وجعله الأخفش جمع قائمة.
ومن قرأ: قيماً فهو عند البصريين جمع قيمة أي: جعلها الله قيمة للأشياء.
وقرأ النخعي {التي} بالجمع.
قال الفراء الأكثر في كلام العرب: النساء اللواتي، والأموال التي.
والسفهاء هنا: النساء والصبيان، وهو قول قتادة وابن جبير والحسن والسدي والضحاك. وقيل: هم الصبيان خاصة قاله ابن عباس. وقيل: هم الصغار ولد الرجل خاصة.
وقيل: هم النساء خاصة. وقيل: هم اليتامى الذين لم يبلغوا الرشد وهذا قول حسن والمعنى: لا تسلطوهم على اموالكم التي جعلها الله قيام معاشكم، فيفسدوها ولكن ارزقوهم، واكسوهم، وإن كانوا ممن تلزمكم نفقتهم، وهذا قول من قال: السفهاء ولد الرجل وامرأته.(2/1225)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
ومن قال: إن السفاهء المُولى عليهم: فمعناه أنه أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها وأمرهم أن يرزقوهم منها ويكسوهم.
قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف} أي: عدوهم وعداً حسناً من البر والصلة، وقيل: المعنى ادعوا لهم بالصلاح.
وقيل: المعنى علموهم أمر دينهم.
وقال ابن جريج: المعنى: قولوا لهم إن صلحتم ورشدنم سلمنا إليكم أموالكم، وخلينا بينكم وبينها.
قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} الآية.
والمعنى اختبروهم في عقولهم وصلاحهم، وتثمر أموالهم وذلك بعد الاحتلام {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ} الرشد {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. وقد قال أبو حنيفة: لا حجر على بالغ. وعامة الفقهاء على خلافه.(2/1226)
ومعنى {إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي الحلم، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد، ومعنى {آنَسْتُمْ} وجدتم وعلمتم وأحسستم منهم الرشد، وأصل آنست في قول القتبي: أبصرت، والرشد هنا العقل والصلاح في الدين.
وقيل: الرشد: الصلاح في الدين والمال، وقال مجاهد: الرشد هنا العقل. {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} هذا كلام يدل [على] أن الآية في المُولى عليهم من يتامى الصبيان الإناث والذكور، وقال الحسن: رشداً في أموالهم وصلاحاً في دينهم.
قال زيد بن أسلم: وذلك بعد الاحتلام.
قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أي: لا تأكلوا أموال اليتامى بغير ما أباح الله عز وجل.
وقيل: لا تسرفوا في أكلها، والإسراف في كلام العرب تجاوز الحد المباح إلى(2/1227)
غيره بنقص أو زيادة، وهي في الزيادة أكثر إسرافاً. يقال سَرِفَ يَسْرَفُ، ويقال مررت بكم فَسَرَفْتُكم أي: فسهوت عنكم وأخطأتكم.
وقوله: {بِدَاراً} أي: مبادرة أن يكبروا، وهو مصدر بادرت. أي: لا تأكلوها مبادرة منكم (بلوغهم وإيناس الرشد منهم فيأكلوها لئلاّ يرشدوا فيأخذوها منكم).
قوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي: عن أموال اليتامى بماله.
{وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} أي: يستقرض من مال يتيمه، ثم يؤديه إذا(2/1228)
أيسر، قاله عمر رضي الله عنهـ وابن جبير وعبيدة وأبو العالية.
وروي أن ابن عباس والشعبي وغيرهم: أن له أن يأكل منه إذا احتاج قرضاً ويؤديه إذا أيسر مثلما أكل.
وقال السدي: إذا كان الولي فقيراً أكل من يتيمه بأطراف أصابعه، ولا قضاء عليه، وقاله الشعبي، وروي مثله عن ابن عباس بأنه لا قضاء عليه.
وعن عائشة: إنّ الوصي يأكل من مال اليتيم مكان قيامه عليه إذا كان فقيراً (أكل بالمعروف، ولم يذكر قرضاً ولا رداً وقال النخعي إذا كان الولي فقيراً) أخذ من مال يتيمه ما يسدّ به جوعته ويستر عورته، ولم تذكر قضاء.(2/1229)
وقال عطاء: يأكل إذا افتقر ولا قضاء.
وقال ابن زيد: يأكل إذا احتاج لقيامه عليهم وحفظه لأموالهم ولا قضاء عليه.
وقيل: المعنى أكل الولي مع اليتيم هو في التمر وشرب رسل الماشية خاصة دون غيره، ولا قضاء عليه، وقد توقف بعض أهل العلم فيها وقال: لا أدري لعلها منسوخة بقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} الآية [10].
قال أبو حنيفة: لا يأكل معه شيئاً إلاّ أن يسافر من أجله فيأخذ القوت.(2/1230)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
وقد روي عن ابن عباس أنه قال {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف}: يقوت نفسه يعني من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. وهذا نختار عند العلماء، وحكى معناه الشافعي.
وقال نافع بن أبي نعيم: سألت يحيى بن سعيد وربيعة عن قول الله عز وجل: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} فقال: أنفق عليه بقدر فقره، وإن كان غنياً أنفق عليه بقدر غناه، ولم يكن للولي منه شيء.
ثم أمر الله تعالى الأولياء بالإشهاد على اليتامى إذا رشدوا ودفعوا إليهم أموالهم فقال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً} الآية.
أي: كافياً من الشهود الذين يشهدون على القبض، ونصب (حسيباً) على الحال.
قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} الآية.(2/1231)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{نَصِيباً} الأخير منصوب على الحال عند الزجاج وفيه معنى التأكيد كأنه قال مفروضاً، وهو نصب على المصدر عند الأخفش والفراء كأنه قال فرضاً لازماً، وما وقبله يدل على أنه فرض ذلك عليهم.
وهذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية، كانوا يورثون الذكر دون الإناث، وكان الكبير من ولد الذكور (يرث) دون الصغير يقولون: لا يرث، إلا من طاعن بالرمح، فنسخ الله عز وجل ذلك، وأعلمنا أنه لكل واحد نصيب مفروض أي واجب مما قل ومما كثر من التركة.
قوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} الآية.
هذه الآية في قول ابن عباس، وابن حبيب، ومجاهد محكمة واجبة، يعطي الورثة للقرابة الذين لا ميراث لهم ما طابت به أنفس الورثة، كأنهم ينحون إلى أنها ندب وليس بفرض.(2/1232)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
وقال السدي وابن المسيب والضحاك: هي منسوخة بالمواريث وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس أيضاً، قالوا: كان هذا فرضاً قبل نزول المواريث، ثم نزلت المواريث فنسخت ذلك.
وقيل: إنها محكمة عنى بها الميت يقسم وصيته وهو حي، فيوضي بها فهو ندب أيضاً.
قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي يعتذر إليهم إن لم يعطوا شيئاً، يقول الولي: ما لي في هذا المال شيء، وهو مال اليتامى، وقيل: القسمة في هذا قسمة الوصية أمر أن يعطى منها من لا يرث من القرابة على الندب لذلك.
قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} الآية.
لم يأت ليخش مفعول لذكره بعد ذلك الخوف، وإتيانه بمفعوله فسد ذلك مسد مفعول يخشى (لأن الخوف والخشية سواء، ومثلهما معنى الاتقاء فسد مفعول يخشى) مفعول الخوف ومفعول الاتقاء، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} [النحل: 110] فسَدَّ خبر إن الثانية مسدَّ خبر الأولى في قوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ} [النحل: 110].(2/1233)
وقيل: مفعول يخشى محذوف كأنه قال: وليخشى الله الذين.
والمعنى: وليخف الذين يحضرون وصية الموصي أن يأمروا الموصي أن يفرق ماله على غير ولده، ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده، كما لو أنه كان هون الموصي يسره أن يحثه من يحضره على توفير ماله لولده لضعفهم وعجزهم قال ذلك ابن عباس.
وقال قتادة: معناه: من حضر ميتاً فلينهه عن الحيف وليأمره بإحسان، وليخش على عيال المتوفى ما كان يخشى على عياله لو حضره الموت، وهو مثل القول الأول ومثل هذه المعنى قال السدي.
وقال الضحاك قولاً قريباً من الأول: قال هذا عند الموت لا يقول أحدكم لرجل عند وصيته: اعتق وتصدق حتى يفرق ناله، ويدع ورثته عالة لعياله كما كان يحب هو أن يفعل به لو حضرته الوفاة وعنده ذرية ضعفاء.
قوله: {وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أي يأمرون الميت في وصيته بما لا ضرر فيه على ورثته كما يحب هو أن يفعل في ورثته بما يأمر به نفسه.
وقال مجاهد: هذا عند تفريق المال وقسمته، يقول الذين يحضرون: زد فلاناً وأعط فلاناً، فأمرهم الله عز وجل أن يقولوا مثلما كان يحبون أن يقال لولده بعدهم. وكل هذه الأقوال لا تمنع الوصية أن يوصي لقرابته بخمس ماله أو بربعه أو بثلثه كذا(2/1234)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
ذكر أكثرهم.
وقيل: إنهم لا يأمرونه أن يوصي لأحد البتة إذا كان له أولاد ضعفاء يخاف عليهم الضيعة كما كنتم تصنعون لو حضركم الموت أيها الحاضرون وعندكم أولاد ضعفاء تخافون عليهم الضيعة.
وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان من اجتهادهم في الخير والعمل الصالح إذا حضروا مريضاً منهم قالوا له: انظر لنفسك فليس ينفعك ولدك ولا يغنون عنك من الله شيئاً، ويقدم جل ماله ويجحف بولده، وكل هذا قبل الوصية بالثلث، وتحديدها من النبي صلى الله عليه وسلم فكره الله سبحانه ذلك وأمرهم أن يأمروا الذي حضرته الوفاة بما يحبون أن يأمروهم به إذا حضرتهم الوفاة ولهم ذرية ضعفاء. وقد قيل: إن هذا أمر للموصي على الأيتام أن يفعل فيهم ما يحب [أن يفعل] بعده في أولاده.
وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الوصية لولاة اليتامى ألا يأكلوا أموالهم كما يحبون لو ماتوا وتركوا أولاداً ضعفاء أن يحتاط على أموال أولادهم كما يحتاطون هم على مال يتاماهم، أي: لتفعلوا بهم ما تحبون أن يفعل بولدكم بعدهم.
قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} الآية.(2/1235)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
هذا تحذير ووعيد من الله عز وجل لمن يأكل مال يتيمه. قال السدي: إذا قام من أكل مال اليتيم من قبره بعث ولهب النار يخرج من فيه، ومسامعه وأذنيه وأنفه وعينيه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى الخدري عنه من خبر ليلة الإسراء: " نَظَرْتُ فِإِذَا أنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرٌ كَمَشَافِرِ الإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأخُذُ بِمَشَافِرِهِم، ثَمَّ يَجْعَلَ في أفْوَاهِهِمْ صَخْراً مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِن أسَافِلِهِم، قُلْتُ: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء {الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} ".
وقال ابن [زيد] عن أبيه: هي لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم، وإنما جاز أن يخبر عنهم بأكل الناس لأنهم لما أكلوا ما يؤديهم إلى النار كانوا بمنزلة من يأكل النار، وإن كان يأكل الطيب في الدنيا.
قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ} الآية.
ومعنى قوله {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} معناه: لم يزل كذلك، كأن القوم عاينوا(2/1236)
حكمة وعلماً، فأعلمهم الله أنه لم يزل كذلك هذا مذهب سيبويه. وقال المبرد: ليس في قوله: (كان) دليل على نفي أنه كان ذلك في الحال وفي الاستبقال.
وفيها قول ثالث وهو: أن كان يخبر بها عن الحال كما قال: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29]، وقول رابع: أن الإخبار من الله عز وجل في الماضي والمستقبل واحد لأنه عنه معلوم.
ومعنى {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم فلفظه لفظ الخبر، ومعناه الإلزام كما قال: -[" ذلكم وصاكم به أي فرضه عليكم ". وقيل معناه: يعهد إليكم إذا مات منكم ميت وخلف] أولاداً أن يقسم عليهم على كذا وكذا.
وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} وما بعده هو تفسير ما وصاهم به، بين الله للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته الواجب في مواريث من مات منهم في هذه السورة ونسخ به ما كان عليه أهل الجاهلية من توريث الأولاد المقاتلة دون الصغار وتوريث الذكور دون الإناث.
وقال مجاهد وغيره كانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله تعالى بما أحب(2/1237)
وفرض هذه السورة ما قد نص عليه.
وروي أن هذه الآية نزلت لما استشهد سعد بن الربيع يوم أحد، وترك بنتين وامرأة، وأباه الربيع، فأخذ أبوه جميع ما ترك على ما كانوا عليه في الجاهلية، فأتت امرأة سعد النبي صلى الله عليه وسلم فشكت ذلك إليه مرتين وهي تبكي، وتذكر فقر بنيها، وأنه لا أحد يرغب فيهما لفقرهما، فنزلت آية المواريث {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم}.
قال أبو محمد: وقد كان هذا في علم الله عز وجل أنه سيفرضه علينا، ويجعل لإنزاله علينا سبباً، وكذلك جميع ما أنزله علينا من الفرائض وغيرها، قد تقدم علمه بذلك لا إله إلا هو.
قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} أي فإن كان المتروكات نساء.
وقوله: {فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (فرض الله تعالى لما فوق الاثنين من النساء:(2/1238)
الثلثين، وليس للاثنين فرض مسمى، فقال قوم " فوق " هاهنا زائدة والمعنى فإن كان المتروكات نساء اثنتين فلهن ثلثاً ما ترك) كما قال: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] فيكون على هذا القول لا فرض لما فوق الاثنين، والقول فيها إن فرض الاثنين غير منصوص عليه لكن يعطين بالإجماع بدليل النص (الثلثين).
والدليل: هو أن الله تعالى جعل فرض الاثنين من الأخوات: الثلثين بالنص، والابنتان أمس قرابة، وأقرب من الأختين، فوجب ألا ينقص عن فرض الأختين، وأيضاً فإن الله تعالى جعل [فرض] الأختين للأم كفرض ما فوق ذلك، (فكذلك يجب أن يكون فرض الابنتين كفرض [الأختين] فما فوق).
ودليل آخر وهو أنه جعل فرض الأخت كفرض البنت، فيجب أن يكون فرض البنتين كفرض الأختين، وكذلك أعطى الأخوات الجماعة الثلثين قياساً على فرض البنات المنصوص عليه، وكان المبرد يقول: إن في الاية دليلاً على أن فرض البنتين: الثلثان، وهو أنه قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} (فأقل العدد ذكر وأنثى، فإذا كان(2/1239)
للواحدة الثلث دل ذلك على أن للاثنتين) الثلثين.
وقيل: (إن) الابنة لما وجب لها مع أخيها في مال أبيها الثلث، كانت أحرى أن يجب لها في مال أبيها مع أختها أيضاً الثلث، ويكون لأختها معها مثلما وجب لها وهو الثلث، فوجب للابنتين الثلثان بهذا الاستدلال.
والهاء في {لأَبَوَيْهِ} تعود على الميت، ولم يجر له ذكر، لكن الكلام يدل عليه، والأولى من هذا كله أن تكون الابنتان أعطيتا الثلثين لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي عنه أنه أعطى للابنتين الثلثين.
وقيل: أُعطيتا الثلثين بالإجماع.
