.
وقال ابن زيد: سبق في علمه الغفو عنهم، والمغفرة لهم، يعني: أهل بدر، ولولا(4/2883)
ذلك، لمسهم إذ أخذوا الغنائم التي لم تحل لأحد قبلهم عذاب عظيم.
وقال مجاهد: لولا أنه سبق في علمه أن لا يُعذَّبَ أحد بفعل أتاه جهلاً، لمسكم فيما جهلتم فيه، من أخذ الغنائم عذاب عظيم.
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " نُصِرْتُ بالرُّعب، وجُعلت لي الأرض مسجداً وظهوراً، وأعطيت جوامع الكَلِمَ، وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي كان قبلي، وأُعْطِيتَ الشفاعة، خمس لم يؤتهنَّ نبي كان قبلي ".
وقيل المعنى: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي، لعذبتكم بأخذكم للغنائم.
واختار النحاس، وغيره، أن يكون المعنى: لولا أنه سبق من الله تعالى، أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، لعذبكم بأخذكم الغنائم.(4/2884)
وقيل المعنى: / {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ}، فآمنتم به، وهو القرآن فاستوجبتم بإيمانكم الصفح والغفو، لعذبتم على أخذكم الغنائم.
قال ابن زيد: لم يكن أحد ممن حضر بدراً إلا أحب أخذ الغنائم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، فإنه جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قومن نجاهد في سبيل الله حتى يعبد الله.
ثم أحلَّ لهم ذلك فقال: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله}، أي: خافوه فيما حرم عليكم، وما نهاكم عنه، وفي أن تركبوا بعد هذا فعل ما لم تؤمرا به.
{إِنَّ الله غَفُورٌ}.
أي: لذنوب أهل الإيمان، أي: سائر عليها، {رَّحِيمٌ} بهم.(4/2885)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قال الطبري: {واتقوا الله}، يراد به التأخير بعد {رَّحِيمٌ}.
قوله: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى}، إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قوله: {يا أيها النبي}، ثم قال: {في أَيْدِيكُمْ}، إنما ذلك؛ لأن المعنى: قل لمن في يديك، ويدي أصحابك من الأسرى.
وقيل: المعنى: يا أيها النبي قل لأصحابك: قولوا لمن في أيديكم من الأسرى.
وقيل: المخاطبة له مخاطبة لأمته.
والمعنى: يا محمد، قل لمن في يديك ويدي أصحابك من الأسرى الذين أخذ منهم الفداء: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً}، أي: إسلاماً، {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ}، في الفداء، ويغفر لكم ذنوبكم التي سلفت منكم، وقتالكم نبيكم، أي: يسترها عليكم، {والله غَفُورٌ}، أي: ساتر لذنوب عباده إذا تابوا، {رَّحِيمٌ}، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة.
قال العباس بن عبد المطلب: فيَّ نزلت هذه الآية.(4/2886)
وكان العباس فدى نفسه يوم بدر بأربعين أوقية من الذهب، قال العباس: فأعطاني الله أربعين عبداً، كلهم تاجر، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله عز وجل، بها.
قال الضحاك: نزلت في العباس وأصحابه أُسروا يوم بدر، وهم سبعون.
وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قدم بالأسارى المدينة، قال لعمه العباس: افد نفسك يا عم، وافد ابني أخويك، يعني: عقيل بن أبي طالب. ونوفل بن(4/2887)
الحارث، وافد حليفك، يعني: عتبة بن عمرو من بني فهر، كان حليفاً للعباس. قال له العباس: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أعلم بإسلامك، أما ظاهرك فقد كان علينا ". وكان النبي عليه السلام، قد وجد مع العباس أربعين أُوقِيَّةً من ذهب، كل أوقية أربعون مثقالاً، فقال العباس: احسبها لي يا رسول الله في فدائي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذلك مال أفاءه الله علينا، ولست أحسبه لك "، فقال له العباس: مال مال غيره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عم، أنت سيد قريش وتكذب! فأين المال الذي دفنته بمكة عنجد أم الفضل بنت الحارث، ثم قلت لها: ما أدري ما يكون، فإن أُصبت في سفري فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا،(4/2888)
فقال العباس: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضر ذلك أحد إلا الله وأم الفضل. ففدى العباس نفسه، وابنَيْ أخويه، وحليفه، ففي ذلك نزل: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، الآية.
فلما سمعها العباس، قال: قد أنصفني ربي: مَنَّ علي/ بالإسلام، وغفر لي، ويعطيني خيراً مما أخذ مني.
فأعطاه الله عز وجل، يوم خيبر أكثر مما أخذ منه في الفداء، وغفر له، ورحمه.
قال ابن وهب: لما رجع المشركون من بدر إلى مكة، جلس عُمير بن وهب إلى صفوان بن أمية، فقال له صفوان: قبح العيش بعد قتلى بدر! فقال عُمير: أجل، ما(4/2889)
في العيش خير بعدهم، ولولا دَيْنٌ عليّ وعيالي، لرحلت إلى محد فلنقتلنه إن ملأت عيني منه، فإن لهم عندي عِلّة أقول: قدمت لتفادوني في أسيرٍ لي، ففرح صفوان بقوله/ وقال له: عليّ دَيْنُكَ، وعيالك أسوة عيالي في النفقة، لن يسعني شيء ويعجز عنهم. فحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فسُم وصقل. وقال عمير لصفوان: اكتمني ليالٍ. وأقبل عُمير حتى وصل المدينة، فنزل ببال المسجد، وعَقَلَ راحلته وأخذ السيف، وعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع عمر من عُمير، وقال لأصحابه: هذا عدو الله الذي حرَّش بيننا(4/2890)
وحزرنا للقوم، ثم قام عمر ودخل على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] ، وقال: هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد، ومعه السلاح، وهو الفاجر الغادر، يا رسول الله لا تأمنه! فقال صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ فدخل، وأمر عمر أصحابه أن يحْتَرزوا منه، ويدخلوا بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم: فقال النبي عليه السلام: يا عمر، تأخر عنه، فلما دنا عُمير من النبي عليه السلام قال: أنْعِمُوا صباحاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة، فما أقدمك يا عُمير؟ قال: قدمت تفادوني في أسيري؛ فإنكم العشيرة والأهل. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " وما شَرَطْتَ لصفوان بن أمية في الحِجْرِ؟ ففزع عُمير، وقال ": وما شرطت له؟ قال: تحمّلت له قتلي على أن يعول بنيك، ويقضي دَيْنَكَ،(4/2891)
والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من خبر السماء، وأنّ هذا الحديث الذي كان بيني وبين صفوان في الحِجْرِ كما قلت يا رسول الله، لم يطلع عليه أحد غيري وغيره، ثم أخبرك الله عز وجل، به فآمنتُ بالله ورسوله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، ففرح المسلمون حين هَدَاه الله، فقال عمر: والله لخنزير كان أحب إليّ منه حين أتى، ولَهُوَ اليوم أحب إلي من بعض بني. فقال له النبي عليه السلام: " أجلس نواسك. وقال [لأصحابه]: عَلِّمُوا أخاكم القرآن. وأطلق له أسيره، فقال له عُمير: يا رسول الله، قد كنت جاهداً ما استطعت في إطفاء نور الله سبحانه، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، فأْذن لي ألحق بقريش فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله يهديهم ويَسْتَنْقِذَهُم من الهلكة، فأذن له النبي عليه السلام، فلحق بمكة، وجعل صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر، وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة: هخل كان [بها] من حدث؟ وكان يرجو قتل النبي، عليه السلام، على يد عُمير، حتى قدم عليه رجل من(4/2892)
المدينة، فسأله صفوان عن عمير، فقال: قد أسلم، فقال المشركون: صبأ/ عُمير.
وقال صفوان: إن لله علي ألا أنفعه بنافعه أبداً، ولا أكلمه بكلمة أبداً، وقدم عليهم عُمير، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم، فأسلم بشر كثير.
ونذر أبو سفيان بن حرب بعد وقعة بدر أن لا يمسَّ رأسه ذُهْنٌ، ولا يقرب أهله حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم فغزاه إلى أُحد، فكانت وقعة أُحد بعد بدر بسنة.
ثم قال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ}.
يعني الأسارى الذين افتدوا وأسلموا في ظاهر أمرهم، {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ}، أي: من قبل وقعة بدر، {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، يعني ببدر.
قال قتادة: هو عبد الله بن أبي سَرْح كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم نافق(4/2893)
وسار إلى المشركين بمكة وقال لهم: ما كان محمد يكتب إلا ما شِئْتُ فَنَذَر رجل من الأنصار لئن أمكنه الله به ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح أمّن النبي صلى الله عليه وسلم، الناس إلا عبد الله بن سد بن أبي سَرْح [ومِقْيَس بن صُبَابة]، وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبي عليه السلام، كل صباح. فجاءه عثمان بابن أبي سَرْح، وكان رضيع عبد الله، فقال: يا نبي الله، هذا فلان أقبل تائباً نادماً، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع(4/2894)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
به الأنصاري، أقبل متقلداً سيفه، فأطاف به، وجعل ينظر إلى النبي عليه السلام، رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم يده فبايعه، فقال: " أما والله لقد تَلُومَنَّكَ فيه لتوفي نذرك "، فقال: يا نبي الله، إني هبتك، فلولا أَوْمَضَتَ إليّ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه لا ينبغي لنبيٍ أن يُومِضَ ".
ومعنى {خَانُواْ الله}: خانوا أولياءه.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ}، إلى قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
من فتح " الواو " في: " الوَلاية " جعله مصدر " وَليَ " يقال: هو لي بَيِّنُ الوَلاَيَةِ.(4/2895)
ومن كسر فهو مصدر " والي "، يقال: هو والٍ بيّن الوِلاَيةِ.
ومعنى الآية: إن الذين صدقوا بمحمد عليه السلام، وما جاء به، وهجروا قومهم وعشيرتهم وأرضهم إلى أرض الإسلام، والهجرة هجرتان: هجرة كانت إلى أرض الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وهذا إنما كان في أول الإسلام، ثم انقطع ذلك الآن: لأن الدار كلها دار الإسلام، {وَجَاهَدُواْ}، أي: أتعبوا أنفسهم في حرب أعداء الله، {والذين آوَواْ ونصروا}، أي: آووا رسول [الله] صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم، وهم الأنصار، {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، أي: المهاجرون أولياء الأنصار وإخوانهم.(4/2896)
و " الوليُّ " في اللغة: النصير. فاختيار الطبري أن يكون: {أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} بمعنى أنصار بعض.
قال ابن عباس: كانت هذه الولاية في الميراث، فكان المهاجرون والأنصار يرث بعضهم بعضاً بالهجرة دون القرابة، ألا ترى إلى قوله: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ}، فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت بعده: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، فنسخت مواريث المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض.
وكذلك قال مجاهد.
قال قتادة: لبث المسلمون زماناً يتوارثون بالهجرة، وليس يثرث المؤمن الذي لم يهاجر من المؤمن المهاجر شيئا، وإن كان ذا رحم، ولا الأعرابي من المهاجر شيئاً، فنسخ ذلك قوله: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ/ مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 6]، يعني: من أهل الشرك، يوصون لهم إن أرادوا،(4/2897)
ولا يتوارث أهل مِلَّتَيْن.
وقال عكرمة والحسن: نسخها آخر السورة: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وقوله: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ}.
أي: الذين آمنوا بمكة، ولم يفارقوا دار الكفر، {مَا لَكُمْ}.
أيها المهاجرون، {مِّن وَلاَيَتِهِم}، أي: نصرهم وميراثهم، {مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم}، هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا، {فِي الدين}، أي: على أهل الكفر، {فَعَلَيْكُمُ} نصرهم {إِلاَّ} أن يستنصروكم {على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}، أي عهد وذمة، فلا تنصروهم وهم عليهم، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، أي: [بصير] فيما أمركم به من ولاية بعضكم بعضاً.
وقال ابن عباس: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين}، يعني: الأعراب المسلمين، فعليكم(4/2898)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
أن تنصورهم، {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}، فلا تنصورهم عليهم.
قوله: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، الآية.
المعنى: والذين كفروا بعضهم أحق ببعض الميراث، [أي:] أحمق من قرابتهم من المؤمنين.
وقيل: معناه: بعضهم أعون بعض.
وقوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ}.
أي: إن تفعلوا موارثة المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض، دون ذوي(4/2899)
الأرحام من المهاجرين الذين آمنوا ولم يهاجروا، ودون قرابتهم من المؤمنين والكفار: {تَكُنْ فِتْنَةٌ}، أي: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك، {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، أي: معاص.
قال ابن عباس: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض}.
قال ابن زيد: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان، وإن كانا أخوين، فلما كان الفتح انقطعت الهجرة، وتوارثوا حيث ما كانوا بالأرحام.
وقال ابن جريج: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ}: إلا تناصروا وتتعاونوا {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض}.
ف " الهاء " في: {تَفْعَلُوهُ} تعود على التوارث، أو على التناصر.(4/2900)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قوله: {والذينءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا}، الآية.
المعنى: والذين صدقوا بمحمد عليه السلام، بوما جاء به، {وَهَاجَرُواْ}، أي: هجروا أهلهم ودارهم، ومضوا إلى دار الإسلام {وجاهدوا}، أي في سبيل الله، {والذينءَاوَواْ ونصروا}، أي: آووا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المهاجرين، ونصروهم، وهم الأنصار، {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ}، أي: ستر: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، أي: لهم في الجنة مطعم هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجواً، ولكنه يصير رَشْحاً كرشح المِسْكِ.
قوله: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ [فأولئك مِنكُمْ]}، الآية.
المعنى: والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، من بعد ما أمرتكم بموالاة المهاجرين والأنصار وتوارثهم، وهاجروا إليم وجاهدوا معكم {فأولئك مِنكُمْ}، يعني الذين آمنوا من بعد الحديبية، {وَهَاجَرُواْ}، ويقال لها: الهجرة الثانية،(4/2901)
{فأولئك مِنكُمْ}، أي: مثلكم ف يالنصر والموالاة والمواريث.
ثم قال تعالى: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ}.
هذا نسخ لما تقدم/ من التوارث بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة.
قال اسماعيل القاضي: عنى بذوي الأرحام من يرث منهم، هم أولى ممن لا يرث من ذوي الأرحام، ومن غيرهم ممن لا نسب بينه وبين الميّت، فأما الولاء فهو قائم بنفسه في الميراث كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {فِي كِتَابِ الله}، في اللوح المحفوظ، هو كذلك قد سبق في علمه تعالى أنه كذلك بأمرنا.
{إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أي: يعلم ما ينقلكم إليه قبل أن ينقلكم، لا إله إلا هو.(4/2902)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
تفسير سورة براءة
قوله: {بَرَآءَةٌ}، مبتدأ والخبر: {إِلَى الذين}، وحَسُنَ الابتداء بِنَكِرَةٍ، لأنها موصوفة.
ويجوز أن تكون رفعت على إضمار مبتدأ، أي: هذه براءة.(4/2903)
يقال: بَرِئْتُ من العهد براءةً، وبَرِئْتُ من المرض وبَرَأْتُ [أيضاً] بُرْءاً، وَبَرَئْتُ القلم بَرْياً، غير مهموز مفتوح وأَبْرَيْتُ الناقة: جعلت في أنفها بُرَةً وهي حلقة من حديد.
وسورة " براءة " من آخر ما نزل بالمدينة، ولذلك قلّ المنسوخ فيها.(4/2904)
ويدل على ذلك أن ابن عباس قال لعثمان، رضي الله عنهما: ما حملكم على أن عمدتم إلى " الأنفال " وهي من المثاني، وإلى " براءة " وهي من المئين ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما: " بسم الله الرحمن الرحيم " ووضعتموهما في السبع الطُّوَل؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزل عليه السور ذوات العدد، فإذا نزلت عليه الآية قال: " اجعلوها في سورة كذا وكذا "، وكانت " الأنفال " من أول ما نزل بالمدينة، وكانت " براءة " من آخر ما نزل، وكانت قصتها تشبه قصتها، ولم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك شيئاً، فلذلك فرق بينهما ولم يكتب بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم ".(4/2905)
ورُوي أن عثمان قال: ظننت أنها منها. وكانت تُدْعَيَانِ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: القرينتَين، فلذلك جعلتهما في السبع الطُّوَلِ.
ففي قول عثمان هذا: دليل على أن تألييف القرآن عن الله، عز وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان، ويدل على أن ترتيب السورة على ما في المصحف إنما كان على اجتهاد من عثمان وأصحابه، ألا ترى إلى قول ابن عباس له: ما حملكم على كذا وكذا؟ يدل على أنهم هم رتبوا السورة، وأن تأليف السور إلى تمام كل سورة كان على تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ذلك.
وقد صح أن أبيَّ [بن] كعب، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبا زيد عم(4/2906)
أنس، كانوا قد جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشعبي: وأبو الدرداء حفظ القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومُجَمَّع ببن جارية، بقيت [عليه] سورتان [أَ] وْ ثلاث. قال: ولم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان.(4/2907)
وحفظ سالم مولى أبي حذيفة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا شيئاً بقي عليه.
فهذا يدل على أنه كان مؤلفاً؛ لأن هؤلاء لم يحفظوه إلا وهو مؤلَّف مرتَّبٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، صلوات الله عليه، جل ذكره.
وقال أبي بن كعب: آخر ما نزل " براءة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في أول كل سورة بـ: " بسم الله الرحمن الرحيم "، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء، فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أُعطيت السبع الطّول مكان التوراة وأعطيت المِئِينَ مكان الزَّبور، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وفُضِّلْتُ بالمفصّل ".
فهذا الترتيب يدل على أن التأليف/ كان معروفاً عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] ، وبذلك(4/2908)
أتى لفظه، عليه السلام.
ومعنى: ما رُوِيَ: أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن، وأنه ضم إليه جماعة، أنه إنما (أمر) بجمعه في المصحف ليرسل به إلى الأمصار، لا أنه كان غير مؤلف ثم ألفه، هذا ما لا يجوز، لأن تأليفه من المعجز، لا يكون إلا عن الله عز وجل.
وقد قيل: إنما أمر بجمعه على حرفٍ واحدٍ؛ لأنهم كانوا قد وقع بينهم الخلاف لاختلاف اللغات السبعة الي بها نزل القرآن، فأراد عثمان أن يختار حرفاً واحداً، هو أفصحها ليثبته في المصحف، وإنما خص عثمان زيد بن ثابت لجمعه دون غيره ممن هو أفضل منه؛ لأنه كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
واختلف في الحرف الذي كتب عليه المصحف فقيل: حرفُ زيد بن ثابت.(4/2909)
وقيل: حرفُ أُبَي بن كعب؛ لأن قراءته كانت على [آخر] عَرْضةٍ عرضها النبي على جبريل عليهما السلام.
وعلى الأول أكثر الرواة.
ومعنى: حرف زيد، أي: روايته وطريقته.
" فَلْيَقْرَأْه بقراءة ابن أُمِّ عبد "، يعني: ابن مسعود. فإنه إنما أراد به ترتيل ابن مسعود، وذلك أنه كان يرتل القرآن إذا قرأه، فخصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف لترتيله لا غير ذلك.(4/2910)
قال الحسين بن علي الجعفي: فقراءة عبد الله هي قراءة الكوفيين؛ لأن عمر رضي الله عنهـ، بعث به إلى الكوفة ليعلمهم، فأخذت عنه قراءته قيل أن يجمع الناس عثمان على حرف واحد، ثم لم تزل في أصحابه ينقلها الناس عنهم.
وأصحابه منهم: علقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزِرُّ(4/2911)
ابن حُبَيْش، وأبو وائل، وأبو عمرو الشيباني وعبيدة، وغيرهم.
فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد، كان أول من قرأ به بالكوفة أبو عبد الرحمن السَّلّمِي: عبد الله بن حبيب، فأقرأ بجامع الكوفة أربعين سنة، إلى أن توفي، رحمه الله، في إمارة الحجاج. وقد أخذ القرآن عن عثمان، وعن علي، وعن ابن(4/2912)
مسعود، وزيد، وأُبي. وكان قر قرأ على علي، وقرأ عليه علي، وهو يمسك المصحف. وأقرأ هو الحسن والحسين. فلما مات أبو عبد الرحمن خلفه عاصم. وكان عاصم أخذ عن أبي عبد الرحمن، وعرض على زِرٍ.
وكان زر قد قرأ علي ابن مسعود.
ثم انتهت قراءة ابن مسعود إلى الأعمش. وقرأ حمزة على الأعمش بالكوفة، وقرأ أيضاً حمزة على ابن أبي ليلى، وعلى حُمران بن أعين، وقرأ(4/2913)
حُمران على عُبَيد الله بن نُضَيْلَة، وقرأ عبيد الله على علقمة.
وقرأ علقمة على ابن مسعود، وقرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ أيضاً حمران على أبي الأسود وقرأ أبو الأسود على علي.
وقد قال المبرد: إنما لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قبل " براءة "؛ لأن " بسم(4/2914)
الله الرحمن الرحيم " خير، و " براءة " أولها وعيد [و] نقض للعهود.
وعن عاصم أنه قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " لم تكتب أول " براءة "؛ لأنها رحمة و " براءة " عذاب.
قوله: {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ}.
إنما ذلك، لأن عقد النبي على أمته كعقدهم لأنفسهم.
وهؤلاء الذين بَرِئَ الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، إليهم من العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن لهم في السياحة في الأرض أربعة أشهر، جنس من المشركين كان مدة العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقل من أربعة أشهر، وأُمهلوا بالسياحة تمام أربعة أشهر (ليرتاد كل واحد). والجنس الآخر كما عهده إلى غير أجل محدود/، فَقُصِرَ به على أربعة أشهر ليرتاد كل واحد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك، يقتل حيث وجد، إلا أن يُسلم.
فكان نزول " براءة " في بعض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين المشركين من(4/2915)
العهود، و [في] كشف المنافقين الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في تبوك وغيرهم ممن سر خلاف ما أظهر.
وقيل: إنما أمهل أربعة أشهر، من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد، فأما من لم يكن له عهد، فإنما جعل أجله خمسين ليلة، عشرين من ذي الحجة والمحرم، ودلّ على ذلك قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5].
قال ذلك ابن عباس.
وكان النداء بـ: " براءة " يوم النحر.
وقيل: يوم عرفة، وبه تتم خمسون ليلة.
ونزلت " براءة " أول شوال، ومن ذلك اليوم كان أجل أربعة أشهر لأهل العهد.
وقيل: أول شوال كان نزول " براءة " وذلك سنة تسع، ومن ذلك الوقت أول أربعة الأشهر للجميع. وهو قول الزهري.(4/2916)
فكان أجل من كان له عهد أربعة أشهر من ذلك الوقت، ومن لم يكن له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك أربعة أشهر أيضاً.
وقال ابن عباس: إنما كان أول الآجال من يوم أُذِّنَ بـ: " براءة "، وذلك يوم النحر، فجعل لمن له عهداً أربعة أشهر من ذلك اليوم، وذلك إلى عشر من ربيع الآخر.
ولمن لم يسم له عهد آخر الأشهر الحرم خمسين يوماً، ثم لا عهد لهم بعد ذلك ولا ذمة، يقتلون حتى يدخلوا في الإسلام.
وكان علي هو الذي نادى بـ: " براءة "، وكان أبو بكر أميراً عليهم، فلم يحج المشركون بعد ذلك [العام]، وكانوا يحجون مع المسلمين قبل ذلك.
قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم، عاهد قريشاً زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر الله عز وجل، نبيه عليه السلام، أن يُوفِّيَ بعهدهم إلى مدتهم، وأن يؤخروا من لا عهد له انسلاخ المحرم، ثم يقاتلون حتى يشهدوا [أن] لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وألا يقبل منهم إلا ذلك.(4/2917)
وقال السدي: كان آخر عهد الجميع تمام أربعة أشهر لعشر خلون من ربيع الآخر، وهذا كله كان في موسم سنة تسع.
وقال الكلبي: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالأربعة الأشهر لمن كان بينه وبينه عهد أربعة أشهر فما دون، فأما من كان عهده، أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتم له عهده، فقال تعالى: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، فتح مكة سنة ثمان عَنْوةً، واستخلف على الحج سنة تسع أبا بكر. ونزلت " براءة " بعد خروج أبي بكر في شوال. وكانوا يحجون على رسومهم التي كانوا عليها، ولم يكن فرض الحج ولا أمر به، فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم " براءة " مع علي رضي الله عنهـ، ليتلو الآيات على الناس وينادي بالناس: ألا يحج بعد ال عام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان فنادى بذلك علي، وأعانه على النداء أبو هريرة(4/2918)
وغيره بمنىً وفي سائر أسواقهم.
فحج النبي صلى الله عليه وسلم، في العام المقبل سنة عشر، ولم يحج معه مشرك، وهي حجة الوداع، وفي ذلك نزل: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، فلما نزل ذلك وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من الأطعمة والتجارات التي كان المشركون يقدمون بها، فأنزل الله عز وجل: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله} [التوبة: 28]، الآية، ثم أحل [في] الآية التي تتبعها الجزية، ولم تكن قبل ذلك/، جعلها الله عوضاً مما يفوتهم من تجارتهم مع المشركين. وهو اختيار الطبري [ومما يدل على صحة ما اختار الطبري] من أنه أمر الله عز وجل، نبيه عليه السلام، أن يتم لمن عهده [أربعة أشهر فما دن أربعة أشهر، ومن كان عهده أ: ثر أتم له عهده]، إلا أن يكون نقض عهده قبل(4/2919)
انقضاء المدة، فأما الذين لم ينقضوا ولا تظاهروا عليه، فإن الله عز وجل، أمر نبيه، عليه السلام، بإتمام العهد لهم، وأمره أن يؤخر الذين نقضوا العهد أربعة أشهر، وإن كان عهدهم أكثر مدة.
وهو قول الضحاك.
قوله تعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا [لَهُمْ]} [التوبة: 7].
فأمر الله عز وجل، نبيه [عليه السلام]، بالاستقامة لهم على عهدهم، ما استقاموا. وأمر الله عز وجل، أن يؤخر الذين نقضوا وظاهروا عليه أربعة أشهر.
وقد رُوي: أن علياً كان يقول في ندائه: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته.
قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، الآية.
المعنى: فسيحوا يا أيها الذين لهم عهد وقد نقضوا قبل إتيان الأجل. وأما من له عهد أربعة أشهر فما دون، فقيل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر من يوم النحر، أي: تصرفوا مقبلين ومدبرين، ثم لا أمان لكم بعدها إلاّ بالإسلام.
وأشهُرُ [السياحة] على قول مجاهد، وغيره: من يوم النحر إلى عشر خلون(4/2920)
من ربيع الآخر.
وعند الزهري: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وتسمى أيضاً أشهر السياحة، أي: سمح لهم فيها بالتصرف آمنين.
قوله: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}.
أي: مُفيتيه أنفسكم، أين كنتم، وأين ذهبتم بعد الأربعة الأشهر وقبلها، لا منجي منه ولا ملجأ إلا الإيمان به، عز وجل، وبرسوله عليه السلام.
{وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين}.
أي: مذلهم ومرثهم العار في الدنيا والآخرة.
قوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس}، الآية.(4/2921)
و " الأذان " في اللغة: الإعلام.
و {يَوْمَ الحج الأكبر}: يوم عرفة؛ لأن علياً يوم عرفة قرأ على الناس أربعين آية من " براءة " بعثه بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قرأها عليهم في مِنًى لتبلغ جميعهم، فمن ثم قال قوم: {يَوْمَ الحج الأكبر}: النحر. وهو قول مالك.
ورُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم، خطب يوم عرفة فقال: " أما بعد، فإن هذا يوم الحج الأكبر ". [وهو قول عمر، وابن الزبير، وعطاء، وغيرهم.(4/2922)
وروي عن علي أنه قال: {يَوْمَ الحج الأكبر}]: يوم النحر. وهو قول مالك، واختلف عن ابن عباس. وهو قول ابن عمر، والسدي، والشعبي، وغيرهم.
وقال مجاهد {يَوْمَ الحج الأكبر} معناه: حين الحج، وهو أيام الحج كلها، لا يوم بعينه.
وقال ابن جريج: {الحج الأكبر}: أيام منى كلها.
واختار الطبري: أن يكون يوم النحر؛ لأن في ليلته يتم الحج، وليس من فاته يوم عرفة أو ليلته يفوته الحج، ومن فاته ليلة يوم النحر إلى الفجر فقد فاته الحج. وحق الإضافة أن تكون إلى المعنى الذي يكون في الشيء، فلما كان الحج في ليلة يوم النحر أضيف أسم الحج إلى يوم النحر.
ولما كان [من] لم تغب له الشمس يوم عرفة لم يحج، وإن كان قد وقف بعرفة طول نهاره، علم بأنه ليس بيوم الحج إذ لا يتم الحج(4/2923)
به ألا ترى أنهم يقولون: يوم النحر من أجل أن [النحر فيه، ويقولون: يوم عرفة من أجل أن] الوقوف بعرفة فيه يكون، و: يوم الفطر من أجل أن الإفطار بعد الصوم فيه يكون، فكذلك يوم الحج يقال لليوم الذي فيه، أو في ليله يتم الحج ويحصل، وفي يومه تعمل أعمال الحج، من النحر، والوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق، وغير ذلك.
وسمي: {الحج الأكبر}: لأنه كان/ في سنة اجتمع فيها المسلمون والمشركون.
وقيل: سمي بذلك؛ (لأنه) من النحر والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار والحِلاق وغير ذلك.
وسمي بذلك؛ لأنه كان يوم حج اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيد اليهود والنصارى.
وقال مجاهد {الحج الأكبر}: القِرانُ في الحج، والأصغر: الإفرادُ.(4/2924)
وأكثر الناس على أن الأكبر: الحجُّ، والأصغر: العُمْرة.
وقال الشعبي الحج الأصغر: العمرة في رمضان.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث علياً بأول سورة " براءة "، إثر أبي بكر عام حجَّ بالناس أبو بكر، وذلك سنة تسع، فنادى علي بـ: " براءة " في الموسم.
وقيل: يوم النحر نادى بها.
وقيل: يوم عرفة.
وقيل: فيهما جميعاً.
ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم، في سنة عشرة.
ومعنى {برياء مِّنَ المشركين}، أي: من عهدهم بعد هذه الحَجَّةِ.
{فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
أي: تبتم عن كفركم {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ}، أدبرتم عن الإيمان، {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}، أي: لا تفيئون الله أنفسكم، {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}،(4/2925)
أي: مؤلم، أي: أعلمهم، يا محمد بذلك.
{برياء مِّنَ المشركين}، وقف، إن جعلت {وَرَسُولُهُ}: ابتداء أضمر خبره، أي: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ منهم.
وإن جعلته معطوفاً وقفت {وَرَسُولِهِ}، وكذلك من نصب، وهي قراءة ابن أبي إسحاق.
{غَيْرُ مُعْجِزِي الله}، وقف حسن.
{بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ليس بوقف حسن؛ لأن بعده الاستثناء.(4/2926)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
ومن العلماء من يقول: ألاّ وقف من أول السورة يحسن؛ لأن الاستثناء مما قبل.
قال قتادة: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم النبي عليه السلام، زمن الحديبية، أمر أن يتم لهم مدتهم، وكان قد بقي منها أربعة أشهر من يوم النحر، وأمر أن يصبر على من لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ثم يقاتل [الجميع] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
ومعنى {إلى مُدَّتِهِمْ}: إن كانت أكثر من أربعة أشهر.
قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، الآية.
قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ}، منصوب عند الأخفش على حذف: " على ".
وقد حكى سيبويه: ضُرب الظهر والبطن، أي: " على "، فنصب لما حذف(4/2927)
" على ".
ونصبه على الظرف حسن، كما تقول: " قَعَدْتُ لّهُ كُلَّ مَذْهَبٍ ".
أي في كل مذهب.
والمعنى: فإذا انقضت الأشهر الحرم عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا وظاهروا المشركين على المسلمين، أو كان عهدهم إلى غير أجل معلوم. {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، من الأرض، في الحرم، وفي غيره، وفي الأشهر الحرم وفي غيرها. {وَخُذُوهُمْ}، أي: أسروهم، والعرب تسمي " الأسير ": أخِيذاً، {واحصروهم}، أي: امنعوهم من التصرف في بلاد المسلمين،(4/2928)
وأصل " الحصر ": المنع (والحبس)، {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، أي: طالبوهم في كل طريق. {فَإِن تَابُواْ}، أي: رجعوا عن الشرك، و {وَأَقَامُواْ الصلاة}، أي: أدوها بحدودها، {وَءَاتَوُاْ الزكاة}، أي: أعطوا ما يجب عليهم في أموالهم/، {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي: دعوهم يتصرفون [في أمصاركم]، ويدخلون البيت الحرام {إِنَّ الله غَفُورٌ}، أي: ساتر ذنوب من رجع وأناب، {رَّحِيمٌ}، أن يعاقبه(4/2929)
على ذنوبه السابقة قبل توبته، [بعد التوبة].
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله عز وجل، وعبادته، جلت عظمته، لا يشرك به فارقها والله عنه راضي ".
و {الأشهر الحرم}، هنا: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وأريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده؛ لأن الأذان بـ: " براءة " كان يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أُجِّلوا الأشهر [الحرم] كلها، ولكنه لما كان المحرم متصلاً بالشهرين الآخرين الحرامين وكان لهما تالياً قيل: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم}.
وقال السدي: {الأشهر الحرم} هنا هي: من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر.
وسميت " حُرُماً "؛ لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، وأذاهم.(4/2930)
وقال مجاهد: {الأشهر الحرم}، هنا هي: الأربعة التي قال الله عز وجل: { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].
وهو قول السدي.
ومثله قال ابن زيد، قال: أمر الله سبحانه أن يتركوا أربعة أشهر يسيحون ثم يتبرأ منهم، ثم أمر إ ذا انسلخت تلك الأشهر الحرم أن يقتلوا حيث وجدوا.
وسماها " حُرُماً "؛ لأنه حرم قتل المشركين فيها.
وقال الضحاك، والسدي: الآية منسوخة لا يحل قتل أسير صبرا، والذي نسخها هو قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4]. وهو قول عطاء.
وقال قتادة: هذه الآية ناسخة لقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً}، ولا يجوز أن(4/2931)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
يمنّ على أسير ولا يُفادى، وقد روي مثله عن مجاهد.
وقال ابن زيد: وهو الصواب إن شاء الله، [إن] الآيتين محكمتان.
أمر هنا: أن يؤخذوا إما للقتل، وإما للمنّ، وإما للفداء، وأمر ثَمَّ، إما المن، وإما الفداء، فهما محكمتان، وقد فعل هذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل الأساري، وفادى ببعض، ومنَّ على بعض، وذلك يوم بدر.
قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك}، الآية.
والمعنى: وإن استأمنكم، يا محمد، أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الأربعة، ليسمع كلام الله، سبحانه، منك، فأَمِّنْه حتى يمسعه، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، أي: إن أسمع ولم يتعظ، فرده إلى حيث يأمن منك ومن(4/2932)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
أصحابك، ويلحق بداره.
وإضافة الكلام إلى الله، جل ذكره، في هذا إضافة تخفيص من طريق القيام به، فهي إضافة صفة إلى موصوف، وليست بإضافة ملك إلى مالك،، ولا بإضافة خلق إلى خالق، ولا بإضافة تشريف، بل هي إضافة على معنى: أن ذاته [غير] متعدية منه. فافهم.
قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}.
أي: يفعل ذلك بهم؛ لأنهم قوم جهلة لا يعلمون قدر ما دُعُوا إليه.
قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله}، الآية.
المعنى: أنّى يكون للمشركين عهد يوفى لهم به، فيتركون من أجله آمنين؟ إلا الذين أُعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم {فاستقيموا لَهُمْ}، أيها المؤمنون على عهدهم، ما استقاموا لكم عليه.(4/2933)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قال الفراء: في {كَيْفَ}، هنا معنى التعجب.
وهؤلاء القوم: بنو جذيمة بن الدُّئِل.
وقيل: هم قريش.
قال ابن زيد: فلم يستقيموا، فضرب لهم أجل أربعة أشهر، ثم أسلموا قبل تمام الأجل.
وقال قتادة: نقضوا ولم يستقيموا، أعانوا أحْلاَفَهُمْ من بني بكر، على حِلْفِ النبي صلى الله عليه وسلم، خزاعة.
وقال [مجاهد]: هم قوم من خزاعة.
قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ}، الآية.
{كَيْفَ}: في موضع نصب، وكذلك {كَيْفَ يَكُونُ} [التوبة: 7].
والمعنى: كيف يكون لهؤلاء المشركين عهد، وهم/ قد نقضوا العهد، ومنهم من(4/2934)
لا عهد له، وهم: {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}.
و {كَيْفَ} هذه، قد حذف الفعل بعدها لدلالة ما تقدم من الكلام عليه.
قال الأخفش المعنى: {كَيْفَ} لا تقتلونهم.
وقال أبو إسحاق، التقدير: كيف يكون لهم عهد، {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}، وحذف هذا الفعل؛ لأنه قد تقدم ما يدل عليه، ومثله قول الشاعر:(4/2935)
وخَبَّرتُماني أَنَّهما المَوْتُ في القُوى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبةٌ وَقَلِيبُ
والمعنى: فكيف يكون الموت في القُرى، وهاتا هضبة وقليبُ، لا ينجو فيهما منه أحد؟
و" الإلُّ ": القرابة و " الذِّمَّةُ ": العهد. قاله ابن عباس.
وقال قتادة " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةِ ": العهد.
وقال مجاهد " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةُ ": العهد.(4/2936)
وقال ابن زيد: " الإلّ ": العهد، و " الذمة ": العهد، لكنهما كررا لما اختلف لفظهما.
وجمع " الإلّ " الذي هو القرابة: الآلٌ، بمنزلة " عدل وأعدل "، وفي الكثير: ألول ألالُ.
وقوله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ}.
أي: يعطونكم بألستنهم خلاف ما يضمرون في نفوسهم.
{وتأبى قُلُوبُهُمْ}.
أي: تأْبى أن تذعن بتصديق ما يبدوا بألسنتهم.
{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}.(4/2937)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
أي: خارجون عن أمر الله عز وجل، بنقضهم وكفرهم.
قوله: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً}، إلى قوله: {المعتدون}.
المعنى: إن الله عز وجل أخبر عن المشركين، أنهم باعوا آيات الله سبحانه وعهده، (جلت عظمته)، بثمن يسير.
وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، بأكلة أطعمها لهم أبو سفيان بن حرب.
{فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ}.
أي: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام.
{إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
أي: ساء عملهم.
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}.(4/2938)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
قد تقدم ذكره.
وقال النحاس: هذا لليهود، والأول للمشركين.
وقوله: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً}، يعني اليهود، باعوا حجج الله عز وجل، وآياته، سبحانه بطلب الرئاسة.
{وأولئك هُمُ المعتدون}.
أي: المتجاوزون إلى ما ليس لهم.
قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة}، إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}.
المعنى: فإن تاب هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتلهم، {وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة}، فهم إخوانكم في الدين، {وَنُفَصِّلُ الأيات}، أي: نبين لهم الحجج، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، ذلك.
قال قتادة المعنى: فإن تركوا اللات والعُزّى، وشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة}، فهم إخوانكم في الدين.
قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً، فلم يفرق بينهما. وقال: يرحم الله(4/2939)
أبا بكر ما كان أفقهه.
وقوله: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم}.
أي: وإن نكث هؤلاء المشركون عهودهم من بعد ماعاهدوكم.
{وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ}.
أي: قدحوا فيه، وثلبوه وعابوه.
{فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر}.
أي: رؤوس أهل الكفر.
{إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}.
من قرأ بـ: " فتح الهمزة " فمعناه: لا عهود لهم، وهو جمع " يمينٍ ".(4/2940)
ومن كسر احتمل معنيين:
أحدهما أن يكون معناه: لا إسلام لهم، فيكون مصدر: آمن الرجل يؤمن: إذا أسلم.
ويحتمل أن يكون مصدر: آمنته من الأمن، فيكون المعنى: لا تُؤَمِّنُوهُمْ، ولكن اقتلوهم.
و {أَئِمَّةَ}: جمع إمام، وهو: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ونظراؤهم الذين هَمُّوا بإخراجه.
وقال السدي: هم قريش.(4/2941)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
وقال حذيفة: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
وأصل " النكثِ ": النقنض.
{لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}.
أي: / ينتهون عن الشرك ونقض العهود.
قوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ}، الآية.
{أَلاَ}: تحضيض وتحريض.
{أَتَخْشَوْنَهُمْ}، ألف تقرير وتوبيخ.
ومعنى الآية: أنها تحضيض، على قتال المشركين الذين نقضوا عهود النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في الدين، وعاونوا أعداء المسلمين عليهم، {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكة: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: بدأوا بالقتال ببدر: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي: تخافونهم على(4/2942)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
أنفسكم: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ}، أي: أن تخافوه في ترككم قتال عدوكم وعدوه، الذي هو [لا] يضر و [لا] ينفع.
قال السدي: هموا بإخراجه وأخرجوه.
{أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقف عند الأخفش.
وعند أبي حاتم، الوقف: {أَتَخْشَوْنَهُمْ}.
قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله}، الآية.
والمعنى: قاتلوا هؤلاء الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، فإنكم إن تقاتلوهم: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}، أي: يقتلهم بأيديكم، {وَيُخْزِهِمْ}، أي: يذلهم(4/2943)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
بالأسر: {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}، أي: يعطكم الظفر عليهم، {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، أي: بقتلهم وأسرهم.
و" الوقوم المؤمنون " (هنا) هم: خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشاً نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعونتهم بكراً على خزاعة. قاله مجاهد، والسدي.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قاضى المشركين يوم الحديبية، أدخل بني كعب بن خزاعة معه في القضية، [وأدخل المشركون بين بكر بن كنانة معهم في القضية]، ثم إن المشركين أغاروا مع بني بكر بن كنانة على بني كعب، قبل انقضاء مدة العهد، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فقال: " واله لأَنْتَصِرَنَّ لَهُمْ "، فنصره الله عليهم يوم الفتح، وشفى صدور بني كعب.
قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.(4/2944)
أي: غيظ قلوب خزاعة على هؤلاء: بني بكر بن كنانة الذين نقضوا عهد النبي عليه السلام، وأعانوا المشركين على خزاعة، وهم مؤمنون، حلفاء النبي [ صلى الله عليه وسلم] .
{ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ}.
مستأنف فالابتداء به حسن، والمعنى: وسوف يتوب الله، وهو مثل: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ}، ثم قال: {وَيَمْحُ} [الشورى: 24] فاستأنف.
وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والأعرج:
" وَيَتُوبَ " بـ: " النصب ".(4/2945)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
على الصَّرْفِ.
فلا تقف على ماق بل: {وَيَتُوبُ} على هذه القراءة.
قوله: {والله عَلِيمٌ}.
أي: عالم بسرائر عباده {حَكِيمٌ} في تصريفه عباده من حال كفر إلى حال إيمان، بتوفيقه، ومن حال إيمان إلى حال كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ}، الآية.
{أَن تُتْرَكُواْ}: في موضع مفعولي " حسبت " عند سيبويه.(4/2946)
وقال المبرد: {أَن تُتْرَكُواْ}: مفعول أول، والثاني مفعول محذوف.
و {أَمْ} هنا: استفهام، والمعنى: أحسبتم أيها المؤمنون كذا وكذا؟.
ومعنى الآية: أنها خطاب للمسلمين الذين أمرهم الله بقتال المشركين الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، يقول تعالى: أحسبتم، أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة، وبغير اختيار، ليعلم الصادق منكم من الكاذب، علم مشاهدة. وقد كان علم ذلك، تعالى، قبل خلق العالم، ولكن المجازاة إنما تقع على المشاهدة، فيعلم المجاهدين الذين لم {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً}، أي: بِطَانَةً من المشركين، يفشون إليهم من سرهم.
قال الطبري: إنما دخلت {أَمْ} في موضع الألف هنا؛ لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بين الاستفهامم الذي يبتدأ به، والاستفهام الذي يعترض.
في وسط الكلام.(4/2947)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
ومثله: {الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ [فِيهِ] مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 1 - 2]، ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ} [السجدة: 3]، بمعنى: أيقولون.
ومثله: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ/ خَيْرٌ} [الزخرف: 51 - 52]، أي: أنا خير.
وهذه {أَمْ} هي التي تسمى " المنقطعة، ولا يقدر الكلام معها بـ: " أيهم " ولا بـ: " أيهما ".
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
أي: ذو خبر بعملكم إن اتخذتم بطانةً من المشركين تفشون إليهم سر المؤمنين.
ونظير هذه الآية: {الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، أي: يختبرون، ثم قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ}، إلى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3].
قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}، إلى قوله: {المهتدين}.
والمعنى: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله؛ لأنهم ليسوا ممن يذكر(4/2948)
الله، والمساجد إما بنيت لذكر الله والصلاة، فليس لهم أن يعمروها.
{شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ}.
فيه ثلاثة تأويلات.
أحدهما: أن فيما يقولونه ويفعلونه دليل على كفرهم، كما يدل على إقرارهم، فكأنَّ ذلك منهم شهادتهم على أنفسهم. قاله الحسن.
والثاني: شهادتهم على رسولهم بالكفر؛ لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم. قاله الكلبي.
والثالث: ما ذكره في الكتاب، وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر؛ لأنهم يقال للرجل منهم: أيش أنت؟ فيقول: نصراني، يهودي، صابئ، مشرك.
{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.
في الدنيا، أي: بطلت وذهبت، إذ لم تكن لله، عز وجل، وكانت للشياطين.
{وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ}.(4/2949)
أي: ما كثون أبداً، لا أحياءً ولا أمواتاً.
ومن قرأ: {مَسَاجِدَ الله} بالتوحيد، عَنَى به: المسجد الحرام، ودليله قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، وقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} [التوبة: 19].
ومن جمع، أراد: جميع المساجد، ودليله قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} فجمع ولم يُخْتَلفْ فِيهِ.
والجمع: يستوعب المسجد الحرام وغيره، والتوحيد: يخص المسجد الحرام(4/2950)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
وحده، ولا يجوز لمن وَحَّدَ أن يريد به الجنس؛ لأنه مضاف، والمضاف موقت محدود.
ثم قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله}.
أي: إنما يعمرها من صدق بالله ورسوله، وما أتت به الرسل.
{وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين}، (أي): فحقيق أن يكون من هذه صفته من المهتدين.
وكل " عسى " في القرآن من الله فهي واجبة.
ونزلت هذه الآية في قريش؛ لأنهم كانوا يفتخرون، فيقولون: نحن أهل الحَرَم وسقاة الحاجِّ، وعُمّار هذا البيت، فأنزل الله عز وجل، صِفة من يجب أن يعمر مساجد الله، سبحانه.
قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج}، إلى قوله: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}.(4/2951)
ألف {أَجَعَلْتُمْ}: ألف تقرير وتوبيخ.
ومعنى {كَمَنْ آمَنَ بالله}، أي: كإيمان من آمنم.
ومعنى الآية: إن المشركين من قريش افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم الله عز وجل، أن الفخر إنما هو بالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله.
ورُويَ أن العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر قال: لئن كنتم سيقتمونا بالإسلام، والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله، جل كره: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج}، الآية، فذلك لا ينفعكم، أيها المشركون مع شرككم.
وقال السدي، وغيره: افتخر علي، والعباس، وشيبة، وفقال العباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حاج البيت الله، وقال شيبة: [أنا].(4/2952)
أعمر مسجد الله. وقال علي: أنا هجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدت معه في سبيل الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل، الآية: {أَجَعَلْتُمْ}.
ورُوِيَ أن علياً قال للعباس وشيبة: ألا أنبئكم بمن هو أكر حسباً منا؟ قال: نعم، / قال: مَنْ ضرب خَرَاطِيمَكُم بالسيف حتى قادكم إلى الإسلام كَرْهاً، فشق ذلك عليهما، [فشكيا] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هُنَيْهة، إذ جاءه جبريل عليه السلام، بهذه الآية: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج}، الآية.
وقال الضحاك: أقبل المسملون على العباس وأصحابه يوم بدر، وهم قد أسروا، يُعَبِّرونَهُمْ بالشرك، فافتخر العباس بالسقاية وعمارة المسجد الحرام، فانزل الله عز وجل، الآية.
قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ}.
أي: لا يعتدل هؤلاء وهؤلاء عند الله.(4/2953)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}.
أي: لا يوفقهم لصالح الأعمال.
ثم قال تعالى: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ}.
أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم، أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة مع الشرك، فهذا قضاء من الله عز وجل، بين المفتخرين.
ثم أخبر أنهم {هُمُ الفائزون}: أي: الناجون من النار، الفائزون بالجنة.
ثم قال تعالى مخبر [بما] يصيرون إليه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ}، لهم {وَرِضْوَانٍ}، منه عنهم، {وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}، أي: لا يزال أبداً، {خَالِدِينَ}، أي: ماكثين، {أَبَداً}، لا حد لذلك، {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، أي: عنده لهؤلاء الذين هذه صفتهم {أَجْرٌ عَظِيمٌ}، أي: لا حد له من عظمه.
ومعنى {يُبَشِّرُهُمْ}: يعلمهم بذلك في الدنيا.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ}، إلى قوله:(4/2954)
{والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}.
ومعنى الآية: أن الله، جل ذكره، نهى المؤمنين أن يتخذوا آباءهم وإخوانهم الكفار أولياء، يفشون إليهم سر المؤمنين، ويطلعونهم على أسرار النبي عليه السلام، وَيُؤْثِرُون المُكث بين أظهرهم على الهجرة إلى دار السلام: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} أي: من يتخذهم أولياء وبطانة، ويؤثر المقام على الهجرة، {فأولئك هُمُ الظالمون}.
وهذا كله قبل فتح مكة. قاله مجاهد.
{وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ}، وقف نافع.
ومثله {أَوْلِيَآءَ} في سورة المائدة، فصح الوقف عليه؛ لأنه لا يجوز أن يتخذ اليهود والنصارى أولياء على كل حال.
وهنا إنما نُهُوا عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إن هم استحبوا الكفر على(4/2955)
الإيمان، فإن لم يفعلوا ذلك فاتخاذهم حسن، والوقف عليه يوجب ألا يتخذوا أولياء على كل حال كاليهود والنصارى.
{عَلَى الإيمان}، الوقف الحسن.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ}، الآية.
والمعنى: {قُلْ} يا محمد، للمتخلفين على الهجرة، المقيمين بدار الشرك، مع أهليهم وأموالهم {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ}، أي: المقام مع هؤلاء بمكة، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله}، أي: من الهجرة إلى دار الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله، {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}، أي: بفتح مكة. قاله مجاهد.
والثاني: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}: من عقوبة عاجلة أو آجلة. قاله ابن زيد.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}.(4/2956)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
أي: لا يوفقهم للهدى.
قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}، إلى قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{حُنَيْنٍ}: مذكر، أسم واد بين مكة والطائف.
ومن العرب من يجعله أسماً للبقعة فلا يصرفه للتأنيث والتعريف.
وقيل: هو واد إلى جنب ذي المجاز.
لغة بني تميم: " كِثْرةَ "، بكسر الكاف، وجمعه: كثر، والفتح لغة أكثرهم، وجمعه: كثرات، وهما مصدران وجمعهما قبيح.
ومعنى الآية: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله}، أيها المؤمنون في أماكن حرب، ونصركم يوم حنين أيضاً.(4/2957)
وهو يوم قاتل فيه النبي عليه السلام، هَوَازِن وثقيفاً، وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم، في تلك العزوة/ إثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، فأعجب القوم كثرهم، فانهزموا ونزل النبي صلى الله عليه وسلم، عن بغلته الشهباء، وكان العباس أخذ بلجام [بغلة] النبي عليه السلام، فأمر النبي صلى الله عليه سلم، بالأذان في الناس فتراجع الأنصار، وكان المنادي ينادي: " يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء الناس عُنُقاً واحداً، ثم أنزل الله عز وجل، نصره، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، كفًّا من تراب، وقبضة من حصباء، فرمى بها وجوه القوم الكفار، وقال: " شَاهَتِ الوُجُوهُ "، فانهزموا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الغنائم، ورجع إلى الجِعِرَّانَة، فسم بها الغنائم، مغانم حنين، وزاد أُناساً منهم: أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، وسهيل بن عمرو، وغيرهم تألف بالزيادة قلوبهم، فتكلمت الأنصار،(4/2958)
وقالت: " آثر قومه "، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في قبة له من آدمٍ، فقال: يا معشر الأنصار ما ها الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضُلاَّلاً فهداكم الله، وكنتم إذِلَّةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم. فتكلموا إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لو سلكتم وادياً وسلك الناس وادياً، لسكلتُ وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار. ثم مدحهم بغير هذا، ثم قال: أما ترضون أن ينقلب النَّاس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم. فقالت الأنصار: رضينا عن الله عز جل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، والله ما قلنا ذلك إلا ظناً بالله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله ورسوله يُصدقانكم ويعذِرَانكم.
قال السدي: قال رجل من أصحاب النبي عليه السلام، يوم حنين، وقد كانوا إثنى عشر ألفاً: يا رسول الله لن نُغْلَبَ اليوم من قِلَّةٍ وأعجبته كثرة الناس، فَوُكِّلُوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ بين [يدي] النبي صلى الله عليه وسلم.
فنادى النبي صلى الله عليه وسلم، بالأنصار: أين الأنصارُ الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله عز وجل، الملائكة بالنَّسر، فهزم المشركون يومئذ، وغنموا.
وأصاب المسلمون ستة آلاف سبية، فجاء قومهم مسلمين، فقالوا: يا رسول(4/2959)
الله، أنت خير الناس، وأبرُّ الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّ عندي من ترون، وإنّ خَيْرَ القَوْلِ أَصْدَقُهُ، فاختاروا: إما ذراريكم ونسائكم، و [إمّا] أموالكم. فقالوا ما كنا نعدل بالأحْسَاب شيئاً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، من طابت نفسه [أن يرد ما عنده من الذراري ومن لم تَطِبْ نفسه] أن يجعله قرْضاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يعوضه مكانه. فَرَضُوا كلهم وسلموا بأن يردوا الذَّراري بطيب نفس.
ومعنى {بِمَا رَحُبَتْ}، أي: بسعتها.
وقال الطبري: " الباء " بمعنى: " في ".
فأعلم الله عز وجل، المؤمنين في هذه الآية أنه ليس بكثرهم يغلبون، [إنما يغلبون] بنصره.
وكانت غزوة حنين بعد فتح مكة، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، إليها خرج معه أهل مكة مشاة وركباناً، يمشون يرجون الغنائم حتى خرج معه النساء والصبيان وهم على غير الإسلام/ وليس يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله [صلى الله] عليه وسلم.(4/2960)
وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الغنائم على الجميع، ووفَّر على أهل مكة اسْتِيلاَفاً لهم ليدخلوا في الإسلام، وزَوَى كثيراً من المقاسم عن أصحابه، فعند ذلك وجدت الأنصار في أنفسها، وقالوا: ما نرى فعل ذلك إلا وهو يريد المقام بين ظَهْرَانَيْهِم، فعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم، [ على ذلك.
فنصر الله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو السَّكِينَةُ التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم] وعلى المؤمنين، {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}، وهي الملائكة بالنصر: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ}، أي: بالسيف، وسبي الأهل وأخذ الأموال: {وذلك جَزَآءُ الكافرين}، أي: هذا الذي فعله بهم، هو جزاء من كفر بالله ورسوله.
وقيل: هو جزاء من بقي منهم.(4/2961)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ}.
أي: يتفضل على من يشاء بالتوبة من الكفر والإنابة إليه، يعني من بقي منهم، حتى ينقلهم إلى طاعته إذا شاء، {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}، إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
ومعنى الآية: أن الله أمر المؤمنين أن يمنعوا المشركين من دخول المسجد الحرام.
وقوله: {نَجَسٌ}.
قال قتادة: " النَّجَسُ " هنا: الجُنُب.
وأصل " النَّجَسِ ": القذر. وإذا ذكرت قبل " النجس ": " الرجس " كسرت " النون "، وأسكنت " الجيم "، فقلت: هو رِجْسٌ نِجْسٌ على الاتباع.
وعنى بذلك: الحرم كله أن يمنعوا من دخوله، وعلى ذلك قال عطاء: الحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ.(4/2962)
وَبِظَاهِرِ هذه الآية يجب على المشرك إذا أسلم أن يغتسل، وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب مالك، وابن حنبل، ولم يوجبه الشافعي واستحبه، قال: إلاَّ أن يكون يعلم أنه جنُبٌ فعليه أن يغتسل.
وقال الثوري، والشافعي: ثياب المشركين على الطهارة حتى تعلم النجاسة، واستحبا غسل الإزار والسراويل.
وقال مالك: إذا صلى في ثوب كان المشرك يلبسه، أعاد من الصلاة ما كان في وقته.
وأكثَرُهُمْ على أن لا بأس بالصلاة فيما نسجوا، وهو مذهب مالك.
وهذه الآية نَاسِخَةٌ، لما كان النبي عليه السلام، قد صالح عليه المشركين أن لا يَمْنَع أحد من البيت.(4/2963)
قال مالك: يمنع المشركون كلهم من أهل الكتاب وغيرهم من دخول الحرم، ودخول كل المساجد. وهو قول عمر بن عبد العزيز، وقتادة.
وقال الشافعي: يمنع المشركون جميعاً من دخول الحرم، ولا يمنعون من دخول سائر المساجد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام، ولا من غيره، ولا يمنعن من ذلك إلا المشركون أهل الأوثان.
وقول الله عز وجل، في اليهود والنصارى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله مِّن دُونِ الله]} [التوبة: 31] الآية، يدلُّ على جوازهم تسميتهم مشركين، وقد نصّ الله على ذلك بقوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} في آخر الآية.
وقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}.
هو العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنهـ، بالناس، ونادى عليّ بـ: " براءة " في الموسم، / وذلك لتسع سنين مضين من الهجرة، وحجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الوَدَاعِ في العام المقبل سنة عشر من الهجرة.(4/2964)
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}.
[أي]: إن خفتم، أيها المؤمنون، فقراً، بمنعنا المشركين أن يأتوكم إلى الحرم بالتجارات، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ}، فأغناهم الله بأخذ الجزية منهم بقوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله}، إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية}.
وقيل: أغناهم بإدْرَارِ المطر عليهم.
قال ابن عباس: ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزن، عن منع المشركين من دخول الحرام، وقال لهم: من أين تأكلون، وقد انقطعت عنكم العير؟ فأنزل الله عز وجل:
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ}.
أي: عليم بما حدثتكم به نفوسكم من خوف العيلة، بمنعنا المشركين أن يأتوا إليكم، وبغير ذلك من مصالحكم، {حَكِيمٌ}، في تدبيره.(4/2965)
و " العَيْلَةُ " مصدر " عَالَ يَعِيلُ ": إذا افتقر.
وحُكِي: " عال يعول " [في] الفاقة.
وبمصحف عبد الله: " عائلة "، أي: خصلة شاقة، يقال: عالني الأمر، أي: شقَّ عليَّ واشتد.
ثم قال: تعالى آمراً للمؤمنين: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله}، الآية، أي: قاتلوهم حتى يعطوكم الجزية، من أهل الكتاب كانوا أو من غيرهم.
و" الجِزْية " ك: " القِعْدة " و " الجِلسة "، وجمعها: جِزَى، ك: " الحَِىً "، فهو(4/2966)
من " جَزَى فلان فلاناً ما عليه ": إذا قضاه.
وهي الخراجُ عن الرقاب.
ومعنى: {عَن يَدٍ}، أي: عن يده إلى يد من يدفعه إليه.
وقيل: {عَن يَدٍ}: عن إنعامٍ منكم عليهم إذا رضيتم بالجزية وأمَّنْتُمُوهُمْ في نفوسهم وأموالهم وَذَرَارِيهمْ.
وقيل: {عَن يَدٍ}: نقداً لا نسيئة.
وقيل: يؤدونها بأيديهم لا يوجهون بها كما يفعل الجبار.
وأهل اللغة يقولون: عن قهر وقوة.(4/2967)
{وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
أي: أذلاء مقهورون.
فهذه الآية نزلت في حرب الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد نزولها غزوة تبوك. قاله مجاهد.
قال عكرمة: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: هم قائمون [وأنت جالس].
وقال ابن عباس: يمشون بها مُلَبَّين.
وهذه الآية ناسخة للعفو عن المشركين. قاله ابن عباس.(4/2968)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
هي ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأجمع علماء الأمصار على أخذ الجزية من المجوس.
وكان ملك يرى: أخذ الجزية من سائر أهل الشرك، وحكمهم عنده حكم المجوس، تؤخذ منهم الجزية، ولا ينكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم.
وتوضع الجزية عمن أسلم عند مالك ولم يبق من السنة إلا يوم واحد.
وتؤخذ الجزية من أهل الوَرِق: أربعون درهماً، ومن أهل الذهب: أربعة دنانير، وهي فرض عمر رضي الله عنهـ.
قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله}، إلى قوله: {يُشْرِكُونَ}.
{عُزَيْرٌ}: مرفوع بإضمار مبتدأ، أي: صاحبنا عزير، {ابن}: نعت له، فيكون حذف التنوين لكثرة الاستعمال.(4/2969)
ويجوز أن يكون {ابن}، خبراً [عن] {عُزَيْرٌ}، ويكون حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وكلا الوجهين في قراءة من نَوَّن عُزَيْراً.
وقال أبو حاتم لو قال قائل: إن عزيراً اسم أعجمي لا يتصرف جاز.
وهو عند النحويين عربي مشتق، من: عزره يعزِرُهُ ومنه قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].
{ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ}.(4/2970)
أي: لا بيان عندهم بما يقولون، ولا برهان، وإنما هو قول لا غير. {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ}.
أي: يُشَبِّهون قولهم بقولهم، وهم اليهود الذين قالوا:
{عُزَيْرٌ ابن الله}، [سبحانه وتعالى]، أي: يشبه قول هؤلاء النصارى في الكذب على الله، (تعالى)، قول من تقدمهم في " العُزَيْر " من اليهود.
وقيل: المعنى: إن من كان على/ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، من اليهود والنصارى قولهم يشبه قول أوّليهم.
{قَاتَلَهُمُ الله}.
أي: لعنهم الله.(4/2971)
{أنى يُؤْفَكُونَ}.
أي: من أين يصرفون عن الحق.
{اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله]}.
الأحبار: العلماء.
والرهبان: العباد، أصحاب الصوامع.
{أَرْبَاباً}: أي سادة، يطيعونهمه في المعاصي، فيحلون ما حرم الله عز وجل، ويحرمون ما أحل الله، سبحانه، ولم يكونوا يَعْبِدُونَهُمْ، إنما كانوا يَطِيعونَهُم فيما لا يجوز، ولا يحل.
وقوله: {والمسيح}.(4/2972)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
أي: واتّخذوا المسيح رَبّاً.
{وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
[أي]: تنزيهاً له وتطهيراً من شركهم.
قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم}، إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون}.
قوله: {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، إنما دخلت {إِلاَّ}؛ لأن في الكلام معنى النفي، وهو: {يأبى}، لأن قولك: " أبيت الفعل " كقولك: " لم أفعل "، فلذلك دخلت {إِلاَّ}، وهي لا تدخل إلا بعد نفي.
وقال الزجاج التقدير: {ويأبى الله} كل شيء {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}.(4/2973)
وقال علي بن سليمان: إنما جاز دخول {إِلاَّ} ها هنا؛ لأن {يأبى} منع، فضارعت النفي.
ومعنى الآية: يريد أحبار هؤلاء ورهبانهم {أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله}، ( عز وجل) ، { بأفواههم}، أي: يحاولون بتكذيبهم وصدهم الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم، أن يبطلوا القرآن الذي جعله الله ضياء لخلقه، وهو نور الله سبحانه، {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، أي: يعلو دينه وتظهر كلمته.
قال السدي: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم، والله مُتِم نوره ولو كره الكافرون إتمامه.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى}.
وهو الإسلام وشرائعه {وَدِينِ الحق}، الإيمان، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ}، أي:(4/2974)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
ليعلي الإسلام على الملل كلها، {وَلَوْ كَرِهَ}، ذلك {المشركون}.
قال أبو هريرة: ذلك عند خروج عيسى عليه السلام.
وقيل: المعنى ليعلمه شرائع الدين كلها، فيطلعه عليها.
فتكون " الهاء " للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عباس.
وفي القول الأول: " الهاء " تعود على: " الدِّينِ.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان}، إلى [قوله]: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}.
قوله: {والذين يَكْنِزُونَ}.
{والذين}: في موضع رفع عطف على الضمير في: " يأكلون "، فيكون التقدير:(4/2975)
{لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل}، ويأكلها معهم الذين يكنزون الذهب.
وقيل: {الذين}: في موضع رفع بالابتداء.
ومعنى الآية: يا أيها الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بما جاء به، إن كثيراً من أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم، وهم: علماؤهم وعبادهم. وقيل: {الأحبار}: القراء: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل}، ويأكلها معهم {والذين يَكْنِزُونَ الذهب}، وذلك الرُّشى في الحكم، وفي تحريف كتاب الله عز وجل، يكتبون بأيديهم كتباً، ويقولون: هذا من عبد الله، يأخذون بها ثمناً قليلاً، {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، أي: يمنعون من أراد الدخول في الإسلام.
و" الكَنْزُ ": كل مَالٍ وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤَدَّ زكاته.
وقوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا}.
أي: لا يؤدون زكاتها.(4/2976)
قال ابن عمر: كل ما مَالٍ أُدِّيتُ زكاته ليس بكنز، وإن كان مدفوناً، وكلُّ مالٍ لم تُؤدّ زكاته، فهو كنز يكوى [به] صاحبه، وإن لم يكن مدفوناً.
ورُوي عن علي رضي الله عنهـ: أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " / فإن زادت فهو " كنز "، أدّيت زكاته أو لم تُؤد.
قال ابن عباس: هي خاصة للمسلمين لمن لم يؤدِّ زكاته منهم، وهي عامة في أهل الكتاب، من أدى الزكاة ومن لم يؤدِّ؛ لأنهم لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا.
وقال عمر بن عبد العزيز: أراها مَنْسوخَةً بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].(4/2977)
و " الكنْزُ " في كلام العرب: كل شيء جُمع بعضُه إلى بَعْضٍ.
قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا}.
ولم يقل: " يُنفقونهما "، إنما ذلك لأن الضمير رجع على الكنوز، والكنوز تشتمل على الذهب والفضة.
وقيل: إن الضمير يرجع على: " الأموال " التي تقدم ذكرها أنها تؤكل بالباطل.
وقيل: الضمير يعود على: " الفضة "، وحذف العائد على الذهب لدلالة الكلام(4/2978)
عليه، كأنه قال: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} و " يُنفقونه "، ثم حذف كما قال:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ. . ..
وقيل الضمير: " الذهب "، وضمير " الفضة " محذوف تقديره: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا}(4/2979)
و " يُنفقونها "، والعرب تقول: " هي الذهب [الحمراء] "، فتؤنث.
وقال معاوية: هذه الآية في أهل الكتاب خاصة.
وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
أي: اجعل موضع البشارة لهم عذاباً أليماً، أي: مؤلماً، بمعنى مُوجع.
وليس {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، بتمام؛ لأن {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا}، منصوب بـ: {أَلِيمٍ}.
و (الضمير في {عَلَيْهَا}، فيه من الوجوه، ما في: {يُنفِقُونَهَا}، وكذلك الضمير في {بِهَا}.(4/2980)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِن عَبْدٍ لا يُؤدّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا أُتِي بِهِ وبماله فأحمى عليه في نار جهنم، فتكوى بها جنباه وجبهته وظهره، حتى يحكم الله بين عباده ".
وقال ابن عباس: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا}، قال حَيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، تقول: أنا مالك الذي بخلت به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَن ترك بعده كنزاً مَثَلَ له يوم القيامة شُجاعاً أَقْرَع له زَبِيبَتَانِ، يتبعه فيقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلم يزل يتبعه حتى يُلْقِمَه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده ".
قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً}، الآية.
قوله: {كَآفَّةً}.(4/2981)
مصدر مثل: " عفاه الله عافيةً "، ومثله: " عامَّةً " و " خاصَّةً "، ف: {كَآفَّةً} ك: " العافية " و " العاقبة "، ولا تدخل فيهما " الألف واللام "، كما لم تدخلا في " معاً " و " جميعاً ".
ومعنى الآية: إن الله قدر أنّ السنة اثنا عشر شهراً في كتابه الذي سبق فيه ما هو [كائن] إلى يوم القيامة، منها أربعة حرم، وهن: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، وكان القتال فيها حراماً حتَّى نزل في " براءة " قتال المشركين.
و {ذلك الدين القيم}.(4/2982)
أي: المستقيم، إنها اثنا عشر شهراً.
وقيل {الدين} هنا: الحساب، أي: الحسابُ المستقيم.
وقال ابن عباس معناه: ذلك القضاء القيم.
وقوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
أي: لا تستحلوا ما حرم الله عز وجل.
قال ابن عباس: {فِيهِنَّ} يعني كلهن.
قال ابن عباس: {فِيهِنَّ}، يعني: كلهن.
وهو قول مقاتل بن حيان، والضحاك، جعلاً الضمير يعود على: {اثنا عَشَرَ شَهْراً}.
وليس قوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إذا جعلناه الأربعة الأشهر بمبيح لنا أن نظلم أنفسنا في غير الأربعة الأشهر، ولو كان ذلك كذلك لكان قوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] دليلاً على إباحة قتلهم إذا لم يخشوا إملاقاً، ولكان قوله:(4/2983)
{والفلك [التي] تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} [البقرة: 164] دليلاً على أنها لا تجري بما يضر الناس، وهي تجري بما ينفع وما يضر.
وأصل هذا: أن كلَّ نهي إنما يوجب الامتناع عما نهى عنه دون غيره، وكل أمر فهو نافسٍ لأضداده فإذا قلت: " قُمْ "، فقد أمرته بترك أضداد القيام من القعود والأضطجاع، وإذا قلت: " لا تَقُمْ "، فلم تنهه عن الاضطجاع ولا عن ألا تكاء ولا عن شيء من أضداده، فاعمله.
فالنهي عن الشيء لا يكون نهياً عن أضداد ذلك الشيء والأمر بالشيء أمر عن أضداد/ ذلك الشيء على مبينا، فافهمه.
وقال قتادة، وغيره: {فِيهِنَّ} في الأربعة الحرم، جعل الذنب فيهن أعظم منه في غيرهن.
وأكثر ما تستعمل العرب " الهاء " و " النون " فيما دون العشرة، و " الهاء "(4/2984)
و " الألف " في ما جاوز العشرة.
فالظلم في جميعها لا يجوز، ولكن هو فيها أعظم وزراً لشرفها، فلذلك خصها بالذكر، تعالى، وهذا كقوله: {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] أفردها بعد أن ذكرها مجملة لشرفها، وليس إفرادها بالمحافظة يدل على ترك المحافظة فيما سواها، فكذا هذا.
وقال ابن إسحاق المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً، تعظيماً لها، فإنما نهو عن " النسئ " الذي المشركون يصنعونه.(4/2985)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً}.
أي: جميعاً.
ومعنى {كَآفَّةً}، أي: يكف بعضهم بعضعاً عن التخلف كما يفعلون.
{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}.
أي: مع من اتقى أمره ونهيه وأطاعه.
ومن جعل {فِيهِنَّ} يعود على: " الاثنا عشر شهراً " وقف على: {القيم}، ومن جعله يعود على: " الأربعة الحرم " وقف على: {أَنْفُسَكُمْ}، وهو قول نافع والأخفش. والأول قول أبي حاتم ويعقوب.
قوله: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر}، الآية.
روى أحمد بن صالح، وداود، وأبو الأزهر عن ورش: {النسياء}،(4/2986)
مشدداً غير مهموز.
وكذلك قال أحمد بن صالح عن قالون.
وقال الحلواني عن قالون: مهموز.(4/2987)
وكذلك روى إسماعيل بن جعفر عن نافع.
وهو من " نسأتُ " و " أَنْسَأْتُه ": إذا أخرته.
ومن قرأ بغيْرِ همزٍ احتمل أن يكون على تخفيف الهمز.
واحتمل أن يكون من " نسيت " الشيء: تركته.
ومن قرأ {يُضَلُّ}، بفتح الياء، فمعناه: أنهم يَضِلون بتأخير شهر الحج(4/2988)
وتقديمهم غيره.
ومن قرأ {يُضَلُّ} بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله احتج بقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ}، فأجراه عليه للمشاكلة.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء: {يُضَلُّ}، بالضم، من: " أضَلَّ "، على معنى: أنهم يضلون به مَنْ قَبِلَ منهم ذلك.
و {الذين} في القراءتين المتقدمتين في موضع رفع.(4/2989)
وفي هذه القراءة يجوز أن يكون في موضع رفع على أنهم يضلون به من قَبِل منهم.
ويجوز أن يكون في موضع نصب، على معنى: يُضل الله به الذين كفروا.
ومعنى الآية عند الطبري: ما النسيء إلا زيادة في الكفر، على معنى: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك من شهور الحرم، وتصييرهم الحرام حلالاً، والحلال حراماً، زيادة في كفر من فعل ذلك.
وذلك أنَّ أبا ثُمامة بن عوف، كان يحرم عليهم صفراً عاماً، ويحلله عاماً، فيحرم صفراً والمحرم عاماً، وهو قوله: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً}.
وذلك أنهم (كانوا) قد تمسكوا بتحريم الأربعة الأشهر الحرم من ملة إبراهيم، عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرّم لحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر، ويقاتلون في المحرم. (هذا قول أبي عبيد، قال: فيحرمون صفراً إذا(4/2990)
قاتلوا في الحرم)، ويقولون: هذا أحدُ الصفرين.
وقد تأول قوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا صَفَرَ " أنه إنما نفى هذا المعنى.
ثم كانوا يحتا/جون إلى صفر لقتال، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يتمادون على تحريمه، ثم كذلك يؤخرون من شهر إلى شهر حتى استدار المحرم عن السنة كلها، فأتى الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل؛ لأنهم كانوا ينتقلون إلى تحريم شهر، ويقيمون عليه مدة، (ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده، ويقيمون عليه مدة ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده ويقيمون عليه مدة)، حتى صاروا إلى المحرم، فأتى الإسلام وقد(4/2991)
رجع إلشيء إلى حقه، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ".
فقوله: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً}، هو أنه يحلون صفراً، ثم يحتاجون إلى تحريمه [فيحرمونه]، ويحلون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر، فيحلونه، ويحرمون ما بعده، كذا يصنعون.
وقال مجاهد في قوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197]، أي: وقد استقر الحج الآن في ذي الحجة فلا جدال فيه.
وقال مجاهد: كانت العرب تحج عاميْن في ذي القعدة، وعاميْن في ذي الحجة، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم، كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}، أي: استقر في ذي الحجة.(4/2992)
وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: إن المعنى، أن رجلاً [كان] يأتي الموسم، فيحل لهم المحرم سنة ويحرم صفراً، ويحلل صفر العام المقبل، ويحرم المحرم.
قال ابن زيد: كان اسم الرجل: الْقَلَمَّس، قال شاعرهم:
ومنَّا الذي يُنْسي الشُّهورَ الْقَلَمَّسُ ... ومعنى {زِيَادَةٌ}، (أي): أزدادوا به كفراً إلى كفرهم.(4/2993)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
ومعنى: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله}. أي: ليشابهوا به الذي حرم الله، ويوافقوه به في العدة، لا يزيدون ولا ينقصون، إنما يؤخرون، ويأخذون ذا.
وروى ابن أبي شيبة أن اسم الرجل: نسيء.
{زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ}.
أي: حبب ذلك إليهم.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}.
أي: لا يوفقهم للهدى.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا}، إلى قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هذه الآية تحريضٌ من الله، عز وجل، وحثَّ للمؤمنين على غزو الروم، وذلك غزوة تبوك. بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد خيبر، وحنين، أُمروا بالغزو في الصيف حين(4/2994)
أحرقت الأرض، وطابت الثمار.
ومعنى {انفروا}: اخرجوا غزاة.
ومعنى: {اثاقلتم}، أي: تثاقلتم فلزمتم الأرض والمقام بمساكنكم.
{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة}.
أي: بخفض الدَّعةِ في الدنيا عوضاً من نعيم الآخرة.
{فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ}.
أي: ما الذي تستمعون به في الدنيا من عيشها في نعيم الآخرة إلا يسير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة أفضلُ من الدُّنيا وما فيها ".(4/2995)
ثم قال تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
يتوعدهم على ترك الغزو إلى الروم، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}: أي عاجلاً في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم.
{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}.
(أي: ويستبدل الله، عز وجل، نبيَّه عليه السلام قوماً غيركم)، ينفرون معه إذا استنفروا.
{وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً}.
أي: لا تضروه، بترككم النفير، شيئاً، إذا لا حاجة به إ ليكم ولا إلى غيركم.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
على أهلاككم واستبدال قوم غيركم [بكم]، وعلى سائر الأشياء.
قال ابن عباس: استنفر النبي عليه السلام، حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه،(4/2996)
فأمسك عنهم القطر، فكان ذلك العذاب الأليم.
ورُويَ عن ابن عباس أنه قال: نَسَخَتْهَا: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122].
وقال الحسن، / وعكرمة، وأكثر العلماء على أنهما محكمتان، لأن معنى {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ}، [أي]: إذا احتيج إليكم.
وقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، معناه: أنه لا بد أن يبقى بعض المؤمنين لئلا تخلى دار الإسلام. وقد قاله: الحسن، والضحاك.(4/2997)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
وقوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة} [التوبة: 120]، الآية، نَسَخَتْهَا (أيضاً) التي بعدها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122]،. وكذلك نسخت: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ}، الآية.
قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ}، الآية.
{ثَانِيَ اثنين}: نصب على الحال.
وقال على بن سليمان: نصبه على المصدر، والمعنى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ}، فخرج {ثَانِيَ اثنين}.
مثل: {والله أَنبَتَكُمْ [مِّنَ الأرض [نَبَاتاً]} [نوح: 17]. . . .(4/2998)
ومعنى الآية: أنها إعلام] من الله لأصحاب النبي عليه السلام، أن الله، عز وجل، قد تكفل بنصره على أعدائه في كل وقت، وحين: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} يعني: قريشاً، مفرداً مع صاحبه أبي بكر، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، يعني [النبي] عليه السلام، يقول لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ}، ذلك أن أبا بكر خاف من أن يعرف مكانه، فمكث النبي عليه السلام، وأبو في الغار ثلاثة أيام.
والغار بجبل يسمى: " ثوراً ".
وكان عامر بن فهيرة في غنم لأبي بكر بـ: " ثور " هذا، يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم، بالغار، وكان أبو بكر قد أرسله بتلك الغنم إلى " ثور " قبل خروجه مع(4/2999)
النبي صلى الله عليه وسلم عدة.
قال أبو بكر رضي الله عنهـ: " بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، [ في الغار] وأقدام المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا، قال: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَينِ اللهُ ثَالِثُهُما ".
والمعنى: الله ثالثهما، بالحفظ والكلاءة والمنع منهما.
وفي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هذا مع أبي بكر سُنَّةٌ لكل من خاف من أمر لا قوام له به، أن يفر منه، ولا يُعرّض نفسه إلى ما لا طافة له به، اتباعاً لفعل نبيه، عليه السلام، ولو شاء الله، عز جل، أن يسكنه معهم، ويُعمي أبصارهم عنه لفعل، ولو شاء لمشى بين أيديهم ولا يرونه، ولو شاء أن يهلكهم بما أرادوا أن يفعلوا لفعل، ولم يكن ذلك عليه عزيزاً،(4/3000)
ولكن أراد [الله] تعالى، أن يبلغ الكتاب أجله، ولتستنَّ بفعله صلى الله عليه وسلم، أمتهُ بعده.
وفي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي دليلٌ على فساد قول من قال: من خاف شيئاً سوى الله عز وجل، لم يوقن بالقدر. فحذر أبي بكر من أن يراهم المشركون دليل على الحذر من قدر الله، عز وجل، لم يوقن بالقدر. فقال ذلك، رضي الله عنهـ، إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُنَالَ بأذى أو يُفْتَنَ هو في دينه إن قدر عليه، فخف من ذلك، مع علمه أنّ الله عز وجل، بالغ أمره فلي كل ما أراد. وقال الله حكاية عن موسى، عليه السلام.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67] {قُلْنَا لاَ تَخَفْ}
[طه: 68].
وقوله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}.
أي: [على] أبي بكر، والنبي عليه السلام، لم تفارقه السكينة قط.(4/3001)
والسكينة: الطمأنينة من السكون.
وقد قيل: إنَّ " الهاء " تعود على النبي صلى الله عليه وسلم.
والأول أحسن؛ لأن النبي عليه السلام، معصوم من ذلك، على أنه قد قال تعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} [الفتح: 26]، وذلك أن النبي عليه السلام، خاف على المؤمنين يوم حنين لما اضطربوا، فلما أيد الله عز وجل، المؤمنين بنصره، سكن خوف النبي/ صلى الله عليه وسلم، عليهم.
وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}.
" الهاء " عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم.(4/3002)
أي: قوّاه بالملائكة.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى}.
أي: قهر الشرك وأذله.
{وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}.
أي: كذلك هي، ولم تزل كذلك.
وقرأ علقمة، والحسن، ويعقوب: " وكلمة الله " بالنصب، وهو بعيد من وجوه.
أحدهما: أن الرفع أبلغ؛ لأنها لم تزل كذلك، والنصب يدل على أنها جُعلت كذلك بعد أن لم تكن علياً.(4/3003)
وَبَعيدٌ أيضاً: من أنه يلزم أن يقال: " وَكَلِمَتَهُ هي العُلْيَا "، لأنه لا يجوز في الكلام: " أَعْتَقَ زَيْدٌ غُلاَمَ أبي زَيْدٍ " والثاني هو الأول.
وزعم قول إن إظهار الضمير في هذا حسن؛ لأنّ فيه معنى التعظيم، ولأن المعنى لا يشكل، وليس بمنزلة زيد ونحوه الذي يشكل، قال: وهو مثل ما أنشد سيبويه:
لاَ أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/3004)
ومثل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2].
{والله عَزِيزٌ}.
أي: عزيز في انتقامه من أهل الكفر، {حَكِيمٌ}، في تدبيره.
قال نافع: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله}، وقف، وهو بعيد، لأن {إِذْ}، قد عمل فيها: {نَصَرَهُ}.
{السفلى}، وقف حسن إن رفعت {وَكَلِمَةُ الله}، وإن نصبت، كان الوقف: {العليا}.
{وَجَعَلَ} في هذا الموضع بمعنى: " صيَّر " ويلزم المعتزلة أن يجعلوها بمعنى " خَلقَ " وهم لا يفعلون ذلك. لأنهم يقولون: كفر الكافر ليس بخلق الله عز وجل، ثم(4/3005)
يقولون في قوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3]، معناه: خلقناه، فيجعلون " جعل " بمعنى " خلق " في هذا الموضع، ويمتنعون منه في هذا الموضع الآخر.
و" جعل " يكون:
بمعنى " صَيّرَ ".
وبمعنى: " سَمَّى ".
وبمعنى " خَلََقَ ".
فإذا كانت بمعنى: " صَيَّرَ " تعدت إلى مفعولين وكذلك إذا كانت بمعنى: " سمّى " كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً}.
وإذا كانت بمعنى: " خَلَقَ " تعدت إلى مفعول واحد، كقوله):(4/3006)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
وقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] هي بمعنى: " صيَّر " تعدت إلى مفعولين وهما: {ابن}، و {آيَةً}.
و {كَلِمَةُ الله}، في هذا الموضع: لا إله إلا الله.
قوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً}، إلى قوله: {لَكَاذِبُونَ}.
المعنى في قول الحسن: {انفروا}، شباناً وشيوخاً، وهو قول عكرمة، وأبي صالح.
ورُوي عن أبي طلحة: {انفروا}، شباناً وكهولاً، وكذلك قال الضحاك، ومقاتل بن حيان.
وروى سفيان، عن منصور عن الحكم {انفروا}: مشاغيل وغير مشاغيل.(4/3007)
وعن أبي صالح أنَّ المعنى {انفروا}، أغنياء وفقراء.
وعن ابن عباس وقتادة {انفروا}، نشاطاً وغير نِشاط.
وقال الأوزاعي المعنى {انفروا}، [ركباناً ومشاة.
وفيه قول سابع قاله ابن زيد أن المعنى {انفروا}]: من كان ذا ضَيْعَةٍ ومن [كان] غير ذي ضَيْعة، ف " الثقيلُ " الذي له ضيعة يكره أن يتكر ضيعته، و " التَّخْفِيفُ ": الذي لا ضيعة عنده تمنعه من الخروج.
وفيه قول ثامن مرويٌّ عن الحسن أنَّ المعنى: في العُسْر واليسر.
وفيه قول تاسع قاله زيد بن أسلم: أنَّ المعنى " الثقيل ": الذي له عيال، و " الخفيف ": الذي لا عيال له.(4/3008)
وقد قيل: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ [كَآفَّةً]}، [التوبة: 122].
وقل: هي محكمة.
أمر الله أصحاب النبي عليه السلام بالخروج معه على كل حال.
{وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}.
أي: ابذلوهما في الجهاد.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}.
أي: في معادكم وعاجلكم وآجلكم، فالعاجل: الغنيمة، والآجل: الأجر والرضى من الله، عز وجل.
ثم قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ}.
وذلك أن جماعة استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم، إذ خرج إلى تبوك في التخلف/ والمُقام،(4/3009)
فأذن لهم، فقال له الله، عز وجل، {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً}، أي: غنيمة حاضرة، {وَسَفَراً}: قريباً، {لاَّتَّبَعُوكَ}، ولم يتخلفوا عنك.
{ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة}.
[و {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة}: الغاية التي يقصد إليها.
قال أبو عبيدة: {الشقة}: المشقة].
فالمعنى: ولكن استنهضتهم إلى مكان بعيد، فشق ذلك عليهم، فسألوك في التخلف.
وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}.
أي: سيحلف هؤلاء لكم بالله، إنهمه لو قدروا لخرجوا معك، وذلك منهم كذب.(4/3010)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}.
أي: يوجبون لها بالتخلف والكذب، والهلاك والغضب في الآخرة.
{والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
في أعتذارهم.
قوله: {عَفَا الله عَنكَ}، إلى قوله: {بالمتقين}.
" النون " من: {عَنكَ}، وحيث ما سكنت مع " الكاف " وأخواتها خرجت بغُنّة من الخياشيم.
والمعنى: {عَفَا الله عَنكَ}، يا محمد، ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم.
وقيل المعنى: إنه افتتاح كلام بمنزلة: " أصلحك الله " و " أعزك الله ".
وقال الطبري: هذا عِتابٌ من الله، عز وجل لنبيه عليه السلام، في إذنه لمن أذن لهه من المنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، حتى يعلم الصادق منهم من الكاذب في(4/3011)
قولهم: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، فيعلم من له عذر ومن لا عذر له، فيتبين لك الصادق من الكاذب، ويكون إذنك على علم بهم.
ثم أرخص الله، عز وجل، له الإذن في سورة " النور " فقال: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62].
قال بعضُ المفسرين: اثنين فعل رسول الله عليه السلام، لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، وأخذه من الأسارى الفداء.
ومن قال هو افتتاح كلام، وقف على: {عَفَا الله عَنكَ}.
ومن قال هو عتاب، لم يقف عليه.(4/3012)
وقال محمد بن عرفة نفطويه: ذهب ناس إلى [أنّ] النبي صلى الله عليه وسلم مُعاتبٌ بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي، كما قال: " لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لجَعَلْتُهَا عُمْرةً "؛ لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل، وقد قال له الله: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} [الأحزاب: 51]، لأنه كان له أن يفعل ما شاء، فلما كان له أن يفعل ما شاء مما لم ينزل عليه فيه وحي، واستأذنه المتخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه، صلى الله عليه وسلم، فأبان الله، عز وجل أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا، للنفاق الذي في قلوبهم، وإنهم كاذبون في إظهار الطاعة له والمشاورة.
ف: {عَفَا الله عَنكَ}، عنده افتتاح كلام، أعلمه الله عز وجل، به أنه لا حرج عليه فيما فعل من الإذن، وليس هو عفواً عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه بترك. الإذن لهم، كما قال عليه السلام: " عَفَا اللهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ وَمَا وَجَتَا قَطُّ " ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك.(4/3013)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله} الآية.
أجاز سيبويه في: {أَن يُجَاهِدُواْ}، أن تكون {أَن}: في موضع جر عكلى حذف الجار، قال: لأنَّ حذف حرف الجر جائزٌ مع ظهور " أن "، ألا ترى أنك لو جعلت مع " أنْ " والفعل: المصدر، لم يجز حذف الجر، لا يجوز: " لايستأذنك القوم/ الجهاد "، حتى تقول: " في الجهاد " ويجوز ذلك مع " أن ".
ومعنى ذلك أن الله عز وجل، أعلم نبيه عليه السلام، بسيما المنافقين وأن من علاماتهم الاستئذان في التخلف لئلا يجاهدوا في سبيل الله، ومن علامات المؤمنين أنهم لا يستأذنون في ذلك.
وقيل العنى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} في القعود عن الجهاد.
ثم قال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ [بالله] واليوم الآخر}.
أي: في القعود، يدل على ذلك قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن}، أي: في القعود.(4/3014)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
وقوله: {وارتابت قُلُوبُهُمْ}.
يعني المنافقين الذين يستأذنون في التخلف أي: وشكت قلوبهم في الله عز وجل، وفي ثوابه وعقابه، سبحانه، فهم في شكهم {يَتَرَدَّدُونَ}، أي: يتحيرون، لا يعرفون حقاً من باطل.
رُوي عن عكرمة، والحسن: أن قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر}، إلى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، نسختها الآية التي في " النور ": {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} إلى: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}.
والمعنى: ولو أراد هؤلاء الذين استأذنونك في التخلف الخروج معك،(4/3015)
{لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}، أي: لتأهّبوا للسفر.
{ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم}.
أي: خروجهم.
{فَثَبَّطَهُمْ}.
أي: فثقّل عليه الخروج، حتى استحسنوا القعود، وسألوا فيه.
{وَقِيلَ اقعدوا}.
أي: زيَّن لهم ذلك.
ف: {اقعدوا مَعَ القاعدين}، أي: مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان.
والذين استأذنه هو: عبد الله بن أُبي بن سلول، ومن كان مثله.
والفاعل المحذوف من: " {وَقِيلَ}، ذُكر أنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه هو سمح لهم في(4/3016)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
التخلف.
ويجوز أن يكون المعنى: وقال لهم أصحابهم هذا.
قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} الآية.
المعنى: لو خرج هؤلاء فيكم، {مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم {إِلاَّ خَبَالاً} أي: فساداً {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ}، أي: ولأسرعوا بركائبهم للسير فيكم.
و" الإيضاع ": ضرب من الإسراع في الخيل والإبل.
وكتبت: {ولأَوْضَعُواْ} بألف زائدة.(4/3017)
وكذلك: {أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ} [النمل: 21].
وكذلك: {لإِلَى الجحيم} [الصافات: 68].
والعلة في ذلك: أنّ الفتحة كانت تكتب قبل العربي الفاً، فكتبت هذه الحروف على ذلك الأصل، جعلوا للفتحة صورة فزادوا الألف التي بعد اللام، والألف الثانية هي صورة الهمزة.
ومعنى {خِلاَلَكُمْ}، فيما بينكم، وهي الفُرَجُ تكون بين القوم في الصفوف.(4/3018)
وقال أبو إسحاق معنى {خِلاَلَكُمْ}: فيما يخل بكم، أي: يسرعوا فيما ينقصكم.
{يَبْغُونَكُمُ الفتنة}.
أي: يبغونها لكم، أي: يطلبون ما تفتنون به.
وقيل {الفتنة} هنا: الشرك.
قال ابن زيد: سلّى الله عز وجل، نبيه صلى الله عليه وسلم، بهذه الآية في تخلف المنافقين عنه، فأخبره أنهم ضررٌ لا نفع فيهم.
وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
أي: فيكم، يا أصحاب محمد، من يستمع حديثكم ليخبرهم بذلك، كأنهم(4/3019)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
عيون للمنافقين. كذلك قال: مجاهد والحسن وابن زيد.
وقال قتادة المعنى: وفيكم من يستمع كلامهم ويطيعهم، فلو صحبوكم أفسدوهم عليكمك.
{والله عَلِيمٌ بالظالمين}.
أي: ذو علم بمن يقبل من كلام المنافقين، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين، وبغير ذلك.
قوله: / {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ/ لَكَ الأمور}، إلى قوله: {بالكافرين}.
المعنى: لقد التمس هؤلاء المنافقون لأصحابك، يا محمد، {الفتنة}، أي:(4/3020)
خبالهم وصدهم عن دينهم {مِن قَبْلُ}، أي: من قبل أن ينزل عليك أمرهم وكشف سرهم واعتقادهم {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور}، أي أجالوا فيك وفي إيطال ما جئت به الرأي {حتى جَآءَ الحق}، أي: نصر الله: {وَظَهَرَ أَمْرُ الله}، أي دينه وهو الإسلام، {وَهُمْ كَارِهُونَ}، لذلك.
ثم أخبر الله عز وجل، عن المنافقين أن منهم من يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: { ائذن لِّي}، أي: ائذن لي يا محمد، في المُقام ولا أخرج معك، {وَلاَ تَفْتِنِّي}، أي: لا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتهم، فإني بالنساء مغرمٌ، فآثم بذلك.
قال مجاهد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اغزوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم " فقال بعض المنافقين: ائذن لي، ولا تفتني بالنساء.(4/3021)
وقال قتادة معنى: {وَلاَ تَفْتِنِّي}، أي: لا تؤثمني، بالتخلف عنك بغير رأيك، ائذن لي في المُقام.
قال ابن عباس: قال الجد بن قيس للنبي صلى الله عليه وسلم، لما حضّ على غزو الروم: قد علمت الأنصار أنى إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكني أعينك بمالي.
ففي الجد بن قيس نزلت الآية.
وقوله: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ}.
أي: ألا في الإثم وقعوا، ومنه هربوا في زعمهم.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين}.(4/3022)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
أي: مُحدقةٌ بهم، جامعةٌ لهم يوم القيامة.
{وَلاَ تَفْتِنِّي}: وقف حسن.
قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} إلى قوله: {مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ}.
والمعنى: إن يصبك يا محمد، سرورٌ وفتح، ساء المنافقين ذلك، وإن يصبك نقص في جيشك أو ضر، أو هزيمة، يقول المنافقون: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا [مِن قَبْلُ]}، أي: أخذنا الحذر بتخلفنا {مِن قَبْلُ} أي: من قبل أن تصيبهم هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ [فَرِحُونَ]}، أي: يُدْبروا عن محمد صلى الله عليه وسلم، [ وهم]: فرحون بما أصابه.
ثم قال: {قُل}، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: ليس {يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا}، أي: في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا: {هُوَ مَوْلاَنَا} أي ناصرنا، {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.(4/3023)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
ثم قال تعالى: {قُلْ} يا محمد لهم: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين}، أي إحدى الخلّتين اللتين هما أحسن من غيرهما، إما الظفر والأجر والغنيمة، وإما القتل والظفر بالشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ}، أي: بعقوبة عاجلة، تهلككم: {أَوْ بِأَيْدِينَا}، أي: يسلطنا عليكم فنقتلكم.
قال ابن جريج: {بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ}: بالموت، {أَوْ بِأَيْدِينَا}: بالقتل.
{فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ}.
أي: فانتظروا إنا معكم منتظرون، أي: ننتظر ما الله فاعل بكم، وما إليه يصير كل فريق منا ومنكم.
قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}، إلى قوله: {وَهُمْ كافرون}.(4/3024)
والمعنى: {قُلْ}، يا محمد لهؤلاء المنافقين: أنفقوا أموالكم كيف شئتم، طائعين أو كارهين، فإنها لا تقبل منكم، إذ أنتم في شك من/ دينكم، خارجون عن الإيمان بذلك.