والأولاد فيما ذكر الله تعالى هم أولاد الصلب الذكور والإناث وولد الابن خاصة وإن سفلوا الذكور والإناث، وكذلك ولد ابن الابن ابن الابن إذا نسب إلى الميت من قبل آبائه والأعلى يحجب الأسفل إلا أن يكون الأعلى أنثى، فإن لها ما للبنت، والباقي لمن هو أسفل منهما من ولد الابن إذا كان فيهم ذكر، ولهذا تبيين يطول ذكره، وهو مذكور في كتاب الفرائض، وكذلك الابنتان لهم الثلثان والباقي لمن هو(2/1240)
أسفل منهما إذا كان فيهم ذكر.
قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} الآية.
مذهب بعض الصحابة وبعض الفقهاء أن الإخوة الذين يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس هم ثلاثة فما فوق ذلك لقوله (إخوة فأتى بلفظ الجمع)، وقال أكثرهم، وكثير من الفقهاء (وإن كانوا أخوة، رجالاً ونساءً) وهو مذهب زيد الاثنان يحجبان الأم كالثلاثة والإخوة في الآية يراد بهم اثنين فما فوقهما، وإنما جاز أن يقع لفظ الجماعة للاثنين لأنهما شبها بالشيء الذي ليس في الإنسان منه غير عضو (واحد) كقولك: الزيدان صغت قلوبهما وخرجت أنفسهما، وفقئت أعينهما، فلما جمع في موضع التثنية كان هو المشهور عن العرب، وأتى به القرآن، شبه الشخصان بالأعضاء التي في كل واحد منهما عضو واحد في موضع التثنية (كما يجمع الأعضاء في موضع التثنية).
والشبه الذي بينهم أن الشخصين كل واحد غير صاحبه كذلك الأعضاء كل واحد غير الآخر، فأخرج تثنيتهما بلفظ تثنية العضوين. وقال بعض النحويين:(2/1241)
ضمك واحد إلى اثنين كضمك واحداً، إلى واحد. وقال: [الخليل]: الاثنان جماعة، وقولهما فعلنا حقيقة، وقول الواحد فعلنا مجاز، وقد قال تعالى: {وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً} ولا اختلاف أن هذا يصلح لاثنين فصاعداً. والاثنان جماعة لأنه ضم واحد إلى واحد وجمع واحد إلى واحد وقد قال تعالى:
{وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] يريد طرفيه إذ ليس له سوى طرفين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ( صلاة) الاثنين جماعة " وقال(2/1242)
تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} [الأنبياء: 78] ثم قال بعقب ذلك {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فأخبر أولاً عن اثنين ثم أتى بلفظ الجمع آخراً لأن الاثنين جماعة.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15].
أراد به موسى وهارون المتقدم ذكرهما، وقال في قوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وإنما أراد به علياً رضي الله عنهـ والوليد، فجمع (يستوون).
وقالوا في قوله: {وَأَلْقَى الألواح} [الأعراف: 150] أنهما كانا لوحين فجمع في موضع التثنية،(2/1243)
وقالوا في قوله: {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] أنهما عائشة رضي الله عنهـ وصفوان ابن المعطل، فجمع، والناس يقولون: شهد الشهود على فلان وإن كان إنما شهد عليه شاهدان. ويقولون: أعط هذا لأولادك وإن كان ليس له ولدان، وأهل الحساب على تسمية الاثنين عدداً والعدد كثير في المعنى.
وإنما نقصت الأم بالإخوة (وزيدت للأب) لأن على الأب مؤنتهم دون الأم.
قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} الآية.
" أو " هنا للإباحة، والكلام فيه تقديم وتأخير، والدين هو المتقدم على الوصية وليست " أو " بمعنى الواو، لأن الواو لو كانت لجاز أن يتوهم أن الحكم لا ينفذ إلا باجتماع الدين والوصية.
قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} المعنى لا يعلمون أيهم أقرب لهم نفعاً في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أرفع درجة في الجنة، لأن الآباء يشفعون في(2/1244)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
الأبناء والأبناء يشفعون في الآباء إذا كان [بعضهم] أعلى درجة من بعض رفع الأٍفل إلى الأعلى.
فالمعنى على هذا لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً في الآخرة.
وفرض الزوج والزوجة ظاهر في النص غير خفي، فلذلك لم يذكر.
قوله: {فَرِيضَةً} منصوب على الحال المؤكدة لما قبلها من الفرض، وقيل: هو مصدر لأن معنى قوله {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم. ثم قال: {فَرِيضَةً} فأعمل فيه المعنى الذي دل عليه يوصيكم، وهذا قول حسن.
قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أَو امرأة} الآية.
" نصب (كلالة) على أنه خبر كان عند الأخفش، وإن شئت على الحال يجعل كان بمعنى وقع " ويورث " صفة رجل، وهذا على أن الكلالة هو الميت، وهو قوله البصريين لأنهم يقولون الكلالة الميت الذي لا ولد له، ولا والد وقد روي ذلك(2/1245)
عن أبي بكر رضي الله عنهـ، وكذلك قال علي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس وجابر ابن زيد.
قال البصريون: هو كما تقول رجل عقيم: إذا لو يولد له، مشتق من الإكليل كأن الورثة غير الولد، والولد قد أحاطوا به فحازوا المال.
وقرأ الحسن وأبو رجاء (يورِث كلالة) بكسر الراء جعل الكلالة مفعول به.
وقرأ بعض الكوفيين (يورِث كلالة) بكسر الراء وتشديد نصب كلالة على أنه مفعول بها.
والكلالة في عاتين الروايتين: الورثة أو المال.(2/1246)
وقال أبو عبيدة: كلالة أصله مصدر من كلالة النسب إذا أحاط به، والأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلقهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة كأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب.
وقد قيل: الكلالة الورثة لا ولد فيهم ولا أب وهو قول أهل المدينة وأهل الكوفة، وشاهد هذا القول قراءة الحسن وأبي رجاء المتقدم ذكرهما، ويبعد هذا القول لأجل نصب كلالة لأنه يجب على هذا القول أن ترتفع على معنى يورث منه كلالة.
وقال عطاء: الكلالة المال الذي لا يرثه ولد ولا والد، وهو قول شاذ، فيكون نصبها على أنه صفة لمصدر محذوف والتقدير: يورث وارثه كلالة.
وقال ابن زيد: الكلالة الحي والميت الذي لا ولد له ولا والد.
والكلالة مشتق من الإكليل المنعطف على جبين الملك، ومن الروضة المكللة وهي التي قد حف بها النّوْرُ، وشبه ذلك بالقمر إذا حا بالإكليل وهو منزلة من منازل القمر ذات نجوم، يقال يتكلله النسب إذا أحاط به، وإنما سمي الميت الذي لا ولد له، ولا والد كلالة لأن كل واحد من الولد والوالد إذا انفرد يحيط بالميراث كله.(2/1247)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} نصب غير على الحال أي: يوصي بها غير مضار.
وقرأ الحسن غير مضار وصيةٍ، بالإضافة ولحن في ذلك لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر، ووجهه غير مضار بوصية أي: غير مضار بها ورثته في ميراقهم لا يقدر بما ليس (عليه) ولا يوصي بأكثر من الثلث.
و" وصية " نصب على المصدر.
وأكثر العلماء على أن الكلالة في أول هذه السورة يراد بها الإخوة [من الأم والكلالة في آخر السورة يراد بها الاخوة] من الأب والأم.
قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} إنما وحد في أوله وقد تقدم ذكر رجل وامرأة، لأن الاسمين إذا تقدما وعطف أحدهما على الآخر بأو، جاز أن تضيف الخبر إليهما أو لأحدهما، إن شئت أن تقول: من كان عنده غلام أو جارية، فيحسن إليه، وإن شئت: إليها وإن شئت إليهما.
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله}. الآية.(2/1248)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
المعنى: تلك فرائض الله. وقيل سنة الله وأمره. وقيل شروط الله، والإشارة بتلك إلى ما تقدم من الحكام في الفراض، والتقدير تلك القسمة حدود الله لكم يبين الحق والباطل تنتهون إليها، فمن يطع الله ورسوله في تنفيذها وغير ذلك يدخله الجنة، ومن يعصيه ويتعد حدوده في ترك تنفيذها يدخله النار، ويخلده فيها إذا مات مصراً على ذلك، والهاء في " حدوده " تعود على الرسول لأنه المبلغ لحدود الله.
قوله: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة} الآية.
" اللاتي " لا تكون إلا للنساء. والمعنى: والنساء اللاتي يأتين الفاحشة، فاستشهدوا عليهن فيما آتين أربعة رجال، فإن شهدوا عليهن بالفاحشة {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} حتى يمتن {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} أي: طريقاً إلى النجاة فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان هذا قبل نزول الحدود، فلما نزل: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، نسخ ذلك.(2/1249)
قال عطاء: السبيل: الحدود والرجم، والجلد.
قال السدي: نزلت هذه الآية في التي دخل بها إذا زنت، فإنها تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها.
قال الله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قال: هي الزنا، ثم جاءت الحدود فنسختها فجلدت ورجمت وصار مهرها ميراثاً فكان السبيل هو الحد الذي نزل.
وقيل: إن حكم الزاني والزانية الثيبين والبكرين كان أن يحبسا حتى يموتا، فنسخ الله ذلك بالآية التي بعدها وصار حكمهما أن يؤذيا بالسب والتعيير لقوله " فآذوهما " ثم نسخ ذلك بالحدود، هذا قول الحسن وعكرمة وروي عن عبادة بن الصامت.
وقال قتادة كان حكم البكرين الزانيين أن يؤذيا بالتعيير، وحكم المحصنيين أن يحبسا حتى يموتا، فنسخ بالحدود،: الجلد للبكرين ونفي الرجل بعد الجلد عاماً،(2/1250)
والرجم على الثيبين بعد الجلد، والجلد في جميعهم مائة.
وقال مجاهد: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة} عام لكل ثيب وبكر من النساء {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} عام لكل من زنى من الرجال خاصة ثيباً كان أو بكراً، وهو مروي عن ابن عباس. واختاره النحاس وغيره، لأنه قال {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} ولم يقل منكم، وقال {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} أي يأتين الفاحشة منكم يريد الرجال بعد ذكر النساء، ثم نسخت الآيتان بالحدود.
وقد اختلف في الحد على الثيب فقال علي رضي الله عنهـ: الجلد ثم الرجم، وقال: أجلد بكتاب الله، وأرجم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبه قال الحسن وإسحاق. وأكثر العلماء على ان عليه الرجم دون الجلد، وهو مروي عن عمر رضي الله عنهـ وهو [قول](2/1251)
مالك، والشافعي، والكوفيين والأوزاعي والنخعي، فمنهم من قال: إن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم جعل سنة تنسخ القرآن، ومنهم من قال هو منسوخ بما حفظ لفظه ونسخ رسمه في المصحف من قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.
واختلف في نفي البكر: فقال العمران ما: يجلد ولا ينفى، وكذلك قال عثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهما وهو قول عطاء وسفيان ومالك، والشافعي، وابن أبي ليلى، وأحمد وإسحاق وغيرهم.(2/1252)
واختلف في المعترف في الزنا. فقال الحسن إذا اعترف (يحد) وهو قول الشافعي وأبي ثور، وروي عن مالك أنه قال: إذا اعترف من غير محنة يحد، وإن اعتذر، وذكر عذراً يمكن قُبِل منه، وإن اعترف بمحنة قبل منه الرجوع عن اعترافه.
وقال قوم: لا يحد حتى يعترف أربع مرات في موضع أو في مواضع قال مالك: لا يقام عليه الحد إن كان بعذر وهو مذهب الأوزاعي.
وأما الإحصان الذي يجب معه الرجم فهو الوطء للمسلمة الحرة بنكاح صحيح، فإن كان فاسداً لم يكن محصناً بذلك النكاح في قول عطاء وقتادة والليثي(2/1253)
ومالك، والشافعي وغيرهم، وقال غيرهم من الفقهاء: يحصن بذلك النكاح.
وروي عن علي وجابر بن عبد الله في الذمية إذا دخل بها، والمسلمة سواء، وعند الحسن البصري وعطاء والزهري، وقتادة ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق يحصن (المسلم)، ولا يحصن المسلم الذمية.
وروي عن ابن عمر أنها لا تحصنه (وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي ومجاهد والثوري.
والأمة يدخل بها الحر تحصنه عند ابن المسيب والزهري، ومالك، والشافعي. وقال عطاء والحسن البصري وابن سيرين، وقتادة، والثوري وغيرهم: لا تحصنه فأما الحرة تكون تحت العبد فهو يحصنها عند (ابن) المسيب والحسن البصري،(2/1254)
ومالك، والشافعي، وأبي ثور وغيرهم.
وقال عطاء والنخعي، وأصحاب الرأي: لا يحصنها.
ومذهب مالك والشافعي والأوزاعي في الصبية التي لم تبلغ (يدخل بها البالغ الحر: أنها تحصنه، ولا يحصنها، وقال أصحاب الرأي لا تحصنه الصبية، ولا المجنونة).
وقال الشافعي تحصنه المجنونة إذا دخل بها.
وقال مالك في الصبي: إذا جامع امرأته لا يحصنها.(2/1255)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
وقال ابن عبد الحكم: لا يحفر للمرجوم ويرجم على وجه الأرض وهو قول أصحاب الرأي، وقال غيره: يحفر له، وكلهم قالوا: يرجم حتى يموت.
قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} الآية.
المعنى عند الطبري: الرجل والمرأة اللذان يأتيان الفاحشة منكم أي: من رجالكم {فَآذُوهُمَا}، قيل: يعني بذلك غير المحصن، وبالذي قبلها: المحصنان. وقيل: عنى بذلك الرجلان الزانيان.
وقيل: هذه الآية والتي قبلها منسوخة بالحدود، وعليه العمل عند الصحابة والعلماء. وقيل: هي ناسخة لما قبلها ومنسوخة بالحدود.(2/1256)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
ومعنى {فَآذُوهُمَا} فسبوهما وعيروهما، ونحوهما.
وقال ابن عباس: معناها: يؤذيان باللسان ويضربان بالنعال.
والسبيل في الآية التي قبلها هي الحدود التي نزلت في النور.
قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بِجَهَالَةٍ} الآية.
معناها عندها الطبري: أن التوبة ليست لأحد إلا الذين يعملون السوء، وهم جهال: ثم يتوبون قبل الموت، فإن الله يتوب عليهم، وأكثر الصحابة على أن كل ذنب فعله الإنسان فعل جهالة عمداً كان أو غير عمد.
قال مجاهد: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى يتوب عن ذلك، وعلى ذلك أكثر التابعين وأهل التفسير.
وقد قال الضحاك: إن الجهالة: العمد خاصة وروي مثله عن مجاهد.
وقال عكرمة: الجهالة: الدنيا. فالمعنى على قوله: للذين يعملون السوء في(2/1257)
الدنيا، وقال: الدنيا كلها جهالة.
وقيل معنى: {بِجَهَالَةٍ} أي: بجهالة منهم لما في الذنب من العقاب عمدوا ذلك أو جهلوه. وقيل: الجهالة أن يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية، فإن لم يعلم ذلك، فهو خطأ وليست بجهالة.
قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} الآية.
أي: في صحة لا مرض فيها قبل نزول إمارات الموت، قاله ابن عباس والسدي وغيرهما، وقيل: المعنى من قبل معاينة الموت (وروي ذلك عن ابن عباس، وقاله الضحاك، وقال عكرمة وابن زيد " من قريب " من قبل الموت).
وقد روي قتادة عن أبي قلابة أنه قال: ذكر لنا أن إبليس لعنه الله لما لعن وأُنظْر قال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، قال الله عز وجل: لا(2/1258)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
أمنعه التوبة ما دام فيه الروح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ".
وقال أهل المعاني: " ثُمّ يثوبون " قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله عز وجل ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} أي: يرزقهم إنابة إلى طاعته ويتقبل منهم توبتهم إليه.
قال الأخفش: قال إني تبت الآن " تمام وخولف في ذلك لأن و {الذين يَمُوتُونَ} عطف على " الذين " الأول.
قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} الآية.(2/1259)
المعنى: ليست لمن يصر على معاصي الله حتى إذا حشرج بنفسه وعاين ملائكة ربه قد أتوا لقبض روحه قال في نفسه أتوب الآن وهو موقن من الموت لا يطمع في حياة، هذا لا توبة له يضمرها، لأنه غير مستطيع لإظهارها.
قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم يُسَق. وعنى بذلك أهل النفاق.
وقال ابن الربيع: نزلت الأولى في المؤمنين يعني قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} ونزلت الثانية - الوسطى - في المنافقين وهي قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة} ونزلت الآخرة في الكفار يعني قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} لا توبة لهم في الآخرة إذ ليست بدار عمل.
وقيل: هي في أهل الإسلام، وذكر عن ابن عباس أنه منسوخة بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 و116]، قال: فحرم الله المغفرة على من مات، وهو(2/1260)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
كافر، وإرجاء أهل التوحيد إلى مشيئته ولم يؤيئسهم من المغفرة. والسيئات هنا: ما دون الكفر.
ومعنى {أَعْتَدْنَا} - وهو أفعلنا - من العتاد.
قولهم: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} الآية.
الكَره والكُره لغتان بمعنى عند البصريين والكسائي.
وقال الفراء: الكَره بالفتح أن يكون على الشيء، والكُره المشقة، هذا معنى قوله.
وقال القتبي: الكره بالفتح بمعنى القهر والضم بمعنى المشقة.
ومعنى الآية عند أبي بكير وغيره: أنها نهي للرجل يحبس المرأة، وليس له بها حاجة رجاء أن يرثها، ونهاه أن يعضلها حتى تفتدي منه بما أخذت منه، أو ببعضه.
وقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}، معناه أن تشتم عرضه، أو تخالف أمره وتبذو(2/1261)
عليه، فكل فاحشة (نعتت) مبينة فهي من البَذاء باللسان، وكل فاحشة مطلقة فهو الزنا، والزنا يُسْتَر ويَخفى، فلا تكون مبينة، والنطق بالبذاء يظهر، فهو مبين من لسان فاعله، ودل (على) ذلك قوله: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30] عنى بذلك مخالفة (أمر) الرسول صلى الله عليه وسلم والأذى بالنطق ونعوذ بالله من أن يعني بذلك أنه كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها كان ابنه من غيرها، أو قريبه أولى بها من غيرهما، ومنه بنفسها، فإن شاء نكحها وإن شاء منعها من التكاح وهو العضل فحرم الله ذلك على المؤمنين بهذه الآية.
فمعنى الوراثة هو أن يأخذها لنفسه، ويكون بها أولى من ولي نفسها، ومن غيره، ومعنى العضل: أن ياخذها ويمنعها من تزوج غيره، كذلك قال جماعة أهل التفسير،(2/1262)
ولكن اختلفوا (فقبل كان ذلك سنة قريش في الجاهلية).
وقيل: كان ذلك سنة الأنصار.
وقيل: كان ذلك سنة الجميع يمنع امرأة قريبه أن تتزوج ويغصبها نفسها إن شاء.
قال الضحاك: كان الرجل إذا مات وترك امرأته أتى حميمه، فألقى ثوبه عليها، فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحاً، فإن شاء أمسك حتى تفتدي منه، وقال ابن عباس: كان حميم الميت يلقي ثوبه على امرأته فإن شاء تزوجها بذلك، وإن شاء حبسها حتى تموت، فيرثها فذلك.
قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} لأنهم يمنعونها من التزويج حتى تموت، فيرثها بذلك إلا أن تذهب إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ثوبه فتكون أحق بنفسها، كذلك حكمهم فيها. وقال زيد بن أسلم: كان الرجل إذا مات في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد. وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة (المرأة) حتى يطلقها، أو يشترط عليها ألا تنكح إلا من(2/1263)
أراد حتى تفتدي ببعض ما أعطاها، فنهى الله عن ذلك.
وقال مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها كان نكاحها بيد ابن زوجها، يعني من غيرها، فإذا ماتت قبل أن تنكح كان ميراثها له، فكان الرجل يعضل امرأة أبيه عن النكاح حتى تموت فيرثها فنهى الله عن ذلك ونسخه.
قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ} الآية.
أي: تحبسوهن عن النكاح لتأخذوا من أموالهن إذا متن ما كان موتاكم ساقوا لهن من صدقاتهن، قال ذلك ابن عباس والحسن وعكرمة فهو خطاب عند هؤلاء لورثة الميت.
وروي عن ابن عباس في معناها أيضاً أنها في مخاطبة الأزواج ألا يحبسوا النساء وهم كارهون لهن ليأخذوا منهن ما دفعوا إليهن.
قال قتادة المعنى: لا ينبغي لك أن تحبس امرأتك وأنت كاره لها لتفتدي منك. وقال بعض أهل التفسير نزل صدر الآية في الجاهلية، وآخرها في أمر الإسلام فقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} في الجاهلية.
وقوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} في الإسلام وهو ما ذكرنا من قول قتادة وما روي عن(2/1264)
ابن عباس. وقال الضحاك: العضل أن يكره الرجل المرأة حتى تفتدي منه قال الله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ}. وقيل: إن المنهي عن العضل هنا أولياء النساء، قاله مجاهد، وقال ابن زيد: كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة ثم لا توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيشهد بذلك عليها، فإذا خطبها الخاطب لم تتزوج حتى تعطي الأول، وترضيه فيأذن لها وإلا منعها.
وقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} الآية.
سمح للأزواج في المضارة إذا أتين بفاحشة ظاهرة يفتدين ببعض ما أعطوهن قال ذلك الحسن.
وقال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة سلَّمَت إليه ما أخذت منه، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود.
وقال أبو قلابة: للرجل أن يضار بالمرأة إذا أتت بفاحشة، ويضيق عليها حتى تختلع منه.
وقال ابن عباس: الفاحشة هنا النشوز، إذا نشزت وجاز له أن يأخذ منها(2/1265)
الفدية. وقيل: الفاحشة هو بذاء اللسان على زوجها، والزنى، والنشوز، فله إذا فعلت شيئاً من ذلك أن يأخذ منها الفدية ويضارر بها حتى تفتدي منه، وإذا كانت الفاحشة بالألف واللام فهي الزنا واللواط.
قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} الآية.
أي: صاحبوهن بالمعروف في المبيت والكلام. وقيل: المعروف إمساكهن بأداء حقوقهن التي لهن عليكم أو تسرحوهن بإحسان. قوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} الآية.
{خَيْراً كَثِيراً} أي: في إمساكه {خَيْراً كَثِيراً} أي: في الصبر على إمساك ما تكرهون.
فالهاء في " فيه " تعود على الإمساك. قال مجاهد المعنى: ويجعل الله في الكراهة خيراً كثيراً. قال السدي: {وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} أي: الولد.
قال ابن عباس: خيراً كثيراً أي: يعطف عليها، ويرزق منها ولداً ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً.
فالهاء في (فيه) على قول مجاهد تعود على الكراهة.(2/1266)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} الآية.
نهى الله المؤمنين أن يأخذوا من أزواجهم شيئاً، وإذا أرادوا طلاقهن ليستبدلوا بهن غيرهن. والقنطار: المال الكثير وفي تحديد عدده اختلاف قد ذكرناه في آل عمران، والبهتان: الباطل:
{أَتَأْخُذُونَهُ} كله على طريق التحذير والتوبيخ ألا يؤخذ منهن شيء، وإن كثر ما عندهن، وهو تحذير لمن فعله ومعنى {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} الملامسة والمباشرة أي: تلامستم وتباشرتم، وأصل الإفضاء في اللغة: المباشرة والمخاطبة، يقال: القوم فوضى فضا أي: مختلطون لا أمير لهم، فالإفضاء في هذه المواضع عند أكثر العلماء(2/1267)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
الجماع في الفرج.
{وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}: هو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، وهذا قول عامة الفقهاء. وكان في عقد النكاح قديماً أن يقال للناكح: " الله عليك " أي: " لتمسك بالمعروف أو تسرح بإحسان ".
وقال ابن زيد: رخص عليهم بعد ذلك فقال: {إِلاَّ [أَن] يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229] وهذه ناسخة لتلك في قوله. وأكثر الناس على أنها محكمة فليس له أن يأخذ منها إذا أراد أن يستبدل بغيرها شيئاً مما أعطاها، وأجاز له في البقرة أن يأخذ منها إذا أرادت هي طلاقها لتفتدي منه إذا كان كارهاً للطلاق، وليس في حكم إحدى الآيتين نفي للأخرى فكلاهما محكم، تلك يجوز أن يأخذ منها لأنها مريدة للطلاق وهو كاره، وهذه لا يجوز أن يأخذ منها لأنه هو المريد للطلاق ليستبدل غيرها.
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} الآية.(2/1268)
قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} إنما دخلت كان عند المبرد هاهنا زائدة، والمعنى أنه كان فاحشة على كل حال ويكون. وقال الزجاج: لا يجوز زيادة كان هاهنا لأنها قد عملت، ولكنها غير جائزة، ومعناها أنه كان مستقبحاً عندهم، والجاهلية يسمونه فاحشة فخوطبوا بما كان عندهم.
وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} هو أن الأبناء كانوا في الجاهلية ينكحون نساء آبائهم وهو من الاستثناء المنقطع، المعنى لكن ما سلف دعوة فإنه مغفور، وقيل المعنى {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}. فإنكم لا تؤاخذون به.
قال ابن بكير: نهى الله عز وجل أن يفعلوا (ما كان) أهل الجاهلية يفعلونه كان الرجل يخلف أباه على زوجته إذا توفي الأب، وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} معناه لكن ما قد سلف في الجاهلية و {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} فهو ذم لما كانوا عليه.
ذم الله تعالى ما كانوا عليه في آخر الآية، ونهى عنه في أولها هذا معنى قول ابن بكير، ف، " ما " بمعنى من في هذه الأقوال، والمعنى: ولا تتزوجوا النساء اللواتي تزوجهن آباءكم، فحرم الله أن يتزوج الرجل المرأة التي تزوجها أبوه دخل بها أو لم يدخل، لأنه إذا عقد عليها فهو نكاح، وحرم أن يتزوج الرجل زوجة ابنه مثل قوله(2/1269)
تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} دخل الابن بها، أو لم يدخل تحرم على الأب بالعقد.
وقيل: معنى الآية: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}: كنكاح آبائكم الفاسد الذي لا يجوز مثله في الإسلام، لكن ما سلف فإنه معفو عنه. والمعنى عند الطبري، ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم، إلا ما قد سلف في الجاهلية، ومضى بـ {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً}، فمن متعلقة عنده بتنكحوا {مَا نَكَحَ} بمعنى استثناء منقطع، وهو قول أهل التأويل فيما ذكره الطبري لأن " ما " لا تكون لمن يعقل، فقال: ولو كان المعنى لا تنكح النساء اللواتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع (ما) من وهو معنى قوله الزجاج، فالنهي إنما وقع على ألا ينكحوا مثل (نكاح) آبائهم، ولم يقع على ألا ينكحوا حلائل الأبناء، والقول الأول يكون النهي إنما وقع على ألا ينكحوا حلائل الأبناء (فتكون)، " ما " لمن يعقل.
وقيل: المعنى {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} من فعلكم ذلك، فإنه كان فاحشة ومقتاً، فلا(2/1270)
تفعلوه، فحرّم الله نكاح ما نكحه الآباء ومثله {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي ما سلف من فعلكم، فإنه مغفور لكم، فلا تفعلوه الآن، فهو حرام.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} أي لم يزل كذلك.
وقيل: كان زائدة والمعنى إنه فاحشة.
وعقد الأب على الابن، وكذلك عقد الابن يحرم على الأب بإجماع.
ومعنى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أنهم كانوا يفعلونه، ويعلمون قبحه.
ومعنى {وَمَقْتاً} هو أنهم كانوا إذا ولد للرجل ولد من امرأة أبيه سمي ولد مقت، وأولاده المقت معروفون عند أهل النسب يقولون: فلان مقتي النسب، والمقت أشد البغض.
{وَسَآءَ سَبِيلاً} أي: ساء فعلهم طريقاً، ونصبه على التفسير والبيان.(2/1271)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} الآية.
حرم عليكم نكاح أمهاتكم، حرم الله تعالى في هذه الآية من النسب سبعاً، ومن الصهر سبعاً: فالتي من النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، والتي من الصهر: الأم من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وامرأة الابن من نسب، أو رضاعة، والجمع بين الأختين، والسابعة قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} والعمات وإن بعدن مثل العمات وإن قربن، وبنات الأخ والأخت وإن بعدن مثل من قرب منهن.
واختلف في أمهات النساء اللوتي لم يدخل بهن إذا ماتت البنت قبل الدخول. يروى عن علي رضي الله عنهـ: جواز نكاحها وعن زيد بن ثابت مثله، جعلها كالربيبة تحرم إذا دخل بأمها، ولا تحرم إذا لم يدخل بالأم وإن كان عقد.
وقال جماعة من العلماء والصحابة والتابعين غير ما ذكرنا أنها تحرم، وإن لم يدخل بالبنت، وليس مثل الربيبة لأنها قد نص عليها أنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، فنعتها بقوله: {الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}. فهو نعت للنساء اللاتي خفضن " بمن " ولا يحسن أن يكون نعتاً للنساء المخفوضات بالإضافة، لاختلاف العاملين، فقد أجازه الكوفيون(2/1272)
وهو تأويل على قول علي وزيد بن ثابت إذ جعل أم الزوجة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت. وقد بينا هذه المسائل مفردة في غير هذا الكتاب وفيما أشرنا إليه في هذا كفاية.
وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكراً والأخرى (أنثى) ولا يحل أحدهما لصاحبه، فلا يجوز الجمع بينهما، هذا أصل جامع في تحريم الجمع بين امرأتين، ومعنى الدخول هنا الجماع، وقيل الدخول: هو التجرد للفعل، وإن لم يفعل.
وقال الزهري في الرجل يلمس أو يقبل أو يباشر ينهى عن ابنتها.
(وحلائل الأبناء) أزواجهم، وسميت حليلة لأنها تحل معه في فراش واحد، وكل العلماء أجمع على أن حليلة ابن الرجل تحرم عليه بعقد ولده عليها، وإن لم يدخل.