وخرج قوله: {أَنفِقُواْ}، مخرج الأمر، ومعناه الخبر، وإنما تفعل العرب ذلك في الموضع الذي يحسن فيه " إنْ " التي للجزاء، [و] منه قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، لفظه لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، والجزاء خبر، ومنه قول كثير:(4/3025)
أسيئ بِنَا أوْ أحْسِني، لاَ مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلَّيةً إِنْ تَقلَّتِ.
فالمعنى: إن تنفقوا طائعين أو كارهني فلن يقبل منكم.
وجاز أن يقع لفظ الأمر بمعنى الخبر، كما جاز أن يقع لفظ الخبر بمعنى الطلب والأمر، تقول: " غَفَرَ اللهُ لِزَيْدٍ " معناه: الطلب والدعاء، ولفظه لفظ الخبر، والمعنى: " اللهم اغفر لزيد ".
وهذه الآية نزلت في الجدّ قيس، لأنه لما عرض النبي عليه السلام [عليه] الخروج، سأل المقام، واعتذر بأنه لا يصبر إذا رأى النساء، وأنه يفتتن، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا مالي أعينك به.
ثم أخبر الله تعالى بالعلة التي من أجلها لم تقبل نفقاتهم، فقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}، أي: بأن تقبل، {إِلاَّ أَنَّهُمْ}، " أنّ " في(4/3026)
موضع رفع، أي: ما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم.
وأجاز الزجاج، أن تكون " أَنَّ " في موضع نصب، على معنى: إلا لأنَّهم كفروا، ويكون الفاعل مضمراً في {مَنَعَهُمْ}، والتقدير ومامنعهم الله من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا لأنهم كفروا.
ويجوز عند سبيويه، أن تكون في موضع جر، على تقدير حذف الخافض.
ومن قرأ: {أَن تُقْبَلَ} بـ: " الياء "، رده على معنى الإنفاق، لأنه والنفقات سواء.(4/3027)
فالذي منعهم من القبول هو كفرهم بالله، عز وجل، وبرسوله عليه السلام، وإتيانهم الصلاة وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا يرجون بها ثواباً، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً، إنما يقيمونها مخافة على أنفسهم رياء، وأنهم لا ينفقون شيئاً من أموالهم {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}، إذ لا يرجون ثوابه.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم}.
أي: لا تعجبك، يا محمد، أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله، يا محمد ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: {فِي الحياوة الدنيا}، يريد به التقديم. والمعنى: ولا تعجبك يا محمد، أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، هذا قول ابن عباس، وقتادة وغيرهما.
وقال الحسن: ليس في الكلام تقديم ولا تأخير، إنما المعنى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا}، أي: بما ألزمهم فيها من أخذ الزكاة والنفقة في(4/3028)
سبيل الله، عز وجل، وهو اختيار الطبري.
على معنى: أنهم يخرجونها تقيةً وخوفاً، ويقلقهم عزمها، ويحزنهم خروجها من أيديهم، فهي لهم عذابٌ.
وقال ابن زيد المعنى: {لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا}، أي: بالمصائب فيها، فهي لهم إثم، والمصائب للمؤمنين أجر.
{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون}.
أي: تخرج وهم على كفرهم.(4/3029)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قال أبو حاتم: {وَلاَ أولادهم}، وقف كاف.
فمن قال: في الكلام تقديم وتأخير، لم يجز الوقف.
ومن قال: ليس فيه تقديم ولا تأخير، حسن الوقف على: {وَلاَ أولادهم}.
و {فِي الحياوة الدنيا}، ليس بتمام؛ لأن {وَتَزْهَقَ}، معطوف عليه.
قوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ}، إلى قوله: {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ}.
والمعنى، / أن هؤلاء المنافقين يحلفون لكم، أيها المؤمنون، {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ}، يعني في الدين والملة.
قال الله عز وجل، مكذباً لهم: {وَمَا هُم مِّنكُمْ}، أي: ما هم من أهل ملتكم ودينكم، {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}، أي: يخافونكم، فيقولون بألسنتهم ما لا يعتقدن خوفاً منكم، لئلا تقتلوهم.(4/3030)
ولو يجد هؤلاء المنافقون {مَلْجَئاً}، أي: حصناً يتحصنون فيه منكم، {أَوْ مَغَارَاتٍ}، وهي: الغيران في الجبل، {أَوْ مُدَّخَلاً}: أي: سرباً في الأرض يدخلون فيها. {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ}، أي لأدبروا، هرباً منك: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}، أي: يُسرعون في مشيهم. و " الجَمْحُ ": مَشي بين مشيين يقال: فرس جَمُوحٌ، إذا كان لا يرده في دفعه لجِامٌ، ولكنهم لا يقدرون على ذلك، لأن دورهم ودراريهم وعشيرتهم تمنعهم من ذلك، فصانعوا بالنفاق، ودافعوا به عن أنفسهم وأموالهم، يَدَّعونَ الإيمان ويبطنون الكفر.(4/3031)
قال ابن عباس: " المَلْجَأُ " الحِرْزُ في الجبل.
وقال: {أَوْ مُدَّخَلاً} ذهاباً في الأرض، وهو النفق في الأرض يعني السِّربُ.
وواحد المغارات: " مغارة "، من: غار الرجل في الشيء: إذا دخل فيه.
وأجاز الأخفش: " مُغارات "، من: " أَغَارَ يُغِيرُ "، كما قال:
الحَمْدُ للهِ مُمْسَانَا ومُصْبَحَنَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/3032)
وواحدها " مغارة " وجمعها " مغاور ".
وَقَأ عيسى بن عمر، والأعمش: " أوْ مُدَّخَّلاً " بتشديد " الدال " و " الخاء "، والأصل فيه: مُتَدَخَّل على وزن: مُتَفَعَّل، ومعناه: دخول بعد دخول.
وَقَرأَ الحسن، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن: {مُدَّخَلاً} من دخل.
وحكى أبو إسحاق: {مُدَّخَلاً} بالضم، من " أدخل.(4/3033)
وفي حرف أُبيّ: " مُدَخَّلاً " بتخفيف " الدال " وتشديد " الخاء ".
ثم أخبر نبيه عليه السلام، أن من المنافقين من يلمزه في الصدقات، أي: يعيبه بها، ويطعن عليه فيها.
يقال: " لَمَزه يَلْمِزُهُ، ويَلْمُزُهُ "، لغتان.
والضَّمُّ: قراءة الأعرج، وقد رواها شبل عن ابن كثير.(4/3034)
و " الهُمَزَة اللُّمَزَة ": العياب للناس.
وقيل: " الهُمَزَةُ ": الذي يشير بعينه، و " اللُّمَزَة ": الذي يعيب في السر.
وقوله: {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ}.
أي: إن أعطيتهم من الصدقات رضوا عنك، فإن لم تعطهم منها سخطوا، [فليس] عيبهم لك إلا ن أجل أنك منعتهم منها.
قال مجاهد: {يَلْمِزُكَ}: يروزك، يسألك فيها.
وقال قتادة: {يَلْمِزُكَ}، يطعن عليك.
قال ابن زيد: قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ، ولا يؤثر بها إلا(4/3035)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
هواه، فنزلت الآية.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ}.
أي: ولو أن هؤلاء المنافقين، الذين يلمزونك في الصدقات، رضوا ما أعطاهم الله ورسوله، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله}، أي: كافينا الله، {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، أي: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقات وغيرها، {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ}، في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقات.
قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا}، الآية.
{فَرِيضَةً}: نصب على المصدر.(4/3036)
ومعنى الآية في قول عكرمة: أنها ناسخة لكل صدقة في القرآن.
فقوله: {لِلْفُقَرَآءِ والمساكين}.
قال مجاهد، وعكرمة، والزُّهري، وجابر بن زيد: / " الفقير ": الذي لا يسأل و " المسكين ": الذي يسأل.
وقال ابن عباس: " المسكين ": الطواف، و " الفقير ": فقير المسلمين.
وقال قتادة " الفقير ": المحتاج الذي به زمانه، و " المسكين ": الصحيح المحتاج.(4/3037)
وقال الضحاك " الفقراء ": فقراء المجاهدين، و " المساكين ": [الذين] لم يهاجروا.
وذكر ابن وهب، عنه، أنّ " الفقراء ": من المهاجرين، و " المساكين "): من الأعراب. قال: وكان ابن عباس يقول: " الفقراء " من المسلمين، و " المساكين " من أهل الذمة.
وقال الشافعي " الفقراء ": الذين لا مال لهم ولا حرفة تغنيهم، و " المساكين " الذين لهم مال، أوْ حرفة لا تغنيهم.
وقال أبو ثور " الفقير ": الذي لا شيء له، و " المسكين ": الذي لا يكسب من كسبه ما يقوته.
وقال عبيد الله بن الحسن " المسكين " الذي يخشع ويستكين، بأن لم يسأل و " الفقير "، الذي يتحمل، ويقبل الشيء سراً، ولا يخشع.(4/3038)
وقال محمد بن مَسْلمة " الفقير ": " الذي له مسكن يسكنه والخادم إلى ما هو أسفل من ذلك، و " المساكين ": الذي لا مال له.
وقال أهل اللغة: " المسكين ": الذي لا شيء له، و " الفقير ": الذي له شيء يكفيه.
قال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا، بل مسكين.
وقال عكرمة " الفقراء ": من اليهود والنصارى، و " المساكين ": من المسلمين.
واختار الطبري، وغيره أن يكون " الفقير ": الذي يعطى بفقره فقط، و " المسكين ": الذي يكون عليه مع فقره خضوع وذل السؤال.
وأنشد أهل اللغة قول الراعي:
أمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الِعيَالَ فَلَمْ يُتْركْ لَهُ سَبَدُ(4/3039)
فجعل للفقير حَلُوبَةً، مقدار ما يكفي العيال.
ف: " المسكين " أشد حاجة من: الفقير " فكل مسكين فقير، وليس كل فقير مسكيناً.
ف: " الفقير ": الذي لا غنى له فوق قوت يومه، وهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُول، كأنَّه مفقور الظهر، وهو الذي نزعت فَقْره [من فِقَر] ظهره، فانقطع ظهره من شدة الفقر، وهذا الاشتقاق يدل على أنّ " الفقير " أشدُّ حاجةً من " المسكين " وقد ق تعالى:
{فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79]، فسماهم: مساكين، ولهم سفينة، ولا حجة في(4/3040)
قراءة من قرأ: " مَسَّاكِينَ "، بالتشديد؛ لأن الجماعة على التخفيف.
وقوله: {والعاملين عَلَيْهَا}.
هم السعادة في قبضها من أهلها، يُعْطَوْنَ عليها، أغنياء كانوا أو فقراء.
وذلك عند مالك إلى الإمام، يجتهد فيما يعطيهم، وليس لهم فريضةٌ مسماة.
وأما {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}، فقال ابن عباس: هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أسلموا، فكان النبي عليه السلام، يَرْضَخُ لهم من الصدقات، فإذا أصابوا خيراً، قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه.
وقال الزُّهري: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}: من أسلم من يهود أو نصراني، غنياً كان أو فقيراً.
وقال الحسن: أما {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}، فليس اليوم.(4/3041)
وكذا رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ.
وقال الشعبي: كانت " المؤلفة "، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وَلِيَ أبو بكر انقطع ذلك.
وهو قول مالك، قال: يرجع سهم المؤلف إلى أهل السهام الباقية.
واقل الشافعي " المؤلفة ": من دخل في الإسلام.
وقال ابن حنبل/ وغيره: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}، في كل زمان.
وهو اختيار الطبري.
و" اللام " في قوله: {لِلْفُقَرَآءِ}، وما بعد ذلك، بمعنى: " في "، ولو حملت على ظاهرها لوجب أن يعطوا الصدقات، يفعلون فيها ما يشاؤون. وقوله: {وَفِي الرقاب}، يدل على أنَّ " اللام " بمعنى " في ".
والمعنى إنما توضع الصدقات في هؤلاء على ما يستحقون، فيأخذونها لأنفسهم، ف " اللام " توجب استحقاقها كلها لهم يعملون فيها ما يشاؤون.(4/3042)
وقوله: {وَفِي الرقاب}.
قال ابن عباس: تعتق منها الرقبة.
قال: لا بأس أن يُعطى الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق منها الرقبة.
وممن قال يعتق من الزكاة الرقاب: الحسن البصري، ومالك، وابن حنبل، وغيرهم.
وكره مالك أن يعان بها المكاتبون.
وقال الحسن، والزهري، وابن زيد، والشافعي: معنى {وَفِي الرقاب}، يعني المكاتبين.
والمعنى على هذا: وفي فك الرقاب، ورُوِيَ ذلك عن أبي موسى الأشعري.(4/3043)
وولاء من أعتق من الزكاة لجميع المسلمين عند مالك.
وقال الحسن، وابن حنبل، وإسحاق: يجعل ما يتركه المعتّق في الرقاب.
وقال أبو عبيد: الولاء للمعتق.
وقوله: {والغارمين}.
قال مجاهد الغارَمُ: من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب ماله.
وقيل: هم المستدينون في غير سرف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
وقال الزهري: {والغارمين}، أصحاب الدين.
(وقال قتادة: الغارمون)، قوم غرَّقتهم الديون في غير تبذير ولا فساد.(4/3044)
وأجاز الحسن أن يحتسبَ الرجل من زكاته بالدين، يكون له على المعسر. وهو قول عطاء.
وأجازه الليث إذا حَلَّ الأجَلُ، وكن الذي عليه الدَّيْنُ مُسْتَوْجِباً للصدقة.
وقوله: {وَفِي سَبِيلِ الله}.
المعنى: وفي نصر دين الله يعطى الغازي منها وإن كان غنياً.
هذا قول مالك، والشافعي.
وقوله: {وابن السبيل}.
هو الضيف والمسافر، والمنقطع بهما.
وقال مالك: الحاج المنقطع به هو ابن السبيل، يعطى من الزكاة.(4/3045)
وأكثر الناس على أن المتصدق بزكاته يجزيه أن يضعها في أي الأصناف المذكورين شاء. هو قول: ابن عباس، والحسن، والنخعي، وعطاء، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة.
قال مالك: تجعل في أي الأصناف كانت فيه الحاجة.
قال مالك: من له دارٌ وخادمٌ ليس في ثمنها زيادة تكفيه لو باعهما واشترى ما هو دون منهما، فإنه يأخذ من الزكاة، فإن فضل له ما يعينه على عيشه ويكفيه إذا باعهما، واشترى غيرهما لم يأخذ من الزكاة. وهو قول الحسن، والنخعي، والثوري وأصحاب الرأي.
وقال الشافعي: إنه قد يكون للرجل الجملة من الدنانير والدراهم، وَعَلَيْهِ عِيَالٌ، وهو محتاج إلى أكثر منها، فله أن يأخذ من الزكاة.(4/3046)
[وقال أبو حنيفة: من معه عشرون ديناراً أو مائتا درهمٍ، فليس له أن يأخذ من الزكاة].
وقيل: من له خمسون درهماً فلا يحل له أن/ يأخذ من الزكاة. وهو قول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " مَنْ سَأَلَ، وَلَهُ مَالٌ يُغْنِيهِ، جاءت - يعني مسألته - في وجهه يوم القيامة خُمُوشاَ أو كُدُوحاً "، قالوا: يا رسول الله، وماذا غناه؟ قال: " خمسون درهماً أو حسابها من الذهب ".
وقيل: لا يأخذ من يملك أربعين درهماً من الزكامة.
ورُوِيَ عن الني صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أربعون درهماً، فقد سأل إِلحاَفاً "(4/3047)
" والأوقية: أربعون درهماً ".
وقد رُوِيَ هذا عن مالك، والأول أشهر عنه. وهو [قول] أبي عبيد.
قال مالك: إذا كان الإمام يعدل فلا يسع أحداً أن يفرق زكاة ماله النَّاضِّ، ولا غيره، ولكن يدفعه إلى الإمام.
ويبعث الإمام في زكاة الماشية، وما أنبتت الأرض، ولا يبعث في زكاة العين، ولكن إن كان عدلاً سألهم ذلك، كما فعب أبو بكر رضي الله عنهـ، ويصدق الناس في ذلك.(4/3048)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قوله: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، إلى قوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}.
روى الأعمش عن أبي بكر: " قُلْ أُذْنٌ خَيْرٌ لَّكُمْ "، بالتنوين والرفع فيهما، وهي قراءة الحسن.
ومعنى ذلك: قُلْ هو أذن خَيْرٍ لا أذن شّرٍٍّ، وذلك أنهم قالوا: هو يسمع من كل أحد، ويسمع ما يقال له ويصدقه.
فقوله: {هُوَ أُذُنٌ}، أي: أذنٌ سامعة تسمع من كل أحد.
وأصله من " أَذِنَ " إذا تَسمَّعَ.
ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا أُذِنَ لِشَيء كَأَذِنه لِنَبِيٍ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ ".(4/3049)
ويُرْوَى " أنَّ هذه الآية نزلت في نبتل بن الحارث، ونفر معه من المنافقين، كان نَبْتَلُ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، يتحدث إليه فيستمع النبي صلى الله عليه وسلم منه، فنيقل حديثه إلى المنافقين، ويقول: إنما محمد أُذُنٌ، من حَدَّثهُ سمِعَ وصدَّقَه.
وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيه: " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث ".
وكان جسيماً، ثائر شعر الرأس، أسفع الخدين، أحمر العينين.
ومعنى قراءة من نوَّن، قل: أذن يسمع ما تقولون ويصدقكم في قولكم خير لكم من أن يكذبكم في قولكم، فالتقدير: إن كان الأمر كما تقولون فهو خير لكم يقبل اعتذاركم.
وقوله: {يُؤْمِنُ بالله}.
أي: يُصدق بالله، ويصدق المؤمنين، أي: لا يقبل إلا من المؤمنين. فأكذبهم الله فيما قالوا عنه: إنه يقبل من كل أحد، فأخبرهم أنه إنما يصدق المؤمنين لا(4/3050)
الكافرون والمافقين.
والعرب تقول: " آمنتُ له، وآمنْتُه " بمعنى، أي: صدَّقته، كما قال: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]، بمعنى: ردفكم وكما قال: {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، أي: ربَّهم يرهبون.
و (اللام) عند الكوفيين زائدة، وعند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل. يعني: و {رَدِفَ لَكُم}، و {يَرْهَبُونَ}.
قال ابن عباس: {هُوَ أُذُنٌ}، أي: يسمع من كلِّ أحد.(4/3051)
قال قتادة: كانوا يقولون: محمد أُذُن، لا يُحدَّث بشيء إلا صدَّقه.
وقوله: {وَرَحْمَةٌ}.
أي: وهو رحمة.
ومن قرأ: بالخفض، فعلى معنى: هو أُذُن خير وَأُذُن رحمة لمن اتبعه.
{والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله}.
أي: يعيبونه، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي: مؤلم.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}، أي: ليرضيوكم إذا بلغهم/ عنكم أنّكم سمعتم بأذاهم للنبي، فحَلَفُوا أنهم ما فعلوا ذلك، وأنهم لعلى دينكم.
{والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}.
التقدير عند سبيويه: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف الأول لدلالة الكلام عليه.(4/3052)
والتقدير عند المبرد: أنَّه لا حذف في الكلام، وأنَّ فيه تقديماً وتأخيراً، والمعنى عنده: والله أحق أن يرضوه ور [سوله].
وقد رُدّ هذا القول؛ لأن التقديم والتأخير إنما يلزم إذا لم يكن استعمال اللفظ على ظاهره، فإذا حَسُنَ استعمال اللفظ على سياقه لم يقدر به غير ترتيبه.
وقد رُدَّ أيضاً قول سيبويه بأن قيلأ: الإضمار إنما يلزم إذ لم يجز استعمال اللفظ بظاهره من سياقه، أو من تقدير فيه، فأما إذا جاز استعماله بغير زيادة على وجه ما، لم يجز تقدير إضمار وحذف.
وقوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}.
أي: مصدقين فما زعموا.
ذكر بعض المفسرين: أنّ رجلاً من المنافقين، انتقص النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه ابن امرأته، فمضى إلى النبي عليه السلام، فأخبره، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المنافق، فأتاه، فقال: ما حملك على ما قلت؟ فأقبل المنافق يحلف بالله ما قال ذلك، وجعل ابن امرأته يقول:(4/3053)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
اللهم صِدّق الصادق، وكِذّب الكاذب، فأنزل الله عز وجل: { يَحْلِفُونَ [بالله] لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}، الآية.
قوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {تَحْذَرُونَ}.
قوله: {فَأَنَّ لَهُ}.
" أنّ " بدل من الأولى عند الخليل وسيبويه.
وقال المبرد والجَرْمِي: " أنَّ " الثانية مكررة للتوكيد.(4/3054)
وقال الأخفش: " أنّ " في موضع رفع الابتداء، والمعنى: فوجوب النار له.
وأنكر ذلك أبو العباس؛ لأنَّ " أنَّ " المشددة المفتوحة لا يبتدأ بها، ويضمر الخبر.
وقال علي بن سليمان: " أَنَّ " في موضع رفع على إضمار مبتدأ، والمعنى: فالواجب أن له النار.
وكلهم أجاز كسر " أَنَّ "، واستحسنه سيبويه.
ومعنى الآية: ألا يعلم هؤلاء المنافقون {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله}، أي: يجانبه ويعاديه وحقيقته: أنه يقال: حادَّ فلانٌ فلاناً، أي: صار في حد غيره حده،(4/3055)
{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً (فِيهَا)}، أي: لابثاً أبداً، {ذلك الخزي العظيم}، أي: الهوان والذل.
ثم قال تعالى إخباراً عما يُسِرُّ المنافقون: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ}، الآية.
المعنى: يَخْشى المنافقون، أن ينزّل الله عز وجل، سورة يخبر فيها بما في قلوبهم. وكانوا يقولون القول القبيح في النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بينهم، ويقولون: عسى الله ألاّ يفشي سِرَِّنا علينا.
ورُوي أنهم كانوا سبعين رجلاً، أنزل الله عز وجل، أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه؛ لأن أبناءهم كانوا مسلمين.
قوله: {قُلِ استهزءوا إِنَّ الله}.
هذا تهديد من الله عز وجل، لهم.
{إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}.
أي: مظهر سركم الذي تخافون أن يظهر.(4/3056)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قال قتادة: كنا نسمي هذه السورة: " الفاضحة "؛ لأنها فضحت المنافقين.
قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، إلى قوله: {مُجْرِمِينَ}.
المعنى: ولئن سألتهم، يا محمد، عما قالوه من الباطل، ليقولن: إنما قلنا ذلك لعباً وخوضاً وهزؤاً، {قُلْ}، يا محمد، لهم: {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}، هذا توبيخ وتقريع لهم.
قال الفراء: أنزلت في ثلاثة نفر، استهزأ رجلان منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، و/القرآن، وضحك إليهما الثالث، فنزلت: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ}، يعني: الضاحك، {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً}، يعني المستهزئين. ف " الطائفة " تقع للواحد والاثنين.
وذكر أبو الحسن الدَّارَقُطِني في كتاب الرواة عن مالك أنّ اسماعيل بن(4/3057)
داود المخراقي روى عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أنه قال: رأيت عبد الله بن أُبي يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحجارة تنكيه وهو يقول: يا محمد، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}.
ثم قال تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، أي: كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متصل بقوله: {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}.
{لاَ تَعْتَذِرُواْ}، وهو الوقف عند نافع.
{نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، وقف.
وَيُرْوَى أنَّ هذه الآية نزلت في رهط من المنافقين، كانوا يرجفون في غزوة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى تبوك ويُخَوّفون المسلمين من الروم، فسألهم النبي عليه السلام عن قولهم، فقالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
وقال قتادة: نزلت في أُنَاس من المنافقين، قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا(4/3058)
الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله عز وجل، نبيه عليه السلام، على ذلك، فأتاهم النبي فقال: قلتم كذا كذا. فقالوا: يا نبي الله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
وقال ابن جبير: قال ناس من المنافقين في غزوة تبوك: لئن كان ما يقول حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فأعلم الله عز وجل، نبيه عليه السلام، بذلك، فقال لهم: ما كنتم تقولون، فقالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
ثم قال تعالى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} " الطائفة " التي عفا عنها هاهنا، رجل منهم كان قد أنكر ما سمع، يُسمّى: مَخشِي بن حُمَيّر الأَشْجَعِي.
وقيل: إنَّه أقر على نفسه وصاحبيه بما قالوا نادماً تائباً، فهو " الطائفة " المعفو عنها.
فالمعنى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ}، بإنكار ما أنكر عليكم من قول الكفر(4/3059)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} بقولهم ورضاهم بالكفر، واستهزائهم بالله سبحانه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وآياته.
وقيل: المعنى: إن تتب طائفة منكم، يعف الله عز وجل، عنها، تعذب طائفة بترك التوبة.
قال أبو أسحاق: كانت الطائفتان ثلاثة نفر، استهزأ اثنان، وضحك واحد.
{بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}.
أي: باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، سبحانه، والطعن على رسوله عليه السلام.
قوله: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} إلى قوله: {هُمُ الخاسرون}.
هذا الكلام متصل بقوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة: 56]، أي: ليسوا من المؤمنين، ولكن {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ}، أي: متشابهون في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض أيديهم عن الجهاد ..
{نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ}.(4/3060)
أي: تركوا الله فتركهم، أي تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه.
{إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
أي: هم الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله، عليه السلام.
وعدهم الله: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، أبداً، أي: ماكثين، لا يحيون ولا يموتون.
{هِيَ حَسْبُهُمْ}.
أي: كافيتهم عقاباً على كفرهم.
{وَلَعَنَهُمُ الله}.
أي: أبعدهم من رحمته.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}.
أي: للفريقين من أهل الكفر والنفاق {عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، أي: دائم لا ينقطع ولا يزول.
{هِيَ حَسْبُهُمْ}، وقف عند نافع.(4/3061)
وقوله: {كالذين}.
في موضع نصب نعت/ لمصدر محذوف، والمعنى: وعد الله هؤلاء بكذا وعداً، كما وعد الذين من قبلهم.
فعلى هذا لا يوقف على ما قبل " الكاف ".
ومثله: {كالذي خاضوا}، [أي: خوضاً كما الذي خاضوا].
والمعنى عند الطبري: قل لهم، يا محمد، {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}، {كالذين مِن قَبْلِكُمْ}، فعلوا كفعلكم، فأهلكهم الله، وأعد لهم العقوبة والنكال في(4/3062)
الآخرة، فقد {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ [قُوَّةً]}، أي: بطشاً، وأكثر منكم أموالاً، {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ}، أي: بنصيبهم من دنياهم، كما استمتعتم، أيها المنافقون، {بِخَلاَقِكُمْ}، أي: بنصيبكم من دنياكم، {وَخُضْتُمْ} مثل خوضهم.
وهذا يدل على أن " الكاف " في موضع نصب، نعت لمصدر " يستهزءون ".
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا المعنى: " لتأخُذنَّ كما أخذت الأُمم من قبلكم، ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وباعاً بباع، حتى لو أنَّ أحداً دخل جُحْرَ [ضَبٍّ] لَدَخَلْتُمُوه "، رواه عنه أبو هريرة:
ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ}، الآية.
قال أبو هريرة: " الخَلاَق ": الدِّينُ.(4/3063)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.
يعني الذين قالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، ركبوا فعل من سبقهم من الأمم الهالكين.
ومعنى: {حَبِطَتْ}: بطلبت {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون}.
أي: المغبونون صفقتهم، لبيعهم نعيم الأبد بعرض الدنيا اليسير منه.
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}، الآية.
والمعنى: ألم يأْت هؤلاء المنافقين خبر من كان قبلهم، من قولم نوح، وعاد، وثمود وشبههم، الذين خالفوا أمر الله عز وجل، وعصوه، جلت عظمته، فأهلكم ودمرهم، فيتعظون بذلك، وينتهون ويتفكرون ما في خبر قوم نوح، إذا غرقوا بالطوفان، وعاد وهم قوم هود، إذ هلكوا بريح صرصر عاتية، وخبر ثمود، وهو قوم صالح، إذ هلكوا بالرجفة، وخبر قوم إبراهيم، إذ سلبوا النعمة وأهلك نمرود ملكهم، وخبر أصحاب مدين، وهم قوم شعيب، إذ أهلكوا بعذاب يوم الظُلَّة.
ويُروى: أن شعيباً اسمه مدين، على اسم المدينة، فكان قوله: {وأصحاب مَدْيَنَ}، معناه: وأصحاب شعيب.
وقوله تعالى في موضع آخر: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85].(4/3064)
يدل على أن مدين مدينة.
وخبر المؤتفكات، في مدائن قوم لوط، إذ صيَّر أعلاها أسفلها، وإنما سموا مؤتفكات؛ لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم، وهي مأخوذة من " الإفْكِ " وهو الكذب، لأنه مقلوب على الصدق، وكانت قرى ثلاثة، ولذلك جُمِعَت.
{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات}.
أي: أتى كل أمة رسولها، فجمع الرسل، لأن كل أمة رسولها.
{بالبينات}.
أي: بالآيات الظاهرات، والحجج النيّرات، فكذبوا وردوا وكفروا.
{فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ}.
أي: فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقيها.
{ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
إذ عصوا الله عز وجل، وكذبوا برسوله حتى أسخطوا ربهم، سبحانه، واستوجبوا(4/3065)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
العقوبة، فظلموا بذلك أنفسهم.
قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، إلى قوله: {الفوز العظيم}.
المعنى: {والمؤمنون والمؤمنات}، أي المصدقون بالله، عز وجل ورسوله عليه السلام {(يَأْمُرُونَ) بالمعروف}، أي: يأمرون الناس بالإيمان بالله عز وجل، ورسوله عليه السلام.
وينهونهم عن الكفر، والمنافقون [هُمْ] / بضد ذلك ينهون عن الإيمان، ويأمرون بالمنكر، وهو الكفر بالله، عز وجل، وبرسوله عليه السلام.
قال أبو العالية: كل ما ذكر الله عز وجل، في القرآن من " الأمر بالمعروف " هو دعاء لمن أشرك إلى الإسلام، وما ذكره من " النهي عن المنكر " فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
{وَيُقِيمُونَ الصلاة}.
يعني: الصلوات الخمس، في أوقاتها وبحدوها.
{وَيُؤْتُونَ الزكاة}.(4/3066)
يعني: المفروضة في وقتها.
{وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ}.
يعني فيما أمرهم به، ونهاهم عنه.
{أولئك سَيَرْحَمُهُمُ [الله]}.
أي: يتعطف عليهم، فينجيهم من عذابه، ويدخلهم جناته.
ثم قال تعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
والمعنى: وعد الله النساء والرجال من المؤمنين بساتين. {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} (أبداً).
أما ماكثين لا يزول نعيمهم ولا ينقطع، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، أي: منازل يسكنونها.
قال الحسن: سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن:(4/3067)
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، فقالا: على الخبير سقَطْتَ، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: " قصر في الجنة من لؤلؤة، فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة، خضراءَ، في كل بيت سبعون سريراً ".
ومعنى {جَنَّاتِ عَدْنٍ} عند ابن عباس، أي: " معدن الرجل " الذي يكون فيه.
وقيل المعنى: جنات إقامة وخلود.
والعرب تقول: " عَدَنَ فلانٌ بِمَوْضِعِ كَذَا "، إذا أقام به.
ورُي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا يدخلها إلا النبيّون والصديقون والشهداء ".
وقال كعب: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، هي الكروم والأعناب، السريانية. يعني أن(4/3068)
لغة العرب وافقت السريانية في هذا الكلام.
وقال ابن مسعود: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، هي اسم لبُطْنَان الجنة، يعني وسطها.
وقال الحسن: هو اسم لقصر في الجنة من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صِدّيقٌ، أو شهيدا أو حَكَمٌ عَدْلٌ.
وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله عز وجل، يفتح الذكر لثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى [منهن]، ينظر في الكتاب الذي لا ينظره غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنات عدن، وهي داره التي لم يرها غيره، ولم تخطر على قلب بشر ".
وقال الضحاك: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، مدينة في الجنة، فيها الرسل، والأنبياء، والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها.
وقال عطاء {عَدْنٍ}: نهر في الجنة جنَّاته على حافتيه.
ثم قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ}.(4/3069)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
[أي: أكبر] من ذلك لكه، رضوان الله عز وجل، عن أهل الجنة.
قال أبو سعيد الخدري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله عز وجل، يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربَّنا وسَعْدَيكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، لقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. فيقولون: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك، فيقول: أُحِلُّ لكم رضواني فلا أسْخَطُ عليكم أبداً ".
ومن أجل تفضيل الرضوان على ما قبله مما وعدوا به، انقطع الكلام، وابتدأ بالرضوان، فرفع.
ثم قال تعالى: {ذلك هُوَ الفوز العظيم}.
أي: هذه الأشياء التي/ وعدوا بها، وهي الظفر الجسيم.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ}، وقف.
{أَكْبَرُ}، وقف.
قوله: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار}، إلى قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.(4/3070)
المعنى: جاهدهم بالسيف.
قال ابن مسعود: الجهاد يكون باليد، واللسان، والقلب، فإن لم يستطع فليكفهِّر في وجهه.
وقال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بجهادهم، باللسان للمنافقين، وبالسيف للكفار.
وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، وأغلظ على المافقين بالكلام.
وقال الحسن المعنى: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم.
وهو قول قتادة.(4/3071)
وقيل: معنى جاهد المنافقين: إقامة الحجة عليهم.
ثم قال حكاية عنهم: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}، وذلك أن رجلاً من المنافقين، يسمّى: الجُلاَس بن سُوَيْد بن الصامت، قال: إن كان ما جاء به محمد حقاً، لَنَحْنُ شَرٌّ من الحَمِيرِ، فقال له ابن امرأته، واسمه عمير بن سعد،: والله، إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم لَصَادِقٌ، ولأنت شر من الحمار، والله، لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قلت وإلا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤخذ بخطيئتك، فأعلم الله النبي عليه السلام بذلك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، الرجل، فحلف ما قال، فأنزل الله عز وجل: { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} الآية.
قال ابن إسحاق: بلغني أنه لما نزل فيه القرآن، تاب وحسنت توبته.
وقيل: إنه سمعه يقول ذلك، عاصم بن عدي الأنصاري، وهو الذي أخبر النبي عليه السلام، بذلك، فاحضر للنبي صلى الله عليه وسلم الجُلاَس وعامراً، فحلف الجُلاَس بالله ما قال ذلك، فقال عامر: والله، لقد قاله، ورفع عامر يديه، وقال: اللهم أنزل على(4/3072)
عبدك ونبيّك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين، فأنزل الله تصديق عامر، فقال الجُلاَس: قد عرض الله علي التوبة، والله، لقد قلته وصدق عامر، وتاب الجُلاَس وحسنت توبته.
وَيُرْوَى أن عامراً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليريد قتلك، وفيه نزل: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، أي: هموا بقتلك ولا ينالونه.
وقال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، رأى رجلاً من غفار، تَقَاتَلَ مع رجل من جُهينة، وكانت جُهينة حُلفاء الأنصار، فَعلا الغفاريُّ الجُهَنيَّ، فقال عبد الله للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مَثَلُنَا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سَمَنْ كلبك يأكلك، {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8]، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه النبي عليه السلام فسأله، فحلف ما قاله، فأنزل الله عز وجل، { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}.
وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}.
قيل: هو الجُلاَس بن سويد [هَمَّ] بقتل ابن امرأته خوفاً أن يفشي عليه ما سمع منه.(4/3073)
وقال مجاهد: هَمَّ رجل من قريش يقال له الأسود، بقتل النبي، عليه السلام.
وقيل: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، هم بإخراج النبي عليه السلام، من المدينة/ وهو ما حكاه الله عز وجل، عنه: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل}.
وقل: هو الجُلاَس، همّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}.
والمعنى: أنهم ليس ينقمون شيئاً.
قال الطبري، وغيره: كان المنافق الذي قال كلمة الكفر، حلف أنَّه ما قال، قُتِل له مولىً، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ديته، فأغناهُ بها، فقال الله عز وجل، ما أنكروا على رسول(4/3074)
الله صلى الله عليه وسلم، شيئاً: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}.
وهو الجُلاَس.
وقال قتادة: كانت لعبد الله بن أُبيّ دية، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ له].
قوله: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ}.
أي: إن تاب هؤلاء القائلون لكمة الكفر يكُ ذلك خيراً لهم من النفاق.
{وَإِن يَتَوَلَّوْا}.
أي: يدبروا عن التوبة.
{يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا}.
أي: بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
{وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
يمنعهم من العقاب، ولا نصير ينصرهم من عذاب الله عز وجل.(4/3075)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، وقف.
{مِن فَضْلِهِ}، وقف.
{خَيْراً لَّهُمْ}، وقف.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} إلى قوله: {الغيوب}.
والمعنى: ومن هؤلاء المنافقين {مَّنْ عَاهَدَ الله} لئن رزقه الله عز وجل، ووسَّع عليه، لَيَصَّدَّقَنَّ، وليعْمَلَنَّ، بما يعمل أهل الصلاح فلما أغناهم الله، سبحانه {مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ}، وأدبروا عن عهدهم، {وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}، {فَأَعْقَبَهُمْ} الله عزو جل، بذنوبهم {نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}، أي: يموتون.
وفعل ذلك بهم عقوبة لبخلهم، ونقضهم ما عاهدوا الله عليه.
" وهذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالاً أتصدق به، فقال له النبي عليه السلام: " ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تُطِيقُهُ "، ثم عاود ثانية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضةً لَسَارَتْ "، فقال: والذي بعثك(4/3076)
بالحق لئن دعوت الله يرزقني لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فاتَّخذَ غَنماً، فَنَمَتْ كما تَنْمِي الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر في جماعة، والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فَتَنَحَّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تَنْمِي حتى ترك الجمعة. وطفِق يلقى الركبان يوم يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فسأل النبي عليه السلام عنه فأُخْبر بخبره، بكثرة غنمه وبما صار إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، " يا ويح ثَعْلَبَ " ثلاث مرات، فنزلت {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ".
ونزلت فرائض الصدقة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم، رجلين على الصدقة، رجُلاً من جُهَينة، والآخر من بني سليم، وأمرهما أن يَمُرَّا بثعلبة، (وبرجل آخر من بني سليم، يأخذان منهما صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة)، فقال: ما هذه الأجرة، وما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا، وعودا. فانطلقا، وسمع بهما السُّلمي، فعمد إلى خِيَارٍ إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد [أن] نأخذ منك هذا. قال: بل فخذوه فإن نفسي بذلك/ طيبة، فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما(4/3077)
رجعا حتى [مرّا] بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، كتب لهما كتاباً في حدود الصدقة، وما يأخذانه من الناس، فأعطياه الكتاب، فنظر إليه، فقال: ما هذه إلا أُخت الجزية، انطلقا عني حتى أرى رأيي. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال: " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما، ودعا للسُّلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع السلمي، وبالذي صنع ثعلبة، فانزل الله عز وجل، { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} الآية، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله عز وجل، فيك كذا وكذا، فخرج حتى أتى النبي عليه السلام فسأله أن يقبلَ منه صدقته فقال: " إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك "، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي عليه السلام: " قد أمرتك فلم تطعني "، فرجع ثعلبة إلى منزله، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَقْبِضْ منه شيئاً.
ثم أتى إلى أبي بكر فلم يَقْبِضَ منه شيئاً [ثم أتى إلى عمر بعد أبي بكر فلم يقبض منه شيئاً. ثم أتى إلى عثمان بعد عمر فلم يقبض منه شيئاً]. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنهـ.(4/3078)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
وقيل: إن إنما نوى العهد في نفسه فلم يف به، ودَلَّ على ذلك قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}.
وعلامة المنافق: نقض العهد، وخلف الوعد، وكذب القول].
قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ}.
أي: [ألم] يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله عز وجل، ورسوله عليه السلام، ويظهرون الإيمان، أن الله عز وجل، يعلم ما يسرون من ذلك وما يظهرون فيحذروا عقوبته، وألم يعلموا أنَّ الله علام الغيوب.
قوله: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {الفاسقين}.(4/3079)
والمعنى: الذين يعيبون الذين تطوعوا بصدقاتهم على أهل المسكنة والحاجة فيقولون لهم: إنما تصدقون رياءً وسمعةً، ولم تريدوا وجه الله عز وجل.
{ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}.
أي: من المؤمنين، ومن {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ}، عطفه على {المطوعين}، لأنَّ الاسم لمي يتم، إذ قوله: {فَيَسْخَرُونَ} في الصلة عطف على {يَلْمِزُونَ}.
و" الجُهْدُ و " الجَهْدُ " عند البصريين [بمعنى]، لغتان.
وقال بعض الكوفيين: الجُهدُ، بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة.(4/3080)
والسُّخْريُّ من الله: الجزاء على فعلهم.
قال ابن عباس: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: و [الله] ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وقالوا: إن كان الله ورسوله لَغَنِيَّيْن عن هذا الصاع. فأنزل الله عز وجل: { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يعني: عبد الرحمن بن عوف، {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}، يعني: الأنصاري الذي أتى بصاع من شعير.
وقال ابن عباس: " جاء عبد الرحمن بمائة أوقية من ذهب، وترك لنفسه مائة، وقال: مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأُقرضُها الله، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " بارك الله [لك] فيما أمسكت وما أعطيت " فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء، وهم كاذبون، فأنزل الله عز وجل، عذره ".
وقال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف صدقته، وجاء رجل من الأنصار، يكنى بأبي عقيل، بصاع من تمر لم يكن له غيره، فقال: يا رسول الله، آجرت نفسي(4/3081)
بصاعين، فانطلقت بصاع إلى أهلي/ وجئت بصاع من تمر، فلمزهُ المنافقون، وقالوا: إن الله غنيٌّ عن طياع هذا، فنزل فيه: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}.
قال ابن زيد: أمر النبي صلى الله عليه وسلم [ المسلمين] أن يتصدَّقوا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: فأَلْفَى مالي ذلك كثيراً، فأخذت نصفه، فجئت أحمل مالاً كثيراً، فقال له رجل من المنافقين: تُرائي يا عمر، فقال: نعم أُرائي الله ورسوله، وأما غيرهما فلا، وأتى رجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فآجر نفسه بصاعين، فترك صاعاً لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: [إنّ] الله ورسوله عن صاعك لَغَنِيَّانِ، فأنزل الله عز وجل، عُذْرهما في قوله: {الذين يَلْمِزُونَ}.
ثم قال لنبيه عليه السلام، استغفر لهؤلاء المنافقين، أي: ادع الله لهم بالمغفرة أو لا تدع لهم بذلك، فلفظه لفظ الأمر ومعناه الجزاء، والجزاء خبر.(4/3082)
والمعنى: إن استغفرت لهم، أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم.
قال الضحاك: قال النبي صلى الله عليه وسلم، حين نزلت هذه الآية: " لأزيدنَّ على السبعين "، فنزلت:
{سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ [لَمْ] تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [المنافقون: 6]، فهي عنده منسوخة بهذه.
وقيل: إنها ليست بمنسوخة، وإنما هي على التهدد، وما كان النبي عليه السلام ليستغفر لمنافق؛ لأن المنافق كافر بنص الكتاب.
وهذا الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على أصحاب محمد لانفضوا من حوله، وهو القائل: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8].
" رُوي أن عبد الله هذا لما حضرته الوفاة أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله أحد ثوبَيْه(4/3083)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، أحد ثوبيه، فقال: إنما أريد الذي على جلدك من ثيابك، فبعث إليه به، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك، فقال: " إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً إذا كُفِّن فيه، وإني آمل أن يدخل في الإسلام خلق كثير بهذا السبب ".
فَرُوِيَ أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب النبي، عليه السلام.
وكان عبد الله هذا رأس المنافقين وسيِّدَهُم.
قوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله}، إلى قوله: {مَعَ الخالفين}.
{خِلاَفَ رَسُولِ الله}: مفعول من أجله، أو مصدر مطلق.(4/3084)
والمعنى: فرح الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله عليه السلام، بجلوسهم في منازلهم، على الخلاف منهم لرسول الله عليه السلام، لأنه أمرهم بالخروج معه فتخلفوا عنه، وفرحوا بتخلفهم، وكرهوا الخروج في الحر.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، استنفرهم في غزوة تبوك في حر شديد، فقال بعضهم لبعض: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر}، قال الله عز وجل، لنبيه عليه السلام {قُلْ} لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً}، لمن خالف أمر الله، وعصى رسوله، عليه السلام من هذا الحر الذي تتواصون به بينكم أن لا تنفروا فيه، فالذي هو أشد حراً، يجب أن يتقي {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، عن الله عز جل، وَعْظَه.
وكان عدة من تخلف عن الخروج مع النبي عليه السلام، في غزوة تبوك من المنافقين نيفاً وثمانين رجلاً.(4/3085)
ثم قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً}.
أي: [في] هذه الدنيا الفانية، / {وَلْيَبْكُواْ/ كَثِيراً}، في جهنم {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصيته.
قال النبي عليه السلام: " والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لَضَحِكْتُمْ قليلاً، ولبكتيم كثيراً ".
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نودي عند ذلك، أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي.
قال ابن عباس: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا، استأنفوا بكاء لا ينقطع عنهم أبداً.(4/3086)
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ}.
أي: إن ردَّك الله من غزوتك إلى المنافقين، فاستأذنوك للخروج معك في غزوة أخرى، {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: في غزوة تبوك، {فاقعدوا مَعَ الخالفين}، [أي: مع الذين] قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنكم منهم.
قال ابن عباس: تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجال في غزوة تبوك فأدركتهم أنفسهم، فقالوا: والله ما صنعنا شيئاً، فانطلق منهم ثلاثة نفرة، فلحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله، عز وجل، { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ}، الآية. فقال النبي عليه السلام: " هلك الذين تخلفوا "، فأنزل الله عز وجل، عذرهم لما تابوا فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار}، إلى قوله: {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 117 - 118].
وقال قتادة {مَعَ الخالفين}، مع النساء.(4/3087)
وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين.
وقال ابن عباس " الخالفون ": الرجال.
ومعناه: اقعدوا مع مرضى الرجال وأهل الزَّمَانة والضعفاء.
وقيل: " الخالفون ": الرجال الضعفاء والنساء، وغلَّب المذكر على الأصول العربية.(4/3088)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
وقال الطبري: {مَعَ الخالفين} مع أهل الفساد، من قولهم: " خَلَفَ الرَّجُل على أهله يَخْلُفُ خُلُوفاً "، إذا فسد، ومن قولهم: هو خلف سوءٍ "، ومن قولهم: " خَلَفَ فَمُ الصَّائِمِ "، إذا تغير ريحه، ومن قولهم: " خَلَفَ اللَّبَنِ يخلُفُ " إذا حَمُضَ.
قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}، إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}.
هذه الآية نَهْيٌّ للنبي صلى الله عليه وسلم، عن الصلاة على هؤلاء المتخلفين عنه.
{وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}.
أي: لا تتولَّ دفنه.
{إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ}.
أي: جحدوا توحيد الله عز وجل، ورسالة رسوله عليه السلام.
{وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}.
أي: ولم يتوبوا من ذلك، بل ماتوا وهم خارجون عن الإسلام.
وَيُرْوَى: أن هذه الآية نزلت في أمر عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وذلك أنَّ ابنه أتى(4/3089)
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفِنّه فيه، وصَلِّ عليه، واستغفر له، فأعطاه قيمصه، وقال: إذا فرغتم فآذوني، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ [فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل خَيّرني فقال: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ}، فصلى] النبي صلى الله عليه وسلم. فنزل {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} الآية، فترك الصلاة عليهم.
وقال أنس: أراد النبي عليه السلام، أن يصلي على عبد الله بن أبي بن سلول، فأخذ جبريل، عليه السلام، بثوبه، وقيل: بردائه، وقال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}.
ثم قال الله/ عز وجل، لنبيه، عليه السلام: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم}.
أي: لا يعجبك ذلك، فتصلي عليهم.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا}.
أي: بالغموم والهموم فيها، ويفارق روحه جسده، وهو في حسرة عليها،(4/3090)
فتكون حسرة عليه في الدنيا، ووَبَالاً في الآخرة.
{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون}.
أي: جاحدون.
{وأولادهم} وقف عن أبي حاتم، على أنَّ عذابهم بها في الدنيا.
وغيره يقول: {الدنيا}، يراد بها التقديم، والمعنى: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا، فعلى هذا [لا] تقف على: {أولادهم} وقد شرح هذا فيما تقدم بأكثر من هذا.
ثم أخبر الله عز وجل، عنهم بحالهم فقال: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ}.
أي: إذا أنزل الله عز وجل، عليك، يا محمد، سورة يأمرهم فيها: بالإيمان بالله، عز وجل، وبالجهاد معك.
{استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ}.
أي: [ذوو] الغنى منهم في التخلف عنك، والقعود بعدك مع الضعفاء(4/3091)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
والمرضى، ومن لا يقدر على الخروج وهم القاعدون.
{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف}.
أي: مع النساء اللواتي لا فرض عليهن في الجهاد، جمع خَالِفة.
{وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ}.
أي: ختم.
وقد يقال للرجل: " خالفة " إذا كان غير نجيب.
وقد يجمع " فاعل " صفةً على " فواعل " في الشعر، قالوا: " فَارِسٌ " و " فَوَارِس " و " هَالِكٌ " و " هوالك ".
وأصل " فواعل " أن يكون جمع: " فاعلة ".
قوله: {لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}، إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ}.(4/3092)
المعنى: هؤلاء لهم خيرات الآخرة ونعيمها.
وواحد {الخيرات}، " خَيْرَةٌ " مخففة، و " خيرات " كل شيء، أفضله.
{وأولئك هُمُ المفلحون}.
أي: الباقون في النعيم، المخلدون فيه.
وأصل " الفلاح ": البقاء في الخير، وقولهم: " حَيَّ على الفَلاَحِ " أي: تعالوا إلى الفوز، يقال: " أفْلَحَ الرَّجُلُ "، إذا فاز وأصاب خيراً.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ}.
أي: بساتين.
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا}.
أي: لابثين فيها أبداً.
{ذلك الفوز العظيم}.
أي: النجاء العظيم، والحظ الجزيل.(4/3093)
ثم قال تعالى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}.
والمعنى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}، في التخلف، {وَقَعَدَ} عن الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعتذروا أو يجاهدوا، و {الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ}، واعتذروا بالباطل بينهم، لا عند رسول الله عليه السلام.
{سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ}.
أي: جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه عليه السلام.
{عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أي: مؤلم، أي: موجع.
وقوله: {المعذرون}، ليس من " عذَّر "، يقال: " عَذَّرَ الرَّجُلُ في الأمْرِ " إذا لم يبالغ فيه، ولم يُحكمه، ولم تكن هذه صفة هؤلاء، بل كانوا أهل اجتهاد في طلب ما ينهضهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فوَصْفُهم بأنُّهم قد اعتَذَروا أو أعْذَروا، أولى من وصفهم بأنهم قد عَذَّروا فإنما هم المُعْتَذِرون، ثم أدغم.(4/3094)
وقد قرأ ابن عباس: " المُعْذِرُونَ " من: " أعذر ".
ويجوز: " المُعذِّرُون " بضم العين لالتقاء الساكنين، (يتبع الضم الضم. ويجوز: " المُعِذِّرُون " بكسر العين لالتقاء الساكنين).
وقد قيل: إنّ " المُعَذِّرَ " من " عذَّر " إذا قَصر في الأمر فيهم مذمومون على هذا المعنى.(4/3095)
وعلى المعنى الآخر إذا حملته على معنى " المُعْتَذِرينَ " غير مذمومين، إذا أتوا بعذر واضح.
ويجوز أن يكونوا مذمومين إذا أتوا بعذر غير واضح، يقال " اعْتَذَرَ الرَّجُلُ ": إذا أتى بعذر واضح، و " اعْتَذَرَ ": إذا لم يأت بعذر، قال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ}، فهؤلاء اعتذروا بالباطل، فهم الذين يعتذرون ولا عذر لهم.
ومنع المبرد أن يكون أصله: " المُعْتَذِرِين " ثم أدغم لأنه يقع اللبس.
وذكر إسماعيل القاضي: أنَّ سياق الكلام يدل على أنَّه لا عذر لهم وأنهم مذمومون، لأنهم جاء/ وا {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}، ولو كانوا من الضعفاء والمرضى، والذين(4/3096)
لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا إلى أن يستأذنوا.
وقول العرب: " مَنْ عَذِيرِي مِنْ فُلاَنٍ "، معناه: قد أتى فلانٌ أمراً عظيماً يستحق عليه العقوبة، ولم يعلم الناس به، فمن يَعْذِرُني إن عاقَبْتُه.
قال مجاهد: هم نفر من بني غِفار، جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم الله عز وجل.
وكذلك قال قتادة.
فهذا يدل على أنهم كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحق، فلا يوصفون بالإعْذَارِ.
وقرأ ابن عباس: " المُعْذِرُون " بإسكان العين، وكان يقول: لعن الله المعتذرين، يذهب إلى أن " المعتذرين " بإسكان العين، ليس لهم عذر صحيح.
و {المعذرون} بالتشديد: المفرطون المقصرون ولا عذر لهم.(4/3097)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
قوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى} إلى قوله: {يُنْفِقُونَ}.
ومعنى الآية: أنه بيانٌ من الله، عز وجل، أنَّه لا حرج على الزَّمْنَى والمرضى، ومن لا يجد ما ينفق في التخلف عن الغزو، {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ}، يعني في مغيبهم عن الجهاد.
{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ}.
أي: ليس على من أحد فنصح لله ورسوله عليه السلام، سبيل.
قال ابن عباس: لما أمر النبي عليه السلام، بالخروج إلى الغزو، وجاءه عصابة من أصحابه يقال: كانوا سبعة، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء، فأنزل الله عذرهم في كتابه.
{للَّهِ وَرَسُولِهِ}. وقف.
و {مِن سَبِيلٍ}، وقف.
ثم قال تعالى: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} الآية.(4/3098)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
نزلت هذه الآية في بني مُقَرِنٍ من مُزَيْنَةَ، أتو النبي عليه السلام، ليحملهم ويغزو معهم فقال: ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع، إذا لم يجدوا ما ينفقون في غزوهم.
وقيل: منهم العِرباض بن سارية.
قال إبراهيم بن أدهم في الآية: ليس يعني الدواب، ولكن النعال.
قوله: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ}، إلى قوله: {يَكْسِبُونَ}.
والمعنى: إنما السبيل بالعقوبة على من استأذن في التخلف عن الغزو، وهو غني،(4/3099)
ورضي بأن يخلف مع النساء اللواتي من خوالف للرجال في البيوت.
{وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ}.
أي: ختم عليها.
{فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
سوء عاقبة تخلفهم، يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى إخباراً عما يفعلون: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
أي: يعتذر هؤلاء المتخلفون بالأباطيل والكذب.
{قُل} لهم، يا محمد، {لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ [لَكُمْ]}. أي: لن نُصدِّقكم قد أخبرنا الله بأخباركم.
{وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.
أي: فما بعد، هل تتوبون أم لا.
{ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة}.(4/3100)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
أي: يعلم السر والعلانية، فيخبركم بأعمالكم فيجازيكم عليها.
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لو أن رجلاً عبد الله في صخرة لا باب لها، ولا كوة بها لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان ".
فالله عز وجل، يطلع قلوب المؤمنين على ما [في] قلوب إخوانهم من الخير والشر، فيحبون أهل الخير ويبغضون أهل الشر.
ثم أخبرهم بما يفعلون إذا رجع المؤمنون من غزوهم فقال: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ}، أي: يحلفون لكم إذا رجعتم إليهم من غزوكم، {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ}، لتتركوا تأنيبهم وتعييرهم بتخلفهم، {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ}، أي: فاتركوهم، {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، أي: مصيرهم إليها جزاء/ بكسبهم.
قيل: إنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلاً.
قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
والمعنى: يحلف أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون لكم {لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ}، وأنتم لا(4/3101)
تعلمون صدقهم من كذبهم، {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين}؛ لأنه يعلم سرائرهم وصدقهم وكذبهم.
ثم قال تعالى: {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ}.
" أن ": في موضع نصب، على تقدير: " وأجدر بأن لا ".
تقول: " هو جدير بأن يفعل "، و " خليق بأن يفعل "، وإن شئت حذفت " الباء "، ولا يحسن حذف " الباء " إلا من " أنْ "، لو قلت: هو جدير بالفعل، لم يكن بُدُّ من " الباء ".
والمعنى: الأعراب أشَدُّ جحوداً لتوحيد الله سبحانه ونفاقاً على رسوله عليه السلام، من أهل الحضر والأمصار، وذلك لجفائهم، وقسوة قلوبهم.
{وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ}.
أي: وأخلق أن يجهلوا العلم والسنن.
ثم قال تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً}.(4/3102)
والمعنى: ومن الأعراب من يَعُدُّ ما ينفق فيما ندبه الله، عز وجل، إليه {مَغْرَماً} لا ثواب له فيه، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أي: ينتظر بكم ما تدور به الأيام والليالي من المكروه والسوء، {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء}، أي: عليهم يرجع المكرو والسوء.
وهذا كله في منافقين من الأعراب، قاله: ابن زيد.
وقوله: {دَآئِرَةُ السوء}.
ومن قرأ بالضم، فمعناه: دائرة العذاب، و {دَآئِرَةُ السوء}: البلاء.
قال الفراء: ولا يجوز على هذا " هذا امرؤُ سوء "، كما لا يجوز " هذا امرؤ عذاب ".
وقال المبرد " السَّوء " بالفتح: الرداءة.(4/3103)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قال سيبويه: " مَرَرْتُ بِرَجُلِ صِدْقِ "، معناه: مررت برجل صالح وليس هو من صِدْق اللسان، وكذلك تقول: " مررت برجل سوء، أي: برجل فسادٍ، وليس هو من: سُوءتُهُ (سَوْءاً.
وقال الفراء: " السَّوْء " بالفتح، مصدر من: سُوْءتُهُ سَوْءاً ومَسَاءَة) وسَوَائِيةً وَمَسَائِية.
وقال اليزيدي في الضم، يعني: دائرة الشر، فكأن السُّوءَ الاسم، والسَّوء المصدر، فافهم.
قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر}، الآية.
المعنى: ومن الأعراب من يصدق بالله وبالبعث والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من صدقه، والتقرب إليه، {وَصَلَوَاتِ الرسول}، أي: دُعَاءَه واستغفاره له.(4/3104)
قال مجاهد: هم بنو مُقرِّن، مُزَينة، وهم الذين نزل فيهم: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92]، الآية.
{ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ}.
أي: ألا إنَّ صلوات الرسول عليه السلام، أي: استغفاره ودعاءه، قربةٌ لهم عند الله عز وجل.
وقيل المعنى: ألا إنَّ نفقتهم قُربةٌ لهم عند الله عز وجل.
و {قُرْبَةٌ}، و {قُرْبَةٌ} لغتان، ك: " جُمُعة " و " جُمُعَة " ويجوز في الجمع فتح(4/3105)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
الراء وضمها وإسكانها، ويجوز " قُرَبٌ ".
ثم قال تعالى: {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ}.
أي: يدخلهم فيمن رحمه.
قوله: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار}، الآية.
المعنى: والذين سبقوا إلى الإيمان، {مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ}، أي: سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}، أي: أجزل لهم في الثواب.
قال الشافعي/: {والسابقون الأولون}: من أدرك بيعة الرضوان.
ورُوي عنه: من أدرك بيعة الشجرة. و " المهاجرون الأولون " من (هاجر(4/3106)
قبل البيعة.
وقال أبو موسى الأشعري {والسابقون الأولون}: المهاجرون الأولون من) صلى القبلتين.
وهو قول ابن المسيب، والحسن، وقتادة، وابن سيرين.
ورُوي عن عمر: أنه قرأ: " والأنصار " بالرفع، عطف على: السابقين، وبذلك قرأ الحسن، وهي قراءة يعقوب الحضرمي.(4/3107)
وعم عمر رضي الله عنهـ، أنه قرأ: " الذين اتَّبَعُوهم " بغير واو، فرد عليه زيد بـ " الواو " فسأل عمر أبيّنا، فقال له: " بالواو " فرجع عمر إلى زيادة " الواو ". وهم إجماع من القراء والمصاحف.
ومن قرأ: {مِن تَحْتِهَا}، بزيادة {مِن} فمن أجل أنها في مصاحف أهل مكة كذلك، وفي سائر المصاحف بغير {مِن}.(4/3108)
وهذا باب في خطوط المصاحف في الحروف التي اختلف فيها القراء
من ذلك:
قوله في سورة البقرة: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116]، هي في مصاحف أهل الشام بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بـ: " الواو ".
وفيها: {ووصى} [البقرة: 132]، هي في مصاحف المدينة والشام بـ: " ألف " وفي سائر المصاحف بـ: " الواو " بغير ألف.
وفي آل عمران: {سارعوا} [آل عمران: 133]، في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بـ " الواو ".(4/3109)
وفي آل عمران أيضاً: {جَآءُوا بالبينات والزبر} [آل عمران: 184]، بزيادة " باء " [في] {والزبر}، وفي سائر المصاحف بغير " باء " في {والزبر}، وكلهم حذفها من " وَبِالْكِتَبِ ".
وقد قرأ هشام بن عمار: " وبِالْكِتَبِ " بالباء، ولا أصل لهذه " الباء " في مصاحف أهل الشام ولا غيرهم.
وفي النساء: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [النساء: 66]، بألف في مصاحف أهل الشام، وبغير " ألف " في سائر المصاحف.(4/3110)
وفي المائدة في مصحف أهل مكة والمدينة والشام: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ} [المائدة: 53] بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بالواو.
وفي المائدة أيضاً: {مَن يَرْتَدَّ} [المائدة: 54]، بـ: " دالَيْن "، وفي مصاحف المدينة والشام، وفي باقي المصاحف بـ: " دال " واحدة.
وفي سورة الأعراف، في مصاحف أهل الشام: {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: 43] بغير " واو "، وفي سائر المصاحف: {وَمَا} بـ: " الواو ".(4/3111)
وفيها: في قصة صالح:
{وقَالَ الملأ} [الأعراف: 75]، بزيادة و [او]، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: {قَالَ} بغر " واو ".
وفي براءة {مِن تَحْتِهَا} [التوبة: 89]، بزيادة " من " في مصاحف مكة، وفي سائر المصاحف، بغير " مِن ".
وفيها: {الذين اتخذوا} [التوبة: 107]، بغير " واو "، في مصحف أهل الشام، وأهل المدينة، وفي سائر المصاحف: {والذين}، بزيادة " واو ".
وفي سورة بني إسرائيل {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء: 93] بـ: " ألف "، في مصاحف أهل مكة(4/3112)
والشام، [و] في سائر المصاحف: {قُلْ}، بغير ألف.
وفي الكهف: {خَيْراً مِّنْهُمَا} [الكهف: 36]، بزيادة " ميم "، في مصحف أهل المدينة ومكة والشام، وفي سائر المصاحف: {مِّنْهَا} بغير " ميم ".
وفيها: {مَا مَكَّنِّي} [الكهف: 95]، بنونين، في مصحف أهل مكة خاصة، وفي سائر المصاحف بـ " نون " واحدة.(4/3113)
وفي سورة الأنبياء: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ} [الأنبياء: 4]، {قَالَ رَبِّ احكم} [الأنبياء: 112]، بألف فيهما، في مصحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: {قُل}، بغير ألف.
وفيها: {لَمْ يَرَ الذين كفروا} [الأنبياء: 30]، بغير " واو "، في مصحف أهل مكة، وفي/ سائر المصاحف: {أَوَلَمْ} بواو.
وفي سورة المؤمنين: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [الأنبياء: 85]، في الأول. [و] في الثاني والثالث:
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، بالألف، في مصحف أهل البصرة، وفي سائر المصاحف: {لِلَّهِ}، من غير " ألف " في الثلاثة.(4/3114)
وفي سورة الشعراء: {وَتَوكَّلْ} [الشعراء: 217] بالفاء، في مصحف أهل المدينة، [و] الشام، وفي سائر المصاحف، {وَتَوكَّلْ} بالواو.
وفي النمل: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} [النمل: 21]، بنونين، في مصحف أهل مكة، وفي/ سائر المصاحف، بنون واحدة.
وفي القصص: {وَقَالَ موسى ربي أَعْلَمُ} [القصص: 37]، بغير " واو "، في مصحف أهل(4/3115)
مكة، في سائر المصاحف: {وَقَالَ}، بالواو.
وفي غافر: {أَشَدَّ مِنْهُمْ} [غافر: 21] بالكاف، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: (منهم)، بالهاء.
وفيها: {وَأَن يُظْهِرَ} [غافر: 26]، بغير ألف قبل الواو، في مصاحف أهل المدينة والبصرة والشام، وفي مصاحف الكوفة: {أَوْ أَن}، بزيادة ألف.
وفي عَسِق في مصاحف أهل المدينة والشام: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، بغير فاء، وفي سائر المصاحف: {بِمَا كَسَبَتْ}، بالفاء.(4/3116)
وفي الزخرف: {تَشْتَهِيهِ} [الزخرف: 71]، بالهاء، في مصاحف أهل المدينة والشام والكوفة، وفي سائر المصاحف: {تَشْتَهِيهِ}، بغير " هاء ".
وقد قيل: " إنَّها غير مثبتة في مصاحف أهل الكوفة، وذلك قرأوا.
وفي الأحقاف: {إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15]، بألف في مصاحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: {إِحْسَاناً}، بغير ألف، أعني قبل الحاء.
وفي سورة الرحمن في آخرها: {ذِي الجلال} [الرحمن: 78]، بالواو، في مصاحف أهل الشام،(4/3117)
وفي سائر المصاحف: {ذِي}، بالياء.
وفي سورة الحديد: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10]، بغير ألف، [في مصاحف أهل الشام، وفي سائر المصاحف: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله} بأللإ.
وفيها: {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد}، بغير (هو)، في مصاحف أهل المدينة [و] الشام، وفي سائر المصاحف: {فَإِنَّ الله هُوَ الغني}، بزيادة (هو).
وفي سورة الشمس وضحيها: {وَلاَ يَخَافُ} [الشمس: 15]، بالفاء، في مصاحف أهل(4/3118)
المدينة والشام، وفي سائر المصاحف: بالواو: " ولا يخاف ".
وذكر أبو حاتم في هذه الحروف أنّ في مصاحف المدينة، خاصة: {وَقَالَ الملك ائتوني} [يوسف: 54]، بغير ياء قبل التاْء.
وفي الحج والملائكة {وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23]، بألف، في مصاحف المدينة، وبعض مصاحف الكوفة.(4/3119)
وفي الزخرف: {ياعباد} [الزخرف: 68]، [بياء]، لا حذف في مصاحف المدينة [و] الكوفة.
و {قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15] الثاني بألف في مصاحف المدينة.
وفي: (قل أوحى): {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو} [الجن: 20]، بغير ألف في مصاحف الكوفة.
وفي النساء: {فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} [النساء: 171] على التوحيد، في مصاحف البصرة،
ولم يقرأ به أحد.(4/3120)
قال وفي يَس: {وَمَا عَمِلَتْهُ} [يس: 35] بغير " هاء "، مصاحف أهل الكوفة.
ومثله: {إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15]، بـ: " ألف "، في الأحقاف.
ومثله: {لَّئِنْ أَنجَانَا} [الأنعام: 63]، في الأنعام.
وقال: في مصاحف أهل الشام خاصة في الأنعام: {وَلَلدَّارُ الآخرة} [الأنعام: 32]، " الآخرة " بلام واحدة.(4/3121)
ومثله في: الأعراف: " تحتها " في موضع: {مِن تَحْتِهِمُ} [الأعراف: 43]، ولم يقرأ به أحد.
ومثله: {(وَإِذْ) أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} [الأعراف: 141]، بألف فيهما.
ومثله: {كِيدُونِ} [الأعراف: 195] بالياء في الأعراف.(4/3122)
ومثله: " ما كان للنبي أن يكون له أسى، بلامين في الأنفال، ولم يقرأ به أحد.
ومثله: (ينشركم) بالشين، في يونس.(4/3123)
وهذا باب آخر نذكر فيه سبب اختلاف القراء واختلاف هذه المصاحف
فكان سبب هذا الاختلاف، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " نزل هذا القرآن على سبعة أحرُفٍ "، فكان من/ قرأ عليه من أصحابه بأي حرف قرأ تركه، ودلّ علكى ذلك حديث عمر مع هشام بن حكيم، إذ سمعه عمر يقرأ القرآن على كغير ما قرأ هو على النبي عليه السلام، فلما توجها إلى النبي صلى الله عيه وسلم، وتحاكما لديه، قرأ عليه، أجاز قراءة كل واحد منهما، وقال: " هكذا " أُنْزِلَ ". وكان اختلافها في أحرفٍ من سورة الفرقان.
فدل على أنه صلى الله عليه وسلم، كان يترك كل واحد يقرأ على لُغَتِهِ، فإذا صح أنه كان يقرأ كل واحد على لغته، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يرسل أصحابه إلى البلدان، يعلمونهم القرآن والفقه في الدين، وأنه وجّه معاذ بن جبل إلى اليمن وكان قد خَلَفَه قبل ذلك، وأبا موسى الأشعري بمكة [حين] توجه إلى حنين لحر هَوَازِن ليعَلِّمَا من كان بها القرآن والعلم.(4/3124)
وبعث إلى الطائف مثل ذلك عثمان بن أبي العاص الثقفي.
ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وفتحت البلدان، فمضى على سيرته وزيراه: أبو بكر وعمر.
فوجه عمر ابن مسعود إلى الكوفة مُعَلِّماً لهم، ووجه أبا (موسى) إلى البصرة مثل ذلك. وكان بالشام معاذ بن جبل، وأبو الدرداء. وكان بالمدينة جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، من أهل حفظ القرآن منهم: أُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان كل واحد يقرئ في موضعه بحرفٍ من السبعة التي أمر الله عز وجل، بها نبيه عليه السلام.(4/3125)
فلما انتشر ذلك في البلدان، وتعلم الناس، وسافروا من كل بلد وتلاقوا في الغزوات، واجتمعوا في الموسم، قرأ كل قوم كما عُلِّمُوا، فأنكر بعضهم على بعض، الزيادة والنقص، والرفع والنصب، وكذَّبَ بعضهم بعضاً، وعظم الأمر فيهم، وذلك في أيام عثمان.
فتكلم بعض أصحاب النبي عليه السلام إلى عثمان أن يكتب للناس مصحفاً يجمعهم عليه، وكان ممن كلمه في ذلك حُذَيْفة [بن] اليمان، وقد كان أراد أن يكلم عمر في مثل ذلك، حتى مات عمر رضي الله عنهـ، وكان حذيفة قدم من غزوة شهدها بإرمينية، فرأى اختلاف الناس في القرآن، فلما قدم المدينة لم يدخل (بيته) حتى أتى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدْرِك الناس، فقال عثمان: وما ذلك؟ فقال: غزوة إرمينية يحضرها أهل العراق، وأهل الشام، فإذا أهل المدينة يقرأون بقراءة: أُبَيّ بن كعب، فيكفرهم أهل العراق، و (أهل العراق) يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم(4/3126)
يسمع أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام.
فجعل عثمان زيداً يكتب مصحفاً وأدخل معه رجلاً فصيحاً، وهو أبان بن سعيد بن العاص، وقال لهما: إذا اجتمعتما فاكتبا، وإذا اختلفتما فارفعا إليّ ما تختلفان فيه.
قال أنس بن مالك: اجتمع لغزوة أَذْرَبِيجان وإرمينية أهل الشام والعراق،(4/3127)
فتذاكرا القرآن فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة بن اليمان في ذلك إلىعثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى أني والله خشيت أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف.
فَفَزع لذلك عثمان رضي الله عنهـ، فزعاً شديداً، وأرسل إلى حفصة فاستخرج المصحف الذي كان أبو بكر، رضي الله عنهـ، أمر زيداً بجمعه، فنسخه منه مصاحف فبعث بها إلى البلدان.
وكان عثمان قد انسخ من المصحف الذي عند حفصة، بحضرة زيد بن ثابت وأبان بن سعيد بن العاص.
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وقال: ما اختلفم فيه فاكتبوه بلسان قريش.
قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في {التابوت} [البقرة: 248]، فقال القرشيون:(4/3128)
{التابوت}، وقال زيد: " التَّابُوه ".
فرفع/ اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش.
فلما كتب عثمان النسخة، جعلها أربع نسخ، فأنفذ مُصْحفاص إلى: الشام، ومصحفاً إلى العراق، ومصحفاً إلى اليمن، واحْتَبس مُصحفاً.
وقيل: بل وجه واحداً إلى الشام، وآخر إلى الحجاز، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى البصرة.
وقيل: بل كتب سبعة مصاحف، فبعث مصحفاً إلى مكة، ومصحفاً إلى الكوفة، ومصحفاً إلى البصرة، ومصحفاً إلى الشام، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين، واحتبس مصحفاً.
فأما مصحف اليمن والبحرين فليس يعرف لهما خبر.
ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم، إلاَّ والقُرْآنُ مُؤَلَّفٌ في الصُّدُور، إلا أنه لم يكتب في مصحف.
وأول من جمعه أبو بكر رضي الله عنهـ في المصحف، ومات وتركه عند عمر،(4/3129)
ومات عمر وتركه [عند] حفصة ابنته. قال ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، وذكره السدي.
وروى الزهري عن عبيد بن السّبَّاق أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلي أبو بكر، فأتيته، فإذا عنده عمر رضي الله عنهـ، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل اسْتَحَرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخْشَى أن يَسْتَحشرَّ القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإنّي أرى أنْ تأْمر بجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت فيكف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: هو والله خير، قال أبو بكر: فلم [يزل] عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: قال لي أبو بكر: إنَّك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعْ القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال لكان أثقل عليّ من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر:(4/3130)
هو والله خير. فلم يزل يراجعي في ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهـ، حتى شرح الله صدري للذي شرح إليه صدرهما، فتتبعث القرآن من الرِّقَاع والعُسُبِ، ومن صدور الرجال، فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، إلى آخرها، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى مات، ثم كانت عند عمر حتى مات، ثم كانت عند حفصة، ثم نسخ عثمان من عند حفصة المصاحف، ووجه إلى كل أُفقٍ مصحفاً، وأمر بما سوى ذلك أن يُحَرَّق.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أُنْزِل القرآن على سبعة أَحْرُف "، أي: على سبع لغات متفرقة في القرآن، (لا أن كُلَّ حرف من القرآن) يقرأ على سبع لغات.
قال الشيخ أبو بكر، رضي الله عنهـ، وَجْهُ هذه الزيادة والنقص في المصحاف، أنها كتبت على قراءة من كان وجه إلى كل بلد من الصحابة، ويدل على ذلك أنَّ القراء(4/3131)
يُسْنِدُونَ قراءتهم إلى إمام مِصْرهم من الصحابة، وقد كانت هذه الحروف يقرأ بها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنقص، ولولا ذلك ما أثبتت في بعض المصاحف وحذفت من بعض ولا يجوز/ أن يُتَوَهَّم أنها وهم من الكابت؛ لأن الله قد حفظه، ويدل على ذلك أن علياً لما صارت إليه الخلافة لم يغير منها شيئاً بل استحسن فعل عثمان، وقد كانوا يكرهون النقط في المصاحف خوف الزيادة، فكيف يزيدون الحروف وتجوز عليهم الزيادة.
وكره النخعي الفصل بين السور، والتَّعْشِيرِ، بالحمرة.
وقال يحيى بن كثير: كان القرآن مُجَرَّداً، فأول ما أُحْدِثَ فيه العَجْمُ: نقط التاء والثاء، فلم ينكره أحد، ثم أحدثوا نَقْطاً على منتهى الآي، ثم أحدثوا التعشير، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
وقال قتادة: وددت أنَّ الأيدي قُطِعت في هذه النقط.
فليس يجوز على هذا الاحتياط أن تقع هذه الحروف إلا بنصّ وَمَعْرِفَةٍ، ولم تقع على وهم من الكاتب.(4/3132)
وقد ذكر أبو بكر عن بعض العلماء أنه قال: إنَّ إصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما جمعوا القرآن ونسخوه من عند حفصة في نسخ، عمدوا إلى كل حَرْفٍ سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قِرأه على وجهين، فأثبتوا في مصاحف وجهاً، وفي مصاحف وجهاً آخر. لتحصل الوجهان للمسلمين، ولا يسقط عنهم وجه قراءته، فحصل على هذا الاختلاف في المصاحف على هذا الوجه، وهو داخل في السبعة، وهذا إن شاء الله هو الحق والصواب.
فأما اختلافهم في الحركاتت والمْدَ والْقَصْر والهمز وشِبْهه من إبدال حرف مكان آخر بصورته، فإن السبب في ذلك أن المصاحف التي وجهت إلى الأمصار لم تضبط ولا نقطت، وإنما كانت حروفاً أشخاصاً. فلما خلت الحروف من النقط والضبط صارت التاء (التي) هي غير منقوطة محتملة لأن تكون: ياءً أو باءً أو تاءً، واشتركت الصور في الحروف. ألا ترى أنك لو كتبت " لم يقم "، ولم تنقط الحرف الأول جاز أن يكون تاء، وباء، ونوناً، فقرأ أهل كل مصر على ما كانوا تعلموا من إمامهم الصحابي قبل إتيان المصاحف إليهم، فقرأ أهل البصرة على ما كان علمهم أبو موسى الأشعري، وأهل الكوفة على ما علمهم علي، وابن مسعود، وأهل الحرمين على ما تعلموا من أُبيّ، وزيد، وأهل الشام على ما تعلموا من معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، ووافقوا بقراءتهم خط المصحف الذي وجه إليهم، فقرأ هؤلاء بنصبٍ وهؤلاء برفعٍ،(4/3133)
وهؤلاء بِهَمْزٍ، وهؤلاء بِيَاءٍ، وهؤلاء بِتَاءٍ والصور واحدة، كل قوم قرأوا على ما كانوا تعلموا قبل وصول المصحف إليهم، فوافقوا بقراءتهم المصحف الذي وجه إليهم من زيادة أو نقص. فهذا سبب الاختلاف.
وقد كان جَمَعَ القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ستة نفرٍ من الأنصار: معاذ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وسعد، بن عبيد. وجمعة مُجَمَّعُ بن جارية، إلا سورتين، ولم يجمعه من الأئمة إلا عثمان.
وذكر أنس والشعبي أنه لم يجمعه على عهد النبي عليه السلام، أحدٌ. والدليل على ذلك أن عثمان لم يتكل فيه على أحدٍ حتى جمع إليه جماعة، وأن زيد بن ثاتب قال: جمعته من صدور الرجال، ومن كذا وكذا، فهذا يدل على أنه لم يكن يحفظه.(4/3134)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
وإنما اختار عثمان زيد/اً، لأنه كان يكتب الوحي؛ ولأن قراءته كانت على العرضة الآخرة، ولأنه وهو الذي اختار أبو بكر لجمعه.
قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب منافقون}، إلى قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
ومعنى الآية: ومن القوم الذين حولكم، أي: حول المدينة {منافقون}، أي: قوم منافقون.
{مَرَدُواْ عَلَى النفاق}.
أي: دربوا عليه وخَبُثُوْا.
وقيل: معناه: عتوا، على النفاق. من قولهم: " شَيْطانٌ مَارِدٌ " أي: عاتٍ.(4/3135)
{وَمِنْ أَهْلِ المدينة}.
أي: من أهلها مثلهم.
وقيل: المعنى: ومن أهل المدينة قوم {مَرَدُواْ}. فلا يكن في الكلام على هذا تقديم ولا تأخير. وعلى القول الأول يكون فيه تقديم وتأخير.
قال ابن زيد {مَرَدُواْ}: أقاموا عليه، ولم يتوبوا.
وقال ابن إسحاق {مَرَدُواْ}، عليه، أي: لجوا فيه وأبوا غيره.
{لاَ تَعْلَمُهُمْ}.
أي: لا تعلمهم يا محمد، بصفتههم.
{نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}.
قيل: هما فضيحتهم في الدنيا وإظهار سرائرهم، ثم عذاب القبر، ثم يردن إلى عذاب الآخرة. قاله ابن عباس: وذكر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخرج قوماً من المسجد يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق، لناس منهم، فهذا عذابهم الأول، والثاني: عذاب القبر.
وقال مجاهد هما: عذاب السيف بالقتل وعذاب الجوع.
والآخر: عذاب القبر، ثم عذاب الآخرة.
وقال ابن زيد: العذاب الأول، عذابهم بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والآخر: عذاب النار.
وقيل الأول: أخذ الزكاة من أموالهم، وإجراء الحدود عليهم، وهو غير راضين، والآخرة: عذاب القبر.(4/3136)
ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً}.
والمعنى: ومنهم آخرون: أي: من أهل المدينة منافقون آخرون، {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ}، أي: أقروا بها: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً}، هو إقرارهم وتوبتهم، {وَآخَرَ سَيِّئاً}، هو تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
والواو [في] قوله: {وَآخَرَ}، بمعنى: " مع " عند البصريين، كما تقول:(4/3137)
" استوى الماء والخشبة ".
وقال قوم: هي بمعنى: " الباء "، وقدروا " الواو " في " الخشبة " بمعنى: بالخشبة.
وأنكر الكوفيون أن يكون هذا بمنزلة " استوى الماء والخشبة "؛ لأن هذا لا يجوز فيه تقديم الخشبة على الماء، وإنما هو عندهم بمنزلة " خلطت الماء واللبن "، أي: باللبن، فكل واحد منهما يجوز أن يتقدم، مثل الآية.
قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في عشرة أنفس تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، فلما رجع النبي عليه السلام أوثق سبعَةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي عليه السلام إلى رجع في المسجد عليهم. فلما رآهم قال: من هؤلاء؟
قال: أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك، يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ". فلما بلغهم ذلك قالوا: / ونحن والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا. فأنزل الله عز وجل: { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية.(4/3138)
فأطلقهم النبي عليه السلام، و {عَسَى} من الله واجبة ".
وقيل: كانوا ستةً، والذين أوثقوا أنفسهم ثلاثة: أبو لبابة ورجلان معه.
وقال زيد بن أسلم: الذين ربطوأ أنفسهم ثمانية.
وقال قتادة: كانوا سبعه، وفيهم نزل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
وقال مجاهدة هو أبو لبابة وحده، اعترف بذنبه الذي كان في بني قريظة، إذ أشار لهم إلى حَلقِه، يريد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذابحكم إن نزلتم على حكم الله، سبحانه.
وقال الزهري: نزلت في أبي لبابة إذ تخلف عن غزوة تبوك، يربط نفسه، حتى أنزل الله، - عز وجل -، توبته، ومكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرَّ مغشيّاً عليه، فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي يحلني، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول(4/3139)
الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقةً إلى الله ورسوله، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يجزيك يا أبا لُبابة الثلث".
والعمل الصالح الذي عملوه، قيل: هو توبتهم.
وقيل: حضورهم بدراً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(مُنَافِقُونَ)، وقف، إن جعلت (مَرَدُوا)، نعتاً لأهل المدينة"، فإن جعلته نعتاً للمنافقين لم تقف دونه؛ لأنه ينوي به التقديم.
وقيل: كانوا ثلاثة، أبو لُبابة، ووداعة بن ثعلبة، وأوس بن خدام من الأنصار. لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد، وكان رسول الله(4/3140)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
- صلى الله عليه وسلم - ,إذا ابتدأ سفراً أو رجع منه ابتدأ بالمسجد, فصلى فى ركعتين, فدخل فرأى فيه قوما موثقين, فسأل عنهم, فأخبر بخبرهم, وأنهم أقسموا ألا يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقسم لا أطلق عنهم حتى أومر, ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله , فلما نزل فيهم القرآن حلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، إلى قوله: {التواب الرحيم}.
قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ}، هو خطاب للنبي عليه السلام.
أي: فإنك تطهرهم بها وتزكيهم، وهذا قول الزجاج.
وقيل: هما للصدقة، لا للمخاطبة، وهما في موضع النعت للصدقة، وهو قول الأخفش، قال: ويكون {بِهَا} توكيداً.
ف: " التاء " على القول الأول للمخاطبة، وفي {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} ضمير النبي صلى الله عليه وسلم. وهي على القول الثاني: الثانية للصدقة لا للمخاطبة، وفي(4/3141)
{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} ضمير الصدقة.
وقيل: هما للنبي عليه السلام، وهما في موضع الحال منه.
وقيل: {تُطَهِّرُهُمْ} للصدقة، صفة [لها]، {وَتُزَكِّيهِمْ} للنبي عليه السلام، حال منه.
وأجاز بعض النحويين، في {تُطَهِّرُهُمْ} الجزم؛ لأنه جواب الأمر.
وحجة من قرأ: {صلاتك} بالجمع هنا، وفي " هود "، وفي " المؤمنين "(4/3142)
إجماعهم على الجمع في: {وَصَلَوَاتِ الرسول} [التوبة: 99] ولا فرق بينها والتي في سورة المؤمنين يراد بها الصلوات الخمس، فالجمع أولى به؛ ولأنها مكتوبة في المصحف بالواو، فدل ذلك على الجمع، وعلى أن الألف التي بعد الواو اختصرت/ من الكتاب.
وقد كتبوا ما عدا هذه الثلاثة بالألف، فدلت الواو في هذه الثلاثة على أنه جمع، وحذفت الألف بعد الواو كما حذفت من درجات وبينات.
ومن قرأ بالتوحيد، احتج بالإجماع في: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162]، بالتوحيد، وإجماعهم على التوحيد في " الأنعام "، و {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1].
وأيضاً فإن قوله: إنَّ صَلاَتَكَ أعم من: إن صلواتك؛ لأن الجمع إنما هو لما دون العشرة، فكأنه: " إنّ دعواتك "، والتوحيد بمعنى: " إنَّ دعاءك "، والدعاء أعم من "(4/3143)
الدعوات " وأكثر؛ لأن المصدر أعم من الجمع الذي لما دون العشرة.
ومعنى الآية: خذ يا محمد من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم [{صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} من دنس ذنوبهم، {وَتُزَكِّيهِمْ}، أي: تنميهم]، وترفعهم بها، {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}، أي: ادع لها بالمغفرة، {إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ}، أي: إن دعاءك طمأنينة لهم، بأن الله قد عفا عنهم، {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، أي: سميع لدعائك إذا دعوت، ولغير ذلك.
قال ابن عباس: أتى أبو لُبابة وأصحابه حين أطلقوا، وتيب عليهم، بأموالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله، عز وجل: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، الآية.
وقد قيل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: منسخٌ بقوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84].
وقيل: إنَّها محكمة.(4/3144)
والمعنى: وادع لهم إذ جاءوك بالصدقات، وعلى هذا أكثر العلماء.
وقال قتادة: {سَكَنٌ لَّهُمْ}، وقَارٌ لهم.
وقال زيد بن أسلم: قالوا: يا رسول الله، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يأخذ.
فأنزل الله عز وجل: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، الآية.
قال سعيد بن جبير: كان الثلاثة إذا (اشتكى أحدهم).
اشتكى الآخران مثله، وكان قد عَمِيَ، فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِيَ.
وقال ابن عباس: {سَكَنٌ لَّهُمْ}: رحمه لهم.
وقيل: إنَّ هذا إنَّما هو في الزكاة، أمر أن يأخذ زكاة أموالهم التي عليهم.(4/3145)
ثم قال تعالى: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}.
أخبر الله عز وجل، في هذه الآية بقَبول توبة من تاب من المناقين وغيرهم، وأخذ الصدقات من أموالهم.
فالمعنى: ألم يعلم هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد، ثم ندموما وربطوا أنفسهم بالسواري وقالوا: لا نطلق أنفسها حتى يكون النبي صلى الله عليه سولم، هو الذي يطلقنا، أن ذلك (ليس) إلى النبي صلى الله عليه [وسلم]، ولا إلى غيره، وإنما هو إلى الله سبحانه، هو يقبل توبتهم، وتوبة غيرهم، ويأخذ صدقة من تصدق، بصدقةٍ، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم.
قال ابن زيد: قال المنافقون لما تاب الله على هؤلاء: كانوا بالأمس، لا يُكلَّمون ولا يُجَالَسُون، فما لهم اليوم يُكلَّمون ويُجالَسُون؟ فأنزل الله عز وجل، ألم يعلم هؤلاء الذين لم يتوبوا وتكلموا في هؤلاء الذين تُبت عليهم {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}، الآية.
قال ابن عباس: {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}، يعني إن استقاموا على/التوبة.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله يقْبلُ، الصدقة ويأخذها بيمينه، فيرُبِّيها لأحدكم كما يُربِّى أحدكم مهرة، حتى إنَّ اللقمة لَتَصير مثل أحد.(4/3146)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وتصديق ذلك في كتاب الله: {هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} و {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} ".
وقال ابن مسعود: ما تصدق رجل بصدقة إلاّ وقعت في يد الله قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، ثم تلا: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة}.
وقوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون}، إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
والمعنى: {وَقُلِ} يا محمد، لهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم: {اعملوا}، أي: اعملوا بما يرضي الله، {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ}، وسيراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا، {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة}، أي: تردون يوم القيامة، إلى الله الذي يعلم السر والعلانية، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي يخبركم بعملكم، ويجازيكم عليه جزاء المسحنين أو جزاء المسيء.(4/3147)
وقال مجاهد: الآية وعيد من الله.
و {فَسَيَرَى الله}، من رؤية العين.
ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}.
هذه معطوف على ما قبله. والمعنى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب منافقون وَمِنْ أَهْلِ المدينة} قوم {مَرَدُواْ عَلَى النفاق}، ومنهم {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ}، ومنهم {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}. فالتقدير: من هؤلاء المتخلفين عنكم، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}، وقضائه فيهم.
{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.
وهم قوم تخلفوا ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وندموا على ما صنعوا، فتاب الله عليهم، إذ علم صحة توبتهم وندمهم، فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار}، إلى قوله: {هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 117 - 118].
قال ابن عباس: لما نزل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، يعني: أبا لُبابة وصاحبيه، يعني: الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم، ولم يظهروا التوبة، فلم يذكروا بشيءٍ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأنزل الله، عز وجل: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}، الآية، فيهم فجعل الناس(4/3148)
يقولون: هلكوا، إذ لم ينزل فيهم عُذْرٌ. وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، فصاروا مرجئين، لا يقطع لهم بشيء، حتى نزل: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين}، إلى قوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، ثم قال تعالى: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} يعني: الثلاثة الذين أُرْجُوْا، إلى قوله: {هُوَ التواب الرحيم}.
وقال عكرمة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ}: هم الثلاثة الذين خُلَّفُوْا.
والثلاثة في قول مجاهد: هلال بن أمية، ومُرارةَ بن الربيع، وكعب بن مالك، الثلاثة من الأوس.
وقال الضحاك: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ}، هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن التوبة، يعني: توبة أبي لُبابة وصاحبيه، فضاقت عليهم الأرض، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيهم فئتين، فئة تقول: هلكوا، وفئة تقول: عسى الله أن يعفوا عنهم، فأنزل الله/ عز وجل: { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرهم(4/3149)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
حتى نزلت توبتهم.
وقوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ}.
ومعناه: إما يحجزهم عن التوبة، فيعذبهم، وإما يوفقهم فيتوب عليهم.
{حَكِيمٌ}، وقف، على قراءة من قرأ: {الذين}، بغير واو. وغير وقف على قراءة من قرأ: {الذين اتخذوا} بالواو.
قوله: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً}، الآية.
من قرأ: {الذين} بالواو، فهو في موضع رفع، والخبر محذوف، والمعنى:(4/3150)
ومنهم الذين، مردود على: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} [التوبة: 101].
وقيل: هو مردود على {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي}، (والَّذِينَ اتَّخّذُوا مَسْجِداً).
ومن قرأ {الذين اتخذوا} بغير واو، فهو في موضع بالابتداء، وفي الخبر تقديران:
قال الكسائؤ الخبر: {لاَ تَقُمْ فِيهِ}، أي: لا تقم في مسجدهم.
وقيل الخبر: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ}، وهذا أحسن.
{ضِرَاراً} مصدر، وإن شئت مفعولاً من أجله.
ومعنى الآية: إنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين كلهم ينتمون إلى الأنصار،(4/3151)
ويعتدون إلى بني عوف، يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، بنوا مسجداً ضراراً بمسجد " قُباء "، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، قبل خروجه إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجداً لذِي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأْتينا فتصلي لنا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني على جَنَاحِ سَفَرٍ وشُغْل، ولو قد قدمنا، إن شاء الله، أتيناكم فصلينا لكم فيه. فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم، راجعاً [من سفره]، بقرب المدينة، بلغه الخبر، فأرسل قوماً لهدمه، فَهُدم وأُحْرِق.
ومعنى {ضِرَاراً} أي: ضِرِاراً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفراً بـ الله، لمخادعتهم النبي عليه السلام.(4/3152)
{وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين}.
يريدون أن يتفرق جماعة المسلمين في صلواتهم.
{وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن [قَبْلُ]}.
أي: إعداداً له، وهو أبو عام الذي كان حَزَّبَ الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خذله الله عز وجل، لحق بالروم، يطلب النصر من ملكهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار، وأمرهم ببناء المسجد الذي بنوه ليصلي فهم فيه، إذا رجع.
{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى}.
أي: يحلف من بناه ما أردنا بذلك إلا الخير، والرفق بالمسلمين في المطر، والتوسعة على الضعفاء، {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، في وقلهم ذلك، بل بنوه لتفريق المؤمنين.
قال ابن عباس: وجه أبو عامر إلى ناس من الأنصار أن يبنوا مسجداً، ويستعدوا ما يستطيعون من قوة ومن سلاح، وقال لهم: إني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتى بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه.(4/3153)
وكان أبو عامر من الروم أصله، وكان يقول: إنه راهب، فبنوا المسجد له، ليأتي ويصلي فيه، وليكون اجتماعهم للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فيه. فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنان، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة.
فأنزل الله/ عز وجل: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ/ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}.
قال قتادة: لما دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي في مسجدهم دعا بقميصه ليأتي إليهم، فأطلعه الله على أمرهم.
قال الضحاك: بنوا مسجد الضرار بقُباء، وكذلك قال قتادة.
قال ابن عباس: لما بنى النبي عليه [السلام] مسجد قُباء، بنى [قوم] من الأنصار مسجداً للضِّرار، ليضاهوا به النبي عليه السلام والمؤمنين في مسجدهم.
قوله: {مِن قَبْلُ}، وقف في قراءة من قرا: {الذين} بغير واو إن قدرت أنَّ(4/3154)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
الخبر: ومنهم الذين.
وإن قدرت أن يكون {لاَ يَزَالُ} الخبر، أو {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}، لم يجز الوقف على: {مِن قَبْلُ}.
و {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} وقف، وكذلك يقدر جميع هذه الآية.
قوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ}، الآية.
والمعنى: لا تقم، يا محمد، في المسجد الذي بناه المنافقون، ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنين، أبداً.
ثم أقسم، فقال: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى}، أي: ابتدئ أساسه وبناؤه على طاعة الله عز وجل، ورضوانه {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، ابتدئ بنيانه، {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}، أي: أولى أن تقوم فيه، مصلياً لله، عز وجل.(4/3155)
و {مِنْ} هاهنا، بمعنى: منذ.
وقيل: [المعنى]، من تأسيس أول يوم.
ومعنى {أَوَّلِ يَوْمٍ}: أول الأيام: كما تقول: أتيت على كل رجل، أي: على كل الرجال.
قال ابن عمر، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري وابن(4/3156)
المسيب، وخارجة بن ثابت، وابن جريج: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي فيه اليوم قبره.
وقال ابن عباس، وابن زيد، وعروة بن الزبير، وأبو زيد: هو مسجد قُباء. وقاله ابن جبير، وقتادة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " هو مسجدي هذا ".(4/3157)
وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ}.
" الهاء " لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقال الشعبي: هي لمسجد قُباء. وكذلك قال شَهْرَ بْنُ حَوْشَب.
فعلى هذا يجوز أن يكون الضميران مختلفين، وأن يكونا متفقين.
وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}.
مدحوا، لأنهم كانوا يستنجون بالماء من الغائط والبول، لا خلاف في هذا التفسير بين أهل التفسير.(4/3158)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قال قتادة: " لما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم، لأهل قُباء: إنّ الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما تصنعون؟ قالوا: إنا نغسل عنّا أَثر الغائط والبول ".
قوله: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} وقف، إن جعلت الضمير مخالفاً للضمير الأول: فإن جعلته مثله وقفت على: {يَتَطَهَّرُواْ}.
قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ}، الآية.
قرأ نصر بن علي: " أَسَسُ بُنْينِه "، بتخفيف السين ورفعه، وخفض البنيان.(4/3159)
وحكى أبو حاتم عن بعض القراء: " أفمن أساس بُنْيَنِهِ "، برفع أساس، وخفض البنيان.
و" أسَسُ " و " أُسُّ " سواء ك: عَرَبٍ وعُرْب. و " أساسٌ " واحد، وجمعه: أُسُس.
وحكى أبو حاتم، أيضاً، قراءة أخرى: " أفمن أسس بنيانه " برفع " آساس " ومده، وخفض البنيان، وهو جمع " أُسّ " ك: " خُفٍ " و " أَخَفَافٍ " والكثير " إسَاسٌ " ك " خِفَاف ".
و {جُرُفٍ}، و {جُرُفٍ} لغتان، وهو شفير ما ينفى من جُوُف(4/3160)
الوادي إذا أخذه السيل.
قال أبو حاتم: أصل {هَارٍ}: هاورُ، ثم قل، ك: شاكي السلاك وشائك السلاح.
وحكى الكسائي: " تَهَوّر " و " تَهَيَّر ". والهائر المتقدم. وحكى: هَارَيَهُورُ ويَهيرُ ويهار.
ومعنى الآية: أنها مثل. والمعنى: / أيُّ هذين الفريقين خير؟ وأي هذين(4/3161)
البناءين خير وأثبت؟ من ابتدأ أساس نبيانه على طاعة الله، أم من ابتدأ على ضلال وخطأ من دينه؟
قوله: {فانهار [بِهِ]}.
يحسن أن تكون الألف من " واو " أو " ياء " على ما تقدم.
قال ابن عباس: [{بِهِ فانهار}]، يعني قواعده {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}.
وذُكر أنه حفرت بقعة منها، فرئي الدخان.
قال ابن جريج: (فلما فرغوةا من بناء المسجد، صلوا فيه ثلاثة أيام، وأنهار اليوم الرابع {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}. قال ابن جريج: ذكر لنا أنَّ رجلاً حفر فيه، فأبصر(4/3162)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
الدخان يخرج منه.
وقال جابر: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}.
والمعنى: ولا يزال مسجدهم الذي بنوه، شكَّا في قلوبهم ونفاقاً، {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، أي: إلا أن تصدع قلوبهم فيموتوا.
قال ابن عباس: ومجاهد: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، إلا أن يموتوا.
وقال السدي {رِيبَةً}: كفراً.
وفي حرف عبد الله: (ولو قطعت قلوبهم).(4/3163)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
وقيل المعنى: إلا أن يتوبوا عما فعلوا، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه.
قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، إلى قوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين}.
قوله: {أَنفُسَهُمْ}: استغنى بأقل الجمع عن الكثير، والمراد الكثير، ولفظه لفظ القليل، وقد قال تعالى: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] فهذا لفظه ومعناه سواء لأكثر العدد.
ومن قرأ: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، فبدأ بالمعفول.
قيل: الفاعل بمعناه فيُقْتل بعضهم، ويقتل بعضهم الباقي المشركين. والعرب تقول: نحن قتلناكم يوم كذا، أي: قتلنا منكم.(4/3164)
قوله: {وَعْداً}، مصدر مؤكد، و {حَقّاً} نعن له.
والمعنى: وعدهم الله الجنة وعداً حقاً عليه.
قال ابن عباس: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ [وَأَمْوَالَهُمْ] بِأَنَّ لَهُمُ الجنة}، قال: ثامنهم والله، وأعلى لهم.
" ورُوي أن عبد الله بن رواحة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال النبي عليه السلام: اشترط لربي: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي: أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. فقالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل ".
فنزلت: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ}، الآية.(4/3165)
ثم مدحهم الله، عز وجل، فقال: {التائبون العابدون}، أي: هم التائبون.
وقال الزجاج: هو بدل. والمعنى: يقاتل التائبون.
وقال: والأحسن أن يرتفعوا بالابتداء والخبر محذوف، أي: لهم الجنة.
وفي قراءة عبد الله: {التائبون العابدون}، على النعت للمؤمنين، في موضع خفض، أو في موضع نصب على المدح.
وقيل: {التائبون} مبتدأ، وما بعدها إلى " الساجدين " عطف عليه، و {الآمرون} خبر الابتداء، أي: مرهم بهذه الصفة، فهم {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر(4/3166)
والحافظون لِحُدُودِ الله}.
ومعنى {التائبون}: الراجعون مما يكرهه الله عز وجل، إلى ما يحبه.
وقال الحسن: {التائبون}، أي: عن الشرك، {العابدون}، الله وحده في أحايينهم كلها، أي: في أعمارهم.
ومعنى {الحامدون}، الذين يحمدون الله على ما ابتلاهم به من خير وشر.
وقيل المعنى: الذين حمدوا الله على الإسلام.
ومعنى {السائحون}: الصائمون روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والضحاك.(4/3167)
وأصل السياحة: الذهاب في الأرض.
{الراكعون الساجدون}، يعني: في الصلاة المفروضة.
{الآمرون بالمعروف}، أي: بالإيمان بالله، عز وجل، وبرسوله عليه السلام.
/ {والناهون عَنِ المنكر}، عن الشرك {والحافظون لِحُدُودِ الله}، أي: العاملون بأمر الله عز وجل، ونهيه سبحانه.(4/3168)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{وَبَشِّرِ المؤمنين}.
أي: بشر من آمن، وفعل هذه الصفات من التوبة والعبادة وغيرهما، وإن لم يغزوا.
وقال الحسن في هذه الآية: {العابدون}: الذين عبدوا الله عز وجل، في أحايينهم كلها، أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين، ولكن كما قال العبد الصالح: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31].
قال: و {السائحون} الصائمون. وقال: {الآمرون بالمعروف}، أما والله، ما أمروا بالمعروف، حتى أمروا به أنفسهم، ولا نهوا عن المنكر، حتى نهوا عنه أنفسهم، {والحافظون لِحُدُودِ الله}، قال: هم القائمون على فرائض الله.
قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، إلى قوله: {حَلِيمٌ}.
والمعنى: ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين: {أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} منهم، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم}، أي: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله سبحانه، وقد قضى القرآن (أنّ) من مات على الشرك، أنَّه من أهل النار.
وهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب، أراد النبي عليه السلام، أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله، عز وجل، عن ذلك.(4/3169)
وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبيه، أنه قال: " لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أمية: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيءٍ تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك. فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} "، الآية، ونزلت: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، الآية.
الزهري عن ابن المسَيَّب قال: لما أحتضر أبو طالب أتاه النبي عليه السلام، وعنده عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقاً، وأحسنهم يداً، لأنت أعظم من والدي، فقل كلمة تجب لي يوم القيامة بها الشفاعة لك، قل: لا إله إلا الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟(4/3170)
فسكت، فأعادها عليه رسول الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ومات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرنَّ له ما لم أُنه عن ذلك، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، الآية.
وقال مجاهد قال المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافراً؟ فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ}، الآية.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي عليه السلام، استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني الله عنه.
فقال أصحابه: فلنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي عليه السلام، لعَمِّه، فأنزل الله، عز وجل: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا}، إلى: {حَلِيمٌ}.
وقيل: نزلت في أُمِّ رسول الله عليه السلام أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قدم مكة، وقف على قبر أُمه حتى سَخِنَت عليه الشمس، رجاء أن يُؤْذن له فيستغفر لها/، حتى نزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}، الآية قال ذلك ابن(4/3171)
عباس، وغيره.
ولم يختلف أهل العلم في الدعاء للأبوين ما دام حيين، على أيّ دين كانا، يدعى لهما بالتوفيق والهداية، فإذا ماتا على ك فرهما لم يستغفر لهما.
رُوي أن الآية نزلت في أبوي النبي عليه السلام، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم، سأل جبريل، عليه السلام، عن قبر أبويه، فأرشده إليهما، فذهب إليهما، فكان يدعو لهما، وعلي رضي الله عنهـ، يُؤَمِّنُ، فنهي عن ذلك، وأُعلم أنّ إبراهيم، صلوات الله عليه، إنما أستغفر لأبيه؛ لأن أباه وعده أن يُسْلِمَ، ويترك عبادة الأصنام، فكان إبراهيم يستغفر له طمعاً أن يؤْمن، فلما مات على كفره، تبرأ منه.
و" المَوْعِدَةُ " التي وعد إبراهيم أبوه هو أنه وعده أن يؤمن.
وقيل: بل هي كانت من إبراهيم لأبيه وعده أن يستغفر له، حكى الله عنه أنه قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47]، فلزمه إتمام وعده.(4/3172)
وقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ}.
فنهى الله، عز وجل، عن الاستغفار له تبرؤاً منه.
وقيل: لما مات على كفره تبرأ منه.
[فدل قوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ}] على هذا المعنى، أنه (إنما) استغفر له وهو حي لوعد وعده، أنه يؤمن، فلما رآه لا يؤمن، وأنه متماد على الكفر تبرأ منه.
وقيل: لما مات على كفره، (ولم يؤمن)، تبرأ منه، وترك الاستغفار له، قال ذلك ابن عباس، وغيره.
وقال ابن جبير: إنما تبرأ منه في الآخرة، وذلك إنَّ إبراهيم عليه السلام يسأل في والده يوم القيامة ثلاث مرات، فإذا كانت الثالثة، أخذ بيده، فليتفت إليه، فيتبرأ منه.
و" الأَوَّاهُ " الدَّعَّاء.(4/3173)
وقيل: الرحيم. قال ذلك قتادة، والحسن، وروي ذلك عن ابن مسعود.
وعن ابن عباس: أنَّه: الموفق، بلسان الحبشة، (وكذلك قال مجاهد وعطاء.
وعن ابن عباس أيضاً: " الأوّاه " بلسان الحبشة)، المؤمن التواب.
وقال كعب: " الأوَّاهُ " الذي إذا ذكر النار تأوّه.
وعن ابن جبير: أنه المُسبِّحُ، الكثير الذكر لله عز وجل.
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عن النبي، أنه قال لرجل: " يرحمك الله إن كنت لأواهاً " يعني(4/3174)
تلاءً للقرآن.
وقال كعب " الأوَّاه " الكثير التَّأوُّهِ.
وعن مجاهد أيضاً: أنه الفقيه ..
وروى شَدَّاد بن الهادي، قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم،: ما لأواه فقال: المتضرع.
وفي حديث آخر: الخاشع المتضرع.
ومعنى {حَلِيمٌ}، أي: حليم عمن ظلمه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أيضاً " الأوّاه "، الدَّعّاء.(4/3175)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
وقال ابن مسعود.
وأصل " التأوه ": الترجُّع والتوجع بحزنه.
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ}، إلى قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
المعنى: ما كان الله ليضلكم بالاستغفار للمشركين، بعد إذ هداكم للإيمان، حتى يتقدم إليكم بالنهي عن ذلك، وبيِّنه لكم فتتقوه {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: ذو علم بجميع الأشياء.
{إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
أي: له سلطان ذلك، لا رادّ لأمره، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، كل عبيده، وفي قبضته، فلا تجزعوا من قتال أعدائكم.
وهذا حض من الله على ما تقدم من ذكر القتال.
{وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
أي: ليس لكم من ينصركم من عذاب الله إن خالفتم/ أمره فأراد بكم سوءاً.(4/3176)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قوله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار}، إلى قوله: {هُوَ التواب الرحيم}.
قوله: {مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ}، رفع القلوب عند سيبويه بـ: {يَزِيغُ}، و {كَادَ}، فيها إضمار الحديث.
ويجوز أن ترفع القلوب بـ: {كَادَ}، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ.
وقال أبو حاتم: من قرأ: {يَزِيغُ} بالياء، لا يجوز أن يرفع القلوب بـ: {كَادَ}، وهو جائز عند غيره على تذكير الجمع.
والمعنى: لقد رزق الله رسوله الإبانة إلى أمره، ورزق المهاجرين وذراريهم(4/3177)
وعشيرتهم الإنابة إلى أمره، ورزق الأنصار ذلك، {الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} وهي غزوة تبوك، خرجوا في حر شديد، فاشتد عليهم العطش، فكانوا ينحرون إبلهم، ويعصرون كروشها، ويشربون ماءها، فهي العسرة التي لحقتهم، قال ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنهـ، فسأل أبو بكر النبي عليه السلام، أن يدعو، فدعا، فأمطروا فشربوا وملأوا ما معهم. قال عمر: ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وكانوا أيضاً في قلة من الظَّهر وقلة من مال.
قال مجاهد: أصابهم جَهْد شديد، حتى إنَّ الرجلين يشقان التمرة بينهما.
وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا}.
أي: ليثبتوا على التوبة، كما قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله} [النساء: 136]، أي: اثبتوا على الإيمان.(4/3178)
وقيل: المعنى: ثم فسخ عليهم، ولم يعجل عقابهم ليتوبوا.
وقيل المعنى: ثم وفقهم الله للتوبة.
يقال: " تاب الله عليه "، أي: دعاه إلى التوبة، و " تاب عليه "، أي: وفقه للتوبة، و " تاب عليه " قَبِل توبته.
وقوله: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 6].
أي: وإما يوفقهم للتوبة.
وأصل التوبة في اللغة، الرجوع عما كان عليه.
وهي تكون بثلاث شرائط: الندم على ما كان منه، والإقلام عن المعصية، وترك الإصرار.
{والأنصار} وقف.
ثم قال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}.
أي: وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، فلم يفعلوا فعل أبي لُبابة وأصحابه، إذ ربطوا أنفسهم في السواري، وقالوا: لا نَطْعم ولا نَحُل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو(4/3179)
يحلنا بتوبة من الله والثلاثة الآخرون الذين أرجأ أمرهم المؤمنون، فقال قوم: هلكوا، وقال قوم: عسى الله أن يتوب عليهم.
قال عكرمة وقتادة: خُلِّفُوا عن التوبة.
وقرأ عكرمة: " خَلَفُوا " أي: أقاموا بِعَقِبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/3180)
قال محمد بن عرفة نفطوية: خلفوا عن أن يكونوا منافقين، ويعتذروا فيعذبوا؛ لأنهم صدقوا، ولم يأتوا بعذر كذب.
وقرأ جعفر بن محمد: " خَالَفُوا ".
قوله: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ}.
أي: بسعتها، غمًّا منهم وندماً على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ}.
أي: بما نالهم من الكرب {وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ}، أي: أيقنوا أنه لا ملجأ من الله، أي: لا مهرب، ولا مستغاث منه، {إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا}، أي: لينيبوا إليه،(4/3181)
ويرجعوا إلى طاعته، {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} أي: هو الوهّاب لعباده الإنابة إليه، {الرحيم}، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة على ما سلف منهم قبل/ التوبة.
والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلا ل بن أمية، ومُرارة بن ربيعة، كلهم من الأنصار.
وفي رواية: مُرارة بن الربيع.
وفي أخرى: مُرارة بن ربْعي.
وقال ابن جبير: ربيعة بن مرارة، وهلال بن أمية، وكعب بن مالك.
وكان قد تخلف عن رسول الله عليه السلام، في غزوة تبوك بضع(4/3182)
وثمانون رجلاً، فلما رجع أتاه قوم، منهم الثلاثة الذين ذكروا في الآية، فصدقوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم، وأتاه الباقون، فكذبوا وحلفوا واعتذروا، فوكل أمرهم إلى الله عز وجل، وقال لأولئك الذين صدقوا: قُوما حتى يقضي الله فيكم، فنزل القرآن بتوبتهم، فقال: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ}، الآية [التوبة: 102]، وقال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}، الآية.
قال كعب بن مالك: أتى، المخلفون فاعتذروا، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم، ووكل سرائرهم إلى الله، عز وجل، وجئت إليه فرأيته يبتسم تبسم المُغْضَب، ثم قال تعالى، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، وكنت لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حضرني بَثِّي على التخلف، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بما أخرج من سخطه غداً؟ فلما قدم النبي عليه السلام، زال عني الباطل حين عرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فلما جلست بين يديه، قال لي: ما خَلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: فقلت: يا رسول الله والله إنِّي لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سَخَطِه بعذر، لقد(4/3183)
أُعطيت جدلاً.
ولكني والله لقد علمت أني لئن حدثتك اليوم بحديثٍ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنَّ الله أن يسخط علي، ولئن حدثتك حديث صدق، وتجد علي فيه، إني لأرجو عفو الله، والله ما كان لي عذر، ولله ما كنت قَطُّ أقوى ولا أيْسَر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وفعل رجلان مثل ما فعلت، وكانا قد شهدا بدراً، فكا لي فيهم أُسوة. وأخذ الناس يقولون: ألا اعتذرت كما اعتذر غيرك، ثم تستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزالوا بي (حتى) كدت أرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأُكذِّب نفسي. ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كلامنا الثلاثة من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرت إلى نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف.
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمَّا صاحباي فاستكَنَّا وقعدا في بيوتهما يبكيان،(4/3184)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلَدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوفُ الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلسه، فأسلم عليه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شتيه برد السلام؟ ثم أفكر في غيكره، ثم أبكي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عنِّي، ثم أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتزال أهلي عند تمام أربعين ليلة في حديث طويل.
فلم يزل حتى نزلت توبته بعد خمسين ليلة مع توبة صاحبيه.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين}.
والمعنى: يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله، {اتقوا الله}، أن تخالفوه، {وَكُونُواْ}، في الآخرة {مَعَ الصادقين} /، أي: مع النبي عليه السلام، وأصحابه.(4/3185)
كذلك، قال زيد بن أسلم، والضحاك، وابن جبير.
قال الضحاك: {مَعَ الصادقين}، مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
وقال ابن جريج: مع المهاجرين الصادقين.
وتأويل ذلك عند ابن مسعود: أن يَصْدُقوا في قولهم، وأنَّه نهي عن الكذب.
وكان يقرأ: " وكونوا مع الصادقين ".(4/3186)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله}.
يعني: في غزوة تبوك. أي لا ينبغي لهم ذلك، ولا ينبغي لهم [أن {يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ] عَن نَّفْسِهِ} في الجهاد. وإنما لم يكن لهم ذلك؛ لأنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ}، في سفرهم، أي: عطش، {وَلاَ نَصَبٌ}، أي: تعب: {وَلاَ مَخْمَصَةٌ}، أي مجاعة {فِي سَبِيلِ الله}، عز وجل: أي: في إقامة دين الله سبحانه {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار}، أي: لا يطئون أرضاً {يَغِيظُ الكفار}، وطؤهم [إياها] {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً}، أي: في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}، بذلك كله ثواب عمل صالح، {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}، أي: يجازيهم على أعمالهم.
وهذه الآية مخصوصة للنبي عليه السلام، لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا من عذر. فأما الآن فبعض الناس يحمل عن بعض. قاله قتادة.(4/3187)
وقال ابن زيد: كانت إذا كان المسلمون قِلة فرضاً، فلما كثروا نسخها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، فأباح التخلف لمن شاء.
وقال الطبري معنى الآية: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين تخلفوا، أن يفعلوا ذلك، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه.
و" النَّيل " مصدر: " نالني [ينالني] نَيْلاً "، فأنا " مَنِيلٌ ".
وليس هو من " التَّنَاولِ "، لأن " التناول " من " النَّوَالِ " يقال منه: " نُلْتُ، أَنُولُ "، من العطية.(4/3188)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
ثم قال تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً}.
أي: في سبيل الله وإظهار دينه {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}، أي: كتب لهم أجر عملهم {لِيَجْزِيَهُمُ الله}، أي: فعل ذلك ليجزيهم أحسن عملهم، أي: يجزيهم جزاء كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم.
قوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} إلى قوله: {مَعَ المتقين}.
المعنى: لم يكن لهم ليفعلوا ذلك، فظاهره خبر ومعناه نهي، أي: ما كان لهم أن يفعلوا ذلك، أي: لا يفعلوه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث قوماً، ليعلموا الناس الإسلام، فلما نزل قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله}، الآية، رجع أولئك من البوادي إلى النبي عليه السلام، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه.
فأنزل الله، عز وجل، عذرهم: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، وكره انصرافهم من البادية إلى المدينة، قال ذلك مجاهد.
ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، هَلاَّ أتى للخروج من(4/3189)
هؤلاء الذين يعلمون الناس {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، ويبقى الباقون ليتفقه أهل البوادي في الدين {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ}، أي: يخبرونهم بما تعلموا {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، مخالفة أمر الله، سبحانه.
وقال ابن عباس المعنى: ما كان المؤمنون لينفروا في غزوهم جميعاً، ويتركوا نبيهم عليه السلام، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، يعني: السرايا، فلما رجعت السرايا، ونزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون من النبي عليه السلام، قالوا للسرايا: إن الله عز وجل، قد أنزل على نبيكم عليه السلام، قرآنا بعدكم/ وقد تعلمناه. فتمكث السرايا يتعلمون مما أنزل بعدهم، ويمضي الآخرون الذين كانوا مقيمين للسرايا، فذلك قوله:(4/3190)
{لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين}.
فمعنى الكلام: فهلاَّ نفر من كل فرقة طائفة لتيفقه المتخلفون في الدين {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ}، أي: ليعلم القاعدون القادمين من السرايا ما تعلموا في مغيبهم، وهو قول قتادة.
وقال: هذا في الجيوش أمره الله [أن] لا يُعَرُّوا نبيهم عليه السلام، وأن تقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تتفقه في الدين وتنطلق طائفة تدعو قومها إلى الله سبحانه، فإذا رجعوا علمهم المقيمون ما نزل بعدهم.
ومثل ذلك قال الضحاك.
وعن ابن عباس أيضاً: أنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا النبي عليه السلام، [على مُضر](4/3191)
بالسنين أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تُقبل بأسرها إلى المدينة يعتلون في إقبالهم بالإسلام وليس كذلك، إنما بهم الجَهْد الذي نزل بهم، فأخبر الله، عز وجل، نبيه عليه السلام، أنهم ليسوا من المؤمنين، وأنهم لو كانوا مؤمنين ما أتوا بأجمعهم، ولكن يأتي بعضهم يتفقه في الدين، ويعود فينذر من بقي لعله يحذر ما حرم الله سبحانه، فإتيانهم بجماعتهم يدل على أنهم إنما أتوا من أجل الجَهْد لا من أجل الإيمان.
وقال عكرمة: إنما هو تكذيب للمنافقين، وذلك أنه لما نزل: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله}، الآية، قال المنافقون: هلك من تخلف، فألحقوا من عذره الله في التخلف بمن لم يعذره الله سبحانه، فأنزل الله عز وجل، عذراً ثانياً لمن تخلف من الأعراب بعذر، فقال {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}.
وقال الحسن: المعنى: لتتفقه الطائفة الغائبة، بما يؤيدهم الله عز وجل، من(4/3192)
الظهور على المشركين، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
أي: يخبر الغائبون في الجهاد الحاضرين، بما فتح الله عز وجل، عليهم فيزداد إيمانهم، وهو اختيار الطبري. قال: تتفقه الطائفة النافرة بما ترى من نصر الله عز وجل، { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} أي: يخبرونهم بما فتح الله سبحانه عليهم فيحذرونهم أن ينزل بهم بأس الله، سبحانه.
ف: " قومهم " على هذا القول: من بقي من أهليهم مشركين، يحذرونهم ليؤمنوا، وهو قول الحسن.
وهذا الآي دليل على جواز قبول خبر الواحد.
وقد رُوي: أنها نزلت في أعرابٍ قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة فَعَلَوْا الأسعار، وملأوا الطرق بالعَذِرَة فنزلت: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}.(4/3193)
ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار}.
والمعنى: أنَّها تحضيض من الله، عز وجل، للمؤمنين، أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم. والمراد به يومئذ: الروم، لأنهم كانوا سكاناً بالشأم، والشأم أقرب إلى المدينة من العراق. والفرض على أهل [كل] بلد أن يقاتلوا من يليهم دون الأبعد منهم، إلا أن يضطروا إلى ذلك، فيقاتلون الأبعد دون الأقرب.
وقد سئل ابن عمر عن قتال الروم والدَّيْلَم.
فقال: الروم أولى.
وكذلك قال الحسن.(4/3194)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}.
أي: وأيقنوا أن الله عز وجل، معكم عند قتالكم لهم ما اتقيتموه.
قوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ}، إلى قوله: {يَذَّكَّرُونَ}.
والمعنى: وإذا ما أنزل الله عز وجل، سورة من القرآن، فمن المنافقين من يقول: أيكم أيها الناس، زادته، / هذه السورة إيماناً؟
أي: تصديقاً بالله وآياته، قال الله عز وجل، عن نفسه، {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.
أي: وأما الذين آمنوا من الذين قيل لهم ذلك، {فَزَادَتْهُمْ}، السورة {إِيمَاناً}، وهم يفرحون بما أعطاهم الله عز وجل، من الإيمان واليقين.
ومعنى زيادة الإيمان هنا: أنهم قبل نزول السورة لم يكن لزمهم فرض ما في السورة التي نزلت. فلما نزلت قبلوها والتزموا ما فيها من فرض، فذلك زيادة في إيمانهم الأول.
وقال الربيع: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، أي: خشية.(4/3195)
{وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}.
أي: شك في دين الله، سبحانه {فَزَادَتْهُمْ} السورة إذا نزلت، {رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ}، أي: كفراً إلى كفرهم، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، سبحانه، ولم يؤمنوا بها، فازدادوا كفراً على كفرهم المتقدم، {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، أي: بالله، سبحانه، وآياته، جلت عظمته.
قوله: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}.
من قرأ بالياء، فهو توبيخ لهم، والمعنى: أو لا يرى هؤلاء المنافقون ذلك؟
ومن قرأ بالتاء، فمعناه: أو لا ترون، أيها المؤمنون، ما ينزل بهم في كل عام؟
ومعنى {يُفْتَنُونَ}، يختبرون في بعض الأعوام مرة، وفي بعضها مرتين، {ثُمَّ}، هم مع البلاء الذي يحل بهم {لاَ يَتُوبُونَ} من نفاقهم وكفرهم، ولا يذكرون ما يرون(4/3196)
من الحجج لله، عز وجل، فيتعظون بها.
و" الاختبار " هنا، قيل: بالجوع والجدب.
وقال قتادة، والحسن: يختبرون بالغزو والجهاد.
وقيل: إنه هو ما كان يُشيعَ المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فيفتتن بذلك من في قبله مرض.
وقال حذيفة: كنا نسمع كذبة أو كذبتين، فيفتتن بها فئام من الناس.(4/3197)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
يريد حذيفة أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل إسلامهم.
قوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} الآية.
والمعنى: وإذا ما أنزل الله عز وجل، سورة، وهم جلوس عند النبي عليه السلام، فكان فيها إظهار سرهم {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}، هل رآكم أحد إذ قلتم وتناجيتم، ثم قاموا فانصروا ولم يسمعوا قراءته.
وقيل: المعنى: إذا ما أُنزلت سورة فيها أسرارهم، {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ}، أحد إن قمتم، فإن قالوا: نعم، قاموا ولم يسمعوا القرآن.
{صَرَفَ الله قُلُوبَهُم}، أي: عن الخير والتوفيق، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}، أي: لا يفقهون عن الله، عز وجل، مواعظة، استنكاراً ونفاقاً.
وقد كره ابن عباس: أن يقال: " انصرفنا من الصلاة "، قال: لا يقال ذلك، فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: " قد قضينا الصلاة ".(4/3198)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وقيل عنه: ولكن قولوا: " قد صلينا ".
ومعنى: {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}: [قال بعضهم إلى بعض]، ولذلك قال: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ}، ولو كان من نظر العين لم يؤت بـ: " هل " بعده.
وقيل: النظر هنا، إنما النظر الذي يجلب الاستفهام، كقولك: " قد تناظروا أيهم أعلم "، و " أجتمعوا أيهم أفقه "، أي: لينظر أيهم أفقه.
قوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، إلى آخر السورة.
المعنى: لقد جاءكم، / أيها المؤمنون وأيها العرب، {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، أي: تعرفونه، لا من غيركم فتتهموه في النصيحة لكم.(4/3199)
وقيل معنى {أَنفُسِكُمْ} بشر مثلكم.
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}.
أي: ما عنتكم، أي: ما أدخل عليكم المشقة.
وأصل " النعت ": الهلاك.(4/3200)
وقيل معنى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، أي: عزيز عليه أن تدخلوا النار، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، أن تدخلوا الجنة.
وقيل معنى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، أي: حريص على هدى ضُلاَّلِكُم وتوبتهم.
وقال قتادة: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: عزيز عليه عَنَت مؤمنيكم.
وقال ابن عباس {مَا عَنِتُّمْ}: ما ضللتم.
وقال قتادة: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، أي: حريص على هُدَى ضُلاَّلِكُم.
وهذا مخاطبة لأهل مكة.(4/3201)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ}.
أي: إن تولى هؤلاء يا محمد، عن الإيمان، {فَقُلْ حَسْبِيَ الله}، أي: يكفيني الله، {لا إله إِلاَّ هُوَ}.
قال أبيُّ بن كعب: آخر آية نزلت:
{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ}، إلى آخر السورة.
{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، وقف تام عند الأخفش، لأن هذا مخاطبة لأهل مكة، وقوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ (رَّحِيمٌ)}، لكل المؤمنين.(4/3202)
/ بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
السفر الثالث
من سورة يونس إلى سورة مريم وبالله التوفيق ولا رب سواه](4/3203)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السلام مكية
قال ابن عباس: {الر}: أنا الله أرى. وروي عنه أنه أنا الله الرحمن.
وعنه أيضاً: " ألر " و " حم " و " ن " حروف الرحمن مقطعة.
وهو قول سالم بن عبد الله، وابن جبير، وهو اختيار الزجاج.(5/3205)
وقال قتادة: " هو اسم من أسماء القرآن ".
وقال عكرمة والحسن: هو قسم.
وروي عن قتادة أنه قال: اسم للسورة.
وقال مجاهد: هو فواتح السور.(5/3206)
وقيل: هي تنبيه. وهو اختيار الطبراني.
وقال بعض المتأخرين من أهل النظر: هذه الفواتح لا نعلم لها تأويلاً، ولا صح عن النبي عليه السلام، ولا اتفقت الأُمة على تفسيرها. والذي نعتقده في ذلك أنّا إنما كلفنا تلاوة تنزيلها، ولم نكلف معرفة تأويلها. (ولا يعرف تأويلها) من جهة العقل.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا القول يلزم قائله أن يكون مثله في كل آية مشكلة لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تأويل، ولا اتفقت الأُمة على تأويلها، فيعطل معرفة أكثر القرآن، ويقول: إنما كلفنا التلاوة لا غير. وأكثر ذلك في الأحكام يقع، فيعطل أحكاماً كثيرة على مذهبه (وكيف) يكون ذلك؟ وهل أنزله الله إلا لنعلم تأويله،(5/3207)
ونتدبره كما قال: {ليدبروا آيَاتِهِ} [ص: 29].
قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} " أي: تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب ".
(وقيل: المعنى: هذه آيات الكتاب).
وقال مجاهد: معنى {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} يعني: آيات التوراة والإنجيل، وكذلك قال قتادة.
وعن مجاهد: {آيَاتُ الكتاب الحكيم} يعني آيات القرآن.
وهو اختيار الطبري: قال: لأنه لم يجر للتوراة، والإنجيل ذكر قبل هذا. و (الآيات): العلامات. و (الكتاب): " اسم من أسماء القرآن.
و (الحكيم) معناه: المحكم عند أبي عبيدة وغيره.(5/3208)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} إلى قوله {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (أكان): (الألف) ألف استفهام، معناه: التوبيخ، والتقرير، والإنكار لتعجبهم من بعث الله عز وجل رجلاً منهم، رسولاً إليهم.
والمعنى: ليس بعجب قد علمتم أن الرسل من قبلكم كانت من بني آدم، ولم تكن ملائكة. إنما تأتي الملائكة إلى الرسل بأمر الله ونهيه (سبحانه) وتأتيهم في صورة بني آدم. إذ لا يحتمل بنو آدم معاينة الملائكة.
وقرأ ابن مسعود: (أكان للناس عجب) بالرفع جعل " أن أوحينا " في(5/3209)
موضع نصب. وهو بعيد، لأن المصدر معرفة. فهو أحق أن يكون اسم (كان) (و) (عجباً): الخبر، لأنه نكرة.
ورفع " عجباً " على اسم " كان " جائز على (ما) بعده. (و) اللام في " الناس " متعلقة بـ " عجب "، لا تتعلق بـ " كان ".
ومعنى الآية: أن الله، جلّ ذكره، لما بعث محمداً رسولاً أنكر جماعة من العرب ذلك، وقالوا: (الله) أعظم من أن يبعث بشراً رسولاً. فأنزل الله ( عز وجل) : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس}، ونزل / {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] هذا قول ابن عباس.
وقال ابن جريج: عجبت قريش أن بعث رجلاً منهم، فنزل(5/3210)
ذلك. وروري أن أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب فأنزل الله ( عز وجل) ذلك.
فالناس هنا: أهل مكة. وهذه الآية فيها ضروب من أخبار:
ابتدأ تعالى بعجب، ثم أخبر بالشيء الذي يوجب العجب عندهم، وهو الوحي، ثم أخبر عمن أنزل عليه ذلك الوحي، ثم أخبر بالشيء الموحى ما هو. وهو الإنذار، ثم أخبر بالبشارة للمؤمنين وأخبر بالمبَشر به ما هو؟ وهو: كون القدم الصدق للمؤمنين عند ربهم، ثم أخبر بجواب الكافرين عن ذلك: (كل ذلك) في آية واحدة. ومعنى {قَدَمَ صِدْقٍ}: قال الضحاك: " ثواب صدق ". وقال(5/3211)
مجاهد: " الأعمال الصالحة "، وهو اختيار الطبري. وقال ابن عباس " أجراً حسناً (بما) قدموا من (صالح) أعمالهم. وعن ابن عباس: {قَدَمَ صِدْقٍ}: ما تقدم لهم من السعادة في اللوح المحفوظ.
وقال قتادة، والحسن، وزيد بن أسلم: {قَدَمَ صِدْقٍ} وهو محمد، صلى الله عليه وسلم، شفيع لهم.
وعن الحسن أنه قال: {قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} هو: مصيبتهم في نبيهم صلى الله عليه وسلم.
والقدم في اللغة على أربعة أوجه: قدم الإنسان مؤنثة، والقدم السابقة: العمل الصالح مؤنثة أيضاً، والقدم: الشجاع مذكر، والقدم المتقدم: مذكر أيضاً.(5/3212)
وفي الحديث: " إنَّ جَهَنَّمَ لا تَسْكن حَتّى يَضَع الجبَار فيها قَدَمهُ "
وفي (رواية) أخرى: " حَتّى يَضَع الله فِيها قَدَمَهُ ".
قال الحسن: معناه يجعل (الله) فيها الذين قدَّمهم لها. فهم قدم الله عز وجل إلى النار، والمؤمنون قدمه إلى الجنة.
ومن رواه: (حَتَّى يَضَع الجبار فيها قدمه) فمعناه (مثل) ما ذكرنا، أن جعلت الجبار اسماً لله ( عز وجل) .
وقيل " الجبار اسم لجنس يدل على جميع الجبارين على الله (سبحانه). فالمعنى: حتى يضع الجبارون على الله (سبحانه) فيها أقدامهم. أي: حتى يدخلوها. (فعند ذلك تقول جهنم: قط قط) أي: كفى كفى.(5/3213)
وفي هذا الحديث اختلاف روايات بألفاظ مختلفة، لكنا (قد) فسرنا موضع الإشكال منه ..
{عِندَ رَبِّهِمْ}: وقف حسن عند أبي حاتم والأخفش. وقال: تفسيرهما ليس بتمام حسن؛ لأن {قَالَ الكافرون} جواب لما قبله.
ومن قرأ " لساحر " فمعناه: هذا النذير لساحر. يعنون النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قرأ " لسحر " فمعناه: هذا الذي
انذرنا به سحر، يعنون القرآن.(5/3214)
والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد، لأنهم إذا جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم ساحراً فقد أخبروا أنه أتاهم بالسحر، وهو القرآن. وإذا جعلوا القرآن سحراً فقد أخبروا أن الذي أتاهم به ساحر. إذ السحر لا يكون من ساحر. والساحر لا يسمى بهذا الاسم حتى يأتي بالسحر، ويعرف منه ذلك.
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض}. والمعنى: إن الذي تجب له العبادة الله الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع في ستة أيام /.
{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} " مدبراً للأمور، قاضياً في خلقه ما أحب ".
{مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}: أي: لا يشفع شافع يوم القيامة في أحد إلا من بعد أن يأذن له في الشفاعة كما قال: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وكما قال: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. وكذلك {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28](5/3215)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
{ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} أي: هذا الذي هذه صفته مولاكم فاعبدوه.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}: أي: " تتعظون جميعاً، وتعتبرون بهذه الآيات والحجج.
قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} إلى قوله {يَعْلَمُونَ} {وَعْدَ الله}: مصدر، والمعنى: وعدكم (الله) أن يحييكم بعد مماتكم (وعداً حقاً) عند سيبويه بمعنى: وعد الله في حق، فلما حذف حرف الجر نصب، والمعنى: إليه معادكم جميعاً.
وقرأ أبو جعفر يزيد " أنه " بفتح الهمزة: وهي في موضع نصب بمعنى لأنه يبدأ، (مثل) لبيك إن الحمد والنعمة لك (لا شريك لك).(5/3216)
وقال أبو حاتم: هي نصب بـ " وعد ". أي: وعد الله أنه يبدأ الخلق. وقال الفراء: موضعها رفع بحق كأنه قال: حقاً ابتداؤه. ومن كسر (إن) وقف على حقاً)، ومن فتح لم يقف على (حقاً).
{إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} أي: انشأناه قبل أن لم يكن شيئاً ثم يميته، ثم يعيده في الآخرة كهيئته.
{لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي: ليثبت المؤمنين على أعمالهم بالعدل والإنصاف.(5/3217)
ثم أخبر بما أعد للكفار لتجتمع الأخبار عما أعد (الله عز وجل) للفريقين فقال: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ}: وهو الذي قد تناهى في الحر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه ليتساقط من أحدهم حين يدنيه منه فروة رأسه ".
وأصل الحميم محموم: فهو " فعيل " في موضع " مفعول ".
{وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: ولهم عذاب مؤلم بكفرهم. (ثم) قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} من قرأ " ضياءً " (بهمزة) متطرفة فهو الأصل، لأنه من الضوء. فالهمزة لام الفعل، والياء في " ضياء " بدل من واو(5/3218)
لانكسار ما قبلها.
ومن همز موضع الياء فإنما يجوز على القلب، وذلكأن تقلب الهمزة التي هي لام (الفعل) في موضع الياء التي هي عين. فتصير الياء بعد ألف متطرفة. فتنقلب همزة فيصير وزنه " فلاعاً ".
وقوله: " منازل " منصوب على حذف المضاف. والمعنى: وقدره منازل.
(و) قيل: المعنى وقدر له منازل، ثم حذف اللام، وعدى الفعل كما قال: {كَالُوهُمْ} [المطففين: 3]. والمعنى: إن ربكم الله {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [يونس: 3]، ثم فعل كذا {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي: قدر القمر منازل. لا يقصر دونها، ولا يجاوزها يكون كل ليلة بمنزلة من المجوم، وذلك في ثمانية وعشرون منزلاً في كل شهر، وهو قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39].(5/3219)
{لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي: فعل ذلك كي تعلموا عدد السنين، أي: دخولها، وخروجها، وحسابها.
{مَا خَلَقَ الله ذلك} أي: ما خلق الله الشمس والقمر والسماوات والأرضين {بالحق}.
ومن قرأ " يفصل " بالياء رده على ذكر الله لقربه منه، فأسندالفعل إليه بلفظة التوحيد.
ومن قرأ بالنون أجراه مجرى ما أتى في القرآن بلفظ الجميع، من/ " فصلنا، ونفصل " وذلك كثير.
ومعنى (نفصل الآيات): نبين الحجج، والأدلة لقوم يعلمون. {ذلك إِلاَّ بالحق}: وقف لمن قرأ بالنون.(5/3220)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
ومن (قرأ) بالياء لم يقف عليه، لأن الفعل مسند إلى الاسم المذكور المتقدم.
قوله: {إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} إلى قوله: {يَكْسِبُونَ}
والمعنى: إن في ذهاب الليل، ومجيء النهار، وذهاب النهار، ومجيء الليل، وإحداث كل واحد منهما بعد ذهابه، واضمحلاله لعلامات {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}: على الوحدانية والقدرة. ويشير إليها، ويخبر عنها: فالصامت لا يقدر على النطق، لأن مسكتاً أسكته، وهو الله (سبحانه)، والناطق لا يعجز عن النطق، لأن منطقاً أنطقه، وهو الله ( عز وجل) ، والمتحرك لا يعجز عن الحركة، لأن محركاً حركه، وهو الله ( عز وجل) : فكلٌ فيه دليل على الوحدانية والقدرة والملك.
{وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} معناه: من النجوم والشمس والقمر والجبال والشجر وغير ذلك. (لآيات) أي: لحجج وعلامات على توحيد الله (جلت عظمته).(5/3221)
{لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}: وهذه الآية تنبيه من الله عز وجل لعباده (على توحيده) وربوبيته.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي: لا يخافون الحساب والبعث. تقول العرب: " فلان لا يرجو فلاناً " أي: لا يخافه، ومنه قوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]: أي تخافون.
وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد.
وقال غيره: بل يقع بمعنى الخوف في كل موضع دل عليه المعنى.
قوله: {وَرَضُواْ بالحياوة الدنيا} أي: جعلوها عوضاً من الآخرة {واطمأنوا بِهَا} أي: سكنوا إليها.
{والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي: عن أدلتنا وحجتنا معرضون، لاهون.
{أولئك مَأْوَاهُمُ النار} أي: من هذه صفتكم مصيرهم إلى النار.
{بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (في) الدنيا من الآثام.(5/3222)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
قال قتادة: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} - الآية - إذ شئت رأيته صاحب دنيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يرضى، ولها يسخط. وقال ابن زيد: هم أهل الكفر.
قوله {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} إلى قوله {العالمين}.
المعنى: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعلموا بطاعة الله {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي: يرشدهم بإيمانهم إلى الجنة.
وقال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام، قال: " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة يقول له: من أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صدق. فيقول (له): أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر بضد ذلك في الصورة(5/3223)
ينطلق به عمله حتى يدخله النار ".
وقيل: المعنى يهديهم ربهم لدينه بإيمانهم به. أي: من أجل تصديقهم هَدَاهم.
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم}.
أي: في بساتين قد نعّم الله فيها أهل / طاعته.
ومعنى {مِن تَحْتِهِمُ}: من دونهم وبين أيديهم، وليس هو أنها تجري (من) تحت ما هم عليه جلوس من أرض ونحوها. وهذا كما تقول: بلد كذا تحت بلد كذا. أي: بجوارها وبين أيديها. لا أنها تحتها: إحداهما فوق الأخرى. ومثل هذا قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24]. ومعلوم أن السري ليس تحتها، إذ كان السري: الجدول، وإنما معناه: أنه جعله دونها، أي: بين يديها. ومن هذا ما حكى(5/3224)
الله ( عز وجل) لنا من قول فرعون: {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} [الزخرف: 51] ومعلوم أن نيل مصر لم يكن تحته يجري، وهو عليه، وإنما كان (يجري) بجواره، وبين يديه ودونه.
ثم قال تعالى إخباراً عن أهل الجنة {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم}.
حكى سيبويه: الدعوى بمعنى الدعاء. فالمعنى دعاؤهم في الجنة: سبحانك اللهم.
قال ابن جريج: وإذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم فيأتيهم الملك بما يشتهون فيسلم عليهم، فيردون عليه (السلام) فذلك قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}. فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله تعالى:(5/3225)
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}.
والتحية: البقاء. ومنه قوله: " التحيات لله "، والتحية أيضاً: الملك، والتحية هي استقبال الرجل بالمُحَيَّا: وهو الوجه بما يسره من الكلام. وقيل: التحية في هذا بمعنى الحياة، أي: يُحيي بعضهم بعضاً.
إنهم يحيون ولا يموتون، ويسلمون من كل شيء يحذرون. والسلام بمعنى السلامة.
وقيل: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي: تحيه بعضهم لبعض فها سلام. أي: " سلمت وأمنت مما ابتلي به أهل النار ".
وقيل: المعنى إن الله ( عز وجل) يحييهم بالسلام إكراماً منه (لهم).
وقال سفيان: إذا أرادوا الشيء قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم ما(5/3226)
دعو (ا) به: ومعنى {سُبْحَانَكَ اللهم}: تنزيهاً لك يا ألله مما أضاف إليك أهل الشرك من الكذب.
(وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن: سبحان الله، فقال: مفسراً تنزيهاً (لله) عن السوء).
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: هي كلمة رضيها الله ( عز وجل) لنفسه. فسبحان الله: كلمة ينزه بها (الله عن كل) فعْل مذموم أو متهم.
(أللهم): وقف و (سلام): وقف. ومذهب سيبويه في {أَنِ الحمد للَّهِ} أنها مخففة من الثقيلة، والمعنى: أنه الحمد لله رب العالمين).(5/3227)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
وأجاز المبرد أن يعملها - وهي مخففة - عملها مشددة. والرفع أقيس، لأنه قد زال منها شبه الفعل باللفظ لما خففت، ومن أعملها شبهها بالفعل الذي قد حذف منه وأعمل. نحو: " لم يكُ ". وقرأ بلال بن أبي بُرْدَةَ: " أنَّ الحمدَ " بالتشديد، ونصب " الحمد ".
قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير}
قوله: {استعجالهم بالخير} تقديره عند سيبويه: " تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ثم حذف تعجيلاً، وأقام صفته (مقامه)، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه، وحكى " زيد: شرب الإبل " أي: يشرب شرباً مثل شرب الإبل.(5/3228)
وقال الأخفش والفراء: التقدير: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ} الشر مثل استعجالهم / بالخير، ثم حذف المضاف. ويلزمهما على هذا أن يجيزا. زيد الأسَد فينصب " الأسَد " أي: مثل الأسَد. وهذا لا يجيزه أحدٌ.
ومعنى الآية: ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر - أي: فيما عليهم فيه مضرة في نفس، أو مال، أو ولد، وذلك عند الغضب - كما يستعجلون بالخير إذا دعوا في سؤالهم الرحمة، والرزق.
{لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لماتوا. قال مجاهد: هو قول الإنسان لولده، ولماله إذا غضب: اللهم لا تُبَارِكْ فِيهِ والْعَنْهُ ونحو ذلك، ولو عجل الله الإجابة فيه كما يريدون أن تستعجل لهم الإجابة في الخير إذا دَعَوا لأهلكهم.
وقد قيل: إن هذا إنما هو قولهم:(5/3229)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. فلو عجل لهم ذلك لهلكوا.
ثم قال تعالى: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} (معناه): ندع الذين لا يخافون البعث، لا نُهْلِكُهُم إلى مدتهم، ولكن نذرهم {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالهم يَتَحَيَّرُونْ. وهو مثل قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178].
قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً}. قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي مضطجِعاً، ف " لجنبه " في موضع الحال.
قوله: {أَوْ قَاعِداً} عطف عليه على المعنى، وقيل: المعنى وإذا مس الإنسان الضر على إحدى هذه الأحوال دعانا. فالحال في القول الأول: من الضمير في {دَعَانَا} وفي القول الآخر: من (الإنسان). والعامل في الحال " مسّ "، وفي القول الاخر: " دعا ".(5/3230)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
وقيل: المعنى إذا مسه على إحدى هذه الأحوال دعانا على إحدى هذه الأحوال، فيكون في الكلام حذف {لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} مرة أخرى، {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ}: أي: استمر على طريقته التي كان عليها، قبل أن يمسّه الضر، ونسي ما كان فيه، كأنه ما أصابه ضر، وكأنه ما دعا، وما استجيب له، وما كشف عنه ضره، فعاد إلى شركه كأنه لم يدع الله عز وجل في ضر (مسه).
قوله: {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: أي: كما زين له استمراره على ما كان عليه قبل نزول الضُّر به، بعد كشف الله ( عز وجل) عنه، {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ}: أي: للذين أسرفوا في العصيان، والكذب على الله عز وجل ورسوله، {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من معاصي الله تعالى.
{أَوْ قَآئِماً}: وقف، {مَّسَّهُ}: وقف.
قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} إلى قوله {كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(5/3231)
معنى الآية: أنها تحذير للمشركين أن يصيبهم ما أصاب من كان قبلهم إذا أشركوا. ومعنى {لَمَّا ظَلَمُواْ}: لما أشركوا.
{وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}: أي: من عند الله عز وجل بالحجج والبراهين.
وقوله: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: لم يكونوا ليوفِّقوا إلى الإيمان لِمَا تقدم في علم الله عز وجل منهم.
وقيل: المعنى ما كانوا ليؤمنوا جزاءً منه (لهم) على كفرهم طبع على قلوبهم، ودل على ذلك قوله: {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي: نطبع على قلوبهم، فلا يؤمنون جزاء بكفرهم.
وقيل: المعنى: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم بشركهم، كذلك أفعل بكم بشرككم، وتكذيبكم رسلكم إن أنتم لم / تتوبوا وتؤمنوا.
وقيل المعنى: ما كانوا ليؤمنوا جزاء بما كذبوا به أَوَّلاً بعد أن تبين لهم الحق، فكان ما ختم لهم به من ترك الإيمان عقوبة لهم على التكذيب أوَّلاً.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} أي: جعلناكم أيها المخاطبون تخلفون من مضى من القرون الهالكة بشركهم {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}:(5/3232)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
أي: كيف عملكم من عمل من كان قبلكم من القرون. وقد علم تعالى ما هم عاملون، ولكن أراد ظهور الأعمال التي تقع عليها المجازاة، فيستحقون العذاب، كما استحق من كان قبلكم إن أشركتم، أو الثواب الجزيل إن آمنتم.
والعامل في " كيف (تعملون) ": لام " لننظر ".
وروى عبد الحميد بإسناده عن ابن عامر {لِنَنظُرَ} بإدغام النون في الظاء وهو بعيدٌ جدّاً.
قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} إلى قوله {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
والمعنى: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين القرآن، وهو الآيات البينات: أي: الواضحات {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا}: أي: لا يخافون العقاب، ولا يصدقون بالبعث.
{ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ}: أي غيِّره، أي: اجعل مكان الحلال حراماً،(5/3233)
واجعل مكان الحرم حلالاً، ومكان الوعيد وعداً، ومكان الوعد وَعيداً.
ثم قال تعالى ذكره لنبيه أن يقول لهم: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي}: أي: ليس ذلك إليَّ، إنما الأمر إلى الله عز وجل.
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. قال قتادة: هذا قول مشركي أهل مكة.
وقوله: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} يريدون ليس فيه ذكر البعث (والنشور وسبُّ) آلهتنا.
ثم قال الله (تعالى ذكره): قل يا محمد لهم {لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ}: أي: لو شاء الله ما أنزل علي، فيأمرني بتلاوته عليكم، ولو شاء الله ما أنزله علي، فيأمرني بتلاوته عليكم، ولو شاء لم يعلمكم به.
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ}: أي قد كنت فيكم أربعين سنة قبل أن ينزل علي القرآن فلم نتل عليكم شيئاً ولو كنت منتحلاً ما ليس لي بحق من القول(5/3234)
كنت قد انتحلته أيام شبابي وحداثتي قبل الوقت الذي تلوت فيه عليكم هذا القرآن.
قال ابن عباس: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ}: أي: ولا أعلمكم به.
وقال ابن جريج: ولا حذرتكم به.
وقال الضحاك: ولا أشعركم به.
وقرأ الحسن: " ولا أدرأتُكم به بالألف والتاء: وهي غلط عند النحويين، غير أن أبا حاتم، قال: يريد الحسن: ولا أدْرَيْتُكُمْ به، ثم أبدل من(5/3235)
الياء ألفاً على لغة بني الحارث بن كعب الذين يبدلون من الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفاً. وعلى ذلك تأوَّل قوم قراءة من قرأ {إِنْ هذان} [طه: 63]. وهذا القول من أبي حاتم يدل على أن الحسن لم يهمز (والرواية عن الحسن بالهمز) والتاء. ولو كانت بألف بعد الراء من غير همز، لكان لها وجه آخر وهو أن يكون من دَرَأتُ: أي: دفعت. فيكون المعنى: ولا أمرتكم أن تدفعوه. فأما الهمزة فبعيد.
وقد حُكِيَ أن بعض العرب يهمز الحرف إذا ضَارَعَ المهموز، فيهمزون غير المهموز. حكى الفراء عن امرأة قالت: رثَأْتُ زوجي بأبيات. ويقولون: لبَّأتُ بالحج، وحَلأَّتُ السَّويق، فيهمزون، لأَن حَلأْت يقع في دفع العطاش من الإبل(5/3236)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
فيُهمز. ولَبَّأْتُ يذهب / به إلى اللبأِ. وَرَثَأْتُ يذهب إلى الرَّثِيئَةِ: وهو أن يحلب على الرايب. يقال: أرثأت اللبن بالهمز.
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ}: أي: أربعين سنة، " تعرفونني بالصدق والأَمانة، لا أقرأ، ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إن هذا لا يكون إلا من عند الله ".
قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله {يُشْرِكُونَ}
والمعنى فمن أشد ظلماً يا محمد {مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً}: أي: اختلق على الله الكذب {أَوْ كَذَّبَ بآياته}: أي: بحُجَجِهِ، وَرُسله.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} " الهاء " كناية عن الأمر، و " المجرمون ": الذين اجترموا من الكفر، أي: اكتسبوه.
ثم وصفهم الله تعالى، فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}:(5/3237)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
وهي الأصنام، لا يضرهم ترك عبادتها، ولا تنفعهم عبادتها.
وقال الطبري: المعنى: " ولا تنفعهم عبادتها في الدنيا، ولا في الآخرة.
ثم قال عنهم: {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله}: كانوا يعبدون الأصنام، رجاء أن تشفع لهم عند الله سبحانه.
ثم قال: (قل) - يا محمد - {أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض}: أي: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات، ولا في الأرض أن تشفع الآلهة لأحد.
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أي تنزيهاً له وعلوّاً عن شركهم.
قوله: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} إلى قوله: {مِّنَ المنتظرين}
المعنى: ما كان الناس إلا أهل دين واحد، فافترقت بهم السبل.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لولا أنه سبق في علمه ألا(5/3238)
يهلك قوماً إلا بعد أن يملي لهم، فتنقضي آجالهم " {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}: بأن يهلك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق ".
قال مجاهد: كان الناس وقت آدم على دين واحدٍ، ثم اختلفوا إذ قتل أحدهم ابْنَيْ آدم أخاه.
وقيل: يراد بالناس هنا: العرب.
وقيل المعنى: إن كل مولود يولد على الفطرة، ثم يختلفون بعد ذلك.
والأُمة: على خمسة أوجه:
- الأُمة: " العُصْبة، والجماعة نحو {أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66]
ونحو: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ} [الأعراف: 159].
- والثاني: أن تكون بمعنى " الملة "، نحو: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}. ومثله الحرف الذي في هذه السورة.(5/3239)
{وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}: أي: على ملة الإسلام، ومنه: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً} [المؤمنون: 52]، ومنه {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8]: أي: أهل ملة.
- والثالث: أن تكون بمعنى " السنين والحين " نحو: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] ونحوه {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45].
والرابع: أن تكون الأُمة بمعنى " قوم " نحو قوله: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي: قوم أكرم من قوم ومنه {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} [الحج: 34] أي قوم.
- والخامس: أن تكون الأُمة بمعنى " الإمام ". نحو قوله:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] أي: إماماً، يقتدى به في الخير.
ثم أخبر عنهم تعالى فقال: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي: يقول(5/3240)
هؤلاء المشركون: هلا نزل عليه آية من ربه، يعلم بها أنه محقٌّ، صادق قال الله عز وجل: قل لهم يا محمد: {إِنَّمَا الغيب للَّهِ}: أي لا يعلم أحد، لو لم يفعل ذلك إلا هو، لأنه عالم الغيب.
{فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}: أي: انتظروا قضاء الله سبحانه بيننا وبينكم، بتعجيل العقوبة للمبطل /، وإظهار الحق للمحق.
وقيل: المعنى: فانتظروا نصر الله المحق، وخذلانه المبطل. {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}: أي: إني معكم منتظر من المنتظرين. لذلك. قوله: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} إلى قوله {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} جواب إذا محذوف عند سيبويه. والتقدير: من بعد ضراء مستهم مكروا. والعرب تجتزئ بإذا في جواب الشرط عن " فعلتُ وفعلوا ".
والناس هنا: المشركون كما قال: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6].(5/3241)
قال الحسن: هو المنافق، والمعنى وإذا أذقنا الكفار فرجاً من بعد كرب أصابهم، ورخاء بعد شدة أصابتهم {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: " استهزاء، وتكذيب ".
وقيل: يحتالون حتى يجعلوا سبب الرحمة في غير موضعه. قل لهم يا محمد: {الله أَسْرَعُ مَكْراً} أي: أسرع استدراجاًَ لكم وعقوبة.
{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي: إن الحفظة يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
ثم عدد تعالى نعمه فقال: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} وقرأ ابن عباس: " يَنْثُرُكم " من النثر: أيْ: يبسطكم براً وبحراً.
{حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك}: وهي السفن {وَجَرَيْنَ بِهِم} يعني: السفن(5/3242)
بالناس. {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، وفرح بذلك الناس {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}، أي: جاءت السفن ريح.
وقيل: جاءت الريح الطيبة ريحٌ عاصف، والعاصف: الشديدة.
{وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي: من كل جانب.
{وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي: أيقنوا بالهلاك.
{دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: أخلصوا الدعاء له عز وجل، دون أوثانهم، وآلهتهم.
(و) قيل: (لأنهم) يقولون: " آهيا شَرَاهِيّاًً ": تفسيره: يا حيُّ يا قيومُ {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} على نعمك (وتخليصك) (إيانا مما نحن فيه).
{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض}، والفلك تذكر، وتؤنث، وتكون واحداً(5/3243)
وجمعاً (فمن جعلهما جمعاً) جعل واحدهما فلكاً كوُثْنٍ ووثَنٍ.
وقوله: {إِذَا كُنتُمْ}، ثم قال: {وَجَرَيْنَ} فهذا من الرجوع من المخاطبة إلى الإخبار، ثم قال إخباراً عن فعلهم:
{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي: يكفرون، ويعملون بالمعاصي على ظهر الأرض.
وأصل النجاء: البعد من المكروه ومنه الاستنجاء، لأن الإنسان يبعد به عن نفسه الأذى.
ثم قال تعالى: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}:
أي: عليها يرجع. وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه متاع الحياة الدنيا.
والبغي في اللغة: التطارُحُ في الفساد.
ومن قرأ {مَّتَاعَ} بالرفع احتمل أن يكون خبر بغيكم، ويجوز أن يكون(5/3244)
خبر ابتداء محذوف، وتكون {على أَنفُسِكُمْ} خبر بغيكم. وتقدير ذلك " متاع الحياة الدنيا " أو هو متاع الحياة الدنيا، وبَيْنَ الرفعين فرق: وذلك أنك إذا رفعت " متاع " على أنه خبر " بغيكم "، كان المعنى: إنما بغي بعضكم على بعض متاع الحياة الدنيا مثل: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61]، و {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128].
وإذا رفعتَ " المتاع " على إضمار مبتدأ، وجعلت " على أنفسكم " خبر بغيكم كان المعنى: إنما فسادكم راجعٌ عليكم مثل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وهو معنى قراءة / من قرأ بالنصب. ويكون النصب على المصدر أي: تمتعون متاع الحياة الدنيا.
{ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: إلينا ترجعون في الآخرة، فنخبركم بعلمكم، ونجازيكم عليه.(5/3245)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{بِغَيْرِ الحق}: وقف. (وقف)، إن جعلت {على أَنفُسِكُمْ} منصوباً، (أ) ومرفوعاً على إضمار مبتدإ.
قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء} إلى قوله {مُّسْتَقِيمٍ}.
قرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية: " وأَزْيَنَتْ " على وزن " أَفْعَلت ": أي جاءت بالزينة. وجاء على أصله غير مُعْتَل " كاستحوذَ ".
وقرئ: " وازْيَّانَّت " مثل اسْوَادَّت.(5/3246)
وروى المقدميُّ " وازّايَنَتْ والأصل تَزَايَنَتْ على " تَفَاعَلَتْ ". والمعنى: إنما مثل ما تتفاخرون به في الدنيا، وتتباهون به من زينتها وأموالها، (مع) ما خالط ذلك من التنفِيض والتكدير والفناء والموت: كماء نزل من السماء فنبت بذلك أنواع النبات مما يأكل الناس: كالحنكة، والشعير، ومما تأكل البهائم من أنواع النبات. فإذا تم نباته، وحسُن، وأيقن أهل الزرع أنهم قد ملكوهُ، وأيقنوا بتمامه، وحصاده، وأن الحشيش لأنعامه مرعى {أَتَاهَآ أَمْرُنَا}: أي: أتى الأرض قضاءُنا في الليل أو في النهار، فجعلنا ما عليها حصيداً، أي: " مقطوعاً مقلوعاً ". والمراد به ما على الأرض، واللفظ للأرض.
{كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} أي كأن لم يكن ذلك الزرع، والنبات على(5/3247)
ظهرها بالأمس، (يقال: غني فلانٌ) بالمكان، إذا أقام به، والمعنى: كأن لم تعمُر بالنبات بالأمس.
والمغاني: المنازل التي يعمرها الناس. وغنينا بمكان كذا أي: نزلناه. والمعنى: وكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم فينفيها.
قال ابن عباس: فاختلط به نبات الأرض: فنبت بالماء من كل لون.
ثم قال: {كذلك نُفَصِّلُ الآيات}: (أي): كما بينا لكم أيها الناس مثال الدنيا، كذلك نبين حججنا، وأدلتنا لمن تفكر، ونظر، واعتبر. والهاء في {أَتَاهَآ أَمْرُنَا} تعود على الأرض. وقيل: على الزخرف. أي: أتى زخرفها أمرنا.
وقيل (على) الزينة: أي: أتى زينَتها أمرُنا ليلاً.
وقرأ مَرْوَ (ا) ن على المنبر: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ(5/3248)
قَادِرُونَ عَلَيْهَآ}. وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها.
وذكر أن كذلك قرأها ابن عباس.
وقال ابن عباس: كذلك أقرأني أبي بن كعب.
وقال قتادة (كأن لم نغن بالأمس): " كأن لم تعش، كأن لم تنعم ".
وكان أبو سلمة بن عند الرحمن يقرأ في قراءة أبي: كأن لم تغن بالأمس، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. ولا يحسن(5/3249)
أن يقرأ أحدٌ بهذه القراءة، لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون.
وقوله: {يَتَفَكَّرُونَ}: وقف، ووقَفُ أصحاب نافع {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ}، وكذلك {فاختلط} [الكهف: 45] في الكهف.
وتأويل ذلك " كماء أنزلناه من السماء فاختلط بالأرض " ثم استأنف فقال: {بِهِ نَبَاتُ الأرض}: أي بالماء نبات الأرض.
ومن / جعل الوقف (والأنعام) رفع النبات.
{فاختلط}: أي: فاختلط (نبات الأرض) بالماء.
ثم قال تعالى: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} أي: يدعو إلى الجنة التي يسلم من دخلها من الآفات.(5/3250)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
وقيل: المعنى يدعو إلى دَارتِهِ لأنه تعالى السلام، وداره الجنة.
{وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي يوفِّقُ من يشاء إلى الإسلام وهو طريقهُ المستقيم الذي لا عوج فيه: وهو سبب رضاه، ورضاه سبَبُ دخول الجنة.
قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} إلى قوله {خَالِدُونَ} والمعنى: للذين أحسنوا عبادة الله عز وجل في الدنيا الحسنى وهي الجنة، (وزيادة)، يعني: النظر إلى وجهه جل ذكره، روي ذلك (عن) عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ.
وروى صهيب أن رسول الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار(5/3251)
النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إنَّ لكم عند الله موعداً، يريد أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل الله موازيننا، ويبيّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجينا من النار. فيُكْشَفُ الحجاب، وينظرون إليه جلَّ ذكره. قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من ذلك).
وهذا القول قول أبي موسى الأشعري، وحذيفة، قاله ابن أبي ليلى، وغيرهم: (إن الزيادة): النظر إلى وجه الله تعالى، وذكر كل واحد حديثاً (مثل) معنى الحديث المذكور عن النبي عليه السلام.(5/3252)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، وقاله النخعي.
وقال ابن عباس: الحسنى واحدة من الحسنات بواحدة، والزيادة: التضعيف إلى تمام العشرة على الواحدة. وهو مثل قوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]: أي: يزيده من فضله.
وقال الحسن: الزيادة هو المجازاة بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
وقال مجاهد: الحسنة بحسنة، وزيادة مغفرة من الله ورضوان.
وقيل: الزيادة: ما أعطاهم الله عز وجل في الدنيا ولا يحاسبهم به يوم القيامة.(5/3253)
وقال ابن سيرين في قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]: إنه النظر إلى الله جلَّ ذكره.
وعن ابن عباس أيضاً: {أَحْسَنُواْ} قالوا: لا إله إلا الله، {الحسنى}: الجنة.
(وروى أبو موسى الأشعري أن النبي عليه السلام قال: إن الله عز وجل يبعث يوم القيامة منادياً ينادي أهل الجنة بصوت يسمع به أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة. فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله.
وقوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ}: أي لا تغشى وجوههم كآبة والقتر: الغبار وهو جمع قترة.(5/3254)
وقيل: هو الغبار الذي معه وساد، روي ذلك عن ابن عباس.
وقال ابن أبي ليلى: ولا يغشاهم ذلك بعد نظرهم إلى الله سبحانه: فهؤلاء الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة، ماكثون فيها أبداً.
وقيل: الهاء في " فيها " للحسنة، وقيل: للزيادة، وقيل: للحسنى، والزيادة، والجنة.
ثم قال: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}: (أي والذين عملوا السيئات في الدنيا جزاؤهم في الآخرة سيئة بمثلها) أي: عقاب من الله عز وجل على ذلك.
وقيل: المعنى: فله جزاء سيئة بمثلها كما قال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى}: أي: جزاء حسنة / بحسنة.
ثم قال: {وَزِيَادَةٌ} يريد تمام العشر (ة) على الواحدة.
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: أي: تغشاهم، {ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: من مانع من عقابه.(5/3255)
ومن قرأ " قطَعاً " - بفتح الطاء - فهو جمع قِطْعَة. واُخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدُ لأن المعنى: كأنما غشي وجه (كل إنسان منهم قطعة). ثم جمع ذلك لأنه قد جمع الوجه، فعلى كل وجه قطعة و " مظلماً " على هذا نصب على الحال من " الليل "، ولو كان نعتاً للقطع لقال مظلمةٌ.
ومن قرأ " قِطْعاً " بإسكان الطاء فهو يجوز أن تكون جمع قطعة أيضاً، إلا أنه بقي السكون على حاله كما يقول: سِدْرَةٌ، وسِدْرٌ، وبُسْرَةٌ وَبُسْرٌ. فيكون " مظلماً " أيضاً على هذا حالاً من الليل.(5/3256)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
ويجوز أن يكون " قطعاً واحداً " يريد به ظلمة من الليل، فيكون " مظلماً " نعتاً له، وإن شئت حالاً من الليل أيضاً.
وقيل معناه: بقية من الليل كما قال: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} [هود: 81، والحجر: 65]: أي: ببقية منه، وهو اسم ما قطع من الليل وفي قراءة أُبَيْ: " كأنما يغشى وجوههم قِطْعٌ من الليل مظلمٌ ".
ومعنى ذلك: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات ذلك.
وقوله: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}: الباء زائدة، و {جَزَآءُ} مبتدأ، و {بِمِثْلِهَا}: الخبر.
وقيل: " الباء " غير زائدة. وفي الكلام معنى الشرط، والمعنى: فله جزاء السيئة بمثلها. فالباء صلة للجزاء.
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} إلى قوله: {لَغَافِلِينَ} {مَكَانَكُمْ}:
نصب بإضمار فعل، والمعنى: امكثوا مكانكم، وقفوا موضعكم. (جميعاً): حال(5/3257)
(من الهاء والميم) في نحشرهم.
والمعنى: نحشرهم لموقف الحساب، ثم نقول للذين أشركوا بالله سبحانه غيره، {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ}: أي: انتظروا حتى يفصل بينكم. و " مكانك وانتظر ": فتوعد بهما العرب.
{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}: أي فرقنا بين المشركين وما كانوا يعبدون من دون الله، من قولهم: زلتُ الشيء عن الشيء فأنا أزيله: إذا أنْجَيْتُهُ، وَزَيَّلْنَا على التكثير.
وحكى الفراء أنه قرأ " فَزَايَلْنَا ". يقال: لا أزايل فلاناً: أي: لا أفارقه، لا أخاتله. فمعنى زايلنا: معنى: زيلنا. والعرب تفعل ذلك في فَعَّلت " يلحقون أحياناً الألف مكان التشديد فتقول: فاعلت، والفعل واحد.
{وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: أي: تقول آلهتهم التي عبدوها في الدنيا(5/3258)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
(لهم): لم تكونوا إيانا تعبدون لأنا ما كنا نسمع، ولا نبصر، ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا.
قال مجاهد: تكون يوم القيامة ساعة فيها شدة تنصب لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون. فتقول الآلهة: والله ما كنا نسمع، ولا نبصر، ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا. فيقولون: والله لإياكم كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}.
وكان مجاهد يتأول الحشر هنا الموت.
قوله: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} إلى قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ}.
{هُنَالِكَ}: نصب على الظرف، واللام زائدة، وكسرت لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب. والمعنى: في ذلك الوقت.
ومن / قرأ " تتلو " بتاءين فمعناه: في ذلك الوقت تتبع كل نفس ما قدمت من عمل.(5/3259)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يَمْثُلُ لكل قوم ما كانوا يعبدون من جون الله سبحانه فيتبعونه حتى يردوا بهم إلى النار. ثم تلا هذه الآية ".
والعرب تقول: فلان " يتلو طريقة أبيه ": أي: يتبع، ومنه قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17].
وقيل: معنى {تَبْلُواْ} تقرأ. أي: في ذلك الوقت يقرأ كل إنسان ما أسلفه في الدنيا من عمل، أي: يقرأ كتاب حسابه كما قال: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13].
وقال ابن زيد: تتلو: تعاين ما عملت.(5/3260)
ومن قرأ " تبْلو " فمعناه: تختبر كل نفس ثواب ما عملت من خير، أو شر. وتصديق ذلك قوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} [الطارق: 9]، والقراءتان متقاربتان، لأن من اختبر شيئاً فقد اتبعه ليختبره ومن اتبع شيئاً فهو أقرب الناس إلى اختباره وقراءته ومعاينيه.
قوله: {مَوْلاَهُمُ الحق} يجوز نصب الحق على المصدر المؤكد لردوا، أو لمولاهم. ويجوز نصبه على المدح بمعنى " أغنى " ويجوز الرفع على " هو مولاهم الحق "، والخفض على النهت لله عز وجل.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ}: أي: بطل ما كانوا يفترون، أي: يتخرصون من الأنداد والآلهة. و " ما " والفعل مصدر في موضع رفع بـ (ضَلَّ).(5/3261)
ثم قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض}: أي: من ينزل من السماء الغيث، ومن خلق المصالح التي بها تم معاشكم: من شمس وريح، وحر وبرد. ومن الأرض والنبات، والعيون والمنافع.
{أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار}: أي: يملكها، ويزيد في قواها، أو يسلبكموها ومن يملك الأبصار أن تضيء لكم، أو يذهب بنورها. ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. قد تقدم ذكرها في آل عمران.
قوله: {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر}: أي: " أمر السماء والأرض ومن فيهن " {فَسَيَقُولُونَ الله}: أي: الذي فعل ذلك الله عز وجل فقل له يا محمد: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}: أي: " أفلا تخافون عقاب الله سبحانه على شرككم ".
{فَسَيَقُولُونَ الله}: وقف.
ثم قال تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ}: أي: ذلكم الله الذي فعل هذه(5/3262)
الأشياء واخترعها هو {رَبُّكُمُ الحق}: أي: الذي لا شك فيه.
{فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} (المعنى: أي: منزلة بعد الحق إلا الضلال. أي: من ترك الحق حل في الضلال).
{فأنى تُصْرَفُونَ} أي: من أين تصرفون عن الحق، وأنتم مقرون بالله سبحانه مخترع جميع هذه الأشياء.
ثم تعبدون من لا يخلق شيئاً، ولا يملك ضراً ولا نفعاً.
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} الكاف من كذلك في موضع نصب والتقدير: كما صرف هؤلاء عن الحق إلى الضلال {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا}: أي: خرجوا من دين الله سبحانه. {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}: أن في موضع نصب على معنى بأنهم، أو لأنهم.
وقال الزجاج: يجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من الكلمات، وأجاز الأخفش، والفراء في الكسر في أن على الإلزام لترك الإيمان.(5/3263)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
وقيل: المعنى " حق عليهم أنهم لا يؤمنون ". " فإن ": في موضع رفع خبر " حق ".
ومعنى: (حقت عليهم كلمات ربك): أي: وجب عليهم في علمه، وفي السابق في اللوح المحفوظ {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
قوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلى قوله {تَحْكُمُونَ}:
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: / {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} أي: آلهتكم. {مَّن يَبْدَأُ الخلق} أي: ينشؤه من غير أصل، ولا مثال، {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: أي: ثم يَفْنِيهِ، إذا شاء، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه، فإنهم لا يدعون ذلك لآلهتهم. وينقطعون، فقل لهم: {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد إفنائه {فأنى تُؤْفَكُونَ}: أي: من أي وجه تصرفون وتقلبون عن الحق. {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: وقف.
ثم قال تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} وسيبويه يمنع الكسر في (يهدي) في الياء، ويجيزه في التاء، والنون، والهمزة لأن الكسر ثقيل في الياء،(5/3264)
والكسر في الهاء إنما يجوز لالتقاء الساكنين.
وأما قراءة من قرأ يهدي بالتخفيف والإسكان. فقال الكسائي والفراء: (يهدي) بمعنى (" يهتدي ").
وقال المبرد: لا يُعرف " هدى " بمعنى " اهتدى " قال: ولكن التقدير: أَمَّنْ لا يهدي غيره. ثم قال: {إِلاَّ أَن يهدى} على الاستثناء المنقطع، كأنه تم الكلام عند قوله {أَمَّن لاَّ يهدي} ثم استأنف فقال: " لكنه يحتاج أن يهدي ".
وروي عن ابن عامر: " إلا أن يَهَدِّي " بالتشديد.
وقوله: {فَمَا لَكُمْ} هذا تمام الكلام عند الزجاج، والمعنى: فأي شيء لكم في عبادة الأصنام.(5/3265)
ثم قال: (لحين تحكمون) كيف في موضع نصب بـ " تحكمون ".
ومعنى الآية هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، أي: يرشد إليه ضالاً. فإنهم لا يدعون ذلك، إذ عجزهم يمنعهم من ذلك. فقل لهم يا محمد: {الله يَهْدِي لِلْحَقِّ}: أي: يرشد الضُّلال إلى الهدى.
{أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} إلى ما يدعو إليه {أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى}: أمَّن لا ينتقل من مكانه إلا أن (ينقل): وقف، {إِلاَّ أَن يهدى} وقف. {فَمَا لَكُمْ} وقف عند أبي حاتم، والزجاج، وابن الأنباري.(5/3266)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
وقال غيرهم: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هو التمام.
قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} إلى قوله {مِن رَّبِّ العالمين}
والمعنى: ما يتبع أكثر هؤلاء إلا ظناً، أي: يتبعون ما لا علم لهم بحقيقته، وإنما هم في اتباعهم ما يتبعون على شك.
{إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً}: أي: " إن الشك لا يغني من اليقين شيئاً، ولا يقوم في شيء مقامه ".
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} أي: ما كان افتراءً، ولكنه من عند الله سبحانه. وقيل: المعنى: ما كان لأحد أن يأتي به من عند غير الله، وينسبه إلى الله عز وجل لإعجازه.
{ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}: أي: ولكن كان تصديق التوراة، والإنجيل، وغيرهما من الكتب.
{وَتَفْصِيلَ الكتاب}: أي: وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد في(5/3267)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
سابق علمه، من المفروض في الأعمال، والسعيد الشقي. {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك أنه كذلك.
وقيل: المعنى: ولكنه تصديق الشي الذي القرآن بين يديه، وهو: الكتب المقتدمة، مثل القول الأول في المعنى.
وقيل: إن هذا إنما هو جواب لقولهم {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} [يونس: 15]، أو جواب / لقولهم {افتراه} [يونس: 38].
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} إلى قوله {عَاقِبَةُ الظالمين}
أم: هنا بمنزلة الألف، لأنها قد اتصلت بكلام قبلها، ولا تكون كالألف مبتدأ بها: وقيل: هي هنا بمعنى: بل. وقيل: إنها تغني عن الألف وبل.
ومعنى الكلام: " هذا تقرير لهم لإقامة الحجة عليهم ". ومعناه: أيقول:(5/3268)
هؤلاء المشركون: اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه.
فأمر الله عز وجل نبيه أن يقول لهم: ما نبين لهم أنه لا يمكن أن يكون من عند بشر، فإن أمكن فقل لهم يا محمد: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أي: مثل هذا القرآن. فإذا لم تقدروا وأنتم جماعة فصحاء، دل عجزكم على أن محمداً لم يختلقه من عند نفسه، إذ لا يمكن أن يكون من عند بشر، بدلالة عجزكم عن الإتيان بسورة مثله.
وقيل: المعنى: ايتوا بسورة مثل سورته، ثم حذفت السورة مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
ثم قال تعالى: {وادعوا مَنِ استطعتم (مِّن دُونِ الله)}: أي: استعينوا بمن قدرتم عليه في الإتيان بالسورة، واجتهدوا، وأجمعوا أولياءكم، وشركاءكم من دون الله سبحانه للمعونة على ذلك فأتوا بذلك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: إن محمداً اختلقه.(5/3269)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
ثم قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ}: يعني: الوعيد الذي توعدوا له لم يروه بعد، ولم يحيطوا بعلمه فكذبوا به (ولما يأتهم تأويله) أي: لم يأتهم بعدما يؤول إليه أمرهم. فالمعنى: إنهم يا محمد إنما كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وليس بهم التكذيب لمحمد.
{كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ}: أي: كذا كانت سبيلهم وقيل: المعنى: كما كذب هؤلاء يا محمد كذبت الأمم التي من قبلهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين}: أي: اعتبر كيف أهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالغرق، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالخسف، فإن عاقبة هؤلاء الذين كذبوك كعاقبة من تقدم من الأمم.
{وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}: وقف حسن.
قوله: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} إلى قوله {يَظْلِمُونَ}
أخبر الله عز وجل نبيه في هذه الآية: أن من قريش من يؤمن بالقرآن فيما(5/3270)
يستقبل، ومنهم من لا يؤمن به أبداً. سبق كل ذلك في علمه تعالى.
وقيل: المعنى: ومنهم من يصدق بالقرآن، ويظهر الكفر عناداً، واتقاء على رياسته، {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} سراً ولا علانية.
ثم قال تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي: لي ديني وجزاؤه، ولكم دينكم وجزاؤه.
{أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ} لا تؤاخذون به {وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} لا أؤاخذ به: هذا مثل قوله: {قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2]. وهذا كله أمر بالمواءمة نسخ ذلك بالأمر نسخ ذلك بالأمر بالمحاربة، والقتل في " براءة " وغيرها.
وقيل: معناه، وفائدته: فقل لي علم عملي: أي: ذلك عندي، وعلم عملكم عندكم، أي: عندي علم ثواب عملي، وهذا مثل قول النبي، عليه السلام، " كل عمل ابن(5/3271)
آدم له إلا الصوم "، أي: عنده علم ثوابه: الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم، فهو أعظم أجراً من ذلك.
وقال ابن زيد: هذه الآية منسوخة، نسخها الأمر بالقتال.
ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}: أي: / يستمعون القرآن.
قوله: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} أي: تخلق لهم سمعاً، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، فكأنهم من شدة عداواتهم، وانحرافهم عن قول النبي بمنزلة الصم.
وقيل: إن هذا إعلام من الله عز وجل لعباده أن التوفيق إلى الإيمان بيد الله، ومثله الكلام على قوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ}: وهو نظر الاعتبار إلى حجج النبي وإعلامه على نبوءاته ولكن الله عز وجل سلبه التوفيق فلا يقدر أحد على هدايته، كما(5/3272)
لا يقدر أحد أن يحدث للأعمى بصراً.
هذه الآية تسلية من الله، جلَّ ذكره، لنبيه عن جماعة من كفر به من قومه.
وقيل: المعنى: ومنهم من يقبل عليك بالاستماع، والنظر، وهو كالأصم، والأعمى من بغضه لك يا محمد، وكراهيته لما يراه من آياتك، فهو كالأصم، والأعمى، إذ لا ينتفع بما يرى، ولا بما يسمع كما قال: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19].
ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً}: أيك لا يبخسهم حقهم، فيعاقبهم بغير كفر {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
وقال الفراء: إذا كانت " لكن " لا وَاوَ معها أشبهت " بل ".(5/3273)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
فتؤثر العرب تخفيفها، ليكون ما بعدها بمنزلة " ما " بعد " بل " من الابتداء والخبر إذا كانت مثل " بل "، وإذا كانت معها الواو، وخالفت بل، فتؤثر العرب التشديد لينصبوا ما بعدها، فيخالفوا به ما بعد بل، كما خالفت هي بل. والناس يظلمون أنفسهم باكتسابهم الخطايا التي توجب العقاب على أنفسهم.
والمعنى: أن الله جلَّ ذكره، لم يهمل الناس، بل أرسلهم إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، واتخذ عليهم الحجة بالعقل، والسمع، والبصر. ثم جازاهم بأعمالهم بعد أن أمرهم، ونهاهم، فأكرم الطَّائِعَ، وأهان العَاصِيَ، وهذا هو العدل الظاهر البيّن.
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} إلى قوله {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}
المعنى: ويوم نحشر هؤلاء المشركين، كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم، ثم انقطعت المعرفة. الآن وقد خسروا أنفسهم بتكذيبهم بآيات الله عز وجل ولقائه سبحانه.(5/3274)
{وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}: أي: موفقين للهدي.
وقيل: معنى {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يعرف بعضهم بعضاً بالإضلال والفساد، والجحود. وذلك أشد لتوبيخهم.
وقيل: المعنى {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يقولون: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله.
ومعنى: {لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} أي: قرب عندهم موتهم، وبعثهم كما قالوا: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19 والمؤمنون: 113].
ثم قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)}: أي: " نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي تعد هؤلاء المشركين من العذاب، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن نريك ذلك فيهم "، {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بكل حال {ثُمَّ الله شَهِيدٌثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} على أفعالهم.
قال مجاهد: الذي أراه وقعة بدر.
وقيل: المعنى: أن الله أعلم نبيه (" إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم(5/3275)
منهم في الآجل " وقد تقدم ذكره.
{ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} وذكر معنى، ثم قال: {وَلِكُلِّ / أُمَّةٍ رَّسُولٌ}: أي: وأرسل إلى كل أمة خلت رسولاً كما أرسل محمداً إليكم أيها الناس لينذركم.
{فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} يعني: في الآخرة {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} أي: بالعدل.
قال مجاهد: إذا جاء رسولهم يعني: يوم القيامة.
وقيل: المعنى: ولكل أمة رسول يشهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وهو مثل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والمعنى الأول مثل قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
ثم قال تعالى ذكره حكاية عن قول المشركين:(5/3276)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}: أي: متى قيام الساعة التي تعدنا به يا محمد. فأمر الله عز وجل أن يقول لهم: {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أن أملكه فادفع عنها به الضر وأجلب إليها به النفع. فأنا إذا كنت لا أقدر على نفع نفسي، ولا أقدر على دفع الضر عنها (فأنا عن القدرة على الوصول إلى) علم الغيب، ومعرفة قيام الساعة (أعجز وأعجز إلا بمشيئته لي في ذلك).
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي: لكل قوم ميقات لانقضاء مدتهم، لا يستأخرون عنه ساعة، ولا يتقدمونه بساعة. وذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الأوقات، والوقت المقدر في انقضاء مدتهم: أقل من الساعة وأقرب.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} إلى قوله {تَكْسِبُونَ}.
قوله: {مِنْهُ المجرمون} الهاء: تعود على العذاب، وقيل: على اسم الله عز وجل.(5/3277)
ويشهد لرجوعها على " العذاب " قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47 والعنكبوت: 53]، ويشهد لرجوعها على الله سبحانه قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 - 2]، فإذا جعلتها عائدة على " العذاب "، " فما " في موضع رفع بالابتداء، وإذا جعلتها بمعنى " الذي " خبر " ما " ويجوز أن تكون " ما " و " ذا " شيئاً واحداً في موضع رفع. والخبر في الجملة، وإن جعلت " الهاء " تعود على اسم الله سبحانه وجعلت " ما " و " ذا " اسماً واحداً كانت " ما " في موضع نصب بمستعجل والمعنى: أي شيء يستعجل من الله المجرمون، وإن جعلت " ما " اسماً، و " ذا " بمعنى " الذي " كانت كالأولى: ابتداء وخبر. وكون الهاء تعود على العذاب أحسن لقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}. والمعنى: قل لهم يا محمد: أرأيتم إن أتاكم هذا الذي تستعجلون به من العذاب(5/3278)
ليلاً أو نهاراً ما يستعجل من نزول العذاب المجرمون، وهم لا يقدرون على دفعه.
فمعنى الكلام: الإنكار عليهم لاستعجالهم بأمر، لا يقدرون على دفعه إذا حل بهم. ثم قال تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}.
قال الطبري: " أثم " بمعنى " هنالك " إذا وقع العذاب بكم آمنتم بالله عز وجل. وليست عنده، ثم التي للعطف وهو غلط منه. وإنما التي تكون بمعنى " هنالك " هي المفتوحة / الثاء بمنزلة قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً} [الإنسان: 20]. والتقدير عند غيره أنها " ثم " التي للعطف. وفي الكلام حذف. والتقدير: أتأمنون إذا نزل بكم العذاب، فتؤمنون ثم يقال لكم: الآن آمنتم، وقد كنتم تريدون استعجاله، وحلوله بكم، فلما عاينتم حلوله آمنتم حين لا ينفعكم الإيمان، وهو مثل قوله: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ} [غافر: 84] إلى قوله {بَأْسَنَا} [غافر: 85]: أي: لم ينفعهم الإيمان(5/3279)
عند معاينة العذاب. كذلك سنة الله عز وجل في الكافرين لا يقيلهم من كفرهم عند معاينتهم العذاب.
و" آلآنَ " عند الفراء أصلها: أوان، ثم حذغت الهمزة الثانية منها، وقُلِبَتْ الواو ألفاً، ثم دخلت الألف واللام وبنيت على الفتح.
وقيل: أصلها " آن " مثل " حان " ثم دخلتها الأف واللام، وبقيت على فتحها مثل: " قيل، وقال ".
وقال الزجاج: لا يحسن هذا القول: لأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الألف واللام، كما لا تدخل على " قيل ".
وقال سيبويه: سبيل الألف واللام أن يدخلا لمَعْهُود، و " الآن ": ليس بمعهود، وإنما معناه: " نحن في هذا الوقت نفعل كذا، فلما تضمنت هذا بنيت على الفتح ".(5/3280)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
قوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}: أي: ظلموا أنفسهم.
{ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد}: أي: العذاب الدائم. هل تجزون إلا ما علمتم في حياتكم من المعاصي، وما اكتسبتم في دنياكم.
قوله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} إلى قوله {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
{أَحَقٌّ هُوَ} هو: ابتداء، وخبره " أحق ".
وقال سيبويه: (أحق): ابتداء، وهو فاعل يسد مسد الخبر.
ومعنى الآية: ويستخبرك يا محمد هؤلاء المشركون: أحق ما تعدنا به من الآخرة، ومن المجازاة على أعمالنا. قل لهم يا محمد: {إِي وربي}: نعم وربي: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي: إن الذي يعدكم من ذلك، لحق آت لا شك فيه.
{أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي: لستم تعجزون الله إذا أراد بكم أمراً بهرب، ولا(5/3281)
امتناع.
{إِي وربي}: وقف، كما تقول: " نعم والله ". والتمام: إنه لحق. ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض}: " أَنَّ ": في موضع رفع فعل مضمر، لأن حق لو (أ) لا يليها إلا الفعل مضمراً، أو مظهراً. فسبيل ما بعدها أن يكون مرفوعاً بالفعل المقدر. والمعنى: ولو أن لكل نفس كفرت بالله سبحانه، وآياته، (جلت عظمته) ما في الأرض، من قليل، أو كثير لافتدت به من عذاب الله إذا عاينته. وذلك لا يكون لها أبداً، ولو كان لها لافتدت به، ولو افتدت به لم يقبل منها.
قوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة}: أي: أسَرَّ كثيراً. وهي الندم من ضعفائهم حين عاينوا العذاب، وعلموا أنه واقع بهم.
وقيل: المعنى: (وأسروا): أظهروا الندامة عند ذلك.
قال المبرد: معناه: بدت الندامة في أسرة وجوههم، وهي الخطوط التي في الجبهة، واحِدها سِرارٌ.(5/3282)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط}: أي: بالعدل.
ثم قال تعالى منبهاً: (أَنَّهُ غَنِيٌ عما في الأرض (و) لو افتدوا به) وأنه لا يملك هذا الكافر شيئاً: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}: فليس للكافر شيء يفتدي به.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}: أي: عذابه الذي استعجله / هؤلاء المشركون حق واقع لا شك فيه.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: حقيقة ذلك، فهم من أجل جهلهم يكذبون.
قوله: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى قوله: {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
والمعنى: والله عز وجل يحيي ويميت، فلا يتعذر عليه إحياؤهم بعد مماتهم. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
و" ألا " في جميع هذا تنبيه.
ثم قال تعالى: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور}: وهو القرآن، يذكركم عقاب الله عز وجل، وثوابه، جلت عظمته.(5/3283)
{مِّن رَّبِّكُمْ}: أي: لم يختلق ذلك محمد، بل هو من عند الله عز وجل، { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور}: أي: دواء لما في الصدور من الجهل بالله سبحانه، وآياته، وفرائضه، وطاعته، ومعاصيه.
{وَهُدًى}: أي: " وبيان لحلاله وحرامه ".
{وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: يرحم به من يشاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، فهو رحمة للمؤمنين، وعمى للكافرين، كما قال: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44].
ثم قال تعالى: قل - يا محمد - {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي: بفضل الله عز وجل، وهو الإسلام الذي تفضل على العباد المؤمنين بالهداية إليه وبرحمته سبحانه التي رحمكم، فاستنقذكم من الضلالة. {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}:
وعن ابن عباس أنه قال: فضل الله عز وجل القرآن، ورحمته سبحانه أن جعلهم(5/3284)
من أهل القرآن. وهو قول مجاهد.
والعرب تأتي " بذلك " للواحد والاثنين والجمع، وهو هنا للاثنين. وقرأ يزيد ابن القعقاع: " فلتفْرَحُوا " بالتاء، ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ أُبَيّ بالتاء في الحرفين. وفي حرف أبَي: " فبذلك فافرحوا ".
وقيل: الفضل هنا الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال أبو سعيد الخدري الفضل: القرآن، والرحمة: أن جعلكم من أهله.
وروي عن ابن عباس أيضاً: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام. وهو قول زيد ابن أسلم، والضحاك.(5/3285)
{خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: أي: من الأموال. ومن قرأ " فلترحوا " بالتاء، ويجمعون بالياء. فمعناه: فبذلك فافرحوا يا أيها المؤمنون. هو خير مما يجمع الكفار من الأموال.
ومن قرأهما بالتاء، فعلى المخاطبة للمؤمنين.
ومن قرأهما بالياء، فعلى الأمر للكفار: أي: فبالقرآن، والإسلام فليفرح هؤلاء المشركون. {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: من الأموال. {مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55]: وقف. {يَوْمَ القيامة} [يونس: 60]: وقف عند أحمد بن جعفر.(5/3286)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} - إلى قوله - {يَشْكُرُونَ}:
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتم الذي أنزل الله إليكم من رزق، وحوَّلكموه فَحَلَّلْتمْ بعضه، وحرمتم بعضه: وذلك أنهم كانوا يحرمون بعض أنعامهم، وبعض زروعهم، وقد ذكر ذلك في المائدة، والأنعام.
ومعنى الآية: أنها نهي عن تحليل ما حرم الله. وعن تحريم ما أحل الله سبحانه، وعن تحليل ما لم يأذن الله بتحليله، وتحريم ما لم يأذن بتحريمه.
{ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ}: أي: تختلقون ما لم يأمر به.
ثم قال تعالى: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذبإن الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي: ما ظن هؤلاء الذين(5/3287)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
يحرمون ما أحل الله، فيختلقون ما لم يأمر به، ويتخرصون عليه / ما لم يقل.
إن الله يفعل بهم يوم القيامة، أيحسبون أنه يصف عنهم؟ كلا، بل يصليهم سعيراً.
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}: أي: ذو تفضل على خلقه، بتركه معاجلة من افترى على الله الكذب بالعقوبة في الدنيا.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} على تفضل الله عز وجل عليهم.
قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ}
قوله: {تَتْلُواْ مِنْهُ}: " التاء " تعود على الشأن. والمعنى " وما تتلو من الشأن. أي: من أجل الشأن، أي: يحدث شأن، فيتلى القرآن من أجله ليعلم كيف حكمه ".
وقال الطبري: {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ}: أي: من كتاب الله عز وجل.
{ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}: أي: عملاً. " ومن " زائدة للتأكيد.
{إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً}: أي: " إلا ونحن شهود لأعمالكم " إذا عملتموها. ومعنى: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}: أي: إذ تفعلون.(5/3288)
وقال الضحاك: المعنى: إذ " تشيعون " في القرآن من الكذب وقيل: المعنى: " إذ تنتشرون فيه ".
وقيل: إذ " تأخذون فيه ": أعلم الله عز وجل المؤمنين أنهم لا يعملون عملاً إلا كان شاهده وقت عملهم له.
ثم قال: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي: وما يغيب عن ربك مثقال ذرة.
" وَلاَ أَكْبَرَ وَلاَ أَصْغَرَ ". عن نصب عطفه على لفظ " مثقال "، وعلى لفظ " ذرة ". وهو لا ينصرف، وموضعه خفض. ومن رفع، رفعه على موقع مثقال، لأن " من " زائدة للتوكيد.
والمعنى: ليس يغيب عن ربك يا محمد من أعمال العباد زنة ذرة، وهي النملة(5/3289)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
الصغيرة. ولا يغيب {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}: أي: هو محصى في كتاب مبين: فكل عنده في اللوح المحفوظ، ومن باطن وظاهر، والحفظة يكتبون ما ظهر لهم من الأعمال التي تقدمت في اللوح المحفوظ، وما خفي عنهم من أعمال بني آدم، وأسرارهم لا يكتبونه ولا يعلمونه. وعلمه كله عند الله عز وجل مثْبت في اللوح المحفوظ، لا يعزب عنه منه شيء.
قوله: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إلى قوله {الفوز العظيم}.
" ألا ": تنبيه، وأولياؤه ": قوم يُذكَر الله عز وجل عند رؤيتهم، لما عليهم من سمات الخير، والإخبات: قاله ابن عباس.
وروي ذلك عن النبي، عليه السلام.
وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم. قال: هم قوم متحابون في(5/3290)
الله عز وجل من غير أموال، ولا أنساب. وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} "
ثم قال تعالى: {الذين آمَنُواْ (وَكَانُواْ) يَتَّقُونَ}: أي: هم الذين آمنوا بالله عز وجل ورسوله، وبما جاء من عند الله سبحانه {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}: محارمه. {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال عروة بن الزبير، ومجاهد: " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له ".
قال أبو الدرداء: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل، وتُرى له، وهي / جزء من سبعة وأربعين جزءاً من النبوءة ".(5/3291)
وعن ابن عباس أنه قال: هو قول الله عز وجل لنبيه: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب: 47] قال: " (هي) الرؤيا الصالحة ". وبشرى الآخرة الجنة. وعلى هذا أكثر أهل التفسير. وقال قتادة، والزهري هي: بشرى عند الموت في الدنيا.
وقال الضحاك: يعلم أين هو قبل الموت، ويدل على هذا القول قوله: {يُبَشِّرُهُمْ (رَبُّهُم) بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} [التوبة: 21] الآية.
وقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} الآية. [فصلت: 30].(5/3292)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
وقال أبو ذر: " سألت النبي عليه السلام: فقلت: الرجل يعمل لنفسه خيراً، ويحبه الناس. فقال: تلك عاجل بشرى المؤمنين في الدنيا، وفي الآخرة إأذا أخرجوا من قبورهم ".
{لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله}: أي: لا خُلف لوعده. لا بد أن يكون ما قاله تعالى.
{ذلك هُوَ الفوز}: أي: البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة: {هُوَ الفوز العظيم}. والفوز: الظَّفر.
قوله: {لِكَلِمَاتِ الله} وقف.
قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} إلى قوله {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}
والمعنى: ولا يحزنك يا محمد تكذيبهم لك، واستطالتهم عليك.
{إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً}: أي: له عزة الدنيا والآخرة، فهو ينتقم من هؤلاء.
{هُوَ السميع العليم}: أي: ذو سمع لما يقولون، وما يقول غيرهم، وذو علم(5/3293)
بهم وبغيرهم، ودل هذا النص على أن كل عزيز في الدنيا فالله ( عز وجل) . أعَزَّه، وكل ذَليل، فالله سبحانه أذله.
ثم قال تعالى: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض}: أي: له كل شيء. فكيف يعبد هؤلاء غيره؟ فليس يدعون في عبادتهم الأصنام شُرَكاءَ له لأن كل شيء له. ما يتبعون في عبادتهم لها إلا الشك، وما هم إلا يتخرصون والعامل الناصب للشركاء: " يدعون "، ولا يعمل فيه " يتبع " لأنه نفي عنهم. وقد أخبرنا الله أنهم يعبدون الشركاء. ومفعول " يتبع " قام مقامه.
{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} لأنه هو، فكأنه قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. فالظن مفعول " يتبع "، و " شركاء " مفعول يدعون.
قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}: أي: تستريحون فيه من(5/3294)
تصرفكم. وجعل النهار مبصراً فيه على النسب بمنزلة {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21].
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}: أي: يسمعون هذه الأدلة فيفهمونها، ويتَّعِظون بها.
ثم قال تعالى حكاية عن قوم الكفار: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} يعني: قولهم: إن الملائكة بنات الله.
سبحانه: أي تنزيهاً له من ذلك، ومن كل السوء. {هُوَ الغني} أي: الغني عن خلقه، فلا حاجة له إلى ولد.
{لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي: يملك جميع ذلك، فأي حاجة له إلى ولد، وكيف يكون عبده ولداً له. وأيضاً: فقد أقررتم أيها الجاهلون أنه لا شبه له، ولا مثل، وعلمتم أن الولد يشبه الوالد، وأنه من جنس والده يكون. فواجب أن يكون الولد الذي ادعيتم مثل الوالد. فقد أوحيتم بذلك أن له مثلاً، وشبيهاً، لأن ولده / مثله. وإذا وجب ذلك زالت عنه صفة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وإذا زالت هذه الصفة عنه، فقد(5/3295)
نقصت صفاته عن الكمال. والناقص محدث، ففي إيجابكم له الولد، إيجابكم أنه محدث، وتعطيل للربوبية، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لا إله إلا هو، لم يلد ولم يولد، فلا شبيه له ولا مثيل، ولا نظير. ليبس كمثله شيء، لا إله إلا هو. ()
قوله: {إِنْ (عِندَكُمْ) مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ}: أي: ما عندكم أيها القوم من حجة بقولكم. {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: أي: لا تعلمون حقيقته، وصحته، فتضيفون ذلك إلا من يجوز إَافته إليه بغير حجة.
ولا برهان.
ثم قال تعالى لنبيه: قل يا محمد: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب}: أي: يتخرصون، ويختلقون الكذب على الله. {لاَ يُفْلِحُونَ}: أي: " لا يَبْقَوْنَ في الدنيا "، والفَلاَح: البقاء.
{مَتَاعٌ فِي الدنيا}: أي: لكن لهم متاع في الدنيا.(5/3296)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
وقيل: افتراؤهم متاع، وقيل: المعنى: ذلك متاع، وقيل: هو متاع.
وقيل: التقدير إنما ذلك متاع، أو إنما هذا متاع، أي: يمتعون به إلى الأجل الذي كتب لهم.
{ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي: يرجعون إلينا عند انقضاء أجلهم الذي كتب لهم.
{ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد} وهو عذاب النار بكفرهم بالله سبحانه، وبرسله صلوات الله عليهم، وكتبه.
قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} إلى قوله {مِنَ المسلمين}.
قوله: وشركاؤهم: قال الكسائي، والفراء: هو بمعنى: وادعوا شركاءكم.
وقال المبرد: نصبه على المعنى، كما قال متقلداً سيفاً ورمحاً، وقال الزجاج هو مفعول معه.
وروى الأصمعي عن نافع: " فاجْمَعُوا " موصولة الألف من: جمَع، وهي قراءة(5/3297)
الجحدري. وهما لغتان: جمع وأَجمع.
وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى ويعقوب: " فأجْمِعُوا أمركم وشركاؤُكم بالرفع، عطفا على المضمر في " أجمِعوا ": وحسن ذلك لما حال بينهما بالمفعول، فقام مقام التوكيد.
وقيل: إن " الشركاء " رفع بالابتداء، والخبر محذوف. أي: وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، والشركاء هنا: الأصنام، وهي لا تصنع شيئاً. إلا أن يكون المعنى(5/3298)
على التوبيخ لهم، كما قال لهم إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63].
ومن نصب " الشركاء " حمله على المعنى، أي: وادعوا شركاءكم، ولا يُعطف على الأمر بتغير المعنى. يقال: أجمعتُ الأمر وعلى الأمر: عزمتُ عليه. فلا معنى لعطف الشركاء على هذا المعنى، فلا بد من إضمار فعل.
ومعنى الآية: إن الله تعالى ذكره، يقول لنبيه: واتل عليهم يا محمد خبر نوح إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي، وشق عليكم تذكيري بآيات الله، ووعظي إياكم، فعزمتم على قتلي، أو طردي من بين أظهركم فعلى الله اتكالي، وبه ثقتي.
{فأجمعوا أَمْرَكُمْ}: أي: أعدوا ما تريدون، واعزِموا على ما تشاؤون.(5/3299)
يقال: أجمعت على كذا: إذا عزمت عليه. والشركاء هنا: آلهتهم.
وقوله: {لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}: أي: لا يكن ملتبساً مشكلاً، من قولهم: غم على الناس الهلال: وذلك إذا أِكل عليهم أمره. وقيل معناه: " ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ".
{ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ}: أي: ثم افعلوا ما بدا لكم ولا تؤخروه.
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ}: أي: إن توليتم عين بعد دعائي إياكم إلى الله عز وجل. فإني لم أسألكم عما دعوتكم إليه أجراً، ولا عوضاً أعتاضه منكم على دعائي. ما أجري إلا على الله، وأمرني ربي أن أكون من المسلمين. فمن أجل ذلك(5/3300)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
أدعوكم إلى مثل ما أنا عليه.
قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} إلى قوله {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}:
والمعنى " فكذب نوحاً قومه فيما أخبركم به على الله عز وجل من الرسالة ".
{فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ}: أي: ممن آمن في الفلك، وهي السفينة.
{وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ}: أي: جعلنا من معه ممن حمل في النفس خلائف: أي: يخلفون من أهلك من قومه، وهو جمع خليفة.
{وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}: أي: بحُجَجِنا وأدلتنا.
فانظر يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين}: الذين أنذرهم نوح. فكذبوه. فليحذر هؤلاء الذين كذبوا بك مثل ما نزل بقوم نوح.
قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ}: أي: بعثنا بعد نوح كل رسول إلى قومه، {فَجَآءُوهُمْ بالبينات}: وهي العلامات الواضحات الدالة على صدقه فيما(5/3301)
يقول: وما يدعو إليه.
{فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ - بذلك - كذلك نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين}: أي: كما طبعنا على قلوب قوم نوح، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى فتجاوز أمر ربه، وكفر به.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى}: أي: من بعد الرسل التي بعثت من بعد نوح {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ}: أي: وأشراف قومه، فاستكبروا عن الإقرار بآياتنا {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}: أي: آثمين بكفرهم.
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا}: أي: جاءهم ما لا يشكون في أنه حق قالوا: إن الله الذي جئت به {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ}: ظاهر، قال لهم موسى: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا}.
قال الأخفش: أسحر هذا: حكاية لقولهم.
وقيل: إن الألف دخلت، لأنهم تعجبوا، واستعظموا ما أتاهم به موسى،(5/3302)
فقالوا: أسحر هذا على الاستعظام، لا على الاستخبار.
وقيل: إن السحر من قوم موسى مُنْكر على فرعون وملته إذ قالوا: هذا سحرٌ. وفي الكلام حذف. والتقدير: قال موسى: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا}: فقولهم محذوف دلَّ عليه قول موسى على طريق الإنكار لما قالوا: {وَلاَ يُفْلِحُ / الساحرون}: أي: لا ينجحون.
{اأَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا}: أي: لتصرفنا، وقيل: لتلوينا.
وقيل: لتعدلنا. والمعنى متقارب.
{عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: من عبادة الأصنام.
{وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء}: أي: الملك وقيل: السلطان.
وقال الضحاك: الطاعة، وقيل: العظمة. والمعاني متقاربة. {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}: أي: بمصدقين أنكما رسولان لله عز وجل.(5/3303)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أول الرابع والعشرين بحول الله.
قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}.
والمعنى: إنه الملعون، قال لقومه، جئوني بكل ساحر عليم بالسحر.
ومن قرأ " سحَّار " فعلى المبالغة.
قوله: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} يعني: من حبالهم، وعصيهم، وفي الكلام اختصار، والمعنى: فأَتَوْه بالسحرة {فَلَمَّا جَآءَ السحرة} فرعون بفعلهم {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} {فَلَمَّآ أَلْقُواْ} أي: ألقَوْا حبالهم وعصيهم. قال موسى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} من استفهم جعل " ما " في موضع(5/3305)
نصب، كما تقول: أزَيْداً مررت به، أو في موضع رفع بالابتداء. و " جئتم به ": الخبر، ومعناه: التوبيخ والتقصير لما جاؤوا به. السحر على إضمار مبتدأ: أي: هُوَ السحْرُ، أو على إضمار خبر، أي: أسحر هو.
ومن قرأ بغير استفهام " فما " بمعنى: " الذي " في موضع رفع بالابتداء.
والسحر: الخبر. وهو خبر عن قول موسى لهم، وهو الاختيار. لأن موسى قد عَلِمَ أنهم لا شيء عندهم إلا السحر، وأن فرعون بعث وراء السحرة في سائر البلدان. فاستفهام موسى عما أتوا به، هل هو من سحر لا معنى له: وقد احتج اليزيدي بقراءة أبي عمرو بالمد بقوله: " آسِحْرٌ " هذا وهذا منه غلط عند(5/3306)
النحويين، لأن موسى استفهم بقوله: آسِحْرٌ، عن سحر السحرة، فهو استرشاد. وفيه معنى النهي لهم عن ذلك.
واستفهم بقوله: أٍحر هذا عما جاء هو به من عند الله عز وجل، على معنى التوبيخ، والتقرير لهم. وفيه معنى الدعاء لهمز ليقلبوه، فبينما بعد في المعنى، ودخلت الألف واللام لتقدم ذكر السحر في قوله: {أَسِحْرٌ هذا} [يونس: 77] وعلى هذا يقال في أول الكتب: سلام عليك، وفي الآخر: والسلام عليك، وكذلك لو قال قائل: " وجدت درهماً " فسألته عن موضع الدرهم لقلب: " وأين الدرهم، ويُفْتَح " وأين درهم.
وأجاز الفراء نصب السحر على أن تجعل " ما " شرطاً، وتحذف الفاء من " أن ". وذلك لا يجوز إلا في الشعر.
ومعنى {سَيُبْطِلُهُ}: أي: سيذهب به الله. فذهب به تعالى بأن سلط عليه عصا موسى، فحولها ثعباناً، فلقفته كله.(5/3307)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي: عمل من سعى بالفساد في الأرض، {مَا جِئْتُمْ بِهِ}: وقف على قراءة من استفهم، و (السحر): وقف على قراءة من لم يستفهم.
ثم قال تعالى: {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ}: هذا إخبار من الله عز وجل عن قول موسى للسحرة. والمعنى: ويثبت الحق الذي جئتم به.
{بِكَلِمَاتِهِ}: أي: بأمره، {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}: أي: ولو كره الذين اكتسبوا الإثم بمعصيتهم ربهم.
قوله / {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} إلى قوله {مِنَ القوم الكافرين}. والمعنى: أنه لم يؤمن لموسى، صلوات الله عليه، من قومه مع ما جاءهم به من الحجج إلا ذرية من قومه، وهم خائفون من فرعون وملإهم.
قال ابن عباس: الذرية في هذا الموضع القليل، وكذلك قال الضحاك.(5/3308)
وقال مجاهد: إن المعنى ما آمن لموسى إلا أولاد من أرسل إليهم، والمرسل إليهم هلكوا غير مؤمنين، وذلك لطول الزمان. وهو اختيار الطبري.
ورُوي عن ابن عباس أيضاً (من قوم فرعون) قال: وهم قوم من قوم فرعون، غير بني إسرائيل، منهم ارمأة فرعون، ومومن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأته خازنه.
وقال بعض أهل اللغة: إنما قيل لهم " ذُرِيَّةَ "، لأن آباءهم قِبْطٌ، وأمهاتهم من بني إسرائيل. كما قال لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب، وآباؤهم من الفرس أبناء.
وقوله تعالى: {وَمَلَئِهِمْ}: بالجمع: الضمير راجع إلى فرعون، لأن الجبار يخبر عنه بلفظ الجمع.
وقيل: إنه إنما فعل ذلك، لأن فِرْعَون لما ذكر، علم أن معه غيره فعاد الضمير(5/3309)
عليه، وعلى من تَضَمَّنَ الكلام ذكره.
وقيل: المعنى على خوفٍ من فرعون وملتهم. ثم حذف مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقال الأخفش: الضمير يعود على الذرية، وهو اختيار الطبري، ومعنى: {يَفْتِنَهُمْ}: أي: يفتنهم بالعذاب فيصدهم عن دينهم. ووَحَّدَ على الخبر عن فرعون، لأن الخَبَر عنه يدل، على أن قومه يفعلون مثل فعله.
{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض}: أي: لجبار متكبر.
{وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} أي: من " المتجاوزين الحق إلى الباطل ".
ثم قال تعالى: {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا} أي: فوضوا الأمر إليه إن كنتم آمنتم (ولا تخافون من آل فرعون) {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} " أي: به وثقنا "، وهذا يدل على أن التوكل على الله عز وجل في جميع الأمور(5/3310)
واجب، وأنه من كمال الإيمان. وقد قال الله عز وجل: { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أي: فهو كافيه.
قال ابن عباس: الذرية القليل.
قال مجاهد: الذرية، يعني: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان، وقد مات آباؤهم.
قال ابن عباس: كانوا ست مائة ألف. " وذلك أن يعقوب ركب إلى مصر من كنعان في اثنين وسبعين إنساناً فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ست مائة ألف ".
قال الفراء: بلغنا أن الذرية الذين آمنوا كانوا سبعين، أهل بيت.
ثم قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين}: أي: لا تظهرهم علينا، فيفتتنوا بذلك، ويظنوا أنهم خير منا، فيزدادوا طغياناً. وقيل: المعنى: لا تسلطهم علينا(5/3311)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
فيفتنونا.
وقال مجاهد: المعنى: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك. فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا، ولا سلطنا عليهم. وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن زيد: المعنى " لا تَبْتَلِنا " ربنا فتجهدنا، وتجعله فتنة لهم "
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين}: يعنون قوم فرعون.
قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا إلى قوله - الذين لاَ يَعْلَمُونَ}:
المعنى: / " اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً ": {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: " مساجد تصلون فيها "، لأنهم كانوا يَفْرَقون من فرهون، وقومه أن يصلوا. فقال(5/3312)
لهم: اجعلوا بيوتكم مساجد حتى تصلوا فيها.
قال النخعي: خافوا، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم.
(وعن ابن عباس، قال مجاهد: كانوا لا يصلون إلا في البيع خائفين، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم).
وعن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة): يعني: قِبَل الكعبة.
وقيل: كان فرعون أمر بهدم الكنائس، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد، يصلون فيها سِرّاً.
قال مجاهد: مِصْرُ هنا الإسكندرية.
وقال ابن جبير: المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة}، أي: بحدودها. {وَبَشِّرِ المؤمنين}: هذا (خطاب) للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: وبشر مُقيمي الصلاة بالثواب الجزيل.(5/3313)
ثم قال تعالى حكاية عن قول موسى أنه قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً}، {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}: المعنى: إنه لما آل أمرهم إلى هذا كان كأنه إنما أتاهم ذلك للضلال. وأصل هذا اللام لام كي، وقيل هي لام العاقبة.
وقيل: هي لام الفاء، أي: فكان لهم ذلك، لأنه قد تقدم في علمه تعالى ذلك.
وقيل: المعنى: لئلا يضِلُّوا وحذفت " لا " كما قال: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176]. وهذا القول لا يحسن، لأن العرب لا تحذف لا إلا مع " أن ". ومعنى الآية:(5/3314)
أن موسى قال: يا رب إنك أعطيت فرعون، وعظماء قومه، وأِرافهم (زينة): يعني من متاع الدنيا وأثاثها (وأموالاً) يعني من الذهب والفضة.
{رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}، أي: أعطيتهم ذلك ليضلوا، ثم دعا عليهم موسى، فقال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ}، أي: اذهبها، وغيرها، واجعلها حجارة.
قال قتادة: جعل زرعهم حجارة.
قال مقاتل " جُعلت دنانيرهم، ودراهيمهم حجارة منقوشة، كهيئتها على ألوانها، لتذوب، ولا تلين، فجعل الله سكرهم حجارة.(5/3315)
قال قتادة: تحول زرعهم، وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن عباس: (اطمس عليها: أي: دمِّرها، وأهلِكْهَا. وكذلك قال مجاهد.
واشدد على قلوبهم): أي: حتى لا تنشرح للإيمان، فلا تؤمن.
وقال مجاهد: اشدد عليها بالضلالة.
قال ابن عباس: استجاب الله عز وجل من موسى، فحال بين فرعون وملئه، وبين الإيمان حتى أدركه الغَرق، فلم ينفعه الإيمان.
والعذاب الأليم في هذه الآية: الغرق.
قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} قال المبرد: موضعه موضع نصب، وليس بدعاء. وهو معطوف على " ليضلوا " وهو قول الزجاج.
وقال الكسائي، وأبو عبيدة: هو دعاء في موضع جزم.(5/3316)
وقال الأخفش، والفراء: هو جواب الدعاء في موضع نصب، مثل: إلى سليمان فَنستريحا - البيتَ -.
فقال تعالى لهما: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما}: هذا خطاب لموسى، وهارون، لأن موسى كان يدعو، / وهارون يؤمن.
وقيل: إنَّه خِطَابُ موسى، خطاب الاثنين لغة العرب.
وقوله: {دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما}: يدل على أن ذلك لموسى وهارون عليهما السلام: فالداعي موسى، والمؤمن هارون، والمؤمن داع أيضاً، لأنه يقول: اللهمَّ استجب فهو داع بإجابة الذي دعا موسى. وكان بين الإجابة ودعاء موسى(5/3317)
أربعون سنة.
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ} من خفف " النون " فهو على النفي، لا على النهي. والرواية عن ابن ذكوان بالتخفيف: يزيد عند القرَّاء تخفيف التاء، وهو وجه الرواية. غير أنا لم نقرأ إلا بتخفيف النون دون التاء.
ومعنى: {فاستقيما} أي: اثبتا على دعاء فرعون، وقومه إلى الإيمان. قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذه الآية أربعين سنة.(5/3318)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
ومعنى: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}: أي: يجهلون حقيقة وعيد الله ( عز وجل) .
قوله: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} إلى قوله: {لَغَافِلُونَ}.
ومن قرأ " إنه " بكسر الهمزة، فعلى الابتداء. وتقدير الكلام: آمنت بالذي كنت به مكذباً. ثم ابتدأ: إنه لا إله إلا الله.
وقيل: المعنى: صرتُ مؤمناً. ثم قال: " إنه مستأنفاً.
وقال أبو حاتم: القول محذوف، والتقدير، قال: آمنتُ فقلت: إنه ومن فتح فمعناه: آمنت بأنه، " فأن " في موضع نصب بحذف الخافض. وعلى مذهب الكسائي في موضع خفض بتقدير الخافض. والمعنى: وقطعنا ببني إسرائيل البحر،(5/3319)
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً}: أي: اعتداء، وظلماً على موسى، ومن معه.
وقرأ قتادة " وعدواً " بالضم والتشديد حتى إذا أدركه الغرق أي: أحاط به. وفي الكلام حذف. والتقدير: " فَغَرَقْناهُ ": " حتى إذا أدرك الغرَق ". " قال عليه السلام: " جعل جبريل يدس، أي: يحشو في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة ".
(وروى ابن وهب أن فرعون بن عبد الله قال: بلغني أن جبريل عليه السلام،(5/3320)
قال يا رسول الله! والذي نفسي، ما وَلد إبليس، ولا آدم ولداً قطُّ كان أبغض إليَّ من فرعون، وإنه لما {أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فخشيت أن يعود لها فيُرْحَمَ، فقمت حتى أخذت تربة، من تربة البحر، فحشوتها في فيه).
(وروي أن جبريل قال للنبي عليهما السلام: لقد كببتُ في فيه الماء، مخافةَ أن تدركه الرحمة).
وروي أنه قالهما حين أَلْجَمَهُ الماء، وأدركه الغرق.
ثم قال تعالى حكاية عن تعريفه لفرعون قبح ما فعل:
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}: يعني: أيام حياته إلى الساعة تؤمن، وقد عصيت أيام حياتك {وَكُنتَ مِنَ المفسدين}: أي: من الصادين عن سبيل الله سبحانه.(5/3321)
قال السدي: بعث الله، عز وجل، إليه ميكائيل، فقال له، آلآن وقد عصيت قبل.
ثم قال تعالى: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}: أي: نُلْقيك على نَجْوةٍ من الأرض، أي: على ربوة، ليعتبر من رآك.
وقيل: نخرجك ببدنك الذي نعرفك به / وذلك أنه كان له بدنٌ مذهبٌ، وهو ذرع كانت له.
قال قتادة: لم يصدق طائفة من الناس أنه غرق، فأخرجه الله عز وجل، ليكون عظة، وآية، ينظر إليها من كذب بهلاكه.
وقوله: {لِمَنْ خَلْفَكَ (آيَةً)}، أي: لمن بعدك.(5/3322)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
وقال مجاهد: {بِبَدَنِكَ}، أي: بجسدك.
قال ابن عباس: لما أغرق الله عز وجل، فرعون، ومن معه. قال: أصحابُ موسى لموسى: إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه فأخرجه، فنبذه البحر حتى استيقنوا بهلاكه.
قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا}: أي: عن أدلتنا على أن العبادة لا تكون إلا لله {لَغَافِلُونَ}: أي: لساهون.
قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} إلى قوله: {الخاسرين}.
المعنى: ولقد أنزلناهم منازل صدق.
قال الضحاك: يعني، مصر، والشام.
وقال قتادة: الشام، وبيت المقدس.
{وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} يعني: من حلال الرزق.
{فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} الذي يعلمونه، وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث(5/3323)
محمد صلى الله عليه وسلم، مجتمعين على نبوته، والإقرار به، وبمبعثه. فلما جاءهم كفروا به. واختلفوا فيه. فآمن بعضهم، وكفر بعضهم.
والعلم هنا: النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بمعنى العلوم الذي كانوا يعلمونه.
وقيل: العلم كتاب الله عز وجل، قاله ابن زيد. فعلوا ذلك بغياً: أي: منافسة في الدنيا.
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ - يا محمد - يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: أي: من أمري في الدنيا. فيدخل المكذبين النار، والمؤمنين الجنة.
{حتى جَآءَهُمُ العلم}: وقف، {مِّنَ الطيبات}: وقف.
ثم قال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ}: أي: إن كنت يا محمد في شك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوءتك، قبل أن نبعثك رسولاً، لأنهم (كانوا)(5/3324)
يجدونك في التوراة، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} يعني: عبد الله بن سلام، وشبهه من أهل الإيمان، والصدق منهم. وهذه مخاطبة للنبي، والمراد به أمته.
وقيل: " إن " بمعنى " ما "، والمعنى: فما كنت يا محمد في شك.
ثم قال {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ} سؤال ازدياد، كما قال إبراهيم: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
وقال المبرد: المعنى: قل يا محمد للشاك في ذلك إن كنت في شك، فاسأل وقيل: إن هذا خطاب العرب: يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني، فَبُرَّني. وهو يعلم أنه ابنه، وهو نحو قوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116]. وقد علم أنه لم(5/3325)
يقل ذلك.
قال ابن جبير: ما شك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا سأل، وقال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام، قال: لا أشك، ولا أسأل.
وروي أن رجلاً سأل ابن عباس عما يَحِيك في الصدر من الشك. فقال: ما نجا من ذلك أحد، ولا النبي حتى أنزل عليه: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ}.
وعنه أيضاً أنه قال: لم يكن / رسول الله في شك ولم يسأل. وهذا هو الصحيح الظاهر، والمراد بقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} أمته. وقوله: {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ}: اللام لام التوكيد وفي الكلام معنى القسم.
{مِنَ الممترين}: أي: من الشاكين.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله}: أي: جحدوا كتبه، ورسله، {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين}، أي: من الذين غُبِنَ حظه، وباع الرحمة بالسخط.(5/3326)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
والمراد بذلك أمة النبي عليه السلام.
قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {يَعْقِلُونَ}
والمعنى: إن الذين وجبت عليهم كلمات ربك وهي قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18].
وقال مجاهد: حق عليهم سخطه.
{لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب}.
أي: يعاينوا ذلك كما لم يؤمن فرعون حتى عاين العذاب. وذلك وقت لا ينفع فيه الإيمان.
ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ}، أي: فهلا كانت قرية آمنت، فنفعها إيمانها. وتقديره: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، فنفعها إيمانها، في ذلك الوقت {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ}: فإنهم نفعهم إيمانهم عند نزول عذاب الله عز وجل، بهم، فكشف الله سبحانه عنهم العذاب. وقوم يونس انتصبوا لأنه استثناء ليس(5/3327)
من الأول.
وقال أبو إسحاق: المعنى: فهلا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم إيمانهم، وجرى هذا بعقب إيمان فرعون عندما أدركه الغرق. فأعلم الله عز وجل، أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب، ولا عند حضور الموت.
قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} الآية [النساء: 18].
قال قتادة: لما فقدوا نبيهم، وأيقنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله عز وجل، في قلوهم التوبة. فلبسوا المسوح، وألهوا بن كل بهيمة وولدها. ثم عجَّلوا إلى الله سبحانه، أربعين ليلة، فلما علم الله عز وجل، الصدق منهم، والتوبة والندامة على ما مضى (كشف الله) عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. وكان قوم يونس بأرض الموصل.
قال ابن جبير: غشَّى قوم يونس العذاب، كما يغشى الثوب القبر ".(5/3328)
قال ابن عباس: لم يبق بين قوم يونس والعذاب إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشف الله عنهم.
قال ابن جبير: لما أبوا أن يؤمنوا بيونس، قيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم، فقالولا: إنا لم نجرب عليه كذباً، فانظروا فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصحبكم. فلما كان في جوف الليل تزوَّد شيئاً ثم خرج. فلما أصبحوا يغشاهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده، والبهيمة وولدها. ثم عجوا إلى الله عز وجل، فقالوا: آمنّا بما جاء به يونس وصدقنا. فكشف الله عز وجل، عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب، فلم ير شيئاً فقال /: جربوا عليَّ كذباً فذهب مغاضباً لربه حتى أتى البحر.
وعن ابن مسعود قال: أوعد يونس قومه أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام. ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا، فجأروا إلى الله سبحانه، واستغفروه، فكف الله عز وجل، عنهم العذاب.(5/3329)
ومعنى: {عَذَابَ الخزي}، أي: الهوان والذل.
قوله: {إلى حِينٍ} قال الضحاك: إلى الموت.
وقيل: إلى آجاله التي كتبها الله لهم قبل خلقهم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً}: أي: لوفقهم إلى الإيمان بك يا محمد - وبما جئت به. ولكن قد سبق في قضائه من يؤمن، ومن لم يؤمن: وهذا كله رد على المعتزلة الذين يقولون: إن الإيمان والكفر مفوضان إلى العبد، بل كل عامل قد علم الله عز وجل، ما هو عامل قبل خلقه له. ولا تقع المجازاة إلا على ذلك بعد ظهورهم منهم، وإقامة الحجج عليهم.
وقوله {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} يدل على ذلك ويبينه.
{أَفَأَنتَ} يا محمد {تُكْرِهُ الناس} حتى يؤمنوا بك؟
وفي الإتيان " بجميع " بعد " كلهم " قولان: أحدهما زيادة تأكيد، ونصبه على الحال. وقيل: لما كان كل يقع تأكيداً، ويقع اسماً غير تأكيد أتى معه بما لا يكون تأكيداً، وهو " جميعاً "، فجمع بينهما، ليعلم أن معناهما واحد، وأنه للتأكيد.(5/3330)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، أي: ما كان لنفس تصدق بك يا محمد، إلا أن يأذن لها الله. فلا تجهد نفسك يا محمد في طلب هداهم.
روي عن أبي الدرداء أنه قال: بعث الله عز وجل، إلى نبي من الأنبياء فقال لهم: لو أنك عملت مثل ما عمل جميع ولد آدم كلهم، ما أديت نعمة واحدة أنعمت بها عليك: إني أذنت لك أن تؤمن بي، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، وهذا نص ظاهر في إثبات القدر من القرآن والحديث.
قوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ}، أي: يجعل العذاب على من لا يعقل عن الله، سبحانه، حججه، وآياته جلت عظمته. والرجس: العذاب. وقال ابن عباس: السخط.
قوله: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} إلى قوله {نُنجِ المؤمنين}(5/3331)
والمعنى: قل يا محمد للسائلين: الآيات على صحة ما تدعوهم إليه: {انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} من الآيات الدالة على صحة ما أدعوكم إليه من توحيد الله وعبادته.
ثم قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}: أي: أي شيء تغني الحجج، والعِبَرُ عن قوم سبق لهم من الله عز وجل، الشقاء، وقضى لهم أنهم من أهل النار.
{مَاذَا فِي السماوات والأرض}: وقف، إن جعلت " ما " نفياً " وإن جعلتها استفهاماً، لم تقف على الأرض، لأن " ما " معطوفة على ما قبلها.
ثم قال تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ}. والمعنى: هل ينتظر هؤلاء، يعني: مشركي قريش أهل مكة - يا محمد - إلا نزول العقوبة بهم،(5/3332)
كما نزل قبلهم حين كذبوا رسلهم. قل لهم يا محمد: {فانتظروا} عقاب، ونزول سخطه بكم. {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} / هلاككم وبواركم بالعقوبة.
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ}: أي: ننجيهم من بين أظهركم إذا نزل بكم العذاب.
{كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} فيمن تقدم من الأمم الماضية إذا نزل بهم العذاب نجينا المؤمنين منهم. " الكاف " في موضع رفع إن جعلت {والذين آمَنُواْ} تماماً والتقدير: مثل ذلك يحق علينا حقاً.
وإن لم تجعل {آمَنُواْ} تماماً جعلت " الكاف " في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، أي: " نجاء مثل ذلك " يحق حقاً، وأنجى، ونجى لغتان بمعنى و " ننج " بغير ياء في الخط، والأصل الياء. ولا يتعمد الوقف عليه، وقد وقف عليها سلام ويعقوب بالياء على الأصل وهو خلاف الخط.(5/3333)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} إلى قوله: {مِّنَ الظالمين}.
والمعنى: قل يا محمد: يا أيها المشركون إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه، فلم تعلموا أنه حق من عند الله، فإني لا أعبد الذين تعبدون من دوني الله: يعني الآلهة، والأوثان التي لا تنفع، ولا تضر.
وفي الكلام تعريض: والمعنى: إن كنتم في شك من دوني، فلا بنبغي لكم أن تشكّوا فيه، وإنما ينبغي أن تشكوا في عبادة من لا ينفع، ولا يضر، ولا يسمع، ولا يُبصر. {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ}: أي: يقبض أرواحكم عند مجيء آجالكم.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين}: أي: المصدّقين بما جاء من عنده. ومعنى {مِن دُونِ الله} من عند الله.
ثم قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي: وأمرت: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}: أي: أقم نفسك على دين الإسلام.(5/3334)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{حَنِيفاً}: أي: مستقيماً، غير معوج. وأمرت نفسي ألا أكون من المشركين، " ولا أدعو من دون الله ما لا ينفعني ولا يضرني، كما فعلتم أيها المشركون. فإن فعلت أنا ذلك، فإني من الظالمين لنفسي ".
قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} إلى آخر السورة.
والمعنى: إن يُصبْكَ الله يا محمد بضر، فلا كاشف له عنك إلا هو دون ما يعبد هؤلاء من دون الله.
{وَإِن يُرِدْكَ} الله يا محمد بخير أي: برخاء ونعمة، فلا رادَّ لفضله عنك. يصيب ربك يا محمد بالرخاء. من يشاء من عباده.
{وَهُوَ الغفور} لذنوب من تاب.
{الرحيم}: لمن آمن واستقام.
ثم قال تعالى: قل - يا محمد - {قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ}: والحق هنا: القرآن. {فَمَنِ اهتدى} أي: استقام {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ} أي: اعوج عن الحق.(5/3335)
{فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: أي: يسلط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله. وأنا نذير، ومنذر.
ثم قال تعالى آمراً لنبيه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ}: أي: اعمل به، واصبر على ما يقول المشركون، وما يتولون عن أذاك.
{حتى يَحْكُمَ الله}، أي: يقضي.
{وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}، أي: خير القاضين بحكم الله عز وجل بينهم، يوم بدر بالسيف، فقتلهم، وأمر نبيه أن يسلك بمن بقي سبيل من هلك منهم حتى / يؤمنوا.
قال ابن زيد: هذا منسوخ بجهادهم، وأمره بالغلظة عليهم.(5/3336)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
سورة هود. مكية.
روى مسروق عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه, انة قال: قلت يا رسول الله! لقد أسرع إليك الشيب فقال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة, والمرسلات, وعم يتساءلون, واذا الشمس كورت.
وروى عكرمة عن ابن عباس نحوه.(5/3337)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
قوله: {الر} قد تقدم الكلام عليها.
وقولهم: " قَرَأتُ هوداً ": من صرفه أراد به سورة هود، ومن لم يصرفه جعله اسماً للسورة.
ولو قلت: " قرأت الحمد (لله) ". فإنما جاز النصب: تُعْمِلُ الفعل فيه، وجاز الرفع على الحكاية.
فإن قلت: قرأتُ {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2، يونس: 10، الزمر: 75، غافر: 65]، حكاية لا غير، وكذلك {بَرَآءَةٌ} [التوبة: 1، القمر: 43]، ترفع على الحكاية، وتنصب على العمل. وتنوِّنُ إذا أردت الحذف، ولا(5/3338)
تصرف إذا جعلته اسماً للسورة.
فإن قلت: قرأتَ {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]، حكاية لا غير.
وتقول: قرأت " ألم البقرة ": فتنصِبُ على النعت لقولك: " ألم "، لأنه مفعول به بقراءةٍ، وإن شئت خفضتَ " البقرة "، وتقدّر إضافة " ألم " إليها.
فإن قلت: " قرأت: {المص} [الأعراف: 1]، و {كهيعص} [مريم: 1]، لم يجز الإعراب، لأنه ليس في الأسماء نظير لهذا. وكذلك {المر} [الرعد: 1]، و {الر} [1: هود، يوسف، إبراهيم، الحجر]، وكذا {طه} [طه: 1] لأنه في آخرها ألفاً.(5/3339)
فإن قلت: {طس} [النمل: 1]، قلت هذا " طسين " يا هذا، فلا تصرف لأن هذا من نظيره هابيل، وقابيل.
فإن أردت الحكاية، أسكنت، وتقول هذه {طسم} [الشعراء: 1، القصص: 1] فتُعْرِبُ: إن شئت تجعل " طس " اسماً، و " ميم " اسماً، وتضم أحدهما إلى الآخر مثل: معدي كرب، فيجوز فتح الثاني ورفعه تجعل الإعراب في الآخر.
وأجاز سيبويه: مَعْدِي كرب على الإضافة، فيجوز على هذا، " طس ميم "، وتحسن الحكاية. فإن قلت: " قرأت {حم} [1: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف] "، لم ينصرف لأنه مثل " هابيل ". وإن شئت أسكنت على الحكاية.(5/3340)
فإن قلت قرأت {حم* عسق} [الشورى: 1 - 2] لم يجز الإعراب، لأنه لا نظير له في الأسماء.
وتقول هذه {ن} [القلم: 1] فاعلم بأنها تُنَوَّن، وتُعْرَبُ " تريد سورة " نون ". وإن شئت جعلته اسماً للسورة، فلم تنونْ، وإن شئت أسكنت على الحكاية. وتقول: هذه السبح، فلا تصرف إذا جعلته اسماً للسورة، لأنه فعلٌ، وليس في الأسماء فعلٌ.
وإن شئت فتحتَ فَحَكَيْتَ على ما في السورة، فإن قلت هذه " سِبحْ " لم يجز إلا الإسكان تحكيه لأنه فيه ضمير، والجمل تحكى، وكذلك تحكي: قرأت: {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1]، و {يا أيها المدثر} [المدثر: 1]، وقرأت {والفجر} [الفجر: 1] لأنه اسم وحرف.(5/3341)
وتقول: قرأت {اقتربت} [القمر: 1] تقطع الألف، وتقف على الهاء، إذا جعلته اسماً للسورة / لأن تأنيث الأسماء في الوقف بالهاء، وألف الوصل في الأفعال تقطع إذا سمي بالأفعال. وإن شئت قلت: قرأت {اقتربت} فوصلت الألف ووقفت بالتاء، على الحكاية.
فإن قلت: قرأت {اقتربت الساعة} [القمر: 1]، لم يجز إلا الحكاية به ومثلُه:
{تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]، فإن أفردت بالهاء، وجعلتهُ اسماً للسورة قلت: قرأت " تبَّت "، تقِفُ على الهاء.
قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} - إلى قوله - {على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
المعنى: هذا الكتاب الذي أنزلناه {أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ}: أي: بالأمر والنهي، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالثواب، والعقاب. قاله الحسن. وعنه {ثُمَّ فُصِّلَتْ} أي:(5/3342)
الوعد، والوعيد.
وعنه أيضاً: {أُحْكِمَتْ} أي: بالثواب والعقاب {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالأمر، والنهي.
وقال قتادة: أحكمها الله عز وجل، من الباطل، ثم فصلها، وبيَّنَ الحلال، والحرام.
وقال مجاهد: {أُحْكِمَتْ}: لم ينسخها شيء.
{ثُمَّ فُصِّلَتْ} نزلت شيئاً بعد شيء. وقيل: {فُصِّلَتْ}: فُسِّرت وبيِّنت: قاله مجاهد، وابن جريج.
{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ}: أي: من عند حكيم في أفعاله، خبير بجميع الأشياء، وبمصالح عباده.
وقيل: أحكمت عن أن يدخل فيها الفساد. يقال: أَحْكَمَتْهُ الآيات.(5/3343)
وحكمته لغتان: أي: مَنَعْنَهُ، ومنه حَكَمت اللجام لأنها تمنع الفرس الجماح. وأصله كله من إحكام الشيء، وهو: إبرامه، وإتقانه، عن أن يفسده شيء.
والوقف على {الر} حسن إلا قول من جعله مبتدأه وكتاب خبره.
ثم قال تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي: فصلت من (أجل) ألا تعبدوا إلا الله عز وجل.
ثم قال لنبيه: قل {إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}: أيها الناس. والابتداء بـ " إنني " حسن، ثم قال تعالى: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ}. رداً على {أَلاَّ تعبدوا}: أي: استغفروه من عبادة الأصنام {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: من عبادة الأصنام، أي: ارجعوا، {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} أي: ينسئ في آجالهم إلى الوقت الذي يشاء، ويرزقكم من زينة الدنيا. وأصل الإمتاع: الإطالة. ثم قال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}: أي: يثيب من تفضل بفضل ماله، أو قوته، أو(5/3344)
كلام حسن، أو غير ذلك من وجوه الخير على غيره لوجه الله عز وجل.
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت واحدة، ومن عمل حسنة كتبت عشراًَ، فذلك فضل الله، عز وجل. قال: فإن عوقب بالسيئة في الدنيا زالت عنه، وإن لم يعاقب بها أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ}: أي: عما دَعَوتهم إليه يا محمد من الاستغفار، والتوبة، فقل لهم: {فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}: أي: إن تماديتم على كفركم.
وقال الطبري: المعنى: فإن توليتم، جعله ماضياً وهو على قراؤة البزي: " مستفعل "، لأنه يشدد / التاء.
ثم قال: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ}: أي: مردكم، ومصيركم، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}:(5/3345)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
أي: على إيحائكم بعد إماتتكم/ وعقابكم على كفركم. (" وقدير ": بمعنى قادر إلا أن " فعيلاً " أبْلغُ).
قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} إلى قوله: {مُّبِينٍ}.
(ألا): استفتَاحُ كلام، و {يَثْنُونَ}: من ثنيت، وهو فعل المنافقين، كانوا إذا مروا بالنبي يثني أحدهم صدره، ويطأطأ رأسه.
وقيل: نزلت فيما، كان المنافقون يبطلون من عداوة النبي، وبغضه، أعماع أن الله عز وجل يعلم ما تنطوي عليهم صدورهم من ذلك، وإنْ غطوا عليه رؤوسهم بثيلبهم، ليستتروا، فهو يعلم ما في صدورهم في كل حال من أحوالهم.
يعني بالنافقين: كفار قريش، لا المنافقين من أهل المدينة. لأن السورة مكية.(5/3346)
وقال مجاهد: ظنوا أن الله، عز وجل لا يعلم ما في صدورهم.
وقال الحسن: جهلوا أمر الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: ألا حين يلبسون ثيابهم في ظلمة الليل، في أجواف بيوتهم. يعلم ذلك الوقت سرهم وجهرهم.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} وقيل: إن أحدهم كان يثني ظهره، ويستغشي ثوبه، وقيل: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك لئلاّ يسمعوا كتاب الله عز وجل. قاله قتادة.
وقيل: إن هذا إخبار من الله ( عز وجل) عن المنافقين، أنه يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من الكفر.
وقال ابن زيد: " هذا حين يناجي بعضهم بعضاً ".(5/3347)
وقرأ ابن عباس: " ينثوي " صدورهم على مثال " ينطوي. قال: كانوا لا يأتون النساء، ولا الغائط إلا وقد تغشوا ثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء ".
وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليُساره. وبلغ من جهلهم أنهم ظنوا أن ذلك يُحفى على الله سبحانه.
ورُويَ عن ابن عباس أيضاً أنه قرأ تنثوي.
وعنه أيضاً أنه قرأ: " تثنوني "، مثل: تَفْعوعِلُ. ومعناه: المبالغة مثل(5/3348)
" احلَوْلى ": إذا بلغ الغاية في الحلاوة، والهاء في " منه " للنبي صلى الله عليه وسلم، على القول الأول، وهي " إنه لله عز وجل " على القول الثاني.
وعن ابن عباس: ألا حين يستغشون ثيابهم: " أي: يغطون رؤوسهم ".
والوقف عنج الأخفش، والفراء، وابن كيسان على ذات بالتاء، لأن هذا الاسم لا يستعمل إلا مضافاً. فصارت التاء في وسط الكلام. وعليه جماعة القراء. والوقف عند الكسائي بالهاء، وهو قول الجُرْمي، لأنه ثانية الأسماء، وهو اختيار أبي حاتم.
{لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} وقف. {وَمَا يُعْلِنُونَ}، وقف /.
ثم قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا}: أي: يتكفل بذلك حتى(5/3349)
تموت. يعني: بدابة: كل ما دب، ودرج على وجه الأرض من إِنسيّ، أو جني، أو بهيمة، أو هامّة، والهامَّة كل ما يدُب سميت بذلك لأنها تهم، أي: تدب.
وقال الضحاك: والناس منهم.
ثم قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا}: أي: حيث تستقر، وتأوي. {وَمُسْتَوْدَعَهَا}: " حيث تموت " قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: {مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب، مثل تلك التي في الأنعام، وهو قول الضحاك. وقد روي أيضاً هذا عن ابن عباس.
(وقيل: المستقر في الرحم، والمستودع: حيث تموت). كل ذلك(5/3350)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}: أي: ظاهر لمن قرأه، قد أثبته الله، عز وجل، قبل الخلق: وهذا توبيخٌ لمن أخبر عنه أنه يخفي ما في صدره عن الله، عز وجل، ويظن أن الله سبحانه لا يعلمه، وكيف يكون آمن من قد أحصى جميع استقرار الحيوان، وموضع موته، وتكفل برزقه، وأثبت ذلك قبل خلقه. فمن كان يقدر على ذلك كيف يخفى عليه ما في صدور هؤلاء.
قوله: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ} إلى قوله {يَسْتَهْزِءُونَ}.
والمعنى: أن الذي إليه مرجعكم أيها الناس، هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلق ذلك في لحظة.
روى أبو هريرة رضي الله عنهـ، قال: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيدي، فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور فيها يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر ساعات الجمعة ".(5/3351)
قال كعب: جعل الله عز وجل، الدنيا مكان كل يوم من الستة الأيام ألف سنة ".
وقال الضحاك: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الآخرة، كل يوم مقدار ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة، فسميت الجمعة لذلك. ولم يخلق يوم السبت شيئاً.
وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء}: أي: قبل خلق السماوات والأرض " وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: في عماء ".
- في بمعنى على عادة العرب، لأنها تبدّل حروف الجر، بعضها من بعض.(5/3352)
العماء: السحاب الرقيق. ومن رواه مقصوراً فمعناه، والله أعلم، أنه كان وحده، وليس معه سواه. شبه عليه السلام العمى بالعماء توسعاً ومجازاً - (فوقه هواء، وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء).
قال ابن عباس: كان الماء على متن الريح.
ثم قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: أي: فعل ذلك ليختبركم أيكم أحسن عملاً له، وطاعة.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: أحسن عقلاً، وأورع عن(5/3353)
محارم الله عز وجل، وأسرع إلى طاعته.
قال ابن جريج: يعني بالاختبار الثقلين. والمعنى: ليختبركم الاختبار الذي تقع عليه المجازاة، وهو عالم بما يفعل الجميع قبل خلقهم. ولكن أراد الله تعالى، أن يظهر من الجميع ما يقع عليه الجزاء.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت}: أي: إن قلت لهم يا محمد: إنكم مبعوثون من بعد موتكم، وتجازون ليقولن الذين كفروا، ما هذا {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ما قولك إلا سحر ظاهر.
ومن قرأ (إلا ساحر)، فمعناه: ما هذا الذي يخبرنا بهذا إلا ساحر ظاهر.
ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}: أي: ولأن أخرنا يا محمد عن قومك العذاب إلى وقت معلوم عندنا معدود.
وقيل: المعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أمة. وإنما سميت السنون أمة، لأن فيها(5/3354)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
تكون الأمة، وتنبتُ وتهلك. وأصل الأمة الجماعة.
ثم قال تعالى إخباراً عما علم منهم: إنهم يقولون: إذا أخرنا عنهم العذاب. {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِم}: أي: ليقولن هؤلاء الكفار ما يحبه، أي: شيء يمنع الذعاب أن يأتي تكذيباً منهم به. قال الله تبارك وتعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً} (أي: ليس يصرفه عنهم أحد إذا جاء وقته).
{وَحَاقَ بِهِم}: أي: نزل بهم وحل {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وهو العذاب. وقيل: المعنى: وحل بهم عقاب استهزائهم بأنبيائهم.
قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} إلى قوله {على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
المعنى: ولئن وسعنا للإنسان في رزقه وعيشه، ثم سلبنا ذلك منه.(5/3355)
{إِنَّهُ لَيَئُوسٌ}: أي قنوط من الرحمة.
{إِنَّهُ لَيَئُوسٌ}: أي: " كفور لمن أنعم عليه، قليل الشكر ".
والإنسان هنا اسم للجنس، وقيل: هو للكفار خاصة.
ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ}: أي: ولئن بسطنا له في الرزق والعيش، بعد ضيق في رزقه مسه منه ضرر {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني}: أي: ذهب الضيق، والعسر عني. {إِنَّهُ لَفَرِحٌ}: أي: مرح، لا يشكر، {فَخُورٌ}: أي يفخر بما ناله من السعة في رزقه، فينسى صروف الدنيا، وعوارضها غرَّة منه وجرأة. {الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76]: وهذا كله من صفة الكافر.
وقد قرأ بعض أهل المدينة " لَفَرَحٌ " بضم الرَّاء، وهي لغة، كما يقال:(5/3356)
رجل قطِرٌ وقُطُرٌ وحذَر وحذُرٌ. ثم استثنى. تعالى ذكره من هؤلاء قوماً ليسوا على هذه الصفة فقال: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي: على الضيق والعسر وحمدوا الله على ما نالهم.
{وَعَمِلُواْ الصالحات}: أي: الأعمال التي هي طاعات.
{أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ}: أي: من الله: أي: لهم مغفرة لذنوبهم، فلا يفضحهم في معادهم.
{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: أي: ثواب عظيم على أعمالهم، وهو الجنة.
وقوله: {إِلاَّ الذين} هو استثناء ليس من الأول عند الأخفش بمعنى: " لكن ". فهذا في المؤمنين، والأول / في الكافرين فهما جنسان ونوعان.
وقال الفراء: هو استثناء من أذقناه، لأن الإنسان بمعنى الناس، فهو من الأول.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي: فلعلك تتْرك بعض ما يوحى إليك يا محمد، فلا تُبلغه لمن أمرت أن تبلغه إياه.(5/3357)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي: وضائق بما يوحى إليك صدرك، فلا تبلغهم إياه مخافة أن يقولوا: فهلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ}: من مال {أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدقه فيما يقول، وينذر معه. إنما عليك يا محمد الإنذار. {والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: أي: لست يا محمد عليهم بوكيل. الله هو الوكيل عليهم، أي: هو القائك بمجازاتهم وأمورهم.
فالهاء في " به " تعود على " ما "، أو على " بعض "، أو على التبليغ، أو على التكذيب.
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} إلى قوله {يَعْمَلُونَ}:
المعنى: أيقولون افتراه، أي: اختلق القرآن من عند نفسه. و " أَمْ " هنا هي المنقطعة التي هي بمعنى الألف قل لهم يا محمد {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ}: أي: مثل القرآن. {مُفْتَرَيَاتٍ}: مختلفات، أي: مختلفات، أي: مفتعلات. كما زعمتم أني اختلقت(5/3358)
القرآن، فاختلقوا أنتم أيضاً. إذ محال أن أقدر على ما لا تقدرون، لأنا أهل لسان واحد.
{وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله}: أي: ادعوا للاختلاق والعون من شئتم إلا الله سبحانه {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}: في قولكم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، افترى القرآن من عند نفسه.
ثم قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ}: أي: إلم يستجب لكم أيها المشركون من (تدعون لأن يأتوا) بعشر سور مثل هذا القرآن {مُفْتَرَيَاتٍ} ولم تطيقوا أن تأتوا بذلك، {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله}: أي: أيقنوا أن هذا القرآن أنزل على محمد بعلم الله، وألاَّ معبود إلا الله عز وجل.(5/3359)
وقيل: المعنى: فإلم يستجب لكم يا محمد هؤلاء المشركون في أن يأتوا بذلك {فاعلموا}: أيها المشركون أنه إنما أنزل بعلم الله. وأتى بـ " لكم " لأن المراد النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون.
وقيل: خوطب النبي صلى الله عليه وسلم، بلفظ الجماعة كما يخاطب العظيم، والشريف. والنبي صلى الله عليه وسلم، أشرف مَنْ على وجه الأرض.
{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}: أي: مذعنون بالطاعة، مُخْلصُون لله عز وجل، العبادة.
ثم قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}. المعنى: من " كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها، نوف إليهم أجورهم فيها ".
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}: هذا للكافر، فأما المؤمن فيجازى بحسناته في(5/3360)
الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.
وقيل: إن قوله: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}: يعني: في الآخرة لا يظلمون.
قال مجاهد: هي في أهل الرياء.
وقيل: المعنى: لئن كان يريد بغزوه الغنيمة وفي ذلك، ولم ينقص منه شيئاً.
وقال ابن عباس: نسختها {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا (لَهُ) فِيهَا مَا نَشَآءُ / لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 17]. وهذا مردود، لأنه خبرٌ، والأخبار لا ننسخ.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله جل ثناؤه، إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعى به: رجل جمع القرآن،(5/3361)
ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله عز وجل، للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى، يا رب. قال فما عَمِلتَ فما علِمْت؟ قال: كنت اقرأ آناء الليل، وآناء النهار (ابتغاء وجهك)، فيقول الله، جلَّ ثناؤه: " كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله عز وجل: أردتَ أن يُقالَ: فلان " قارئ. فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله عز وجل، له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما أتيتك؟ قال: كنت اصِل الرحم، وأتصدق " ابتغاء وجهك ". فيقول الله عز وجل له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان جواد. فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله عز وجل، فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله، تعالى، له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت. فيقول الله تعالى له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ركبتيَّ، فقال: يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة ".(5/3362)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
ثم قال تعالى: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا}: أي: في الدنيا، ومعنى حبط: ذهب، {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} إلى قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ}.
والمعنى: أفمن كان على بينة من ربه كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
والهاء في " ربه " تعود عليه. قال ذلك قتادة، وعكرمة، والنخعي.
وقوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ}: أي: ويتلو محمداً شاهدا منه، أي: من الله، وهو القرآن.
وقيل: المعنى: ويتلو القرآن شاهداً منه، أي: من محمد. وهو لسانه، أي: يقرأه: وهو قول الحسن، ومعمر.
ويجوز أن تكون الهاء في ويتلوه للبينة، لأنها بمعنى البيان.(5/3363)
وقال ابن عباس: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ}: هو جبريل عليه السلام، يتلو القرآن من عند الله عز وجل، على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: هو مَلَكٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم، يحفظه من عند الله، سبحانه.
وقيل: إن قوله {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}، يعني: به النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين. ودلّ على ذلك قوله: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
وقيل: المعنى: ويتلوه شاهد من الله، عز وجل، والشاهد: الإنجيل، ويتلوه القرآن بالتصديق.
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى}، أي ومن قبل الإنجيل التوراة.
وقال الزجاج: المعنى: ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، موصوف في التوراة، والإنجيل.(5/3364)
وحكى أبو حاتم: (ومن قبله كتابَ موسى) بالنصب، على العطف على الهاء في " يتلوه ". أي: ويتلو كتاب موسى جبريل، فهو من التلاوة التي هي القراءة، وكذلك قال ابن عباس، قال: (الشاهد): جبريل، و " منه " من الله عز وجل. و " من قبله " تَلَى جبريل كتاب موسى على موسى صلى الله عليه وسلم. ويجوز الرفع في {كِتَابُ} على هذا المعنى، كما تقول: رأيت أخاك، وأباك: أي: وأباك كذلك. فيكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك: أي: تلاه جبريل على موسى، كما تلى على محمد عليهم السلام.
والمعنى: أفمن كان على هذه الحال، كمن هو في الضلالة، والعمى. واختار قوم أن يكون المعنى: أن الشاهد القرآن، يتلوه محمد، أي: بعده شاهداً له. ودل على ذلك قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى}.
قال ابن عباس: الشاهد جبريل.(5/3365)
قال مجاهد: الشاهد حافظ من الله عز وجل، يحفظ محمداً: أي: ملك. فالهاء في " منه " تعود على الله، في هذين القولين.
وقيل: (الشاهد): لسان محمد صلى الله عليه وسلم، والهاء تعود على محمدٍ. قاله الحسن.
وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن. والهاء في {يُؤْمِنُونَ بِهِ} للقرآن.
وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن والهاء في {يُؤْمِنُونَ بِهِ} للقرآن، وقيل: لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}: أي: مَنْ هذه صفته، يؤمن بالقرآن، وإن كفر به هؤلاء الذين قالوا: إن محمداً افتراه.
ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} " يعني: من مشركي العرب، وغيرهم، ممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، من كفر بِمُحَمَّدٍ، فالنار موعده يهودياً، كان أو نصرانياً، أو غير ذلك.(5/3366)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
ثم قال: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته، {إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ}، أي: القرآن حق من عند الله عز وجل، فلا تكونوا أيها المؤمنون في شك من ذلك.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: " لا يصدقون، بأن ذلك كذلك. {شَاهِدٌ مِّنْهُ}: وقف عند نافع على معنى: ويتلوالقرآن شاهد من الله، وهو جبريل.
{يُؤْمِنُونَ بِهِ}: وقف، وكذلك: {فالنار مَوْعِدُهُ}، وكذلك {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ}.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله {هُمُ الأخسرون}
والمعنى: من أعظم جرماً ممن اختلق على الله سبحانه، الكذب، أي: كذب بآياته، وحججه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.(5/3367)
{أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ}، يوم القيامة، فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا.
قال ابن جريج: ذلك الكافر، والمنافق.
{وَيَقُولُ الأشهاد}: الذين شهدوا على أعمالهم، وحفظوها عليهم:
{هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} في الدنيا {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين}: أي: غضبه، وإبعاده من رحمته.
قال مجاهد: الأشهاد هنا: الملائكة الحفظة، وكذلك قال قتادة. وقال الضحاك: الأشهاد: الأنبياء، والرسل، صلوات الله عليهم، يقولون: هؤلاء الذين كذبوا بما جئنا به من عند ربنا.
ثم بين تعالى الظالمين مَنْ هُمْ فقال: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}: أي: يُزَيِّغون أن يدخلوا في الإيمان. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}: أي: يلتمسون لسبيل الله عز وجل، العوج والزيغ. وسبيل الله هو الإيمان به، وبما جاء من عنده، وهم مع ذلك(5/3368)
" وَبِالآخِرَةِ هُمْ / كَافِرُونُ ": أي: جاحدون، لا يصدقون بالبعث، {على رَبِّهِمْ}: وقف.
ثم قال تعالى: {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} والمعنى: أولئك الذين هذه صفتهم، لم يكونوا معجزين ربهم، سبحانه، في الأرض بهرب، أو باستخفاء، إذا أراد عقابهم. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ}: أي: ليس لهم من يمنعهم من الله عز وجل، إذا أراد الانتقام منهم.
ثم قال تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} ولا يعقلون عن الله عز وجل. { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}. ولا يهتدون إلى رشدهم. وقيل: إن المعنى يضاعف لهم العذاب أبداً: أي: وقت استطاعتهم السمع والبصر.
وقيل: إن " ما " للنفي، فيحسن الابتداء بها على هذا، ولا يحسن على القولين الأولين.
ومعنى النفي هنا أن الضمير في " يستطيعون "، و " يبصرون ": الأصنام، والنفي(5/3369)
عنها: أي: لم تكن تسمع، ولا تبصر. وهذا التأويل مروي عن ابن عباس.
وقيل: المعنى: إن الضمير " لهم "، والنفي " عنهم ": أي: لم يكونوا ليسمعوا شيئاً ينفعهم من الإيمان، ولا يبصرونه، لأن الله، عز وجل، حال بينهم وبين ذلك، لما سبق في علمه، فهو مثل قوله: {يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]: بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكافر. ومثله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، ومثله {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] بالله، عز وجل. ختم على قلوبهم، وعلى أبصارهم بكفرهم. قال ذلك قتادة، فقال: فهم صمٌّ عن الحق، فما يسمعونه، بُكْمٌ، فما ينطقون به. عميٌ فلا يبصرون. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ، إن المعنى: لا يستطيعون أن يسمعوا سماع منتفع بما يسمع، ولا يبصرون إبصار مُهتَدٍ، لاشتغالهم بالكفر.(5/3370)
قال الزجاج: ذلك كان منهم لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسمعون عنه، ويفهمون ما يقول.
قال الفراء: سبق لهم في اللوح المحفوظ أنه يضلهم.
قوله: {أَوْلِيَآءَ} وقف عند نافع، {العذاب}: وقف إن جعلت " ما " نَفياً خاصة.
ثم قال تعالى: {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: غبنوا أنفسهم حظها كم رحمة الله عز وجل.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}: أي: بَطُلَ كذبهم، وافراؤهم على الله، سبحانه.
ثم قال تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون}، و {لاَ جَرَمَ} عند سيبويه، والخليل بمعنى: حق. وأن في موضع رفع، وجيء بـ " لا " عند(5/3371)
الخليل ليعلم أن المخاطل لم يُبتدأ به كلامه، وإنما خاطب غيره.
وقال الزجاج: لا هنا نفي لما ظنوا أنهم ينفعهم كأنه كان المعنى: لا ينفعهم ذلك.
{جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة}، أي: كسب ذلك الفعل لم الخُسْرَان، ف " أن " عنده في موضع نصب.
وقال الكسائي: المعنى: " لا صَدَّ "، ولا مَنْعَ عن أنهم ". فإنَّ في موضع نصب أيضاً، فحذف الخافض. وحُكِيَ: لاجَرَ " بغير ميم لغة ناسٍ من فُزَارة.
وحكى / الفراء: " لا ذَا جَرَمْ لغة لبني عامر.
وقال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل، والله أعلم، بمنزلة: لا بد أنك قائم،(5/3372)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
ولا محالة أنك قائم، فكثرت حتى صارت منزلة " حقاً ".
تقول العرب: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت إليك، وأصلها من جرمت، أي: كسبت الشيء.
وذكر ابن مجاهد عن بعض القراء، وهو حمزة: ولا جرم بالمد، وكان يأخذ به بمعنى الاية: حقٌّ أنَّ هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الأخسرون في الآخرة: باعوا منازلهم في الجنة، بمنازلهم في النار، وذلك هو الخسران المبين.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} إلى قوله {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
معنى: أخبتوا، أنابوا، وقيل: معناه: اطمأنوا وقيل: خشعوا،(5/3373)
وتواضعوا، وتضرعوا. والمعاني في ذلك متقاربة. وإلى: هنا بمعنى اللام، والمعنى: " لربهم " كما وقعت اللام بمعنى " إلى قوله ". أوحى لها: أي: إليها.
ثم قال تعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} أي: مثل الكافر كالأعمى، والأصم، والمؤمن كالبصير، والسميع: فهذا مثل ضربه الله عز وجل، للكافر والمؤمن، فالكافر أصم عن الحق، أعمى عن الهدى، لا يبصره، والمؤمن يبصر الهدى، ويسمع الحق، فينتفع به.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} على اختلاف حاليهما. ومثل نصبه مصدر في موضع الحال. (مثلاً): وقف عند نافع.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ} من كسر " إني "،(5/3374)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
فالمعنى: فقال: إني: ومن فتح فَعَلَى تقدير حذف الجر.
والمعنى: أنذركم بأسه، وعقابه إن تماديتم على الكفر.
{مُّبِينٌ}: أي: أبين لم ما أرسلت به إليكم. ثم بين تعالى: بأي شيء أرسل، فقال: {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} إن تماديتم على كفركم. {إلى قَوْمِهِ}: وقف إن كسرت " إني "، وجعلت " ألا " تعبدوا متعلقاً بنذير.
قوله: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} إلى قوله: {قَوْماً تَجْهَلُونَ}:
المعنى: أنهم قالوا له: ما نواك إلا آدمياً مثلنا في الخلق، ثم قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي: السفلة، دون الأكابر. وقيل: هم الفقراء، وقيل: هم الخسيسو(5/3375)
الصناعات. وروي في الحديث أنهم كانوا حاكة، وحجامين. ولا يقال رجل أرذل، ولا امرأة رذلاء حتى تدخل الألف واللام، أو يضاف.
وقوله: {بَادِيَ الرأي} مَنْ همزه جعله من الابتداء، أي: ابتعوك ابتداء، ولو فكروا لم يتبعوك. ومن لم يهمز، جاز أن يكون على تخفيف الهمزة، وجاز أن يكون من بَدَا يَبْدو: إذا ظهر، أي: اتبعوك في ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك.
وقيل: المعنى: ابتعوك في ظاهر الرأي، ولو تدبروا لم يتبعوك.(5/3376)
وقيل: المعنى: اتبعوك في ظاهر الرأي الذي ترى، وليس تدري باطنهم.
ونصبه عند الزجاج على حذف " في " أو على مثل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155].
وقيل: المعنى: أنه نعت لمصدر محذوف، والمعنى " اتباعاً ظاهراً ".
ثم حكى الله عز وجل، عنهم قالوا لمن آمن بنوح صلى الله عليه وسلم: { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} إذ آمنتم بنوح {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}: أي: في دعوتكم أن الله عز وجل، ابتعث نوحاً رسولاً. وهذا خطاب لنوح، لأنهم به كذبوا، فخرج الخطاب له مخرج خطاب الجميع.
قال نوح لقومه: {ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي}: أي: على معرفة به، وعلم.
/ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ}: أي: رزقني التوفيق، والنبوءة، والحكمة، فآمنت، وأطعت.(5/3377)
{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}: أي: عميت عليكم الرحمة، أي: خفيت، فلم تهتدوا لها.
والرحمة عند الفراء: الرسالة. ومن شدد فمعناه: " فَعَمَّها " الله عليكم، أي: خفاها. وفي قراءة عبد الله، وأُبَيّ: " فَعَمَّاهَا الله عليكم " وقد أجمع الجميع على التخفيف في " القصص "، ولا يجوز غيره.
ثم قال: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي: أنآخِذُكُمْ بالدخول في الإسلام على كره منكم، فنلزمكم ما لا تريدون.
يقول صلى الله عليه وسلم: " لا تَفْعَل ذلك، بل نكل أمرهم إلى الله، سبحانه ".(5/3378)
قال النحاس: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: أنجبها عليكم. وأنتم لها كارهون. وقيل: معنى {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وقيل: الهاء في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} للرحمة. وقيل: للبينة.
ثم حكى الله عنه أنه قال: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً}: أي: لا آخذ منكم على نصحي إياكم، ودعائيَ لكم إلى الإيمان {مَالاً}: ما أجري في ذلك إلا على الله، هو يجازيني ويثيبني. {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا}: أي: لست أطردهم، ولا الذين آمنوا بي. وذلك أنهم سألوه أن يطردهم.
قال ابن جريج: قالوا: " إن أحببت أن نتبعك فاطردهم. فقال: لا أطردهم ملاقوا ربهم، فيجازي من طردهم وآذاهم، ويسألهم عن أعمالهم.
ثم قال لهم: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}: أي: تجهلون ما يجب عليكم من(5/3379)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
حق الله.
وقوله: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ - إلى قوله - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}:
والمعنى: من يمنعني من الله، إن هو عاقبني على طردي إياهم، وهم مؤمنون، وموحدون.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} في قولكم، فتعلمون خطأه.
ثم قال لهم: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} هذا معطوف على قوله: (لا أسألكم)، والمعنى: لا أقول لكم: عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء، فتتبعوني عليها.
{وَلاَ أَعْلَمُ الغيب}: أي: ما خفي من سرائر الناس. فإن الله يعلم ذلك وحده.
{وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}: فأكذب، {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله}،(5/3380)
أي: للذين اتبعوني وآمنوا بي، فاستحقرتموهم، وقلتم، إنهم أراذلنا. " والخير هنا الإيمان بالله عز وجل.
{ الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ}: أي: في ضمائرهم، واعتقادهم، وإنما لي منهم ما ظهر. {إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين}: أي: إني ظالم، إن قلت لن يؤتيكم الله خيراً، وقضيت / على سرائرهم: نفى نوح صلى الله عليه وسلم، جميع هذا عن نفسه لئلا يتبعوه على ذلك.
{قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا}: أي: " قد خاصمتنا، فأكثرت خصامنا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ}: أي: بالعذاب، إن كنت صادقاً في قولك: إنك رسول (الله).
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهـ: فأكثرت جَدَلَنا ". " والجدل " والجدال: المبالغة في الخصومة.
قال لهم نوح: إنما يأتيكم بالعذاب الله عز وجل.
{ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي: لستم ممن يعجزالله، سبحانه، إذ جاءكم عذابه(5/3381)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
هرباً، لأنكم في سلطانه حيثما كنتم.
قوله: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} إلى قوله {يَفْعَلُونَ}
والمعنى: وليس ينفعكم تحذيري إياكم عقوبة على كفركم. {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: يهلككم.
وقيل: معناه: يحييكم، وحكي عن بعض العرب أنها تقول: أصبح فلاناً غاوياً: أي: مريضاً.
وهذه الآية من أبْيَنِ آية في أن الأمر كله لله عز وجل، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لا مُعْقِب لحكمه يفعل ما يشاء.
وقد نالت المعتزلة: إن معنى: " أن يغويكم: أن يهلككم، وكذبوا على الله، سبحانه، وعلى لغة العرب: ولو كان الأمر كما قالوا، لكات معنى قوله: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256]: من الهلاك، وهذا لا معنى له. إنما هو الضلال، الذي هو نقيض الرشد. ولكان معنى قوله: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121]: فهلك، ولم يهلك إنما ضل. ولكان معنى قوله: {الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ} [القصص: 63] بمعنى الهلاك، ولا معنى لذلك، إنما هو(5/3382)
بمعنى الضلال كُله. ولكان قوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} [الحجر: 39] بمعنى: لأهلِكَنَّهُم: وهذا لا يقوله أحد، ولا معنى له.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59] معناه: هلاكاً.
{هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي: بعد الهلاك.
ثم قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه}: أي: أيقولون؟ وهذه " أم " المنقطعة بمعنى الألف، أي: اختلقَه. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى أيقول قومك: اختلق هذا الخبر عن نوح عليه السلام، قل لهم: يا محمد! {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}: أي: إثم جرمي، لا تؤاخذون به، {وَأَنَاْ برياء} من إثم جرمكم، ولا آخذ به. يقال: أجرم فلان: أي: كسب الإثم.(5/3383)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
وأجاز أبو إسحاق " أجرامي " بفتح الهمزة جمع جرم.
ثم قال تعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} والمعنى: إنه لما حّقَّ عليهم العذاب، أعلم أنه لم يؤمن أحد ممن بقي، {فَلاَ تَبْتَئِسْ}: أي: لا تحزَنْ على فعلهم، وكفرهم، وذلك حين قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26].
قوله: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} إلى قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ}.
والفلك: السفينة، يكون واحداً، وجمعاً.
قال ابن عباس: أوحي إليه: أن يصنع الفلك فلم يدر كيف يصنعها، فأوحي إليه أن يصنعها على مثال جُؤجؤ الطير. ومعنى: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}: أي: كما نأمرك.(5/3384)
قال قتادة: / بعين الله، ووحيه.
(وقيل: بأعيننا: بحفظنا، وقيل: بعلمنا، وقيل: إن الملائكة كانت تريد ذلك).
وقيل: معنى: (بأعيننا ووحينا): أي: بتعليمنا كيف تصنعه.
وقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا}: أي: لا تسألني في العفو عنهم. قال ابن جريج: معناه: لا تراجعني.
ثم أعلمنا الله عز وجل، أنه أخذ يصنع السفينة، وأن {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ} أي: جماعة، وكبراء {سَخِرُواْ مِنْهُ}: أي: هزأوا به، يقولون له: أتحولت نجاراً بعد النبوءة؟ وتعمل السفينة في البر؟ فيقول لهم نوح: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} اليوم،(5/3385)
{فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} في الآخرة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إذا عاينتم العذاب {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: من هو أحمد عاقبة منا، ومنكم.
و" من " تكون هنا خبراً، واستفهاماً، وتقريراً، إعرابها في الوجهين ظاهر. (وروت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لو رحم الله (أحداً من قوم نوح) لرحم أم الصبي، كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله عز وجل، حتى كان آخر زمانه غارس شجرة، فعظمت، وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمي سفينته. ويمرون، فيسألونه، فيقول: أعمل سفينة. فيسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر، فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها، وفار التنور، وكثر الماء في السِّكَكِ، وخشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل، حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء، خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء(5/3386)
رقبتها، رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء ".
قال قتادة: كان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وبابها في عرضها.
وقال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع.
وقال عكرمة: إنما طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعاً.
وعن الحسن، ( رحمه الله عليه، أيضاً)؛ أنه قال: كان طولها ألف ذراع، في(5/3387)
خمسمائة ذراع، وبابها في جنبها.
قال: أبو رجاء: كانت مطبقة.
وقيل: إنها كانت: ثلاث طبقات: طبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرْوَاتُ الدواب أوحى الله عز وجل، إلى نوح: أن أغْمزْ ذنبَ الفيل، فغمزه. فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبل على الروث. ثم إن الفأر وقع بحبل السفينة يقرضه، فأوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبل على الفأر.(5/3388)
قال ابن عباس: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة، فحدثنا عنها، قال: فانطلق بهم عيسى عليه السلام، حتى أتى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفاً من ذلك التراب بكفيه، فقال: أتدرون ما هذا قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا / كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصى، وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، قد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكتَ. قال: لا، ولكن مت، وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة، فمن ثم: شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح قال: كان طولها ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. ثم حكى له طبقاتها، وما كان فيها، وقصة الأرواث، والفأر على ما تقدم ذكره. ثم قال له عيسى عليه السلام: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيبفةً فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت. قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقاريها، وطين برجليها. فعلم أن البلاد قد غرقت، فطوقها الخضرة في عنقها، ودعا أن تكون في أنس، وأمان، فمن ثم تألف البيوت.
وروى عبيد بن عمير الليثي: أنهم كانوا يخنقون نوحاً حتى يغشى عليه، فإذا فاق قال: اللهم أغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون. حتى إذا تمادوا في المعصية، وتطاول عليه(5/3389)
منهم الشأن، وعظيم البلاء، ولا يأتي قرن منهم إلا كان أخبث من صاحبه. يقولون: قد كان هذا مع آبائنا، وأجدادنا مجنوناً، ولا تقبل منه شيءاً. فشكا ذلك إلى الله، وقال كما قص الله سبحانه علينا: {رَبِّ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5 - 6]- إلى آخر القصة - ثم قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]- إلى آخر القصة -. فأوحى الله عز وجل، إليه: أن اصنع الفلك. وزعم أهل التوراة أن الله، سبحانه، أمره أن يجعل عوده من الساج، وأن يطليه بالقار، من داخل، ومن خارج، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً، وعرضه خمسين ذراعاً، وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وجعل الله عز وجل، له فور التنور آية. فلما فار، حمل في الفلك من أمره الله، سبحانه، بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به. فكان جميعهم عشرة رجال. وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافراً.(5/3390)
قال ابن عباس: كان أول ما حمل نوح في الفلك الذرة، وآخر ما حمل الحمار. فلما دخل، وأدخل صدره، تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح عليه السلام، يقول: ويحك! ادخل، فلا يستطيع الحمار الدخول. فقال: ويحك! (ادخل) وإن كان الشيطان معك.
فزل لسانه بالكلمة، فدخل الحمار، والشيطان. فقال له: نوح صلى الله عليه وسلم: ما أدخلك عليَّ يا عدوَّ الله؟ قال: ألم تقل ادخل، وإن كان الشيطان معك. قال: اخرج عني يا عدو الله. قال: مالَكَ بُدٌّ من أن تحملني، فكان إبليس في ظهر الفلك. فكان بين إرسال الله عز وجل، الماء، وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً بلياليها، ودخل فيها لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل من كان معه / (انفتحت أبواب السماء بماء منهمر)، كما قال الله، وكانت السفينة مُسْمَرَّة بدُسُرٍ. والدُّسُر: مسامير الحديد، وقيل: مسامير من عود، بها يسمر اليوم مراكبهم أهل الحجاز، وأهل الهند، وما يلي ذلك. فلما جرت السفينة، قال نوح لابنه: {اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 42](5/3391)
وكان قد أضمر الكفر، وظن أن الجبال تمنع من الماء، فقال: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} [هود: 43]: أي: يمنعني، فقال له نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43]. فعلا الماء على الجبال خمسين ذراعاً. فهلك كل ما كات على وجه الأرض من الحيوان والأشجار ولم يبق إلا ما في السفينة. وكان بين أن أرسل الله الطوفان، وبين أن غاض الماء ستة أشهر، وعشر ليال.
قال عكرمة: " ركب في السفينة لعشر خَلَوْن من رجب، {واستوت عَلَى الجودي} [هود: 44] لعشر خَلَون من المحرم. فذلك ستة أشهر ".
ومعنى: {وَفَارَ التنور}: قيل: إنه انفجر الماء من وجه الأرض. التنور: وجه الأرض قاله ابن عباس، وعكرمة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: هو تنوير الصبح، من قولهم: نور الصبح يُنَور، فكأنه قال: حتى جاء أمرنا، وطلع الفجر.
وقال قتادة: التنور أعلى الأرض، وأشرافها.(5/3392)
وقال الحسن: التنور هو الذي يخبز فيه، كان من حجارة لِحَوَّاء. ثم صار إلى نوح، فقيل له: إذ رأيت الناء يفور من التنور، فاركب أنت وأصحابك.
وقال الشعبي. فار الماء في ناحية الكوفة.
وعن علي رضي الله عنهـ، أنه قال: فار التنور من مسجد الكوفة، وقال زيد بن حبيش: فار التنور من هذه الزاوية، وأشار إلى زاوية مسجد الكوفة اليمني من القبلة، التي عن يمين المصلى. وكان زيد يقصد إلى الصلاة في تلك الزاوية من مسجد الكوفة، وعن الحسن أيضاً أن التنور الموضع الذي يجتمع فيه الماء في السفينة. وعنابن عباس: أن التنور فار بالهند.(5/3393)
ومعنى: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي: من كل ذكر، وأنثى، والواحد: زوج، والزوجان ذكر، وأنثى من كل صنف، فمعنى من كل زوجين: من كل صنفين. وقيل الزوجان: الضربان الذكور، والإناث. وقيل: الزوجان: اللونان.
وقوله: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول}: أي: واحمل أهلك، إلا من سبق إهلاكه، وهو بعض نساء نوح، كانت من الباقين: من الهالكين.
وقيل: هو ابنهُ الذي غرق. {وَمَنْ آمَنَ} أي: واحمل من آمن.
قال قتادة: كانوا ثمانية أنفس، خمسة بنين، وثلاث نسوة، فأصاب حام امرأته في السفينة. فدعا عليه نوح أن تغير نطفته. فجاء بالسودان.(5/3394)
وقيل: كانوا عشرة سوى نسائهم: ستة ممن آمن، وثلاثة بنين، ونوح.
وعن ابن عباس: أنهم كانوا ثمانين رجلاً، غير النساء من غير أهله وروي أن الله جل ذكره، كان قد أعقم أرحام النساء، وأصلاب الرجال، قبل الغرق بأربعين سنة /، فلم يولد فيهم مولود، ولم يغرق إلا ابن أربعين، فما فوق ذلك.
قوله: {وَأَهْلَكَ}: وقف عند أبي حاتم، وليس يوقف عند غيره، لأن بعده استثناء.
{وَمَنْ آمَنَ}: وقف عند نافع وغيره، {إِلاَّ قَلِيلٌ}: وقف حسن.(5/3395)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
قوله: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها} - إلى قوله - {فَكَانَ مِنَ المغرقين}
المعنى: فحملهم فيها، وقال: اركبوا فيها. ومن قرأ بضم الميم، فمعناه: بسم الله إجراؤها، وإرساؤها: ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف، على معنى بسم الله، وقتَ إجرائها، وعند إرسائها. ويكون بسم الله كلاماً مكتفياً بنفسه كقول المبتدئ في عمل: بسم الله، فتكون الياء في موضع نصب على معنى ابتدأت بسم الله، أو في موضع رفع على معنى أبتدأ، أي: بسم الله. {ومجراها}: ظرف كما تقول: زيد قائم خلفك. ومن فتح الميم فعلى هذا التقدير، إلا(5/3396)
أنه يقدر في موضع الإجراء الجري. والمعنى: بالله إجراؤها، وبالله جَرْيُهَا، وبالله إرْساؤها.
وقال مجاهد، والجحدري، والعطاردي: " مجريها ومرسيها بالياء، وجعلوه نعتاً لله عز وجل، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ.
وقال الضحاك وغيره: كان إذا قال: بسم الله جرت، وإذا قال: بسم الله رَسَت.
واختار " مجراها " بالفتح لقربه من قوله: وهي تجري بهم، ولم يقل تُجْري(5/3397)
وخرجت " مرساها " بالضم على الإجماع {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}: أي: لساتر ذنوب من تاب إليه، رحيم به. ثم أخبر تعالى أنها تجري بهم في موج مثل الجبال، ثم قال: {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} (أي: في معزل) عن دين نوح. وقيل: في معزل عن السفينة، وذلك أن نوحاً، صلوات الله عليه، لم يعلم بأنه كافر، لقوله {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين}.
وقيل: إنه لم يكن ابنه، إنما كان ابن امرأته.
وحكى أبو حاتم أنه قرأ: " ونادى نوحَ ابنَه " بفتح الحاء، يريد " ابنها " ثم حذف الألف لخفتها، كما تحذف الواو من " ابنهُو ". وعن علي رضي الله عنهـ، أنه قرأ:(5/3398)
"ابنها" بألف، لم يكن ابنه، إنما كان ابن رجل تزوجَها قبل نوح.
وعن الحسن رضي الله عنهـ، أنه قال: خانت نوحاً في الولد. والله تعالى يعيذ نبيه صلى الله عليه وسلم، من ذلك إنما خانته في الدين، لا في الفراش.
قال ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قطٌّ ".
ومن قرأ {يابني اركب مَّعَنَا} بالفتح، فزعم أبو حاتم أنه أرادَ: يا بَنياهُ، فحذف الهاء، لأنه يصل، وحذف الألف لدلالة الفتحة.
ولا يجوز عند سيبويه حذف الألف لخفتها، وليس مثل الواو.
وقال الزجاج: كان أصله " يا بنيَّ " بياءين كما تقول: يا غلاميَّ بالياء، فأبدل من(5/3399)
الكسرة فتحة، ومن الباء ألفاً، ثم حذف الألف لسكونها، وسكون الراء بعدها من " اركب "، وكتبت على اللفظ. ومن كسر الياء، فعلى الأصل، لأن الكسرة تدل على الياء المحذوفة، ككسر الميم في " يا غلام! تعال ".
ثم قال تعالى إخباراً عن قول ابن نوح لنوح: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء}: أي: سأصير / إلى جبل يمنعني من الماء، قال له نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ}: أي: إلا الراحم، أي: ليس يعصم إلا الله، أي: لا يمنع إلا الله الذي رَحِمنَا، فأنقذنا من الغرق، وقيل: " من " في موضع نصب استثناء، ليس من الأول، أي: لكن من رحم الله، فإنه معصوم.
وقيل: المعنى: إن عاصماً بمعنى معصوم، فيكون " من " أيضاً في موضع رفع لأنه لا معصوم من أمر الله إلا المرحوم على البدل من موضع معصوم,(5/3400)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
والاختيار: ان يكون عاصم على بابه و"من" في موضع رفع على البدل من عاصم.
والتقدير: لا يعصم اليوم من امر الله الا الله.
ثم قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج}: أي: بين نوح، وابنه، فكان ابنه من المغرقين.
{مِنْ أَمْرِ الله}: وقف حسن، إن جعلت إلا من رحم الله استثناء، ليس من الأول، وليس من الأول، وليس بالبين لأنه لا بد للثاني أن يكون فيه سبب من الأول.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ}. وقف.
قوله: {وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ} إلى قوله {أَكُن مِّنَ الخاسرين}.
المعنى: يا أرض اشربي ما عليك من الماء.
{وياسمآء أَقْلِعِي}: لا تمطري. {وَغِيضَ المآء}: أي: نَقُص جعل(5/3401)
الله عز وجل، في الأرض والسماء تمييزاً، وقيل: هو مجاز.
{وَقُضِيَ الأمر}: أي: بهلاكهم، {واستوت عَلَى الجودي}: أي: استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بناحية الموصل، أو الجزيرة. {وَقِيلَ بُعْداً}: أي: وقال الله بعداً.
وقيل: المعنى: وقال نوح ومن معه {بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين}: أي: أبعدهم الله من رحمته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ركب نوح السفينة في أول يوم من رجب، فصام هو ومن معه، وجرت السفينة ستة أشهر. فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح وأمر من معه من الوحش، فصاموا شكراً لله عز وجل.(5/3402)
وروي أن السفينة مرت بالبيت، فطافت به أسبوعاً.
وفي الجودي لغتان: تشديد الياء، وتخفيفها. فمن شدد جمعه على جوادي، ومن خفف جمع على جوادٍ، مثل جوارٍ.
(على الجودي): وقف عند أبي حاتم، وليس كذلك، لأن (وقيل): عطف على واستوت.
ثم قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي}: أي: إنك وعدتني أن تنجيَ أهلي، وابني منهم.(5/3403)
{وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق}: أي: الذي لا خلف فيه، {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي: فاحكم لي (بأن تفي) بما وعدتني.
قال الله له: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم.
وقال الحسن: لم يكن ابنه، وكان يحلف أنه ما كان ابنه. فمعنى: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: أي: ليس بابن لك، إنما هو ابن امرأته وقال عكرمة، هو ابنه، ولكن على غير دينه، وإنما وعده الله عز وجل، أن ينجيَ أهله المؤمنين به. فمعنى {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: ليس من أهل دينك.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: أي: إن سؤالك يا نوح إياي أن أنجي مشركاً عملٌ منك غير صالح.(5/3404)
وقيل: المعنى: إن الذي سألت أن أنجيه، ذو عمل صالح.
وقيل: المعنى: إن عماه غير صالح.
وعن ابن مسعود / أنه قرأ " إنه عمل صالح أن تَسْألني ما ليس لك به علم " {فَلاَ تَسْئَلْنِ}، فتكون الهاء للمجهول، وخبر " عمل " محذوف دل عليه {فَلاَ تَسْئَلْنِ}.
ومن قرأ: " عمل غير صالح "، فكذلك قرأ الكسائي. وفيه: حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كذلك قرأ. ومعناه: ظاهر، كأنه قال: إنه كافر(5/3405)
والمعنى: إن ابنك كافر، عمل عملاً غير صالح، مثل {واعملوا صَالِحاً} [المؤمنون: 52، سبأ: 11]، ومثل {وَعَمِلَ صَالِحاً} [البقرة: 62، سبأ: 37].
ثم قال تعالى: {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} هذا تنبيه لنوح، صلى الله عليه وسلم، لئلا يسأل عما طوي عنه علمه.
وقال ابن زيد: المعنى: إني أعظك أن تبلغ الجهالة بك، أن تظن أني لا أفي بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم. فاستقال نوح من سؤاله، واستعاذ من ذلك. وقال: {رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين}: فاستغفر من زلته في مسألته، وهذا " يدل على أن الأنبياء (صلوات الله عليهم)، يذنبون ".(5/3406)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
ومعنى: {مِّنَ الخاسرين}: أي: الذين خسروا رحمتك يوم القيامة. والمعنى: إني أسألك أن توفقني وتلطف بي، حتى لا أسألك (ما ليس لي به علم).
قوله: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} - إلى قوله - {مُجْرِمِينَ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ}
والمعنى: قال الله عز وجل، يا نوح! اهبط من الفلك إلى الأرض سلامة، وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك: أي: من ذرية من معك: أي: من ذرية من معك من ولدك، وولد من معك من المؤمنين الذين سبقت لهم السعادة قبل خلقهم.
ثم قال تعالى مخبراً عن الكافرين من ذرية من معه: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: فلذلك رفعت الأممُ ها هنا، ولا تخفض، لأنها ليست ممن بارك الله عليها، ودعا لها بالسلامة، و'نما هو بمنزلة: رأيت زيداً، وعَمْرو جالس.
ومعنى: {سَنُمَتِّعُهُمْ}: أي: " سنرزقهم في الحياة الدنيا ما يمتعون به إلى أن(5/3407)
يبلغوا آجالهم ".
{ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي: في القيامة.
قال محمد بن كعب القرظي: دخل في هذا السلام والبركة، كل مؤمن؛ ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في هذا العذاب كل كافر، وكافرة إلى يوم القيامة.
ممن معك: وقف، وأجاز الفراء " وأمماً " ممن معك بالنصب على معنى ونمتع أمماً.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} أي: تلك القصة، بمعنى: هذه القصة من الأخبار الغائبة عنك يا محمد، وعن قومك، لم تكونوا تعلمونها من قبل إخبارنا لكم، فإخبارك إياهم بهذا يدل على صدقك، ونبوتك لو عقلوا. (فاصبر): على(5/3408)
قولهم، وعلى القيام بأمر الله عز وجل، في التبليغ، وعلى ما تلقى منهم.
{إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وهذا إشارة إلى القرآن. ()
ثم قال تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}: أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. هو معطوف على قوله / {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً (إلى قَوْمِهِ)} [هود: 25] وسمي هود أخاهم، لأنه منهم، ومبين بلسانهم، وقيل: سمي بذلك لأنه منه ولد آدم، بشر مثلهم.
وعاد: قبيلة، وهو ابن أبيهم الأكبر، فلذلك قال أخوهم، وهو هود بن عبد الله بن عاد بن عادية بن عاد بن أرام بن الخالد بت عابر. قال لهم (هود): {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} إلا هو، ولا يستحق العبادة إلا هو.(5/3409)
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ}: أي: ما أنتم في اتخاذكم إلهاً غيره إلا كاذبون. ثم قال لهم: {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}: أي: ليس أسألكم على ما دعوتكم إليه، كم من إخلاص العبودية لله عز وجل، أجراً، ما أجري في ذلك إلا على الله سبحانه، {الذي فطرني}: أي: خلقني.
ثم قال: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: أي: سلوه المغفرة من عبادتكم غيره، {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} من عبادة غيره. فإن فعلتم ذلك أرسل عليكم السماء مدراراً: أي: قطر السماء متتابعاً.
ومفعال للتكثير، وفيه معنى الكسب. ولذلك حذفت الهاء. وأكثر ما يأتي " مفعال " من " أفعلتُ "، وقد أتى هنا من " فعلت "، يقال: درّت تدرُّ وتدر، فهي مدرار.
ثم قال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ}: أي: " شدة إلى شدتكم " قاله مجاهد(5/3410)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(إن أطعتم).
وقيل: إن النسل كان قد انقطع منهم سنتين، فقال لهم هود: إن آمنتم بالله، أحيا الله بلادكم، ورزقكم الولدان، فذلك القوة.
وقال أبو إسحاق: المعنى قوة في النعمة. وكانت مساكن عاد الرمال، ما بين الشام واليمن، وكانوا أهل زرع، وبساتين وعمارة، فلما أقاموا على كفرهم، وعبادة أصنامهم، ولم يُطيعوا هوداً أرسل الله عز وجل، عليهم الريح، فكانت تدخل في أنوفهم، وتخرج من أدبارهم، وتقطعهم عضواً عضواً.
ثم قال لهم هود: {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}: أي: لا تدبروا عني، وعن ما دعوتكم إليه كافرين.
وله: {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ - إلى قوله - صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} والمعنى: ما جئتنا ببرهان على قولك، فنترك آلهتنا لقولك، وما نؤمن لك، فنصدقك بما جئتنا به. ما نقول {إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء}: أي: أخذك خبل من عند بعض آلهتنا لطعنك عليها، وسبك لها: أي: جنون.(5/3411)
قال لهم هود: {إني أُشْهِدُ الله واشهدوا} أنتم {أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ}: أي: من آلهتكم التي تعبدون من دون الله سبحانه. {فَكِيدُونِي جَمِيعاً}: أي: احتالوا في كيدي، أنتم وآلهتكم التي تعبدون ثم لا تؤخروا ذلك عني.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ}: أي: فوضت أمري إلى مالكي، ومَالِكِكُم. {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ}: أي: ليس من شيء يدب على الأرض إلا والله عز وجل، مالكه.
وخص ذكر الناصية دون سائر الأعضاء، لأن العرب تستعمل ذلك فيمن وصفته بالذلة والخضوع: تقول: ما ناصية فلان إلا بيدي: أي: هو مطيع لي أصرفه كيف أشاء.
وقيل: إنما خص ذكر الناصية، لأنهم كانوا إذا أسروا أسيراً، وأرادوا المَنَّ عليه، جَزُّوا ناصيته، ليعتدُّوا بذلك / فخراً، فخوطبوا بعادتهم.(5/3412)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
وكل ما فيه الروح يقال له: داب ودابة، فتدخل الهاء للمبالغة.
ثم قال: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على الحق. والصراط في اللغة: المنهاج الواضح.
قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} - إلى قوله - {هُودٍ}.
والمعنى: إنّ هوداً قال لقومه: فإن أجبرتم على ما جعوتكم إليه، وأعرضت فقد أبلغتكم ما أمرت به، وقامت عليكم الحجة في تبليغي إياكم رسالة ربكم، فهو يهلككم، ثم يستخلف قوماً غيركم، توحدون، وتخلصون له العبادة.
{وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً}: أي: لا تقدرون على ضر إذا أراد هلاككم. وقيل: المعنى: ولا يضره هلاكم شيئاً.
{إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}: أي: ذ1وحفظ بخلقه.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: العذاب للكفار. {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ(5/3413)
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا}: أي: بفضل منا مما أصاب الكفار. {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}: أي: يوم القيامة من عذاب جهنم، كما نجيناهم في الدنيا من عذاب الكفار.
ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي: معاند لله عز وجل، معارض بالخلاف. {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً}: أي: غضباً من الله، وسخطاً، ويوم القيامة مثل ذلك.
{ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ}: أي: أبعدهم الله، وإنما قال: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} بجمع، ولم يأتهم إلا رسول واحد، لأن من كفر ببني واحد، وعصاه فقد كفر بجميع الأنبياء، وعصاهمز وله في القرآن نظائر، قد مضت، ومنها ما يأتي بعد.
(يوم القيامة): وقف، (قوم هود): وقف.(5/3414)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
(" إكمال السفر الثالث من كتاب الهداية بحمد الله وعونه. وصلى الله على محمد نبيه وسلم تسليماً. يتلوه في السفر الرابع قوله) ".
قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله} إلى قوله {مُرِيبٍ}:
ثمود: قبيلة، وصالح ابن أبيهم الأكبر. فلذلك قال أخوهم، وهو صالح بن عبيد بن جابر بن عبيد بن ثمود بن الخالد بن عابر. والمعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم: اعبدوا الله ليس لكم إلهٌ إلا هو، هو أنشأكم): أي: خلقكم من الأرض، يعني: أصلهم الذي هو آدم. خلق من طين من الأرض، {واستعمركم} أنتم (فيها): أي: أسكنكم فيها.
{فاستغفروه}: مما عبدتم من دونه. {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: من عبادة الأوثان. {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} يسمع دعاءكم، وتوبتكم، واستغفاركم. {مُّجِيبٌ} لمن دعاه، وأخلص في التوبة.
{قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا}، أي: كنا نرجو أن تكون فينا سيداً،(5/3415)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
قبل قولك هذا الذي قلته لنا، إنه ليس لنا إلهٌ إلا الله. {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهة. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} من عبادة إله واحد {مُرِيبٍ}: أي: متهم، من أربته، فأنا أربيه، إذاً فعلت فعلاً يوجب له التهمة.
قوله: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} - إلى قوله - {غَيْرُ مَكْذُوبٍ}.
المعنى: إن صالحاً قال لهم: إذ قالوا له: {وَإِنَّنَا / تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ لَفِي شَكٍّ مِّمَّا}
{ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي}: أي: على برهان، وحجة، قد علمت ذلك وأيقنته. {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}: يعني النبوؤة والحكمة والإيمان.
{فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ}: أي: من ينقذني من عذابه إن عصيته. {فَمَا تَزِيدُونَنِي} بعذركم أنكم تعبدون ما كان يعبد آباؤنا {غَيْرَ تَخْسِيرٍ}: أي(5/3416)
تخسرون حظوظكم من رحمة ربكم.
ثم قال: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}: " آية: حال، والمعنى: انتبهوا إليها في هذه الحال.
{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله}: أي: دعوها، ويذر ويدع لم يستعمل منها ماض. وأصل " يدع ": يَوْدِعْ، فحذفت الواو على الأصل، ثم فتحت العين من أجل حروف الحلق. وشابهت " يذر " " يدع " من أجل أنها لم ينطق منها بماض، ففتحت العين منها، مثل " ودع "، وبابهما جميعاً فَعَل يَفْعِل، ففتحت " يدع " لحرف الحلق، وفتحت " يذر " للمضارعة التي بينها وبين " يدع ". وإنما تفتح العين إذا كانت حرف حلق، أو كانت اللام حرف حلق، لأن الفتجة أًلها من الألف. فلما وقع بعدها حرف حلق جعلوا حركة ما قبله مما هو من مخرج الحروف، ليكون الحرف،(5/3417)
والحركة من جنس واحد. وكذلك، إن كانت العين حرف حلق تفتح، لتكون حركته من الحرف الذي هو مثله، فتكون الحركة والحرف من جنس واحد أيضاً.
وإنما صارت الناقة آية، لأنهم طلبوا الله أن يخرج لهم من جبل لهم ناقة ويؤمنوا، فأخرجها لهم من ذلك الجبل بقدرة الله عز وجل، فلم يؤمنوا، فقال لهم: دعوها {تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} ليس على أحد منكم رزقها. {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء}: أي: لا تعقروها، فيأخذكم عذاب قريب: أي: قريب من عقرها. وقيل: المعنى: {قَرِيبٌ}: غير بعيد فيهلككم. {فَعَقَرُوهَا}، والمعنى: فكذبوه، فخالفوه، فعقروها. فقال لهم صالح: استمتعوا في دار الدنيا ثلاثة أيام، ثم يأتيكم العذاب فهو {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}.
ويروى أن الناقة كانت أحسن ناقة في الأرض، حمراء عشراء، فوضعت فصيلاً، فكانت تغدو، فتشرب جميع الماء، ثم تغدوا عليهم، بمثله لبناً، فإذا انصرفت عنهم عَدَوْا إلى الماء، فاستقوا حاجتهم ليومين، فعقروها، فأخذهم العذاب.(5/3418)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قال قتادة: لما أخبرهم صالح أن العذاب يأتيهم لبسوا الأنطاع، والأكسية.
وقيل لهم: آية ذلك أن تصفر ألوانكم أول يوم، ثم تحمر في اليوم الثاني، ثم تسود في اليوم الثالث.
وقال قتادة: لما عقروا الناقة ندموا، وقالوا: عليكم بالفصيل، فصعد الفصيل إلى الجبل. فلما كان اليوم الثالث استقبل القبلة، وقال: يا رب! أمِّي، فأرسلت الصيحة عليهم عند ذلك.
وكانمت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام.
قوله: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} - إلى قوله - {لِّثَمُودَ}:
والمعنى: ولما جاء عذابنا نجينا صالحاً منه. {والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا}: أي: بنعمة، {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}: أي: نجيناهم من هوان ذلك اليوم، وذلته.
ومن خفض {يَوْمِئِذٍ}، أضاف إليه حرفاً واحداً بالإعراب، ومن(5/3419)
نصب بناه مع " إذ " لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ.
قال المبرد: من خفض قال: سير عليه يومئذ فرفع، ومن فتح فتح مع سير، وغيره لأنه مبني.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي} أي: في بطشه إذا بطش ".
{العزيز}: أي: الذي لا يغلبه شيء.
وروى عمرو بن خارجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " كانت ثمود يوم صالح، أطال الله أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر، فينهدم لطول حياته، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً، فنحتوها، وجوَّفُوها وكانوا في سعة من عيشهم فقالوا: يا صالح! ادعُ لنا ربك يخرج لنا آية تعلم أنك رسول الله. فدعا صالح(5/3420)
ربه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يوماً، وشربهم يوماً معلوماً. فإذا كان يومُ شِرْبِها، خلوا عنها، وعن الماء وحلبوها لبناً ملءَ كل إناءٍ، ووعاء، وسقاء، فأوحى الله، جلّ ذكره، إلى صالح: أن قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم صالح ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل ذلك، فقال لهم: إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها. قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ قال: فإنه غلام أشقر، أزرق، أصهب، أحمر. وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، (وكان) لأحدهما ان يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً. فجمع بينهما مجلس، فزوّج أحدهما ابنته لابن الآخر، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، (وكان) لأحدهما ابن يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً. فجمع بينهما مجلس، فزوّج أحدهما ابنته لابن الآخر، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهطٍ، يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، فقال صالح لقومه: اختاروا ثماني نسوة، قوابل من القرية، واجعلوا معهن شُرَطاً، فكانوا يطوفون بالقربة، فإذا وجدوا امرأة تَلِدُ نظروا صفة ولدها إن كان ذكراً. فلما رأ] ْنَ ذلك المولود صرخن، وقلن: هذا الذي يريد رسول الله(5/3421)
صالح. فأراده الشرط، فحال جداه بينهم وبينه، وقالا: لو أن صالحاً أراد هذا قتلناه. فكان شو مولود، فشب في سرعة، واجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض، وفيهم الشيخان، فاستعملوا على أنفسهم (الغلام) لمنزلته، وشرفه. وكانوا تسعة، وكان صالح لا ينام معهم في القرية. كان ينام في مسجد له خارج القرية. فإذا أًبح أتاهم، فوعظهم، وذكرهم ".
وروى ابن جريج أن صالحاً أمر بقتل الولدان، فقتل أبناء ثمانية رهط. وكان لهم صاحبٌ ترك ابنه فكبر. فقال الثمانية: لو أنا لم نقتل أبناءنا لكانوا مثل هذا الغلام. فائتمروا التسعة بينهم بقتل صالح. وقالوا: نخرج مسافرين، والناس يروننا علانية، ثم نرجه في وقت كذا من ليلة كذا، فنقتله في مُصَلاَّه، والناس يحسبون أننا مسافرون، فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه. فأرسل الله، جلّ ذكره، عليهم، الصخرة فَرَضَخَتْهم /، فأخبر الله أهل القرية بموتهم، فقالوا: تَنَادَوْنَ: أي: عباد(5/3422)
الله! ما رضي صالح بِأن جعلهم قتلوا أولادهم حتى قتلهم. فأجمع أهل القرية على عقر الناقة أجمعون إلا رجلاً منهم.
وقال عرم وابن خارجة: أراد المولود مع الثمانية قتل صالح، فمشوا حتى أتَوا سِرياً على طريق صالح، فاختفى فيه ثمانية، وبقي هو، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه، وأتينا أهله، فبيتناهم، فأمر الله عز وجل، الأرض، فاستوت عليهم، فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة، وهي على حوضها قائمة. فقال الشقي لأحدهم " إيتِهَا فاعقرها، فأتاها فتعاظمه ذلك، فرجع ثم بعث آخر، فَعَظُم عليه عقرها، فرجع ثم آخر، فرجع، حتى رجع الجميع، ولم يعقروا. فمشى هو إليها، وتطاول، فضرب عُرْقُوبَيْها، فوقعت تركض. وأتى رجل منهم صالحاً، فقال: أدرك الناقة، فقد عقرت. فأقبل، وخرج وهم يتلقونه، ويعتذرون إليه. يا نبي الله! إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا. قال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى الله أن يدفع عنكم العذاب. فخرجوا(5/3423)
يطلبونه، فلما رأى الفصيل أمه أن تضطرب أتى جبلاً يقال له: القارة قصيراً. فصعد عليه، وذهبوا ليأخذوه. فأوحى الله عز وجل، إلى الجبل، فطال في السماء حتى ما تناله الطير، قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم استقبل صالحاً، فَرَغَا رغوةً، ثم رغا أخرى. فقال صالحُ لقومه: لكل رغوة أجل يوم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، وآية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجُوهُهُم كأنها طليت بالخلوق، كلهم كذل. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا إنه قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب. فلما أصبحوا اليوم الثاني، إذا وجوههم محمرة، كأنها خضبت بالدماء، فصاحوا وضجوا، وبكوا، وعرفوا أنه العذاب. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا إنه قد مضى يومان من الأجل، وحضركم(5/3424)
العذاب. فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة، كأنها طليت بالقار. فصاحوا: ألا قد حضركم العذاب من فوق (رؤوسهم)، أو من أسفل. فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا جاثمين.
أي: خامدين في ديارهم. والدار محلة القوم، والموضع الذي / فيه نزلهم في معسكرهم ومجتمعهم، والديار: الدور التي سكنها كل واحد منهم.
" ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم، ( في) غزوة تبوك بوادي ثمود، أمر أصحابه أن(5/3425)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
يسرعوا لئلا ينزلوا به، ولا يشربوا من مائه. وأخبرهم أنه واد ملعون "
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}: أي: لم يعيشوا. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، ويقال: غَنَيْتُ بالمكان: إذا أقمت به.
فالمعنى كأن لم يَغْنَوْا بها في سرور، وغبطة.
{أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ}: ألا أبعدهم الله لنزول العذاب بهم.
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} - إلى قوله - {عَجِيبٌ}.
من نصب " سلاماً " نصبه على المصدر، أو على أعمال القول، والرفع على إضمار خبر محذوف. والمعنى: قالوا: سلام عليكم. ومن قرأ " سِلْمٌ " فعلى معنى الأمر.(5/3426)
سلم أو نحو سلم: أي: نحن آمنون منكم، إذا سلمتم علينا، لأن الملائكة لما سلمت عليه أَمِنَ منهم، وعلم أنهم مؤمنون. فقال لهم: سلام: أي: نحن سلم منكم إذن.
وقيل: المعنى: نحن سلم، أي: غير باغين شراً، وأنتم قوم منكرون: أي: لا نعرفكم. وقيل: سلم بمعنى سلام. كما يُقال حرمٌ، وحَرَامٌ بمعنى واحد. ويجوز رفع الأول، ونصب الثاني، ونصب أيهما شئت على هذا التقدير، ومعنى {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الحجر: 62، الذاريات: 25]: أي: غير معروفين في بلدنا.
وقيل: المعنى: إنكم قومٌ منكرون، إذا سلمتم، لأن التسليم في بلدنا منكر، ولم نعهده إلا لمن هو على ديننا. والرسل الذين أتَوْهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، عليهما السلام.
روي أن رجلاً جلَّ ذكره، أرسل إسرافيل يبشر سارة زوج إبراهيم بإسحاق، ويعقوب ولد إسحاق، وأرسل الله جبريل ليقلب مدائن قوم لوط، وأرسل(5/3427)
ميكائيل ليأخذ بيد لوط، ويسري بهم. والبشرى هي البشارة بإسحاق. وقيل: هي البشارة بهلاك قوم لوط.
{قَالُواْ سَلاَماً} قال مجاهد: المعنى سَدَاداً.
{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ}: " أن ": في موضع نصب عند سيبويه، يقال: لا يلبث عن أن يأتيك.
وأجاز الفراء أن تكون في موضع رفع. فلبث، أي: فما أبطأ عنه مجيئه. والمعنى: فما أبطأ عنهم حتى جاء {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}: أي: مشوي، وهو فعيل، بمعنى مفعول.
وقال ابن عباس: (حنيذ): نضيج. وقيل: كان قد أشوي على حجارة محمية. فما: نافية في قوله (فما لبث)، وفي " لبث " ضمير إبراهيم عليه السلام.(5/3428)
وقيل: لا ضمير في " لبث "، والفاعل: أن جاء، أيك فما أبطأ مجيئه عن أن جاء. وقيل: " ما " بمعنى " الذي " في موضع رفع على الابتداء، والخبر: " أن جاء "، والتقدير: فإبطاؤه مجيئه بعجل بين قدر الإبطاء.
قوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ} أي: فلما رأى إبراهيم أيدي الرسل، صلوات الله عليهم، لا تصل إلى العجل، فتأكل منه، (نكرهم)، وعلم أنهم لم يتركوا الأكل إلا لقصة. فأوجس منهم خوفاً في نفسه. يقال: نكره ينكره، وأنكره بمعنى. فالهاء في " إليه " تعود على العجل، وقيل: على إبراهيم، بمعنى: لا تصل / إلى طعامه، ثم حذف المضاف.
قال قتادة: إنما أنكر إبراهيم أمرهم، لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير، فخاف إبراهيم منهم، فقالوا له: {لاَ تَخَفْ} منا {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} بالعذاب.(5/3429)
{وامرأته قَآئِمَةٌ}: أي: " من وراء الستر ". وفي قراءة ابن مسعود: " وامرأته قائمة، وهو قاعد.
وقيل: إنها كانت قائمة، تخدُم الرسل، وإبراهيم جالس مع الرسل.
وقوله: {فَضَحِكَتْ} قيل: إنها ضحكت من أمرها أنها تخدم، وضيافها لا يمسون الطعام.
قال السدي: قال إبراهيم للرسل، صلوات الله عليهم: ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم! إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن. قال لهم: فإن لهذا ثمناً! قالوا: وما هو؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل، عليهما السلام، فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلاً. فلما لم يأكلوا، قالت سارة، امرأة إبراهيم: عجباً لأضيافنا هؤلاء، إنا لنخدمهم بأنفسنا، تكرمة لهم، وهم لا(5/3430)
يأكلون! وضحكت تعجُّباً.
وقيل: ضحكت من أن قوم لوط في غفلة، وقد جاءت رُسُلَ الله عز وجل، بهلاكهم. فكان ضحكها تعجباً لغفلة قوم لوط، عما أتاهم من العذاب، وهو قول قتادة.
وقيل: إنها ضحكت لما رأته من زوجها إبراهيم عليه السلام، من الروع تعجباً، وهو قول الكلبي.
وقال وهب بن منبه: ضحكت لما بشرت بإٍحاق، وهي كبيرة،(5/3431)
فضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها. ويكون في الكلام تقديم وتأخير، وهو بعيد مع الفاء، ولا يحسنُ الوقف على هذا المعنى، على " ضحكت ".
وقال مجاهد: معنى: ضحكت: ساغت، وكذا ابنة تسعين سنة. وقيل: بل زادت على التسعين، وكان إبراهيم، عليه السلام، ابن مائة سنة.
وذكر بعض البصريين أن بعض أهل الحجاز حكى عن العرب: " ضحكت المرأة " بمعنى: حاضت.
وقال الضحاك: الضحك: الحيض، ويقال: ضحكت النخلة: إذا أخرجت الطلع، والبشر. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأن الملائكة أحْيَوا العجل بإذن الله عز وجل، فضحكت تعجباً. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأنها قالت لإبراهيم قبل مجيء الرسل: أحسب أن قوم لوط سينزل الله بهم عذاباً. فضم لوطاً(5/3432)
إليهم، فلما أتت الرسل بما قالت سُرَّت به، فضحكت.
وقيل: إنها إنما ضحكت من إبراهيم، لأنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم بمائة رجل، فتعجبت من خوفه من نفر.
وقيل: ضحكت سروراً، حيث قالوا: لا تخف، لقد كانت خافت منهم.
وقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}: أي: من رفع " يعقوب " فعلى الابتداء، {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ}: الخبر، والجملة في موضع الحال. أي: بشرناها بإسحاق، مقابلاً له يعقوب. وهو داخل في البشارة، فلا يوقف على إسحاق على هذه المعنى. ويجوز أن يرتفع بفعل دل عليه الكلام، / والمعنى: ومن وراء(5/3433)
إسحاق يحدث يعقوب، فلا يكون داخلاً في البشارة، فيجوز الوقف على إسحاق.
وقيل: المعنى: وقبت لهما من وراء إسحاق يعقوب.
ومن قرأ بالفتح، فهو في موضع خفض عند الكسائي، والأخفش، وأبي حاتم، على العطف علاى " إسحاق ": يجيزون التفريق بين المجرور، وبين ما يشركه، فيفرقون بين حرف العطف والمعطوف.
ومذهب سيبويه والفراء أن يعقوب في موضع نصب، على معنى: ومن وراء إسحاق وهبنا له يعقوب. ولا يجيزون التفريق بين المجرور، وحرف العطف. فتقف على إسحاق على هذا التقدير، ولا تقف عليه إذا قدرت العطف.(5/3434)
وقيل: معنى: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ}: أي: ومن ولد إسحاق، لأن ولد الولد: الوراء، وهو قول ابن عباس، والشعبي، وجماعة معهما.
وفي هذا دليل على أن: الذبيح إسماعيل، لأنها بشرت بإسحاق، وأنها تعيش حتى يولد له، فغير جائز أن يعلم إبراهيم أنه يعيش حتى يولد له، ثم يؤمر بذبحه، قبل أن يولد له. فلا يجوز أن يؤمر بذبح من أخبر أنه يعيش إلى وقت بعد، وقت الذبح بسنين.
قال السدي: لما بُشرت بذلك، سكّت وجهها وقالت: {ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} ثم قالت لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل، عيله السلام، عوداً يابساً، فلواه بين أصبعيْه فاهتزَّ خضراً. فقال إبراهيم: هو لله إذاً " ذبيحاً ".
قيل: إنها كانت ابنة تسعة وتسعين سنة، و'براهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان أكبر منها بسنة.
و {ياويلتى} " كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء ".(5/3435)
وحكى ابن يونس عن العرب: " عجوزة " بالهاء، وأنكر ذلك أبو حاتم. ويقال: للمرأة شيخ وشيخة. والمؤنث في كلام العرب على أربعة أوجه:
- الأول: أن يكون فيه علامة التأنيث، تفصل بينه وبين المذكرن نحو: خديجة، وفاطمة، وعائشة وليلى، وسعدى، وحمرى.
- والثاني: أن تكون الثانية في صيغة الاسم، وبلا علامة ظاهرة، نحو: زينب، ونوار، وهند، وعير وفخرٌ، وشبهه.
- والثالث: أن يكون الاسم المؤنث يخالف لفظه لفظ ذكره، فيستغنى عن علامة التأنيث، لمخالفة اللفظ، وذلك نحو: جَدْيٌ، وعناق، وحمار، وربما مالوا إلى المؤنث فأدخلوا الهاء، وإن كان لفظه يخالف لفظ المذكر: قالوا: عجوزة،(5/3436)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
والأكثر عجوزه، وقالوا: غلام، وجارية، فأدخلوا الهاء. ولفظ " جارية " مخالف لِلَفْظِ غلام. وقالوا: جمل وناقة، وكان الأصل ألا تدخل الهاء في هذا، وربما أدخلوا التأنيث في المذكر. قالوا: شيخ وشيخة، وغلام وغلامة، ورجل ورجلةٌ.
- والقسم الرابع: أن يكون الاسم واقعاً على المؤنث والمذكر، فيكون " بالهاء " كقولك: شاة وبقرة، وجرادة، وهذه الهاء فصل بين الواحد والجمع. وقولها: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} وإن في كون الولد من مثلي شيئاً عجيباً.
قوله: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} - إلى قوله - {مَرْدُودٍ}.
والمعنى: قالت الرسل: أتعجبين من أمر / قضاء الله عز وجل فيك، وفي بعلك، {رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ}.
ثم قال: {إِنَّهُ حَمِيدٌ}: أي: محمود على نعمه عليكم، وعلى غيركم. {مَّجِيدٌ}: أي: ذو مجد، وثناء، وقيل: معنى: {مَّجِيدٌ}: كريم، والمجد: الكرم،(5/3437)
والجود، {مِنْ أَمْرِ الله}: وقف.
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع}: أي: لما سكن خوفه من الرسل، وعلم منهم من هم.
قال الأخفش، والكسائي: قوله " يجادلنا " لأن جواب " لمَّا " يكون بالماضي، وقيل " يجادلنا ": في موضع الحال. ومعنى يجادلنا: أي: يطلب. وقيل: في قوم لوط. وقيل: المعنى: يخاصم رسلنا في قوم لوط.
قال ابن جريج: قال إبراهيم للرسل: أتهلكونهم إن وجدتم فيهم مائة رجل مؤمن؟ قالوا: لا. ثم قال: فتسعين؟ حتى هبط إلى خمسة، وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف، يجادل الرسل عن قوم لوط، ليرد عنهم العذاب.
وقيل: إنه لم يزل يقول: آرأيتم إن وجدتم فيهم كذا، وكذا مؤمناً أتهلكونهم؟ فيقولون: لا حتى بلغ إلى أن قال: أرأيتم إن وجدتم فيها واحداً مسلماً؟ قالوا: لا. فلم يخبر إبراهيم أن فهيم رجلاً واحداً، يدفع عنهم به البلاء. قال لهم: إن فيها(5/3438)
لوطاً يدفع عنهم به العذاب. {قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32].
وقد بين الله، جل ذكره، ذلك في سورة " والذاريات " فقال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 36] يعني: بيت لوط إلا امرأته.
وقيل معنى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}: أي: في المؤمنين منهم خاصة، ثم قالوا: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}. قال ابن عباس: قال الملك لإبراهيم: إن كان فيهم خمسة يصلون رفع عنهم العذاب.
وقوله: {أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}: الأوّاهُ: المُبْتَهِلُ إلى الله، عز وجل، المتخشع في ابتهاله، الذي يكثر التأَوُّهُ خوفاً، وإشفاقاً من الذنوب، والمنيب: الرجاع إلى طاعة الله عز وجل.(5/3439)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وقيل: إنما وصفه بالحلم، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينتصر لنفسه قط، إنما كان ينتصر لله عز وجل، ولم يعاقب أحداً بذنب صنعه إلا لله، ولم يغضب قطُّ إلا لله.
والأوّاه: الدّعَاء، البكَّاء، والمنيب: التارك للذنوب، الراجع إلى ما يحبه الله عز وجل، ويرضى به، وقيل: الأوَّاه: الدَّعاء، وقيل: هو المتأوه، المرتجع من الذنوب.
وقوله: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} - إلى قوله - {شَدِيدٍ}.
والمعنى: ولما جاءت الرسل لوطاً ساءه ذلك، ولم يعرفهم، وخاف من قومه. {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً}: أي: ضاقت نفسه بهم لما يعلم من فسق قومه. فالضمير في " بهم " في الموضعين للرسل.
قال قتادة: قالت الرسل: لا تهلكهم حتى يشهد عليهم لوط، قال: فأتوه، وهو في أرض (له)، يعمل فيها، فقالوا له: إنا متضيفوك الليلة. فانطلق به، فلما مشى، قال: أما بلغكم أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية(5/3440)
بالأرض عملاً، يقول ذلك أربع مرات.
وروي أنهم لقوه، وهو يحطب، فسلموا / عليه، فرد عليهم السلام، ثم حمل حزمته، ودعاهم إلى ضيافته. فلما دخل بهم المدينة، مر بقوم فقالوا: هذا مع لوط حاجتنا، قوموا بنا إليهم. فقال لوط: أشهد أنكم قوم سوء، ثم مر بآخرين، فقالوا بمثل ذلك، فشهد لوط عليهم بمثل ذلك، ثم مر بآخرين. فقالوا بمثل ذلك، فشهد عليهم لوط مثل ذلك. فقال جبريل لإسرافيل، وميكائيل، عليهم السلام: هذه ثلاث مرات شهد بها نبيهم عليهم.
وقال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم، عليهم السلام، نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم، لقد بنت لوط تستقي من الماء لأهلها، فقالوا لها: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم حتى آتيكم. فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه: إن أدرك فتْيَاناً على باب المدينة، ما(5/3441)
رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، وقالوا: خل عنا نضيف الرجال، فجاء بهم لوط، ولم يعلم أحد إلا أهل بيت لوط، فخجرت امرأته، فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت قط مثلهم.
{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ}: أي: يسرعون، وقيل: يسعون، وقيل: يهرولون، فقال لهم لوط: {هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ}: أي: شديد شره، عظيم بَلاَؤُهُ.
{وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات}: أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فراودُوه في أضيافه، فقال: {هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}،(5/3442)
أي: هؤلاء النساء هن أحل لكم، يريد نساءهم، والنبي أبٌ لأمته.
وقد قرئ: " وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم " قرأه ابن مسعود.
قال عكرمة: إنما قال لهم هذا لينصرفوا، ولم يعرض بأحد. وقيل: عرض التزويج عليهم من بناته إن أسْلموا. وقيل: كان في ملتهم جائز أن يتزوج الكافر المسلمة.
وقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}: أي: يعرف الحق، فيأمر به. قالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}: أي: هل لنا أزواجاً.
{وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}: أي: أضيافك إياهم نريد، قال لهم لوط، عليه السلام، {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي:(5/3443)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
أنصاراً ينصرونني عليكم. {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ}: أي: أنضم إلى عشيرة مانعة، تحول بينكم، وبين أضيافي. والجواب محذوف، والمعنى محذوف، والمعنى: لقاتلتكم، ولحلت بينكم وبينهم.
وقال ابن جريج: " بلغنا أنه لم يبعث نبي من بعد لوط، إلا في ثروة من قومه.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " رحمة الله على لوط، إنه كان ليأوي إلى ركن شديد "
وقيل: إن لوطاًَ لما قال ذلك وجدت عليه الملائكة، وقالوا: إن ركنك لشديد.
قوله: {قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} - إلى قوله - {بِبَعِيدٍ}.
والمعنى: قالت له الرسل، لما ضاق، ونزل الركب، فقال لقومه ما قال:(5/3444)
/ {لَن يصلوا إِلَيْكَ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} - بسوء - {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل}: أي: اخرج بهم في بقية من الليل، وفي طائفة منه، {إِلاَّ امرأتك} نهى أن يخرج بها.
ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " فيكون قد خرج بها، فالتفتت تنظر ما حل بقولمها، فأصابها ما أصابهم. ومن نصب فعلى الاستثناء.
وفي قراءة ابن مسعود: " فأسر بأهلك إلا امرأتك ". وهذا يدل على الاستثناء، والمعنى: فأسر بأهلك إلا امرأتك، فيكون المعنى: إنه خرج بهم إلا امرأته، وإنه لم يخرج بها. والنهي في الالتفات، إنما وقع على من خرج معه، إلا امرأته {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ} من العذاب.(5/3445)
قال ابن إسحاق: قال الرسل للوط: إنما ينزل عليهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تُؤمَر. فقالوا: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ}؟ أي: عند الصبح ينزل بهم العذاب.
فلما كانت الساعة التي أهلكوا بها، أدخل جبريل عليه السلام، جناحه، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عليها سافلها، وأرسل عليهم حجارة من سجيل. وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه! والتفتت، فأدركتها أحجار، فقتلتها. وكانت مدائنهم خَمْساً، فدمرت إلا زعن وحدها تركها الله عز وجل، لآل لوط، وهي بالشام.(5/3446)
وقال السدي: لما قال لوط: (لو أن لي بكم قوة، أو آوي إلى ركن شديد) بسط جبريل حينئذ جناه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً، يقولون: النَّجَاءَ! النجاءَ! فإن في بيت لوط أسْحَرَ قوم، فذلك قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] فأخرج الله عز وجل، لوطاً وأهله إلى الشام.
قال مجاهد: " سجيل " بالفارسية أولها حجر، وآخرها طين.
وقال قتادة: " سجيل ": طين. وقال ابن عباس: " سجيل ": سنك وجل. فالسنْك: الحجر، والجل: الطين، وهو فارسي أعرب. وقيل: سجيل، من أسجلته، أي: أرسلته، فكأنها مرسلة. وقيل: هي من أسجلت: إذا(5/3447)
أعطيت، فهي من السجل، وهو الدلو. وقيل: " سجيل " من " سجَّل ": إذا كتب، أي: مما كتب لهم، وهو اختيار الزجاج.
وقيل: " سجيل " اسم للسماء الدنيا، أي: أرسل عليهم حجارة من سماء الدنيا. والمعنى: أنها حجارة من كتب الله عز وجل، لهم أن يعذبهم بها، ويدل عليه قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 8 - 9]، والنون بدل من اللام.
قال عكرمة: " منضود " (مصفوفة)، وقيل: " منضوط ": متراكب بعضها على بعض.
وقيل المعنى نضد بعضها على بعض.
وقيل: المعنى: إنها في السماء منضودة، أي: مُعدة لهم، يعلق بعضها على بعض.(5/3448)
{مُّسَوَّمَةً}: قال ابن جريج: لا تشبه حجارة الأرض.
وقال الحسن: معلمة ببياض، وحمرة.
وقال السدي: المسومة المختمة، ثم قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ}: أي: من ظالمي قومك يا محمد، فهذا على التهديد للمشركين. و " هي " تعود على / الحجارة. وقيل: تعود على القرى. وما قرى قوم لوط من ظالمي قومك ببعيد، وكانت قرى قوم لوط بين الشام والمدينة، وأتى ببعيد مذكراً على معنى: بمكان بعيد عند ربك تمام عند أبي حاتم، {مَّنْضُودٍ}: وقف عند نافع، وهو قبيح، لأن " مسومة " نعت للحجارة.(5/3449)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} - إلى قوله - {بِحَفِيظٍ}.
والمعنى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً، فقال لهم: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان}: أي: " لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالهم وميزانهم ".
{إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}: أي: برُخْصٍ في أسْعَارِكُمْ قاله ابن عباس، وقيل: المعنى: أراكم أغنياء، ذوي مال وزينة. " ومدين ": اسم أرض، فلذلك لم ينصرف، لأنه معرفة مؤنثة.
وقال مقاتل: هو اسم رجل في الأصل أعجمي معرفة، وقيل: هو اسم رجل سميت به أمته، فلم ينصرف للتأنيث، والتعريف أيضاً.
قوله: و {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}: أي: محيط بكم عذابه، ثم كرر عليهم الوصية، فقال: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط}: أي: بالعدل(5/3450)
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} أي: حقوقهم. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض}، أي: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
وقال الضحاك: {وَلاَ تَعْثَوْاْ} أي: لا تسعوا بنقص الكيل، والوزن. {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}: أي: ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد أن توفوا الناس حقوقهم، خير لكم من الذي يبقى لكم يبخسكم الناس حقوقهم.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: أي: " مصدقين بوعد الله عز وجل، ووعيده " وقال مجاهد: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}، أي: طاعة الله خير لكم.
وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة.
وعن ابن عباس: رزق الله خير لكم. وقيل: المعنى: مراقبة الله خير لكم.(5/3451)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة.
{وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}: أي: برقيب. أراقبكم عند كيلكم، ووزنكم، إنما علي أن أبلغكم رسالة ربي.
قوله: {قَالُواْ ياشعيب أصلاتك} - إلى قوله - {وَدُودٌ}.
والمعنى: قالوا: يا شعيب: أصلواتك أي: أدعواتك {تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من بخس الناس في الكيل والوزن.
قال ابن زيد: نهاهم عن قطع الدنانير، والدراهم، كانوا ينقصون منها، ويجوزونها بالوازنة. وقيل: معناه: مساجدك التي تتعبد فيها تأمرك بِنَهْيِنَا. وقد سمى الله، عز وجل، المساجد صلوات، فقال: {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} [الحج: 40].
وقيل: هي صلاته لله عز وجل، لأنها كانت على خلاف ما كانوا عليه.
قوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} قالوا على معنى الاستهزاء. وقيل:(5/3452)
المعنى: إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك.
وقيل: المعنى: أنت الحليم، الرشيد، فكيف تأمرنا بترك عيادة ما كان آباؤنا يعبدون، وتنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من قطع، أو بخس، أو غير ذلك. وقال: هو تعريض يُراد به الشتم ومعناه: إنك لأنت السفيه الجاهل.
ثم قال تعالى حكاية عن جواب شعيب لهم: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ (إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ) مِّن رَّبِّي}: أي: على بيان، وبرهان فيما أدعوكم إليه. {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي: حلالاً، وجواب / الشرط محذوف لعلم السامع. والمعنى: أفتأمرونني بالعصيان.
وقيل: المعنى: أفلا أنهاكم عن الضلالة.
ثم قال: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: أي: لست أنهاكم عن شيء، وأركبه.(5/3453)
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت}: أي: ما أريد فيما آمركم به إلا الإصلاح، لئلا ينالكم من الله، عز وجل، عقوبة.
{وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله}: أي: ليس توفيقي، وإصابتي الحق فيما أنهاكم عنه إلا بالله. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: فوضت أمري إليه، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}: أي: أرجع.
{رِزْقاً حَسَناً}: وقف عند أبي حاتم. {مَا استطعت}: وقف عند نافع.
ثم قال لهم: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي}: أي: لا يكسبنكم مشاقتي، أي: مخالفتي، وعداوتي، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ}: من الغرق، {أَوْ قَوْمَ هُودٍ}: من العذاب، {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}: من الرجفة. {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} الذين انقلبت عليهم مدائنهم. وأًل الشقاق في اللغة: العداوة.(5/3454)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{واستغفروا رَبَّكُمْ}: أي: من ذنوبكم التي أنتم عليها مقيمون. {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: أي: ارجعوا إليه باتباع طاعته.
{إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ}: أي: رحيم لمن تاب إليه، {وَدُودٌ}: أي: ذو محبة لمن تاب وأناب.
قوله: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} - إلى قوله - {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} والمعنى: ما نفقه كثيراً مما تقول.
وقوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي: قيل: ضعيفاً، قيل: إنه صلى الله عليه وسلم، كان أعمى.
قال أبو إسحاق: حمير تسمي المكفوف ضعيفاً.
ويقال: إن شعيباً كان خطيب الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ( وعليهم أجمعين). ثم قالوا له: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}: أي: لولا عشيرتك وأهلك لسبَبْناك. وقيل: معنى " لرجمناك ": لقتلناك رجْماً.(5/3455)
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}: أي: لست ممن يكرم علينا "، {قَالَ} لهم شعيب: {ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله}: أي: أعشيرتي أعز عليكم من الله، فترركم إيَّايَ لله عز وجل أولى لكم من أن تتركوني لعشيرتي، فلا يكون رهطي أعظم في قلوبكم من الله، سبحانه.
{واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً}: أي: تركتم أمر الله سبحانه، خلف ظهوركم، فلا تراقبوه في شيء مما تراقبون قومي. فالضمير في {واتخذتموه} يعود على اسم الله سبحانه، وقيل: يعود على ما جاءهم به شعيب.
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}: أي: لا يخفى عليه شيء من ذلك، يجازيكم على جميعه.
ثم قال لهم: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ}: أي: على منازلكم، وقيل:(5/3456)
المعنى: على مكانتكم من العمل، {إِنِّي عامل}. {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أينا الجاني على نفسه، وأينا المصيب وأينا المخطئ. {مَن يَأْتِيهِ}: " مَنْ ": في موضع نصب " بتعملون "، مثل: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ (المصلح)} [البقرة: 220]. وقيل: هي في موضع رفع على أنها استفهام. " ومَن " الثانية عند الطبري في موضع نصب عطف على الهاء، في " يُجْزِيه " على معنى: ويخزي من هو كاذب منا، ومنكم.
{وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}: أي: انتظرونا إني منتظر.
{تَعْلَمُونَ}: وقف إن جعلت " مَن " استفهاماً ". وقيل: لا يكون وقفاً، لأن الجملة إذا رفعت في موضع نصب " بتعملون " فالوقف عليه قبيح.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً}: أي: جاء قومه العذاب / نجيناه(5/3457)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
والمؤمنين به، {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ}، أي: صيحة من السماء أخرجت أرواحهم {فَأَصْبَحُواْ فِي (دِيَارِهِمْ) جَاثِمِينَ} أي: خامدين في دارهم {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}: أي: (كأن لم يعيشوا فيها)، وقيل: لم يقيموا.
{أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ}، أي: أبعدهم الله، فبعدوا بُعداً.
{كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}، أي: أهلكهم الله، كما هلكت ثمود. وقيل: المعنى: أبعد الله مدين من رحمته، كما أبعد ثمود، يقال: بعِد يبعد: إذا هلك، وبعُد يبعد: إذا تباعد.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} - إلى قوله - {المرفود}.
والمعنى: ولقد أرسلنا موسى بالأدلة، والحجة الظاهرة.
{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي: أطراف قومه. {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}: أي: اتبع ملؤه قوله، وكذبوا بما جاء به موسى {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}: أي: لا يرشد من اتبعه إلى خير، بل يورده جهنم.(5/3458)
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة}. (قال قتادة: يمضي فرعون بين أيدي القوم) حتى يهجم بهم على النار.
وقال ابن عباس: " أضلهم فأوردهم النار، والورد هنا: الدخول " قوله: {وَبِئْسَ الورد المورود}: أي: يبس ما أوردهم.
{أَمْرُ فِرْعَوْنَ}: وقف، وكذلك {فَأَوْرَدَهُمُ النار}.
ثم قال تعالى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً}: أي: أتبعوا في الدنيا لعنة مع العذاب الذي عجل بهم، وهو الغرق. {وَيَوْمَ القيامة} يلعنون أيضاً، فتلك لعنتان.
{بِئْسَ الرفد المرفود}: أي: بئس اللعنة بعد اللعنة، وأصل الرفد: العطاء، والمعنى: الذي يقوم لهم مقام العطاء اللعنة، وبئس العطاء ذلك. والتقدير في العربية: بئس الرفد رفْدَ المرفود.(5/3459)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
{وَيَوْمَ القيامة}: وقف.
قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى} - إلى قوله - {أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
المعنى: هذا الذي نقصه عليك، مِن أخبار القرى، منها ما هو عامر، ومنها ما هو خرب، فيه عامر.
وقيل: المعنى: منها ما بقي أثره، ومنها ما لم يبق له أثر. قال ابن جريج: {مِنْهَا قَآئِمٌ}: خاوٍ على عروشه، وباق رسمه، {وَحَصِيدٌ}: ملزق بالأرض، لا رسم له، وهو معنى قول قتادة، وغير (هـ).
ثم قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي: لم نضع العقوبة بهم في(5/3460)
غير موضعها، بل أوجبوا لأنفسهم بكفرهم العقوبة، إذ وضعوا العبادة في غير موضعها.
{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ}: التي عبدوها، ودعوها من دون الله شيئاً لما جائهم العذاب، وما زادهم آلهتهم {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}: أي: إلا خسراناً، ونقصاً، وهلاكاً، وتدميراً.
ثم قال تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: وكما أخذ ربك يا محمد هذه القرى بظلمهم، كذلك يأخذ القرى الظالم أهلها، فيهلكهم. (هذه الآية تحذير لهذه الأمة أن تسلك في المعصية طريق من كان قبلها من الأمم) فيحل بهم ما حل بأولئك، وأخذ الله عز وجل في سطوته. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}: أي: موجع. ومعنى {أَخَذَ القرى}: أي: أخذ أهلها.
وقرأ الجحدري: " إذ أخذ القرى ".(5/3461)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} - إلى قوله - {غَيْرَ مَجْذُوذٍ}:
والمعنى: إن في أخذه القرى لعظةً، وعبرةً / ممن خاف عذاب الآخرة، وحجة عليه.
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس}: أي: يُحشَر الناس كلهم من قبورهم للجزاء فيه. {(وذلك يَوْمٌ) مَّشْهُودٌ}: أي: يشهده الخلق كلهم: أهل السماء، وأهل الأرض، وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يومُ القيامة.
ثم قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}: أي: ما نؤخره يوم القيامة عنكم إلا لأجل قد قضيتُهُ، وعددتُهُ وأحصيتُهُ. فلا يتقدم اليوم ولا يتأخر.
ثم قال تعالى: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَوْمَ يَأْتِ}: أي: يوم تقوم الساعة ما تكلم نفس إلا بإذن الله، وهو مثل قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35]. وقد قال في موضع(5/3462)
آخر: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50]، وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111]، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39]. وهذه الآيات يسأل عنها أهل الإلحاد. فالجواب عن ذلك: أنه تعالى قد أحصى الأعمال، وعِلِمَها قبل أن تكون، فلا حاجة (له) إلى سؤال أحد عن ذنبه، (ليعلم) ما عنده. فأما قوله: (إنهم مسئولون) فإنما هو سؤال توبيخ، وتقرير، لا سؤال استخبار.
وقوله: {لاَ يَنطِقُونَ} [النمل: 85، المرسلات: 35] بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بذنوبهم، ويلوم بعضهم بعضاً بعد أن ينطلق لهم الكلام، بإذنه تعالى في لوم بعضهم بعضاً، لا في حجة يقيمونها لأنفسهم.
{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}: أي: فمن هذه النفوس التي لا تتكلم إلا بإذن الله، سبحانه، شقي وسعيد.(5/3463)
وذكر ابن الأنباري أنه قد قيل: إن الضمير لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، خاصة: أي: فمن هذه الأمة يا محمد شقي، وسعيد {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار. . .} {خَالِدِينَ فِيهَا. . .} {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}: أي: إلا ما شاء الله من ترك خلودهم، وإخراجهم إلى الجنة بإيمانهم على ما روي في الآثار المشهورة.
والأشهر أن الضمير في " فمنهم " يعود على الخلق كلهم، على كل نفس. {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}: قال ابن عباس: " صوت شديد، (وصوت) ضعيف ".
قال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عنه ضد ذلك.
قال قتادة: " صوت الكافر في النار صوت الحمار، أَوَّله زفيرٌ، وآخره شهيق. وقال أهل اللغة: الزفير مثل: " ابتداء الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر(5/3464)
صوت الحمار في النهيق ".
(ولما نزلت) هذه الآية، قال عمر رضي الله عنهـ: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلام عملنا؟: على شيء قد فرغ منه؟ أم على شيء لم يُفْرَغْ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فرغ مِنه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل مُيَسَّر لما خلق له ".
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض}: أي: وقت دوام ذلك. ومعنى الآية: أبداً، لأن العرب تقول: لا أكلمك ما دامت السماوات والأرض، وما اختلف الليل والنهار /. فخوطبوا على ما يعلمون، ويفهمون بينهم.(5/3465)
وقوله: ({إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}) اختلف في ذلك اختلافاً شديداً.
1 - فمن العلماء من قال: " إلا " للاستثناء، استثنى به من الزمان، " فما " على بابها: لما لا يعقل.
2 - ومنهم من قال: " إلا " بمعنى: " سوى " " وما " على بابها للزمان، فهي في زيادة الخلود.
3 - ومنهم من قال: " إلا " على بابها، و " ما " بمعنى " من ": جاءت لِمَنْ يعقل، فهي استثناء من الأشخاص والمعذبين الذين يخرجون من النار من المؤمنين. وسنذكر قول من بلغنا (قوله) من العلماء في ذلك.
قال قتادة: " الله أعلم بِثَنِيَّاه. ذُكِر لنا أن ناساً يصيبهم سَفَعٌ من النار(5/3466)
بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته يسمون: الجهنميون. فيكون هذا الاستثناء في أهل التوحيد.
(وقيل: المعنى: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه. وذلك في أهل التوحيد) فهو استثناء من الداخلين النار، لا من الخلود. " فإلا " على هذين القولين لللاستثناء، و " ما " بمعنى " من ": استثنى خروج من يدخل النار من المؤمنين.
وقيل: " عنى بذلك أهل النار، وكل من دَخَلَهَا ".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنهـ، أنه قال: " ليأتين على جهنم زمان تَخْفِقُ أبوابها، ليس فيها أحد ".
وقال الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعها خراباً ". وهذان القولان شاذَّان.
وقال ابن زيد: هي مشيئته في الزيادة من العذاب، أو في النقصان، وقد(5/3467)
تبين لنا معنى تبيانه في أهل الجنة بقوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: إنه في الزيادة، ولم يبين لنا ذلك في أهل النار. وهو محتمل للزيادة والنقص من العذاب.
وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ: 30]، يدل على أنه في الزيادة. وقال بعض (أهل) العربية: وهو استثناءٌ استثناه، ويفعله، كقولِك: " لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعَزْمِك على ضربه وقال بعضهم: " إلا " هنا: بمعنى سوى. والمعنى: سوى ما شاء الله من الزيادة في الخلود، وهو اختيار أبي بكر. قال: لأن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء في أهل الجنة بقوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، (فدلّ) على أن الاستثناء إنما هو في زيادة الخلود.
" فما " على بابها، و " إلا " لللاستثناء.
وقول آخر، وهو قول المازني: إنه استثناء إقامتهم، واحتسابهم، ما بين(5/3468)
الموت والبعث. وهو البرزخ، إلى أن يصيروا في الجنة. يقول: لم يغيبوا عنها إلا مقدار إقامتهم في البرزخ. " فما " أيضاً على بابها للزمان، و " إلا " للاستثناء.
وقول آخر: وهو أن يكون الاستثناء يراد به من دوام السماوات والأرض في الدنيا.
ومعنى: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} يعني: تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وقيل: الاستثناء واقع على مقامهم في قبورهم. وقيل: إن معنى الاستثناء في أهل الجنة مخصوص في بعضهم. يراد به: قدر بعث من دخل النار من الموحدين إلى أن رحموا، وأخْرجوا، وأدخلوا الجنة.
وقال ابن زيد: المعنى: " ما دامت الأرض أرضاً، والسماء سماء ". {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}: أي: لا يمنعه مانع من فعل ما أراد. (قال أبو محمد مكي). وقد أفردنا / كتاباً مفرداً لشرح هذه الآية، وذكرنا فيها من أقاويل(5/3469)
العلماء بضعة عشر قولاً، وبيَّنا جواز وقوع " ما " لمن يعقل بياناً شافياً في ذلك الكتاب. وذكرنا في هذا اختصار ما ذكرنا في ذلك الكتاب.
ومن قرأ " سعدوا " بالفتح فهي اللغة الجيدة المشهورة. يقال: ما سعد حتى أسعده الله. وإجماعهم على " شقوا " بالفتح يدل على فتح " سعدوا "، ولو كانت بالضم لقيل: " سعدوا "، ومن قرأ بالضم فهي مكروهة عند أكثر النحويين، واحتج الكسائي في الضم بقولهم: " مسعود: (وهذا) لا حجة فيه له، لأن " فيه " محذوفة منه. يقال: مكان مسعود فيه. واحتج الكسائي بقول العرب: " فغر فاه، وفغر فوه "، وجبر العظم وجبرته، ونزحت البئر ونزحتها: فهذا لا يقاس عليه، إنما يسمع(5/3470)
سماعاً. واحتج الكسائي للضم أيضاً، بأنه كذلك سمعتُ من أًحاب عبد الله يقرؤونها.
وكان الكسائي، وغيره حكوها لغة في " أسعد ": تسقط الألف وتضم السين. كقوله: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض}، وقال في موضع آخر: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48]. فإن قيل: فما دوام ذلك على هذا؟ فالجواب إن ابن عباس قال: وقد سأله رجل، فقال: يا أبا عبد الله من أي شيء خلقت الأشياء؟ فقال: من خمسة أشياء من نار، وتراب، وريح، وماء، ودخان. فقال له: ومن أي شيء خلقت هذه الخمسة؟ فقال: من نور العرش. فقال له: أفرأيت قول الله عز وجل، { مَا دَامَتِ السماوات والأرض}، وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وقوله:(5/3471)
{يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] فما دوامها، وقد فنيتا. فقال ابن عباس: فإذا كان ذلك، ردتا إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان لا بد في نور العرش.
ومعنى: {غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: غير مقطوع، وقيل: غير منزوع.
(شقي وسعيدٌ): وقف. {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وقف عند أبي حاتم في الموضعين. والوقف على الاستثناء في قصة أهل النار جائز وليس بجائز في قصة أهل الجنة، لأن بعده " عطاء " منصوب على المصدر، فما قبله يعمل فيه. فإن نصبته بإضمار فعل وقفت على ما قبله.(5/3472)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} - إلى قوله - {مُرِيبٍ}.
الإشارة في هؤلاء إلى مشركي قريش. والمعنى: فلا يكن من آمن بك يا محمد في شك مما يعبده مشركو قريش من الأصنام، إنها باطل. ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم من قبل. {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} يا محمد {نَصِيبَهُمْ}، أي: حظهم من خير وشر. {غَيْرَ مَنقُوصٍ}: أي: " لا أنقصهم مما وعدتهم ".
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ}: وهذا تسلية من الله تعالى لنبيه عليه السلام، في تكذيب مشركي العرب له، فيما جاءهم به من عند الله عز وجل. فالمعنى: آتينا موسى الكتاب، كما آتيناك، {فاختلف فِيهِ}: فكذب بعضهم، وصدق بعضهم، كما فعل قومك يا محمد.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} وهو أنه سبق / أن يؤخر عقوبتهم(5/3473)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
إلى يوم القيامة. فإنه لا يعجل عليهم. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}: أي: في الدنيا.
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}: أي: وإن الذين كذبوا، لفي شك منه إنه من عند الله. {مُرِيبٍ}: أي: " يريبهم، فلا يدرون أحق؟ أم باطل؟ ".
قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} - إلى قوله - {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}.
قرأ الزهري: " وإن كلاًّ " بالتشديد، لما " بالتنوين مشدداً أيضاً، وقرأ الأعمش: (" وإن كلا " بتخفيف " إنْ "، ورفع " كل " وتشديد " لما ". (وفي حرب أبي ": " وإن كلّ " إلا ليوفينَّ ربك أعمالهم ". وفي حرف ابن(5/3474)
مسعود: " وإن كل) إلا ليوفينهم ربك أعمالهم ". ومن شدَّدَ " إنَّ " نصب " كلاً " بها. واللامُ في " لَما " لام تأكيد. و " ما " صلة، هذا على قراءة التخفيف. والخبر في " ليوفينهم ".
والتقدير: وإن كلاً ليوفينهم. وقراءة من خفف إنْ، ونصب " كلا " على هذا التقدير، إلا أنه، خفف " إن " وأعملها كما يفعل الفعل، وهو محذوف منه.
وأنكر الكسائي التخفيف والعمل.
وقال الفراء: من خف " إن " نصب " كلاً " بقوله: " ليوفينهم، وهذا لا يجوز أن يعمل ما بعد اللام فيما قبلها. ومن شدد " إن " و " لما " فهي غير جائزة عند(5/3475)
المبرد، والكسائي.
قال المبرد: لا يجوز: " أن زيداً إلا لأضربنه ".
وقال الفراء: الأصل " لمن ما "، فاجتمعت ثلاث ميمات عند الإدغام، فحذفت إحداهن. وهذا لا يجوز عند البصريين.
وقال المازني: الأصل التخفيف في " لَما "، ثم ثقلت. وهذا أيضاً لا أصل له، (و) يجوز (تثقيل المخفف)، إلا لمعنى.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الأصل " لما " بالتنوين، من لممته لمّا: أي: جمعته، ثم بني منه فَعْلى، كما قرأ: " تثرا، و " تثري ".(5/3476)
ومن خفف " إن "، وشدد " لما "، " فإن " بمعنى " ما "، و " لما " بمعنى " ألا " حكى ذلك الخليل، وسيبويه بمنزلة قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي: إلا عليها حافظ والقراءات الثلاث تكون فيها " إن " بمعنى " ما " لا غير.
وقد قيل: في قراءة من شدد " إنَّ " وخفف " لما ": إنَّ (ما) بمعنى: " من ". وإن المعنى: وإن كلا {لَّمَّا} ليوفينهم ربك أعمالهم، كما قال: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3]: أي: ما طاب لكم نكاحه.
وقوله: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: أي: " لا يخفى عليه شيء من عملكم ".
ثم قال تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ}: أي: دم يا محمد على ما أنت عليه.(5/3477)
{وَمَن تَابَ مَعَكَ}: أي: رجع إلى عبادة ربك، يدوم على ذلك. {وَلاَ تَطْغَوْاْ}: أي: ولا تتعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه.
{إِنَّهُ بِمَا (تَعْمَلُونَ) بَصِيرٌ}: أي: ذو علم، لا يخفى عليه شيء من عملكم. وقال سفيان: معنى {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ}: أي: " استقم على القرآن "، {وَلاَ تَطْغَوْاْ}: وقف.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ}. قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب: " فتمسكم " بكسر التاء.
وقرأ قتادة: ولا تركُنوا بالضم في الكاف، يقال: رَكَنَ يركنُ، وركُنَ يركَنُ. قال ابن عباس: معناه: لا تذهبوا إلى الكفار.(5/3478)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم.
وقال أبو العالية: " لا ترضوا أعمالهم ".
وقال قتادة: لا تلحقوا بالشرك ".
وقال ابن زيد: الركون هنا: / الإذعان. وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم، وهذا لأهل الشرك. نهى الله عز وجل، المؤمنين أن يميلوا إلى محبتهم، ومصافاتهم، وليس لأهل الإسلام. فأما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فقد بينت السنة، والكتاب أنه لا يجوز أن يركن إلى شيء من معاصي الله، ولا يصالح عليها، ولا يقرب.
فالمعنى: ولا تميلوا إلى قول المشركين، فتمسكم النار، (بفعلكم ذلك). {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}: إن فعلتم. وليس لكم ولِيّ من دون الله، ينقذكم من عذابه.
قوله {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} - إلى قوله - {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}.(5/3479)
وقال أبو جعفر: " وزُلُفاً " بضم اللام. وقرأ ابن مُحيصن بإسكان اللام فمن فتح اللام، فهو حمع واحده زلفة، وزلف، ومن ضم اللام فواحدةٌ " زليف " كقريب، وقرب. وقيل: عو واحد مثل الحلم، والحلم.
وقرأ مجاهد: " وزلفى " مثل " فعلى ". والزلف: الساعات، واحدها زلفة. ومن هذا سميت المزدلفة، لأنها منزل بعد عرفة. وقيل: سميت (بذلك) لازْدِلافِ آدم من عرفة إلى حوَّاء، وهي بها.
ومن أسكن اللام خففها من " زلفى " بالضم. ويعني بالزلف: الساعات القريبة من الليل.(5/3480)
ومعنى الآية: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار}، يعني: الغداة، والعشي، فالغداة الصبح، والعشاء مجاهد هي صلاة الظهر.
ورُوي عنه: الظهر والعصر، وقيل: عنى بها صلاة المغرب، وهو قول الحسن، وابن زيد.
وروي عن منصور، عن مجاهد أنه قال: {طَرَفَيِ النهار} صلاة الفجر، والظهر، {وَزُلَفاً مِّنَ اليل}: المغرب والعشاء.
وقال الضحاك: عنها بها صلاة العصر.
وقال مجاهد: وزلفاً من الليل: أي: ساعات من الليل: صلاة العتمة.
وروي عن الحسن: أنها صلاة المغرب، والعتمة. والاختيار عند الطبري، وغيره أن تكون صلاة المغرب، لأنها طرف، تصى بعد غروب الشمس، كما(5/3481)
صلاة الصبح طرف، تصلى قبل طلوع الشمس: فكلاهما طرف.
وقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات}.
(روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر "
" وقال أبو عثمان النهدي: كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك، فقلت: ما أضحكك؟ قال: إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أضحكني أن العبد المسلم إذا توضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى الصلوات الخمس، تساقطت عنه(5/3482)
ذنوبه كما تساقطت هذه الورق، ثم تلى هذه الآية {وَأَقِمِ الصلاة} - إلى آخرها ".
وروي عن مجاهد، عن ابن عمر، أنه قال: " ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء، إلا تناثرت عنه خطاياه، كما تتناثر ورق الشجرة اليابسة. ثم تكون صلاته نافلة (له). ثم قرا ابن عمر: {وَأَقِمِ الصلاة} الآية قال ابن عباس وغيره: هي الصلوات الخمس.
وقال مجاهد: هو قولنا: سبحان الله /، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقيل: المعنى: أن التوبة تذهب الصغائر. {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ}: أي: النهي عن الركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة تذكرة لقوم يذّكرون، وعد الله عز وجل،(5/3483)
وثوابه، وعقابه، سبحانه.
" وروي أن هذه الآية نزلت في رجل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني وجدت امرأة في بستان قبلتها والتزمتها، ونلْت منها كل شيء إلا الجماع، فافعل بي ما شئت. فأنزل الله {وَأَقِمِ الصلاة} - إلى قوله - {لِلذَّاكِرِينَ}. فقال معاذ بن بن جبل: يا رسول الله! أخاصٌّ له أم عام للناس؟ (فقال: بل للناس كافة "
وقال أنس بن مالك، رضي الله عنهـ، " أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال(5/3484)
له: إني أصبت حداً، فأقمه عليّ. فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، عنه. وحضرت الصلاة، فصلى: فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً، فأقم علي كتاب الله. فقال: أصليت معي؟ قال: نعم. قال: قد غفر الله لك ".
وقيل: المعنى: أن الصلوات الخمس، يكفرن ما بينهن من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}: أي: " اصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى ". فالله لا يضيع ثواب من صبر في الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أي: فهلاَّ كان من القرون الذين خصصنا خبرهم في هذه السورة، أو لو بقية في الفهم، والعقل، فيعتبرون مواعظ الله عز وجل، ويتدبرون حججه، جلت عظمته فينتهون عن الفساد.
وفي الكلام معنى التعجب.
وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} قليل هو استثناء ليس من الأول.(5/3485)
قال ابن زيد: هم الذين نجوا حين نزل العذاب، يعني: قوم يونس عليه السلام، ومن نجا مع الرسل.
{اتبع الذين ظَلَمُواْ} أي: من دنياهم وبطرهم. والمعنى: اتبعوا ما أبطَرَهُمْ فيه ربهم من نعيم دنياهم، إيثاراً على الآخرة، وما ينجيهم من عذاب الله.
وقال مجاهد: ابتعوا مهلكهم وتَجَبُّرَهُم، وتركوا الحق، واستكبروا عن أمر الله. والمترف في كلام العرب (المُنَعَّمُ في الدنيا) الذي قد غُذِّي باللذات.
{وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}: أي: مكتسبين الكفر. {مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ}: وقف وقد أجاز أبو حاتم الوقف على الأرض، ورُدَّ ذلك عليه، لأن بعده استثناء.(5/3486)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} إلى قوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ}
والمعنى وما كان ربك يا محمد أن يهلك القرى التي قص عليم نبأها (بظلم)، وأهلها مصلحون، ولكن أهلكها بكفرها.
وقيل: المعنى: ما كان الله ليهلكهم بظلمهم، أي: بشركهم، وهم مصلحون، لا يتظالمون بينهم، إنما يهلكهم إذا جمعوا مع الشرك غيره من الفساد. ألا ترى إلى قوله في قوم لوط؟: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} [هود: 78]، يريد الشرك، فعذبهم باللواط الذي أَافوه إلى شركهم. وأخبر الله عن قوم شعيب أنه عذبهم لنقصهم الكيل، وأمسك عن ذكر شركهم، وهذا قول غريب.
وقال الزجاج المعنى: " ما كان ربك ليهلك أحداً، وهو يظلمه كما قال: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} [يونس: 44].
ثم قال / تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}: أي: " على مِلَّة واحدة، ودين واحد ".
قال قتادة: كلّهم مسلمين، {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: أي لا يزال الناس(5/3487)
مختلفين. وروي عن ابن عباس أنّه يعني في الأديان: اليهود، والنصارى. وقيل: في الأرزاق، هذا فقير، وهذا غني. قاله الحسن.
وقيل: في المغفرة والرحمة.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}: أي: لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف. وقيل: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}: أهل الإيمان والإسلام.
وقوله: {ولذلك خَلَقَهُمْ} قال الحسن: للاختلاف في الأرزاق خلقهم. وقال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقاً يرحم، وفريقاً لا يرحم يختلف، وذلك قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105].
وقال عطاء: ولذلك خلقهم: يعني: مؤمناً وكافراً. وقال أشهب: سألت(5/3488)
مالكاً، رحمة الله، عن قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} فقال: خلقهم ليكونوا فريقاً في الجنّة، وفريقاً في السعير.
ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، والتقدير: " إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنّم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم ". وقد كان يجب في قياس العربية على هذا التقدير أن يكون اللفظ: وتمّت كلمته.
وروى ابن وهب: عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، أنه قال في معنى الآية: خلق الله أهل رحمته لئلا يختلفوا.
وقيل: المعنى: وللرحمة خلقهم. والرحمة، والرحم واحدة، فلذلك ذكر. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك.
وروي أيضاً ذلك عن ابن عباس، وقيل: إنّ هذا متعلق بما قبله، وهو(5/3489)
قوله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} [هود: 116]، ولذلك خلقهم. (وقيل: هو متعلق بما قبله بقوله: {رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ}، ولذلك خلقهم): وهو قول مالك المتقدّم.
وقيل: المعنى: وللاسعاد خلقهم، وقيل: للإسعاد والإشقاء خلقهم.
ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}: أي: وجبت: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ}: لما تقدم في علمه أنهم يستوجبون ذلك.
وقوله: {مِنَ الجنة}: يعني: ما اجتن عن عيون بني آدم من الجن والناس، يعني: بني آدم أجمعين، وذلك على التوكيد.
وقيل: إنّما سموا " جنة " لأنهم كانوا على الجنان. والملائكة كلهم جنة لاستتارهم.
ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل}: أي: من أخبارهم، وأخبار أممهم يا محمد. نفعل ذلك لنثبت به فؤادك، لأن كلما كثرت البراهين كان القلب أثبت. والفؤاد يُراد به القلب، وهذا كما قال إبراهيم صلوات الله(5/3490)
عليه، {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وقيل: المعنى: ما نثبتك به على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك منهم. فتعلم ما نالت الرسل، وما حلّ بها قبلك، فتتأسى بذلك.
و" كلا " منصوب ل " نقص "، " وما " بدل من " كل ".
وقال الأخفش: كلا " نصب " على / الحال. وقال غيره: هي منصوبة على المصدر: أي: كل القصص نقص عليك.
ثم قال تعالى: {وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى}: أي: في هذه السورة. قالَهُ ابن عباس، والحسَن، ومجاهد، وقتادة.
وقيل: في هذه الدنيا، رُويِ ذلك عن قتادة.
والمعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، مع ما جاءك في غيرها من السور. وليس(5/3491)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
المعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، دون غيرها، بل في الكل جاء الحق. وذكر في هذه السورة بهذا تأكيداً لما فيها من القصص والمواعظ، وذكر الجنة والنار ومقام الفريقين.
والقسم بأن يوفي لكل عمله، وغير ذلك من الإخبار، والمواعظ، والتحريض على إقامة الصلوات وغير ذلك. وليس إذا كان في هذه الحق فيما لا يكون في غيرها، بل غيرها فيه الحق. وقد اختار قومٌ قول قتادة: إن المعنى: في هذه الدنيا، وموعظة: لمن جهل، (وذكرى) لمن عقل من المؤمنين.
قوله: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إلى آخر السورة - أي: وقل يا محمد للذين لا يؤمنون بما جئت به، اعلموا على طريقتكم وتمكنكم، وما أنتم عليه، {إِنَّا عَامِلُونَ}: على ما نحن عليه من الأعمال التي أمرنا ربنا بها، {وانتظروا} ما وعدكم الشيطان {إِنَّا مُنتَظِرُونَ}: ما وعدنا الله.(5/3492)
ثم قال تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}: أي: ملك ما غاب عنك، ومعرفته. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ}: أي: يرد كله، وهو الحاكم في جميعهم، ومجازيهم. {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}: أي: " فوض أمرك إليه " {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: " هؤلاء المشركون من قومك، بل هو محيط بهم "، عالم بما يعملون.
قال كعب: " خاتمة التوراة خاتمة هود ".(5/3493)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف عليه السلام
مكية
قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} إلى قوله {سَاجِدِينَ}
قد تقدم الكلام في {الر}. و {تِلْكَ} عند الطبري بمعنى " هذه ". والمعنى: تلك آيات الكتاب المبين: " حلاله وحرامه، ورشده وهُداه ".
{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} الهاء تعود على خبر يوسف، وهو اختيار(5/3495)
النحاس، وغيره. أي:
إنا أنزلنا خبر يوسف، وذلك أن اليهود سألوا النبي، صلى الله عليه وسلم: لِمَ انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن خبر يوسف. فأنزل الله، ( عز وجل) هذا بمكة موافقاً لما في التوراة، وفيه زيادة ليس عندهم.
وقيل: إن " الهاء " تعود على الكتاب المبين، وهو القرآن. ومعنى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} آية: أي: مجموعاً، مبيناً عربياً. {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي: {تَعْقِلُونَ} آية: أن محمداً إذا أتاكم بأخبار الغيب، وهو ممن لا يقرأ كتاباً.(5/3496)
وقيل: معناه: إنه أنزله عربياً لينقطع عذر العرب، إذ نزل بلسانهم، فمعنى: (تعقلون): أي: لتعقلوا ما أنزل عليكم، ولا عذر لكم في ترك فهمه، إذ هو بلسانكم.
ثم قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص}: أي: نحن نخبرك يا محمد عن (ال) أمم الماضية، والقرون السالفة أحسن الخبر، وأصحَّه. وما كنت يا محمد من قبل أن ينزل عليك هذا {القرآن وَإِن} من الغافلين عن هذه القصص، والأخبار. وقيل: معنى نقص: نبين.
وقال ابن عباس: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ( له): لو قصصت علينا فنزلت {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص}.
وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ملُّوا ملَّة. فقالوا:(5/3497)
يا رسول الله! حدثنا. فأنزل الله عز وجل: { الله} {نَزَّلَ} {أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [الزمر: 23].
ثم قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يا أبت}، العامل في " إذ " الغافلين.
وقرأ طلحة بن مصرف {يُوسُفُ} بالهمزة وكسر السين.
وحكى ابن زيد: يؤسف بالهمزة، وفتح السين. والوقف عند سيبويه وأصحابه على " يا أبه بالهاء، لأن الهاء بدل من الياء التي للإضافة. ومذهب(5/3498)
الفراء: الوقف بالتاء، لأن الياء عنده في النية.
ومن فتح التاء، فلأنها (أ) شبهت بالهاء التي هي علامة التأنيث، كما قال الشاعر: كليني لهم يا أميمة ناصب. وهذا مذهب سيبويه.
وقال قُطْرُب: وهو أحد قولي الفراء، لأن الأصل: يا أبتا (هـ)، ثم حذفت الألف. ويكون الوقف على قول سيبويه بالهاء، وهو قول أحد الفراء الآخر.
والندبة في هذا لا يجوز، إذ ليس هو من مواضعها. والعلة التي من أجلها(5/3499)
دخلت الهاء في هذا أن قولك: " أبوان ": تثنية الأب. واللام يوجب أن يكون يستعمل (أب وأبت) كما أن قولك: " والدان " للأب والأم يُوجب: " والد، ووالدة ".
فلما لم يستعمل " أبِهِ " استغنى باللام - استعمل ذلك في النداء في " الأب "، وأَجْرُوه مجرى ما وصف فيه المذكر مما فيه الهاء نحو: " علامة وَنَسَّابة.
وقال الفراء: إنما هي الهاء التي تزاد في الوقت، أكثر بها الكلام فنبهت بهاء التأنيث.
قرأ الحسن، أبو جعفر " أحد عْشْر " بإسكان العين لكثرة الحركات.(5/3500)
وقال: رأيتهم لأنه أخبر عنها بالسجود، وهو فعل من يعقل، ومثله: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] و {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63].
وقيل: لما كان تفسير ذلك واقعاً على إخوة يوسف، وأبيه، وخالته، أخبر عنهم، بالهاء والميم. وذلك حقهم في الحكاية، والإخبار عنهم.
قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً. والأحد عشر هم: أخوة يوسف، والشمس أمه، والقمر أبوه. هذا قول ابن عباس، وغيره.
ويروى أن رؤيا يوسف كانت ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر، فأشفق يعقوب أن يحسده إخوته على ذلك. فنهاه أن يقصَّها عليهم.
وقال قتادة، وغيره: الشمس خالته، والقمر أبوه. وظهرت رؤيا(5/3501)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
يوسف عليه السلام، بعد رؤيتها بأربعين سنة.
وقد روي أن يعقوب، عليه السلام، فسر الرؤيا " تأول الأحد عشر كوكباً: أحد عشر نفساً، لهم فضل يستضاء بهم، وهم إخوة يوسف، وتأوّل الشمس، والقمر: أبويه، فتأوّل أن يوسف يكون نبياً، وأن إخوته يكونون أنبياء، لأن الله عز وجل، أعلمهم أنه يتم نعمته عليه، وعلى أبويه.
قوله: {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} إلى قوله {حَكِيمٌ}.
(هذا اللفظ) يدل على أن يعقوب كان له علم بعبارة الرؤيا، ويدل على أنه كان قد أحسّ من إخوة يوسف ليوسف حسداً، فخافهم عليه. والمعنى. لا(5/3502)
تخبرهم برؤياك هذه، فيحسدوك، ويبغوا لك الغوائل، ويطيعوا فيك الشيطان.
وكان يعقوب صلى الله عليه، (وعلى محمد) قد تبيَّن له من إخوة يوسف ليوسف / الحسد. فلذلك قال (ل) له هذا. ولذل [ك] قال السدي: نزل يعقوب عليه السلام، الشام، فكان همه يوسف، وأخاه، فحسدهما أخوتهما.
ومعنى {فَيَكِيدُواْ لَكَ (كَيْداً)} أي: فيتخذونك كيداً، وقيل: اللام زائدة. والمعنى: فيكيدوك كيداً.
ثم قال تعالى: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}: أي: وهكذا يجتبيك ربك: أي:(5/3503)
يختارك، يصطفيك.
{وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث}:
أي: كما أراك ربك الكواكب، والشمس، والقمر سجوداً لك، كذلك يصطفيك. وتأويل الأحاديث: عبارة الرؤيا، وقيل: أخبار الأمم.
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (أي): بالاصطفاء {كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ}: أخبره أنه يكون نبياً.
قال عكرمة: ويتم نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم، وإسحاق. فنعمته على إبراهيم، بأن نجَّاه من النار، وعلى إسحاق أن نجاه من الذبح.
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بخل (قه)، {حَكِيمٌ} في تدبيره.(5/3504)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
قوله: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} - إلى قوله - {فَاعِلِينَ}.
من قرأ " آية "، فمعناه: عبرة، ومن جمع، فمعناه: عبرة للسائلين (عن أخبارهم)، وقصصهم.
وقيل: إن هذه السورة نزلت تسلية من الله تعالى، لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيما يلقى من أقاربه من قريش. فأعلمه ما لقي يوسف من إخوته، ثم قال ذلك ابن إسحاق.
ثم قال تعالى: {إِذْ قَالُواْ} العامل في " إذ " معنى الآيات. والعصبة: العشرة فما فوق ذلك إلى خمسة عشر، وقيل: إلى الأربعين.
وقولهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}: أي لفي خطأ في إيثاره علينا يوسف،(5/3505)
وأخاه من أمه بالمحبة.
ومعنى: {مُّبِينٍ}: يبين عن نفسه أنه أخطأ لمن تأمَّله فمعناه: أنه ضل في محبتهما، وتقديمهما علينا، وهُمَا صَغِيرَانِ، ونحن أنفع منهما وأكبر. ولم يصفوه بالضلال في الدين. قال ذلك السدي.
ثم حكى عنهم تعالى إنهم قالوا: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} أي: في أرض. وجاز حذف الحرف (منه)، على أنه مفعول ثان، وليس بظرف، (و) لأنه غير مبهم.
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: يتفرغ إليكم أبوكم من شغله بيوسف. {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}: فالهاء في " بعده " تعود على الطرح، وقيل: على يوسف. وقيل:(5/3506)
على القتل: أي: يتوبون من قتله بعد هلاكه.
وقال مقاتل: {قَوْماً صَالِحِينَ} أي: تصلح حالكم، وأمركم عند أبيكم.
قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ}: نهاهم أحد الإخوة عن القتل، وأمرهم بطرحه في غيابات الجب. والقائل هذا روبيل كان أكبر القوم، وهو ابن خالة يوسف، قال ذلك قتادة، وابن إسحاق.
وقال مجاهد: كان (القائل) شمعون، وقيل: هو يهوذا، وكان يهوذا من أشدهم في العقل، وهو الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي} [يوسف: 80].
ومعنى: {كَبِيرُهُمْ} [يوسف: 80] أي كبيرهم في العقل، قاله مقاتل، وغيره. قال الضحاك: الذي قال {لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] / هو الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} [يوسف: 80].(5/3507)
وروي أنه كان ليعقوب صلى الله عليه وسلم، عشرة من الولد، من خالة يوسف. وكان له من أم يوسف ولد غير يوسف، وهو الذي أخذ بالصاع. وروي أنهم كانوا من أربع نسوة.
وروي أنه أول من كان وقع في قلوب إخوة يوسف من يوسف صلى الله عليه وسلم ما وقع أنه رأى قبل رؤيته الكو (ا) كب، كأنه خرج مع إخوته يَحْتَطِبُونَ، فسجدت حزم إخوته لحزمتهن فأخبرهم بذلك. ذلك عليهم.
قال قتادة: الجب بئر بيت المقدس. والجب: البئر التي ليست بمطوية، سميت جُبّاً، لأنها قُطِعَت قطعاً، ولم يحدث فيها غير القطع، ولا طيّ ولا غيره. والجب يذكر ويؤنث.
وقرأ الحسن " تلتقطه " بالتاء، لأن بعض السيارة سيارة، فأتت على المعنى.(5/3508)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
ورويت عن مجاهد، وأبي رجاء، والمعنى: فأخذه " بعض مارة الطريق من المسافرين ".
قال ابن عباس: " التقطه ناس من الأعراب ".
{إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}: أي: " إن " كنتم فاعلين ما أقول لكم ".
قوله: {قَالُواْ يا أبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على (يُوسُفَ) وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} إلى قوله {لَّخَاسِرُونَ}.
وقرأ يزيد بن القعقاع، وعمرو بن عبيد: " تأمنَّا " بغير إشْمَامٍ.
وقرأ طلحة بن مصرف " تأَمَنَنَّا " بنونين ظاهرتين.(5/3509)
وقرأ يحيى بن ثَّاب، والأعمش، وأبو رزين تيمناً بتاء مكسورة بعدخا ياء الإدغام. والمعنى: مالك لا تأمنا على يوسف يخرج معنا إذا خرجنا إلى الصحراء.
{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا} إلى قوله: {لَحَافِظُونَ}
" نحُوطُهُ ونكلؤه ". ومن قرأ " نرتع بالنون، وكسر العين، فمعناه: نرتع الغنم والإبل. وهو نفعتل من رعى (يرعو).
وقال مجاهد: نرتع: أي: نحفظ بعضنا بعضاً، أي: نتحارس، ونتكالؤ.(5/3510)
من: رعاك الله، ومن أسكن العين فمعناه: نقيم في الخصة والسعة، من رتع. يقال: رتَّع فلان في ماله: إذا لهى فيه.
ومعناه عند ابن عباس: يلهو، وينبسط.
ومن قرأ بالياء، وكسر العين، فهو يفتعل من " رعى " أي: يرعى الغنم، ويعقل، ويعرف الأمور.
ومن أسكن العين، وقرأ بالياء، فمعناه: أرسله يتفرَّج، وينشط في الصحراء: من رتع.(5/3511)
وقولهم: {وَيَلْعَبْ} ليس هو اللعب الصادُّ عن ذكر الله سبحانه. وروي هم قُنْبُل، عن ابن كثير إثبات الياء في " نرتعي "، على نية الضمة فيها، وفيه بعد. وإنما يجوز في الشعر.
ثم قال: تعالى حكاية عن قول يعقوب لهم: {قَالَ إِنِّي ليحزنني} إلى قوله: {لَّخَاسِرُونَ}: من همز " الذئب " أخذه من قولهم: تذاءبت الريح: إذا جاءت من كل مكان. فهمز " الذئب " لأنه يجيء من كل مكان. قال ذلك أحمد بن(5/3512)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
يحيى كأنه شبهه في سرعته، وروغانه بالريح.
ومن لم يهمز فعلى تخفيف الهمز. وقيل: إنه جعله ليس بمشتق، مثل: الفيل، والميل، والكيس. وإنما خاف يعقوب، عليه السلام، من الذئب دون سائر السباع، لأنه كان رأى في المنام كأن ذئباً شد على يوسف، فخرجت تلك الرؤيا في دعواهم. {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}: أي: لا تشعرون {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} /: أي: أحد عشر رجلاً {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ}: أي: لعجزة هالكون.
قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ}: أي: أجمع رأيهم، وعزموا على ذلك. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ}: أي: لتخبرنهم بما صنعوا بك، وهم لا يعلمون بك.
قال الضحاك: لما ألقي يوسف في الجب، نزل إليه جبريل، عليه السلام، فقال له: يا(5/3513)
يوسف: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن عجل الله بخروجك من هذا الجب. فقال: نعم، فقال له جبريل، صلوات الله عليه،: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحشة: أيتني بالفرج والرخاء، وأقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحداً سواك. فردَّدَها يوسف عليه السلام، في ليلته مراراً فأخرجه الله عز وجل، في صب [ي] حة يوم ذلك من الجب.
وقال السدي: خرجوا به، وله عليهم كرامة، فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه، فيستغيث بالآخر (فيضربه فجعل " لا يرى منهم رحيماً " فضربوه حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح، ويقول: يا أبتاه! يا يعقوب! لو علمت ما صنع بابنك بنو الإماء. فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد(5/3514)
أعطيتموني موثقاً من لله لا تقتلونه. فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، فجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلق بشفير البئر. فربطوا يديه ونزعوا عنه قميصه.
فقال: يا (أ) خوتاه: ردوا علي قميصي، أتوارى به في الجب. فقالوا له: ادع الشمس والقمر، والأحد عشر كوكياً ليُؤْنسوكَ. فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرَادَةِ أن يموت. فكان في البير ماء، فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها. فقام عليها، وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة منهم، أدركتهم عليه. فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه. فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه.
وقيل: كان الجب الذي ألقوه فيه، لا ماء فيه. فأحدث الله فيه ماء، حتى مال إليه الناس. وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
والواو في " وأجمعوا " زائدة للتأكيد، وهو جواب " لما ".(5/3515)
قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ}: أي: إلى يوسف لتُخْبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي صنعوا بك، وهم لا يعلمون، ولا يدرون. (و) هذا يدل على أنه أوحي إليه قبل البلوغ (بإلهامٍ)، أو في منام، أو برسول.
وقيل: المعنى: " أوحى الله وجل إليه لتخبرهم بما " {صَنَعُواْ} [هود: 16، الرعد: 31]، وهم لا يشعرون بالوحي الذي أوحى " الله عز وجل " إليه.
قال مجاهد، وابن زيد: وقيل: المعنى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، (أن) الذي يخبرهم بصنيعهم هو يوسف.
وقيل: المعنى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه نبي يوحى إليه.(5/3516)
وقيل: الهاء ليعقوب، أي: أوحى الله إلى يعقوب أن ابنك كاده إخوته، ولَتَعْرِفنهم بكيدهم، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}: أي: وإخوة يوسف / " لا يشعرون بالوحي إلى يعقوب ".
(قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف) على يوسف. (عرفهم)، {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف: 58]. فقال: جيء بالصواع. فوضعه على يديه، (ثم) نقره، فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم، يقال له: يوسف، يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به، فألقيتموه في غيابات الجُبّ. قال: ثم نقره،(5/3517)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
فطَنَّ فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كاذب. فقال بعضكم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم. فذلك معنى {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنك يوسف.
ثم قال تعالى: {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ}.
قال السدي: أتوا إلى أبيهم عشاءاً يبكون، فلما سمع أصواتهم فزع، وقال: ما لكم يا بني؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: " لا، قال: فما فعل يوسف؟ فقالوا: {يا أبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}: كان السبق عندهم على الأرجل، كالسبق على الخيل، لأنه آلة للحرب. فلما قالوا: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} بكى الشيخ، وصاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فجاؤو (هـ). بالقميص، عليه دك كذب، فأخذ القميص فطرحه على وجهه، ثم بكى حتى تخضب وجهه من دم القميص.
قوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا}: أي: بمصدق لنا، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}: قال:(5/3518)
المبرد: وإن كنا صادقين.
وقيل: المعنى: ليس بمصدق لنا لو كنا من أهل الصدق الذين لا يتهمون لِسُوءِ ظنك بنا.
وقيل: المعنى: ولو كنا عندك من أهل الصدق، لا تعمتنا في يوسف لمحبتك إياه.
وقيل: المعنى: قد وقع في قلبك إنّا لنصدقك في يوسف، فأنت لا تصدقنا. وذلك أن يعقوب كان (قد) اتَّهَمَهُمْ عليه، فلما وقع ما وقع، تأكدت التهمة لهم. وإلا فيعقوب، صلوات الله عليه، لا يكذب الصادق، وليس هذا من صفة الأنبياء، صلوات الله عليهم. وإنما كذبهم لتأكيد التهمة، وكثرة الدلائل على كذبهم. فالمعنى: ما أنت بمصدق لنا وقد وقع (بك) ما تحذر، ولو كنا عندك صادقين من قبل، غير متهمين، لوجب أن تتهمنا (الساعة) عند مصيبتك. فكيف وقد كنت(5/3519)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
متهماً له (فيه) من قبل.
ثم قال تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}، أي: بدم ذي كذب. قال ابن عباس: ومجاهد: ذبحوا سخلة على قميصه.
وقال السدي: ذبحوا جدياً، ثم لطخوا القميص بدمه، ثم أقبلوا إلى أبيهم، فقال يعقوب عليه السلام، (إن كان هذا الذئب لرحيماً كيف أكل لحمه، ولم يخرق قميصه؟ يا بني، يا يوسف ما فعل بك بَنُو الإماء!؟
قال الحسن: جعل يعقوب يقلب القميص، ويقول: ما عهدت الذئب حليماً، إنه أمل ابني، وأبقى على قميصه.
ثم قال مكذباً لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} أي: زينت لكم في يوسف، وحسنته لكم. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: أي: فأمري صبر جميل، وشأني صبر. (أي): فصبري(5/3520)
عليه صبر جميل.
وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على معنى: " فاصبر صبراً جميلاً " على المصدر. والرفع أبْلَغُ /، وأحسن، وإنما يختار النصب في الأمر خاصة. والصبر الجميل: هو الصبر الذي لا جزع معه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " هو الصبر الذي لا شكوى معه وكان يعقوب عليه السلام، قد سقط حاجباه،: فكان يرفعهما بخرقة. فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان، فأوحى الله عز وجل، إليه: أتشكوني يا يعقوب؟ فقال: رب خطيئة أخطأتها، فاغفرها لي ".
ثم قال: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ}: أي: على احتماله. وقال قتادة: " على ما تكذبون ".(5/3521)
قال الثوري: ثلاث من الصبر: أن لا تحدث بما يوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك.
ومن حديث أبن لهيعة، رفعه إلى ابن عمر، أن يعقوب عليه السلام قال لبنيه: يا بني " إيتو (ني) " بالذئب الذي أمل ولدي، إن كنتم صادقين، قال: فخرجوا إلى واد لهم يسعون فيه، فإذا هم بذئب قد انحطَّ عليهم من شفير الوادي، فاعترضو (هـ) سراعاً، وأخذوه قسراً، وأوثقوه كتافاً، وعمدوا إلى حمل أبيهم فقالوا: هذا الذئب الذي أكل يوسف أخانا. فقال لهم أطلق (و) هـ فقال له: يعقوب: قف(5/3522)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
أيهما الذئب بإذن الله، فوقف الذئب مقعى على ذنبه. فقال له: يعقوب: أسألك أيها الذئب بالذي اتخذني نبياً، وبعثني رسولاً. هل أكلت يوسف فيما أكلت؟ فقال له الذئب: والذي بعثك رسولاً، واتخذ (ك) نبياً. إن هذه البلاد ما دخلتها إلا ساعتي هذه، ثم حكى ليعقوب ما صنعوا به وبالحمل. ثم قال الذئب: يا نبي الله، وأنا أسمو إلى أكل نبيي! أو ما علمت أن لحوم الأنبياء محرمة على السباع؟ قال له يعقوب: اصدقت أيها الذئب. أنت كنت أشفق على يوسف من أخوته "، اذهب حيث شئت.
قوله: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} - إلى قوله - {أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.
والمعنى: ومر قوم يسيرون، من مارة الطريق، {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ}: وهو(5/3523)
الذي يرد المنهل (أ) والمنزل، وور (و) ده إياه، مصير إليه {فأدلى دَلْوَهُ}، أي: أدخلها الجب، وأرسلها. يقال: أدليت الدلو: إذا أرسلتها في الجب، ودلوتها إذا أخرجتها؟. وفي الكلام حذف، والمعنى: فدلى دلوه: أي: أخرجها فتعلق بها (يوسف)، فقال المدل (ي): (يا بشراي هذا غلام).
فقال السدي: لما رآه قد تعلق، نادى رجلاً من أصحابه، يقال له: بشرى: يا بشرى، هذا غلام. وكذلك قال ابن جبير، وقتادة.
وهو معنى قراءة من قرأ " يا بشراي ".(5/3524)
وقيل المعنى: يا بشار (ت) ي دعا بشارته.
ومن قرأ بغير ياء، احتمل أن يكون دعا رجلاً اسمه بشرى فلم يضفه إلى نفسه فهو في موضع رفع.
وقيل: إنه دعا البشرى، كأنه قال: يا أيتها البشرى.
ومعنى نداء البشرى: أنه على تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة. فكأنه قال: يا قوم أبشروا، ويجوز أن تكون هذه / القراءة، يراد بها الإضافة، ثم حذف (ت) الياء.
ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: وأسر يوسف الوُرَّادً بضاعة من(5/3525)
التجار. قالوا لهم: هو معنا بضاعة، استَبْضَعْنَاهُ، بعض أهل الماء " التي " إلى مصر. وذلك أن السدي قال: لما رفعه المستدلي، وأصحابه، باعو (هـ) من رجلين. فخاف من التجار أن يعلموا بثمنه. فيقول (ون) لهما: أشركانا فيه. فقالوا: هو بضاعة (معنا) لأهل الماء.
وقال مجاهد: المعنى " أسره التجار بعضهم من بعض ".
وعن ابن عباس: أن المعنى: وأسره إخوته، وأسر يوسف نفسه (من التجار) خوفاً أن يقتله إخوته. واختار البيع، وذلك أن إخوته ذكروه لوارد(5/3526)
القوم، فنادوا الوارد: يا بشرى هذا غلام يباع، فباعه إخوته.
ثم قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} أي: بثمن ذي بخس، أي: حرام. وقوله: (وشَرُوْهُ): يحتمل أن يكون معناه: وباعون، وأن يكون اشتروه، وهو من الأضداد.
قال مجاهد: باعه إخوته حين أخرجه المدلى.
وقال قتادة: وغيره: المعنى: وباعه السيارة من بعض التجار، بثمن بخس. وقيل: المعنى: فاشتراه السيارة من أخوته بثمن بخس، وهو اختيار الطبري، ثم خافوا أن يشركهم فيه أصحابهم، وقالوا هو بضاعة.
معنى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين}، أي: إخوته.(5/3527)
وقيل: هم الذين اشتروه، والأول أحسن، لأن إِشْراءَهُم إياه من التجار يدل على (آن) رغبتهم فيه، وبيع إخوته له بثمن بخس يدل على زهادتهم فيه.
ويجوز أن يكون الضمير: الوارد، أي: وكان الوارد الذي رفعه من الجب فيه من الزاهدين، والذين اشتروه من الوراد، وليسوا بزاهدين فيه، بل اشتروه خوفاً أن يشركهم فيه غيرهم لرغبتهم فيه.
والبخس عند ابن عباس، والضحاك: الحرام.
وقيل: هو الظلم، وهو قول قتادة.
وقال مجاهد: هو القليل، وهو قول عكرمة. والبخس في اللغة النقصان، فمعناه: [ب] ثمن مبخوس: أي: منقوص.
ومعنى {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}: أي: غير موزونة، ناقصة.(5/3528)
وقيل: المعنى: أنها أقل من أربعين، لأنهم كانوا لا يزنون ما كان أقل من أربعين، لأ (ن) أقل أوزانهم، وأصغرها الأوقية، (وهي) أربعون درهماً.
وقال ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما: كانت عشرين درهماً.
وقال مجاهد: كانت اثنين وعشرين درهماً، أخذ كل واحد من إخوة يوسف درهمين، درهمين، وهم أحد عشر رجلاً.
وقال عكرمة: كانت أربعين. وكان إخوة يوسف فيه من الزاهدين، لا يعلمون نبوءته وكرامته على الله.
ثم قال (تعالى): {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي (مَثْوَاهُ)}: والذي اشتراه: هو الملك بمصر. قطفير وهو العزيز. وكان على خزائن مصر، وكان(5/3529)
الملك المعظم عندهم / يومئذ: الريان بن الوليد، رجل من العمالقة. وكان اسم امرأة العزيز راعيل، وكان الملك زوجها لا ولد له، ولم يكن يأت [ي] النساء، فأراد أن يتبناه.
وروي عن ابن مسعود أنه، قال: أفرس الناس ثلاثت [ة]: العزيز، حين قال لامرأته {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، وابنة شعيب حين قالت لأبيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي (الأمين)} [القصص: 26]، وأبو بكر الصديق، رضي الله عنهـ، حين ولى عمر، رضي الله عنهـ.
ثم قال تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض}: والمعنى وكما خلصناه من القتل من أيدي إخته، كذلك مكنا له في الأرض، فجعلناه على خزائنها.(5/3530)
وقيل: المعنى: وكذلك مكنا له في الأرض، بأن عطفنا قلب الملك عليه حتى تمكن على الخزائن.
{وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث}: مكناه، وهذا تصديق ليعقوب في قوله ليوسف: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} [يوسف: 6]: وتأويل الأحاديث عبارة الرؤيا.
{والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ}: أي: مستولٍ على أمر يوسف.
وقيل: غالب على أمره: أي (مستول على أمره)، يفعل ما يشاء. " فالهاء " [في] المعنى الأول ليوسف، وفي الثاني لله. وقيل: إنها في القول الثاني ليوسف (أيضاً). [أي]: غالب على أمر يوسف، يفعل فيه ما يشاء.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}: وهم الذين باعوه بثمن بخس، وزهدوا فيه،(5/3531)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
والذين مضوا به إلى مصر وباعوه.
قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} - إلى قوله - {مِنَ الخاطئين}: أي: ولما بلغ منتهى قوته، وشدته.
قال مجاهد: هو ثلاث وثلاثون سنة.
وقال ابن عباس: بضع وثلاثون سنة.
وقال الضحاك: عشرون سنة.
وقال ربيعة، وزيد بن أسلم، ومالك، رضي الله عنهم: الأشد الحُلُمُ. وقال الزجاج: الأشد: من سبع عشرة إلى أربعين. والأشد جمع عند سيبويه، واحدُهُ " شدة " كنعمة وأنْعُم.(5/3532)
وقال الكسائي: واحدة شدة كقد وأقُدُ.
وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه عند العرب.
وقال يونس الأشد جمع واحدةُ شد، وهو يذكر ويؤنث وفيه لغتان، وهي ضم الهمزة.
قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْماً (وَعِلْماً)}: قال مجاهد: العقل، والعلم قبل النبؤة.
وقيل: المعنى: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك.(5/3533)
وآتيناه علماً بالحكم.
{وكذلك نَجْزِي المحسنين}. أي: ومثل ما فعلناه بيوسف، نفعل بمن أطاع، وأحسن في طاعته.
وقيل: المراد به محمد صلى الله عليه وسلم. ولفظه عام، والمراد به الخصوص، والمعنى: وكما فعلنا بيوسف في تمكينه، ونجيناه من إخوته. كذلك نفعل بك يا محمد: نمكنك وننجيك من مشركي قريش، ونؤتيك الحكم والعلم.
ومن قرأ {هَيْتَ لَكَ} بالفتح، فتح لالتقاء الساكنين.
ومن همز جعله من (تهيأت) / (لك).
ومن كسر، لالتقاء الساكنين. ومن ضم كذلك شبهها بقبل وبعد.(5/3534)
ومن لم يهمز، أبدل من الهمزة تاءً. ويجوز أن يكون ليس من تهيأت، وإنما بني لأنه صوت، لاحظ له في الإعراب.
وقد قيل: إن من همز، فإنما هو من: " هاء يَهيءُ " مثل جاء يجيء. ومعناه: حسنة هيئتك.
ومن قرأ بالياء فعلى التخفيف من هذا المعنى، ويكون " لك " من كلام آخلا، كما نقول: " لك عندي ".
وقيل: إن من همزه، وضم التاء، فهي من تهيأت. والتاء للمتكلم كتاء قمت، (كما) يقول الرجل: هيأت للأمر، أهيء، هيأة. والمعنى وراودت يوسف امرأة العزيز عن نفسه للجماع، وغلقت أبواب البيت عليها، وعليه، وقالت: {هَيْتَ لَكَ}: أي: هلم لك، أي: اذْن، وتقرب، وتعال.(5/3535)
يقال: هيت فلان لفلان: إذا دعاه.
وقال ابن عباس: {هِيْتَ}: كلام بالسريانية، تدعوه إلى نفسها.
قال يوسف لها: (معاذ الله): أي: أعوذ بالله معاذاً. والمصدر يدل على الفعل.
{إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}: " أي: إن العزيز مالكي، وصاحبي، أحسن مثواي، وقيل: إن معنى الكلام: إن العزيز سيدي، يعني زوج المرأة.
وقيل: " الهاء " لله. والمعنى: إن الله ربي أحسن مثواي، فلا أعصيه. وقيل: " الهاء: عماد بمعنى الخبر، والأمر، فيكون " ربي " مبتدأ، و " أحسن " خبره. وعلى القول الأول: " ربي " خبر " إنَّ ".
ومعنى: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} - إذا كان للعزيز-: أي: أحسن قراي، ومنزلي، وائتمنني(5/3536)
فلا أخونه. وإذا كان لله: فمعناه: أحسن خلاصي، وعلمني، وخلقني فلا أعصيه {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}: أي: إن الحديث لأبقى للظالمين. وأصل الفلاح: البقاء، أي: " هذا الذي تدعونني إليه ظلم، ولا يفلح من عمل به.
والأبواب: وقف عند نافع، ولَكَ التمام عند غيره.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}. قيل: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه السوء ".
وقيل: " كذلك ": في موضعها لا تأخير فيها. ذكر أنها جعلت تذكر له محاسن نفسه، وتشوقه، إلى نفسها.
قال السدي: قالت له: يا يوسف! ما أحسن عينيك، قال: هي أول ما يسيل إلى الأرض من جسدي. قال: فلم تزل به حتى أطعمته (فهمت به، وهمّ بها) فدخلا البيت(5/3537)
وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب، " قائماً في البيت " قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق. ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وقع في الأرض، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. ومثلك إذا لم تواقعها مثل الثور / الصعب، لا يعمل عليه. ومثلك إذا واقعتها مثل الثور حين يموت، فيدخل النمل في أصول قرونه، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه فربط سراويل (هـ) وذهب، ليخرج يشتد، فأدركته، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه، فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط، وَطَرَحَهُ يوسف، واشتد نحو الباب.(5/3538)
والهَمُّ بالشيء في كلام العرب: حديث النفس {بِهِ}، ما لم يفعله.
ويروى أن يوسف، عليه السلام، لما خلا بها قامت لتستر ما بينهما، وبين الصنم، فقال لها يوسف: ما تفعلين؟ فقالت: أستر ما بيننا وبين هذا الصنم، لا يراني خاليةً معك. فقال لها يوسف: وأي شيء يستُرني من ربي.
وقال الحسن: زعموا - والله أعلم - أن سقف البيت انفرج، فرأى يوسف يعقوب عاضاً على إصبعه، فَولَّى هَارباً.
وقيل: رآه جبريل، عليهما السلام، قائلاً له: يا يوسف!. جعل الرحمان اسمك في الأنبياء، وتعمل عمل السفهاء. لئن واقعت الخطيئة، ليمحونك من(5/3539)
ديوان النبؤة.
(و) قال ابن أبي مليكة عن ابن عباس: نودي أيا يوسف! أتزني! فتكون مثل الطير الذي نتف ريشه، وذهب يطير فلم يستطع.
وقيل: ركضه جبريل صلى الله عليه وسلم، بعد النداء ركضةً في ظهره، فلم تبق فيه شهوة إلا خرجت. فوثب واستبقا الباب، وتطاير (ت) مسامير الباب، فلم تقدر أن تعلقه عليه. فتعلقت به، فقدّت قميصه من دبر.
وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنهـ): همّ يوسف أن يحل التك [ة]، فقامت(5/3540)
إلى صنم مكلل بالدُّرر، والياقوت، فسترته بثوب أبيض، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟ قالت: أستحي من إلاهي هذا أن يراني على هذه الصورة.