ومعنى قوله: {الذين مِنْ أصلابكم} أي: الذين ولدتموهم دون الذين تبنيتموهم، فإما حلائل الأبناء من الرضاع فبمنزلة حلائل الأبناء من الأصلاب لأن الله تعالى قد جعل الأختين من الرضاعة كالأخت من النسب، والأم من الرضاعة(2/1273)
كالأم من النسب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، فزوجة الابن من الرضاعة تحرم على الأب بالعقد كزوجة الابن من البنت قال عطاء: كنا نتحدث أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة، وقال (كان) النبي صلى الله عليه وسلم تبناه، فتكلم المشركون في ذلك فنزلت {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [أي] لا الذين تبنيتموهم، ونزلت
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، ونزلت {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
وإذا اشترى الرجل الجارية فباشرها، أو عشرها، أو قبل، ولم يجامع حرمت على ابنه، وعلى أبيه في قول مالك، وأكثر العلماء، وابن الابن وإن سفل بمنزلة الابن في هذا كله والجد بمنزلة الأب وإن علا في هذا كله فاعلمه، والوطء في النكاح الفاسد(2/1274)
حكمه في التحريم كحكم النكاح الصحيح يحرم ما يحرم الصحيح، هذا مذهب مالك زالشافعي وسفيان، وغيرهم من الفقهاء، والجمع بين الأختين في النكاح حرام بالنص فأما بالملك فإن عثمان قال: أحلتهما آية وحرمتهما أخرى أما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك.
قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ} كل العلماء على تحريم الربيبة التي دخل بأمها كانت في حجر الزوج أو لم تكن في حجره إلا ما روي عن علي رضي الله عنهـ: أنه أجاز نكاح الربيبة بعد موت أمها إذا لم تكن في حجر الزوج اتباعاً لظاهر الآية لأن الله قال: {الاتي فِي حُجُورِكُمْ} أي في بيوتكم. وسئل عمر عن المرأة وابنتها من ملك اليمين هل يطأ إحداهما بعد الأخرى، فنهى عن ذلك وحرمه. وقال علي رضي الله عنهـ: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد.
وكره ابن مسعود رضي الله عنهـ الجمع بينهما من ملك اليمين فقال له رجل: يقول الله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 3] فقال له ابن مسعود: وبعيرك مما ملكت يمينك.(2/1275)
وأكثر العلماء على كراهة ذلك، ولم يحرموه. لكن من أراد وطأ الأخرى (فليخرج الأولى من ملكه بما يحرم على نفسه فرجها، بعتق أو بيع أو هبة، ويطأ الأخرى). هذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن علي رضي الله عنهـ، وفعله ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحسن والأوزاعي، وقال قتادة: إذا أراد أن يطأ الأخرى اعتزل الأولى، فإذا نفقت عدتها وطئ الثانية، ويضمر في نفسه ألا يقرب الأولى.
وقال النخعي: إذا كانت عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما حتى يخرج الأولى عن ملكه، وقال الحكم وحماد.
وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: ما مضى في الزمن الأول فإنه كان حلالاً، وروي أن يعقوب عليه السلام تزوج أختين أم يوسف وأم يهودا، وكان ذلك لجميع المم فيما ذكر [فحر] م الله عز وجل على هذه الأمة رحمة منه لهم لما يلحق النساء من الغيرة، فيوجب التقاطع والعداوة بين الأختين.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وقال: " يحرم من الرضاع(2/1276)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
ما يحرم من النسب " فإذا أرضعت المرأة غلاماً بم يتزوج شيئاً من أولادها إلا ما ولدت قبل الرضاع لا بعده، وجائز أن يتزوج إخوته من أولاد المرأة إن شاءوا. وكذلك إن أرضعته جارية لم يحل لها أن تتزوج أحداً من أولادها، ولأخواتها أن يتزوجن أولاد المرأة المرضعة إن شاؤوا.
وكره الحسن وعكرمة أن يتزوج الرجل (امرأة رجل وابنته من غير المرأة ويجمع بينهما، وكل الفقهاء على جوازه.
وكره طاوس أن ينكح الرجل) المرأة وينكح ابنه ابنتها إذا كانت ولدتها بعد وطء الأب لها (وكل الفقهاء على جوازه، فإن كانت ولدتها قبل وطء الأب لها) فلم يكرهه أحد.
قوله: {والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} الآية.(2/1277)
قال مالك في قوله {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم}: هن السبايا ذوات الأزواج، أي: وطؤهن جائز لكم يعني لهن أزواج بأرض الشرك أحلهن الله لنا، يعني بعد الاستبراء والمحصنات هنا ذوات الأزواج وقوله {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يريد به إلا ما ملكت من ذوات الأزواج التي فرق بينهن وبين أزواجهن السباء.
قال ابن عباس: وطء كل ذات زوج زنا إلا ما سبي، وكذلك قال ابن زيد وابو قلابة ومكحول والزهري.
فالمعنى: حرمت عليكم النساء اللواتي أحصنهن الأزواج إلا ما ملكت أَيْمانكم من ذوات الأزواج السبايا فإنه حلال لكم، ونزل ذلك في سبي (أصاب) المسلمون بأوطاس لهن أزواج فكرهوا أن يقعوا عليه ولهن أزواج، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} من السبايا ولهن أزواج في بلد الشرك، وإنهنَّ حلال لكم يعني: بعد الاستبراء. وقال آخرون: المعنى في {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} أي: وطئهن جائز لكم يعني بعد الاستبراء، إن الله حرم نكاح المحصنات بالأزواج، واستثنى ملك اليمين، وهي المملوكة، ذوات الزوج يبيعها مولاها سيكون بيعها طلاقها(2/1278)
وتحل للمشتري.
قال ابن عباس وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله: بيع المملوكة طلاقها.
وقال أبو العالية " والمحصنات هنا العفائف التي أحصنهن عفافهن، وهو مردود إلى أول السورة، والمعنى عنده {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] ثم حرم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال: (والمحصنات من النساء) أي: إنهن حرام إلا بصداق وولي وشهود، ويجب على هذا القول نصب المحصنات لأنه عطف على مَثْنَى وما بعده.
وقال ابن جبير وعطاء: {والمحصنات مِنَ النسآء} حرم الله المحصنات فوق الأربع مع تحريم القرابة المذكورة.
وقيل المعنى: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} بنكاح أو ملك، فحرم الله ذوات الأزواج من النساء ما حرم قبله من ذوي الأرحام، واستثنى ما ملكت اليمين بعقد نكاح صحيح أو بثمن، قال ذلك مجاهد، وقيل: المحصنات: الحرائر، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنهـ: إن الآية نزلت في نساء مهاجرات قدمن المدينة، فتزوجهن بعض(2/1279)
المسلمين، ثم قدم أزواجهن مهاجرين، فنُهِيَ المسلمون عن نكاحهن.
وروي أن ابن عباس كان يتوقف في تفسير هذه الآية، قال ابن جبير: كان ابن عباس لا يعلمها.
وروي عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إ'ليه أكباد الإبل يعني {والمحصنات مِنَ النسآء}.
والإحصان: يكون بالحرية كقوله {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] يريد الحرائر من أهل الكتاب ويكون بالإسلام كقوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} [النساء: 25] على قراءة من فتح الهمزة يريد أسلمن، ويكون بالعفة كقوله:
{والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4]، يريد العفائف، ويكون بالزوج.
والفائدة في قوله: {مِنَ النسآء} أن المحصنات يقع على معنى: والأنفس المحصنات فيكون للرجال والنساء، فبين أنه للنساء بقوله {مِنَ النسآء} دليل ذلك أنه قال: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} فلولا أنه يراد به الأنفس المحصنات لم يحد من قذف رجلاً بالنص على ما ذكرنا.(2/1280)
قوله {كتاب الله عَلَيْكُمْ} نصب: كتاب (الله) عليكم: المصدر عند سيبويه، لأنه لما قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} على أنه كتب ذلك، فالمعنى كتب الله عليكم ذلك كتاباً، وقيل نصبه على الإغراء أي: الزموا كتاب الله، وهذا قول ضعيف مردود، وهو قول الكوفيين لأن عليكم هو الذي يقوم مقام الفعل في الإغراء، وهو لا ينصرف ولا يجوز تقديم المفعول عليه عند أحد، لا يجوز زيد عليك، ونصبه عند بعض الطوفيين على الحال كأنه قال: كتاب الله عليكم.
ومعنى {كتاب الله عَلَيْكُمْ} قال عطاء والنخعي هو الأربع لا يزيد عليهن، وقاله السدي، وقال ابن زيد: معناه أمر الله عليكم، يريد ما حرم الله من هؤلاء وما أحل لهم، وقرأ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم} الآية.
ومن فتح الهمزة، فلقرب اسم الله تعالى من الفعل، فأسنده إليه، فتقديره كتاب الله ذلك عليكم، وأحل لكم. ومن ضم فإنه أجراه على أول الآية، لأنه جرى على ترك(2/1281)
تسمية الفاعل وهو قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} فأجرى التحليل على لفظ التحريم لتسابق الألفاظ ولئلا تختلف، فكأنه حرم عليكم كذا وأحل لكم كذا، ومعنى {مَّا وَرَاءَ ذلكم} ما دون الخمس {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم}، على وجه النكاح، وقال السدي: ما دون الأربع وقال عطاء: {مَّا وَرَاءَ ذلكم} ما وراء القرابة التي قد حرمت عليكم أن تبتغوا بأموالكم: المحصنات من الحرائر الأربع والمماليك.
وقال قتادة {مَّا وَرَاءَ ذلكم}؛ ما ملكت يمينكم "
وقال الطبري: بين الله لنا المحرمات بالنسب والصهر، ثم أخبرنا أنه قد أحل لنا ما وراء هؤلاء المحرمات في هاتين الآيتين بأن نبتغيهما بأموالنا نكاحاً، وملك يمين لا سفاحاً، وقد أعلمنا أن ما زاد على أربع حرام، وما كان من الإماء ذوات الأزواج حرام ما لم ينتقل الملك.
قوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} معناه: أعفَّاء غير مزانين والسفاح: الزنا، والإحصان هنا العفاف، وقال مجاهد: محصنين متناكحين.(2/1282)
قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}: يقول: فالشيء الذي استمتعتم به من النساء فأعطوهنّ أجورهنّ أي صدقاتهم فريضة معلومة، وقال ابن عباس: معناها إذا نكح الرجل المرأة مرة واحدة فقد وجب الصداق، فالمعنى فأي شيء استمتعتم به، وإن قلّ فآتوهنّ أجورهن أي صدقاتهنّ والاستمتاع النكاح، وقاله: الحسن ومجاهد.
وقال السدي: وغير الاستمتاع هنا أن يتزوّجها إلى أجلٍ مسمّى بإذن وليّها، ويشهد شاهدين، فإذا تمّ الأجل أمر أن يدفع إليها ما شرط لها، وليس له عليها سبيل وتعتد، ولا ميراث بينهما.
وسئل ابن عباس عن متعة النساء فقال: أما تقرؤون فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فقيل له لو قرأناها هكذا لكان الأمر على ذلك. فقال: فإنها كذلك.
وفي قراءة أبي زيادة: إلى أجل مسمى، وكذلك ابن جبير.
وقالت عائشة رضي الله عنها كانت المتعة حلالاً، ثم نسخ الله ذلك بالقرآن، وروي ذلك(2/1283)
عن ابن عباس وهو قول ابن المسيب والقاسم وسالم وعروة. قال ابن عباس: نسخها {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وقال ابن المسيب: نسخت المتعة بآية الميراث يعني: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} [النساء: 12] لأن المتعة كانت لا ميراث بها.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت حرم الله المتعة بقوله {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 والمعارج: 29]. وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل معلوم، وشرط (ألا) طلاق بينهما، ولا ميراث ولا عدة.
[وقال أبو عبيدة: نسخت المتعة بالقرآن والسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المتعة يوم الفتح وغيره.(2/1284)
ومن قال: إن المعنى إذا تزوجتم المرأة، فنكحتموها ولو مرة واحدة] فأعطوها صداقها، فهي عنده محكمة لا نسخ فيه، والتقدير: فما استمتعتم به من الدخول بالمرأة فلها الصداق كاملاً فأعطوها إياه، ودل على ذلك قوله {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تراضيتم بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} أي: إن وهبت لك النصف، أو ما كان فلا جناح، وإن وهبت لها النصف، فأعطيتها الكل، ولم تدخل بها فلا جناج.
وقيل: المعنى: إن أدركتم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهن {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تراضيتم بِهِ}.
وقيل المعنى: لا جناح عليكم إذا تم الأجل الذي اشترطتم في الاستمتاع أن يزدنكم في الأجل، وتزيدهن في الأجر قبل أن يستبرئن أرحامهن، وهو منسوخ. وقال السدي: إن شاء أرضاها بعد الفريضة بأجرة، ثم تقيم معه إلى الوقت الذي يتراضون أيضاً عليه، وهو منسوخ. وقيل: المعنى: لا جناح عليكم فيما وصعه نساؤكم عنكم من صدقاتهن بعد الفريضة.(2/1285)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قال ابن زيد: إن وضعت لكم من صداقها فهو سائغ فالمعنى على هذا لا إثم على الرجل أن تضع المرأة عليه مهرها، أو يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف الصداق، فيدفعه إليها كاملاً.
قال الأخفش {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} تمام.
وقال غيره {كتاب الله عَلَيْكُمْ} التمام، وهو أحسن لأن العامل فيه ما قبله من المعنى الذي دل عليه كتاب، وإنما يصح قول الأخفش إذا نصبت {كتاب الله} على الإغراء، وهو بعيد.
(وفريضة) مصدر كأنه قال: فرض ذلك عليكم فريضة وهو التمام.
قوله {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} الآية.
قرأ الكسائي المحصنات في كل القرآن - بكسر الصاد، إلا قوله {والمحصنات مِنَ النسآء} قال: لأنه أراد به ذوات الأزواج من السبايا أحلهن الله بعد استبرائهن بالحيض، فالأزواج أحصنوهن، قال: وغير ذلك يكون المراد به غير التزوج، إما إحصان إسلام، أو عفة أو بلوغ، فتكون هي التي أحصنت نفسها بإسلامها أو بعفتها أو ببلوغها، ولا يحتمل عنده {والمحصنات مِنَ النسآء} إلا إحصان(2/1286)
التزويج، وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن المسيب وغيرهم.
ومن فتح الصاد في جميع ذلك قال: إن الإسلام يحصنهن كما يحصنهن التزويج، وكذلك العفاف والبلوغ والحرية وشبهه. وحكى أصحاب أبي عمرو (أن العرب) لا تقول: هذا قاذف محصِنة، ولكن تفتح، ومن ضم " أحصن " أجراه على محصنات جعلهن مفعولات في الموضعين، فأما من فتح الهمزة، فحجته أن التفسير ورد على إضافة الإحصان إليهن، ولأن من قرأ بضم الهمزة يلزمه في الحكم ألا يوجب الحد على المملوكة إلا إذا كانت ذات زوج دون الأيم، وفي إجماع الجميع على إيجاب الحد (على) المملوكة الأيم دليل واضح على فتح الهمزة بمعنى: فإذا أحصن أي: أحصن أنفسهن بالعفاف أو بالإسلام.
والاختيار عند أهل اللغة: الضم لأنه قد تقدم ذكر إسلامهن في قوله {أَن يَنكِحَ المحصنات} فدل على أن الثاني غير الإسلام فيكون أحصن بمعنى تزوجن، فالمعنى فإذا أحصنهن الأزواج، ويكون حدها إن زنت بالكتاب، وحَدَّ الأيم بالسنة،(2/1287)
ومعنى الآية: أن الطَوْل: السعة في المال عند أكثر أهل التفسير وقال ابن زيد: الطَّول أن يجد ما ينكح به حرة.