فقال: أتستحين من صنم لا يعقل، ولا يسمع، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا أستحي من إلاهي القائم على كل نفس بما كسبت، والله لا تنالها مني أبداً. وقيل: رأى في جدار البيت مكتوباً: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] الآية.
وقال وهب: رأى كفاً فيها مكتوب: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 32]، ورأى (بعدها كفاً) فيها مكتوب {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] إلى قوله - {تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12]، ثم رأى كفاً ثالثة فيها مكتوب {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] الآية -، ثم رأى رابعة فيها مكتوب(5/3541)
{واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] الآية. فولى يوسف هارباً.
وقال محمد بن كعب: رأى مكتوباً بين عينيها {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] الآية.
قال ابن عباس: همّ يوسف بها، حتى حمل الهِميات، وجلس منها مجلس الخاتن والروايات فيها كثيرة، لأنه قد حلّ وجلس، واستلقت هي له.
وقال أهل العلم: إنما ابتلى الله أنبياءه بالخطايا، ليكونوا على وَجَلٍ(5/3542)
وإشفاقٍ، ولا يَتَّكِلُوا على سعة عفو الله عزّ وجلّ.
وقيل: بل ابتلاهم بذلك، ليعرفهم موضع نعمته عليهم /، بصفحه عن ذنوبهم.
وقال أبو عبيدة: المعنى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}: تَمَّ الكلام. {وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}: " لولا أن رأى برهان ربه، هَمَّ بها ": على التقديم والتأخير، ينفي عن يوسف أن يكون هَمَّ بالخطيئة.
وقد خالفه في ذلك جميع أهل التفسير، ولا يجوز هذا أيضاً عند أهل العربية، لأنه لو كان كما قال، لكان باللام. لا يجوز عندهم: " ضربتك لولا زيد ".
والمعنى عندهم: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، لأمضى ما همَّ به.
وقد قيل: إنَّ الهَمَّ بها: هو ما يخطر على القلب من حيل الشيطان، وذلك مما لا(5/3543)
يؤاخذنا الله به.
وقيل: معنى {وَهَمَّ بِهَا}: أي: بضربها، ودفعها، ولم يفعل [ذلك] لئلا يكون [ذلك] لها حجة عليه. أَلقَى الله في نفسه ذلك فلم يفعله.
وقيل: إنه نودي، يا يوسف! تزني، وأنت مكتوب في الأنبياء، تعمل عمل السفهاء.
وقال الحسن: رأى صورة فيها وجه يعقوب، عاضّاً على أنامله، فدفع في صدره، فخرجت شهوته من أنامله. فكل ولد يعقوب ولد به، إثنا عشر ولداً، إلا يوسف فإنه له أحد عشر ولداً، نقَّصَ له بتلك الشهوة ولداً.(5/3544)
وروي أنه نظر إلى يعقوب عاضاً على أنامله، يقول له: يا يوسف أتزني كما زنت الحمامة، فتساقط ريشها. وكان ذلك جبريل، عليه السلام.
وقيل: إنه سمع من قومه قائلاً، يقول {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].
وروي أنه كان لامرأة العزيز صنماً تعبده في بيتها، فلما أرادته أرخت على صنمها الستر لئلا يراها.
فقال لها يوسف: أنت تستحيين من صنم، لا يسمع، [ولا يعقل]، ولا يبصر، وأنا لا أستحي من رب العالمين، الذي لا يحجبني عنه شيء فولَّى هارباً.
وقيل: البرهان أنه تفكر فيما أوعد الله، عز وجل، على الزنا.(5/3545)
وقيل: إنه تذكر في قول الله عز وجل: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]، وفي قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61]، وفي قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وفي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32].
وروي عن ابن عباس أنه رأى تمثال الملك.
ثم قال تعالى: {واستبقا الباب}: أي: استبق يوسف، وامرأة العزيز الباب ليهرب منها (فلحقت قميصه) فقدمته من دبر، وصادفاً زوج المرأة، وهو العزيز عند الباب.
قال السدي: وجد زوجها جالساً عند الباب، وابن عمها معه، فلما رأته حضرها كيد، وخافت أن تفتضح، فقالت: {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا}، إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي، فشققت قميصه. قال يوسف: بل هي راودتني عن نفسي، فأبيت وهربت منها. فأدركتني فشقت قميصي. فقال ابن عمها: تبيان هذا في(5/3546)
القميص، فإن كان من قُبُل فصدقت، وإن كان من دبر، فكذبت. فأوتي بالقميص فوجد أنه قُدَّ من دبر. فقال العزيز: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} / آية.
ومعنى: {سواءا} هنا: الزنا، ولم يكن يوسف يُريد أن يذْكُره لزوجها حتى كان (ت) هي التي ابتدأت بالكيد، فغضب، فقال: هي {رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} والشاهد ابن عمها. وقيل: هو صبي كان في المهد، قاله ابن عباس.
وقيل: كان من خاصة الملك، حكيماً من أهلها، وهو " أشبه " لأنه لو كان(5/3547)
طفلاً كان في كلامه في المهد، وشهادته وحكمه (آية ليوسف) ولا يحتاج إلى ثوب، ولا غيره. والقول عند المازني مضمر، والمعنى: فقال: إن كان قميصه.
ويروى أنها قالت هو حوّل قميصه. وخرقه ليكون له حجة فروي أن يوسف قال عند ذلك: هذه علامة في ظهري، لا تنالها يدي من كل جانب تناولته هي. فعلموا عند ذلك أنها التي قدَّت القميص، فعند ذلك قال العزيز: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ}. وقيل: إن القائل هذا هو الشاهد، ورد الجواب على قولها: {مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا}.
ثم قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}: أي: قال الشاهد: يا يوسف أعرض عما كان منها اليوم لا تذكره لأحد. {واستغفري} أنت زوجك: أي: سليه، ألا يعاقبك على ذنبك. {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} هذا كله قول الشاهد لهما. وقال: {مِنَ الخاطئين}، ولم يقل: " من الخاطئات ": لأنه قصد الخبر عن من يعقل " كلهم ":(5/3548)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
المذكر والمؤنث، فغلّب المذكر. أي: إنك كنت من الناس الخاطئين.
قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} إلى قوله: {الصاغرين}:
المعنى: وتحدث نسوة بمصر بخبر امرأة العزيز، ولم ينكتم أمرها، وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها. والعرب تسمي الملوك فتى.
{قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً}: أي فقد بلغ حبه إلى شغاف قلبها، حتى غلب عليه. والشفاف: غلاف القلب. وقيل: حجابه وقيل: الشغاف: حبه القلب، وسويداؤه.
وقرأ أبو رجاء، والأعرج، وقتادة: " شعفها " بالعين " غير معجمة: أي: قد(5/3549)
ذهب بها كل مذهب، لأن شغاف لجبال أعاليها.
وقال الشعبي: الشفاف: حب، والشغف: جنون.
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في خطأ ظاهر، {إِذْ رَاوَدتُّنَّ} [يوسف: 51] غلامها عن نفسه. فلما سمعت امرأة العزيز بقول النسوة، وما مَكَرْن ذلك أنهن فيما روي، فعلن ذلك لتريهن يوسف. فقلن ما قلن مكراً بها، فلذلك سمي قولهن مكراً.
وقيل: إنها كانت أطلعتَهُنَّ على ذلك، واستكتمتهن، فأفشين ذلك، ومكرن بها. فلما سمعت بما فعلن، أرادت ان تُوقِعهن فيما وقعت هي فيه: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً}: أي: أعدت لهن مجلساً، أو مما يتكئن عليه من النمارق. وهو يفتعل من " وكأت " والأصل فيه: " مؤتكاً "، ففعل به ما فعل " بمتزر " من الوزر. وقد نطق به بالتاء / مع غير تاء الافتعال. قالوا: " تك الرجل متكئاً ".(5/3550)
وقال ابن جبير: متكئاً: طعاماً وشراباً.
وقال السدي: ما يتكئن عليه. وقال ابن عباس: مجلساً. وقرأ الحسن: " متكئ " بإسكان التؤ من غير همز، على ون " فع (ى) وهو المجلس والطعام.
وقال الضحاك: المتك: الزُّمَاوَرْد، وقيل هو الأترنج، وروي ذلك عن ابن عباس.
وحكي القتيبي أنه يقال: " اتكأ عند فلان، أي: أكلنا عنده "(5/3551)
قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً}: يدل على أنه طعام يقطع بالسكاكين. فكأنه في التقدير: وأعتدت لهنَّ طعاماً متكئاً، ثم حذف مثل {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]. والسكين: يُذَكر، ويؤنث عند الكسائي، والفراء، ولا يعرف الأصمعي إلا التذكير.
{وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ}: أي: قالت ليوسف: أخرج، فخرج (عليهن) {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}: أي: عظم وجل في أعينهن، وكَبُر، وعظم، وبُهْتنَ. وقيل: {أَكْبَرْنَهُ}: حضن الحيض البين.
" فالهاء " على القول الأول ليوسف، وعلى القول الثاني للحيض، كناية على(5/3552)
المصدر. وأكبر [ن]، بمعنى حضن، مروي عن ابن عباس، والضحاك.
وعن مجاهد أن المعنى: فلما رأينه أعظمنه فحضن.
وقوله: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} بالحز بالسكاكين.
قال السدي: جعلن يحززن في أيديهن، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ما يعقلن مما طرأ عليهن من جماله، وهيأته.
وقال قتادة، ومجاهد: " تقطعن أيديهن حتى ألقينها ".
قال عكرمة: قطعن أيديهن: أي: أكمامهن.
وروي أن يوسف، وأمه أعطيا ثلث الحسن وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنهما أعطيا ثلث الحُسن).(5/3553)
وقوله: {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ}: أي: معاذ الله.
وحاشا يكون بمعنى التنزيه، وبمعنى الاستثناء، وهي هنا للتنزيه.
{مَا هذا بَشَراً}: استَعظَمْنَ أمره، إذ لم يرين من البشر مثله.
{إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}: أي: من الملائكة. قالت لهن: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}: أي: فهذا الذي حلّ بكن في تقطيع أيديكنَّ الذي لمتنني في حبه. وقال الطبري: ذلك بمعنى هذا.
ثم قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} إقراراً منها أن ما قيل حقٌّ، {فاستعصم}:(5/3554)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قال قتادة: استعصى، وقال ابن عباس: امتنع.
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ (لَيُسْجَنَنَّ)}: أي: إن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه {لَيُسْجَنَنَّ} {وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين}: أي: من المهانين، المذلين بالحبس، والسجن.
وكأن في الكرم تقديماً، وتأخيراً، لأن تهديدها له بالسجن والهوان. أي: إن لم يساعدها إنما كان قبل تخزيق القميص، وقبل معرفة زوجها بما (جرى) لها معهن والله أعلم بذلك.
فهذا الذي يدل عليه معنى النص: إذ بوقوف زوجها على القصة، انقطع ما بينهما، وطالبته بالعقوبة فسُجِن.
قوله: {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} إلى قوله: {حتى حِينٍ}(5/3555)
قرأ عثمان رضي الله عنهـ: " السَّجن بفتح السين والمعنى: رب، إن السجن أحب إلي، فهو مصدر. وهي قراءة ابن أبي إسحاق، والأعرج، ويعقوب. ورويت عن الزهري.
ومن كسر جعله اسماً. والمعنى: أن يوسف عليه السلام، اختار السجن على ما دعته إليه من الزنا.
قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} يعني: مراودتُهُن. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}: أي: أَمِلْ إليهن.(5/3556)
وقيل: أتابعُهُنَّ، وأكن بصبوتي من الذين جهلوا حقك، و [خ] الفوا أمرك.
قوله: {أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29]: وقف. وقوله: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31]: وقف عند نافع (فاستعصم): وقف. ثم أخبر تعالى أنه استجاب له بعصمه منها، ومن كيدها، وذلك أن في قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}، شكوى ما حل به منها، وكذلك رضاه بالسجن هو شكوى. فاستجاب له ذلك، فصرف الله عنه ما اشتكى به إليه.
{إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} دعاء من دعاه، (العليم): بمصلحة خلقه.
وقوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} قيل: سنة، وقيل: سبع(5/3557)
سنين. والحين: اسم للزمان يقع (ع) لى القليل والكثير. وفاعل {بَدَا} عند سيبويه ليسجننه.
وعند المبرد مضمر، وهو المصدر: كأنه بدا لهم بداء.
والعرب تقول: بدا ليَّ بدءاً " أي تغيّر رأيي عمّا كان عليه، ومنهم من يقول: " قد بدا لي "، ولا يذكر " بدا " لكثرته في الكلام. وهذا من ذلك.
وقيل: المعنى: ثم بدا لهم رأي، ثم حذف الرأي. لأن الكلام يدل على المعنى، أي: ظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونَهُ، (ثم حذف الرأي).
فالمعنى: ثم ظهر للعزيز رأي أن يسجنه، وأخبر عنه بلفظ الجمع لأنه ملك ولأنه لم يذكر اسمه. فالمعنى: ثم ظهر للعزيز رأي أن يسجن يوسف من بعدما(5/3558)
كان ظهر له أن يتركه مطلقاً، ومن بعدما رأوا الآيات ببراءته، وهي: (قد) القميص من دبر، وقطع أيدي النسوة، وخمش الوجوه. ومعنى {حتى حِينٍ}: إلى سبع سنين.
وقيل: إن الله جعل ذلك الحبس ليوسف كفارة لذنبه، إذ همَّ بالخطيئة.
قال ابن عباس: عثر يوسف، عليه السلام، (ثلاث عثرات): حين همَّ بها فسجن حتى حين، وحين قال: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]. ونسي ذكر الله، (سبحانه) فلبث سنين في السجن، وحين قال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فسكتوه بقولهم: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77].
وعن ابن عباس (أيضاً): أنه قال: عوقب يوسف صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات. وذكر ما(5/3559)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
ذكرنا عنه.
وقال السدي: كان أصل حبس يوسف أن امرأة العزيز قالت له: إن هذا العبد العبراني، قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم، ويخبرهم أني راودته عن نفسه. ولست أطيق أن أعتذر بعذري. فإما أن تأذن لي في الخروج، وإما أن تحبسه كما حبستني. فظهر له أن يحبسه، ففعل.
والضمير في " لهم " للملك، وأعوانه، وأصحابه.
قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} إلى قوله {يَشْكُرُونَ}. كان الفتيان غلامين من غلمان الملك الأكبر. أحدهما: صاحب شرابه، والآخر: صاحب طعامه / سخط عليهما الملك. وذلك أنه بلغه أن صاحب الطعام يريد أن يَسُمَّهُ(5/3560)
له وظن أن صاحب الشراب مالأه على ذلك. قال ذلك السدي: [قال]: لما دخل يوسف في السجن قال: إني أعبُر الأحلام. فقال أحد الشابين [لصاحبه]: هلم فلنجرب هذا [العبد] العبراني. فَتتَراءَيَا له، فَسَأَلاَه من غير أن يكون رأيا شيئاً، فقال صاحب الطعام: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ}، وقال صاحب الشراب: {إني أراني} أعصر خمراً وقيل: بل كانا رأياها على صحة في منامهما.
وروي أنه لما فسر لهما ما رأيا رجعاً، فقالا ما رأينا شيئاً، وإنما جربناك. فقال يوسف صلى الله عليه وسلم: { قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] أي: لا بد من كون ما قلت لكما من عبارة رؤياكما.
وقال ابن مسعود: قال الفتيان: إنما كنا تحالمنا لنجربا إنما كنا نلعب، فقال(5/3561)
يوسف لهم: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] (قال مجاهد: قال يوسف لهما): أنشدكما الله أتحباني. فوالله ما [أ] حبني أحد قط، إلا دخل علي من حبه بلاء: لقد أحبتني عمتي، فدخل علي من حبها بلاء، ثم لقد أحبني أ [بي]، ولقد دخل عليّ من حبه بلاء، ثم لقد أحبتني زوجة صاحبي هذا، فدخل علي من حبها بلاء، فلا تحباني. بارك الله فيكما. (قال) فَأَبَيَا إلا حبه، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله.
وفي قراءة ابن مسعود: " أعصر عنباً " ومعناه: خمر عنب.
قال ابن عباس: لغة عمان يسمون الخمر عنباً و (قيل): المعنى: أعصر(5/3562)
عنب خمر ومعنى: {فَوْقَ رَأْسِي} أي: على رأسي.
وقوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}: أي: تحسن إلينا.
قيل: كان يعود مريضهم، ويقوم عليه، ويعزي حزينهم. وكان إذا احتاج [منهم] إنسان جمع له، وإذا ضاق المكان وسع له، ويجتهد لربه.
قال: لما دخل السجن، وجد قوماً قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم، وطال حزنهم، فجعل يقول: اصبروا تُؤْجَرُوا أجراً [إ] ن لهذا ثواباً. فقالوا: يا فتى بارك الله فيك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، (لقد) بُورِكَ لنا في جوارك، ما نحب أنَّا كنا في غير هذا المكان لما تخبرنا من الأجر والكفارة، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف، نبي الله، ابن يعقوب بن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم.(5/3563)
قال ابن مسعود: أعطي وأمه ثلث حسن الناس.
وقال جعفر بن محمد: أعطي يوسف نصف حسن الناس.
وروي مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن كانت المرأة الحامل لتراه فتضع).
وقيل معنى: {مِنَ المحسنين}: إن نبَّأتنا بتأويل رؤيانا.
قال يوسف لهما {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ}: أي: في منامكما {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} يعني: في يقظتكما {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} تأويل ما رأيتما. قال (ذلك السدي وابن اسحاق).
ثم قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} أي: برئت منها.
وإنما أجابهما يوسف بهذا، وليس / بداخل في السؤال، لأنه كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما، لما علم فيها من رؤيا الذي رأى أنه يحمل فوق رأٍه خبزاً.(5/3564)
وأعرض عن جوابهما مرتين، وأخذ في غيره كذا قال ابن جريج ومعنى: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}: إن الملك (كان) إذا أر (ا) د قتل إنسان، صنع له طعاماً معلوماً. فأرسل به إليه.
فقال يوسف لهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} يعني: من عند الملك {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}: أي: أخبرتكما: هل هو طعام من يراد قتله، أو طعام من يراد به غير ذلك. فأعلمهما أن عنده علماً من معرفة الطعام. فيكون المعنى: في اليقظة، لا في النوم.
وكان هذا بعدوله عن تفسير رؤياهما لما كره من ذلك، فلم يدعاه يعدل عن حوابهما، وسألاه ثانية، وكره العبارة فتمادى في العدل. وقال:(5/3565)
{ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39]- إلى قوله - {يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46]: فلم يدعاه حتى سألاه ثالثة فعبر لهما، وقال {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا (فَيَسْقِي) رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41]- الآية - فلما عبر قالا: ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب فقال: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41].
قوله: {أَن يَأْتِيكُمَا} وقف (وفي) " ربي ": وقف.
قوله: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: أي: دينهم، وطريقتهم {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله (مِن شَيْءٍ)}: (دليله الشرك)، (ولفظه) لفظ الخبر، ومعناه النفي أي: لم يشرك بالله، دليله الشرك الذي بعده.(5/3566)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
قوله: {ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} فهو مقابل له: أي: ما ينبغي لنا أن نشر (ك) في عبادة الله أحداً.
{ذلك مِن فَضْلِ الله} (أي تركنا الشرك، هو من فضل الله علينا) وعلى الناس، إذ جعلنا دعاة لهم إلى توحيده.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ}: أي: من يكفر لا يشكر.
قال ابن عباس: {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا}: إذ جعلنا أنبياء، " وعلى الناس " أن بعثنا إليهم رسلاً ".
قوله: {ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ} - إلى قوله - {تَسْتَفْتِيَانِ} روي أن يوسف عليه السلام قال: هذا لأن أحد الفَتييْن كان مشركاً، فدعاه بهذا إلى الإيمان، ونبذ الآلهة، فجعلهما صاحبي السجن لأنهما فيه. والمعنى: يا من في السجن. وهذا(5/3567)
كقوله تعالى لسكان الجنة: {أولئك أَصْحَابُ الجنة} [البقرة: 82، الأعراف: 42، يونس: 26، هود: 23] ولسكان النار {فأولئك أَصْحَابُ النار} [البقرة: 81، 275].
والمعنى: أعبادة أرباب متفرقين خير؟ أم عبادة {الله الواحد القهار}.
قال قتادة: لما علم يوسف أن أحدهما مقتول دعاه إلى حظه في الآخرة.
ثم قال (تعالى): {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ}: فجمع، لأنه قصد المخاطب، وكل من عبد غير الله، فجمع على المعنى: أي: ما تبعد أنت، ومن هو على ملتك {إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ}: أي: لم يأذن الله لكم بذلك، أنتم أحببتم أسماءها وآباؤكم.
{مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ}: أي: من حجة، ومن كتاب، ومن دلالة. وقوله /(5/3568)
{أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}: أي: أسس الدين عليه لئلا يُعبد غيره.
{ذلك الدين القيم}: أي: ذلك الذي دعوتكم إليه هو الدين الي لا اعُوِجَاجَ فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}: وهم المشركون. ثم قال: {ياصاحبي السجن}: يخاطب الفَتَيَيْنِ {أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً}: أي: سيده الملك، وهو (الذي) رأى أنه يعصر خمراً.
{وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} فقال عند ذلك: ما رأينا شيئاً، فقال: {قُضِيَ الأمر الذي (فِيهِ) تَسْتَفْتِيَانِ}.
وقيل: إنما أنكر الذي أخبره أنه يصلب. فقال: قضي الأمر سواء رأيت، أو لم تر وكان اسمه مجلث، واسم الثاني نبو.
قال ثابت البنان (ي): دخل جبريل عليه السلام على يوسف في السجن، فعرفه(5/3569)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
يوسف، فقال له: أيها الملك، الحسن وجهه الطيب ريحه، الكريم على ربه: {هَل لَّكَ} [النازعات: 18] علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: فما صنع؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن، قال: وفيم ذلك؟. قال: عليك. قال: فما بلغ من حزنه؟ (قال): حزن سبعين مُثْكِلَة قال: فما له من الأجر على ذلك؟ قال: أجر مائة شهيد.
قال الحسن: مكث يعقوب، عليه السلام، ثمانين سنة، أو نحوها، لا يفارق قلبه الحزن، ولا تجف عيناه من البكاء. وإنه لأَكْرَمُ أهل الأرض على الله يومئذٍ.
قوله: ({وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ (نَاجٍ مِّنْهُمَا} - إلى قوله - {بِعَالِمِينَ}
المعنى: وقال يوسف للذي علم أنه ناج) من الفتيين: اذكرني عند سيدك،(5/3570)
وهو الملك الأعظم. وأعلمه بمظلمتي وأني محبوس بغير جرم.
وقيل: المعنى: اذكر ما رأيته مني من العلم بعبارة الرؤيا، وبحال (ي) في العلم عند الملك.
قوله: {الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ}، أي: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف للملك. فالهاءان للساقي، بدلالة قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي: تذكَّر الساقي ما قاله له يوسف بعد حين، يدل على أن النسيان كان من الساقي: أنساه الله عز وجل، أن يذكر يوسف عليه السلام. وقيل: المعنى أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عز وجل فالهاءان ليوسف: أي: أنسى يوسُفَ الشيطان أن يرجع إلى ربه، ويسأله خلاصة،(5/3571)
ويرد أمره إلى الله عز وجل ورجع إلى سؤال أحد الفتيين أن يذكره عند الملك، فلبث في السجن عقوبةً بضع سنين.
(قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا كلمةُ يوسف، ما لبث في السجن ما لبث " يعني قوله: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أي: عند سيدك.
قال ابن دينار لما قال يوسف للساقي: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ}. قيل: يا يوسف اتخذ [ت] من دوني وكيلاً، لأطيلنَّ حبسك. فبكى يوسف، وقال: يا رب: أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمةً فويل لإخوتي.
ويروى أن يوسف لما قال لصاحب الشراب: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أتاه جبريل عليه السلام فعاتبه، وخرق له بجناحه سبع أرضين، إلى منتهى الصخرة التي عليها(5/3572)
الأرض، وقوَّى الله، عز وجل، بصر يوسف، حتى نظر إلى نملة، على الصخرة تجر حبة.
فقال جبريل: يا يوسف لم يغفل ربك عن هذه النملة ورزقها، فكيف يغفل عنك، وأنت في السجن، حتى تشكو إلى صاحب / الشراب، وتأمُرهُ بذكرك، وبذكر عذرك عند سيده. قال: فأخذ يوسف التراب فملأ به فمه، ورأسه، وقال: إلَهي! أسألك بوجه أبي وجدي - قال مجاهد -: فلم يذكره الساقي حتى رأى الملك الرؤيا.
قال قتادة: لبث في السجن سبع سنين.
قال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فَحَوَّل في السباع سبع سنين وكذلك قال ابن جريج.
" والبضع ": ما بين الثلاث إلى التسع.(5/3573)
وقال الأخفش: هو من واحد إلى عشر. قال قُطْرُبْ: هو ما بين الثلاث والسبع. وقال أبو عبيدة: من الواحد إلى الأربعة.
(قال الحسن ذكر لنا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: لولا كلمة يوسف حيث يقول: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ}، ما لبث في السجن طول ما لبث. قال ابن عباس: عوقب بقوله للساقي: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} فطال سجنه.
وروي أن يوسف، عليه السلام، لما قال له: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أوحى الله إلى الأرض أن النفرج (ي) لعبدي يوسف. فانفرجت له. فقيل له: ما ترى؟ فقال: أرى أرضاً، وأرى ذرةً معها طعم لها. قال: فقال: يا يوسف! ألم (أغفل) عن هذه في هذا الموضع، وأغفل عنك لتَلْبَثَنَّ في السجن بضع سنين.
وقوله: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ (سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ)}:(5/3574)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
وهو ملك مصر (ا) لأعظم. والمعنى: (إني) أرى في منامي سبع بقرات سمان {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فلم يكن عند الملك من يعبر ذلك، وقالوا له: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}: أي: هي أضغاث. ووقع في نفسه أنها رؤيا كائنة (لا بد) من ذلك.
ومعنى: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}: (أي: أخلاط أحلام) كاذبة.
{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام} الكاذبة {بِعَالِمِينَ}: وتقديره: وما نحن بعالمين بتأويل الأحلام والأَغاث. (والباء) في {بِعَالِمِينَ}: لتأكيد النفي، (و " الباء " في {بِتَأْوِيلِ} لتعدية، متعلقة بعالمين) ففي الكلام تقديم وتأخير.
قوله: {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} - إلى قوله - {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: المعنى: وقال الذي نجا [منهما] من القتل، يعني: من الفَتَيَيْن اللذين عبر لهما(5/3575)
يوسف الرؤيا.
{وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ}: أي: تذكر بعد حين وصية يوسف، وأمره.
قال الكلبي: تذكر بعد سنين، فذكر أمره للملك.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: " بعد أمه " بالهاء، وفتح الميم والتخفيف أي: بعد نسيان.
وقرأ مجاهد: " بعد أمْهٍ " بإسكان الميم، وبالهاء: جعله مصدر أمة أمهاً: إذا نسي. وتأويلها كتأويل من فتح الميم. وأصل المصدر فتح الميم، ومن أسكن فللتخفيف.(5/3576)
وقرأ الحسن: أنا آتيكم بتأويله قال: وكيف ينبؤهم العلم؟
ثم قال: {فَأَرْسِلُونِ}: أي: فأطلقوني أمضي لآتيكم بتأويله من هذا العالم. قوله: {فَأَرْسِلُونِ}: وقف.
وقوله {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق}: أي: يا يوسف {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ}: أي: في سبع بقرات رُئينَ في المنام. ويأكلهن سبع عجاف - الآية -. قال قتادة: السمان: السنين الخصبة /، والعجاف. سنون جدْبَة.
ومعنى {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}: أي: يعلمون تأويل رؤيا الملك.
وقيل: المعنى: لعلهم يعلمون مقدارك، فيخرجونك من السجن.(5/3577)
قال يوسف للسائل: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً}: أي: على عادتكم التي كنتم عليها. وقوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} فهو خبر معناه الأمر: (أي): ازرعوا، وفيه إيماءٌ إلى تعبير الرؤيا، (فلفظه خبر معناه: الخبر عن تعبير الرؤيا) وفيه معنى الأمر لهم بالزرع سبع سنين، وتركه في سنبله. ودلّ على أنَّه أمر. قوله: {فَذَرُوهُ}، فرجع إلى لفظ الأمر بعينه، وعطفه على معنى الأول.
وقيل: هو رأي رآه، صلى الله عليه وسلم، لهم ليبقى طعامهم، فأمرهم أن يَدْعُوه في سنبله (إلاَّ ما يأكلون).
ثم قال له: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ}: أي: قحيطة، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}. أي: يوكل فيهن ما أعددتم في السنين الخصبة من الطعام ووصفت السنون بالأكل، والمراد أنه يؤكل فيها، كما قال {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67، النمل: 86، غافر: 61]: أي: يبصر فيه.(5/3578)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ}: أي: تحزرونه، أي: ترفعونه للحرث. {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} أخبرهم، صلى الله عليه وسلم، عما لم يكن في رؤيا الملك، وذلك من علم الغيب، الذي علمه الله، ( عز وجل) دلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، ومعنى {فِيهِ يُغَاثُ الناس}: أي: بالمطر، والخصب.
{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: أي: يعصرون العنب، والسمسم، والزيتون: وهو قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وابن جريج، وغيرهم.
وقيل: المعنى: وفيه تحلبون مواشيكم.
وقال أبو عبيدة: معناه: وفيه تنجون من البلاء من العصر (وهو الملجأ).
قوله: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول} - إلى قوله - {لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين}.(5/3579)
(المعنى): أن الملك لما أعلمه الرسول بتأويل رؤياه، علم أنه حق. وقال: {ائتوني بِهِ}.
فلما جاء يوسف الرسول يدعوه إلى الملك، قال [له] يوسف: ارجع إلى سيدك، {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.
وأبى يوسف أن يخرج حتى يعلم صحة أمره ولم يذكر امرأة العزيز فيهن: حُسْنَ عشرة منه، صلى الله عليه (وسلم)، خلطتها بالنسوة، وأخبر عن الجميع.
(قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إلي لخرجت سريعاً. إن كان لحليماً، ذا أناة ".(5/3580)
(وقال صلى الله عليه وسلم: " لقد عجبت من يوسف، وصبره، وكرمه، والله يغفر له حين سئل عن البقرات: لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول لو كنت مكانه لبادرتهم الباب "
قوله: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} إنما خاطبهن لأنهن قلن ليوسف إذ رأيته: وما عليك أن تفعل، فراودنه عن نفسه.
وقيل: إنه / خاطبهن من أجل امرأة العزيز فيهن، فجعل الخطاب للجميع، والمراد واحدةٌ منهن. ودليل هذا جوابها وحدها، إذ حكاه الله، عز وجل، عنها فقال: {قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق}.(5/3581)
وقيل: إنما خاطبهن كلهن، لأن يوسف لما قال: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ظن الملك أنهن كذبن وراودنه، فجاوبته امرأة العزيز، وأقرت أنها هي الفاعلة.
وقيل: إنما جمعهن في الخطاب، لأنهن قلن: {امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30] وأشعن ذلك فقيل لهن: هل علمتنَّ ذنبه؟
{قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} فعند ذلك، أقرت امرأة العزيز أنها هي جاروته عن نفسه. رجع الرسول، فقال ذلك للملك فأحضر الملك النسوة. والكلام دل على الحذف.
ومعنى {حَصْحَصَ الحق}: تبين وظهر وانكشف، فقالت: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} وذلك أنها اضطرت إلى أن تبلغ مراد الملك في صرف الإبهام عنه بالرؤيا التي شغلت قلبه، فبرأت يوسف ليصح صدقه عند الملك، ويعلم أن ما أفتى في الرؤيا حق، فتعطفه عليه.
وحصحص مأخوذ من الحصة، أي: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وأصله " حصص "، ثم أبدل من الصاد الثانية حاءً، كما قال:(5/3582)
{فَكُبْكِبُواْ} [الشعراء: 94]، والأصل " كذبوا "، وقيل: كبكب، والأصل " كبب " ورَدْرَدَ والأصل ردَّد.
وقوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} هذا من قول يوسف عليه السلام أي: قال: فعلت ذلك من ردي الرسول إليه، وتركي إجابته، والخروج إليه حتى يسأل النسوة، فيعلم الملك أني لم أذكره بسوء في الغيب.
(وقيل: المعنى: ليعلم العزيز أني لم أذكره بسوء في الغيب).
وقيل: المعنى: ليعلم أني لم أخنه في امرأته، وهو غائب (ويصح) ذلك عنده. وقد قيل: إنه من كرم المرأة كله لتقديم كلامها. لذلك قال ابن جريج: (هذا) متصل بما قبله، وفي الكلام تقديم وتأخير.
والمعنى: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِ (هِنَّ) عَلِيمٌ}. {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب}. فعلى هذا يكون يوسف قاله وهو في السجن.(5/3583)
وعلى قول ابن عباس، وغيره إنما قاله (بعد أن خرج، فلا تقديم في الكلام، ولا تأخير. ولما قال يوسف ذلك قال له) جبريل، عليه السلام: ولا حين هممت؟ فقال يوسف: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} [يوسف: 53]. قاله ابن عباس، وابن جبير.
وقال السدي: امرأة العزيز هي التي قالت له: ولا حين هممت، فحللت السراويل فقال: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} [يوسف: 53].
وقيل: إنه من قول يوسف، وذلك أنه تذكر ما مضى. فقال ذلك معتذراً لمليكه.
وذكر ابن لهيعة: أن امرأة العزيز لما اشتدت عليها الحاجة، (والمسبغة) أرادت الدخول على يوسف لتشكو إليه حاجتها، وإعوازها، / فقال لها أهلها وقومها: لا تفعلي، لأنا نخاف عليك، لأنه قد كان منك الذي كان، فقالت: كلا إني لا أخاف ممن يخاف الله، ويتقيه. فدخلت عليه، وقامت بين يديه، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وأشارت إليه، ثم قالت: والحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً(5/3584)
بمعصيته، وأشارت إلى نفسها. (قال): ثم تزوجها يوسف، عليه السلام، فأصابها بكراً، فقال لها: أليس هذا أحسن مما كنت أردتيه مني؟ قالت له: إني كنت قج ابتليت منك بأربع خصال: (كنت) أنت أجمل الناس، وكنت أنا أجمل النساء في دهري، وكان زوجي عنيناً، وكنت بكراً حِدَثة السن قال: فأولدها يوسف، صلى الله عليه وسلم فأول ولد ولدته ابنه سماها " رحمة " وهي امرأة أيوب، عليهما السلام.
ويروى أن امرأة العزيز دخلت على يوسف، ( صلى الله عليه وسلم) ، وقد ملك مصر، فقالت له: بالذي رفع العبيد بطاعتهم، ووضع الملوك بمعصيتهم، فتصدق عليها يوسف، وتزوجها.(5/3585)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قوله: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} - إلى قوله - {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي}: " ما " في موضع نصب، استثناء، ليس من الأول.
والمعنى: إلا أن يرحم ربي ما شاء من خلقه، فينجيه من اتباع هواه، وما تامر [هـ] به نفسه. إن ربي ذو مغفرة عن ذنوب من تاب، (رحيم) (به) بعد توبته.
قوله: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ}، أمر ملك مصر الأعظم، وهو الوليد بن الريان بالإتيان بيوسف صلى الله عليه وسلم، لما تبين عذره. وقال: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}: أي أجعله من خلصائي وخاصتي. {فَلَمَّا كَلَّمَهُ}: أي: {فَلَمَّا} كلم الملك يوسف صلى الله عليه وسلم علم براءته، وحسن عقله. قال له: يا يوسف {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}: أي: متمكن مما أردت، أمينٌ على ما ائتنمت عليه من شيء.(5/3586)
وقيل: أمين، لا تخاف عذراً. ثم قال (له): ما من شيء إلا وأنا أحب أن تشركني فيه إلا أهلي، ولا يأكل معي عبدي، فقال (له) يوسف، ( صلى الله عليه وسلم) : أتأنف أن آكل معك؟ وأنا أحق أن آنف منك، أنا ابن إبراهيم، خليل الرحمان، وأنا ابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الذي ابيضت عيناه من الحزن.
قوله: {قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} - إلى قوله - {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} والمعنى: قال يوسف صلى الله عليه وسلم، للملك: " اجعلني على خزائن أرضك ".
قال ابن زيد: فأسلم إليه فرعون سلطانه كله، فكان على خزائن الأطعمة، وغيرها من أمواله وعمله.
وروى مالك بن أنس، رضي الله عنهـ، عن ابن المنكدر عن جابر بن(5/3587)
عبد الله، قال: كان يوسف النبي عليه السلام لا يشبع فقيل له:
ما لك لا تشبع، وبيدك خزائن الأرض؟. قال: إني إذا شبعت نسيت الجائعين.
قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ}: أي: لما وليت، {عَلِيمٌ} به. وقيل: (إن) المعنى: إني حافظ للحساب، عالم بالألسن.
وقيل: المعنى: إني حافظ / لللأموال عالم بالموضع الذي يجب أن يجعل فيه مما يرضي الله، عز وجل، ولذلك سأل يوسف، ( صلى الله عليه وسلم) ، الملك في هذا ليتمكن له وضع الأشياء في حقوقها. فأراد بسؤاله الصلاح صلى الله عليه وسلم.(5/3588)
ثم قال (تعالى) {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض}: أي: في أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ}: أي: يتخذ منزلاً أين شاء بعد الضيق والحبس. ومن قرأ بالنون، فمعناه: يصرفه في الأرض حيث يشاء.
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ}: من خلقنا كما أصبنا بها يوسف.
{وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}: أي: لا نبطل أجر من أحسن (عملاً) فأطاع ربه، ( عز وجل) .
قال ابن إسحاق: ولاه الملك عمل العزيز زوج المرأة، فهلك العزيز في تلك الليالي، وزوج الملك زوجة العزيز ليوسف.
وقال ابن إسحاق: فلما دخلت عليه قال:: أليس هذا خيراً مما كنت(5/3589)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
تريدين؟ فقال له: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة أوتيت كما ترى حسناً وجمالاً، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما خلقك في حسنك، وجمالك، فغلبتني نفسي على ما رأيت.
قال ابن إسحاق: فذكر أنه وجدها بكراً فأصابها، فولدت رجلين. فولي يوسف مصر، وملكها، وبيعها وشرابها، وجميع أمرها.
ثم قال تعالى: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. والمعنى: ولثواب الآخرة خير لمن صدق، وآمن، وخاف عقاب الله عز وجل، واتقاه سبحانه مما أعطى يوسف في الدنيا من التمكين في أرض مصر.
قوله: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} - إلى قوله - {وَلاَ تَقْرَبُونِ} المعنى: فيما ذكر ابن إسحاق أن يوسف عليه السلام لما أعلمهم بما يأتي من القحط، وأن(5/3590)
يستعدوا لما يأتيهم، أتى الناس إلى مصر، يلتمسون المير (ة) من كل بلد. فأصاب الناس جهدٌ، فأمر يوسف ألا يحمل الرجل إلا بعيراً واحداً، تقسيطاً بين الناس، ومنع أن يحمل أحد بعيرين. فقد عليه إخوته فيمن قدم يلتمسون الميرة، فعرفهم، ولم يعرفوه لما أراد الله عز وجل.
وذكر السدي: أنه لما أصاب الناس الجوع، أتى أخوة يوسف ليتماروا، وهم عشرة: وأمسك يعقوب عند نفسه أخا يوسف بنيامين، فلا دخلوا على يوسف عرفهم، ولم يعرفوه. قال لهم: أخبروني بأمركم، فأني أنكر شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أرض الشام. قال وما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نمتار طعاناً. قال: فأخبروني خبركم. قالوا: إنا أخوة، بنو رجل صديق. وكنا اثني عشر. وكان أبونا يحب(5/3591)
أخاً [ل] نا وإنه ذهب معنا إلى البرية فهلك فيها. وكان أحبنا إلى أبينا. قال: فإلى من يسكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه. قال: وكيف تخبروني أنَّ أباكم صديق، وهو يحب الصغير منكم دون الكبير /. إيتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه. قالوا: سنراود عنه أباه، قال: فضعوا رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون وجهَّزوا أبْعِرتهم بالطعام. فقال لهم يوسف ( صلى الله عليه وسلم) : إنكم إذا أتيتموني بأخيكم ازددتم من عند [ي] حمل بعير له.
{أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل}: " ولا أبخسه أحداً ".
{وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين}: أي: وأنا خير من أنزل ضيفاً على نفسه في هذا البلد. {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي}: أي: لا طعام أكيله لكم {وَلاَ تَقْرَبُونِ}: أي: " لا تقربوا بلادي ".(5/3592)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وقد اعترض بعض أهل الزيغ في هذا الخبر، وقال: كيف لم يعرفوه، (وقد) عرف أن لهم أخاً من أب، وسألهم الإتيان به.
فجواب ذلك على قول بعض أهل النظر أن يوسف كان لا يعطي لكل نفس إلا حِمْلاً في تلك المجاعة. (فلما) أخذوا لكل شخص منهم حِمْلاً. قالوا: لنا أخ من أبينا غاب فأعطنا له حملاً، فأعطاهم وقال لهم: إيتوني بهذا الأخ إن أردتم أن أعطيكم عنه حِمْلاً إذا رجعتم للمير (ة) لنعلم صدقكم. فإن لم تأتوني به علمت كذبكم، ولم أعطكم شيئاً. وهذا كله داخل في قوله: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] صلى الله عليه وسلم.
قوله: {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ (إِنَّا لَفَاعِلُونَ)} - إلى قوله - {كَيْلٌ يَسِيرٌ}
المعنى: قالوا سنرجع إلى أبيه، فنسأله في أن يوجه به (معنا)، وإنا لفاعلون ذلك.(5/3593)
ثم قال تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ} أي: قال يوسف لغلمانه و " فتيته ": أنَسْبُ لأنه للعدد القليل، و " فتيان ": حسن، فقال لهم: اجعلوا أثمان الطعام التي أخذوا بها طعامي في وسط رجحالهم، وهم لا يعلمون.
قال بعض أهل المعاني: إن يوسف خشي ألا يكون عند أبيه دراهم، إذا كانت سنة جَدْبٍ. فرد عليهم الدراهم طمعاً أن يأخذها.
وقيل: إنما رَدَّ عليهم الثمن رفقاً بهم (من) حيث لا يعلمون، تكرماً منه، وتفضلاً.
وقيل: إنما جعل الثمن في الأوعية لتكون سبب رجوعهم إليه لعلمه، فكرمهم، وإنهم لا يرضون بحبس الثمن، وإنهم يتحرَّجُون من ذلك فيرجعون إليه(5/3594)
ضرورة.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يا أبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ}: من قرأ بالياء: فمعناه: يكتل لنفسه حملاً، ومن قرأ بالنون: أراد إنهم أخبروا عن أنفسهم، وعنه بالكيل. والمعنى: إنهم قالوا: (له): يا أبانا منع (منا) أن نكتال فوق ما اكتلنا بعيراً لكل نفس. فأرسل معنا أخانا يكتل لنفسه كَيْلَ بعير زائدة على ما اكْتَلْنَا لأنفسنا.
قال السدي: لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا! إن ملك مصر أكرمنا كرامةً، لو كان رجلاً من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامتَهُ، وإنه ارتهن منا شمعون.
وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد موت أخيكم / فإن لم تأتوني به، فلا تقربوا بلادي أبداً، فقال لهم يعقوب: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} - الآية - ثم قال: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين}: أي: إن يفجعني في هذا الولد على كبر(5/3595)
سني، وهو أرحم الراحمين فيَّ إذا آتيتم إلى ملك مصر، فأقرؤه سلامي، وقولوا له: إن أبانا يدعو لك، ويصلي عليك لما أوليتنا من الجميل.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}: أي [لما] فتحوا أوعيتهم التي فيها الطعام، وجدوا الثمن الذي دفعوه ليوسف في الطعام، في أوعيتهم.
{قَالُواْ يا أبانا مَا نَبْغِي}: وراء هذا، إن بضاعتنا ردَّت إلينا، وقد أوفى لنا الكيل.
{وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} في رجوعنا: أي: نأتيهم بالطعام.
{وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}: بسير أخينا معنا، لأن لكل نفس حمل بعير.(5/3596)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ}: أي: يسير على الملك سهل.
وقيل: المعنى: كيلنا الذي نأخذ، يسير، فزيادتنا حملاً أحسن من تركه.
وقيل: المعنى: الذي جئتنا به يسير، فرجوعنا بأجمعنا نأتي لكل نفس بحمل أحسن. قال مجاهد: حمل بعير: حمل حمار.
وقال غير [هـ] جمل، وهو المعروف في اللغة.
قوله: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله} إلى قوله {لاَ يَعْلَمُونَ}، الموثق: الميثاق، من عهدٍ، أو يَمِينٍ.
ومعنى الآية: قال بعقوب لبنيه: لن أدفع إليكم أخاكم حتى تعطوني عهداً، أو يميناً أنكم لتردونه إلي معكم، إلا أن يحيط بكم أمر لا تقدرون على ردِّه معكم.
وقال ابن أبي نجيح في قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} معناه: إلا أن تهلكوا جميعاً.(5/3597)
{فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ}: أي عهدهم أن يردوه. {قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: أي: شاهد: وحافظ.
ثم قال يعقوب يوصيهم لما أرادوا الخروج: {يابني لاَ تَدْخُلُواْ} - مصر - {مِن بَابٍ وَاحِدٍ}: أي من طريق واحد {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ}.
قال ابن عباس، والضحاك، وابن جبير، وقتادة: خاف عليهم يعقوب العين لجمالهم، وحسنهم.
وقيل: إنه إنما خاف أن يلحقهم شيء، فيظن أنه من العين.
وقيل: إنه كره أن يدخلوا جميعاً من موضع واحد، فيُستراب منهم (ويخاف منهم): وهو اختيار النحاس. ثم قال لهم: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ}: أي: ما أقدر على دفع(5/3598)
قضاء الله [سبحانه] عنكم. ما الحكم فيكم وفيّ إلا لله ينفذ قضاءه عز وجل كيف أحب. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}: في ردكم وأنتم سالمون، وإليه فوضت أمري، وإليه فليفوض (المفوضون) أم (و) رهم. ثم قال: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم}: أي: من طرق متفرقين، كما أمرهم {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} ذلك من الله من شيء، إلا [حاجة]: (وهو) استثناء منقطع، أي: لكل حاجة، أي: إلا أنهم قضوا حاجة يعقوب، لدخولهم من مواضع متفرقين.
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}: أي: وإن يعقوب، / لذو حفظ لما استودعناه(5/3599)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
صدره من العلم.
قال ابن جبير: المعنى {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}.
وقيل: المعنى: وإنه لعامل بما علم ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون: ما يعلمه يعقوب.
قوله: {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} - إلى قوله - {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}
المعنى: لما دخل إخوة يوسف عليه، قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، فشكر لهم ذلك. ثم قال لصاحب ضيافته: أنزلهم رجلين في كل مسكنٍ، وأكرمهم، فبقي أخوهم: وهو شقيق يوسف. فقال لهم يوسف: إن هذا يبقى وحده، لا ثاني معه، فأنا أضمه إلى نفسي. فأنزله عنده، وضمه ليه. وقال له: أنا أخوك - يوسف -(5/3600)
لا (تَبْتَئِسْ) (بشيء) من فعلهم، ولا تعلمهم بشيء مما أعلمتك به. وقيل: [إنه] لم يعترف له أنه أخوه، يعني: من النسب. وإنما قال له: أنا أخوك مكان أخيك الهالك. قاله وهب ابن منبه.
وإنما أخبره أنه يوسف بعد انصرافه وتركه عند يوسف.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} والمعنى: أن يوسف لما حمَّل إبل إخوته الميَرَة، جعل السقاية في رحل أخيه: وهو المكيال الذي كانوا يكتالون به، وهي المشربة التي يشرب بها [الملك] وكانت من فضة،(5/3601)
وذهب تُشْبِهُ الملوك مُرَصَّعَةً بالجوهر.
وقيل: كانت شبه الكأس، فجعلها في رحل أخيه، والأخ لا يشعر. فلما ارتحلوا ناجى مناد: يا {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قيل: إنما قال لهم: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، وهم لم يسرقوا: يريد إنهم سرقوه، وباعوه، لأنهم سبب بيعه. وقيل: بل تركهم حتى مشوا، وخرجوا، ثم لحقوا، فقيل لهم: {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. قالوا: وما ذاك. قالوا: {صُوَاعَ الملك} وإنما دعاهم بالسرقة كلهم لأن المنادي لم يعلم ما صنع يوسف.
وقيل: إنما فعله عن أمر يوسف فأعقبه الله عز وجل بقولهم له: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77].(5/3602)
وقيل: إنما [جاز] أن يقال لهم ذلك، لأنهم باعوا يوسف، فاستجازوا أن يخاطبوا بذلك.
وقيل: المعنى: حالكم حال السراق. وقرأ أبو هريرة " صَاعَ الملك ".
وقال أبو رجاء " صوع الملك ".
(قوله): {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ}: أي: (وقِرُ بَعير) من الطعام.
(قوله): {قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} أي: لنعصي الله، ونسرق، وإنما ادعوا ذلك. وقالوا: " قد علمتم " لأنهم ردوا البضاعة التي وجدوا في رحالهم، إذ رجعوا وراء أخيهم. فالمعنى: " لو كنا سارقين ما رددنا البضاعة (التي وجدنا)(5/3603)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
في رحالنا ".
وقيل: إنما قالوا ذلك لأنهم قد علموا اشتهار فضلهم بمصر، فنفوا عن أنفسهم ما قد رموا به.
قوله: {(قَالُواْ) فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} - إلى قوله - {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. المعنى: قال أصحاب يوسف / عليه السلام لإخوته: فما جزاء من وجد الصاع في رحله إن كنتم كاذبين في قولكم: {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73] {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}.
المعنى: قال إخوة يوسف لأصحابه: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، أي: أن يستعبد من سرق.(5/3604)
ويقال: إن هذا كان في شريعة يعقوب عليه السلام، نسخه الله عز وجلأ، بالقطع. وقيل: المعنى جزاؤه الاستعباد من وُجِد في رحله، فهو جزاؤه. فهو يعود على الاستعباد المحذوف.
وقال الطبري: المعنى: قال إخوة يوسف: جزاء السارق من وجد في متاعه السَّرقُ، فهو جزاؤه: أي: فتسليم السارق جزاء السرق. وإنما سأل إخوة [يوسف] عن الجزاء، لأن أصحاب يوسف ردوا الحكم إليهم. وذلك أنه كان في شريعة يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في حكم الملك: إذا سرق السارق غرم مثله. فرد الحكم إليهم.
وقرأ الحسن: " من وعَاءِ أخيه " بضم الواو.
{كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ}: أي: في أن حكموا على أنفسهم بالاسترقاق(5/3605)
على شريعتهم. وأضاف الكيد إلى نفسه، لأن الذي فعل يوسف (جزاءاً عن) أمر الله كان، وعن مشيئته، وبوحيه ليوسف.
قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك}: أي: في حكمه، بل أخذه بحكم يعقوب. {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}: ذلك بكيده.
وقيل: المعنى: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}: أن يطلق له مثل هذا الكيد.
وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} قال زيد بن أسلم: يعني: بالعلم.
وقيل: معنى الكيد: أنهم كانوا لا ينظرون في وعاء إلا استغفروا الله تأثماً، مما قُذفوا به. فلما وصلوا إلى وعاء أخيهم، قالوا ما نرى (أن) هذا أخذ شيئاً. قال إخوة يوسف: بلى فاستبروا ففتح الصواع فيه: فذلك الكيد. قال ذلك(5/3606)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
قتادة والسديّ، وغيرهما.
وقوله: {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} يعني الصواع. وإنما أنثت، لأنه بمعنى السقاية، فهما لشيء واحد.
وقيل: إنه على معنى السرقة، وقيل: إن الصواع يذكر ويؤنث.
وقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ (عَلِيمٌ)}: أي: فوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله عز وجل.
قوله: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} - إلى قوله - {خَيْرُ الحاكمين} يعنون بقولهم {أَخٌ لَّهُ}: يوسف.
قال مجاهد: كان يوسف صلى الله عليه وسلم سرق صنماً لجده، أبي أمه، وألقاه في(5/3607)
الطريق. فَعَابَهُ إخوته بذلك. وإنما أراد يوسف بكسره، وأخذ الخير: فليس ذلك بسرق، بل هو مَحْضُ الدين والعبادة، وإنكار المنكر.
وقال ابن جريج: كانت أم يوسف مسلمة، فأمرته أن يسرق صنماً لخاله، كان يعبده.
وروي عن مجاهد أن عمة يوسف بنت إسحاق، وكانت أكبر من يعقوب صارت إليها منطقة إسحاق لسنها: لأنهم / كانوا يتوارثونها حباً شديداً فلما ترعرع،(5/3608)
قال لها يعقوب: سلِّمي يوسف إليّ فلست أقدر أن يغيب عني ساعة، قالت له: (دعه عندي) أياماً أنظر إليه لعلي أتسلى عنه. فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إٍحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق؟ فانظروا من أخذها، ومن أًابها فالتُمِسَت ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوا، فوجت مع يوسف، فقالت: والله إني لم أصنع فيه ما شئت. ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال (لها): أنت وذاك إن كان فعل (ذلك)، فهو سلم لك، فأمسكته حتى ماتت. فبذلك عَيَّره إخوته.(5/3609)
ومعنى الآية أنه على الحكاية، أي قالوا: إن يسرق فقد (قيل) سرق أخ لهم من قبل. إنما ما قد كان قبل، لم يقطعوا بالسرقة عليه. هذا أحسن ما تأوله العلماء، والله أعلم بذلك.
والضمير في قوله: {فَأَسَرَّهَا}، إضمار، قبل الذكر (قد) فسره الله عز وجل لنا أن الذي أسره قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} - إلى قوله - {تَصِفُونَ} (أي) أضمر هذا في نفسه.
وقيل: أسر في نفسه المجازاة لهم على قولهم، ولم يرد أن يبين عذره في ذلك. وقيل: أسرَّ في نفسه قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} ولم يرد أن يدفعه ويراجعهم عليه. بل كتم قولهم وله صبر.
قوله: {الله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}: أي: (من) قولكم: هل هو حق أو كذب.(5/3610)
ثم قالوا ليوسف: {يا أيها العزيز} أي: الملك {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً}: يعنون كلفاً بحبه، فخذ واحداً منَّا مكان هذا الذي سرق وخل عنه {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}: في أفعالك.
وقيل: المعنى: إنا نرى ذلك منك إحساناً إلينا إن فعلته. قال يوسف {مَعَاذَ الله}: أي: عياذاً بالله أن نأخذ غير من سرق.
{إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} إن فعلنا ذلك.
قال السدي: ثم قال لهم يوسف: إذا أتيتم أباكم فأقرؤه السلام، وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ابنك يوسف.
فلما أيس يوسف من أخيه أن يُدْفَع إليهم.
{خَلَصُواْ نَجِيّاً}: أي:(5/3611)
انفردوا وليس يوسف وأخوه معهم أي: خلوا يتناجون بينهم. فقال كبيرهم في العقل وهو شمعون وقيل: بل (هو) كبيرهم ف السن (وهو) روبيل، وهو ابن خالة يوسف. وهو الذي كان نهاهم عن قتله.
وقيل: كبيرهم يهوذا يعني به: كبيرهم في العقل، والفهم لا في السن، ولم يختلف في أن كبيرهم في السن روبيل. فهو أولى الاية (قال لهم):
{أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله} في أخيكم هذا، ومن قبل تفريطكم في يوسف، وفعلكم فيه.
والمعنى: [و] من قبل هذا: تفريطكم في يوسف.(5/3612)
و " ما " زائدة، والمعنى: ومن قبل فرطكم في بيوسف / ويجوز أن تكون في موضع نسب عطف على " أن ".
ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى: ومن قبل هذا تفريطكم {فِي يُوسُفَ}، فتكون {وَمِن قَبْلُ} في موضع الخبر.
قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض}: أي: لن أبرح من أرض مصر.
{حتى يَأْذَنَ لي أبي} بالقدوم عليه، {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} أي: بالمن مع أخي، فأمضي معه.
وقيل: المعنى: {يَحْكُمَ الله لِي} بالسيف، فأحارب، وآخذ أخي. قاله أبو صالح.
وقيل: المعنى: أو يقضي الله لي بالخروج من أرض مصر، وترك أخي.(5/3613)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
وروي أن يهودا قال ليوسف: يا أيها الملك! إن لم تخلِّ سبيله معنا لأصيحَنَّ صيحةً لا يبقى في مدينتك حامل، إلا أسقطت ما في بطنها. وكان ذلك في ولد يعقوب عند الغضب معروفاً. فكلَّم يوسف ابناً له صغيراً بالقبطية فقال له: ضع يديك بين كتفي يهوذا، ولا يشعر بك أحد، وكان الناس مجتمعين، ف\خل الصبي بين الناس حتى وضع يده بين كتفي يهوذا، فذهب غضبه، فقال يهوذا: لقد مسني من ولد يعقوب، ولم ير أحداً.
قوله: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ (يا أبانا)} - إلى قوله - {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} هذا قول روبيل لإخوته، أمرهم بالرجوع إلى يعقوب، يعلموه(5/3614)
بالقصة على وجهها.
وقيل: أمر لهم بذلك يوسف: وقيل: هو كبيرهم الذي تأخر بمصر، ولم يرجع معهم.
وروي عن الكسائي أنه قرأ " سُرق " على ن لم يُسَمْ فاعله، على معنى اتهم بالسرق. وقيل: معناه: علم منه السرق.
قوله: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}: أي: ما قلنا إلا بظاهر العلم، ولسنا نَعْلَمُ الغيب والباطن، إنما وجدت السرقة في رحله، ونحن ننظر.
وقيل المعنى: وما شهدنا عند يوسف أن السارق يؤخذ في سرقته، {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} (في الحكم عندك) قاله ابن زيد.(5/3615)
قال لهم يعقوب، ما يُدري، هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، إلا بقولكم فقالوا: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} في الحكم عندك وعندنا.
{وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}: أي: ما كنا نظن أن ابنك يسرق، فيؤول أمره إلى هذا، وإنما قلنا لك نحفظ أخانا مما إلى حفظه السبيل.
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} إن اتهمنا: وهي مصر، يريدون أهلها. {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا}: وهي القافلة عن خبر ابنك.
قال لهم يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: على ما نالني.
وقيل: المعنى: " فصبر جميل: أولى من جزع لا ينفع. والصبر الجميل هو الذي لا شكو (ى) معه إلا إلى الله عز وجل.(5/3616)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}: يعني: يوسف، وأخاه روبيل الذي تخلف: (إنه هو العليم): بما (أجد) عليهم، {الحكيم} في تدبيره.
قوله: {وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} - إلى قوله - {مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. والمعنى: وأعرض يعقوب عن بنيه، وقال: يا حزناً على يوسف.
والأسف شدة الحزن. ثم حكى الله تعالى ذكر [هـ] لنا أن / عَيْنَيْ يعقوب ابيضتا من الحزن، (ف) هو كظيم: أي: مكظوم، أي مَمْلُوءٌ من الحزن، ممسك عليه، لا يبثه.
قال ابن زيد: الكظيم الذي أسكته الحزن.
وقال مجاهد: كظم الحزن: إذا أمسكه عليه، لا يبثه.(5/3617)
وقال عطاء: كظ (ي) م: مكروب.
وقال السدي: كظيم من الغيظ. والكاظم في اللغة: الذي حزن لا يشكو حزنه وقال الحسن: وجد يعقوب على يوسف وُجْدَ سبعين ثَكْلَى وما ساء ظنه بالله ساعة قط، من ليل، ولا نهار.
(وروى الحسن عن النبي) صلى الله عليه وسلم: " وإنما اشتد حزن يعقوب (على يوسف) لأنه علم بحياته، وخاف على دينه ".
وقيل: إنما حَزِنَ (نَدَ) ماً على تسليمه لإخوته، وهو صبي، والحزن(5/3618)
ليس بمحظور.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذ مات ولده إبراهيم: تدمع العين، ويحزن القلب، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ".
وقال له أولاده: {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تزال تذكره. ولا تفتر من حبه.
{حتى تَكُونَ حَرَضاً}: أي، ذا جهد، وهو المريض البال (ي).
وقال قتادة: حرضاً هَرِماً.
وقال ابن زيد: الحرض الذي قد رد إلى أرذل العمر، حتى لا يعقل.(5/3619)
وقال الفراء: الحرض: الفاسد الجسم، والعقل.
(و) قال أبو عبيدة: الحرض: الذ [ي] أذابه الحزن.
{أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين}: أي: من الموتى.
قال يعقوب لهم جواباً لقولهم: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} أي: همي وحزني:
وحقيقة البث في اللغة: هو ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة، التي لا يمكنه إخفاؤها، وسميت المعصية بثاً مجازاً، وهو من بثثته، أي فرقته.
وروي أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على وجنتيه، فكان يرفعهما بخرقة. فقال (له) رجلٌ: ما بلغ بك ما أرى؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان. فأوحى الله عز وجل إليه: يا يعقوب تشكوني قال: خطيئة، فاغفرها،(5/3620)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
فغفرها الله عز وجل له.
فما كان إذا سئل إلا قوله {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} - الآية
وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: قال قتادة: " ذكر لنا أن يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلا أتى حسن ظنه بالله ( عز وجل) من ورائه ".
قوله: {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} إلى قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين}، المعنى، أن يعقوب، عليه السلام طمع في يوسف، فأمرهم بالرجوع إلى (ال) موضع الذي أتوا منه يلتمسون يوسف، وأخاه: يعني: بنيامين شقيق يوسف.
{وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله}: أي: " لا تقنطوا من أن يُرَوّحَ الله عنا ما نحن فيه من الحزن.(5/3621)
{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله}: أي: لا يقنط من فرجه، و (لا) يقطع رجاءه منه إلا الكافرون.
قال السدي، وقتادة: روح الله فرج الله.
قيل: إنه أمرهم أن يرجعوا إلى الذي احتال عليهم في أخيهم، وأخذ منهم، فيسألوا عنه، وعن مذهبه.
وروى ابن لهيعة " يرفعه إلى " (عن) ابن عمر، أن يعقوب كتب معهم كتاباً إلى يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم / من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر (إلى) فرعون: سلام عليك. فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء: أما جدي إبراهيم(5/3622)
خليل الله، فألقي في النار، فصيرها (الله عليه برداً)، وسلاماً، وأمر أن يذبح ابنه إسحاق أبي، ففداه الله بما فداه له. وأما أنا فكان لي ابن من أحب الناس إليّ، ففقدته فأذهب حزني عليه صبري، وحتى له ظهري. وأخوه المحبوس عندك في السرقة. وإني أخبرك: إني لم أَسْرِقْ، ولم أَلِدْ، سَارِقاص، فاحذر دعوتي فإنها مستجابة عليك. وأعجب منك كيف حبست قرة عيني، وقد علمت موقعه من قلبي، فاردد علي ابني، وإلا فاحذر دعوتي والسلام.
قال فلما قرأ يوسف، عليه السلام كتاب أبيه يعقوب، بكى بكاءً شديداً، وصاح بأعلى صوته: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]: فكان البشير إليهم يهوذ [ا] ابن يعقوب. وقيل: إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه يعقوب(5/3623)
ارتعدت فرائصه، واقشعر جلده، ولأن قلبه، وبكى، ثم أعلمهم بنفسه.
قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ}. وفي الكلام حذف. والمعنى: فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف، قالوا: {يا أيها العزيز} أي: الممتنع: {وَأَهْلَنَا الضر}: من الشدة، والجدب. فخضعوا له، وتواضعوا.
قال ابن إسحاق: خرجوا ببضاعة لا تبلغ ما يريدون من الميرة، إلا أن يتجاوز لهم فيها، فقالوا: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ}: أي: بدراهم لا تجوز في ثمن الطعام إلا بالمسامحة.
قال ابن عباس: مزجاة: دراهم زيوف.
وقال ابن أبي مليكة: مزجاة، خلق الغرائر: والمتاع الحقير.(5/3624)
" مزجاة: يعني: قليلة، إما لأنه متاع البادية لا يصلح للملوك، وإما لأنه قال مزجاة تحتقر في كل مكان. وقد فسرها بعضهم بأنها البطم والصنوبر. والبطم: هو الحبة الخضراء.
{فَأَوْفِ لَنَا الكيل}: فكان يوسف هو الذي يكيل، إشارة إلى أن الكيل والوزن على البائع.
وقيل: أتوا بالسمن، والصوف.
وقال أبو صالح: أتوا بالحبة الخضراء، والصنوبر.
وقال الضحاك: مزجاة: كاسدة، وأصله من التزجية، وهي الدفع، والسوق، فكأنها بضاعة تدفع، ولا يقبلها كل أحد. يقال: فلان يزجي العيش: أي:(5/3625)
يدافع وعن مالك رضي الله عنهـ أن المزجاة هنا: الجائزة في كل موضع. واحتج (مالك) في (أن) أجرة الكيال والوزان على البائع بقولهم: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل}.
ثم قال: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ}: أي تفضل علينا، ما بن الجياد والرديئة.
وقيل: المعنى: لا تنقصنا من السعر من أجل رداءة دراهمنا.(5/3626)
{إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} أي: يثيب المتفضلين.
وقد اختلف الناس في الصدقة على الأنبياء. فقيل: إنها كانت حلالاً، ثم حرمت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: ك (انت) حراماً على جميع الأنبياء.
(وقيل): إنما سأل هؤلاء المسامحة، لا الصدقة بعينها.
وقيل: إنهم أرادوا بقولهم: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ}: أي: تصدق علينا برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج.
قال السدي، عن أبيه لما دخل إخوة يوسف / على يوسف. وكان أكبرهم إذا(5/3627)
غضب قامت شعرةٌ (من عنده)، وانبعثت دماً فلا تزال كذلك حتى يمسه بعض ولد يعقوب. قال: فكلمه يوسف، وعرف يوسف أنه أغضبه فانبعث الشعرة دماً، أمر يوسف أخاه أن يدنو منه فيمسه، ففعل فانقطع الدم، ثم فعل ذلك مرة أخرة، فعند ذلك تعارفوا.
قال ابن إسحاق: بلغني أنه لما كلموه بهذا الكرم، فقالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} غلبته نفسه، فارفضَّ دمعه باكياً، ثم باح لهم بالذي كان يكتم، فقال (لهم): {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}: أي جاهلون بعاقبة ما تفعلون.
وقيل: المعنى: إذ أنتم صغار، جهال قالوا له: {أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} فقال: نعم {أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ} بأن جمعنا بعدما فرقتم بيننا. {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ(5/3628)
(الله) وَيَِصْبِرْ}: أي: يتقي معصية الله، ويصبر على السجن.
قال ابن إسحاق: لما قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
كشف لهم عن الخطأ فعرفوه.
{قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا}: أي: فضلك بالعلم والحلم.
وما كنا في فعلنا إلا خاطئين. يقال: خطئ يخطأ: إذا أتى الخطيئة عالماً [بها]، وأخطأ يخطئ إذا قصد شيئاً، فأصاب غيره، غير متعمد للخطأ. قال لهم يوسف: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم}: أي: لا تغيير عليكم ولا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الأخوة. ولكن لكم عندي العفو والصفح.
{لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}، تمام عند الأخفش، ثم تبتدأ: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} على(5/3629)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
الدعاء، وعند نافع وغيره: {عَلَيْكُمُ اليوم}: التمام. وهو أحسن وأبين.
قوله: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي} إلى قوله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
المعنى: أن يوسف لما أعلم إخوته بنفسه سألهم عن حال أبيهم، فقالوا: ذهب بصره من الحزن، فعند ذلك أعطتهم قميصه، وأمرهم أن يلقوه على وجه أبيهم.
{يَأْتِ بَصِيراً}: أي: يَعُدْ بصيراً.
{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}: أي: جيئوني بهم.
قيل: إن القميص كان من الجنة كساه الله عز وجل إبراهيم حين ألقي في النار.
وقوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} أي خرجت من مصر، يعني: عير بني(5/3630)
يعقوب.
ذكر أن الريح استأذنت ربها في أي تأتي يعقوب بريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها، فأتته [به] من مسيرة ثمان ليال، فقال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.
وقوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}، (أي): تسفهون، فتقولون: ذهب عقلك.
وقيل: معناه: لولا أن تكذبون، قاله السدي، والضحاك.
{قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم}، أي: في خطئك.
قال له ذلك من بقي من ولده.(5/3631)
ثم قال تعالى: مخبراً لنا عن حال يعقوب إذ جاءه البشير بأمر يوسف: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على / وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً}: وكان البشير يهوذا أخا يوسف لأبيه صلى الله عليه وسلم.
قال السدي: لما قال يوسف {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا}. قال يهوذا بن يعقوب: أنا ذهبت إلى يعقوب بالقميص، مُلَطَخاً بِالدَّم، وقلت له: إن يوسف أكله الذئب. فالآن أذهب أنا بالقميص، فأخبره أنه حي، فأفرحه كما أَحْزَنْتُهُ.
قوله: {أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ}: أي: (ألقى) القميص على وجه يعقوب، فعاد بصره، بعدما كان عمي. فقال لمن حضره من ولده:(5/3632)
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله (مَا لاَ تَعْلَمُونَ)} إنه سيرد علي ولدي يوسف ويجمع بيني وبينه، وأنتم لا تعلمون من ذلك شيئاً.
وروي أن يعقوب قال للبشير: " هون الله عليك غصص الموت "، كأنه استقال له أن يكافأه بشيء من عرض الدنيا.
وروي أيضاً عن سفيان، أنه قال: لما جاء البشير إلى يعقوب، قال له يعقوب: على أيِّ دين تركته؟ قال: (على دين) الإسلام، قال يعقوب: ألآن تمت النعمة وروي أنه لما التقى يوسف ويعقوب بأرض مصر، قال له يوسف: يا(5/3633)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
أبت بلغني (عنك) أنك بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، وحزنت حتى انحط ظهرك. قال يعقوب: قد كان ذلك يا بني. قال له يوسف: أفما كانت القيامة تجمعني وتجمعك؟ قال يعقوب: بلى، ولكن تخوفت أن تبدل دينك فلا تلقني.
قوله: {قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} إلى قوله: {العليم الحكيم} المعنى: قال له ولده: يا أبانا! أستغفر لنا ذنوبنا، أي: اسأل الله يستر علينا (ذنوبنا).
{إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}: أي: في فعلنا. قال لهم يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}، قيل: إنما أخر الاستغفار (لهم) إلى السحر.
وقيل: أخره إلى صلاة الليل، (و) قيل: أخر ذلك إلى ليلة الجمعة.(5/3634)
روي ذلك عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}: هو الستار ذنوب من تاب إليه، الرحيم بهم أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها إليه.
روي عن أنس بن مالك، رضي الله عنهـ، أنه قال: إن الله ( عز وجل) لأ لما جمع ليعقوب شمله، وأقر عينه، تذكر إخوة يوسف ما صنعوا بأخيهم، وبأبيهم (و) قالوا: إن كنا قد غفر لنا ما صنعنا، فكيف (لنا) بعفو ربنا؟ فاجتمعوا، وأتوا الشيخ. ويوسف إلى جنب أبيه، وقالوا: يا أبانا! أتيناك في أمر لم نَأْتِكَ في مثله قط. فرحمهم الشيخ، والأنبياء أرحم البرية، فقال: ما بكم يا بني؟ قالوا له: قد علمت ما كان(5/3635)
منا إليك، وإلى أخينا يوسف، وقد غفرت مالنا، وعفوكما لا يغني عنا شيئاً إن كان الله ( عز وجل) لم يعف عنا. ونريد أن تَدْعُوَ الله (لنا). فإذا جاءك الوحي بأنه قد عفا عنا قرت أعيننا وإلا فلا قرت لنا عين في الدنيا. فقام الشيخ، واستقبل القبلة، وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين. فدعا، وأمّنَ يوسف، فلم يُجَب فيهم إلى عشرين سنة. فلما كان رأس / العشرين سنة نزل جبريل على يعقوب، فقال له: إن الله عز وجل، بعثني إليك، (أبشرك) بأنه قد (أ) جاب دعوتك في ولدك، وإنه عفا عما صنعوا.
وقوله: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} إنما قال لهم يوسف ذلك بعد أن دخلوا عليه، وآوى يوسف إلى أبويه. فمعنى ذلك أن يوسف تلقى أباه، تكرمة له، قبل دخوله مصر، فآوى يوسف إلى أبويه: أي: ضمهما وقال لأبيه ومن معه: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}.
" كما ورد (أنهم) قاموا عشرين سنة، لا يقبل ذلك منهم، حتى لقي جبريل يعقوب، عليهما السلام. فعلّمه هذا الدعاء " يا رجاء المؤمنين! لا تخيب رجائي، يا غوث المؤمنين أغثني، يا حبيب التائبين عَلَيَّ، فاستجيب لهم. قال لهم يوسف ذلك بعد أن(5/3636)
دخلوها عليهم، لأنهم (فيما) ذكر السدي: تحملوا إلى يوسف بأهليهم وعيالهم، لأنه قال لهم: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] فلما قربوا من مصر كلهم يوسف الملك الذي فوقه، أن يخرج هو والمل (و) ك معه يتلقونهم. فلما دنا يوسف من يعقوب، ويعقوب يتمشى، وهو يتكئ على يهوذا ولده.
بدأه يعقوب بالسلام، وقال: السلام عليك يا ذاهباً بالأحزان عني.(5/3637)
وقيل: إن قوله إن شاء الله إنما هو استثناء من قول يعقوب لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} {إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}، ففي التلاوة تقديم وتأخير. وهو قول ابن جريج.
فأما قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} فإن السدي، قال: هما أبوه وخالته، وذلك أن أم يوسف ماتت، فتزوج يعقوب [بعدها] أختها، وهي خالة يوسف.
وقال ابن إسحاق: هما أبوه وأمه، ولم تكن أمه ماتت. وهذا القول اختيار الطبري.
ومعنى: {آمِنِينَ}: أي آمنين مما كنتم فيه في باديتكم من الجدب والقحط. والعرش: السرير في قول السدي، ومجاهد، والضحاك وقتادة، وابن عباس. وقال ابن زيد: هو مجلسه.(5/3638)
وقوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً}: قيل: المعنى إن أبا يوسف وأمه (وإخوته) خروا سجّدا ليوسف. وكان تحية القوم في ذلك الوقت السجود، قاله سفيان، وابن جريج، والضحاك، وقتادة، وهو مثل: " السلام عليكم " في هذه الأمة. جعل لهم عوضاً من السجود الذي كان تحته من قبلهم.
وقيل: كان ذلك انحناء، ولم يكن سقوطاً على الأرض. جعل الله منه السلام، والمصافحة عوضاً، كرامة من الله عز وجل لهذه الأمة، وهي تحية أهل الجَنَّة.
وقال ابن سحاق: الهاء في " له " لله، والمعنى: خرُّوا لله سجداً. وقوله: {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ}: أي: قال يوسف لأبيه: يا أبت! هذا السجود الذي سجدتموه لي الساعة، (هو) تأويل ما رأيته، وأنا صبي: إذ رأيت أحد عشر(5/3639)
كوكباً، والشمس والقمر ساجدين لي: فالأحد عشر (كوكباً) إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}: وكان بين رؤيا يوسف، وتأويلها أربعون سنة. وقيل: ثمانون سنة، قاله الحسن، قال: كان بين أن فارَقَ يعقوب يوسف (إلى أن اجتمعا ثمانون سنة)، لم يفارق الحزن قلب يعقوب، ولا الدمع خديه، ولم يكن على وجه الأرض يومئذ عبدٌ أحبَّ إلى الله عز وجل، من يعقوب. وألقى يوسف في الجب، وهو ابن سبع / عشر [ة] سنة، ومات بعد التقائه بيعقوب بثلاثة وعشرين سنة. ومات يوسف، وهو ابن مائة واثنتين وعشرين سنة.
وقال ابن إٍحاق: كان بين افتراق يوسف، إلى أن اجتمعا، ثماني(5/3640)
عشرة سنة، وأهل الكتاب يزعمون أن مدة الافتراق بينهما أربعون سنة. وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن اجتمع به سبع عشر [ة] سنة، ثم قبضه الله عز وجل إليه.
قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي}: معناه: أحسن الله بي، إذ أخرجني من السجن، وفي مجيئه بكم من البدو. وكان مسكن يعقوب وولده في قول قتادة بأرض كنعان: أهل مواش وبرية والبدو مصدر: بدا فلان، إذا صار بالبادية.
وروى أهل التواريخ أن يعقوب عليه السلام دخل مصر يوم دخلها هو، وأولاده، وأهلوهم، وبنوهم ف أقل من مائة، وخرجوا منها يوم خرجوا، إذ أخرجهم فرعون، وهم أكثر من ستمائة ألف، فقال فرعون:(5/3641)
{إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54].
وقال ابن مسعود: " دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنساناً، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ".
وحكى الطبري، وغيره أن يعقوب إنما سمي إسرائيل، لأن أخاه العَيْصُ تواعد (هـ) بالقتل، فخرج فراراً منه، فسرى الليل، وكمن النهار. فسمي إسرائيل، لسريه بالليل.
وقيل: إن إسرائيل اسم عبراني تفسيره: عبد الله.
وروى عاصم العمري أن يعقوب (على نبينا) عليه السلام، قال: يا رب! أذهبت بصري، وأذهبت ولدي، فما ترحمني؟ قال: بلى، وعزتي! إني لأرحمك، ولأردَّنَّ عليك بصرك، ولو كنت أمت ولدك، لأردنه عليك. إنما ابتليتك بهذه البلية أنك ذبحت(5/3642)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
جملاً، فوجد جارك ريحه فلم تطعمه منه. فكان منادي آل يعقوب إذا أصبح نادى في الناس: من كان مفطراً فليتغد عند آل يعقوب، ومن كان منكم صائماً فليفطر عند آل يعقوب.
قوله {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} - إلى قوله - {بالصالحين} قوله: {مِنَ الملك}، و {مِن تَأْوِيلِ (الأحاديث)}.
{مِن}: فيهما للتبعيض، على معنى: آتيتني بعض الملك، وعلمتني بعض التأويل. وقيل: " من " لا تؤنث الجنس، فيكون المعنى: قد آتيتني الملك، (وعلمتني تأويل الأحاديث) مثل: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]: لم يؤمروا باجتناب بعض الأوثان دون بعض، ولكن المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو الوثن.(5/3643)
والمعنى: أن يوسف صلى الله عليه وسلم قال بعدما جمع الله ( عز وجل) بينه وبين أبويه وإخوته. وتذكر ما بسط له من الدنيا والكرامة.
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك}: أي: ملك مصر.
{وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} يعني: عبارة الرؤيا، تقديراً لنعم الله عز وجل عليه، وشكراً له.
{أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة}: أي: أنت تثيبني في دنياي بنصرك على من عاداني، / وأرادني بسوء. وتثيبني في الآخرة بفضلك. ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما أمره في دنياي قد تناهى في التمام، علم أنه لا يكون بعد التميم إلا النقص والزوال، لأنها دار زوال. قال: فسأل الله أن يقبضه على الإسلام، ويلحقه بآبائه الصالحين، فقال: {تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}.(5/3644)
قال ابن عباس: لم يتمنَّ أحد من الأنبياء الموت قبل يوسف.
وذكر السدي أن يعقوب مات قبل يوسف، وأوصى إلى يوسف بأن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق. وكان قبر إسحاق بالشام. فلما مات عمل ما أمر، وحمل إلى الشام. فلما بلغوا (إلى) ذلك المكان، أقبل عيص أخو يعقوب، فمنعهم أن يدفنوه. ثم قال هشام (بن دان) بن يعقوب لبعض من كان بالحضرة: ما لكم لا تدفنون جدي؟ وكان هشام أصماً. فقيل له: إن عيصاً أخاه يمنعه من ذلك. فقال: أرونيه، فأروه إياه، فضربه ضربة (تساقطت) عيناه على لحد يعقوب، فدفنا في قبر واحد.(5/3645)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} إلى قوله {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}
معنى الآية: أن الله ( عز وجل) يقول لنبيه عليه السلام (إن) الذي اقتصصنا عليك من خبر يوسف، ويعقوب من أخبار الغيب الذي لم تشاهدها، ولا عاينتها يا محمد.
ثم قال: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ}: أي عند إخوة يوسف {إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} على إلقاء يوسف في الجب. وهو مكرهم بيوسف.
ثم قال (تعالى) {وَمَآ أَكْثَرُ الناس} يعني: مشركي قريش بمؤمنين، ولو حرصت على إيمانهم، ولكن الله ( عز وجل) يهدي من يشاء.
(ثم قال تعالى): {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}: أي: لست تسأل قريشاً يا محمدا أجراً) على دعائك إياهم إلى الإيمان. فيقولون لك: إنما تريد بدعائك(5/3646)
إيانا إلى الإيمان أخذ أموالنا، وإذا كان حالك أنك لا تريد منهم جزاء، فالواجب عليهم أن يعلموا أن دعاءك لهم نصيحة منك لهم، وأتباعاً لأمر ربك.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}: أي: ما الذي أرسلك به ربك إلا عظة للعالمين.
ثم قال (تعالى): {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا}: المعنى وكم يا محمد من علامة، ودلالة، وعبرة، وحجة في السماوات والأرض: كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال (والبحار) والنبات، وغير ذلك من آيتهما يُعاينونها، فيمرون عليها، وهم معرضون، لا يعتبرون بها، ولا يتفكرون بها. وفيما دلّت عليه من توحيد خالقها عز وجهه.(5/3647)
وقرأ السدي: {والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} (بالنصب).
(و) الوقف على هذه القراءة، على [السماوات] تمام.
[و] النصب على إضمار فعل بمنزلة: " زيد أنزلت عليه "، كأنه قال:
ويغشون (الأرض) يمرون عليها، أو " ويلامسون الأرض " يمرون عليها، وشبه ذلك من الإضمار. وهو مثل {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31].
وذكر الأخفش رفع " الأرض " على الابتداء، ويكون على / " السماوات " حسناً أيضاً على هذا.
وقد تقدم القول في {وَكَأَيِّن} [آل عمران: 146] من آل عمران.(5/3648)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
وقد ذكر الفراء أن " كائن " على قراءة ابن كثير: فاعل من " الكون " فيحسن الوقف على " النون "، لأنها لام الفعل.
وذكر الأخفش أن قوله: {سبيلي أَدْعُو إلى الله} [يوسف: 108]: تمام، وتابعه على ذلك أبو حاتم، وهو مروي عن نافع. ويبتدأ: {على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} [يوسف: 108] فيكون " أنا " ابتداء، والمجرور: الخبر.
وقال عبيدة: {أَنَاْ} [يوسف: 108] تأكيد للضمير في {أَدْعُو} [يوسف: 108]، فتكون {على بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] متصلاً بأدعو، ويكون التمام على هذا: {المشركين} [يوسف: 108].
قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} إلى قوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} المعنى: وما يقرأ أكثرهم، ولا الذين وصف إعراضهم عن الآيات بالله ( عز وجل) ، أنه خالفهم، ورازقهم {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} به: في عبادتهم الأوثان من دون الله(5/3649)
(سبحانه)، وفي زعمهم أن له ولداً. تعالى الله عن ذلك.
قال ابن عباس: إذا سألتهم من خلقكم؟، وخلق الحبال والبحار؟ قالوا: الله وهم يشركون به.
قال ابن زيد: ليس لأحد يعبد مع الله (سبحانه) غيره إلا وهو مؤمن بالله، ولكنه يشرك به.
ثم قال جل ذكره: {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ (الله)} (والمعنى: أفأمن هؤلاء الذين يشركون بالله أن تأتيهم غاشية من عذاب الله). ومعنى " الغاشية " المجللة: يجللهم عذابها، ومنه {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1].
{أَوْ تَأْتِيَهُمُ (الساعة) بَغْتَةً}: أي: فجأة، وهم مقيمون على كفرهم،(5/3650)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
وشركهم.
ثم قال تعالى: {قُلْ هذه سبيلي} الآية والمعنى: قل لهم يا محمد: هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله عز وجل، أدعوكم إلى الله [سبحانه] على بصيرة أي: على منهاج ظاهر، ويقين {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني}.
ثم قال: {وَسُبْحَانَ الله}: أي: وقل يا محمد سبحان الله: أي: تنزيهاً لله من شرككم، {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين}.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} إلى قوله {المجرمين}: والمعنى: ألم نرسل قبلك يا محمد إلا رجالاً يوحى إليهم بالأمر، والنهي، والدعاء إلى توحيد الله ( عز وجل) ، وهم {مِّنْ أَهْلِ القرى}، أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي. أي: لم نرسل نبياً، ولا ملائكة.
ثم قال (لهم): {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض}، أي: أفلم يسر المشركون في(5/3651)
الأرض، فيعتبرون بمن كان قبلهم من الأمم، الذين كذبوا رسلهم، ويخافون أن يهلكوا بذنوبهم كما هلك من كان قبلهم.
ثم قال: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ}: أي: الجنة خير لهم لو آمنوا من دار الدنيا.
ثم قال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل} الآية، ومعنى الآية: أنها مردودة على ما قبلها، وهو قوله (تعالى): {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} فالمعنى: حتى إذا استيأس الرسل الذين تقدم ذكرهم، من إيمان قومهم، وأيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم. جاء الرسل نصرنا. فيكون الفعلان " للرسل / " والضمير ان في " أنهم "، وجاءهم للرسل أيضاً، هذا على قراءة من شدَّد " كُذِّبوا. قال هذا التفسير: الحسن، وقتادة وتحتمل هذه القراءة معنىً آخر، وهو أن يكون المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم (من) قومهم، وظنوا أن من آمن من قومهم قد كذبوهم، لما لحقهم من البلاء والامتحان، جاء الرسل نصرنا.
(وهذا المعنى مروي من عائشة رضي الله عنها: (روى عروة عنها أنها) قالت: مَحَنَ المؤمنين بالبلاء، والضر حتى ظن الرسل أن المؤمنين قد كذبوهم لما لحقهم فيكون الظن بمعنى: الشك لا بمعنى اليقين.
فأما المعنى على قراءة من خفف " كذبوا " فعلى تقدير: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كُذِبُوا: أي: أخلفوا لما وعدوا به من النصر. جاء الرسل نصرُنا. فيكون الظن بمعنى: اليقين، وبمعنى: الشك، وتحتمل هذه القراءة أيضاً معنى آخر، وهو أن يكون التقدير: {حتى إِذَا استيأس الرسل} من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. ثم رَدَّ إلى ما لم يسم فاعله.(5/3652)
وقد قرأ مجاهد " كَذبُوا " بفتح الكاف والتخفيف، ومعناه: وأيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا في ردهم على الرسل.
وقيل: الظن بمعنى: الشك، وهو للمرسل إليهم. والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله، ( عز وجل) ، وفيما وعدهم به من النصر عليهم، والانتقام منهم.
وقيل: معناه: حتى إذا استيأٍ الرسل من عذاب الله (سبحانه) قومها المكذبين لها، وظنت الرسل أن قومها قد كذبوا، وافتروا على الله، (سبحانه)، بكفرهم، جاء الرسل نصرُنا.(5/3653)
فالظن على هذا بمعنى اليقين. وقيل: المعنى: استيأس الرسل أن يأتي قومهم العذاب، قال (هـ) مجاهد. وعن ابن عباس أن المعنى:(5/3654)
وظن الرسل أنهم قد كذبوا واستشهد على ذلك بقول نوح: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} [هود: 45]، وبقول: إبراهيم، {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] (فيكون) الظن بمعنى الشك. كأن الرسل دخلها شك كما يدخل سائر الخلق. وهذا تأويل فيه رجاء عظيم للمؤمنين، وفيه صعوبة لما أضيف إلى الرسل من الشك، والله أعلم بذلك كله.
وعن ابن عباس أيضاً في معنى ظن الرسل أنهم أخلفوا، وهو المعنى المتقدم. قال ابن عباس: كانوا بشراً، يريد أن الأنبياء يعتريهم ما يعتري البشر.
وروى ابن الزهري: (عن عروة بن الزبير) أنه سأل عائشة رضي الله عنها، عن هذه الآية،(5/3655)
وقرأها بالتشديد، وقال: قلت لها: قد استيقن (الرسل) أن قومهم قد (كذبوهم)، فقال (ت): أجل، قد استيقنوا ذلك. قلت: فلعلعل، وظنوا أنهم قد كذبوا بالتخفيف. فقالت معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها. قال: قلت: فما هذه الآية؟ فقالت / هم اتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم، وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ظن (من كذب بهم من قومهم)، أن أتباعهم الذين آمنوا بهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك.
ومعنى: {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ}، (أي): ننجي الرسل، ومن نشاء من عبادنا المؤمنين. وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} إلى آخر السورة المعنى: لقد كان في خبر يوسف وإخوته عبر لأهل الحجى، والعقول، يعتبرون بها، ويتعظون: كل هذا مخاطبة (ل) قريش، وتنبيه لهم على لطائف الله (سبحانه) في خلقه،(5/3656)
وصنعه، إذ ملك (يوسف صلى الله عليه وسلم ملك) مصر بعد أ (ن) بيع بالثمن الخسيس، وبعد طول حبسه، ثم جمع بينه وبين أبويه وإخوته.
{مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى}: أي: ليس لما قصصنا عليك (يا محمد) من خبرهم حديثاً يختلق.
{ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}: أي: هذا الذي قصصنا عليك يا محمد من خيرهم مصدق لما في التوراة، والإنجيل، والزبور، وشاهد له أنه حق كله.
ثم قال: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}: أي: تفصيل كل ما بالعباد إليه الحاجة، من بيان أمر الله ( عز وجل) ونهيه وحلاله وحرامه.
{وَهُدًى} لمن آمن به {وَرَحْمَةً}. والتقدير في نصبه {تَصْدِيقَ} و {تَفْصِيلَ} إنه على أضمار {كَانَ} أي: ولكن كان {تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً}: كله(5/3657)
نصب، عطف على خبر كان المضمرة.
ويجوز الرفع في جميع ذلك في الكلام على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه، وتفصيل (كل شيء)، ورحمة.
فإذا نصبت أضمرت كان، وفيها اسمها مُضْمَرٌ. وإذا رفعت أضمرت هو لا غير.(5/3658)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد: (مكية، وقيل: مدنية)
قال ابن جبير، ومجاهد: هي مكية.
وقال قتادة: هي مدنية إلا آية واحدة، قوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا)
[32] وعنه: إلا قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) [32]، فإنه نزل بمكة.(5/3659)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
وسئل ابن جبير عن قوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): أهو عبد الله بن سلام؟
فقال: كيف يكون عبد الله بن سلام، والسورة مكية وابن سلام إنما أسلم بالمدينة.
قوله: {المر} إلى قوله: {تُوقِنُونَ} قال ابن عباس معناها: أنا الله أرى، وقيل: معناه: أنا الله أعلم، وأرى.
وقوله: {المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ (مِن رَّبِّكَ الحق)} المعنى: يا محمد تلك الآيات التي قصصت عليك خ [برها] هي آيات الكتاب التي أنزلت قبل هذا الكتاب، (الذي أنزلته إليك). أعني: بذلك: التوراة والإنجيل، قاله قتادة،(5/3660)
ومجاهد.
وقيل: المعنى: هذه آيات الكتاب، يعني القرآن.
ثم ابتدأ فقال: {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق} على وجه الإخبار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم) أن الذي أنزل إليه، نزَّله الله عليه هو حق. فعلى هذا المعنى تقف على الكتاب، وعلى القول الأول، لا تقف عليه لأن الإخبار عن / الكتب الثلاثة أنها حق.
ثم قال (تعالى): {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق} أي: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك يا محمد! هو الحق أيضاً. فاعمل بما فيه، واعتصم به.
قاله قتادة، ومجاهد، فيكون على هذا القول (الكتاب): تمام حسن، ويكون " الذي " (مبتدأ والحق خبره. فإن قد أن " الذي " في موضع خفض على معنى:(5/3661)
وآية {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، كان الوقف على (ربك). وتبتدأ الحق، وترفعه على إضمار مبتدأ: أي: هو الحق، وذلك الحق.
ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} (أي: لا يؤمنون) بعد وضوح الحق بهذه الآيات.
ثم قال تعالى: {الذي رَفَعَ السماوات} الآية. المعنى: أنه أخبرنا تعالى ذكره أن من آياته أن رفع السماوات، فجعلها سقفاً للأرض {بِغَيْرِ عَمَدٍ} مرئية، فهي على عمد، ولكنها لا ترى، فيكون " ترونها " نعتاً للعمد. والهاء والألف تعود على العمد، هذا قول ابن عباس وعكرمة، (وهو قول مجاهد). وفي مصحف أبي(5/3662)
" ترونه "، رده على العمد. فهذا يدل على أن لها عمداً لا ترى. قال أبو محمد: وأقول إن عمدها القدرة، فهي لا ترى.
قال ابن عباس: عمدها قاف الجبل الأخضر.
وقال قتادة: ليستعلى عمد، بل خلقها عز وجل، بغير عمد، وهو أولى بظاهر النص، وأعظم في القدرة، ودل عليه قوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41]: فهذا يدل على أنها غير عمد يُمسكها، ولو كان لها عمد لم يمسكها العمد حتى يعتمد العمد على شيء آخر إلى ما لا نهاية له. فالقدرة نهاية ذلك كله. فيكون " ترونها " على هذا القول [حا] لاً من السماوات: (أي: خلق السماوات مرئية بغير عمد.(5/3663)
وتكون " الهاء " و " الألف " تعود على السماوات)، فإذا رجع [الضمير] على العمد احتمل أن يكون المعنى: بغير عمد مرئية البتة، فلا عمد لها.
ويحتمل أن يكون المعنى: بغير (عمد) مرئية لكم: أي: لا ترون العمد. وثَمَّ عمد لا ترى، وإذا رجع الضمير على " السماوات " فلا عمد ثم البتة.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: علا عليه علو قدرة، لا علو مكان.
ثم قال (تعالى): {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: لوقت معلوم، وذلك إلى فناء الدنيا، وقيام الساعة. فَتُكَوُّرُ الشمس حينئذ، ويُخسف القمر، وتنكدر النجوم التي سخرها في السماء لصالح عباده ومنافعهم فيعلمون(5/3664)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
بجريها عدد (السنين) والحساب، والأوقات، ويفرقون بين الليل والنهار. ودل تعالى بذلك أنها مخلوقات. إذ كُلٌ مدبر مملوك مقهور، لا يملك لنفسه نفعاً فيخلصها مما هي فيه.
ثم قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر}: أي: بحكمه وحده بغير شريك، ولا ظهير. ومن الأمر الذي دبره: خلق السماوات [ب] غير عمد، وسخر الشمس، والقمر والنجوم فيهن.
ثم قال: {يُفَصِّلُ الآيات}: أي: يبين آياته في كتابه لكم، لتقوم بها عليكم الحجة، إن لم تؤمنوا، ثم بين تعالى لِمَ فعل هذا؟ فقال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}: أي: لعلكم تصدقون بوعده، ووعيده، وتزدجرون عن عبادة الأوثان.
قوله {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} - إلى قوله - {يَعْقِلُونَ}: المعنى: أن الله، جل ذكره، بعد / أن بين آية السماوات والأرض، أنه هو بسط الأرض(5/3665)
طولاً وعرضاً.
قيل: إنها كانت مدورة فمدت.
ثابتة: أي: جبالاً، والرواسي جمع راسية، وهي الثابتة، وجعل فيها أنهاراً للسقي، والشرب، والعسل، وغير ذلك.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ}: أي: نوعين، والزوج: الواحد الذي له قرين، والزوج: الصنف، والنوع.
وقال أبو عبيدة، والفراء: والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى من كل صنف، وهذا خلاف ظاهر النص، لأنه تعالى إنما ذكر الثمرات، ولم يذكر الحيوان.
فالمعنى: من كل الثمرات جعل صنفين حلواً وحامضاً، وأحمر وأبيض، ونحو ذلك ودليله قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} أي: خلق الأصناف كلها من نبات الأرض ومن غيرها.
ثم قال: {يُغْشِى اليل النهار}: أي: يلبس الليل النهار، فذلك كله فيه: آية لمن تفكر فيه، واعتبر، فعلم أن العبادة لا تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء، ودبرها، دون(5/3666)
أن يملك ضراً، ولا نفعاً.
ثم قال تعالى: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} الآية والمعنى: وفي الأرض قطع متدانيات، وتت [ف] اضل في النبات، فمنها قطعة سبخة، لا تنبت شيئاً، وتجاوزها قطعة طيبة تنبت. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك.
وقيل: المعنى: وفي الأرض أمكنة متجاورة تسقى كلها بماء واحد، وهي مختلفة. طعام النبات والثمر: بعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها مُرٌّ، وبعضها سباخ لا تنبت شيئاً. ففي ذلك مع اتفاق شرب جميعها من ماء واحد، دلالة على نفاذ قدرة الله (تعالى)، وتعظيم سلطانه، و [ب] دائع تركيباته سبحانه.
وقيل: في (ال) كلام حذف، والمعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير(5/3667)
متجاورات، ثم حذف لعلم السامع.
وقيل: المتجاورات: المدن، وما كان عامراً، والتي غير متجاورات: الصحاري، وما كان غير عامر.
وقوله ({صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: معنى: صنوان: النخلة، والنخلتان، والثلاث، والأربع أصلهن واحد)، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: النخلة، والنخلتان، والأكثر كل واحدة في أصل متفرق، قاله البراء بن عازب.
وقال ابن عباس: معنى: الصنوان: النخلة التي يخرج من أصلها النخلات، فيحمل بعضه، ولا يحمل البعض. فيكون أصله واحداً، ورؤوسه متفرقة.
{وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: كل واحدة من النخل في أصل واحد.(5/3668)
ومعنى الآية عند الحسن، (رحمة الله عليه)، أنه مثل ربه الله [تعالى] لقلبو بني آدم، وذلك أن الأرض كانت في يد الرحمن طينة واحدة، فبسطها، وبطحها فصارت قط [عاً] متجازات. فينزل عليها الماء، فتخرج هذه زهرتها، وثمرتها، وشجرها، وتخرج هذه ملحها، وسبخها، وخبثها: وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو اختلف (ت) مياهها لقيل: إنما وقع الاختلاف لأجل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم.
وينزل عليهم من السماء ماءاً: يذكرهم فترق قلوب، وتخشع قلوب / وتخضع، وتقسو قلوب، وتلهو وتسهو.
قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلا قام من عنده بزيادة، أو نقصان. دليله قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82].(5/3669)
قال أبو محمد، رضي الله عنهـ، هذه الآية نبه الله تعالى (فيها على) قدرته وحكمته، وأنه المدير للأشياء كلها. وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها، وثمارها في وقت معلوم لا تتأخر عنه، ولا تتجاوزه. فدل ذلك على مدبر فعل ذلك. إذ لا يقدر الشجر على ذلك، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً، وليس من طبعه إلا التسفل. فدل ذلك على مصدعه صعَّده، إذ لا يقدر الماء والشجر على ذلك، ثم يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان، والثمرة كل بقسطه، وبقدر ما فيه صلاحه، فدل ذلك على مقسم قسَّمه، ومجز جزأه على العدل والقوام. ثم تختلف طعوم الثمرات والماء الواحد. والشجر جنس واحد. فدل ذلك على مدبر (دبر) ذلك، وأحكمه لا(5/3670)
يشبه المخلوقات: فهذا وأشباهه يدل على توحيد الخالق بالعقول، وإفراده بالقدرة على كل شيء وبالحكمة واللطف في أفعاله بالرسل.
إنما أكدت هذا الذي هو ظاهر للعقول من إيجاب التوحيد، وإثبات الصانع ما بينت الرسل من الشرائع.
وكل القراء كسر الصاد من " صِنوان "، إلا ما رواه (أ) بو شعيب: عن حفص، (عن عاصم) أنه قرأ بضم الصاد فيهما.
وهي لغة (بني) تميم، وقيس. والكسر لغة أهل الحجاز، وواحده صِنْوٌ(5/3671)
كقنوان، واحدهُ. قِنْوٌ، ونِسوانٌ: واحده نِسْوةٌ، ولا يعتد بالهاء.
وحكى سيبويه " قُنْوان " بالضم.
ثم قال تعالى: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ}: (أي: يسقى ذلك بماء واحد) من السماء، (و) بعضها يَفْضُلُ بعضاً في الأكل: كالحلو، والحامض، والمر.
قال ابن جبير: هي الأرض الواحدة يكون فيها الكوخ، والكمثري، والعنب الأبيض، والأسود، ويكون بعضها أكثر في الحمل من بعض.
والأكل: الثمر الذي يؤكل.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: أي: (إن) في اختلاف مطاعم هذه الشجر على ما تقدم وصفه لآيات: لعلامات لقوم يعقلون فيستدلون على أن(5/3672)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
الذي خالف بين هذه الشجر في الطعم والماء واحد، والأرض واحدة: لهو الذي يقدر على مخالفة أحوال خلقه، فيقسم لهذا هداية، ولهذا ضلالة، وتوفيقاً لهذا، وخذلاناً لهذا. ولو شاء لَسَوَّى بين (جميع) طعم ثمر الشجر كله. كذلك لو شاء [الله] لسوى بين جميع الخلق في الهداية، أو في الضلالة.
قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} - إلى قوله - {لَشَدِيدُ العقاب} المعنى: يا محمد من هؤلاء المشركين، فعجب إنكارهم للبعث.
قال قتادة: عجب الرحمن من تكذيبهم البعث بعد الموت.
وقال ابن زيد: المعنى: أن تعجب يا محمد من / تكذيبهم لك، وقد رأوا قدرة الله، عز وجل في الحياة، وفي جميع ما ضرب لهم به الأمثال، فعجباً إنكارهم(5/3673)
البعث. على معنى: فذلك من فعلهم مما يجب لكم أن تعجبوا منه.
وقد قرأ الكسائي {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] بضم التاء على أَحَدِ المعنيين المذكورين. ثم أخبرنا الله، عز وجل، أن من أنكر البعث، بعدما بين له من الآيات الدالات على قدرة الله، (سبحانه) فالأغلال في أعناقهم يوم القيامة، وأنهم أصحاب النار خالدين فيها.
وقيل: الأغلال: أعمالهم، كما تقول للرجل عمل عملاً سيئاً: " هذا غل في عنقك "، فسمي العمل السيء بالغل، لأنه سبب إلى الغل.
ثم قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة (قَبْلَ الحسنة)} الآية.
والمعنى: يستعجلك يا محمد، مشركو قومك بالعذاب والعقوبة، قبل الرخاء(5/3674)
والعافية، فيقولون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32]- الآية وهم يعلمون ما حل بالأمم قبلهم من العقوبات وهو قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات}: أي: العقوبات في الأمم الماضية على تكذيبهم الرسل، فهلك قوم بالخسف، وقوم بالرجفة، وقوم بالغرق في أشباه لذلك من العقوبات.
قال قتادة: المُثلاتُ: وقائع الله، عز وجل في الأمم الماضية.
وقال الشعبي: المثلات: القردة والخنازير.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ}: أي: لذو ستر على ذنوبهم، وهم ظالمون.(5/3675)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} (أي):، لمن مات مصراً على كفره.
ولما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا عفو الله، ورحمته، وتجاوزه من هنأ لأحَدٍ عيش، ولولا عاقبة، ووعيده، وعذابه لا تكل كل واحد ".
وقال ابن عباس: ما في كتاب الله، ( عز وجل) آية أرْجَى من قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ}.
(وقيل: المعنى) هو أن العبد يمحو الله بحسنته عشر سيئات، وإذا همّ بالحسنة كتب له، وإن لم يعملها.(5/3676)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} إلى قوله {المتعال} المعنى: أن الله عز وجل أخبرنا أن المشركين يقولون هلا أنزل على محمد آية، تدل على نبوته، وهي قوله: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12].
ثم قال الله عز وجل، لنبيه عليه السلام {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} لهم لا غير. ثم قال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}: أي: ولكل أمة هاد، يهديهم؛ إما إلى هدى، وإما إلى ضلال، دليله قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41]
وقال قتادة: معناه: ولكل قومٍ داعٍ يدعوهم إلى الله (سبحانه).
فأنت يا محمد داعي هؤلاء. فمحمد، عليه السلام، هو الهادي، وهو المنذر.
وقال ابن جبير: الهادي هو الله، ( عز وجل) ، والمعنى: إنما أنت يا محمد منذر،(5/3677)
ولكل قوم اهتدوا هادٍ يهديهم، وهو الله (تعالى).
(و) قال مجاهد: المنذر: النبي صلى الله عليه وسلم، والهادي / الله ( عز وجل) ، وقال (هـ) ابن عباس، والضحاك.
وقال أبو صالح: معناه: ولكل (قوم) قادة يقودونهم، إما إلى هدى، وإما إلى ضلال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهـ معناه: ولكل قوم داع يدعوهم إلى الله تعالى.
ثم قال تعالى (جل ذكره): {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الآية المعنى: إنه ذكر عن قريش أنهم ينكرون البعث، فذكرهم بعلمه {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى}، وما يزيد الرحم في حمله على التسعة أشهر، وما ينقص من التسع أشهر. وإِنَّ من عَلِمَ هذا(5/3678)
قادر على إعادتكم بعد موتكم، لأن الابتداء أصعب من الإعادة.
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}: أي: قدره، ودبره، فلا تنكروا البعث بعد الموت.
وقال قتادة: {تَغِيضُ الأرحام}: هو ما يسقط من الأولاد قبل التسعة.
وقال مجاهد: الغيض: النقصان، وذلك أن المرأة إذا أهرقت الدم، وهي حامل (انتقص) المولود، وإذا لم تهرق الدم، عظم الولد وتم. وقال أيضاً " (إذا حاضت) المرأة في حملها كان (ذلك) نقصاناً في ولدها. فإن زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماماً لما نَقْصَ من ولدها.
وقال الحسن: الغيض أن تضع لثمانية أشهر، وأقل الازدياد أن تز (يـ) ـد(5/3679)
على تسعة أشهر.
وعنه (أيضاً) أنه قال: (الغيض الذي يولد لغير تمام، وهو السِّقط. والاز (د) ياد: ما ولد لتمام كقوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]: أي تامة وغير تامة.
وقال ابن جبير: إذا حملت المرأة، ثم حاضت نقص ولدها، ثم تزداد في الحمل مقدار ما جاءها الدم فيه، فتزيد على تسعة أشهر مثل أيام الدم.
وقال عكرمة: غيضها: الحيض على الحمل، {وَمَا تَزْدَادُ} قال: تزداد كل يوم حاضته في حملها يوماً طاهراً في حملها حت تُوِفي عُدَّة حملها، وهي طاهرة.
وعن مجاهد أيضاً: غيضها دون التسعة أشهر، والزيادة فوق التسعة أشهر. واجتمع العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.(5/3680)
واختلفوا في أكثره. فقال قوم: أكثه سنتان، وهو مروي عن عائشة (رضي الله عنها).
وروي عن الضحاك بن مزاحم، وهرم بن حيان أنهما قاما كل واحد منهما في بطن أمه سنتين.
وقال الليث بن سعد: أكثر الحمل ثلاث سنين.
وحكي أن مولاةً لعمر بن عبد العزيز، (رضي الله عنهـ) حملت ثلاث سنين.
وقال الشافعي مدته: أربع سنين.(5/3681)
وروي عن مالك: مثل قول الشافعي (رضي الله عنهـ).
وروي أيضاً عن مالك أنه قال: خمس سنين، وحكي عن امرأة ابن عجلان أنها كانت تحمل خمس سنين.
وقال الزهري: المرأة تحمل ست سنين، وسبع سنين.
وقال قوم: لا يجوز التحديد (في هذا)، ومذهب الشافعي /، ومالك: أن الحامل تحيض.
وقال عطاء، والشعبي، والحكم، وحماد، وغيرهم: الحامل(5/3682)
لا تحيض، ولو حاضت ما جاز أن تستبرئ الأمة بحيضة، واستبراء الأمة (بحيضة) إجماع. فلا يعترض به على من أجاز حيض الحامل، لأن الأمة خرجت بالإجماع على استبرائها بحيضة.(5/3683)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
ثم قال تعالى (جل جلاله): {عَالِمُ الغيب والشهادة}: أي: يعلم ما غاب عن الأنظار، وما ظهر الكبير: أي: العظيم في ملكه.
{المتعال}: أي: المستعلي على جميع الأشياء بقدرته.
قوله: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} - إلى قوله - {مِن وَال}(5/3685)
قوله: سواء منكم، [هو مصدر]، مرفوع لأنه خبر ابتداء مقدم، ومن في الموضعين رفع بالابتداء، (لأن) " سواء " يطلب اسمين،، و " من " الثانية مرفوعة بالابتداء أيضاً، والتقدير: وسواء، كما تقول: رجل عدل، أي: ذو عدل، وتقول: سواء زيد وعمرو، أي: ذو سواء، زيد، وعمرو. إنما احتجت إلى هذا الإضمار، لأن سواء مصدر ولا يرتفع، إذا كان الاسم بعده إلا على حذف، لأن الخبر ليس هو الابتداء، إلا أن تضمر، فيكون الخبر هو الابتداء في المعنى، ويكون فيه ذكر يعود على الابتداء، إلا أن تضمر، فيكون الخبر هو الابتداء في المعنى، ويكون فيه ذكر يعود على الابتداء. وهذا في الحذف كما قالت الخنساء: " فإنما هي إقبال وإدبار: أي: ذات إقبال وإدبار. وإن كان في موضع هذا المصدر اسم فاعل، لم(5/3686)
يحتج إلى إضمار لأنه يكون هو الاسم المبتدأ، وليس المصدر هو الاسم المبتدأ. وقد كثر استعمالهم " لسواء "، حتى جرى مجرى أسماء الفاعلين، ويجوز أن يرتفع " سواء " على أن يكون في موضع " مستوٍ ". ويكون أيضاً خبراًَ مقدماً، كالأول، لكن يكون هو الابتداء (في) المعنى: فيستغنى (عند سيبويه)، عن الإضمار، وقبيح عند سيبويه أن يكون مبتدأ، لأن النكرات لا يبتدأ بها، وإن كانت اسماً لفاعلين لضعفها عن الفعل.
وقد جمعوا " سواء " على " أسوأ " قال الشاعر:
ترى القوم أسواء إذا جلسوا معاً ... وفي القوم زيفٌ مثل زيف الدراهم(5/3687)
ومعنى الآية: معتدل منكم عند الله عز وجل، أيها الناس: الذي أسرّ القول، والذي جهر به، والذي يستخفي بالليل، وبظلمته بمعصية الله (سبحانه)، والذي يظهر بالنهار في المعصية، وفي غيرها. كل ذلك عند الله (سبحانه) سواء لا يخفى عليه منه شيء.
ويقال: هو آمن في سِربه، وسَربه، بالفتح والكسر. والسارب في الآية: الظاهر وقيل: السارب المختفي، من قولهم: انسرب الوحش: إذا دخل كناسَهُ، قال (هـ) قطرب. وأكثر الناس على أن السارب: الظاهر، لأنه عديل المستخفي المتواري، والسارب: الظاهر.
ثم قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} - الآية: قيل المعنى (لله عز وجل) معقبات، وهي الملائكة / تتعاقب على ابن آدم بالليل والنهار.(5/3688)
فالهاء في " له " لله، والهاء في " يديه " و " خلفه: للمستخفي بالليل، والسارب بالنهار.
وقيل: الهاء في " له " تعود على " من " وهو المستخفي. ومعنى: من خلفه: " من وراء ظهره ".
وروي أن عثمان بن عفان: رضي الله عنهـ،
" سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه ملكاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ملك على يمينك على حسناتك، وهو أمين على الذي على شمالك. وإذا فعلت حسنة كتب عشراً. (و) إذا علمت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: اكتب، فيقول له: لعله يستغفر الله، ويتوب. فإذا لم يتب منها، قال: نعم اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ".
ما أقل مراقبته لله عز وجل، وأقل استحياء! يقول الله (تعالى):(5/3689)
{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، ومَلَكان من بين يديك، ومن خلفك. يقول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي (محمد) صلى الله عليه وسلم. وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيك، وملكان على عينيك: فهؤلاء عشرة أملاك، على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار، لأن ملائكة الليل ينيبون ملائكة النهار. فهؤلاء عشرون ملك [اً] على كا آدمي، وإبليس بالنهار، وولده بالليل.
ورُوي أنهم يجتمعون عند صلاة العصر، وصلاة الصبح.(5/3690)
وعن ابن عباس، وعكرمة: أن النعقبات (هنا): الحرس الذين يتعاقبون على الأمراء من بين أيديهم ومن خلفهم.
قال الضحاك: هو السلطان يتحرس من الله (سبحانه).
وقال عكرمة: هي المواكب بين يدي الأمراء وخلفهم.
فتكون الهاء في " له " على هذا التأويل " لمن ". وهو المستخفي بالليل، والسارب بالنهار. فوصفه الله ( عز وجل) ، أنه قد جعل لنفسه حرساً يحفظونه من حدوث أمر الله به، لجهله بالله (سبحانه). وإن ذلك لا يرد عنه شيئاً. وهذا القول اختيار الطبري: أن تكون المعقبات الحرس، والأعوان مع الأمراء، لأن " له " أقرب من ذكر المستخفي منه من ذكر الكبير المتعال. ويدل على صحة هذا المعنى قوله بعد ذلك: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}: أي: ليس ينفع هذا المذكور حرسه، وتعاقبهم عليه. ولا يرد عنه أمر الله (سبحانه) وقدره إذا أتاه. فالمعنى على(5/3691)
هذا: أن الله، عز وجل، ذكر أن أهل معصيته يستخفون بالمعاصي بالليل، ويظهرون بالنهار، ويتمنعون عند أنفسهم بالحرس، وتحرسهم، وتتعاقب عليهم.
ثم أخبرنا تعالى جل ذكره، أنه إذا / أراد بهم سوءاً، وعقوبة لم ينفعهم حرسهم شيئاً.
واختار النحاس القول الأول، وهو أن يكون (المعقبات): (الملائكة) على ما تقدم ذكره، واحتج فيه (بما) رواه أبو هريرة من حديث مالك بن أنس رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لله ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار "
الحديث.
ومن جعل (المعقبات) ملائكة كان قوله من أمر الله على وجهين:
أحدهما: أن تكون " من " بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله لهم أن يحفظوه(5/3692)
حتى يأتيه ما قدر عليه، فلا ينفع حفظهم إياه من قدر الله (سبحانه) إذا جاءهم (وهو) قول ابن جبير.
والثاني: أن يكون المعنى له معقبات من أمر الله: من بين يديه ومن خلفه، أي: المعقبات {مِنْ أَمْرِ الله} هي: {يَدَيْهِ}، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج. فتكون " من " متعلقة " بمعقبات "، وهي لبيان الجنس. وعلى القول الأول: " من " بمعنى الباء، وهي متعلقة بـ " يحفظونه ": أي: حفظهم له بأمر الله كان، وإنما يحفظونه مما لم يقدر عليه.
وقيل: أمر الله هنا: الجن، أي: يحفظونه من الجن. فتكون " من " على بابها متعلقة بالحفظ.
ومن جعل " المعقبات " حرس الملوك، وأعوانهم، كانت " من " على بابها متعلقة بـ " يحفظونه ". والمعنى: {يَحْفَظُونَهُ} من قدر الله على قولهم، وظنهم، ولا(5/3693)
ينفع ذلك لأن الله إذا أراد بقوم سوءاً فلا مرد له.
قال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام. فيما يأتيه منها شيء إلا قال له: وراءك.
وقال ابن جريج: معنى من أمر الله: أي: يحفظون عليه عمله، وتقديره: له ملائكة، تتعاقب عليه من أمر الله، هي: تحفظ عمله فيه. فحذف العمل، واتصل المضاف إليه (ب) يحفظونه مثل: {وَسْئَلِ القرية التي} [يوسف: 82]، ومثل: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: وعقابه واقع بهم، فحذف العقاب، وقامت الهاء مقامه، فقام ضمير مرفوع، لأن المحذوف مرفوعاً كان.
وقال الحسن: المعنى: يحفظونه عن أمر الله، " فمن " بمعنى " عن "،(5/3694)
والمعنى: حفظهم إياه عن أمر الله، كان، لا من عند أنفسهم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} إلى قوله - {وَالٍ}: الهاء في قوله: {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} تعود على السوء، وقيل: على الفرد، وقيل: تعود على الله. أي لا مرد (لله سبحانه: أي: لا راد له عن مراده. والمعنى: إن الله، ( عز وجل) لا يغير ما بإنسان من نقمة، وكراهة ابتدأه بها، حتى يغير ما بنفسه من ظلمه، وتعديه، وتركه ما أمر به. فإذا غير وقعت به العقوبة.
وقيل: المعنى: أن الله لا يغير ما بقوم مؤمنين صالحين، فيسميهم كافرين إلا أن يفعلوا ما ي (و) جب ذلك.
ويروى أن هذه الآيات {سواءا فَلاَ} - وما بعده - نزَلن في عامر بن الطفيل،(5/3695)
وأربد بن قيس، " وذلك أن وفد بني عامر / قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم عامر (بن الطفيل)، وأربد بن قيس. وكان في نفس عامر الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان من رؤساء قومه فقال عامر لأربد: إذا قدمنا على الرجل، فإني شاغل عنك وجهك. فإذا فعلت ذلك فَاعْلُهُ بالسيف. فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، قال عامر: يا محمد خالني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، فكرر عامر على النبي ذلك، والنبي يقول له: حتى تؤمن بالله وحده لا (شريك) له، وعامر ينتظر من أربد ما كان به، وجعل أربد لا يجيز شيئاً. فلما رأى عامر أربد لا يفعل شيئاً، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يخاليه، قال: (النبي) عليه السلام: والله لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً، فلما ولى (من عند) النبي. قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين(5/3696)
ما كنت أمرتك به. والله ما كان على وجه الأرض رجل أخوف عندي منك على نفسي منك: وأيم الله (لا أخافك بعد اليوم أبداً. قال له أربد: ويلك لا تعجل علي وأيم الله) ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك، فأضربك بالسيف. فخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ( عز وجل) على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فمات في بين امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر! أغُدَّةً كَغُدَةٍ البعير، وموتاً في بيت امرأة من بني سلول، ثم خرج أصحابه بعده حتى قدموا أرض بني عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا (شيء) لله! لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء، لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج أربد بعد مقالته هذه بيوم، أو(5/3697)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
يومين، معه جمل له يبيعه، فأرسل الله ( عز وجل) عليه صاعقة، فأحرقته وجمله ".
قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} البرق: مخاريق من حديد بأيد (ي) الملائكة تضرب بها. هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وقال مجاهد: الملائكة تضرب بأجنحتها، فمن ذلك البرق. وقد تقدم شرح هذا بأشبع من هذا. فالمعنى: الله يريكم البرق خوفاً للمسافر من أذاه، وطمعاً للمقيم لينتفع (به)، والبرق هنا على قول ابن عباس: الماء.(5/3698)
وقيل: الآية مخصوصة، والمعنى: خوفاً لمن لا يحتاج إليه كمصر، وشبهها التي لا تحتاج إلى المطر. وكونه فيها ضر عليها، " وطمعاً " لمن يحتاج إليه، ويرجو الانتفاع به.
وقيل: الآية على العموم لكل من خاف، أو طمع.
وقل: المعنى: خوفاً من الصواعق (وطمعاً بالمطر).
" وقال الضحاك: أما الخوف فما يرسل معه من الصواعق "، وأما الطمع فما نرجو فيه من الغيث.
ثم قال (تعالى): {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال}: بالمطر، أي: ويثير السحاب الثقال بالمطر، وبيديه. يقال: أنشأ الله السحاب / أبداه، والسحاب: جمع(5/3699)
سحابة. ولذلك قال (الثقال) ولو كان موحداً لقال: الثقيل.
ثم قال (تعالى): {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} قال مجاهد: الرعد: ملك يزجر السحاب.
وقال أبو صالح: الرعد (ملك) يسبح.
وقال شهر بن حوشب: الرعد: ملك موكل بالسحاب، يسوقه كما يسوق الحاجي الإبل. فكلما خالفته سحابة صاح (بها)، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه. فذلك الصواعق الذي رأيتم.(5/3700)
وقال ابن عباس: الرعد: ملك اسمه (الرعد)، (وهو) الذي تسمعون صوته. وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وكان يقول: الرعد: ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه.
وروى مجاهد، عن ابن عباس (أنه قال): الرعد، (وهو) الذي تسمعون صوته. وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وكان يقول: الرعد: ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه.
وروى مجاهد، عن ابن عباس (أنه قال): الرعد (اسم ملك) وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره للسحاب اضطر السحاب من خوفه فيحتك. تخرج الصواعق من فيه.
وسئل علي رضي الله عنهـ عن الرعد: فقال: هو ملك، وسئل عن البرق،(5/3701)
(فقال): مخاريق بأيدي الملائكة تزجر السحاب.
وعن الضحاك أنه قال: الذي يسمع تسبيح الملك، واسمه الرعد.
قال مجاهد: الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته.
وعن ابن عباس، رضي الله عنهـ أن الرعد: ريح يختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منها ذلك الصوت.
وعنه أيضاً أنه، قال: البرق: ملك يتراءى. وأكثر المفسرين على أنه ملك كما تقدم.
" وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سمع الرعد الشديد، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا(5/3702)
تهلكنا بعذابك، وعاقبنا قبل ذلك "
وهذا الدعاء يدل على أنه صوت ملك.
" وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول إذا سمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده " فهذا يدل على أن الرعد ملك.
وكان ابن عباس، وعلي (ضي الله عنهما) يقولان إذا سمعا الرعد: سبحان من سبحت له، فهذا يدل على أنه ملك.
ومعنى {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ}: أي: " يعظم الله ويمجده، ويثنى عليه بصفاته. وحكي عن العرب سبحان من يسبح الرعد بحمده، يريدون (من) فأقعوا (ما)، ما " مَنْ ".
ثم قال: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ}: أي: وتسبح الملائكة من خيفته، أي: من رهبته.
وروي أن خوف الملائكة ليس كخوف بني آدم، لأن طائفة من الملائكة(5/3703)
ساجدون، منذ خلقوا، باكون، ومنهم طائفة يسبحون ويهللون، لا يعرف أحدهم من على يمينه، ولا من على شماله، ولا يشغلهم عن عبادة الله، ( عز وجل) شيء.
قال الله عز وجل عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]: فعلى قدر أعمالهم واجتهادهم، كذلك خوفهم.
وقوله: {وَيُرْسِلُ الصواعق}: الصاعقة من الناؤ التي تخرج من فم الرعد / إذا غضب، فقد تقدم ذكرها بأشبع من هذا في سورة البقرة.
وهذه الآية نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أخبرني عن ربك: من أي شيء هو؟ من لؤلؤ أو ياقوت. فجاءت صاعقة، فأخذته فأنزل الله عز وجل: { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ}.
ودل على هذا القول قوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله}: فالضمير في " هم "(5/3704)
لليهودي، وجمع لأن له أتباعاً على قوله ومذهبه.
وروي أنها نزلت في رجل من فراعنة العرب، وهو أربد، وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى الله، فقال: وما الله؟ أمِنْ ذهب هو أم مِنْ فضةٍ؟ أمْ مِن نُحاس؟ فأخبر النبي عليه السلام بذلك. فدعاه ثانية، فبينما النبي عليه السلام، يراجع الكافر في الدعاء إلى الله سبحانه، إذ بعث الله سَحَابَةً بِحُيال رأس الكافر، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله عز وجل: { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} الآية.
وقال قتادة: (أنكر رجل) القرآن، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله، ( عز وجل) عليه صاعقة، فأهلكته، فنزلت الآية فيه.(5/3705)
وقال ابن جريج: نزلت في أَرْبَد أخي لبيد بن ربيعة، هَمَّ هو، وعامر بن الطفيل بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. فبعث الله تعالى عليه صاعقة فاحترق.
ومعنى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال علي (بن أبي طالب) عليه السلام: " شديد الأخذ ".
وقال مجاهد: ( رحمه الله) : " شديد القوة ".
وقال قتادة (رحمة الله عليه): المحال: " القوة والحيلة ".
وقال ابن عباس (رضوان الله عليه): " شديد الحَوْل ".
وقال الحسن: (نضر الله وجهه): شديد المكر، من قولهم: مَحَل به: إذا(5/3706)
مكر به، ومن جعله من الحوْل، والحيلة، فالأشبه بقراءته أن يقرأ بفتح الميم، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها إلا بفتح الميم نحو: محالة، ومنه قولهم: " المرء يعجز لا محالة ". وبه قرأ الأعرج فأما من كسر الميم فهو مصدر من: " ما حلت فلاناً، مماحلة، ومحالاً، فاللماحلة بعيدة المعنى من الحيلة.
فإذا جعلته من الحول فوزنه " مِفْعَلٌ "، وأصله " مِحْوَل " ثم قلبت حركة الواو على الحاء، وقلبت الواو ألفاً كاعتلال " مقال " و " محال ". وإن جعلته من " مُحال " فوزنه " فُعال " لا اعتلال فيه.(5/3707)
ثم قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} وهي شهادة ألا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
وقال علي رضي الله عنهـ: هي التوحيد.
وقال ابن زيد رحمه الله: هي لا إله إلا الله، ليست تنبغي لأحد إلا الله.
ثم قال تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} الآية: أي: والآلهو التي يدعوها المشركون من دون الله (سبحانه) لا تجيب من دعاها بشيء من النفع، والضر، ولا ينتفع / بها إى كما ينتفع الذي يبسط كفيه إلى الماء. ليأتيه من غير أن يرفعه، فلا هو ببالغ فاه، ولا نافعه كذلك. هذه الآية التي يدعون هؤلاء العرب. فضرب المثل لمن طلب ما لا يبلغه بالقابض على الماء.(5/3708)
قال علي، رضي الله عنهـ " معناه ": كالرجل العطشان مد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه، وما هو ببالغه، ولا نافعه، كذلك هذا الذي يدعو من دون الله.
وقال مجاهد (رضي الله عنهـ) معناه: يدعو الماء بلسانهن ويشير إليه بيده، فلا يأتيه أبداً، أي: فهذا الذي يدعو من دون الله، هو الوثن، وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبداً، ولا يسوق إليه خيراً، ولا يدفع عنه شراً: كمثل هذا (الذي) بسط ذراعيه إلى الماء {لِيَبْلُغَ فَاهُ} (وما) يبلغ فاه أبداً.
وروي عن ابن عباس أن المعنى: هذا الذي يدعو الآلهة، كمثل من بسط كفيه إلى الماء، ليتناول خياله فيه، وما هو ببالغه أبداً، ولا يأخذه.
وقيل المعنى: إن هؤلاء الذين يعبدون الآلهة لا ينتفعون بها، إلا كما ينتفع من بسط كفيه إلى الماء يدعوه ليأتيه، وهو لا يأتيه أبداً، ولا ينتفع به. فكذلك لا(5/3709)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
ينتفع بعبادة الآلهة. وهذا كله ضرب مثلاً لمن يعبد غير الله، جل ذكره.
(وقيل معنى): مثل من يعبد الأصنام كمثل من يفيض على الماء، ليبلغ فاه، فلا يحصل له نفع من ذلك.
قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} إلى قوله {الواحد القهار}: المعنى فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون الآلهة من دون الله من الطاعة (والإخلاص لله عز وجل) فلله عز وجل، يسجدُ من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من المؤمنين طوعاً)، ويسحد (الكافرون) كرهاً، حين يكرهون على ذلك. فيدخلون في الدين كارهين، قاله قتادة.
وعنه أنه قال: أما المؤمن يسجد طائعاً، وأما الكافر فيسجد كارهاً، فيسجد لله حين لا ينفعه.(5/3710)
وقال ابن زيد: {وَكَرْهاً}: من لم يدخل الإسلام إلا بالسيف، فأول دخوله كرهاً، {طَوْعاً}: من دخله طائعاً، أي: من أسلم طائعاً.
وقال الزجاج: جائز أن يكون السجود بالخضوع لله. فمن الناس من يخضع، ويقبل أمر الله (سبحانه) طائعاً، ومنهم من يقبله وإن كان كارهاً (له).
وقيل: معناه: إن عباد الله الصالحين يسجدون لله، والكفار يسجدون خوف القتل.
وقيل: المعنى: وبعض من في الأرض يسجد، وبعض المؤمنين طائعين، قد سهل ذلك عليهم، وبعضهم يكره نفسه على ذلك لله (سبحانه).
وقيل: السجود هنا الخضوع لتدبير الله عز وجل في جميع خلقه: من صحتهم، وسقمهم، وتصرفهم، (فهم) منقادون لذلك أحبوا، أو كرهوا لا حيلة لهم في(5/3711)
دفع ذلك. وظلالهم أيضاً منقادة لتدبير الله ( عز وجل) وإجرائه الشمس / بزيادة الظل، ونقصانه وزواله.
وقال ابن عباس: يعني: حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه، وشماله.
قال أبو العالية: ما في السماء من شمس، ولا قمر، ولا نجم يقع لله (سبحانه) ساجداً حين يغيب، فما ينصرف حتى يؤذن له.
وقال مجاهد: ظل المؤمنين يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعاً، وهو كاره.
والآصال: جمع أصل، والأصل (جمع أصيل) كرغيف ورغف. والأصيل: ما بين العصر إلى مغرب الشمس.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض} الآية والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء(5/3712)
المشركين بالله، من رب السماوات والأرض، ومدبرها؟ قل: الله أتى الجواب والسؤال فيه من جهة واحدة. وذلك على تقدير أنهم لما قيل لهم: من رب السماوات والأرض، (ومدبرها). جهلوا الجواب فقالوا: ومن هو؟ فقيل لهم الله: ومثله: {مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله} [يونس: 34].
وهو كثير في القرآن: يأتي السؤال والجواب من جهة (واحدة، من جهة السائل. وإنما حق الجواب أن يكون من جهة) السؤال، لكن أتى الجواب) من جهة السائل (الجوابِ: على معنى أنهم جعلوا الجواب، وطلبوه من جهة السائل): فأعلمهم به السائل، فصار السؤال الجواب من جهة واحدة.
ثم أمر أن يقول لهم: {أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً}(5/3713)
يجتلبونه لها، {وَلاَ ضَرّاً} يدفعونه عنها، وهي إذا لم تمتلك ذلك لأنفسها، تكون أضعف عن ملكه لغيرها، فعبدتم من هذه صفته، وتركتم (عبادة) من بيده النفع والضر، والموت والحياة.
(ثم) ضرب لهم مثلاً، فقال: قل لهم يا محمد {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} يريد به المؤمن والكافر.
{أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور}: (أي): الإيمان والكفر، فالظلمة طرف الكفر، والنور طرف الإيمان.
قال مجاهد: الظلمات والنور: " الهدى والضلالة ".
ثم قال تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} الآية المعنى: قل امحمد لهؤلاء المشركين: أخلق أوثانكم خلقاً كخلق الله، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت،(5/3714)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
وخلق الله (سبحانه)، فجعلتموها شركاء لله من أجل ذلك.
ثم قال (تعالى): {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: (أي: قل لهم يا محمد: إذا أقروا أن أوثانهم لا تخلق: فالله، {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ})، فهو أحق بالعبادة ممن لا يخلق، ولا يضر، ولا ينفع.
{وَهُوَ الواحد القهار}: أي: " الفرد الذي لا ثاني له "، {القهار}: أي: (القهار) بقدرته كل شيء، ولا يقهره شيء.
قوله (تعالى): {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} إلى قوله {وَبِئْسَ المهاد}: هذا مثل ضربه الله تعالى (جل ذكره) للحق والباطل، والإيمان به والكفر. فالمعنى: مثل الحق في ثباته، (والكفر) في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله،(5/3715)
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}: (أي: فاجتمعت الأودية، الماء بقدر مثلها الكبير بكبره، والصغير بصغره.
{فاحتمل السيل زَبَداً}: أي: " عالياً على الماء ".
فهذا أحد مثلي الحق والباطل. فأما النافع / فهو الحق، والزبد: الرائب الذي لا ينفع هو الباطل.
وتحقيق معنى هذا المثل: أن الماء المنزل مَثَلٌ للقرآن المنزل.
فالماء يعم نفعه كل أرض طيبة، والقرآن يعم نفعه كل قلب طيب، والأودية مثل للقلوب، لأن الأودية يستكن فيها الماء. كذلك والإيمان والقرآن يستكنان في(5/3716)
قلوب المؤمنين. والسيل مثل للأهواء العارضة في القلوب، لأن الهزى يغلب على القلوب، كما يغلب السيل بما حمل من الماء وغيره. والزبد مثل للباطل، وما يستقر من الماء الخالص (مثل لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان، فينتفع بذلك كما تنتفع الأرض بما يستقر من الماء الخالص) فيها. ومثله المثل الثاني: ما يتحصل من جيد الذهب، والفضة، والحديد والنحاس مَثَلٌ لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان.
ثم ضرب مثلاً آخر أيضاً للحق والباطل، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار} إلى آخر المثل: أي: والحق والباطل كمثل فضة، أو ذهب، أو نحاس، يوقد عليه النس في النار، في طلب حلية يتخذونها، أو متاع. وذلك من النحاس: وهي الأواني التي تتخذ منه، (و) من الرصاص والحديد فيكون له(5/3717)
زبداً، مثل زبد السيل، وزبده: خبثه الذي لا ينتفع به، فالذي يُصَفّى من هذه الأشياء هو مثل الحق ينتفع بهما. والخبث مثل الباطل لا ينتفع بهما، ثم بين لنا، في أي (شيء) ضربت هذه الأمثال فقال:
{كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}: أي: يضرب مثل الحق والباطل، ثم حذف المضاف. " والحق ": الإيمان، و " الباطل ": الكفر: وكما أن زيد السيل، وخبث ما يوقد عليه في النار لا ينتفع به، كذلك لا ينتفع الكافر بعمله عند حاجته إليه. وكما ينتفع بالماء، وبما يوقد عليه في النار، كذلك ينتفع المؤمن بإيمانه عند حاجته إليه.
وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَآءً}: أي: يذهب بدفع الريح، وقذف الماء به. فيتعلق في جوانب الوادي، وبالأشجار. وهو من: أَجْفَأتِ القدر: إذا رمت بزبدها، وهو الغشاء: فيقول: إن الباطل، وإن ظهر على الحق في بعض الأشياء(5/3718)
وعلا، يتمحق، ويذهب. وتكون العاقبة للحق. كما أن هذا الزبد، وإن علا (على الماء)، فإنه يذهب ويتمحق، وكذلك الخبث من الحديد، وغيره وإن علا فإنه يذهب ويتمحق، ويطرحه الكير، ويبقى من الماء وغيره ما ينتفع به.
كذلك يبقى الحق ويثبت " هذا (كله) معنى قول ابن عباس، وتفسيره (رحمة الله عليه) قال: " هو مَثَلٌ ضربه الله للناس عند نزول القرآن، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينتفع به.
(فالزبد): الشك في الله، (والذي يمكث في الأرض): اليقين.
وروي (عنه) أنه قال: هو مثل ضرب (هـ) الله للعمل الصالح، والعمل السوء: فالصالح كالماء الذي يمكث في الأرض، ينتفع به / الناس كذلك ينتفع(5/3719)
أصحاب العمل الصالح به في الآخرة، ما تحت الخبث من الرصاص، والحديد، والذهب ينتفع به، مثل العمل الصالح.
وأما الزبد منها فلا ينتفع به، كما لا ينتفع أصحاب العمل السوء (بعملهم).
وقرأ رُؤبة: " فيذهب جُفالاً ". يقال: جفأت الريح السحاب: إذا قطعته،(5/3720)
وأذهبته.
ثم قال تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} أي: (الحسنى) للذين آمنوا حين دعوا إلى الإيمان الحسنى، وهي الجنة، قاله قتادة.
وقيل: المعنى: جزاء الحسنى {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} أي: لم يؤمنوا حين دعوا أن لهم ملك ما في الأرض، ومثله معه ما قبل منهم فداء لهم من العقوبة.
ومعنى: {أولئك لَهُمْ سواء الحساب} " يأخذهم بذنوبهم كلها، فلا يغفر لهم منها شيئاً.
قال شهر بن حوشب: سوء الحساب: ألا يتجاوز لهم عن شيء.
وقال ابن عباس: سو الحساب، المناقشة بالأعمال.
وقال ابن وهب: عن إبراهيم النخعي أنه قال: سوء الحساب: أن يحاسب بذنبه(5/3721)
ثم لا يغفر له.
وروي في الآثار: من نوقش الحساب هلك.
وقيل: سوء الحساب: المناقشة، والتوبيخ (وإحباط) الحسنات بالسيآت. وقيل: سوء الحساب: أشده، وهو لا يغفر لهم شيئاً من ذنوبهم، وهم الكفار ومعنى {وَبِئْسَ المهاد}: أي: بئس الفراش، والغطاء جهنم لمن هي مأواه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نوقش الحساب هلك) (أو(5/3722)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
قال): " عذب ".
قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} إلى قوله: {عقبى الدار} المعنى: الذي يؤمن بما جئت به يا محمد، كمن لا يؤمن (وهو) الأعمى عن الإيمان، لا يبصره بقلبه.
قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله عز وجل ووعوه والأعمى: الذي عمي عن الخير، فلا يبصره. وإنما يتعظ بآيات الله (سبحانه)، ويتذكر بها، وينتفع بها أهل العقول، والحجى.
ثم بين تعالى ذكره أولي الألباب ووصفهم فقال: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} الآية(5/3723)
أي: هم " الذين يوفون بوصية الله، ( عز وجل) التي أوصاهم بها. والعهد: الإيمان بالله، (سبحانه) وملائكته وكتبه ورسله، (سبحانه) واليوم الآخر، وما جاءت به الرسل. وأن يطيعوه، ويتقوه.
{وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق}: أي: لا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه (سبحانه): فيعمل بغير ما أمرهم به.
ثم زادهم بياناً ومدحاً، فقال: {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}: يعني: يصلون الرحم التي أمر الله، عز وجل بوصلها، وهم مع ذلك {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}: أي: يخافون المناقشة يوم القيامة، وألا يصفح لهم عن ذنب. فهم وجلون لذلك، خَائِفُونَ.
و" إن " في قوله (أن يوصل) / في موضع خفض على البدل من الهاء في " به ".(5/3724)
وقيل: معنى: {لَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}: لا يفرقون بين أحد من رسله، ولا كتبه، يؤمنون بالكل، ويقبلون أمر الله، عز وجل، ونهيه (جلت عظمته).
ثم بين تعالى أمر نوع آخر منهم، فقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: صبروا على الوفاء بإقامة الطاعة، والانتهاء عن المنكر من أجل ابتغاء وجه الله ( عز وجل) ، أي: طلب تعظيم الله.
{وَأَقَامُواْ الصلاة}: أي: أدوها بفروضها، وحدودها في أوقاتها.
{وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً}: أي: أدوا الزكاة الزكاة من أموالهم، وما يجب عليهم سراً، وغير سر.
قال ابن عباس: النفقة هنا: الزكاة.
ثم قال: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} أي: " يدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس بالإحسان إليهم ".(5/3725)
وقال ابن زيد: معناه: " يدفعون الشر بالخير ".
وقيل: المعنى: " إنهم إذا همّوا بالسيئة فكروا، فرجعوا عنها، واسغفروا. {أولئك لَهُمْ عقبى الدار}: أي: الذين تقدمت صفتهم لهم عقبى طاعة ربهم في الدنيا، دار الجنان في الآخرة.
وقيل: المعنى: أعقبهم الله عز وجل جار الجنان من دارهم في النار، لو لم يكونوا مؤمنين.
وقيل: {بالحسنة السيئة} بشهادة أن لا إله إلا الله (وتجنب) (الشرك بالله).(5/3726)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
وقال عطاء: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة}: السلام.
ويروى أن قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهـ، وفي أبي جهل بن هشام لعنه الله.
ثم قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} إلى قوله {وَحُسْنُ مَآبٍ}. معناه: أنه فسر {عقبى الدار} ما هي؟ فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: جنات إقامة لاظَعْنَ معها، بدخلها هم {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}: أي: من عمل صالحاً منهم.
قال ابن مسعود: جنات عدن: بُطنانُ الجنة.
قال ابن مسعود: جنات عدن: بُطنانُ الجنة.
قال أبو مِجْلَز: علم الله ( عز وجل) أن المؤمن يحب أن يجمع له شمله، فجمعهم الله ( عز وجل) ، له في الآخرة.(5/3727)
وقال ابن جريج: معناه من آمن في الدنيا.
ثم أخبرنا الله ( عز وجل) عن حالهم إذا دخلوا الجنة، فقال: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} يقولون: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} على طاعة الله ( عز وجل) في الدنيا. {فَنِعْمَ عقبى الدار}. وسلام عليكم: خبر، معناه: الدعاء لهم، أي: سلمكم الله بما صبرتم، وليس هو تحية، لأن التحية ليست بجزاء للصبر. ولكن دعاء الملائكة لهم بالسلامة جزاء الصبر. والخبر: يأتي بمعنى الدعاء، كثير في القرآن والكلام.
وقوله: {فَنِعْمَ عقبى الدار}: الخبر محذوف، وتقديره: فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه.
وذكر أن لجنات عدن خمسة آلاف باب.
روي عن ابن عمر (و) أنه قال: إن في الجنة قصراً، يقال له: عدن، حوله(5/3728)
البروج والمروج، فيه خمسة آلاف، (باب، على كل باب خمسة آلاف) حِبْرة، لا يدخله إلا نبي، أو صديق، أو شهيد.
وقال الضحاك: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها.
ومعنى: {بِمَا صَبَرْتُمْ}: أي بصبركم في الدنيا على عمل الطاعات، وعلى الانتهاء عن المعاصي. وهذا هو أفضل الصبر، أن يصبر الإنسان على فعل ما أمر (هـ) الله به، وعلى ترك ما نهاه (الله) عنه.
وروي أن قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 19] الآية، نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهـ، وفي أبي جهل، لعنه الله.
ثم أخبرنا الله بحال الكفار، بعد إخباره لنا بحال المؤمنين، فقال:(5/3729)
{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق} [الرعد: 20]: أي: ويخالفون ما أمرهم الله، عز وجل، من بعد ما وثقوا على أنفسهم لله ( عز وجل) ، أن يعلموا بما عهد إليهم، إذ قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172].
ثم قال (تعالى): {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} وهو الرحم وقيل: يفرقون بين الإيمان بجميع الأنبياء، فيؤمنوا ببعض (ويكفرون ببعض). والله أمرنا بالإيمان بجميعهم.
قوله: و {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} أي: يعملون فيها المعاصي.
{أولئك لَهُمُ اللعنة} أي: لهم البعد من رحمة الله.
{وَلَهُمْ سواء الدار} أي: لهم ما يسوؤهم من الدار الآخرة، وهي النار،(5/3730)
أعاذنا الله منها. وقيل معناه: سوء العاقبة.
ثم قال تعالى ذكره: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ (وَيَقَدِرُ)} أي: يوسع على من (يشاء، ويضيق على من) يشاء.
{وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا} أي: فرح المشركون بما وسع عليهم في الدنيا، ولم يُفكروا أن متاع الدنيا عند متاع الآخرة قليل.
وهذه الآية فيها تقديم وتأخير، لأن {وَفَرِحُواْ} (معطوف على {وَيُفْسِدُونَ} في الأرض).
وقوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} إلى قوله: {الدار}: مقدم قبل {وَفَرِحُواْ} وتقدير الآية: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:(5/3731)
أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار ثم ابتدأ: {الله يَبْسُطُ الرزق}.
ثم قال تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي: تقول قريش: هلاّ أنزل عليه آية تدل على نبوته، كما قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، فأخبر عنهم بما يشترطون، ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم) : قل لهم يا محمد: {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: يخذل من يشاء، فيصرفه عن الهدى، ويوفق من يشاء، فيرجع إليه، ويتوب من كُفره.
فالهاء في " إليه " تعود على الحق، وقيل: على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: على الإسلام. وقيل: على الله، جل ذكره، على معنى (إلى) دينه.
ثم بَيّن تعالى من ينيب إليه {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله}: أي: الذين(5/3732)
يتُوبون هم الذين آمنوا، وتطمئن قلوبهم بذكر الله: أي: تسكُنُ، وتستأنس بذكر الله.
قال سفي (ا) ن بن عيينة: {الذين آمَنُواْ} تطمئن قلوبهم / بأمر الله وقضائه.
وقال قتادة: هشت قلوبهم إلى ذكر الله، فاستأنست به.
قال الضحاك: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله}: أي: تصدق قلوبهم بذكر الله والقرآن.
{أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب}: أي: " تستأنس، وتسكن قلوب المؤمنين ".
وقيل: عني به قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(5/3733)
ثم قال تعالى: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} المعنى: الذين صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعملوا الأعمال الصالحات {طوبى لَهُمْ}: أي: نِعم ما لهم. قاله عكرمة.
وقيل: معناه: غبطة لهم. قاله الضحاك.
وقال ابن عباس: فرحٌ لهم، وقُرَّة عين.
وقال قتادة: معناه: " حسنى لهم، وهي كلمة من كلام العرب ".
وقيل: المعنى: أصابوا خيراً، تقول العرب للرجل: " طوبى لك " أي: أصبت خيراً. وقال النخعي: {طوبى لَهُمْ} أي: خيراً لهم.
وقيل: هي اسم من أسماء الجنة. فالمعنى: الجنة لهم، رُوي ذلك عن ابن عباس، قال: طوبى لهم: اسم الجنة بالحبشية.(5/3734)
وروي عنه أيضاً: طويلة لهم: هي اسم أرض الجنة بالحبشية.
وقيل: طوبى لهم: اسم الجنة بالهندي [ة].
وعن عكرمة أيضاً: طوبى لهم: الجنة لهم.
وعن ابن عباس: إنما طوبى لهم: اسم شجرة في الجنة.
وقال شهر بن حوشب: طوبى لهم شجرة في الجنة، أغصانها من وراء سور الجنة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنها شجرة في الجنة.
" وسئل عليه السلام: ما طوبى؟ فقال: شجرة في الجنة، مسيرها مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها، غرسها الله، عز وجل، بيده، ونفخ فيها من روحه. تنبت(5/3735)
الحلي والحلل، وإن أغصانها لتُرى من وراء سور الجنة "
ومعنى: {وَحُسْنُ مَآبٍ}: حسن منقلب ومرجع.
وقال أبو أمامة الباهلي: طوبى: شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، (ولا ثمرة إلا وهي فيها) وموضع (طوبى): رفع بالابتداء، و {لَهُمْ}: الخبر، ودلَّ على أنها في موضع رفع قوله: {وَحُسْنُ مَآبٍ} بالرفع بلا اختلاف بين القراء، وهي " فُعْلَى "، من " أطيب " فالواو(5/3736)
منقلبة عن ياء لضمه بالفعل، وأصلها " طُيْبى " على " فُعلى ". لكن لما كانت اسماً غير صفة، ردت إلى فعل (ى)، لخفة الأسماء، فانقلبت الياء واواً لانضمام الأول.
ألا ترى أن ضمير أصل الياء فيها واو، وأصلها " فعلى " (على) صور. ولكن لما كانت صفة، ردت إلى الياء للخفة، وثقل الصفة. ودل على أنها فعل (ى) أن (هـ) ليس في الصفات (فعلى): وهي في الآية صفة " لقسمة ". فعلم أن أصلها فعل (ى)، فجاز أن تقع فعل (ى) صفة، لأنه يقدر فيها أصلها، وهو فعلى "، ولولا ذلك ما جاءت فعل (ى) صفة.(5/3737)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
وحَسُنَ رَدُّها إلى فُعلى لما ذكرناه من ثقل الصفة، فخففت بردها إلى الياء، لأن الياء أخف من الواو.
وكذلك ردت طوبى إلى الواو. ولأنها اسمٌ، والاسم أخف / من الصفة، فسهل نقله إلى الواو، وإن كانت الواو أثقل من الياء.
قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} إلى قوله: {لاَ يُخْلِفُ الميعاد}: المعنى: هكذا يا محمد {أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ}: أي: إلى أمة قد خلت من قبلها أمم على ما هم عليه من الكفر، لتتلو عليهم القرآن {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} أي: يجحدون وحدانيته.
قل يا محمد: هو ربي: أي: إن كفر هؤلاء الذين أرسلت إليهم، فقل أنت الله ربي {لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي: وإليه مرجعه، وأَوْبتي. وهو مصدر تاب متاباً، وتوبة.(5/3738)
ثم قال تعالى (ذكره): {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال}.
هذه الآية نزلت جواباً لقريش، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرك أن نتبعك فسيّر جبال تهامة، أو زد لنا في حرمنا حتى نتخذ قطائع نحترث فيها، أو أحي لنا فلاناً، أو فلاناً لناس ماتوا: فأنزل الله ( عز وجل) : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} - الآية - أي: ولو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل ذلك بقرآنكم.
وقال الضحاك: قال كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: سير لنا الجبال كما سيرت لداود ( صلى الله عليه وسلم) ، واقطع لنا الأرض كما قطعت لسليمان، وكلّم لنا الموتى، كما كان عيسى يكلمهم. فنزلت هذه الآية. وهذا قول ابن زيد.(5/3739)
وجواب " لو " محذوف، وتقديره: لو فعل هذا بقرآن لفعل مثله بقرآنكم وقيل: التقدير: لما آمنوا.
وقال الكسائي: " لو " بمعنى: " وددنا " فلا تحتاج إلى جواب.
والتقدير: وددنا أن قرآناً (سيرت به الجبال).
وقيل: المعنى: لو قضيت ألا يقرأ هذا القرآن على الجبال، إلاَّ مرَّت، وعلى الأرض إلا تخرقت، ولا على الموتى إلا حَيّوا، وتكلموا: ما آمن من سبق عليه في علمي الكفر.
ويدل على هذا التفسير قوله بعد ذلك: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} أي: أفلم يعلم الذين صدقوا ذلك.(5/3740)
وقال الفراء: الجواب: وهم يكفرون بالرحمن، والتقدير: ولو أن قرآناً سيرت به الجبال لكفروا بالرحمَن.
وقيل: إن قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} نزلت في أبي جهل، لعنه الله، وذلك أن النبي عليه السلام كان في الحجر يدعو يقول: يا رحمن، وأبو جهل لعنه الله يستمع إليه، فولى أبو جهل، (أخزاه الله) مُدْبراً إلى قريش، فقال لهم: إن محمداً ينهانا أن نعبد الآلهة، وهو يدعو إلاهين: يدعو الله، ويدعو إلهاًَ آخر يقال له الرحمن. فأنزل الله ( عز وجل) { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن}، وأنزل {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] الآية.
ثم قال تعالى (ذكره): {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} والمعنى: أفلم يعلم الذين آمنوا، والتفسير: أن الكفار لما سألوا تسيير الجبال بالقرآن، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى.
طمع المؤمنون أن يُعطى الكفار ما سألوا، فيؤمنوا / فقال الله: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولا يحتاجون إلى رؤية ما ذكروا.(5/3741)
وقيل: المعنى: أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء، لعلمهم أن الله، ( عز وجل) ، لو أراد أن يهديهم لهداهم. ثم قال (تعالى): {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ (قَارِعَةٌ)} (الآية): أي: لا يزال يا محمد الكفار من قومك تصيبهم بما صنعوا من الكفر، ومن إخراجك (من) بين أظهرهم قارعة: وهو ما يقرعهم من البلاء والعذاب، من القتل والحرب. والسرايا التي تمضي إليهم.
وقيل: القارعة: النكبة، أو تحل أنت يا محمد قريباً من ديارهم بجيشك، وأصحابك {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله}: (أي) الذي وعدك فيهم، وهو الظهور عليهم، وقهرك إياهم بالسيف.(5/3742)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ} ما وعدك به، وهو فتح مكة.
وعن الحسن: وعد الله: القي (ا) مة في هذا الموضع.
وقيل: أن تحل القارعة قريباً من دارهم. قاله الحسن.
قوله: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} إلى قوله {مِن وَاقٍ} والمعنى أن يستهزئ هؤلاء من قومك يا محمد، فاصبر على آذاهم، وامض على أمر الله عز وجل في إنذارهم.
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: أَطَلْتُ للمستهزئين بربهم في الأجل والأمل، ثم أحللت بهم العقوبة. فكيف رأيت عقوبتي؟.
والإملاء: الإطالة، ومنه قيلك لليل والنهار الملوان، لطولهما. ومنه قيل(5/3743)
للخرق الواسع من الأرض ملأ لطول ما بين طرفيه.
ثم قال تعالى ذكره: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} " من ": رفع بالابتداء، والخبر محذوف، وبه يتم المعنى.
والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت كشركائهم، والتقدير: أفمن هو حافظ على مل نفس لا يغفل، ولا يهلك (كمن يهلك ولا يحفظ) ولا يحصي شيئاً (فالجواب محذوف) لعلم المخاطب).
وقيل المراد به الملائكة الموكلون على بني آدم، والقول الأول أشهر، وأكثر.
ثم قال (تعالى): {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} هذا يدل على المحذوف، والمعنى: أفمن هو قائم كشركائهم. ودلّ {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} على المحذوف ثم قال: قل لهم يا محمد {سَمُّوهُمْ}: أي يسموا هؤلاء الشركاء، فإن قالوا: آلهة فقد كذبوا، لأنه لا إله إلا هو الواحد (القهار)، لا شريك له.(5/3744)
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض} (أم تخبرونه بأن في الأرض إلهاً، ولا إله إلا هو في الأرض والسماء.
وقوله: {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول}: أي: أم قلتم ذلك بظاهر قول، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له.
ثم قال (تعالى) {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} المعنى ما لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم: أي: زيِّن لهم عملهم، وصدوا الناس عن الإيمان.
ومن قرأ بضم الصاد، فمعناه: أن الله أعلمنا أن صدَّهم عن الهدى عقوبة لهم. ودلّ على ذلك قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من أضله الله عز وجل عن إصابة الحق، فلا يقدر أحد على هدايته.
ثم قال تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} أي: لهؤلاء الكفار الذين(5/3745)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
تقدم ذكرهم عذاب في الحياة الدنيا، وهو القتل والأسر.
{وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أي: أشد من عذاب الدنيا. {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} أي: ليس يقيهم من عذاب الله (سبحانه) أحد.
قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} إلى قوله {وَلاَ وَاقٍ} التقدير عند سيبويه: " وفيما يتلى عليكم "، أو: " مما يقص عليكم مثل الجنة، وهذا قياس مذهب سيبويه.
وقال الفراء: التقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ومثل (. . .).
وقيل: هو مردود إلى قوله: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} [الرعد: 20].(5/3746)
ثم قال: صفة الجنة التي وعد المتقون، تجري من تحتها الأنهار.
ثم قال: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي: المأكول منها دائم لأهلها لا انقطاع له، كما قال ( عز وجل) : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33]، وظلها دائم دائم أيضاً.
{تِلْكَ عقبى الذين اتقوا} أي: عاقبتهم، وعاقبة الكافرين النار.
ويروى أن ابن عباس كان يتوقف عن تفس (ي) ر هذه الآية، ويحلف بالله لو فسرت ما حملها جميع إبل العالمين. يريد ابن عباس أن الجنة لو وصفت على حقائقها، ما حمل صفتها مكتوباً جميع إبل العالمين: لجلالة أمرها، وعظيم شأنها، في نعيمها وملكها. وما أعد الله) عز وجل) لأوليائه فيها. ويدل على ذلك (أيضاً): قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيها ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت ".(5/3747)
وقال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان: 20].
ثم قال تعالى: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ} المعنى والذين آتيناهم الكتاب م (من) آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهم يفرحون بما أنزل إلى محمد.
قال قتادة: هم أًحاب، محمد صلى الله عليه وسلم، يفرحون بما أنزل إليه.
وقيل: {والذين آتَيْنَاهُمُ (الكتاب)} عني بهم اليهود والنصارى،(5/3748)
يفرحون بالقرآن، لأنه مصدق لأنبيائهم، وكتبهم، وإن لم يؤمنوا بمحمد، ( صلى الله عليه وسلم) .
وقيل: عني بذلك الثمانون الذين آمنوا من نصارى نجران: أربعون وثمانية من الشام، واثنان وثلاثون من أرض الحبشة. آمنوا بالنبي (عليه السلام) وصدقوا به.
ثم قال (تعالى): {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي: ومن أهل الملل المتحزبين عليك يا محمد من ينكر بعض ما أنزل إليك.
وقيل: هم من اليهود والنصارى.
ثم قال: {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ}: (أي: قل لهم يا محمد: إنما أمرت أن أعبد الله، ولا أشرك به) في عبادته. {إِلَيْهِ أَدْعُو}: أي: إلى طاعة أدعو الناس. {وَإِلَيْهِ مَآبِ}: أي: مصيري.
ثم قال تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} أي: كما أنزلنا عليك الكتاب يا(5/3749)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
محمد / فأنكره بعض الأحزاب، كذلك أيضاً أنزلنا الذكر والحكم حكماً عربياً.
ونصب (حكم) على الحال " وعربي ": نعت (له). وإنما وصف الحكم بالعربي، لأنه أنزله على عربي، فنسب الدين إليه، إذ كان عليه أنزل.
ثم قال تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به: أمته، وفيه تهدد.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} إلى قوله {وَعَلَيْنَا الحساب} المعنى أن الله ( عز وجل) أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم، أنه قد أرسل من قبله رسلاً من قبل أمته، وأنهم بشر مثله: لهم أزواج وذرية، وأنه لم يجعلهم ملائكة، لا ينطحون ولا ينسلون، ولم يكن {لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: ما يقدر أن يفعل ذلك رسول إلا بإذن الله.(5/3750)
والمعنى: لا يقدر رسول (الله) أن يأتي بعلامة، (أو) آية: من تسيير الجبال، ونقل بلدة إلى بلدة أخرى، وإحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات التي سألت قريش النبي ( صلى الله عليه وسلم) .
{ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: (إلا) بإذن الله له أن يسأل الآية فيعلم أن في ذلك صلاحاً.
وقيل: إن هذا الكلام لفظه حظر، ولا يجوز أن يخطر على أحد ما لا يقدر عليه. فظاهره خطر، ومعناه: وتقديره: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. نفى الله ذلك عن الرسل وبرأهم منه، (ومثله): {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ} [آل عمران: 161]، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145]. وهو كثير في القرآن، ظاهره(5/3751)
الحظر (والمنع)، ومعناه النفي.
قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي: " لكل أمر قضاه الله، كتاب كتبه فهو عنده ". وقيل: المعنى: لكل كتاب أنزل الله من السماء أجل: فيمحو الله من ذلك {مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} ما يشاء، {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}.
قال الفراء: هذا مقدم ومؤخر، معناه: لكل كتاب أجل، كقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]: أي: سكرة الحق بالموت.
(وقد قيل: إنه لا تقديم في هذا)، ولا تأخير، والمعنى: وجاءت سكرة الموت لأن سكرة الموت غير الموت. فالحق: هو الموت الذي ختمه الله على جميع خلقه.
وقيل: معناه: لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مكتوب، وأمر مَقَدَّرٌ، مقتضى لا تقف عليه(5/3752)
الملائكة.
ثم قال تعالى: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} أي: يَمْحُوَ الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره، إلا الشقاء والسعادة، فإنهما لا يغيران قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: يدبر الله أمر السنة في رمضان، فيمحو ما يشاء (من ذلك) إلا الشقاء والسعادة، والموت والحياة. وتدبير ذلك في ليلة القدر.
وعن ابن عباس أيضاً معناه: يمحو ما يشاء، ويثبت من كتاب سوى، أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء.
قال ابن عباس: هما كتابان: كتاب يمحو منه ما يشاء، ويثبت وعند (هـ) أم الكتاب: لا يغير منه شيء، وهو قول عكرمة.(5/3753)
وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهـ: يمحو كل ما يشاء، ويثبت كل ما أراد وسمع /، وهو يقول في الطواف: اللهم إن كنت كتبت علي الذنب والشقاء، فامْنَحْني واكتبني في أهل السعادة.
فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وهو قول ابن مسعود وسفيان.
وعن ابن عباس، رضي الله عنهـ، أن معناه: يمحو الله ما يشاء من أحكام كتابه، فينسخه، أنو يبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، ولا يبدله.
{وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، ما ينسخ، وما لا ينسخ. وهو اللوح المحفوظ. وهو قول قتادة، وابن زيد وابنم جريج، وعليه أكثر المعاني، وعامة المفسرين، وهو شاهد لجواز النسخ (في القرآن).
وقيل: معناه: يمحو الله من قد حان أجله، ويثبت من لم يحن أجله. قاله الحسن،(5/3754)
قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}: أي: أجل بني آدم في كتاب الله، ( عز وجل) يمحو الله ما يشاء، من جاء أجله، ويثبت الذي هو حي حتى يجيء أجله.
وعن ابن عباس من رواية أبي صالح، عنه أنه قال: إن أعمال العباد تعرض على الله مما كتبت الحفظة، مما ليس للإنسان، ولا عليه. فيمحو ما ليس له، وما ليس عليه. ويثبت ماله، وما عليه، فيجازى بذلك.
فالحفظة تكتب كل شيء، والله يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، دليله قوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]: أي: حاضر.
وعن مجاهد رضي الله عنهـ: أنها نزلت في قريش، قالت: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} قالت: ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً.(5/3755)
{يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} ما يشاء، أي: إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما نشاء وروي ذلك أيضاً (عن الحسن).
وعن ابن عباس: أن المعنى ينسخ الله ما يشاء من القرآن ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وقاله محمد بن كعب. وعن عكرمة مثله.
وروى ابن جبير، عن ابن عباس في معنى الآية: أن الله، جل ذكره، يدبر أمر السنة في ليلة القدر، فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء إلا الموت والحياة، والسعادة والشقاء. وكل (هذا) قد تقدم في علمه، علم ما يكون بلا أمد.
وقيل: المعنى يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره قاله ابن جبير.
وقيل: المعنى: يمحو الله ما يشاء مما تكتب الحفظة، مثل الأشياء التي ليس(5/3756)
للإنسان، ولا عليه، ويثبت ما له، وما عليه. قاله أبو صالح، وقال (هـ) أبو سليمان الداراني: قال: يمحو الله ما ليس بحسنة، ولا سيئة، ويثبت ما هو حسنة، وما هو سيئة.
{وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: ذلك (كله) في اللوح المحفوظ، قد جرى به القلم قبل خلق الخلق.
وعن ابن عباس أيضاً: / أنه قال في قوله
{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، قال: يكتب كل ما يتكلم به العبد من خير، أو شر حتى إنه ليكتب: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرضة قوله جملة. فأقر ما كان فيه من خير وشر، وألقى ما عدا ذلك وذلك قوله: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}.
واختار جماعة من أهل العلم قول الحسن ومجاهد: يجعلونه جواباً للمشركين.
وقوله: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}. قال الحسن: أم الكتاب: الحلال والحرام.(5/3757)
والحمد لله هي أم القرآن.
وقيل: أم الكتاب: اللوح المحفوظ.
وقال قتادة: {أُمُّ الكتاب}: جملة الكتاب، وأصله: أي: جملة ما ينسخ، وما يثبت.
وقال كعب: علم الله ما هو خالق، وما يعلم خلقه.
يقال: محوت الكتاب، أمحوهُ محواً، وهي لغة القرآن. ويقال: محوته، أمْحَاهُ، محواً، ومحيت، أمحى لغة.
ثم قال تعالى: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ}: أي: إن أَرِيَنَّكَ يا محمد! بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}: قبل ذلك، فليس عليك في الحالين إلا بَلاغٌ ما أرسلت به، وعلينا حسابهم في الآخرة. فنجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.(5/3758)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض} إلى قوله {عُقْبَى الدار} معناه عند ابن عباس: أَوَلَمْ ير أهل مكة الذين سألوا محمداً الآيات أنا نفتح على محمد الأرض (بعد الأرض) من حولهم، ولا يخافون أن يفتح عليه أرضهم كما فتحنا له غيرها. ودلّ على ذلك قوله في الأنبياء: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: بل، محمد وأصحابه الغالبون.
وأكثر المفسرين على أنه يراد به: ذهاب خيار الناس، وعلمائهم، وصالحيهم.
وقال الضحاك، والحسن: هو ظهور المسلمين على المشركين.
وقيل: هو هلاك الأمم قبلهم، ووخراب أرضهم. فيقول: ألَم تر قريش(5/3759)
هلاك الأمم قبلهم، قاله مجاهد، وابن جريج.
وروي عن ابن عباس، ( رحمه الله) نحوه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: هو نقص بركات الأرض وثمارها، وأرضها بالموت. وجماعة من العلماء على أن المعنى في النقص: موت أهل الأرض، وهو قول عكرمة.
وروي عن مجاهد، وقال ابن عمر: نقص الأرض هي التي موت فقهائها، وخيار أهلها. ثم قال (تعالى): {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي: يحكم ويقضي، فينفذ(5/3760)
حكمه، ولا رَادَّ لحكمه، ولا مانع لقضائه. فإذا أراد بهؤلاء المشركين (شراً) لم يرده أحد.
والأطراف جمع طرف، والطرف: الكريم من كل شيء.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ: العلم أودية، في أي واد أخذت منه حَسِرْت، فخذ من كل شيء طرفاً: خياراً. ومنه قولهم:
ما يدري: أيُّ طرفيه أطول، أي: ما يدري الكرم يأتيه من ناحية أبيه، أو من ناحية أمِّه. فصار / معنى {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: أي: من علمائها، لأن العلماء هم الخيار. ومعنى {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} أي: يحصي أعمال هؤلاء المشركين، لا يخفى عليه شيء منها.
ثم قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} والمعنى: وقد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين من الأمم، فوقع بهم العذاب، فلله أسباب المكر(5/3761)
كلها، وبيده الضر والنفع. فلن يضر الماكرون بمكرهم أحداً إلا بإذن الله، لأن أسباب المكر كلها بأمر الله، وإنما يضرون بمكرهم أنفسهم، لأنهم أسخطوا ربهم عليهم حتى أهلكهم. فكذلك هؤلاء يمكرون بمكرهم أنفسهم، لأنهم أسخطوا ربهم عليهم حتى أهلكهم. فكذلك هؤلاء يمكرون بك يا محمد، والله منجيك من مكرهم، وملحق ضرر مكرهم بهم دونك.
ومعنى المكر من الله " أن ينزل العقوبة بمن يستحقها من حيث لا يعلمون ".
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي: يعلم ما يفعل هؤلاء المشركون، وما يسعون فيه من المكر بك، ويعلم جميع أعمال الخلائق كلهم.
{وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي: سيعلمون، إذ قدموا على ربهم يوم القيامة لمن عاقبة (عقبى) الدار في الآخرة.(5/3762)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
وقيل: الكافر هنا يراد به أبو جهل لعنة الله.
(ومن قرأ): " الكفار " بالجمع. قيل: عني به المستهزءون وهم خمسة، والمقتسمون، وهم ثمانية وعشرون.
قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} إلى قوله: {عِلْمُ الكتاب} المعنى: ويقول الذين كفروا من قومك يا محمد! لست مرسلاً، تكذيباً لك.
فقل لهم يا محمد {كفى بالله شَهِيداً} أي: حسبي الله {شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: عليَّ وعليكم، والذي {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}.
أي: علم الكتب التي أنزلت قبل القرآن، كالتوراة، والإنجيل، وهو عبد لله ابن سلام في قول مجاهد، وكذلك روى عبد الله بن سلام أنه قال يوم قتل عثمان لما(5/3763)
نهاهم عن قتله: قالوا: كذب اليهودي، فقال: وآثمتم، إني لمسلم، يعلم الله ذلك، ورسوله، والمؤمنون. وقد أنزل فيَّ: {كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} وهذا يدل على (أن) هذه الآية مدنية، لأن عبد الله بالمدينة أسلم.
وقل قتادة أيضاً: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}: هم ناس من أهل الكتاب، كانوا يشهدون بالحق، ويقرون به، ويعلمون أن محمداً رسول الله، كنا نحدث أن منهم عبد الله بن سلام.
وروي عنه أنه، قال: منهم عبد الله بن سلام، الفارسي، وتميم الدار (ي).(5/3764)
وقال الحسن: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} هو الله؟
يذهب إلى أن المعنى: كفى بالله، والذي عنده علم الكتاب.
واختار النحاس هذا القول، واستبعد أن يستشهد الله لأحد من خلقه. ودل على ذلك قول عكرمة، وابن جبير، وغيرهما: نزلت هذه الآية بمكة، فلا سبيل إلى ذكر عبد الله بن سلام هنا، لأنه بالمدينة أسلم. ويدل على ذلك أيضاً أنه قد قرأ {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}: فهذا هو الله، جل ذكره، لا يجوز غيره، أي: ومن عند الله علم الكتاب. وهي قراءة مروية عن ابن عباس /، وغيره.
ومن فتح " ومَنْ عنده " كانت الهاء تعود على " من ".
و" من ": هو الله، أو على ابن سلام، وشبهه على الاختلاف المذكور.(5/3765)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم عليه السلام
وهى مكية
إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة , فى من قتل من المشركين يوم بدر , وهما قوله (تعالى):
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا)
إلى آخر الآيتين - قاله قتادة.
قوله: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} إلى قوله {ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} قد تقدم الكلام في {الر} والمعنى: هذا الكتاب أنزلناه إليك يا محمد، لتخرج به الناس من الضلال(5/3767)
إلى الهدى. فالكفر بمنزلة الظلام، والإيمان كالنور. وهذا يدل على إرسال محمد عليه السلام، إلى جميع الخلق لقوله: {لِتُخْرِجَ الناس}، ولم يقل لتخرج بني إسماعيل، كما قال (في) التوراة {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23].
ولم يقل للناس، وقال في الفرقان: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1]، ولم يقل للعرب. وقال لموسى عليه السلام {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} [إبراهيم: 5]، ولم يقل للناس كما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، ولم يقل: للعرب.
وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: أي: يخرجهم بإذن ربهم، أي: بتوفيقه لهم(5/3768)
ولطفه، وأمره لا يهدى أحد إلا بإذنه.
ثم بين النور ما هو فقال: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد}: أي: إلى طريق الله، عز وجل المستقيم، وهو دينه الذي ارتضاه لخلقه.
" والحميد ": فعيل مصروف من " مفعول " المبالغة، ومعناه، المحمود بآلائه. وأضاف الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( لأنه) المنذر المرسل بذلك. و (الله)، ( عز وجل) هو المخرج لهم، والهادي على الحقيقة.
ثم بين العزيز الحميد من هو؟ فقال: {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات} أي: وهو الذي يملك جميع ما في السماوات، وجميع ما في الأرض. فأعلم الله، ( عز وجل) نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما أنزل عليه كتاب ليدعو عبادة إلى عبادة من هذه صفته، ويتركوا عبادة(5/3769)
من لا يملك ضراً ولا نفعاً.
ثم توعد الله ( عز وجل) ، من لا يؤمن بما جاء (ب) هـ نبيه صلى الله عليه وسلم: فقال: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}: وقد تقدم بيان معنى (ويل). وأكثر المفسرين على أن ويلاً واد في جهنم، فيه عقارب كالنجب، وفيه ألوان من العذاب.
ثم بين صفة الكافرين، فقال: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} أي: يختارون زينة الحياة الدنيا، فيعصون الله، ويتركون طاعته، وهم مع ذلك
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}: أي: يمنعون من أراد الإيمان بالله، ( عز وجل) واتباع رسوله.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}: أي: يلتمسون العوج لدين الله، (سبحانه)،(5/3770)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
والتحريف والتبديل بالكذب والزور. ونصبه لأنه مصدر في موضع الحال. وقيل: هو مفعول به، وحرف الجر، مقدر مع المفعول المتصل. والتقدير: ويبغون لها عوجاً، والعوج بكسر / العين، وفتح الواو في الدين والأرض، وكل ما لم يكن قائماً، ويفتح العين والواو: فيما كان قائماً مثل الحائط، والرمح، والسن.
{أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}، أي: هؤلاء المذكورون في ذهاب عن الحق بعيد.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إلى قوله {(مِّن رَّبَّكُمْ) عَظِيمٌ}: المعنى: وما أرسلنا رسولاً إلا بلغه ليفهموا عنه، فالمعنى: وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم، بلغة سعد ابن بكرٍ بن هوازن: وهي أفصح اللغات. فالمعنى: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم من قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم من رسول) إلا بلسان الأمة التي أرسل إليها، ليبين لهم ما أرسله(5/3771)
الله به إليهم من أمره ونهيه، لتقوم الحجة عليهم، ولا يبقى لهم عذر. فيوفق الله من يشاء إلى الإيمان، ويخذل من يشاء فيبقى على كفره.
{وَهُوَ العزيز}: أي: الممتنع ممن أراده (ولا يمتنع عليه أحد) [إن] أراد خذلا (نه)، لأنه الحكيم في توفيقه للإيمان من أراد أن يوفقه.
فإن قيل: فيجب ألا تلزم الحجة من كان من العجم، لأنهم لا يفهمون لسان العرب، فالجواب: أنه إذا ترجم ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم، وفهموا الدعوة لزمتهم الحجة، لقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ 28]، ولقوله: {(لأُنذِرَكُمْ) بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] ولقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فكل من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, وفهم ما دعاه إليه(5/3772)
(يأتي يساره إن) لزمته الحجة، ودخلت تحت قوله {وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] وتحت قوله: {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ 28].
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ (مِنَ الظلمات إِلَى النور)}: قوله: {أَنْ أَخْرِجْ} " أن " في موضع نصب على تقدير حذف (حرف) الجر. والتقدير: بأن أخرج.
(وقيل: " أن " زائدة، ومثله: كتبت إليه أن قم): ومعنى الآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، بالأدلة والحجج، والآيات، وهي التسع آيات المذكورة في القرآن. بأن يخرج قومه من الكفر إلى الإيمان، ويذكرهم: {بِأَيَّامِ الله}: أي: بنعم الله عليهم في الأيام الخالية، إذ أنقذهم من آل فرعون،(5/3773)
ومما كانوا فيه من العذاب، وإذا فلق لهم البحر، وظلّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى في أِباه لهذا من النعم. قاله مجاهد، وقتادة.
(وكذلك رواه ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بأيام الله: بنعم الله).
قال مالك، ( رحمه الله) { بِأَيَّامِ الله}: ببلاء الله الحسن عندهم، وأياديه.
وقال ابن زيد: المعنى: وذكرهم بالأيام التي انتقم الله، فيها من الأمم الماضية، فيتعظوا، ويزدجروا، ويخافوا أن يصيبهم مثل ما أصاب من كان(5/3774)
قبلهم، ودل على ذلك قوله بعد الآية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} [إبراهيم: 9]، ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}: والمعنى: إن في النعم التي مضت على الأمم الخالية، وأن في النعم التي أنعم عليكم لعلامات ظاهرة، لكل ذي صبر على / طاعة الله عز وجل وشكر له على ما أنعم عليه من نعمة، (جلت عظمته).
وقال قتادة عند تلامة هذه الآية: " نِعْم العبدُ عبدٌ إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر ".
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا}: أي: واذكر يا محمد! إذ قال موسى لقومه: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب}: (أي): يذيقونكم شديد العقاب. وقد يجوز (مع ذلك) أبناءكم، ودخلت الواو مع(5/3775)
" ويذبحون "، لتدل على آل فرعون كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع (غير) التذبيح.
وروي أن فرعون كان يذبح كل غلام، ويستحي النساء، وكانت الحوامل عنده مدونات، والقوابل يغدون عليهن ويرحن. وعندهم رجال قد شدوا أوساطهم، وجعلوا فيها السكاكين التي يذبحون بها الولدان. وأيديهم مخضبة بالدماء.
ثم قال (تعالى): {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ}: أي: اختبار لكم من ربكم. ويكون البلاء هنا النعمة، فيكون المعنى: (إن) في إنجائه(5/3776)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
إياكم نعمة عظيمة.
وقيل: المعنى: وفيما جرى عليكم بلية عظيمة.
قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ} - إلى قوله - {إِلَيْهِ مُرِيبٍ} والمعنى: واذكروا إذا تأذن ربكم. (أي): أعلمكم ربكم. ومنه الأذان، أنه إعلام. " وتفعل " يقع على موضع " أفعل "، والعرب تقول: أوعدته، وتوعدته، بمعنى واحد.
وقال ابن مسعود: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}: أي: قال ربكم. وكذلك قال ابن زيد: معناه: قال ربكم ذلك التأذن.
{لَئِن شَكَرْتُمْ}: معناه: القسم، والمعنى: ولئن شكرتم ربكم بطاعتكم إياه، فيما أمركم به، ونهاكم عنه، ليزيدنكم من النعم.(5/3777)
وقال الحسن: معناه: لأزيدنكم من طاعتي.
وقال سفيان بن عيينة: (قال سفيان): ليست الزيادة من الدنيا، أهون على الله من أن يجعلها ثواباً لطاعته، ولا أثاب (بها) أحداً من رسله وأهل طاعته، وهم أشكر الخلق.
وقيل: المعنى: لئن أطعتموني بالشكر، لأزيد (نك) م من أسباب الشكر ما يعينكم عليه.
وقيل: إن المعنى: لأزيد (نك) م من الرحمة والتوفيق والعصمة.
وقوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ}: أي: (إن) كفرتم النعمة، فجحدتموها بترك الشكر عليها.(5/3778)
{إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}: أي: لشديد على من كفر وعصى.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً}.
أي: قال لقومه: إن تكفروا، فتجحدوا نعمة الله عليكم، ويفعل مثل ذلك كل من في الأرض {فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ} عنكم وعنهم. {حَمِيدٌ}: أي: ذو حمد إلى خلقه بما أنعمه عليهم.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}.
والمعنى: إن الله تعالى أخبرنا خبر الأمم الماضية، الذين لا يحصى عددهم إلا الله ( عز وجل) { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}: بالآيات الظاهرات، يدعونهم إلى الله (سبحانه) وإلى طاعته.
{فردوا أَيْدِيَهُمْ / في أفواههم}: أي: عضت الأمم على أصابعها، تغيظاً(5/3779)
على الرسل، قاله ابن مسعود.
وقال ابن زيد: هو مثل: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119].
وقيل: المعنى: أنهم لما سمعوا كتاب الله عز وجل عجبوا منه، و (و) ضعوا أيديهم على أفواههم تعجباً. قاله ابن عباس.
وقيل: المعنى: كذبوهم بأفواههم، وردوا عليهم. قاله مجاهد.
وقال قتادة: كذبوا الرسل، وردوا عليهم بأفواههم، فقالوا: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}. وهو مثل قول مجاهد.
وقيل: معناه: إنهم كانوا يشيرون بأيديهم إلى أفواههم، يسكتون الرسل إذا دعوهم إلى الإيمان أن اسكتوا تكذيباً لهم، ورداً لقولهم.
وقيل: المعنى: إنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل، رداً لقولهم،(5/3780)
وتكذيباً (لهم).
وقيل: هو مثل يراد به السكوت، لأن العرب تقول: سألت فلاناً (في) حاجة فرد يدع في فيه، إذا سكت عنه فلم يجبه.
فالمعنى: أنهم يسكتون إذا دعتهم الرسل إلى الله، فلا يقبلون الدعاء وقيل: المعنى: (فردوا أيدي الرسل) في أفواههم، أي: ردوا نعم الله، الت يأتتهم على ألسنة الرسل بأفواههم فتكون " في " بـ (معنى) " الباء "، واليد تكون في كلام العرب: النعمة، يقال: لفلان عندي (يد: نعمة، وكان (.
. .) على هذا القول (. . .) يكون على وزن (. . .) لأن جمع يد (النعمة):(5/3781)
أيادٍ، وجمع اليد من الجارحة: أيدٍ.
وقوله: {بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} يدل على كثرة من مضى من الخلائق.
قال ابن مسعود: وكذب النسَّابون.
قال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يدري ما وراء عدنان.
وقال ابن عباس: بين عدنان، وإسماعيل ثلاثون أباً لا يُعرفون.
ثم أخبر عنهم تعالى بما قالوا للرسل (فقال): {وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ}: أي " كفرنا بما جئتمونا من ترك عبادة الأوثان [وقالوا]: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ} أي: لفي شك من توحيد الله الذي تأمروننا (به).(5/3782)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{مُرِيبٍ}: أي: يريبنا ذلك الشك، أي: يوجب لنا الريبة.
قوله (تعالى): {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات} إلى قوله {وَخَافَ وَعِيدِ}: والمعنى: أن الله ( عز وجل) أعلمنا بجواب الرسل للأمم، إذ شكت في توحيد الله سبحانه، وأنها قالت للأمم: {أَفِي الله شَكٌّ}: أي (أ) في توحيد الله شك وهو خلق السماوات والأرض، يدعوكم إلى توحديه، وطاعته، ليغفر لكم من ذنوبكم، إن أنتم آمنتم به، واتبعتم أمره، وقبلتم نهيه. فلا يعذبكم على ما ستر عليكم من ذنوبكم، ويؤخر آجالكم، فلا يعاقبكم في العاجل فيهلككم، ولكن يؤخركم إلى الوقت الذي كتب (عليكم) في أم الكتاب.
و" من " في قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ}، قال أبون عبيدة: هي زائدة، والمعنى:(5/3783)
يغفر لكم ذنوبكم. وقيل: ليست بزائدة.
والمعنى: يغفر لكم / بعضها، إذ لا يأتي أحد يوم القيامة إلا بذنب، إلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر في الدنيا.
والمغفرة لغيره إنما تكون في الآخرة. فأما قوله في الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12]، فإنما ذلك على الشرط الذي تقدم من الله لهم. فقالت الأمم لهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}: أي: ما أنتم أيها الرسل إلا بشر مثلنا في الصورة، ولستم ملائكة تريدون بقولكم هذا أن تصرفونا: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ [آبَآؤُنَا]}: من الأوثان، {فَأْتُونَا} على قولكم: {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}: أي: بحجة ظاهرة.
ثم قال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}: أي: صدقتم في قولكم لنا: ما أنتم إلا بشر مثلنا.
{ولكن يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}: فيهديه، ويوفقه للحق، ويرسله إلى(5/3784)
من يشاء خلقه.
{وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ}: أي: بحجة وبرهان على ما ندعوكم إليه من توحيد الله ( عز وجل) ، وطاعته (جلت عظمته).
{إِلاَّ بِإِذْنِ الله}: أي بأمره، {وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ / المؤمنون}: أي: عليه فليتوكل من آمن به، وأطاعه. فهذا كلام ظاهره الحظر والمنع، ولا يحظر (على فعل شيء لا يقدر) عليه البتة، ولا في الطاقة فعله، ولكن معناه: وما كنا لنأتي بسلطان {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}: نفوا ذلك عن أنفسهم، إذ، لا قدرة لهم عليه. ولو حمل على ظاهره لكان معناه: إنهم يقدرون على الإتيان بالسلطان، وهو الحجة. ولكن لا يفعلونه إلا بإذن الله، وليس الأمر كذلك (إذ) لا مقدورة لهم على ذلك البتة، فلا يتم المعنى حتى يحمل على النفي.
ثم قال تعالى: قالت لهم الرسل: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله}: (أي: شيء لنا في ترك التوكل على الله)، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}. أي: قد بصرنا طريق النجاة من عذابه.(5/3785)
{وَلَنَصْبِرَنَّ}، قسم من الرسل، أقسموا ليصبرن على أذى الأمم إياهم في الله، {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون}.
فقالت الأمم للرسل: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ}: أي: لنطردنكم من مدينتنا، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}: أي: إلا أن تدخلوا في ديننا. و " أو " عند بعض أهل اللغة بمعنى: " إلا ". وقيل: معنى " أو ": حتى تعودوا ودخلت اللام في " لتعودن " لأن في الكلام معنى الشرط، كأنه جواب لليمين. والتقدير: لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، كما تقول: لأضربنك أو تُقِرَّ لي.
{فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ}: أي: أوحى الله إلى الرسل.
{رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين}: وهو قسم من الله، (وهو) كله وعيد وتهدد لقريش (ومن يليهم من العرب، وتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلم ما لقيت الرسل مثله من(5/3786)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
الأمم، فيهون عليه ما يلقى من قريش) وغيرهم ممن امتنع أن يؤمن (به).
ثم قال تعالى للرسل: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ}: أي: لنسكنن من آمن بكم الأرض، ومن بعد إهلاك الظالمين. فوعدهم تعالى بالنصر في الدنيا.
ثم قال تعالى ذكره: {ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي}: أي: ذلك النصر يكون لمن خاف مقامي بين يدي الله ( عز وجل) في الآخرة، فاتقى الله، وعمل بطاعته.
والمصدر يضاف إلى الفاعل مرة، وإلى المفعول به أخرى. فهو هنا مضاف إلى الفاعل.
ثم قال: {وَخَافَ وَعِيدِ}: أي: خاف تهددي.
قوله: {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} إلى قوله: {عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
والمعنى: واستفتحت الرسل على قومها لما كذبوهم: أي: استنصروا الله عليها لما وعدهم بالنصر على الأمم، وأنه يسكنهم الأرض من بعد الأمم.
هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.(5/3787)
وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء، كقول قريش: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وقد أعلمنا الله أن قوم هود استفتحوا، وقالوا لهود: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ (مِنَ الصادقين)} [الأعراف: 70].
فالاستفتاح عنده مسألة العذاب.
وقد روي أنه قيل لقريش حين استفتحوا / العذاب: إن لهذا أجراً يؤخر إلى يوم القيامة، فقالوا: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16]: أي: عجل لنا نصيبنا من العذاب على (طريق) التكذيب به، (و) على هذا أتى قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [العنكبوت: 53] الآية.(5/3788)
وقوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: أي: أهلك كل متكبر عن الإيمان معاند.
قال المفسرون: هو من امتنع أن يقول: لا إله إلا الله.
وقال قتادة: العنيد: الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله ".
وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقاً.
وقيل: هو أبو جهل لعنه الله وُنَظَراؤُهُ.
ويقال: جبار بين الجبرية والجَبْرِيَّة بكسر الجيم، والباء، والجَبَرُوةُ والجَبْرُوَّة، والجبروت، والعنيد: المعاند للحق.(5/3789)
ثم قال تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ}: أي: من وراء ذلك الجبار العنيد جهنم يردها: أي: من أمامه جهنم. كما يقال: إن الموت من ورائك، أي: من أمامك. وأصل: " وراء ": ما توارى عنك، وهو يصلح لخلف ولقدام، وليس هو من الاضداد.
وقوله: {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ}: الصديد: الدم، والقيح يتجرعه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يتحساه، ولا يكاد يزدرده من شدة كراهيته، أي: لا يقدر يبلعه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في قوله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}. قال يقرب إليه فيكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه. فإذا شربه، قطع(5/3790)
أمعاءه، حتى يخرج من دبره. يقول: (الله تعالى): {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 16]: وقال: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29].
ثم قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}: أي: يأتيه الموت عن يمينه، وشماله، وخلفه، وقدامه.
وقيل: معناه: من كل مكان في بدنه من شدة عذابه.
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}: أي: لا تخرج نفسه، والمعنى: يأتيه ما يُمات منه من كل جانب، وليس يموت.
قال: ابن جريج: " تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فيجد لذلك راحة ".(5/3791)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
وقيل: المعنى {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}: أي: " من تحت كل شعرة في جسده ".
ثم قال: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: أي: من وراء ما هو فيه من العذاب، - يعني - أمامه (عذاب غليظ).
قال الفضيل: هو حبس الأنفاس.
وقال القرظي: محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآن، مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتاتٍ. فهو قوله: {(وَيَأْتِيهِ) الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}.
قوله (تعالى): {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} - إلى قوله - {عَلَى الله بِعَزِيزٍ}، التقدير عند سيبويه، والأخفش، وفيما نَقُص عليكم مثل الذين كفروا، كما قال: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35].(5/3792)
وقال الكسائي تقديره مثل أعمال / الذين كفروا كرماد.
ومعنى الآية: أنه مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة، وأنها مثل رماد ضربته ريح عاصف. فماذا تبقى منه؟ (كذلك) لا يبقى للكفار من أعمالهم شيء ينتفعون به، لأنهم أرادوا بها غير ذلك (سبحانه).
ووصف (يوم) بالعصوف، (وحقيقته) للريح، وإنما جاز ذلك لأنه بمعنى النسب. تقديره: في يوم عصف، (وتقديره) عند الفراء: في يوم عاصف الريح، وحذفت الريح لتقدم ذكرها.
{لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ}: أي: لا يقدرون أن ينفعهم شيء من أعمالهم، كما لا يقدرون على النفع بشيء، ومن رماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف.(5/3793)
{ذلك هُوَ الضلال البعيد}: أي: عملهم الذي كانوا يعملون ضلال، بعيد عن الحق.
ثم قال تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} والمعنى: ألم تر يا محمد بعين قلبك أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق، أي انف (ر) د بذلك من غير ظهير، (ولا) معين.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}: أي: يفنيكم، {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} عوضاً منكم، {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ}: أي: ومت ذهابكم، وخلق عوضكم بممتنع على الله ( عز وجل) ، لأنه القادر على ما يشاء.
فأول الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته دلّ على ذلك أنه رد الخطاب في آخر الآية إليهم، فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}.(5/3794)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
قوله: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} - إلى قوله - {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. المعنى: وبرزوا من قبورهم، (أي) ظهر هؤلاء الذين كفروا من قبورهم فصاروا بالبراز من الأرض جميعاً.
{فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا}: أي قال التباع للمتبوعين المستكبرين في الدنيا عن عبادة الله عز وجل.
{ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}، في الدنيا، أي: نتبع أمركم لنا بمعصية الله، عز وجل، وترك اتباع الرسل.
{فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ}: أي: دافعون عنا (من العذاب) شيئاً. قال المتبوعون، وهم القادة للعضفاء، وهم التابعون: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ}: أي: لو أن لنا شيئاً ندفع به عذابه عنا اليوم، لبيناه حتى تدفعوا به العذاب عن أنفسكم.(5/3795)
{سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}: أي: سواء علينا الجزع والصبر، ما لنا من خلاص، ومن ملجأ، ومن مهرب، ومن مَعْدِل، و " سواء " بمتدأ، وما بعده خبر.
قال محمد بن كعب القُرظي: بلغني أن أهل النار، يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما ترون، فلهم فلنصبر، فلعل الله ينفعنا كما صبر أهل لدنيا على طاعة الله ( عز وجل) ، فنفعهم الصبر. فأجمعوا رأيهم على الصبر، فصبروا، فطال صبرهم، ثك جزعوا فنادوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} /: (أي) من ملجأ.
وقال ابن زيد: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالو فإنما أدرك أهل(5/3796)
الجنة الجنة ببكائهم، وتضرعهم لله تعالى. (تعالوا) نبكي، ونتضرع إلى الله، جل ذكرهز فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا: تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا نصبر. فصيروا صبراً لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}.
وروى مالك (رضي الله عنهـ)، عن زيد بن أسلم أنه قال: صبروا (مائة) عام، ثم بكوا مائة عام. فقالوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}.
وروى كعب ابن مالك، عن أبيه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول أهل النار إذا اشتد بهم العذاب: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم، قالوا: هلم فلنجزع، فيجزعون ويضجون خمسمائة عام، فلما رأوا(5/3797)
أن ذلك لا ينفعهم قالوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} ".
ثم قال تعالى: (ذكره): {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر}. أي: قال إبليس لما دخل أهل الجنة، وأهل النار النار، واستقر بكل فريق قراره.
{إِنَّ الله وَعَدَكُمْ}: أيها الأتباع النار، {وَوَعَدتُّكُمْ}: النصرة.
وقيل، معنى: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق}: أي: وعد من أطاع (هـ) الجنة، ومن عصاه النار.
ووعدتكم أنا خلاف ذلك {فَأَخْلَفْتُكُمْ} وعدي، وفي لكم الله بوعده.
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ}: أي: ما كان لي عليكم فيما وعدتكم به من النصرة حجة، تنبتُ لي عليكم بالصدق قول (ي).(5/3798)
{إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي}: أي: دعوتكم إلى طاعتي، ومعصية الله، فأجبتموني. {فَلاَ تَلُومُونِي} " على إجابتكم إياي {ولوموا أَنفُسَكُمْ} عليها. {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم، {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}:
أي: بمغيثي يقال: أصرخت الرجل إصراخاً: أغثته.