وقال بعضهم: الطول الهوى قاله ربيعة، إذا هوى أمَتَه، وخشي على نفسه، وهو يقدر على نكاح الحرة فأرى أن ينكح الأمة. وقال جابر: لا يتزوج الحر الأمة إلا أن يخشى على نفسه العنت، فليتزوجها. وقال عطاء: لا يفعل ذو الطول إلا أن يخشى على نفسه البغي.
وأكثر الناس على أن ذا الطول لا يتزوج الأمة وإن خشي على نفسه لأن وجود الطول إلى الحرة فيه قضاء شهوة، ولذة وليس هو كالمضطر إلى الميتة، والله عز وجل قد حرم نكاح الأمة إلا لمن (لم) يجد طولاً إلى الحرة، فلا يخرج عن التحريم فيخلص(2/1288)
لقضاء لذة، فمعناها: وإن لم يقدر أن ينكح الحرائر المؤمنات لقلة ما بيده، فلينكح الأمة المؤمنة إذا خاف العنت، فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها.
قال الشافعي وغيره: لا ينكح الأمة حتى يعدم ما يتزوج به الحرة ويخاف الزنا، فإن لم يجتمع الأمران عليه فلا يتزوج الأمة.
وإذا نكح الأمة على الحرة فإن مالكاً قال: لا يفعل فإن فعل جاز النكاح، وكانت الحرة مخيرة إن شاءت أقامت وإن شاءت اختارت نفسها.
وقال الشافعي: النكاح باطل.
وقال الزهري: يفرق بينه وبين الأمة، ويعاقب.
وقال عطاء: لا ينكح المة على الحرة إلا بأمرها، فإن اجتمعا كان للحرة ثلثا النفقة. وكان مجاهد يقول: مما وسع الله به على هذه الأُمَة نكاح الأَمَة، واليهودية والنصرانية وإن كان هو شراً، يعني إذا خاف العنت على نفسه في الأمَّة لهوى نزل به. وقال مسروق الشعبي: نكاح الأمة لا يحل إلا لمضطر كالميتة، فإذا تزوج حرة على أمة حرمت عليه الأمة كالرجل يجد طعاماً ومعه ميتة.
والمحصنات هنا العفائف (وقيل الحرائر) وهو الأشبه لذكر المماليك(2/1289)
بعدهن. والفتيات جمع فتاة وهن الشواب.
وقوله {مِّن فتياتكم المؤمنات} يدل على أن تحريم نكاح غلإماء المشركات واجب وهو محرم عند مالك وجماعة من العلماء.
قال أهل العراق: ذلك على الإرشاد، وليس بمحرم، وإنما هو ندب.
فأما نكاح الحرة على الأمة فهو جائز عند ابن المسيب وعطاء والشافعي، وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وروي عن علي رضي الله عنهـ جوازه، وقال: يفرض للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك والزهري: للحرة الخيار إذا علمت بذلك إن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقته.
وقال ابن عباس: نكاح الحرة طلاق الأمة، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال النخعي: يفارق الأمة إذا تزوج الحرة أن يكون له من الأمة ولد، فلا يفارقها،(2/1290)
ويكون للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك: إذا خشي على نفسه العنت يتزوج من الإماء حتى يبلغ أربعاً، وهو قوله أصحاب الرأي.
وروي عن الزهري أنه قال: يتزوج أربعاً، ولم يذكر عنتاً.
وروي عن ابن عباس أنه لا يتزوج إلا واحدة، وبه قال قتادة والشافعي.
وقال أحمد: يتزوج من الإماء اثنتين لا غير.
وقوله: {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} أي: أنتم بنو آدم.
وقيل: معناه أنتم مؤمنون كلكم إخوة.
وقيل: نزل ذلك لما كانت العرب تعير ابن الأمة وتسميه هجيناً.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات}(2/1291)
ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات " فلينكح بعضكم من بعض " هذا فتاة هذا (وهذا) فتاة هذا وعلى هذا القول مرفوعون بفعلهم في التأويل لأن المعنى {مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} فلينكح مما ملكت فرد بعضكم على ذلك.
وقوله {والله أَعْلَمُ بإيمانكم}، أي: يعلم من آمن منكم وصدق بما جاء من عند الله عز وجل ( ورسوله) صلى الله عليه وسلم. وقوله: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي تزوجوهن بإذن مواليهن، ورضاهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: أعطوهن مهورهن بالمعروف على ما تراضيتم به مما أحل الله لكم أن تجعلوه مهوراً {محصنات غَيْرَ مسافحات} أي: عفائف غير زناة.
{وَلاَ متخذات أَخْدَانٍ} وليس ممن لهن أصدقاء على السفاح لأنهن في الجاهلية كان لهن الخليل، والصديق يحبسن أنفسهن للفجور عليه سراً، وكانوا في الجاهلية(2/1292)
يحرمون الزنا ما ظهر منه، ويسمحون فيما أسر، يقولون: ما ظهر منه لؤم، وما خفي منه فلا بأس به، فأنزل الله
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 152].
وقال السدي وغيره: ولا مسافحات معلنات بالزنا.
قوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} أي: صرن ممنوعات الفروج بالأزواج وهذا المعنى يدل على الضم في الهمزة.
وقيل: أحصن: أسلمن قاله السدي وهذا المعى يدل على القراءة بفتح الهمزة.
وقال سالم والقاسم: إحصانها عفافها، وإسلامها. وأكثر الناس على أن المعنى فإذا تزوجن.
{فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} معنى ذلك: إذا أتت الأمة بزنى بعدما أحصنت بالزوج فعليها {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائر الأبكار.
وقيل: ذوات الإسلام التي أحصنهن دينهن غير محصنات بأزواج. وقوله(2/1293)
{مِنَ العذاب} أي: من الحد إذا زنيت.
وسميت البكر محصنة لأنه يكون بها فيما يستقبل كما يقال: ضحته قبل أن يضحي بها، وقيل: المحصنات هنا المتزوجات، فعلى الإماء المتزوجات نصف حد الحرة وهو خمسون، والرجم لا يتبعض لأن المرجوم قد يموت بحجر واحد، وربما لم يمت بألف حجر، فنصف الرجم متعذر حده، فلا بد من الرجوع إلى نصف الجلد.
وق قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا زنت الأمة فاجلدوها " وإحصان الأمة إسلامها، وقد يجوز أن يكون معنى قوله {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} يعني من الأبكار لأن إحصان الحرة قد يكون العفاف، وقد يكون الإسلام، وقد يكون التزويج، ولا يحصن الأمة لا تزويج ولا غيره إلا: الإسلام.
و {العذاب} الحد غير الرجم، قال ابن عباس: على الأمة إذا زنت وهي مع حر نصف حد الحرة، وهو خمسون والمعنى فلازم لهن نصف حد الحرة.
قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} معناه ذلك الذي أبيح من نكاح الأمة لمن خشي العنت، وهو الزنا.
وقيل: هو الإثم. وقيل: العقوبة.(2/1294)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
وقيل: الهلاك.
وأصل العنت في اللغة المشقة يقال: أكمة عنوت إذا كانت شاقة، فهذا يدل على جواز نكاح الإماء إنما يكون باجتماع الشرطين المذكورين، وهما: عدم الطول، وخوف العنت وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: لا ينبغي للحر أن يتزوج أمة وهو يجد الطول إلى الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر.
قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: عن نكاح الإماء خير لكم {والله غَفُورٌ} أي: غفور لكم عن نكاحهن على ما نصه لكم، وأذن لكم فيه قال ذلك السدي وابن عباس وطاوس وغيرهم.
قوله: {رَّحِيمٌ} أي: رحيم بكم إذ أذن لكم في نكاحهن عند الاقتدار وعدم الطول للحرة.
قوله {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية.
المعنى يريد الله أن يبين لكم حلاله من حرامه، ويبين لكم طرق الإيمان من قبلكم لتتبعوه، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: يرجع بكم إلى طاعته {والله عَلِيمٌ} عليم بمصلحة عباده حكيم في تدبيره فيهم.
والمعنى عند النحويين يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم ومثله(2/1295)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 13] أي: أمرت بهذا لأعدل بينكم، وفي هذه الآية عند أهل النظر دليل على أن ما حرم علينا قد حرم على من قبلنا لقوله {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ}، وقيل: المعنى سنن من قبلكم من المؤمنين خاصة.
قوله {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} الآية.
والمعنى والله يريد أن يرجع بكم إلى طاعته ليغفر لكم ما سلف لكم من ذنوبكم في جاهليتكم من نكاحكم حلائل آبائكم وأبنائكم، وغير ذلك مما ركبتموه {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ} أي: ترجعوا عن الحق وهو الزنا.
قال مجاهد: يريدون أن تزنوا مثلهم.
ومعنى الشهوات: شهوات الدنيا ولذاتها.
وقيل: هم اليهود والنصارى قاله السدي، وقيل: هم اليهود خاصة يريدون أن تنكحوا الأخوات من الأب مثلهم لأنهم يحلون ذلك.(2/1296)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
وقال ابن زيد: هم طلاب الباطل، وأهل الزنا.
قوله {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} الآية.
أي: يريد أن يوسع عليكم في نكاح الفتيات المؤمنات عند عدم الطول، وخوف العنت: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} أي لا يستطيع الصبر عن شهوة النساء.
وقرأ ابن عباس: وخلَق الإنسانَ بالفتح أي: وخلق الله الإنسان شعيفاً، يعني ضعيفاً في أمر النساء لا يقدر على الصبر عن الجماع.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وتخفيف الله (تعالى) عن عباده أعظم من أن يحصى، لم يكلفهم ما ليس في وسعهم ولا ما يطيقون، وضاعف حسناتهم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة مثل " وإذا همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه شيء وتكتب له حسنة، وإن عملها كتبت سيئة واحدة فإن استغفر منها محيت عنه " وفضل الله(2/1297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
ورأفته بخلقه أكثر من أن يحصى.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ} الآية.
{إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} الأكثر في كلام العرب أن تستعمل إلا أن يكون في الاستثناء لغير ضمير فيها على معنى إلا يحدث أو يقع وإن في موضع نصب استثناء ليس من الأول واختار أبو عبيدة النصب على إضمار الأموال في تكون، وغير مختار عند أهل اللغة لأن أكثر كلام العرب في هذا لا يضمرون فيها شيئاً.
ومعنى الآية إنهم نهوا عن أكل الأموال بالربا، والقمار والظلم والبخس {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} فليربح ما شاء فيها قال ذلك السدي، وغيره وهو اختيار الطبري فهي محكمة.
وقيل: نزلت في ألا يأكل أحد متاع أحد إلا بشراء، أو بقيود، ثم نسخ ذلك بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61] الآية.(2/1298)
قال ذلك الحسن وعكرمة وغيرهما.
قال الطبري: في هذه الآية دليل على فساد قوله من ينكر طلب الأقوات والتجارات، والصناعات من المتصوفة الجهلة لأنه حرم أكل الأموال بالباطل، وأباح أكلها بالتجارات عن تراض من البائع والمشتري، ومعنى {عَن تَرَاضٍ} هو الخيار فيما تبايعا فيه ما لم يفترقا من مجلسهما الذي تبايعا فيه، وهو قول الشافعي.
وقيل: التراضي هو الرضى بعقد البيع والشراء، فإذا تراضيا فقد تم البيع افترقا أو لم يفترقا، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
وقال القتبي {عَن تَرَاضٍ} [عن] موافقة منكم لما أحله الله تعالى وتورع عما(2/1299)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
حرمه من القمار والربا والبيوع الفاسدة.
وقيل: {عَن تَرَاضٍ} عن رضى من البائع والمشتري.
قوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ".
وقيل معناه: لا تتجروا في بلاد العدو فتغدروا بأنفسكم. وقرأ الحسن " ولا تقتّلوا " بالتشديد على التكثير.
{إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، أي: رحمكم الله بأن حرم دماءكم، بعضكم على بعض.
قوله {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً} الآية.
المعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن اعتداء وظلماً {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}. وقيل: المعنى ومن يفعل ما قد حرم الله عليه مما ذكر في أول السورة إلى {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}.(2/1300)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
وقيل: المعنى من يأكل مال أخيه بالباطل {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}. والعدوان المجاوزة للشيء {نُصْلِيهِ} نورده ناراً فيصلاها.
قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية.
الكبائر هي: من أول السورة إلى ثلاثين آية منها في قول جماعة من العلماء. وقال علي رضي الله عنهـ على المنبر في الكوفة: والكبائر سبع فسئل عنها، فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، يريد أن يرجع الرجل أعرابياً بعدما هاجر إلى الله (تعالى) ورسوله.
وقيل: الكبائر منصوصة في كتاب الله عز وجل على ما روي عن علي رضي الله عنهـ وهي سبع قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} [الحج: 31] وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] وقوله: {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا لاَ يَقُومُونَ} [البقرة: 275].(2/1301)
وقوله: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور: 23].
وقوله: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} قال فيمن ولي {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] وقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً} [النساء: 92].
وقوله: {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25].
وقال عطاء: الكبائر سبع وهي: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنات، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وروي أن ابن عمر قال: تسع زاد على ما قال عطاء: السحر، والإلحاد في البيت الحرام.
وقال ابن مسعود: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، قال الله عز وجل: { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} [الحج: 31].
وقال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} [الحجر: 56] وقال:
{لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] وقال {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].(2/1302)
وقال ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو (كبيرة)، وروي عنه أنه قيل له: أسبع هي، قال: هي إلى السبعين أقرب. وأنه قال هي إلى سبع مائة أقرب.
وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقاله عمر رضي الله عنهـ وروي عن ابن عباس أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو عذاب وهذا قوله جامع.
وقال الحسن: الكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار في كتابه: كالشرك، وهو أكبر الكبائر، وقتل النفس، وأكل الربا، والزنا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والإدمان على الخمخر وشبهه.
وقد يكون الذنب صغيراً فإذا أصر عليه صار كبيراً بالإصرار عليه، وترك التوبة، والإقلاع عنه، فالإصرار على الذنب ذنب عظيم.
(وقيل: الكبائر كل ما لا يقبل معه عمل، نحو الشرك بالله سبحانه، وقيل الأولاد، والسحر، والكفر برسول الله عليه السلام وبآبائه، وشبهه).
وقال زيد بن أسلم: كل ذنب يصلح معه عمل فليس بكبيرة والله يغفر(2/1303)
السيئات والحسنات.
وقد قال بكر القاضي: من أعظم الكبائر سب السلف وتنقصهم، وشهادة الزور عند الحكام، وعدول الحكام على الحق، واتباعهم للهوى.
ومن الكبائر: اللواط، والإصرار على الصغائر من الكبائر. " والندم توبة " والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة والجماعات.
وقال أبو بكر رضي الله عنهـ: إن الله يغفر الكبيرة فلا تيأسوا، ويعذب على الصغير فلا تغتروا.
وقال عمر: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. و " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قوله الزور (أو) قال وشهادة الزور " وروي أنه قال: " اليمين الغموس ".
وروي عنه أنه قال: " من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب(2/1304)
الكبائر، فله الجنة، قيل: وما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف ".
وقال ابن مسعود " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر؟ فقال: " أن تدعو لله نداً وقد خلقك، (وأن تقتل ولدك) من أجل أن يأكل معك، أو تزني بحليلة جارك، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] ".
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هو الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف وقذف المحصنة، وقل الزور، والغلول، والسحر وأكل الربا واليمين الغموس ".
ومعنى قوله {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أنه تعالى وعد أن يكفر الصغائر باجتناب الكبائر وقال النبي عليه السلام: " اجتنبوا الكبائر وسددوا وابشروا ".
وقال ابن مسعود: في خمس آيات من سورة النساء لهن أحب إلي من الدنيا
قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}(2/1305)
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40]
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 - 116]
وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] وقوله: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [النساء: 151] الآية.
قال (ابن عباس): ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة لما طلعت عليه الشمس وغربت أولها {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26]. الآية، والثانية {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] الآية، والثالثة {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] الآية ثم ذكر الخمس التي ذكرها ابن مسعود.
وقيل: إن السيئات تكفرها الصلوات الخمس ما اجتنبت الكبائر.
ومن فتح الميم من (مَدخلاً) احتمل أن يكون مصدر دخل، وأن يكون(2/1306)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
اسماً للمكان من أدخل، والمدخل الكريم هو المكان الحسن في الجنة.
قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} الآية.
نهى المؤمنين أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله: لا نعطى الميراث؟ ولا نغزو في سبيل الله تعالى فنقتل؟ فأنزل الله عز وجل { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} الآية.
قال ابن عباس: هو الرجل يقول: وددت لو أن لي مال فلان، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يسألوه من فضله لأن التمني يورث الحسد والبغي.
وقال السدي: نزلت في الرجال والنساء. وقال الرجال: لو كان لنا من الأجر مثلا ما للنساء كما لنا من الميراث مثلا ما لهن، وقال النساء: لو كان لنا أجر مثل الرجال الشهداء، فلو كتب علينا القتال لقاتلنا، فقال الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} وقال {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ}.
وقال ابن جبير: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} العبادة.
وقيل: اسألوه التوفيق، والعمل بما يرضيه.(2/1307)
{إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}. أي: لم يزل عالماً بما يصلح عباده، فلا يحسد بعضهم بعضاً.
قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} المعنى: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الأبواب على الطاعة، والعقاب على المعصية وللنساء مثل (ذلك).
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء شيئاً، فلما أنزل الله ميراثهم، قال النساء: لو جعل أنصباءنا (في الميراث كالرجال، وقال الرجال: إنَّا لنرجو أن نفضل النساء في الحسنات في الآخرة كما فُضِّلنا) في الدنيا عليهن بالميراث فأنزل الله تعالى {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} يقول: المرأة تجزى بحسنتها {عَشْرُ أَمْثَالِهَا}.
وقيل: إنه لما نزل {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث فأنزل الله عز وجل { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا} أي: من الذنوب وللنساء مثل ذلك {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ}.(2/1308)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
وقيل: المعنى: للجميع نصيب من موتاهم.
وقيل: المعنى: للرجال نصيب من موتاهم.
وقيل: المعنى: للرجال نصيب من الأجر وهو الجهاد، وخصوا به وبأجره، وللنساء نصيب من الأجر خصصن به، وهو حفظها لزوجها في السر والعلانية، ونظرها لزوجها، وطاعتها له وإصلاحها عليه كل لها فيه أجر خصت به.
قوله {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا موالي مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} الآية.
الموالي: الورثة، يعني العصبة، كذلك قال ابن جبير عن ابن عباس، وقال مجاهد وقتادة: فالمعنى ولكلكم جعلنا عصبة يرثون ما تركتم، ولفظ الآية عام يراد به الخصوص إذ ليس [كل إنسان له عصبة معلومة ترثه، وكل إنسان له عصبة غير معلومة. وقد قال مالك: كل] من هلك من العرب فلا يخلوا أن يكون له وارث بهذه الآية وإن لم تعرف عينه.
قوله: {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} كان الرجل يحالف الرجل وليس بينه(2/1309)
وبينه نسب يرث أحدهما الآخر، فأمروا أن يعطوهم نصيبهم. ثم نسخ الله ذلك بالميراث بقوله {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75، والأحزاب: 6] وقال ابن عباس: " كانت الأنصار ترث المهاجرين للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حين نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا موالي مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} فنسخت ما كانوا عليه.
قوله {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} يعني من النصر والنصيحة والرفد ويوصى لهم.
وقال ابن عباس وغيره: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه، فأنزل الله عز وجل { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6] ثم قال:
{إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ} [الأحزاب: 6] أي: إلا أن ترضوا للذين عاقدتم وصية، فهي لهم جائزة من الثلث.
والمعاقدة التي كانت بينهم هو أن يقول: دمي ودمك، وتطلب بي وأطلب بك، وتورثني وأرث بك، فجعل في أول الإسلام السدس من المال، ويقسمُ الباقي في الورثة ثم نسخ ذلك في الأنفال.(2/1310)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
وقيل: نزلت في الذين كانوا يتبنون في الجاهلية، فأمروا أن يوصوا لهم ونسخ فرضهم.
وقال ابن إسحاق: كان الرجل الذليل يأتي العزيز فيعاقده باليمين ويقول له: أنا ابنك، ترثني وأرثك، وحرمتي وحرمتك، ودمي ودمك، وثأري ثأرك، فأمر الله عز وجل بالوفاء لهم قبل تسمية الميراث، ثم نسخ بالميراث في الأنفال.
قوله: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} الآية.
قال ابن عباس: الرجل أمين على المرأة تطيعه فيما أمرها به، فهو قائم عليها يقوم بنفقتها، ومؤنتها ويسوق مهرها، فهو فضله (الذي فضله) الله عز وجل عليها.
وقال السدي: معنى قوله: " قوامون يأخذون على أيديهن ويؤدبوهن. وهذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، لطم امرأته فخوصم، إلى النبي عليه السلام فقضى لها بالقصاص فأنزل الله عز وجل { الرجال قوامون عَلَى النسآء} الآية: فلم يقتص منه، قاله الحسن وقتادة.(2/1311)
وقيل: إن قوله {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] نزل في أمر الرجال حين جعل عليه القصاص، وعلى ذلك أهل التفسير.
كان الزهري يقول: ليس بين الرجل، وامرأته قصاص فيما دون النفس. وروي أن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما بال النساء لهن نصيب وللرجال نصيبان؟ ما بال شهادة امرأتين مثل شهادة رجل؟ وذكرت أشياء في فضل الرجال، فأنزل الله عز وجل { الرجال قوامون عَلَى النسآء}.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنهـ: " قدمتُ الشام، فرأيت النصارى يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أَنَّا أحق أن نفعل هذا بالنبي فلما قدمت المدينة سجدت له، فقال ما هذا فأخبر (ته) بما رأيت فقال: " لو كنت آمراً أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي امرأة حق الله عليها حتى تؤدي حق زوجها " ".
ومعنى: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الآية.(2/1312)
أي: بفضل الرجل على النساء، كانوا قوامين عليهن بما فضل، هو جودة العقل والتمييز والإنفاق، وسَوْق المهر والجهاد وجواز الشهادة وغير ذلك، كله فضل به الرجل على المرأة.
قوله: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أموالهم}: " فضل الرجال على النساء بما ذكرنا، {وَبِمَآ} ساققوا من أموالهم إلى النساء من مهور ونفقة {فالصالحات} هن المستقيمات لأزواجهن " {قانتات} أي: طائعات لله ولأزواجهن {حافظات لِّلْغَيْبِ} أي يحفظن أنفسهن عند غيبة أزواجهن [في فروجهن وأموال أزواجهن.
وقيل: المعنى: طائعات لأزواجهن] ما غاب عنهم من سرهن وشأنهن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك. وإذا أمرتها أطاهتك وإذا غبت عنها حفظتك، في مالك ونفسها " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { فالصالحات قانتات} الآية ".
ومعنى {بِمَا حَفِظَ الله} أي: يحفظ الله إياهن: أي صيرهن كذلك قال سفيان:(2/1313)
لحفظ الله إياها إذ جعلها كذلك.
ومن نصب " الله " وهي قراءة جعفر، فالمعنى: فيهن يحفظهن الله في طاعته، وأداء حقه فيما لزمهن به في حفظ غيبة أزواجهن، كقولك للرجل: ما حفظت الله في كذا وكذا والمعنى: بمراقبتهن في حفظ أزواجهن.
وفي قراءة ابن مسعود: بما حفظ الله فأحسنوا إليهن وأجملوا.
والرجل له الحجر على المرأة بنفسها، ومالها إذا تجاوزت الثلث ولا تفعل شيئاً إلا بإذنه إلا في الفرائض التي فرض الله عليها، فلا طاعة له غليها في ذلك من الصلوات وإخراج الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، هذا مذهب مالك، وله أن(2/1314)
يؤدبها تأديباً غير مبرح.
قوله: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الآية.
" واللاتي " في موضع رفع بالابتداء، وتقديره عند سيبويه: وفيما يتلى عليكم الألاتي، والمحذوف: الخبر، وعند غيره: الخبر: {فَعِظُوهُنَّ}، ويجوز أن تكون " اللاتي " في موضع نصب على قول من قرأ: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] بالنصب.
و {تَخَافُونَ} عند الفراء وأبو عبيدة بمعنى توقنون وتعلمون، (وهو) على بابه عند غيرهما.
والنشوز هو: امتناع المرأة من فراش زوجها، والخلاف له فيما يلزمها من طاعته. وأصل النشوز الارتفاع والانزعاج، فكأنهن ارتفعن عن أداء حق الأزواج، وطاعتهم يقال: نشزت ونشصت. وقيل: النشوز البعض قاله السدي.
وقال ابن زيد: النشوز المعصية والخلاف. وقال عطاء: النشوز أن تحب فراقه.(2/1315)
وقال ابن عباس: هو أن تستخف بحقه، ولا تطيع أمره " فعظوهن " أي: خوفوهن، وذكروهن الله.
وقال ابن عباس: فعظوهن بكتاب الله وبطاعته، وهو قول الجماعة.
{واهجروهن فِي المضاجع} إذا لم يرجعن مع الوعظ فاهجروهن بترك جماعهن ومضاجعتهن.
وقال السدي: وغيره: " يرقد عندها ويوليها ظهره، ويطؤها ولا يكلمها ".
روي عن ابن عباس أنه قال: يهجرها في المضجع من غير أن يذكر نكاحاً، وذلك عليها شديد.
(وقيل: المعنى [اهجروهن في الكلام حتى يرجعن إلى مضاجعتكم كأنه قال]: اهجروهن من أجل المضاجع.
وقال ابن عباس الهجران إنما هو في أمر المضجع، وأنها لو تركت لم تضاجع، وقال ابن جبير اهجروهن يأتين مضاجعكم).
وقال عكرمة وغيره: إنما الهجران بالمنطق، ويلزم من قال هذا أن يقطع الألف لأنه إنما يقال في هذا المعنى الإهجار، يقال: أهجر فلان في منطقه إذا تكلم بالقبيح. وروى أبو هريرة رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا باتت المرأة مهاجرة لزوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع ".(2/1316)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
وقوله {واضربوهن} أي: إن لم يرجعن بالهجران في المضاجع، فيضربن ضرباً غير مبرح، كذلك قال المفسرون: وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة له " ضرباً غير مبرح " وعنه " غير مؤثر ".
واختار الطبري في الآية أن يكون المعنى: واضربوهن من أجل المضاجع.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} إلى ما يجب عليهن {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي: فلا تلتمسوا عليهن طريقاً في الظلم، وهو التعالي عليهن {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً} المعنى لا تبغوا عليهن العلل فتٌعلوا أيديكم عليهن، فإن الله ذو علم فوقكم وفوق كل شيء، فأيديكم وإن كانت عالية، فليس من أجلها علوا تبغوا عليهن، وتطلبوا العلل فإن الله أعلى يداً وأكبر من كل شيء. وقيل: المعنى: لا تبغوا عليهن سبيلاً لا تكلفوهن الحب لكم إنما لكم عليهن المساعدة في الجماع أما القلب فليس بيدها منه شيء.
قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية.
خفتم عند أبي عبيدة بمعنى أيقنتم، ورد ذلك الزجاج وقال: لو أيقنا لم نحتج إلى الحكمين، وخفتم على بابه. والمعنى: وإن خفتم أيها الناس مشاقة أحد الزوجين لصاحبه، وهو إتيان كل واحد منهما ما يشق على الآخر فالمرأة تقصر عن أداء حقه،(2/1317)
والزوج أن يمسك بغير معروف {فابعثوا حَكَماً} هذا مخاطبة للسلطان الذي يرفع إليه أمرهما قال: وإذا نشزت المرأة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل بها كذا وكذا، ويشتكي بما تشتكي منه، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا، فيشتكي أيضاً بما يشتكي الزوج منه، فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ عليه.
وقال السدي: " المرأة تبعث حكماً من أهلها، والرجل نفسه يبعث حكماً من أهله بتوكيل كل واحد منهما، لكنها بالنظر لهما، فيعملان ما وكل به، وروي ذلك عن علي رضي الله عنهـ.
وروي عنه أنه قال لحكمين وَجَّه بهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما.
وقال ابن عباس: (بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا(2/1318)
جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما) فإن عثمان قد بعثهما.
قال مالك: أحسن ما سمعت من أهل العلم أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل والمرأة في الفرقة والاجتماع.
وقال قتادة: يبعث السلطان الحكمين ليعرفا الظالم من المظلوم، فيحملاهما على الواجب فلا يفرقان بينهما.
وقال الشافعي: لا يفرقان إلا بأمر الزوج.
وقال جماعة: حكم الحكمين ماذ في التفرقة وغيره، وإنما يأتي الحكمان فيخلو حَكَم الرجل به ويسأله عما يشتكي. ويخلو حَكَم المرأة بها، ويسألها عما تشتكي؟ ثم يجتمعان، فيجتهدان، فإن رأيا التفريق فرقا، وإن رأيا الترك تركا، وأصلحا.
وقيل: إنهما ينظران الظالم منهما، فإن كانت المرأة وعظها، وجبرها على طاعة زوجها، وإن كان الرجل وعظاه وجبراه أن يتقي الله تعالى فيها، فيمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، والحكم هنا الناظر بالعدل، قاله الضحاك وغيره.(2/1319)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
وقيل: هما القاضيان بينهما يقضيان بما فوض إليهما الزوجان.
وقوله: {إِن يُرِيدَآ} قيل: الضمير للحكمين إن يريدا أن يصلحا بين الرجل والمرأة {يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} أي " بين الرجل والمرأة، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد.
وقيل الضمير للزوجين لأنه لا يقال حكم إلا لمن يريد الإصلاح فغير جائز أن يقال: إن يرد الحكمان إصلاحاً وهما لا يسميان بهذا الاسم إلا وهما يريدان الإصلاح {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يريد الزوجان أو الحكمان من إصلاح خبيراً بذلك.
قوله تعالى: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} الآية.
قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} أي: وأحسنوا بهم إحساناً كقولك ضرباً زيداً، بمعنى اضرب زيداً، وأجاز الفراء رفع إحساناً بالابتداء، والمخفوض الخبر كأنه قال: وعليكم بالوالدين إحسان. ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر عباده بالتذلل له والطاعة ولا(2/1320)
يشركوا به، وأمرهم بالإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين وإلى الجار ذي القربى، وهو ذو القرابة، والرحم منك، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: هو الذي جمع الجوار والقرابة فله حقان، قاله الضحاك وقتادة وابن زيد.