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي: إني جحدت أن أكون شريكاً لله، (سبحانه) فيما أِركتموني فيه من عباد (ت) كم (من قبل): في الدنيا.
وقال قتادة: معناه: إني عصيت الله فيكم.
وقيل: (من قبل): أي: بطاعتكم إياي في الدنيا، وفيه بعد.
{إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي، إن الكافرين لهم اليوم عذاب موجع.(5/3799)
قال محمد بن كعب القرظي: فلما سمعوا مقالة إبليس هذه في خطبة يقوم بها عليهم، مقتوا أنفسهم، فنودوا: {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10].
روي أن إبليس اللعين يقوم فيقول: أين أوليائي فيجتمعون إليه فيقول: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}.
قال الحسن: إذا كان يوم القيامة يقوم إبليس خطيباً على منبر من نار فيقول: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ / وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}.
وقال قتادة: رحمة الله عليه في قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}: معناه: إني " عصيت الله قبلكم ".
وقال سفيان الثوري (نظر الله إلى وجهه): {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ (أَشْرَكْتُمُونِ)(5/3800)
مِن قَبْلُ} [24] يقول: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا.
وقال ابن عباس: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}: أي بنافعكم، وما أنتم بنافعي.
وقال الربيع بن أنس ( رحمه الله) : ( ما) أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجي.
وقال محمد بن كعب: إنما قال ذلك، حين قال أهل الجنة: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا}.
وروي (عن): عقبة بن عامر الجهني (رضي الله عنهـ):، قال: سمعت رسول الله يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين، وفرغ من (القضاء): بين الناس، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا. فمن يشفع لنا عند ربنا، فيقول: انطلقوا بنا إلى من خلقه الله، وكلمه آدم. فيأتونه، فيقولون: اشفع لنا لى ربنا، فيقول: عليكم بنوح
.(5/3801)
فيأتون نوحاً، فيدلهم على إبراهيم، فيدلهم على موسى، فيأتون موسى، فيدلهم على عيسى. فيأتون عيسى، فيقول لهم: هل أدلكم على النبي الأمي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وعليهم أجمعين): فيأتوني فيسألوني أن أشفع لهم إلى ربهم، فيأذن الله لي بالقيام، فيثور لمجلسي أطيب ريح، شمها أحد، حتى آتي ربي فأشفع فيشفعني، (جل وعز): فيقول الكفار عنج ذلك: وقد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو إلا إبليس، هو الذي أضلنا. فيأتون إبليس فيقولون له: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم إلى ربهم فاشفع لنا إلى ربنا فإنك (أنت): أضللتنا فيقوم، فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد قط: فيعظم لجهنم فيقول: إبليس عند ذلك: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} - إلى قوله - {أَلِيمٌ}، وإنما ذكر الله هذا من أمر إبليس، تحذيراً من أعدائه. "(5/3802)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
قوله: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} - إلى قوله - {مِن قَرَارٍ}. المعنى: وأدخل الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه وعملوا الأعمال الصالحات {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}: أي: بساتين تجري دونها الأنهار.
{خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: أي: ماكثين فيها أبداً بأمر ربهم.
{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}: يعني: الملائكة يسلمون عليهم فيها.
فالضمير في تأويل مفعول لم يسم فاعله. أي: يحيون بالسلام (يعني الملائكة يسلمون): (ويجوز) أن يكون الضمير فاعلاً، والمعنى: ويحيي بعضهم بعضاً بالسلام.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} /، (أي): ألم تر بعين(5/3803)
قلبك يا محمد، كيف ضرب الله مثلاً للإيمان (به): ومثلاً للكفر به. فجعل مثل المؤمن في نطقه بالتوحيد، والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم، وأتباع شريعته (جلت عظمته): مثل الشجرة (الطيبة). فنفعُ الإقامة على توحيده، كنفع الشجرة التي لا ينقطع نفعها في كل حين، وهي النخلة.
قال ابن عباس ( رحمه الله) : { مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}: يهمي أن شهادة (أن) لا إله إلا الله، {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}، هي المؤمن، أصلها ثابت: هو قول لا إله إلا الله. ثابت في قلبه {وَفَرْعُهَا فِي السمآء} أي: يرتفع بها عمل المؤمن في السماء.
وقال مجاهد: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}: يعني: النخلة.
وقيل: الكلمة الطيبة أصلها ثابت، هي ذات أصل في القلب، يعني التوحيد.(5/3804)
{وَفَرْعُهَا فِي السمآء} يُعرج بها فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله، عز وجل. وقال ابن عباس أيضاً، ( رحمه الله) : في رواية أخرى عنه: الشجرة الطيبة: المؤمن، والأصل الثابت: في الأرض، (والفرع): في السماء: يكون المؤمن يعمل في الأرض، ويتكلم فيبلغ عمله، وقوله السماء، وهو في الأرض.
وقال عطية العوفي: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيب، وعمل صالح، يصعد إلى الله عز وجل.
وقال الربيع بن أنس: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض: ذلك المؤمن ضرب مثله.
وقيل: معنى: وفرعها في السماء: بركتها وثوابها لمعتقدها صاعد إلى الله ( عز وجل) ، وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.(5/3805)
وقيل: معنى (أصلها ثابت): (أي) شهادة أن لا إله إلا الله (محمد رسول لله) ثابتة في القلب المؤمن، {وَفَرْعُهَا فِي السمآء}: أي: يرتفع بها أعمال المؤمن إلى السماء.
(و) قال: مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن جبير، وابن عباس: الشجرة هنا النخلة.
وعن الضحاك أنه قال: هذا مثل ضربه الله ( عز وجل) :، للمؤمن يطيع الله بالليل، ويطيعه بالنهار، (و) يطيعه: كل حين، (كما): أن هذه الشجرة تؤتي أكلها كل حين.
وقوله: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}: مثل الكافر عمله خبيث، وجسده خبيث، وروحه خبيث. وليس لعمله قرار في الأرض، ولا يصعد إلى السماء.
وقيل: الشجرة هنا: شجرة في الجنة، روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهـ.(5/3806)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هي النخلة " ومعنى كل حين: كل غدوة وعشية في أحد قولي ابن عباس على أنها شجرة في الجنة.
وقيل: كل حين: كل وقت، وهو المؤمن يطيع الله، ( عز وجل) : بالليل والنهار، وفي كل وقت.
وقال الربيع بن أنس ( رحمه الله) ( كل حين): كل وقت يصعد عمل المؤمن من أول النهار وآخره.
وقيل: الحين هنا: ستة أشهر، من حيث تُصرْمُ النخلة إلى حين تُطْلِع وذلك ستة أشهر.(5/3807)
وقيل: الحين: سنة، وذلك من حين تُصرْمُ النخلة / إلى حين تصرم.
وقال سعيد بن المسيب: الحين: شهران، وهو ما دام التمر في النخل، وذلك شهران.
واختلفوا في رجل حلف ألا يكلم رجلاً إلى حين، وألا يدخل الدار إلى حين، على مثل ما اختلفوا في الآية.
والحين عند أهل اللغة: اسم للوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها طالت، أو(5/3808)
قصرت.
واختيار الطبري قول من أن الحين غدوة وعشية، وكل ساعة، على أن الشجرة شجرة في الجنة، لأن الله ( عز وجل) ضرب ما تؤتى هذه الشجرة كل حين من الأكل لعمل المؤمن، وكلامه مثلاً. ولا شك أن المؤمن يرتفع له إلى الله، عز وجل، في كل يوم عمل صالح.
واختار النحاس أن يكون الحين سنة، على أن الشجرة: النخلة، تؤتي ثمرها من سنة إلى سنة.
والحين عند مالك، ( رحمه الله) : سنة، ولو نذر رجل أن يصوم حيناً (لصام) سنة وهو قول مجاهد.
وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وأصحاب الرأي: الحين ستة أشهر، فمن نذر صوم حين، صام ستة أشهر.(5/3809)
وقال الشافعي: ليس عليه في نذره شيء، ولا يحنث في ترك الصوم، ولا يلزمه نذر. لأن الحين يكون مدة الدنيا كلها.
ثم قال تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}، معناه: ومثل الشرك بالله، سبحانه وهي الكلمة الخبيثة: كشجرة خبيثة، وهي: الحنظلة، قال (هـ) مجاهد، وأنس بن مالك وروي عن ابن عباس.
ومعنى: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض}، أي استؤصلت.
ومعنى: {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}: أي: ليس من أصل في الأرض تثبت عليه وتقوم. فليس لكفر الكافر ومعصيته ثباتن ولا نفع.(5/3810)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
كما أن هذه الشجرة ليس لها أصل، ولا ثبات ولا نفع.
وقيل: الشجرة الخبيثة: الثوم: وقيل: الكثوث.
قوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} - إلى قوله - {وَلاَ خِلاَلٌ}.
ومعناه: يثبت الله الذين آمنوا به وبرسله وكتبه بقوله لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله: أي: يثبتهم (بذلك في الحياة الدنيا: أي: في قبورهم قبل قيام الساعة.
{وَفِي الآخرة}: قال البراء بن عازب: يثبت الله الذين آمنوا بالشهادة في القبر، إذ أتاهم الملكان، فقالا: من ربك؟ فيقول ربي (الله فيقولان) ما دينك؟ فيقول: دين (ي) الإسلام، فيقولان من نبيك؟(5/3811)
فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم: فذلك القول الثابت في الحياة الدنيا.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتفرق عنه أًحابه جاءه ملك بيده مِطْرَاقٌ، فأقعده فقال (له): ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً: قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقول له: صدقت
. فيفتح له باب إلى النار، فيقال (له): هذا منزلك لو كفرت بربك. فأما إذ آمنت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض(5/3812)
فيقال له: ثم يفسح له في قبره. وأما الكافر /، والمنافق، فيقال له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دَرَيْت، ولا تدريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت، فإن الله عز وجل أبدلك به هذا. ثم يفتح له باب إلى النار، ثم يقمَعُهُ الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم، إلا الثقلين. فقال (له) بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا يفشل عند ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} " الآية.
ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ زائدة على ما ذكرنا، وناقصة (عن) ما(5/3813)
ذكرنا، والمعنى فيها قريب من الآخر.
وقيل: معنى الآية: يثبتهم الله في الحياة على الإيمان، حتى يموتوا عليه {وَفِي الآخرة} المساءلة في القبر، قاله طاووس، وقتادة وهو اختيار جماعة من العلماء.
ومعنى {وَيُضِلُّ الله الظالمين}: أي: لا يوفقهم في الحياة الدنيا إلى الإيمان، ولا في الآخرة عند المساءلة في القبر.
وقوله: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ}: أي: بيده الهداية والضلالة يضل من يشاء فلا يوفقه، ويهدي من يشاء فيوفقه.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً}: أي: غيّروا نعمة الله، وهي كون محمد صلى الله عليه وسلم من قريش وإرساله إليهم، فجعلوا النعمة كفراً.(5/3814)
قيل: نزلت في قتلى بدر من المشركين. وقيل: في كفار قريش كلهم.
قوله: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار}: أي: أنزلوا قومهم من مشركي قريش دار الهلاك. يقال: بار الشيء: إذا هلك، ثم بينها فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار}: أي: بئس المستقر لمن صلاها.
ووقيل: نزلت في المشركين يوم بدر قاله ابن عباس.
{وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار}: يعني: الذين اتبعوهم.
وقيل: نزلت في أهل مكة عامة: أسكنهم الله عز وجل حرمه، وآتاهم نعمه، وجعلهم قوام بيته. فبدلوا ذلك كفراً.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ}: أي: جعل هؤلاء الذين(5/3815)
بدلوا نعمة الله كفراً (لله) أنداداً: أي: شركاء. ({لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ}) لكي يضلوا الناس عن سبيل الله.
قال ابن مسعود: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصُباً، يعني: تمثالاً، تعبدها قريش من دون الله: فهي الأنداد.
ثم قال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ}: أي: قل لهم يا محمد! تمتعوا في هذه الحياة الدنيا، وهذا على طريق التهدد، والوعيد.
{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار}: أي عاقبتكم إلى النار تكون.
وقيل: معناه: إن الكافر لو كان في الدنيا مريضاً سقيماً، طول عمره لا يجد ما(5/3816)
يأكل ولا (ما) يشرب لكان ذلك نعيماً عندما يصير إليه / من عذاب الآخرة. ولو كان المؤمن في الدنيا لا يعرض له سقم، ولا مرض طول عمره، يتنعم بأنعم ما يكون من مأكول (في) الدنيا، ويلبس أحسن ما يكون من اللباس لكان ذلك بؤساً عندما يصير إليه من نعيم الآخرة.
ثم قال تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة}:
ومعناه: قل يا محمد! لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات الخمس بحدودها.
{وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}: أي: مما خولناهم: يعني: الزكاة. سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه، أي: لا يباع ما وجب عليه من العقاب بفدية (ولا عوض).
قال أبو عبيدة: البيع هنا: الفدية.(5/3817)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
وقوله: {وَلاَ خِلاَلٌ}: أي: ولا مخالة خليل، فيصفح عمن استوجي العقوبة لمخاللته. والخلال مصدر خاللته، قاله الأخفش. (و) الخلال جمع خلة، وهو بمعنى: الصداقة.
وقال ابن عباس: {يُقِيمُواْ الصلاة} يعني: الصلوات الخمس، {وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}: يعني: زكاة أموالهم.
قوله: {الله الذي خَلَقَ السماوات} - إلى قوله - {كَفَّارٌ}: والمعنى: " الله الذي أنشأ السماوات والأرض من غير شيء.
{وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ}: أي: أحيى به الأرض والشجر،(5/3818)
والزرع، والثمرات، رزقاً لكم: تأكلونه.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} وهي السفن: {لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} ومعنى " بأمره " لكم، تركبونها، وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار}: أي: سخر ماءها شراباً وسقياً لكم.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ}: أي: متعاقبين عليكم أيها الناس بالليل والنهار لصلاح أنفسكم ومعايشكم.
وقيل: معنى دائبين: متماديان في اختلافهما عليكم. وقال ابن عباس ( رحمه الله) : هو دؤوبهما في طاعة الله، عز وجل، { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار}: أي: بسخر تعاقبهما عليكم لمنافعكم، وصلاح أحوالكم.(5/3819)
ثم قال تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}: أي: وأعطاكم مع ما تقدم من ذكر إنعامه عليكم: {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، أي: من كل سؤلكم، قاله الفراء.
وقال الأخفش: " من كل ما سألتموه (شيئاً)، وحذف شيئاً لدلالة لفظ التبعيض عليه، ولدلالة " ما " التي أضيف إليها " كل " لأنها بمعنى شيء.
وقيل: هذا لفظ عام، ويراد به الخصوص، كما يقال: فلان يعلم كل شيء، وأتاني كل إنسان: يريد البعض، ومثله {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]
قال مجاهد: معناه: وآتاكم من كل ما رغبتم إليه فيه.
وقيل: المعنى: وآتاكم من كل الذي سألتموه، والذي لم تسألوه.
وقيل: معناه: إن الناس قد سألوا الأشياء عن تفرق أحوالهم، فخوطبوا على ذلك: أي: قد أوتي بعضهم منه شيئاً، وأوتي الآخر منه شيئاً آخر، مما قد سأله.(5/3820)
وروى محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبيه، عن نافع " من كل " بالتنوين، وهي قراءة الضحاك. والحسن: أي: أعطاكم أشياء ما سأَلْتُمُوهَا / ولا التمستموها، ولكن فعل ذلك لكم، برحمته وسعة فضله.
قال الضحاك ( رحمه الله) : فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه، ولا طلبناه، ولا خطر لنا على بال.
وجعل الحسن " ما " بمعنى " الذي " مع التنوين. وقال في معناه: وآتاكم من كل ما سألتموه: أي: أعطاكم من كل الأشياء الذي سألتموه.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}: أي: (إن) تعدوا نعم الله(5/3821)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
عليكم لا تحصوا عددها، والقيام بشكرها.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، الإنسان: اسم للجنس وظلوم بني للمبالغة.
والمعنى أن الإنسان غير شاكر من أنعم عليه، وقد وضع الشكر في غير موضعه، يعبد غير من أنعم عليه.
كفار: جحود نعمة من أنعم عليه.
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} - إلى قوله - {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
المعنى: واذكر يا محمد! إذ قال إبراهيم: رب اجعل مكة " بلداً " آمناً، سكانه وأهله. فهذا إشارة إلى البلد، والبلد نعت لهذا، أو عطف بيان. و " آمنا " مفعول(5/3822)
ثان لجعل.
ثم قال تعالى حكاية عن قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا محمد وسلم: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام}: أي: اجعلني وإياهم جانباً عن عبادتها.
وقيل: معناه أنقذني، وإياهم من عبادة الأصنام. والصنم: التمثال المصور، فإن لم يكن مصوراً فهو وثن.
قال مجاهد: أجاب الله، جل ذكره، دعوة إبراهيم في ولده، فلم يعبد أحد منهم صنماً.
ثم قال تعالى، ذكره: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس}: أي: إن الأصنام أضللن كثيراً من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن فكفروا بك. وأضاف الفعل إلى الأصنام على ما تعرف العرب من مخاطبتها. يقول العرب: أفتنتني الدار، والمعنى: استحسنتها.(5/3823)
فالمعنى: إنه افتتن (كثير) من الناس بهن، أي: استحسنهن كثير من الناس، أي: استحسن عبادتهن كثير منهم.
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، أي: من تبع ما أنا عليه من الإيمان بالله، ( عز وجل) ، وإخلاص العبادة (له فهو من): أي: من أهل ديني.
{وَمَنْ عَصَانِي} فخالف أمري {فَإِنَّكَ غَفُورٌ} لذنوب المذنبين. أي: ستار لها إذا تابوا منها بالإيمان. وهذا قريب من قول عيسى صلى الله عليه وسلم: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]- الآية -: أي: إن تغفر لهم ذنوبهم بعد توبتهم وإيمانهم. (وفي) ذلك أقوال غير هذا، قد ذكرتها في المائدة.
وغير جائز أن يتأول أحد أن المغفرة ترجى لمن مات على كفره، لقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48، 116]،(5/3824)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
ولقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً} [آل عمران: 91]- الآية - وهو كثير في القرآن، فلا يَيْأَس من مغفرة الله لعبدٍ مع الإيمان، ولا ترجى مغفرة لعبدٍ من الكفر.
وقوله: رحيم: أي: رحيم بعبادك إذا آمنوا قبل موتهم.
قوله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي / زَرْعٍ} - إلى قوله - {يَوْمَ يَقُومُ الحساب}. معنى الآية: إنه دعاء من إبراهيم صلى الله عليه وسلم بمكة، وذلك حين أسكن إٍماعيل، وأمه هاجر مكة.
قال ابن عباس: إن أول من سعى بين الصفا والمروة لأم اسماعيل (وإن)(5/3825)
أول ما أحدث النساء جر الذيول، لمن أم اسماعيل، وذلك أنها لما فرت من سارة أرْخَتْ من ذيلها لتعفي أثرها، فجاء بها إبراهيم، ومعها إٍماعيل حتى انتهى بها إلى موضع البيت، فوضعها، ثم رجع. فأتبعته، فقالت: إلى (أي) شيء تكلنا؟ (إلى أي طعام تكلنا)، إلى أي شراب تكلنا؟.
فجعل إبراهيم لا يرد عليها عيناً، فقالت: (آلله) أمرك بهذا؟ قال نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء. أقبل على الوادي، فدعا، فقال: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} - الآية - قال: وكان كع هاجر شن، فيه ماء. فنفد الماء فعطشت، فانقطع اللبن. فعطش الصبي، فنظرت أي: الجبال أدنى من الأرض، فصعدت الصفا، فتسمعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً. فلم تسمع شيئاً، فانحدرت. فلما أتت إلى الوادي سعت وما تريد السعي،(5/3826)
كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي. فنظرت أي الجبال أدنى من الأرض، فصعدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتاً، أو ترى أنيساً فسمعت صوتاً كالإنسان الذي يكذب سمعه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك، فأغثني، فقد هلكت وهلك من معي. فجاء الملك بها، حتى انتهى (بها) إلى زمزم. فضرب بقدمه ففارت، فجعلت هاجر تفرغ من شنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أم إسماعيل! لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً " وقال الملك لها: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد، فإنما (هي) عين لشرب ضيفان الله. وقال لها: إن أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله (جل وعز) بيتاً، ذا موضعه، ثم ذهب، وبقيت هاجر، فأتت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأوا الطير على الجبل، فقالوا: إن هذا الطير لعائف على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟ فقالوا: لا. ثم أشرفوا فإذا هم(5/3827)
بهاجر وابنها، فأتوها، فطلبوا أن ينزلوا عندها، فأذنت لهم، فسكنوا عندها. ثم أتتها المنية فماتت، رحمة الله عليها، فتزوج اسماعيل امرأة من جُرْهم، ثم كان من قصة إبراهيم في إتيانه إلى (بناء) البيت ما ذكر الله ( عز وجل) .
وقد تقدم منه ذكر (كثير) في البقرة. ومعنى: {بَيْتِكَ المحرم}: أي: المحرم من استحلال حرمات الله (تعالى) فيه، والاستخفاف بحقه.
وقوله: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ}: أي: اجعل قلوب بعض خلقك تنزع إليهم، فلذلك قلوب الناس إلى الآن تنزع إلى الحج، ولا تقدر على التخلف.(5/3828)
وقد قال ابن جبير: لو قال: فاجعل أفئدة الناس / تهوي إليهم، لحجت اليهود والنصارى، والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} فحج المسلمون.
قال مجاهد ( رحمه الله) : لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس، والروم، ولكنه قال: من الناس.
والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، وسمي القلب فؤاداً لتفاؤده:
أي: لتوقده، والتفاؤد: التوقد، والمقتاد: موضع وقود النار.
قال عكرمة، وطاووس، وعطاء: قلوبهم تهوى إلى البيت حتى يأتونه: (أي) يحجون، وهو قول ابن عباس.(5/3829)
وعن ابن عباس أن معنى: {تهوى إِلَيْهِمْ}: أي: تهوى السكنى عندهم.
وهذا المعنى إنما يكون على قراءة من قرأه بفتح الواو، وهي قراءة مروية عن مجاهد.
ولما دعا إبراهيم بأن يرزقهم من الثمرات نقل الله ( عز وجل) ، الطائف من فلسطين إلى موضعها الآن، ففيها من من كل الثمرات.
روي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذا بعث الله جل ذكره، جبريل عليه السلام، فاقتلع الثمار من الشام من موضع يقال له الأردن، وهو نهر، ثم أقبل بالثمار حتى طاف بها حول البيت أسبوعاً، ثم أنزلها جبال تهامة وهي الطائف.(5/3830)
ولذلك سميت الطائف.
{لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}: أي: يشكرون نعمك.
ثم حكى الله ( عز وجل) ، عنه أنه قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}: أي: تعلم ما نخفي في قلوبنا عند مسألتنا إياك وما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا.
{وَمَا نُعْلِنُ} من دعائنا، فنجهر به. وغير ذلك من أحوالنا.
{وَمَا يخفى} عليك يا رب (من) شيء في الأرض، ولا في السماء
ثم قال جل ذكره {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي} - الآية -
قال ابن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد تسع عشرة ومائة (سنة)
(وقوله): {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة}: أي: مؤدياً ما ألزمتني من فرائضك،(5/3831)
{وَمِن ذُرِّيَتِي}: أي: واجعل أيضاً من ذريتي مقيم الصلاة.
ثم قال تعالى: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ}: الدعاء هنا العبادة. والمعنى: " وتقبل عملي الذي أعمله لك، وعبادتي إياك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
. فالمعنى: اعبدوني أستجب لكم، على ذلك قوله: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60].
{رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ}: استغفر إبراهيم لأبيه من أجل {مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]: أي: مات على كفره.
وقيل: عني بوالديه: آدم وحواء (عليهما السلام).(5/3832)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
وقرأ يحيى بن يعمر، والنخعي: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} يعني: إسماعيل، وإسحاق.
وقرأ ابن جبير: " ولوالدي " يعني أباه وجده.
قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً} - إلى قوله - {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}:
المعنى: ولا تحسبن الله يا محمد ساهياً عن عمل هؤلاء المشركين من قومك. بل هو عالم بهم، يحصي عليهم جميع أعمالهم، ليجازيهم عليها.
وهذه الآية " وعيد للظالم / وتعزية للمظلوم ".
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}: أي: إنما يؤخر عقابهم(5/3833)
ليوم القيامة، يوم تشخص فيه أبصار الظالمين. فلا ترتد إليهم.
ثم قال تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}.
قال قتادة: مهطعين: مسرعين.
وقال ابن جبير، عن قتادة: " مهطعين منطلقين، عامدين إلى الداعي.
وقال ابن عباس ( رحمه الله) : مهطعين: مديمي النظر، من غير أن تطرف أبصارهم. وقاله مجاهد.
وقال ابن زيد: المهطع: الذي لا يرفع رأسه، والإهطاع في كلام العرب: الإسراع.(5/3834)
وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة: الإقناع: رفع الرؤوس.
وأصل الأهطاع: الإقبال على الشيء بالنظر، ينظر دائماً، لا يرفع بصره، ولا يطرف. وهو بمعنى قول مجاهد، والضحاك، وهو قول الخليل: ودليله قوله:
{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}: أي: يديمون النظر، لا يطرفون.
قال الحسن: " وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحد - إلى أحد. والمقنع في اللغة: الرافع رأسه.
حكى أبو العباس: أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ رأٍه ذلاً وخضوعاً. فتحتمل الآية القولين جميعاً. قال: ويجوز أن يرفع رأسه مديماً للنظر، ثم يطأطأه ذُلاّ وخضوعاً.
ومن الارتفاع قيل: مقنعة للتي يجعلها النساء على رؤوسهن، لارتفاعها(5/3835)
على الرأس. ومنه قنع الرجل إذا رضي، لأنه رفع نفسه على السؤال، وقنع إذا سأل، أي: أتا ما يتقنع منه.
ثم قال تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}: والمعنى عند ابن عباس رضي الله عنهـ: " لا ترجع إليهم لشدة النظر أبصارهم ": أي: هي شاخصة. ومعنى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}: أي: منحرفة، لا تعي من الخير شيئاً، قاله ابن عباس. كما تقول: ليس في البيت شيء، إنما هو هواء.
قال ابن عباس: وليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة.
وقال ابن زيد: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} الأفئدة: القلوب ليس فيها عقل، ولا(5/3836)
منفعة.
وقيل: معناه: لا تستقر في مكان، فر ترتد في أجوافهم.
قال ابن جبير: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}: " تمور في أجوافهم، ليس لها مكان تستقر فيه ".
وقال الضحاك: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} معناه: " ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم "، وقاله السدي.
قال قتادة: " انتزعت حتى صارت في حناجرهم، لا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أمكنتها.
وأصل الهواء في اللغة: المجوف الخال (ي).
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}، والمعنى: وأنذر الناس الذين أرسلت إليهم يا محمد {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}: وهو يوم القيامة.(5/3837)
" فاليوم ": مفعول به، بأنذر ولا يحسن أن يكون نصبه على الظرف، لأن الإنذار لا يكون يوم القيامة، إنما هو / في الدنيا فافهمه، وله نظائر كثيرة في القرآن.
ثم قال تعالى: {فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ}.
قال محمد بن كعب القرظي، رحمه الله: بلغني أن (أهل) النار ينادون:
{رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} فرد عليهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} - إلى قوله - {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}.
وقوله: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}: هذا تقريع من الله ( عز وجل) للمشركين من قريش. أعلمنا أنه يقال لهم بعد أن دخلوا النار بإنكارهم البعث في الدنيا، إذ سألوا رفع العذاب (عنهم)، وتأخيرهم لينيبوا، أو يتوبوا.
{أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وإنكم إنما تموتون، ولا تبعثون.(5/3838)
وهذا القسم الذي حكى الله ( عز وجل) ، عنهم هنا ما هو حكى الله (سبحانه) عنهم أنهم قسموا في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]. قاله ابن جريج.
ثم قال جل ذكره حكاية عما يقول للمشركين في الآخرة:
{وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي: سكنتم في الدنيا في مساكن الأمم، الذين أهلكوا بظلمهم لأنفسهم، فلم تعتبروا بهم، ولا اتعظتم.
ومعنى {ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي: " كفروا بالله (سبحانه)، فظلموا بذلك أنفسهم.
{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}: أي: أعلمتم كيف أهلكناهم حين كفروا بربهم.(5/3839)
{وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال}: أي: مثلنا لكم ما كنتم عليه من الشرك، فلم تتوبوا من كفركم، فالآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم العذاب.
قال قتادة: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي، اسكن الناس في مساكن قوم نوح، وعاد، وثمود.
ثم قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ: أخذ الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين فرباهما، حتى استعجلا واستغلظا وشبا. ثم أوثق رجل كل واحد منهما في وتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت. ورفع من التابوت عصاً على رأسها لحم، فطارا بالتوابوت، وجعل يقول لصاحبه: انظر ماذا ترى؟ فيقول: أرى كذا، وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كأنها ذباب. فقال له: صوب العصا، فصوبها فهبطا: فهو مكرهم الذي أرادت الجبال أن تزول منه.(5/3840)
وروي أن الذي فعل ذلك بالنسور بختنصر. فلما ارتفعت به النسور نودي: أيها الطاغية أين تريد؟ ففزع، وصوب الرمح الذي فيه اللحم، فصوبت النسور: فكادت الجبال أن تزول لذلك.
وقال ابن جبير: هو نمرود.
وقيل: مكرهم هنا، هو شركهم بالله سبحانه، وافتراؤهم عليه. روي ذلك أيضاً عن ابن عباس.
/ وقال الضحاك هو كقوله {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم 88 - 89]- الآية -.(5/3841)
ومن كسر اللام في " لتزول منه " جعل إن بمعنى: ما. أي: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. واللام لام النفي. وهذا مروي عن الحسن ( رحمه الله) ومثله عنده: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94]: أي: فما كنت في شك. ومثله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الزخرف: 81]: أي: ما كان.
(فيكون معنى القراءة عندهم أضعف)، وأوهن من أن تزول منه الجبال، ويدل على صحة قوله إن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
ومن فتح اللام جعلها لام تأكيد، ومعناه: إنه عظم مكرهم وكبرهم. فأخبر(5/3842)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
أن الجبال كادت تزول لمكرهم، ودليل تعظيم مكرهم أن الله قد قال: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} [نوح: 22]، وقال: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91]: فأخبر أن ما يأتون به من الكفر تكاد السماوات يتفطرن منه: (أي): تنشق، وتكاد الجبال تسقط إعظاماً لقولهم.
وقيل: إن المراد بهذه الآية قريش، نفى الله عز وجل، أن تزول لمكرهم الجبال، والجبال كناية عن القرآن، والتقدير: وما كان مكر قريش وكفرهم ليزول منه القرآن إذا أنكروه، وكفروا به. بل فعلهم ذلك لا يضر القرآن، ولا يزيله من قلوب المؤمنين حتى يبلغ جميع الأمم الكائنة إلى يوم القيامة. فيجاز (ى) المؤمن به على إيمانه، والكافر به على كفره.
وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}: - إلى قوله - {سَرِيعُ الحساب}، والمعنى: ولا تحسبن الله يا محمد مخلف رسله، وعده الذي وعدهم من عقوبة من(5/3843)
كذبهم تثبيتاً منه تعالى لنبيه، عليه السلام ومعلماً، له به أنه سينزل سخطه على من كذبه.
{إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام}: أي: إن الله لا يمتنع منه شيء أراد عقوبته {ذُو انتقام} لمن كفر به وكذب رسله.
ثم أخبرنا تعالى، متى يكون هذا الانتقام، فقال {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات}: أي: ينتقم من الظالمين في هذا اليوم. ومعنى {تُبَدَّلُ الأرض (غَيْرَ الأرض)}: أي تصير هذه الأرض أرضاً بيضاء، كالفضة لم يسفك عليها دم، ولا عمل عليها خطيئته، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر حفاة، عراة، قياماً، كما خلقوا حتى يلجمهم العرق. قاله ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومجاهد، والحسن.(5/3844)
وقال الحسن ( رحمه الله) في حديث (هـ): والسماوات أيضاً كالفضة وعن عبد الله بن مسعود أنه، قال: تبدل الأرض ناراً يوم القيامة، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها. والذي نفس عبد الله بيده: إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترسخ في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب. فقالوا: (مم) يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما الناس يلقون. وقال: (و) أولياء الله في ظل عرش الله. والذي نف عبد الله بيده: إن جهنم / لتنظف على الناس، مثل الثلج حين يقع من السماء، والذي نفس عبد الله بيده إن عرقه ليسيح في الأرض تسع قامات، ثم يلجمه، وما ناله الحساب من شدة ما يرى الناس (و) يلقون.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ: تبدل الأرض من فضة، والجنة من ذهب.(5/3845)
وقال ابن جبير: تبدل الأرض خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه. وكذلك ذكر محمد بن كعب القرظي ( رحمه الله) .
وكذلك قال أبو جعفر بن محمد بن علي، (نضر الله وجهه): تبدل الأرض خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8].
وقال أنس بن مالك رضي الله عنهـ: تبدل الأرض بأرض من فضة، لم يعمل فيها الخطايا.
وقيل: تبديل الأرض: هو تسيير جبالها، وتهجير بحارها، وكونها مستوية: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 108]، وتبدل السماوات: انتثار كواكبها، وانفطارها، وانشقاقها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، ويمدها مد الأديم العُقاظي، لا ترى فيها عوجاً، ولا أمتاً، ثم يزدجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه(5/3846)
المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى. ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان على ظهرها. وذلك حين تطوى السماوات "
{كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} " [الأنبياء: 104] ثم يدحوهما ثم يبدلهما ".
" وسألت عائشة، رضي الله عنها، النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله: إذا بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار. أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط ".
ومعنى {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ}: وخرجوا من قبورهم أحياء لموقف الحساب بين يدي الله (عز جل).
{الواحد الْقَهَّارِ} أي: المنفرد بالقدرة على خلقه، الذي يقهر كل شيء.(5/3847)
وقال ابن مسعود رضي الله عنهـ: يجمع الله الخلائق كلهم في صعيد واحد، لأرض بيضاء، لم يعص الله فيها قط، ولم يخطأ فيها خطيئة. فأول ما يتكلم أن ينادي منادٍ: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: [16]؟، ثم يقول الله الواحد القهار: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [غافر: 17].
وعن علي (رضي الله عنهـ) أنه قال: تبدل الأرض (بأرض) من فضة، والجنة من ذهب. وعن ابن عباس رضي الله عنهـ أنه قال: بلغنا، والله أعلم، أن الأرض تبدل بأرض بيضاء، لم يعمل عليها معصية، ولم يسفك عليها دم حرام.
ثم قال تعالى: {وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد}: أي: وترى يا محمد الذين(5/3848)
اجترموا في الدنيا الشرك بالله (مقرنين: أي) مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.
{فِي الأصفاد}: أي: في الوثاق، من غل سلسلة، أو قيد. وأحدها صفد كحبل. أو صفد كعدل والأصفاد: القيد. /
وعن ابن عباس، رضي الله عنهـ: الأصفاد السلاسل.
قال الضحاك: ( رحمه الله) الأصفاد: السلاسل.
وقال قتادة ( رحمه الله) : هي القيود، والأغلال.
وقال الحسن: ما في جهنم واد، ولا مغارة، ولا قيد، ولا سلسلة إلا واسم صاحبه عليه مكتوب.(5/3849)
ثم قال تبارك (و) تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ}: أي قمصهم التي يلبسونها، واحدها سربال.
من قطران: قال الحسن ( رحمه الله) : هو قطران الإبل، ويقال قَطَرَان وقِطرَان بفتح القاف وكسرها.
وقرأ مجاهد، رحمه الله، قطران (عليه) نحاس، ومثله عن ابن عباس. وعن ابن عباس، وعكرمة، ( رحمه الله عليهما)، إنهما قرآ: (من) قِطْرٍ آنٍ: أي: من نحاس قد انتهى حره في الشدة، وقد قالوا قطران في الواحد، ولو جمع قطران، لقيل: قطارين كضربان وضرابين.(5/3850)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
ثم قال تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار}: أي: " تلفح وجوهه النار فتحرقها.
{لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}: أي: ما كسبت من الأثام في الدنيا (أ) ومن الحسنات.
{إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}: أي عالم بعلم كل عامل، لا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى معاناة وحساب. قد أحاط بها علماً.
قوله: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} (الآية وهذا القرآن)، (وهذا) الوعظ بلاغ للناس: أي: أبلغ الله جل ذكره إليهم في الحجة عليهم، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من موعظة وعبرة.
ثم قال تعالى: {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي: عذاب الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم.(5/3851)
{وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب}: أي: وليتعظ أصحاب العقول والأفهام.
وواحد الألباب لب، ولب كل شيء: خالصة، فافهم.
(والله الموفق المعين لمن استعانه , وكفى به حسيبا على من خلقه)(5/3852)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ
المجلد السادس
الحجر - الكهف
1429 هـ - 2008 م(5/3853)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
/ سورة الحجر [و] هي مكية
:
قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} إلى قوله {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}.
قد تقدم ذكر {الر} وشبهها. والمعنى: هذه تلك، أي: هذه الآيات {آيَاتُ الكتاب} أي: آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل. قالـ[ـه]: مجاهد وقتادة.(6/3857)
{وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} أي: وآيات قرآن مبين لمن تدبره وتأمله.
ثم قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ}.
أصل " رب " أن تدخل على النكرات، وأن تكون في صدر الكلام لمضارعتها " كم ". لأنها للتقليل كما أن " كم " للتكثير ولمضارعتها " لا " لأنها للتقليل، والتقليل أقرب شيء من النفي. ومن أجل كونها للتقليل لزمتها النكرة.
وموضع " رب " وما عملت فيه، نصب [يتعدى] الفعل الذي بعدها، كما تقول: مررت بزيد: فزيد في موضع نصب. ولذلك لم يؤت لها بخبر، كما يأتي لكم. والفعل: الذي يتعلق به محذوف - وربما ظهر - وكل حرف جر فإنما يتعلق بما/ قبله إلا رب فإنها [تـ]ـتعلق بما بعدها لأن لها صدر الكلام.
وإذا دخلت عليها " ما " كفتها عن العمل ووقعت الأفعال الماضية بعدها،(6/3858)
تقول: ربما قام زيد، وربما جلس عمرو. فإن وقعت الأسماء بعدها، جاز عملها، ولغوها تقول: ربما رجل رأيت. ويلزم النكرة التي تدخل " رب " عليها النعت.
فإن وقع بعدها مستقبل فعلى إضمار " كان " تقول: ربما يقوم زيد. تقديره ربما: كان يقوم زيد.
فأما قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} وإنما جاز وقوع المستقبل بعدها في هذه [الآية] لأنه أمر واقع لا محالة، فصار بمنزلة الماضي الذي [قد] كان [ووقع]. فإن قلت " رب رجل سيقوم " أو " ليقومن " لم يجز إلا أن تريد أنه يوصف بذلك.
وإذا اتصل بربما مجهول انتصب ما بعدها على التفسير. ولا يثنى ذلك(6/3859)
المجهول ولا يجمع ولا يؤنث عند البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون.
والمضمر الذي يتصل برب في تأويل نكرة ولفظه لفظ معرفة. وإنما كان نكرة لأنك لم تقصد به إلى مذكور بعينه تقدم ذكره، وإنما أظهر على شريطة التفسير بعده.
ولا موضع " لما " في ربما لأنها زائدة. وأجاز الأخفش أن تكون " ما " نكرة في موضع خفض " برب " كأنه قال: ورب شيء، أو: رب: وَدَّ.
ومعنى الآية: ربما تمنى الذين كفروا لو كانوا في الدنيا مسلمين. وذلك في قول: ابن عباس، وأنس، حين يرى المشركون المسلمين من أهل الخطايا يخرجون من النار بإيمانهم. فيود عند ذلك المشركون لو كانوا مسلمين فيخرجون كما خرج هؤلاء(6/3860)
المسلمون. وذكر ابن عباس: أنه إذا اجتمع المشركون وأهل الذنوب من المسلمين في النار قال المشركون للمسلمين: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، قد اجتمعا وإياكم.
فيغضب الله عز وجل للمسلمين فيخرجهم بفضل رحمته فيقول المشركون عند ذلك ليتنا كنا مسلمين.
وفي حديث ابن وهب: ". . . فيغضب الله لهم فيقول للملائكة والنبيين: اشفعوا، قال: فيشفعون لهم. فيخرجون حتى إنَّ إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم ".
وقال مجاهد عن ابن عباس: يدخل الله المؤمنين الجنة حتى يقول في آخر ذلك: من كان مسلماً فليدخل الجنة. فعند ذلك يتمنى المشركون لو كانوا مسلمين.
وقيل: إن ذلك يكون من الكافر إذا عاين القيامة.
وقيل: يكون منه ذلك التمني إذا عاين الموت.(6/3861)
ثم قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل}.
معنى ذلك: التهديد والوعيد للمشركين.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}.
أي: ما أهلكنا من أهل قرية من الأمم الماضية، إلا ولها أجل مؤقت و/ مدة [معلومة] لا يهلكهم الله حتى يبلغوها. وكذلك أهل قريتك يا محمد، وهي مكة، لا يهلكهم الله حتى يبلغوها. أي: بعد بلوغهم مدتهم لا يتقدمون عن ذلك ولا يستأخرون.
وقال بعض أهل المعاني: " سبقت " و " استأخرت " مع الأشخاص معناها: غير معناها مع غير الأشخاص.
تقول: سبقت فلان [اً] تجاوزته. واستأخرت عنه فأتى، وتأخرت عنه.
وتقول: سبقت الهلاك: قصرت عن بلوغه. واستأخرت الهلال(6/3862)
جزته.
فمعنى [قوله] {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} لا تقصر عنه. ومعنى " وما يستأخرون " لا يتجاوزونه فيزيدون عليه.
روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال: " أن] خلق أحدكم يجمع في بطن أمه في أربعين ليلة. ثم يكون عقله مثل ذلك. ثم يكون مضغة مثل ذلك. ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات. فيكتب أجله، وعمله، ورزقه، وشقي [هو] أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح. فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينه وبين [الجنة] إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها.(6/3863)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ".
قوله: {وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر}.
معناه: وقال هؤلاء المشركون، لك يا محمد، يا أيها الذي نزل عليه القرآن، إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى أن نتبعك وندع آلهتنا.
ثم حكى [الله] عنهم: أنهم قالوا: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة}. أي: هلا [تأتينا] بالملائكة تشهد لم بالصدق فيما جئتنا [به] إن كنت من الصادقين فيما جئتنا به. قال الله لمحمد [عليه السلام]. قل لهم: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} أي: بالرسالة للرسل أي:(6/3864)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
بالعذاب إلى الأمم الظالمة.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ}.
أي: لو أنزلنا إليهم الملائكة فكفروا لم ينظروا ولم تقبل لهم توبة، كما فعل ذلك بمن سأل من الأمم الماضية الآيات فكفروا عند إتيانها إليهم فلم ينظروا.
وقال ابن جريج جواب {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} في قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر: 14].
أي: نزلنا القرآن وإنا له لحافظون أن يزاد فيه باطل وما ليس منه، أو ينقص منه(6/3865)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
ما هو منه. قال مجاهد وقتادة. وقد قيل: أن الهاء [التي] في " له " لمحمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في أمم الأولين. وفي فرق الأولين. وواحد الشيع شيعة. و " رسلاً " / محذوف دل عليه أرسلنا.
أي: وما يأتي [من رسول إلى الأمم الماضية فيدعوهم إلى الله {إِلاَّ كَانُواْ بِهِ(6/3866)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
يَسْتَهْزِئُونَ} أي: يسخرون من الرسل عتواً منهم وتمرداً على ربهم.
بمعنى: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين والاستهزاء بالرسل، كذلك نسلك ذلك في قلوب مشركي قومك. فالهاء في " نسلكه " تعود على التكذيب أو على الاستهزاء.
والمعنى: كذلك ندخل الكفر والتكذيب في قلوب المجرمين لما علم الله من سوء اختبارهم وقبيح اعتقادهم. وقيل: الهاء تعود على الشرك. وقيل: على القرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤه عليهم. ومعنى نسلكه: نجعله.
قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: لا يصدقون بالذكر الذي أنزلناه إليك.
{وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} وقد خلت وقائع الله [ عز وجل] بمن خلا قبلهم من(6/3867)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
الأمم.
وقيل: المعنى وقد تقدمت سنة الأولين في التكذيب بالآيات فهم يقتفون آثارهم.
قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء} الآية.
أي: لو فتحنا على هؤلاء الذين تقدم ذكرهم وقالوا لو ما تأتينا بالملائكة، باباً من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم بأعيانهم {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}.
قال ابن عباس وقتادة. ومعنى يعرجون: يجيئون ويذهبون. ومعنى سكرت أبصارنا: أخذ بها وشبه علينا.
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: " فظلوا فيه " يعني بني آدم الذين سألوا(6/3868)
أن يأتيهم النبي بالملائكة. والمعنى فظل هؤلاء السائلون لك يا محمد في هذا الباب يجيئون ويذهبون، لقالوا إنما أخذ بأبصارنا وشبه علينا {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}.
وتحقيق معنى " سكرت ": غشيت وغطيت، قاله: ابن عمر. ومن خفف " سُكِرَت " فمعناه حبست، يقال: سَكَرَت الريحُ إذا سَكَنَتْ. وقيل: هو مأخوذ من: سكر الشراب، ومعناه: قد غشي أبصارنا مثل السكر، وهو تفسير ابن عمرو بن العلاء. ومن شدده فمعناه [عنده]: سدت، وهو قول قتادة والضحاك. وقال(6/3869)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
ابن عباس: معناه: أخذت. وقيل: معنى " سُكِرَت " بالتخفيف سحرت من قول العرب " سكر على فلان رأيه " إذا اختلط عليه فيما يريد. وقال الكلبي: معنى سكرت أبصارنا: غشيت. وكل هذه الأقوال متقاربة المعاني، وقول أبي عمرو أنه مأخوذ من السكر جامع لها كلها.
قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} الآية.(6/3870)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
أي: جعلنا في السماء الدنيا منازل الشمس والقمر {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} أي: زيناها بالكواكب. وقيل: البروج قصور في السماء.
أي: حفظنا السماء / من كل شيطان ملعون. وقيل: رجيم هنا بمعنى، مرجوم، أي: مرجوم بالكواكب.
قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجاً تسترق السمع فيقرب المارد منها فيتعلق فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو ما شاء الله منه فيلتهب. فيأتي(6/3871)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
أصحابه وهو يلتهب، فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا. فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه أضعافاً من الكذب فيخبرونهم. فإذا رأوا شيئاً مما قالوا قد كان، صدقوهم بما جاءوا به من الكذب. وهذا معنى قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10].
وكان ابن عباس يقول: إِنّ الشهاب لا يقتل ولكن يحرق ويجرح.
قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}.
والمعنى: والأرض مددناها فبسطناها، لأنه قال: في موضع آخر {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. ومن تحت [ال] بيت الحرام دحيت(6/3872)
الأرض. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: في ظهرها جبالاً ثابتة. {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي: في الأرض {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}.
وقال ابن عباس " موزون " معلوم. وقال مجاهد: مقدر، أي: لا يزيد على قدرة الله ولا ينقص كأنه موزون. وقال عكرمة: مقدور.(6/3873)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
وقال ابن زيد: " موزون " عني به الأشياء التي توزن. يعني: ما في الجبال من معادن الذهب والفضة والرصاص وغير ذلك مما يوزن. فكأنه قال: أنبتنا فيها من كل شيء يوزن كالفضة والذهب والحديد والرصاص والزعفران والعُصْفُر وغير ذلك مما يباع بوزن.
أي: جعلنا لكم في الأرض معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين يعني الإِماءَ والعبيد. فيكون " من " في موضع نصب عطف على المعايش.
وقيل: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يعني: به الدواب والأنعام، وهو قوله مجاهد.(6/3874)
و " من " على هذا القول: لما لا يعقل وهو قبيح بعيد.
وقيل: عني به الوحش. و " من " لما لا يعقل أيضاً.
وقيل: " من " في موضع نصب عطف على معنى {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} لأن معناه: أنعشناكم " ومن لستم " أي: وأنعشنا من لستم له برازقين.
وقيل: هي في موضع خفض عطف على لكم، وهو مذهب الكوفيين، ولا يجيزه البصريون.
وقيل: معنى {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يراد به: العبيد والاماء والدواب والوحش، فلما اجتمع من يعقل، وما لا يعقل، غلب من يعقل فأتى بمن. وهذا القول: حسن، ويكون " من " في موضع نصب حملاً على المعنى على ما تقدم.
وقيل: المعنى جعلنا لكم في الأرض معايش بزرعها وثمارها، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين، يعني: البهائم التي تؤكل لحمها ويعاش منها، ويعني: ما ينتفع به(6/3875)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
من البهائم مما لا يؤكل/ لحمها، كل قد جعله الله لبني آدم في الأرض رفقاً بهم ونعماً عليهم وفضلاً.
قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} الآية والمعنى: وما شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه. {وَمَا نُنَزِّلُهُ} يعني: المطر {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي: ينزل إلى كل أرض حقها الذي قدر الله لها. وليس أرض أكثر من أرض ولا عام أكثر مطراً من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، عاماً هنا وعاماً هنا. ويمطر قوماً ويحرم قواماً، وربما كان في البحر. وروي أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحضرون كل قطرة حيث تقع وما تنبت.
وقيل: معنى " عندنا خزائنه " أي: نملكه ونقدر عليه ونصرفه حيث(6/3876)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
نشاء وكيف نشاء.
قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}.
[أي: وأرسلنا الرياح] تلقح الشجر والسحاب. وكان الأصل أن يجمع على ملاقح، لأنه جمع ملقحة، من: القحت الريح الشجر. فاللاقح هي الشجر والسحاب كما يقال: ناقة لاقح. والملقح هي الريح، ولكن جمع على حذف الزيادة، فكأنه جمع لاقحاً. وأكثر ما يقع حذف الزيادة في الشعر.
وقال بعض الطوفيين: وصفت الريح باللقح وهي تلقح، كما يقال: ليل نائم، وإنما النوم فيه.
وقيل: لما كانت الريح تلقح بمرورها على التراب والماء، قيل لها: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح.(6/3877)
وقيل: هو موضوع على النسب كأنه قال: ذوات اللقاح، كأنها تلقح السحاب. كما قيل: في التفسير [و] هذا قول: أبي عمرو.
وقيل: لواقح جمع لاقح، أي حامل. سميت الريح لاقحاً لأنها تلقح السحاب، والعرب تقول: للجنوب لاقح وحامل وللشمال حائل وعقيم، وقد قال الله عز وجل { وحتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} [الأعراف: 57]. وأقلت: معناه: حملت.
فأما من وحد الريح، ووصفه بلواقح فهو حسن لأنه موحد يراد الجمع، قال الله [تعالى] {والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 17] يريد " والملائكة ".(6/3878)
وقال ابن مسعود في الآية: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتمري السحاب فيدر [كما تدر] اللقحة، ثم تمطر. قال قتادة: " لواقح " تلقح الماء في السحاب.
وقال النخعي والحسن: لواقح تلقح السحاب.
وقال عبيد بن عمير: يبعث الله الريح المبشرة فَتَقُمُّ الأرض قماً، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المُؤَلَّفَةَ فتؤلف السحاب ثم يبعث اللقوح فتلقح الشجر.(6/3879)
وقال الضحاك: يبعث الله الريح على السحاب فتلقح [هـ] فيمتلئ ماء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح. وهي التي ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس ".
وقيل: الريح اللاقح، هي: التي تحمل الندى، ثم تمجه في ماء السحاب. فإذا اجتمع فيه صار مطراً بإذن الله [ عز وجل] ، ويسبب تلقيحها السحاب تلقح الأشجار.
وال [ل] واقح في جميع ذلك بمعنى ملاقح، لأنه من القحت الريح(6/3880)
السحاب والشجر ولكنه جمع على حذف الزيادة على ما ذكرنا.
ثم قال تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً}.
أي مطراً {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي أسقينا به أرضكم ومواشيكم. ولو كان لشربهم لقال: " فسقيناكموه ". تقول [العرب] إذا سقت الرجل ماء فشربه: سقيته، فإن كان لشرب أرضه وماشيته قالوا: [أ] سقيته. وكذلك [ان] أ [ست] سقيت له غيرك أن يسقيه قلت " اسقيته.(6/3881)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
قوله {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}.
أي: لستم تخزنون هذا الماء فتمنعونه من أحد، بل ذلك بيد الله يسقيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء. وقال سفيان: " بخازنين " بما نعين.
أي: نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم.
قال عكرمة: المستقدمين من خلق الله إلى اليوم. والمستأخرين من لم يخلق بعد. وكذلك روي عن قتادة ومجاهد: وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: المستقدمين(6/3882)
من مات، والمستأخرين من بقي حياً.
وقيل معناه: أو [ل] الخلق وآخره.
وقيل: معناه: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم والمستأخرين [من] أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم] . روي ذلك عن مجاهد أيضاً.
وقال الحسن معناه: المستقدمين في الخير والطاعة والمستأخرين في المعصية.
وعن ابن عباس أن معناه: المستقدمين في الصفوف في الصلاة والمستأخرين، قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط. قال: فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا، وبعضهم يستأخ [رون] فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل الله الآية. وعن ابن عباس المستقدمين(6/3883)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
[من] الصف الأول والمستأخرين الصف الآخر. وقال مروان بن الحكم: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء.
والاختيار قول من قال أريد به من مات ومن بقي حياً، ودليل ذلك قوله بعد [هـ]: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ}.
وعن عكرمة: المستقدمين من خرج، والمستأخرين من لم يخرج. وقال مجاهد: علم المستقدمين من الأمم والمستأخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أي: يحشر الأول والآخر فيجمعهم يوم القيامة. إنه حكيم في تدبيره، عليم بعدد خلقه وأعمالهم.(6/3884)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
قوله [تعالى]: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} إلى قوله: {الوقت المعلوم}.
الإنسان هنا آدم [ صلى الله عليه وسلم] . [ و] الصلصال الطين اليابس الذي لم تأخذه نار، فإذا نقر صلصل، أي: صوت.
وقال ابن عباس خلق [الله] آدم [ صلى الله عليه وسلم] من ثلاثة: من صلصال، ومن حمأ، ومن طين لازب. [فاللازب] اللاصق، والحمأ الحمأة، والصلصال التراب المدقق. وسمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي.
وقال قتادة: الصلصال التراب اليابس الذي يسمع له صلصة.(6/3885)
وقال الضحاك: هو طين صلب يخالطه الكثيب يعني: الرمل.
وقال مجاهد: / الصلصال المنتن. أخذ من صل اللحم [واصل] إذا انتن، وأصله على هذا [القول]: " صلال "، ثم أبدل من اللام الثانية صاد. وهذا التأويل ينقصه قوله: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمان: 14] فشبه [هـ] بالفخار، والفخار ليس بمنتن. لكن قوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يريد كونه متغير [اللون و] الرائحة. لأن الحمأ متغير الرائحة، دليل [هـ] قوله: " مسنون ". والمسنون عند ابن عباس المتغير الرائحة، وكذلك قال مجاهد، وهو قول: أبي عمرو [و] الكسائي. وقال غيرهم: مسنون(6/3886)
مصبوب. من سننت الماء: صببته. وقال الفراء: هو طين مختلط برمل فيسمع له صلصة.
وقال أبو عبيدة: يقال للطين: صلصال، ما لم تأخذه النار. فإذا أخذته فهو فخار. وكل شيء له صوت، سوى الطين، فهو صلصال.
و" الحمأ " جمع حمأة وهو الطين الم [ت] غير إلى السواد. و " المسنون " المنتن(6/3887)
في قول ابن عباس، ومجاهد، وأبي عمرو، والكسائي.
وقال أبو عبيدة: المسنون: المصبوب. يقا [ل] سننت الشيء إذا صببته. وسننت الماء على وجهه: صببته. وعن ابن عباس: المسنون الرطب. فهذا يوافق قول أبي عبيدة، لأنه لا يكون مصبوباً حتى يكون رطباً.
وقال الفراء: المسنون المحكوك من سننت الحديد. ولا يكون على هذا إلا متغيراً.
وقيل: المسنون المصبوب على مثال وهيئة، من سننت الوجه.
ثم قال [تعالى]: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم}.(6/3888)
والمعنى: إبليس خلقناه من قبل آدم من نار السموم. والسموم عند ابن عباس الحار الذي يقتل كل شيء.
وقال الضحاك: معناه: من لهب من نار السموم. والعرب تستعمل السموم بالليل والنهار.
وقيل: [إن] السموم إنما يكون بالليل والحرور بالنهار.
[و] قال ابن مسعود: نار السموم التي خلق الله [ عز وجل] منها الجان. والسموم الشديد والحر، جزء من سبعين جزءاً من نار السموم التي الله(6/3889)
خلق الله [ عز وجل] منها الجان.
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " نار السموم جزء من سبعين جزآ من جهنم ".
قال الضحاك: {مِن نَّارِ السموم} من لهب النار.
ويروى أن الله جلّ ذكره: خلق نارين، ناراً فيها السموم وناراً ليس فيها السموم. فمزج واحدة في الأخرى، فأكلت النار التي فيها السموم، النار الأخر [ى] فخلق إبليس منها. قال الحسن: نار السموم، نار دونها حجاب، والذي تسمعونه من الصواعق من انغطاط الحجاب.
والسموم في الأصل: الريح الحارة.
وقال وهب بن منبه: الجن أجناس: منهم من يأكل ويشرب وينكح، وأما(6/3890)
خالص الجن ريح لا يأكل [ون] ولا يشربون.
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ}.
أي: واذكر يا محمد، إذ قال ربك هذا. قال ابن عباس لما خلق الله [ عز وجل] الملائكة قال: إني خالق بشراً من طين فإذا خلقته وصار حياً فاسجدوا، وهذا السجود سجود تكرمة وتحية لا سجود عبادة.
وقوله: {مِن رُّوحِي}.
قال الضحاك: من قدرتي، وتحقيق الأمر أنه إضاف [هـ] خلق إلى خالق، فالروح خلق الله [سبحانه]، إضافة إلى نفسه، لأنه اخترعه وخلقه. كما يقال: خلق [الله] وأرض الله، وسماء / الله، وهو كثير. هذا قول أهل المعرفة بالمعاني(6/3891)
فافهمه.
" فلما خلقه الله [ عز وجل] أبوا أن يسجدوا، فأرسل عليهم نار [اً] فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة، وقال لهم مثل ذلك، فقالوا: سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين، أي: من الأولين الذين امتنعوا من السجود.
وقيل: كان من الكافرين في اللوح المحفوظ. فعلى هذا القول: يكون قوله: " إلا إبليس " استثناء من الجنس.
وقال أبو إسحاق: إنه استثناء ليس من الأول. فجعل إبليس: ليس من الملائكة.
فلما امتنع من السجود قال له الله: ما منعك أن تكون من الساجدين؟ قال إبليس تكبراً وتجبراً وحسداً لآدم: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، أي: أنا خير منه، لأنك خلقته من طين وخلقتني من نار. والنار تأكل الطين فلا أسجد له.(6/3892)
قال الله له: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، أي: أخرج من السماوات. فإنك مرجوم أي: مشتوم.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة} أي: الغضب {إلى يَوْمِ الدين} أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة. قال إبليس: رب إذا أخرجتني من السماوات ولعنتني {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: أخرني ولا تمتني، إلى يوم يبعث ولد هذا الذي فضلت علي، قال الله [ عز وجل] { فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} أي: من المؤخرين فلا تموت إلى يوم الوقت المعلوم أي: [يوم] هلاك جميع الخلق.(6/3893)
قال سفيان: " الوقت المعلوم " النفخة الأولـ[ـى].(6/3894)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قوله تعالى: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض}.
معناه: قال إبليس يا رب [بما] خيبتني من رحمتك لأزينن لولد آدم {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}. يقال أغويته إذا خيبته ومنه قول الشاعر:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي: من يخب فلا يصب خيراً لا يعدم على خيبته من يلوم [هـ].
وقيل: التقدير: بالذي أغويتني. وقيل: معناه: بإغوائك إياي.
ومعنى {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} لأحسنن لهم المعاصي ولأحببنها إليهم في الأرض {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} أي: لاضلنهم عن سبيلك إلا من أخلصته بتوفيقك(6/3895)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
فهديته فلا سلطان لي عليه.
فهذا على قراءة من فتح اللام في " المخلَصين "، فأما من كسرها فمعناه: إلا من أخلص طاعتك بتوفيقك إياه إلى ذلك فلا سبيل [لي] عليه. قال الضحاك: هم المؤمنون لا سبيل له عليهم.
[أي]: هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلاً بأعمالهم، لقوله {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] وهذا تهديد ووعيد بمنزلة قول الرجل لمن يتواعده: طريقك [هذا] علي. هذا قول(6/3896)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
مجاهد. وقيل معناه: هذا صراط على امري وإرادتي.
وقرأ ابن سيرين، وقيس بن عباد، وقتادة، ومجاهد وعباد ويعقوب والحسن: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} جعلوه من العلو أي هذا صراط رفيع.
قال [تعالى] {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.(6/3897)
أي: حجة، قال مجاهد: إن عباد [ي] الذين قضيت لهم بالجنة {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.
وقوله: {إِلاَّ مَنِ اتبعك}.
أي: قبل دعوتك فإنه {مِنَ الغاوين} [أي: من الظالمين] وأنَّ جهنم لموعد من اتبعك أجميعن. {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي سبعة أطباق، طبق تحت طبق، لكل طبق منهم، أي: من اتباع إبليس {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أي: تصيب مقسوم.
وقيل: معناه لكل جنس منهم من العذاب على قدر منزلته من الذنوب.
وقال علي بن أبي طالب: [رضي الله عنهـ: عدد] أبواب جهنم سبعة، بعضها فوق بعض فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تملأ كلها وهو قول: عكرمة وقتادة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على(6/3898)
أمتي " أو " على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ".
وقال ابن جريج: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي: أطباق، أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، والجحيم: فيها أبو جهل.
قال الربيع بن أنس: أما الهاوية فلا يخرج منها شيء دخلها أبداً، إنما تهوي [به] أبداً، [هي] دار آل فرعون، والكفار، وكل جبار عنيد.
قال عكرمة: على كل باب [منها سبعون ألف سرادق من نار، في كل سرادق منها سبعون ألف قبة من نار في كل قبة منها] سبعون ألف تنور من نار. لكل نار(6/3899)
منها سبعون ألف كوة. في كل كوة سبعون ألف صخرة من نار. على كل صخرة سبعون ألف حجر من نار. وفي كل حجر سبعون ألف عقرب من نار. لكل عقرب منها سبعون ألف ذنب من نار. لكل ذنب منها سبعون ألف [قفارة من نار. في كل قفارة منهن سبعون ألف] قلة من سم وسبعون ألف موقد يوقدون ذلك بالغار. وإن أول من يصل من أهل النار إلى النار يجدون على الباب من أبوابها أربع مائة ألف من خزنة جهنم، سود وجوههم كالحة، وأنيابهم، قد نزع الله الرحمة من قلوبهم. ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة. لو يطير الطائر من منكب أحدهم، لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الأخرى. قال: ثم يجدون في الباب التاسعة عشر خزنة الذين [قال] جلّ ذكره: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً. ثم يهوون من باب إلى باب خمس مائة سنة غرقاً في النار. ويجدون على كل باب منها من الخزنة مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها. قال:(6/3900)
وهو قول الله [ عز وجل] : { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
[المؤمنون: 77].
قال وهب بن منبه: عن ابن عباس، أو عن كعب: " كل باب أسفل من صاحبه أشد حراً من الباب الذي فوقه بسبعين ضعفاً. فالبا [ب] الأول أهونها حراً، ولو أن رجلاً في المشرق وكشف / عن جهنم بالمغرب لسال دماغه من حرها من منخريه. وأول أبوابها: جهنم في [هـ] أهل الذنوب والمعاصي من أهل القبلة من مات منهم مقيماً على الكبائر غير تائب، من شاء الله إدخاله النار بكبائره منهم. والباب الذي يليه: لظى. والباب الثالث: الحطمة. والرابع: السعير، والخامس سقر، والسادس: الجحيم، والسابع: الهاوية. وبين [كل بابين] مسيرة سبعين سنة.
{لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} يعني من الجن والإنس. وأصل ليس، عند سيبويه(6/3901)
فعِل كصَيِدَ، ثم اسكنت كما قالوا عَلْمَ في علم. ولم يستعمل الأصل إذ لم يتصرف، فجعلوا اعتلاله إزالة حركة عينه لا غير.
وقال الزجاج: لم يتصرف لأنها تنفي المستقبل والحال والماضي، فلم يحتج فيها إلى تصرف.
وقال محمد بن الوليد لم يتصرف لمضارعتها " ما ".
وقال أبو غانم: لم يتصرف لأنها نعت. وحق الأفعال أن تنفى ولا تنفي وإنما النفي للحروف فلما خرجت عن بابها إلى باب الحرف منعت التصرف كما منعه الحرف.(6/3902)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ [آَمِنِينَ]) [45] إلى قوله (الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [50]
قال ابن عباس: الجنات سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، ودار الخلود. يقال لمن اتقى المعاصي ولزم الطاعة لله: ادخلوها بسلام آمنين من عذاب الله ومن نكبات الدنيا ومن الموت.
قال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا}.
أي: نزعنا ما فيها من الحقد و [ال] عداوة.
يقال: غل يغل من الشحناء. وغل يغل من الغلول. وأغل يغل من الخيانة.
قال أبو أمامة: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من(6/3903)
الشحناء والضغائن، حتى إذا تقابلوا نزع الله [ عز وجل] ما في صدورهم من غل وشحناء.
وروي عنه أنه قال: لا يدخل [ال] مؤمن الجنة حتى ينزع الله [ عز وجل] ما في صد [و] رهم من غل، وينزع [منه] مثل السبع الضاري.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: فينا أهل بدر نزلت الآية. وقال علي لابن طلحة: اني لارجو أن يجعلني الله وإياك من الذين ينزع [الله] ما في صدورهم من غل، ويجعلنا إخواناً {على سُرُرٍ متقابلين}.
وروي عنه أنه قال [إني] لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا على سُرُرٍ متقابلين}.(6/3904)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت في الدنيا. حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن الله لهم في دخول الجنة. فةالذي نفسي محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة [منه] بمنزله الذي كان في الدنيا ".
ومعنى {متقابلين} يقابل بعضهم بعضاً لا يستدبره، قال مجاهد: لا ينظر واحد منهم إلى قفا صاحبه.
وقيل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أزلنا عنهم الجهل والغضب وشهوة ما لا ينبغي حتى زال التحاسد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الغل على أبواب الجنة كمبارك الابل إذ [ا](6/3905)
نزع من صدور [المؤمنين] ".
وروي عن علي [رضي الله عنهـ] أنه قال: " إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا على سُرُرٍ متقابلين}.
وروي عنه أنه قرئت عنده الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} فقال: ألا ذاكم عثمان وأصحابه، وأنا منهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تقابلوا وترافقوا في الجنة نزع الله ما في صدورهم من غل ".
" وسرر " جمع سرير في أكثر العدد. ويقال سُرَر في جمعه بفتح الراء الأول.(6/3906)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
قال [تعالى]: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ}.
أي: لا يلحقهم وجع ولا تعب ولا ضرر ولا ألم {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أي: خالدون فيها أبداً.
قال تعالى ذكره: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم}.
أي: أخبر يا محمد عبادي عني {أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} أي: الساتر لذنوبهم إذا تابوا واستقاموا. الرحيم بهم أن أعذبهم على ما تقدم من ذنوبهم بعد توبتهم واستقامتهم. وخبرهم أيضاً يا محمد {أَنَّ عَذَابِي} لمن أصر على المعاصي والكفر {هُوَ العذاب الأليم} أي المؤلم يعني الموجع لا يشبهه عذاب. وهذا كله تحذير لعباده وتخويف وإطماع في رحمته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه ".(6/3907)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
وروي عنه [ صلى الله عليه وسلم] " أنه خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار؟ "
فشق ذلك عليهم ف [أ] نزل الله جلّ ذكره {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم}
قوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {[ا] لضآلون}.
المعنى وخبِّر عبادي يا محمد عن أصحاب ضيف إبراهيم، وهم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم حين أرسلهم الله لإهلاكهم قوم لوط وليبشروا إبراهيم بإسحاق [ صلى الله عليه وسلم] . قال الضيف لإبراهيم {سَلاماً} قال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} أي: لا تخف {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وهو إسحاق.
وقال الزجاج: إنما خاف إبراهيم منهم لما قدم إليهم العجل فرآهم لا(6/3908)
يأكلون. فقال {أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} أي: لأن مسني، وبأن مسني. وكان إبراهيم في ذلك الوقت ابن مائة سنة. وكانت زوجته سارة بنت تسع وتسعين سنة. قال مجاهد: عجب إبراهيم من هذه البشرى مع كبره وكبر امرأته فاستفهم فقال {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أنا كبير وامرأتي كبيرة لا تلد.
قالت الملائكة: {بَشَّرْنَاكَ بالحق} أي: بالخبر اليقين أن الله [تعالى] يهب لك غلاماً فلا تكونن من القانطين، أي من الآيسين من فضل الله [ عز وجل] ولكن أبشر بما بشرناك به. قال إبراهيم [لهم]: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ [إِلاَّ] الضآلون} أي من ييأس من فضل ربه إلا من] ضل عن سبيل الله.(6/3909)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
يقال: قنط [يقْنِط ويقْنُط] قنوطاً فهو قانط، وقَنِط يَقْنَط يَقْنَط قنطاً فهو قَنِط وقَانِط.
ويروى: أنهم بشروه أن الله جلّ ذكره قضى أن يَخْرجَ من ذريتك مثل ما أخرج من صلب نوح وأكثر.
قوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون}.
معناه: قال إبراهيم للملائكة: فما شأنكم وما أمركم أيها المرسلون؟ قالوا له {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ}. أي: مكتسبين المعاصي والكفر بالله. ثم استثنى منهم آل لوط فقال: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: من العذاب.
ثم استثنى من آل لوط امرأته فقال: {إِلاَّ امرأته} فصارت المرأة مع المعذبين.
ومعنى: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} أي: قدرنا عملنا فيها أن تكون مع الباقين في(6/3910)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
العذاب. وقيل: معناه: كتبنا ذلك وأخبرنا به. وقيل: معناه: قضينا ذلك.
و" آل لوط " هنا أتباعه على دينه. و " الغابرين " الباقين في العذاب.
قال تعالى {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون}.
أي: فلما أتى رسل الله إلى لوط، أنكرهم لوط ولم يعرفهم. وقال لهم {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي: لا نعرفكم. قالت له الرسل: بل نحن رسل الله جئناك بما قومك فيه يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم {وَآتَيْنَاكَ بالحق} أي: جئناك [ب]- الحق من عند الله وهو العذاب {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما أخبرناك به من الله بهلاك قومك. ثم قالوا له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} أي: في بقية من الليل واتبع يا لوط أدبار أهلك الذين تسرى بهم، أي: كن من ورائهم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}(6/3911)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
أي: حيث يأمركم الله. قال الزجاج: أمر بترك الالتفات لئلا يرى عظيم ما نزل قومه. وقيل: نهي عن الالتفات إلى ما في المنازل من الرجال لئلا يقع الشغل به عن المضي.
قال تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر}.
أي: أوحينا إلى لوط ذلك الأمر. ثم فسر ما هو الذي أوحى إليه فقال: " إن دابر هؤلاء مقطوع " فهذا الذي أعلمه الله وأوحى به إليه. ومعنى: " دابر هؤلاء مقطوع " آخرهم يستأصل صباحاً.
قوله: {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ}.
المعنى: وجاء أهل المدينة، [مدينة] سدوم، وهم قوم لوط، يستبشرون لما سمعوا أن ضيفاً قد نزل عند لوط طمعاً في ركوبهم الفاحشة، قال قتادة.
والضيف يقع للواحد والجمع والاثنين بلفظ واحد لأنه مصدر في الأصل.(6/3912)
قال لهم لوط {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} فيهم {واتقوا الله} فيهم {وَلاَ تُخْزُونِ} أي: ولا تذلون ولا تهينون فيهم بالتعرض إليهم بالمكروه. قالوا له {أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} أي: [عن] ضيافة أحد من العالمين.
وقيل المعنى: ألم ننهك أن تجير أحداً علينا وتمنعنا منهم.
قال لهم لوط صلى الله عليه وسلم { هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}. قال قتادة: أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء.
ومعنى {إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}، [أي: فاعلين] ما أمركم / الله به.
وقيل: [المعنى]: إن كنتم مريدين بهذا الشأن فعليكم التزويج ببناتي. وكل(6/3913)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
نبي أزواجه أمهات أمته، وأولاد أمته أولاده. فعلى ذلك قال لوط {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} وعلى ذلك قربءوا " أزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ".
فرفع لعمر على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال لعمرك قسمي، أو ما أقسم به. وحسن الحذف لأن باب القسم باب حذف.
والمعنى: أي وحياتك يا محمد أن كفار قومك من قريش {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أي: ضلالتهم {يَعْمَهُونَ} أي: يترددون.
وقال ابن عباس: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد [ صلى الله عليه وسلم] ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره.(6/3914)
وعمرك أصله ضم العين لأنه من العمر والتعمير ومنه قول الرجل لعمري إنما أقسم بمدة حياته. ولكن كثر استعمالهم له في القسم ففتحوا العين، ولا يفتح إلا في القسم خاصة. فإنما أقسم الله جلّ ذكره [بعمر] النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال: وبقائك في الدنيا يا محمد.
قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أكرم البشر عنده.
وقيل: معناه وعيشك يا محمد أن قريشاً لفي سكرتهم [يتمادون].
وقال مجاهد: " يعمهون " يترددون.
ثم قال تعالى ذكره: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) [73].(6/3915)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
أي: أخذتهم الصاعقة عند شروق الشمس. يقال: أشرق القوم إذا صادفوا شروق الشمس، وأصبحوا إذا صادفوا الصبح.
وشرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا ضاءت وصفت. وقيل: شرقت وأشرقت بمعنى. والأول أحسن وأكثر.
ومعنى " مشرقين " مصادفين شروق الشمس وهو طلوعها.
قال: [تعالى ذكره]: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي: جعلنا عالي أرضهم سافلها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي: من طين. وقد تقدم ذكر سجيل في هود بابين من هذا. ويروى أن سجيلاً [اسم] لسماء الدنيا.(6/3916)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
أي: في هذا العذاب لعلامات ودلائل على قدرة الله وتوحيده ووجوب طاعته واتباع رسله وكتبه للمتفرسين المعتبرين. قال مجاهد: " للمتوسمين " المتفرسين. وقال قتادة للمعتبرين. وقال ابن عباس: للناظرين، وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: للمتفكرين والمعتبرين الذين يتوسمون الأشياء ويتفكرون فيها ويعتبرون.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ".(6/3917)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن [لله] عباداً يعرفون الناس بالتوسم ".
وحقيقة التوسم: النظر بالتثبت حتى يعرف الحقيقة. فهذا كله متقارب في العمنى. وهذه الآية تنبيه لقريش لأن يتعظوا ويزدجروا بما نزل بقوم / لوط وغيرهم.
أي: وإن سدوم المنقلبة بقوم لوط لبطريق واضح يراها المجتاز بها، لا يخفى مكانها. وقيل: المعنى وإن الآيات {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ}.
أي إن في صنيعنا بقوم لوط لعلامة و [دلالة] لمن آمن بالله على انتقامه من(6/3918)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
أهل الكفر. وقيل: الهاء تعود على الحجارة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أن الحجارة لموقفة في السماء منذ ألفي عام لظالمي أمتي إذا عملوا بأعمال قوم لوط ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سيكون خسف وقذف من السماء وذلك إذا عملوا بأعمال قوم لوط " ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية [إلى {مُّقِيمٍ}] ".
قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} إلى قوله {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
المعنى: وما كان أصحاب الأيكة إلا ظالمين.
والأيكة الشجر المتلف، وهو شجر المقل. فال قتادة " أصحاب الايكة أصحاب غيضة.
وكان عامة شجرهم الدوم. وكان رسولهم شعيب عليه الصلاة والسلام،(6/3919)
أرسل إليهم وإلى أهل مدين. أرسل إلى أمتين من الناس. وعذبتا بعذابين. أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة. [وأما] أصحاب الايكة فكانوا أصحاب شجر فسلط الله عليهم الحر سبعة أيام يظلهم منه ظل ولا يستتر منه شيء. فبعث الله [سبحانه] [سحابة] فحلوا تحتها يلتمسون الروح منها. فجعلها الله عليهم عذاباً. فبعث عليهم ناراً فاضطرمت عليهم فأحرقتهم فذلك قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء: 189] وذلك قوله {فانتقمنا مِنْهُمْ}.
وروى أن أصحاب الأيكة قوم من جُذام كانوا نزولاً بجوار الأيك. والأَيْكُ الدوم، والدوم شجر المقُل. بعث الله إليهم شعيباً. وهو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. وكانوا جيرانه، وقيل: كانوا أخواله. قال ابن جبير: " الأيكة "(6/3920)
غيضة.
ثم قال تعالى ذكره {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}.
أي: أن أصحاب الأيكة وقوم لوط لفي كتاب كتبه الله.
وقيل: المعنى: وإن الموضعين اللذين هلك فيهما قوم لوط وقوم شعيب، لبطريق واضح يأتم به الناس في أسفارهم ويعاينونه.
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدخلوا [على] هؤلاء القوم المعذبين يعني أصحاب الحجر، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم] ما أصابهم ".
[وقيل: المعنى وإن لوطاً وشعيباً لبطريق من الحق يؤتم به أي: على طريق واضح من الحق].(6/3921)
ثم قال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين}.
أي: سكان الحجر وهي مدينة ثمود. وكان قتادة يقول هم أصحاب الوادي. والحجر اسم الوادي.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما خلف بالحجر: " هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلا [رجلاً] كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله وهو أبو رغال ".
وقال الزجاج: هم أصحاب واد.
ثم قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا [فَكَانُواْ]}.
أي: أعطيناهم أدلتنا وعلامات توحيدنا فأعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها.
ثم قال: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال}.(6/3922)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
{بُيُوتاً آمِنِينَ}. أي: كان ثمود، وهم قوم/ صالح ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين من عذاب الله. وقيل: آمنين أن تنهدم عليهم. وقيل: آمنين من الموت.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} أي: صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرابع الذي وعدوا فيه العذاب، إذ قيل: لهم {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. فلم يغن عنهم عند ذلك ما كسبوا من الأعمال الخبيثة ولا من عرض الدنيا.
قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} إلى قوله: {أَنَا النذير المبين}.
المعنى وما خلقنا الخلائق كلها إلا بالحق {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} أي: أن القيامة لجائية، فارض بها يا محمد لمشركي قومك الذين كذبوا ما جئتهم به. ثم قال: {فاصفح الصفح الجميل} أي: فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً واعف عنهم عفواً حسناً.
وهذه الآية منسوخة عند جماعة، بالأمر بالقتال وإنما كان هذا قبل أن يؤمر(6/3923)
بقتالهم، قال قتادة والضحاك ومجاهد.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني}.
قيل: السبع المثاني السور الطوال وسميت مثاني لأنها تثنى فيها الأمثال والخبر والعبر والحدود والفرائض، قاله: ابن عباس ومجاهد وابن عمر وابن جبير وابن سيرين. [وهي] البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس. وقيل: السابعة الأنفال وبراءة.
وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود رضي الله عنهما: السبع المثاني آيات الحمد، لأنهن سبع آيات. وهو قول: أبي بن كعب.
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي أم القرآن. وقاله: أبو هريرة وعلي وعمر(6/3924)
وابن مسعود والحسن وقتادة. وسميت مثاني لأنها تثنى لأنها تثنى في كل ركعة أي: تعاد.
وقيل: المثاني القرآن غيرها. والمعنى سبع آيات من القرآن الذي هو مثاني. أي: تثنى فيه القصص والمواعظ والأخبار دل على ذلك قوله {مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: 23] فالمعنى: ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات، وهي الحمد، من المثاني أي من القرآن.
وقيل: السبع المثاني ما في القرآن من الأمر والنهي والبشرى والإنذار وضرب الأمثال وإعداد النعم وآتيناك نبأ القرآن العظيم.
وعن ابن عباس أن سورة الحمد هي المثاني/ وإنما سميت مثاني لأن الله [جلّ] ذكره استثناها لمحمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء فادخرها له.
وعن ابن عباس: أخرجها لكم وما أخرجها لأحد كان قبلكم.(6/3925)
وقيل: " السبع المثاني ": الحمد " والقرآن العظيم " الحواميم.
وقال علي وأبو هريرة: والسبع المثاني، فاتحة الكتاب، قاله قتادة ومجاهد.
وقيل: المعنى وآتيناك سبع آيات وهي الحمد {مِّنَ المثاني} من القرآن، فمن للتبعيض.
و [قوله] {والقرآن العظيم} عني به الحمد على قول من رأى السبع المثاني [السبع] الطوال.
وقيل: [هي] القرآن كله.
ثم قال تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}.
معناه / استعن بما آتاك الله من القرآن عما في أيدي الناس. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي: يستغني به عن المال. وعلى هذا تأول الحديث سفيان بن عيينة، وتأول الآية. وروى: من حفظ القرآن فرأى أن أحداً(6/3926)
أعطي أفضل مما أعطي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً.
فالمعنى: لا تتمنين ما جعلنا من زينة الدنيا متاعاً للأغنياء من قومك المشركين {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. أي: على ما متعوا به من ذلك. فعجل لهم في الدنيا فإن لك في الآخرة مما هو خير لك من ذلك.
ومعنى: {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أمثالاً منهم، يعني: الأغنياء منهم. والأزواج في اللغة: الأصناف.
{واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
أي: ألن جانبك لمن آمن بل وقربهم من نفسك. والجناحان من ابن آدم جنبناه، والجناحان الناحيتان، ومنه قول الله تعالى {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22].(6/3927)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
وقيل: معناه: إلى ناحيتك وجنبك.
وقل للمشركين {إني أَنَا النذير المبين} أي أنا [النذير] المنذر لكم عذاباً.
{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين}.
أي: مثل العذاب الذي أنزلنا على المقتسمين " المبين " لكم ما جئتكم به من الإنذار والأعذار والوعد والوعيد.
قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين}.
الكاف من " كما " في موضع نصب نعت [لمصدر محذوف].
و [قيل]: للمفعول المحذوف، أي: النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزلنا على المقتسمين.(6/3928)
قال ابن عباس: المقتسمين اليهود والنصارى، قسموا القرآن فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
قال مجاهد: هم أهل الكتاب جزءوا القرآن فجعلوه أعضاءً، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقال عكرمة: هم أهل الكتاب اقتسموا القرآن، استهزءوا به فقال بعضهم: هذه السورة لي، وقال آخر: هذه السورة لي.
وعن مجاهد أيضاً: هم أهل الكتاب اقتسموا كتابهم فكفر بعضهم ببعضه، وآمن الآخرون بذلك البعض، وكفروا [ب] بعض آخر.
وقال قتادة: هم قوم من قريش خمسة عضهوا كتاب الله [ عز وجل] .(6/3929)
وقيل: عني بذلك قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله، وهم تسعة، قاله ابن زيد.
وقيل: هم قوم اقتسموا طريق مكة أيام مقدم الحاج بعثهم أهل مكة ليشيعوا في كل ناحية عند كل من يقدم مكة [من الناس] أن محمداً مجنون وأنه شاعر وأنه ساحر.
قال ابن عباس: هم اثنا عشر رجلاً من قريش اقتسموا على أعقابِ مكة لمن يقدم مكة من الناس ليصدوهم عن نبي الله. فيقول بعضهم: هو كاهن، وبعضهم هو شاعر، وبعضهم هو مجنون.
وقيل: هم قوم أقسموا ألا يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يفارقوا الانحراف عنه، والطعن عليه.(6/3930)
وقال عطاء: هم قوم من قريش فرقوا القول في القرآن / فقال بعضهم: هو سحر وقال آخرون: هو شعر وقال آخرون: هو أساطير الأولين. وعن ابن عباس أيضاً في {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} أي: فرقوه فرقاً. وهو مشتق من العَضْو، والمحذوف منه على هذا القول واو. والكسائي يذهب إلى أنه من: عَضَهْت الرجل، إذا رميته بالبهتان. والتصغير على هذا القول الأول " عضية " وعلى قول الكسائي عُضَيْهَة. وقال الفراء: العِضُون في كلام العرب المتفرقون. واستجيز جمعه بالواو والنون عند البصريين ليكون ذلك عوضاً مما حذف منه.
وحكى الفراء أن من العرب من يقول: هذه عضينك. فتركه بالياء في كل حال، ويجعل الإعراب في النون، بمنزلة ذهبت سنينك في لغة من(6/3931)
جعلها بالياء على كل حال وجعل الاعراب في النون. [قال]: وهي كثيرة في أسد وتميم وعامر. توهموا أن الواو واو فعول لما وقعت موضع حرف ناقص [و] قلبوها ياء لأنها أخف من الواو وجعلوا الاعراب في النون. كما قال بعضهم سمعت لغاتَهم. فنصب، وحق التاء الكسر في النصب والخفض كتاء " مسلمات ". لمن نصبها في موضع النصب كما تقول: سمعت أصواتهم.
فمن قال في التصغير عضيهة، وجعله على عضين، قال: فعلت به ما فعلت ببرة وبرين. وحذفت الهاء كما حذفتها من شفه وأصلها شفهة وتصغيرها [شفيهة. ومثله شاة وتصغيرها] شويهة، وأصلها شاهه وجمعها شياه. كما تقول في شفه: شفاه.
ومن أخذه من عضيت أي: فرقت أعضى تعضية فهو من قول الشاعر:
" وليس دين الله بالمعضى " ... أي بالمفرق.(6/3932)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
قال [تعالى]: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
أي: فوربك يا محمد لنسئلن هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين في الآخرة عما كانوا يعملون في الدنيا.
وقيل: معناه، لنسئلن هؤلاء عن شهادة أن لا إله إلا الله. قاله: ابن عمر ومجاهد.
قال ابن مسعود: والذي لا إله غيره، ما منكم أحد إلا سيخلو الله [ عز وجل] به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر فيقول: ابن آدم [ماذا] أخرك مني؟ ابن آدم ما عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟.
[قال أبو العالية: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عن ما كانوا(6/3933)
يعبدون وعن ما أجابوا المرسلين].
وعن ابن عباس في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ثم قال في موضع آخر: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] معنى الأول يسألهم لم عملتم كذا وكذا، ومعنى الثاني لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه عالم بذلك. قال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} إلى آخرها.
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال] " كلكم مسئول يوم القيامة: فالإمام يُسْأل عن الناس وعن رعيته. والرجل يُسْأَل عن أهله وولده/ والمرأة تُسْأل عن بيت زوجها. والعبد يُسْأل عن مال سيده ".
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من راع استرعى رعية إلا سأله الله يوم القيامة عن(6/3934)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
رعيته، هل أقام فيهم أمر الله أم أضاعه، حتى أن الرجل ليُسْألَ عن خاصته وأهل بيته ".
قال معاذ بن جبل: " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسْأَل عن أبعة، عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه وعن عمله كيف عمل فيه ". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يسألون عن شهادة أن لا إله إلا الله ".
قال تبارك وتعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ}.
معناه، بلغ ما أرسلت به إليهم، قال ابن زيد.
وقال ابن عباس: معناه افعل ما تؤمر وامضه.(6/3935)
وعنه: أعلن بالقرآن، قال: وكان نبي الله اكتتم مخافة [قومه] سنتين فأمره الله أن [يصدع] بما يؤمر أي: يعلن به وظهره وأن يعرض عن المشركين ثم نسخ ذلك وأمره بقتالهم وقال {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين}. وقال مجاهد: المعنى: اجهر بالقرآن في الصلاة. قال عبد الله بن عبيد: لم يزل النبي [ صلى الله عليه وسلم] بمكة مستخفياً حتى نزلت: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} فخرج هو [و] أصحابه.
وقال الزجاج: معناه: ابنِ ما تؤمر به وأذهره، مشتق من الصديع وهو الصبح.(6/3936)
وقال المبرد: [معناه]: اصدع الباطل بما تؤمر: أي: افرق بين الحق والباطل بهذا القرآن وبينه.
يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا. ومنه صداع الرأس وتصدعت الزجاجة تفرقت أجزاؤها. وفاء الفعل مصدر عند البصريين، فلذلك لم يقل: " بما تؤمر به:. وتقديره: فاصدع بأمرنا وهو القرآن.
وقال الكسائي: " ما " بمعنى: الذي. والتقدير بما تؤمر به، ثم حذفت: " به ".
فأما قوله {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} فهذا كان قبل أن يؤمر بالقتال ثم، أمر بالقتال(6/3937)
فنسخه الأمر بالقتال، قاله: ابن عباس والضحاك.
ثم قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين * الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ}.
المستهزؤون: في قول ابن عباس، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسود بن المطلب، وأبو زمعة الحرث بن عيطلة كانوا يهزؤون بالنبي عليه السلام.
وعن ابن عباس: أنهم خمسة، ولم يذكر الحرث بن عيطلة، كانوا يهزؤون بالنبي عليه السلام. فروي أنهم مروا، رجلاً [رجلاً] على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل عليه السلام، فإذا مر رجل منهم قال [له] جبريل: كيف تجد هذا؟ فيقول/ النبي: بئس(6/3938)
عبد الله، فيقول له جبريل: كفيناكه. فهلك الخمسة بأمر الله [ عز وجل] ونصره لنبيه [ صلى الله عليه وسلم] : أما الوليد بن المغيرة فإنه تردى بردائه فتعلق سهم بردائه فقعد يحله فقطع أكحله فنزف فمات. وأما الأسود بن عبد يغوث فأتى بغصن فيه شوك فضرب به وجهه فسالت حدقتاه على وجهه. فكان يقول: دعوت على محمد [دعوة] ودعا علي دعوة، فاستجيب لي، واستجيب له: دعا علي أن أعمى، فعميت. ودعوت عليه: أن يكون وحيداً فريداً في أهل يثرب فكان ذلك. وأما العاصي بن وائل فوطئ شوكة فتساقط لحمه على عظامه حتى هلك. وأما الأسود بن المطلب وعدي بن قيس فإن أحدهما قام من الليل وهو مطمئن يشرب من جرة فلم يزل يشرب حتى ينفتق بطنه فمات.
وأما الآخر فلدغته حية فمات.
فمعنى الآية: إنا كفيناك يا محمد الساخرين منك الجاعلين مع الله إلهاً آخر [سبحانه وتعالى]، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ما يلقون من عذاب الله عند مصيرهم إليه(6/3939)
يوم القيامة.
وقال عكرمة: المستهزؤون قوم من المشركين كانوا يقولون سورة البقرة سورة العنكبوت يستهزؤون بأسماء السور.
وروى ابن وهب: عن زيد بن أسلم أن وهب الذماري قال: " إن نيباً من الأنبياء حدث قومه بحوت ينزله أهل الجنة فاستهزأ به رجل من قومه. فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم] اذهب فأريكه. فذهب حتى إذا جاء البحر جاز حوت مثل البيت قال: هو ذا يا نبي الله؟ فقال: لا، ثم جاز حوت مثل الجبل. فقال: هو ذا يا نبي الله؟ قال: لا، ثم جاز حوت مثل القصر. قال: هون ذا يا نبي الله؟ قال لا. ثم جاز حوت مر صدره ضحى، ولم يمر آخره إلى العصر، فقال: هو ذا يا نبي الله؟ فقال: كيف ترى؟ فقال: والله إن في هذا لمأكلاً ومشرباً. قال: فوالذي نفسي بيده إنه ليتغذى كل يوم طلعت فيه الشمس بسبعين ألف حوت كلهم مثل هذا الحوت، فصعق(6/3940)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
الرجل فمات ".
وذكر عند مروان بن الحكم [هذا الحديث] فقال: لقد ذكر لي أن هذا الحوت قد أحاط بالسماوات السبع ومن تحت العرش.
وعن ابن عباس: أنهم هلكوا في ليلة واحدة كل رجل منهم يميته سوى ميتة صاحبه.
قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ}.
المعنى: ولقد نعلم يا محمد أنك يضيق صدرك بما تقول هؤلاء من تكذيبك، فسبح بحمد ربك أي: افزع فيما نزل بك منهم إلى الشكر لله [ عز وجل] والثناء عليه والصلاة، يكفيك ما همك من ذلك، و " كان النبي عليه السلام إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة ".
قوله: {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} أي: / من المصلين.
قوله: {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي: الموت. ومعناه: اعبد ربك أبداً، ولو لم(6/3941)
يقل {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} لكان بعبادته ساعة واحدة طائعاً قد فعل ما أمر به. ولكن قوله: {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} يبينه، وهذا مثل قوله: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] أي: أبداً ولو لم يقل: {مَا دُمْتُ حَيّاً} لكان بصلاة واحدة وزكاة مرة يؤدي ما وصاه به.(6/3942)
تفسير سورة النحل
سورة النحل مكية
قال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بين مكة والمدينة، حين رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد، وقد قتل حمزة، وقد مثل به، فقال النبي [- صلى الله عليه وسلم -] "لأمثلن بثلاثين منهم". وقال المسلمون: "لنمثلن بهم". فأنزل الله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ [بِهِ]) [126]، إلى آخر السورة.(6/3943)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
[ويقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة ما نبه الله فيها على نعمه , وعدد ما فيها من منته على خلقه]
قوله [تعالى] {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}.
ومعنى أتى أمر الله: يأتي. ولا يحسبن عند سيبويه في أخبار الناس وما يجري بينهم: فَعَل بمعنى يَفعل إلا في الشرط.
وقيل: إنما أتى بالماضي لأنه أمر سيكون لا بد منه، فأتى فيه بالماضي الذي قد كان في موضع ما سيكون.
وقيل: إنما جاء كذلك لأنهم استبعدوا ما وعدهم الله من عذاب، فأتى(6/3944)
بالماضي في موضع المستقبل لقربه من الإتيان، ولصدق المخبر به.
وقد قال الضحاك: {أَمْرُ الله}: فرائضه وحدوده وأحكامه.
وقيل: هو وعيد من الله لأهل الشرك على ما تقدم.
قال ابن جريج: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} الآية، قال رجل من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن. فلما رأوا أنه لا ينزل شيئاً، قالوا: ما نراه ينزل شيئاً، فنزلت [الآية]: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] الآية. فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضاً. فلما رأوا ألاّ ينزل شيئاً، قالوا: ما نراه ينزل شيئاً فنزلت {[وَ] لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ [لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ]} [هود: 8] الآية. وروي عن اضحاك {أتى أَمْرُ الله} يعني القرآن: أي أتى بفرائضه(6/3945)
وحدوده وأحكامه، وهو القول الأول عنه.
وقيل: أمر الله نصر النبي عليه السلام. وقيل هو يوم القيامة.
وقال الزجاج: {أَمْرُ الله} ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم بمنزلة قوله:
{حتى [إِذَا جَآءَ] أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] وقوله: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24]. ومعناه: أنهم استبطأوا العذاب فأخبرهم الله بقربه.
ويدل على أنه وعيد وتهدد للمشركين قوله بعد: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وأمر الله قديم غير محدث وغير مخلوق، بدلالة قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] فالأمر غير الخلق. وبدلالة قوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل كل ئيء ومن بعد كل شيء، فهو/ غير محدث. وأمره صفة له هو كلامه غير مخلوق.(6/3946)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
وقيل معنى: {أتى أَمْرُ الله} أي أتت أشراط الساعة، وما يدل على قرب القايمة. وقيل: هو قيام الساعة. وقيل: هو جواب لقولهم بمكة: {[فَأَمْطِرْ] عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] الآية.
قال [تعالى]: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
من قرأ: {يُشْرِكُونَ} بالتاء جعل الاستعجال للمشركين. ومن قرأ بالياء جعل الاستعجال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ}. أي: ينزل الملائكة بالوحي من أمره {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: عليه السلام على المرسلين بأن ينذروا العباد بأن لا إله إلا أنا.(6/3947)