وقيل: هو الذي تقرب منك بالإسلام والجوار، لا بالرحم.
{والجار الجنب} هو الذي يبعد منك لا قرابة بينك وبينه، [قاله ابن عباس، وقال قتادة ومجاهد: هو جارك الذي ليس بينك وبينه] قرابة فله حق الجوار.
وقال السدي: هو الغريب يكون بين القوم، وقال: الجار الجنب: الزوجة، ذكره ابن وهب عن بعض رجاله.
وقيل: هو اليهودي والنصراني.
{الجنب} البعد، ومنه اجتنب فلان فلاناً إذا بعد منه، ومنه قيل للجنب: جنب لبعده من الطهر، والصلاة حتى يغتسل، ومن قيل: رجل أجنبي أي بعيد غريب، فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة أي: البعيد منها.(2/1321)
وسئل أعرابي عن الجار الجنب فقال: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عليه عينك.
وقال القتبي: الجيران على أربعة أقسام أحدهم: من ساكنك في الدار ولهذا سمت العرب الزوجة جارة، وقال الأعشى لامرأته:
أي جارتنا بيني فإنك طالقة كذاك أمور الناس غاد وطارقة.
والثاني: الملاصق منزلك، والثالث: الذي معك في المحلة، وإن لم يلاصقك وعلى هؤلاء الثلاثة وقعت الوصية من الله عز وجل والرابع: هو الذي جمعك وإياه بلد واحد يقول الله تعالى في المنافقين: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] يعني المدينة.
وكان الأوزاعي يقول: الجوار أربعون دار من كل ناحية. وقيل من سمع الإقامة فهو جار.
قال علي رضي الله عنهـ: من سمع النداء فهو جار المسجد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجيران ثلاثة: جار (له) عليك حق وهو(2/1322)
(غير) المسلم، له عليك حق الجوار، وجار له عليك حقان هو المسلم، له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له عليك ثلاثة حقوق، وهو المسلم ذو القرابة له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة ".
قوله: {والصاحب بالجنب} الآية.
قال ابن عباس وغيره: هو رفيق الرجل في سفره، وكذلك قال قتادة ومجاهد وعكرمة.
وعن ابن عباس: هو الرجل الصالح.
وكذلك روي عن علي رضي الله عنهـ، والحسن بن علي: أنه امرأة الرجل. وعن ابن عباس مثله، وهو قول النخعي وابن أبي ليلى. وقال ابن جريج وابن زيد: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك ورفقك.
{وابن السبيل} المسافر يجتاز بك ماراً، قاله مجاهد وقال الضحاك: هو الضعيف. والسبيل: الطريق، وابنه صاحبه الماشي فيه فله حق على من يمر به إذا كان مستقره في غير معصية، وأضيف إلى الطريق لأنه إليها يأوي وفيها يبيت.(2/1323)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} يعني حض الله تعالى [خلقه] بجميع ما ذكر أن يحسنوا إليهم، قوله: {مُخْتَالاً} أي: ذو خيلاء وهو المفتعل من خال الرجل يخول:
" والخال ثوب من. . . . . . . . . . . "
والفخور المفتخر على عباد الله عز وجل بما أنعم الله تعالى عليه من رزقه، وهو مع ذلك كفور لربه عز وجل لا يشكره، فهو مستكبر على ربه سبحانه، مستطيل مفتخر على عباد الله جلت عظمته، وقال مجاهد المختال: المتكبر.
قوله: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} الآية.
{الذين} " بدل مِن " مَن وقيل: هم في موضع رفع بالابتداء، والخبر
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] أي لا يظلم. وقال الأخفش: الذين في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف دل عليه ما بعده، وتقديره الذين يبخلون قرناء الشيطان ودل(2/1324)
على هذا قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} [النساء: 38] وقد أغفل النحاس في الإعراب هذا القول فلم يذكره وهو في كتاب الأخفش. وقيل: الذين في موضع (رفع) بدل من الضمير في فخور، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني.
والبخل لغتان، وفيه [لغتان] غير هاتين، ويقال: البُخُل والبَخْل، ومعنى الآية: إن الله لا يحب المختال الفخور الذي يبخل بماله ويأمر الناس بالبخل.
وقد روي أن البخل هنا: كتمان أمر محمد عليه السلام، وعنى به اليهود والنصارى وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل.(2/1325)
ومعنى {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} هم اليهود كتموا و {مَآ آتَاهُمُ الله} من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما عندهم من علمه.
وقال ابن زيد: هم اليهود بخلوا بما آتاهم الله من الرزق، وكتموا ما آتاهم من العلم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.
وقال ابن عباس: كان الرجل من أشراف يهود يأتون رجالاً من الأنصار، ويخالطوهم، ويستنصحون لهم، لا تنفقوا أموالكم فإنا نخاف عليكم الفقر في ذهابها، فأنزل الله عز وجل { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي: يكتمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمره وذلك كله في التوراة.
وروي أن فيها: خاتم النبيين، وسيد العاملين، وأمته الحمادون، ويشدون أوساطهم، ويفترسون جبالهم، تسيل دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.
قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} أي للجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { عَذَاباً مُّهِيناً} أي مذلاً.(2/1326)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
قوله: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية.
{والذين} في موضع جر عطف على الكافرين، ويجوز أن يعطف على {الذين يَبْخَلُونَ} و {رِئَآءَ الناس} مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال:
{وَلاَ يُؤْمِنُونَ} حال كأنه: مرائين غير مؤمنين.
ويجوز أن يكون مؤمنون مرفوعاً على القطع أي: وهم لا يؤمنون.
ومعنى الآية: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} {عَذَاباً مُّهِيناً} هذا من صفة المنافقين.
وقيل: هو صفة اليهود أيضاً، وهو بصفة المنافقين أليق وأحسن، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، واليهود يؤمنون بالبعث، وقد وصفهم الله تعالى أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر فهو إلى المنافقين أقرب.
قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً} أي: خليلاً يعمل بطاعته، ويتبع أمره، ويترك أمر الله تعالى، فبئس الخليل خليله.
قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ} المعنى: أي الشيئين على الذين يبخلون إذا أنفقوا(2/1327)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لو آمنوا وصدقوا وأنفقوا مما رزقهم الله لوجه الله، ولم يبخلوا مما رزقهم الله {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} أي هو ذو علم بما يعملون لم يزل كذلك ولا يزال.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية.
قوله: {يضاعفها} يدل على أضعاف كثيرة إذ لو أراد مرة لقال: يضاعفها، ومعنى الآية: إن الله تعالى لا يبخس واحداً فعل خيراً مثقال ذرة أي: قدر وزن الذرة فما فوق ذلك، والذرة في قول ابن عباس: رأس النملة الحمراء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيعظم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة " وقال صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، وقال الخدري: حين حدث بهذا الحديث عن النبي عليه السلام فإن شككتم (فَاقْرَءُوا) {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.(2/1328)
وأتى رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنهـ فقال له: بلغني أنك تقول الحسنة تضاعف ألف ألف ضعف، وقال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكني قلت تضاعف الحسنة ألفي ألف ضعف.
والذرة هنا عند أهل العلم النملة الصغيرة وقال يزيد بن هارون: زعموا أنه لا وزن لها.
وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند الله تعالى: ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فيأخذه " قال فيفرح والله المرء أن له الحق على ولده وولده أو زوجته وأخته فيأخذه منه، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
فيقال له: إيت هؤلاء حقوقاً؟ فيقول: يا رب من أين يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا [في] أعمله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة: يا ربنا - وهو أعلم بذلك منها - أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول الله عز وجل لملائكته: ضعفوها لعبدي وأدخلوه برحمتي الجنة " ومصداق ذلك في كتابه {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ(2/1329)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} أي: من عنده {أَجْراً عَظِيماً} أي: الجنة يعطيها تفضلاً منه لا إله إلا هو، وإن فنيت الحسنات، وبقيت السيئات وبقي طالبون قال الله تعالى: ضعوا عليهم من أوزانهم واكتبوا له كتاباً إلى النار.
قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} هذا لأهل الإيمان كلهم، وروي عن ابن عمر: أنها في المهاجرين خاصة، قال: " نزلت الآية في الأعراب {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] قال: فقال رجل: ما للمهاجرين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هو أعظم من ذلك وقرأ
{وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} الآية ".
واختار الطبري أن تكون المضاعفة أكثر من عشرة للمهاجرين خاصة، وقال: هو في معنى حديث أبي هريرة، تضاعف بألفي ضعف أي للمهاجرين، واحتج بأن الله عز وجل قد اخبرنا أن الله يجزي بالحسنة عشر أمثالها، فلا يجوز أن يكون في خبره اختلاف، ولكن ذلك للمهاجرين وهذا لغيرهم.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية.
العامل في " كيف " " جئنا "
المعنى: فكيف يكون حالهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد على أعمالهم، وجئنا بك يا محمد على أمتك شهيداً، وكان النبي عليه السلام إذا أتى على هذه الآية فاضت(2/1330)
عيناه، وقال ابن مسعود: أمرني رسول الله عليه السلام أن أقرأ عليه سورة النساء حتى بلغت {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدموع فسكت.
قال السدي يأتي النبي يوم القيامة منهم من أسلم معه من قومه واحد والاثنان، والعشرة، وأقل وأكثر من ذلك حتى ياتي لوط صلوات الله عليه وسلم لم يؤمن معه إلا بنتاه فيقال للنبيين: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ فيقولون: نعم فيقال له: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد عليه السلام. فتدعى أمة محمد عليه السلام فيقال لهم: إن الرسل ادعوا عندكم شهادة فبم تشهدون؟ فيقولون: يا ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا في التبليغ، فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد صلى الله عليه وسلم، فيشهد محمد صلى الله عليه وسلم أن أمته قد صدقت، وأن الرسل قد بلغوا فذلك قوله {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
ومن رواية يونس عن ابن وهب عن إبراهيم عن حيان بن أبي جيلة بسنده إلى النبي عليه السلام أنه قال: " إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل فيقول الله عز وجل: ماذا فعلت في. . . هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، أي رب، قد بلغت جبريل، فيدعى جبريل فيقول له: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم يا رب، قد بلغني، فيخلى عن إسرافيل، فيقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغته الرسل، فيدعى الرسل فيقول: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم، فيخلى عن جبريل ثم، يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلغنا أممنا، فيدعى الأمم، فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب، ومنهم المصدق، فيقول الرسل: إن(2/1331)
لكم علينا شهداء يشهدون أنا قد بلغنا مع شهادة، فيقول الله عز وجل: من يشهد لكم؟ فيقول الرسل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول الله عز وجل: أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليهم؟ فيقولون: نعم، رب شهدنا أنهم قد بلغوا، فتقول تلك الأمم: (لا). كيف يشهدون علينا ولم يدركنا؟ فيقول لهم الرب: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، فقصصت علينا قصصهم، فشهدنا بما عهدت إلينا، فيقول الرب تعالى ذكره: صدقوا، فكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} الآية ".
وقد مضى في هذه الآية ما فيه كفاية وهذه زيادة إن لم يتقدم لفظها وإن كان قد تقدم معناها.
وفي رواية أخرى عن الأوزاعي قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أول من يسأل يوم القيامة عن البلاغ: اللوح المحفوظ. يقال: هل بلغت إسرافيل ما أمرت به؟ فيقول: نعم، قيل لإسرافيل: هل بلغك اللوح المحفوظ ما أمر به؟ فيقول: نعم، فما أرى شيئاً أشد فرحاً يوم القيامة من اللوح المحفوظ حين صدقه إسرافيل، ثم كذلك إسرافيل وجبريل والأنبياء ".(2/1332)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قال في الحديث: فما أرى شيئاً (أشد فرحاً) من كل واحد إذا صدقه من أرسل إليه ثم قرأ الأوزاعي: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية.
قال الضحاك هو قول الله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [الحج: 76].
قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} الآية.
يوم يجيء من كل أمة شهيد يتمنى الكافرون {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} أي: يصيرون تراباً مثلها كما قال: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. ومن قرأ " تُسوى " (بالضم)، فالمعنى يتمنون لو سواهم الله والأرض سواء، ومن قرأ " تَسوى " بالفتح والتخفيف، فهو مثل المشددة، إلا أنه حذف إحدى التاءين.
وقيل المعنى: لو انقسمت بهم الأرض فيصاروا في بطنها. وقال الحسن في فراءة الضم: إن المعنى " لو تسوى " بالتخفيف عليهم، والباء بمعنى على، فالمعنى(2/1333)
تنشق فتسوى عليهم.
قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} أي: لا تكتم جوارحهم حديثاً من الله.
قال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام جحدوا فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم وتكلمت (أيديهم)، وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثاً، وعنه هذا التفسير باختلاف ألفاظ.
وسبب تفسيره لهذا الهذا القول من له يقول الله عن الكافرين أنهم قالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقد كتموا ويخبر أنهم لا يكتمون الله حديثاً ففسره بما ذكرنا، وقوله {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} على قول غير ابن عباس أنهم يودون لو استووا بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً لما عاينوا جوارحهم تشهد عليهم.
وقيل: المعنى يومئذ لا يكتمون الله حديثاً، ويودون لو تسوى بهم الأرض، وهو(2/1334)
معنى تفسير ابن عباس لأن السائل سأل كيف أخبر أنهم لم يكتموا الله حديثاً، وقد أخبر أنهم كتموا في قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.
وقيل: المعنى يتمنون لأو استووا مع الأرض، وليس يكتمون الله حديثاً أي هو عالم بهم وبما أسروا مما يودون ويتمنون بهم، وإن لم ينطقوا به، فليس ذلك بكتمان على الله [تعالى - كأن الكلام قد تم على قوله - لو تسوى بهم الأرض، ثم قال: وليس يخفى على الله] من حديثهم شيء وهذا جواب ثالث عن الآيتين.
وقيل: المعنى أنهم يتمنون إذ عصوا الرسول أن يسووا مع الأرض ويودون لا يكتمون الله حديثاً.
وكتمانهم الذي ندموا عليه هو قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وهو جواب ثالث(2/1335)
لمن سأل عن الآيتين.
وقال قتادة: هي مواطن في يوم القيامة، فمواطن يجحدون، ومواطن يقرون.
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال له: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن، فقال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ فقال: ليس بشك، ولكنه اختلاف، فقال: هات ما اختلف عليك من ذلك، فقال: أسمع الله عز وجل يقول:
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقال {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} فقد كذبوا إذا ادعوا الإسلام.
فقال ابن عباس: وماذا؟ قال أسمعه يقول:
{فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50]
وقال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} [فصلت: 9].
إلى قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] الآية.
وقال في آية أخرى: {أَمِ السمآء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا * [وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا]} [النازعات: 27 - 29]
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. وأسمعه يقول: {[وَكَانَ] الله عَلِيماً حَكِيماً} الآية [النساء: 17].(2/1336)
فقال ابن عباس: " أما قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، يغفر لهم الذنوب جميعاً، ولا يتعاظم ذنب يغفره، ولا يغفر شركاً، جحدوا وقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} رجاء أن يغفر لهم، فختم الله عز وجل على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} يريد أنهم ندموا في جحدهم وقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.
وأما قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات، ومن في الأرض إلا من شاء الله {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}.
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50].
وأما قوله {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ. . .} الآية فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخاناً فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فإنه تعالى دحاها بعد خلق السموات، وجعل فيها جبالاً وأنهاراً وبحوراً.
وأما قوله: {وَكَانَ الله} فإن الله لم يزل كذلك عزيراً حكيماً قديراً لم يزل كذلك وما اختلف عليك من القرآن فهو شبه ما ذكرت لك.
وقال مجاهد: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ} أي: مع ذلك.(2/1337)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} الآية.
{جُنُباً} و {عَابِرِي سَبِيلٍ} نصب على الحال.
ومعنى {سكارى} أي: من الخمر، وهذا قبل تحريم الخمر فأمرهم الله ألا يقربوها، وهو سكارى حتى يعلموا ما يقولون.
وقيل: إن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شربوا الخمر قبل تحريمها، فصلى بهم أحدهم فقرأ: {قُلْ يا أيها الكافرون} فخلط فيها، فنزلت الآية، ينهاهم عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلموا ما يقرأون ثم نسخ شربها بالتي في المائدة.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " فِيَّ أنزلت الآية " {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} قال: دعانا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طلحة وغيره فأكلنا وشربنا. فقدموني إلى الصلاة فقرأت فيها: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما تعبدون) فكان هذا قبل تحريم الخمر. وقيل هي محكمة.
ومعنى السكر هنا: " السكر من النوم "، قاله الضحاك.(2/1338)
وعلى القول الأول أكثر أهل التفسير والعلماء لتواتر الأخبار أنها نزلت في الخمر قبل تحريمه.
قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: لا تقربوها جنباً إلا أن تمروا [ب] موضعها مجتازين حتى تغتسلوا.
وقيل المعنى: في {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: إلا أن تكونوا مسافرين فتتيمموا لها. وقال علي بن أبي طالب وقاله مجاهد وابن جبير قال: هو الرجل يكون في السفر تصيبه جنابة فيتيمم ويصلي. وعليه جماعة من أهل التفكير فيكون المعنى لا تصلوا وأنتم جنب إلا تكونوا مسافرين غير واجدين للماء، وقيل: معنى لا تقربوا مواضع الصلاة جنباً إلا عابري سبيل أي: أن تكونوا مجتازين في المسجد.
[قال ابن عباس {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}. قال لا تقربوا المسجد إلا أن يكون(2/1339)
طريقك فتمر فيه مراً ولا تجلس، وقال النخعي: يمر فيه إذا لم يجد طريقاً غيره.
وقال ابن زيد: نزلت في رجل من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، وكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، يريدون الماء فلا يجدون ممراً، إلا المسجد، فأنزل الله عز وجل { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} رخصة لهم.
وذهب مالك والشافعي أن الجنب يمر في المسجد عابر سبيل.
قال مالك: لا تدخل الحائض المسجد، وأرخص له غيره أن تمر فيه كالجنب.
وقال ابن حنبل: إذا توضأ الجنب فلا بأس أن يجلس في المسجد.
وكذلك قال إسحاق.
والجنب هنا من أنزل في قول جماعة من العلماء دون أن يجامع ولا ينزل، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الماء من الماء " فلا غسل عليه إلا بإنزال الماء عند جماعة من الصحابة هو قوله(2/1340)
علي وابن مسعود والخدري وابن عباس وأُبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص، ورافع بن خديج، وأبي أيوب الأنصاري.
قال غيرهم: والجنب في الآية من أنزل، أو التقى منه الختانان، وإن ينزل لأن في كلاهما الطهر عندهم، فمن أولج، ولم ينزل بمنزلة من أنزل في الحكم فكلاهما لا يقرب المسجد إلا عابري سبيل.
وإيجاب الطهر من التقاء الختانين، وإن لم ينزل قوله عامة الفقهاء، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي والثوري وأهل العراق، وجماعة من الفقهاء، وقد تراترت الأخبار بإيجاب الغسل من التقاء الختانين عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/1341)
قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} أي: بجرح أو جُدري أو غير ذلك من الأمراض المانعة من الغسل فتيمموا.
قال مالك: المرض هنا هو المريض الذي به جراحه رخص له في التيمم.
وقيل: المريض هنا هو الذي لا يجد من يأتيه بالماء.
{أَوْ على سَفَرٍ} أي: مسافرين غير واجدين الماء وأنتم جنب فتيمموا.
قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} أي: من قضى حاجته فلم يجد ماء فليتيمم، والغائط: ما اتسع من الأرض، وقيل: هو الموضع المنخفض المستور وكثر ذلك حتى قيل لمن قضى حاجته متغوط. قال أبو عبيدة: " أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض ".
قةله: {أَوْ لامستم النسآء} اللمس هنا الجماع، وقيل: هو ما دون الجماع، أرخص الله لهم أن يتيمموا إذا لم يجدوا ماء، والمقيم والمسافر في جواز التيمم له عند عدم الماء سواء، وعلى من عدم الماء التيمم لكل صلاة لأنه يطلب الماء لكل صلاة وعند عدمه يتيمم. ومعنى لمستم أو لامستم واحد.(2/1342)
وقيل: لامستم يريد به الجماع، ولمستم: القبلة والمباشرة.
وقال المبرد: " لمستم الأولى أن يكون بمعنى قَبَّلْتُم، لأن لكل واحد منهما فعلاً، ولمستم بمعنى غشيتم، ومسستم أن المرأة ليس لها في هذا الفعل شيء فلمستم بمعنى غشيتم. وقال أبو عمرو: " لامستم بمعنى: الجماع ". ومذهب الكسائي: أن اللمس بمعنى الغمز والإفضاء ببعض الجسد إليها.
والصعيد: الأرض الملساء التي لا نبت فيها قاله قتادة. وقيل: هو الأرض المستوية، قاله ابن زيد. وقيل: الصعيد التراب، وقيل: وجه الأرض.
والصعيد في اللغة وجه الأرض، والطيب هنا النظيف الطاهر، وقال(2/1343)
سفيان: " معنى طيباً " أي حلال لكم، كما تقول هنالك ذلك.
قوله: {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي منه، ومسح الأيدي في التيمم هو إلى حد الوضوء إلى المرفقين، وهو قول ابن عمر والحسن والشعبي وسالم بن عبد الله، وهو قول مالك والليث والثوري والشافعي وعبد العزيز بن أبي سلمة وأصحاب الرأي.
وقيل: التيمم إلى الكفين إلى الزندين، وهو موضع قطع السارق، وهو مذهب عكرمة، والأوزاعي وابن جبير ومكحول وعطاء، وروي ذلك عن ابن المسيب والنخعي وغيرهم.
وقيل التيمم إلى الآباط، وهو قول الزهري.(2/1344)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
وهذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نزلت بهم جنابة في سفر فلم يجدوا ماء، وشاهد هذا القول ما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة العقد فكانت الآية، والرخصة من بركتها رضوان الله عليها.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} الآية.
{أَلَمْ تَرَ}: ألم تعلم، وقيل: ألم تخبر يا محمد. وقيل: ألم تر بقلبك، يا محمد إلى الذين أُعطوا حظاً من كتاب الله، والنصيب الحظ - وهو اليهود.
{وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} أي تعدوا عن الحق والطريق المستقيم {يَشْتَرُونَ الضلالة} أي: يختارون الضلالة على الهدى {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي: أعلم منكم بأمرهم وبما يسرون من آرائهم، {وكفى بالله وَلِيّاً} أي: [به] فاكتفوا، وله فانتصروا على أعدائكم.
قوله: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} الآية.
المعنى أن " من " متعلقة بـ {الذين أُوتُواْ نَصِيباً} أي هم من الذين هادوا. وقيل: المعنى من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. وقيل: المعنى من الذين هادوا من يحرفون(2/1345)
الكلم. حكي هن العزيز يقول أي: من يقول ذلك.
وقيل: " من " متعلقة بنصير، أي: وكفى بالله نصيراً من هؤلاء القوم، أي: ينتصر منهم في الآخرة، فاكتفوا بنصرته منهم أيها المؤمنون.
واختار قوم أن يكون المحذوف من كما قال: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: من له، كما يقول له: منا يقول ذلك ومنا لا يقوله، أي: من يقوله ومن لا يقوله ومذهب سيبويه تقدير قوم كما ذكرنا أولاً.
واختار أهل التفسير أن يكون " من " متعلقة بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب ".
ومعنى {يُحَرِّفُونَ الكلم} أي: يتأولونها على غير وجهها، ويعدلونها عن ظاهرها، والكلم هنا كلام النبي عليه السلام، وقال مجاهد: الكلم كلم التوراة يبدلونها، وهو جمع كلمة.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم: سمعنا قولك، وعصينا أمرك،(2/1346)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
يخفون العصيان، ويظهرون السمع والطاعة إذا أرادوا أن يكلموه، قال: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: يقولون في أنفسهم: لا سمعت، يقولون {راعنا} يوهمونهم أنهم يريدون: أرعنا سمعك، وهم يريدون به الرعونة في لغتهم.
وقيل معنى {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع غير مقبول منك، ويلزم قائل هذا أن يقول غير مسموع منك. ومعنى {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي: تحريفاً إلى السب والاستخفاف.
وقيل: كانوا يريدون بقولهم {راعنا} أي: راعينا مواشينا، ويوهمون أنهم يريدون راعنا، أي: انتظرنا وارفق بنا، وإنما يريدون الرعي رعي المواشي عن طريق الهزء والاستخفاف والمغالطة.
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك {واسمع} أي: اسمع منا {وانظرنا} أي: انتظرنا نفهم عنك ما تقول لكان ذلك [{خَيْراً لَّهُمْ] وَأَقْوَمَ} أي وأعدل.
قوله: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} الآية.
هذا خطاب لليهود الذين كانوا حوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا بالقرآن الذي هو مصدق للتوراة ومحقق لها.(2/1347)
وروي " أنها نزلت في نفر من اليهود، خاطبهم النبي عليه السلام، ودعاهم إلى الإسلام وقال لهم: والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فتوعدهم الله جل ذكره بقوله: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ} ".
وروي أن عبد الله بن سلام كان بالشام، فأقبل حتى أتى النبي عليه السلام قبل أن يدخل هلى أهله فأسلم - وقال: لقد خفت، وأنا مقبل ألا أصل إليك حتى يصير وجهي خلفي. وقيل: معنى {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} أي: آمنوا من قبل أن تمحق صورة الوجوه حتى تصير كالأفقية تذهب بالأنف والعين والحاجب وغير ذلك من أدوات الوجه ويصير كالقفا.
وقيل المعنى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} أبصار الوجوه فتصير لا تنظر شيئاً كالقفا.
ومعنى {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} يرجع الوجه في موضع القفى، فيصير يمشي القهقري، قال قتادة: {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} تحول وجوهها قبل ظهورها.
وقال مجاهد والحسن: المعنى من قبل أن نعمي قوماً عن الحق فنردهم على أدبارهم في الصلاة والكفر.
وقيل: المعنى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} أي: نمحو آثارها، فنردها على أدبارها(2/1348)
أي: نجعلها منابت للشعر كوجوه القردة. واختار الطبري قول ابن عباس أن المعنى من قبل أن نعمي أبصارها، فنردها في موضع القفى، وتصير الوجوه في موضع القفى فيمشي القهقري، ولا معنى لقول من قال: معناه أن نعمي قوماً فنردهم عن الحق إلى الضلالة لأن المخاطبين بهذا هم اليهود، وهم ضالون كافرون، فلا معنى لتوعدهم أن يجعلوا ضالين كافرين وهم كذلك. وقد قيل: معناه من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها يريد مواضعهم وترددهم إلى الشام وهو بعيد، والطمس في اللغة العفو والدثور.
وقال مالك: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} الآية فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقري إلى بيته، فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي.
قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أصحاب السبت} معناه أن نخزيهم، فنجعلهم قردة كما أخزينا أصحاب السبت الذين اعتدوا فيه.
قاله قتادة والحسن والسدي وابن زيد، وهذا من الرجوع إلى الغيبة بعد المخاطبة مثل {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ} [يونس: 22].(2/1349)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
وقد قيل: معناه: أو نلعن أصحاب الوجوه، فلا يكون فيه خروج من خطاب إلى غيبة على هذا.
قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: كائناً موجوداً، والأمر في هذا الموضع: المأمور، وسمّي بالأمر عن الأمر كان (فمعناه): ولم يزل مأمور الله موجوداً كائناً إذا أراده وجده لا إله إلا هو، فهو مصدر وقع موقع المفعول كما قال {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] أي: مخلوقه.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.
قال ابن عمر: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل المؤمن، وأكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، يعني في الشهادة له بالنار حتى نزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فأمسكنا عن الشهادة.
وروي عن ابن عمر أنه قال: لما نزلت {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] إلى قوله
{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 50] قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والشرك يا رسول الله. فنزلت {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فكان قوله(2/1350)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} أنه ما دون الشرك.
وقيل: المعنى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بعد التوبة ولا يحسن هذا لأنه يجب منه أن يكون من تاب، ومات على توبته موقوفاً على المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء لم يغفر له، وهذا قول لم يقله أحد، ولا يجوز اعتقاده بل الميت على توبته مغفور له بإجماع.
قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله}: أي: يشرك في عبادته غيره {فَقَدِ افترى} أي: اختلق: {إِثْماً عَظِيماً}.
روى جابر بن عبد الله أنه قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الموجبتين، فقال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله دخل النار " ".
قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية.
معناه ألم تر بقلبك يا محمد، إلى اليهود الذين يطهرون أنفسهم من الذنوب ويمتدحونها، وهو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فلا ذنوب لنا، قاله قتادة.
وقال الحسن وابن زيد: هم اليهود والنصارى قالوا:
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ}.(2/1351)
قال الضحاك والسدي: قالت اليهود ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون إنما نحن مثلهم ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل، وقال الله عز وجل: { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} الآية [النساء: 50].
وقال مجاهد: تزكيتهم تقديم أولادهم لإمامتهم ولدعائهم يزعمون أنهم لا ذنوب لهم.
وقال عكرمة: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم يصلون بهم، يقولون: ليست لهم ذنوب.
وقال ابن عباس كانوا يقولون: إن أبنائنا إن توفوا فهم لنا قربة عند الله يستشفعون لنا ويزكوننا.
وقال: ابن مسعود: " كانوا يقولون: كان بعضهم يزكي بعضاً، فقال الله تعالى: {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يزكي بعضهم بعضاً، كما قال {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 84] أي: يقتل بعضكم بعضاً.
قوله: {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ}. أي: يوفق من يشاء للطاعة، والعمل بما يزكيه(2/1352)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
أي: يزكي عمله. والزكاة: النماء.
قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: ليس ينقصون من حقوقهم مقدار الفتيل، وروي عن ابن عباس انه قال: الفتيل ما خرج بين أصابعك من الوسخ إذا فتلتهما.
وقيل: ما خرج بين الكفين إذا فتلتهما. وعن ابن عباس أيضاً: الفتيل الذي في بطن النواة، يعني في شق النواة كالخيط، ومثله عن مجاهد، وهو فعيل بمعنى: مفعول: وقيل: الفتيل ما في (بطن) النواة.
والنقير: (النقرة) التي في ظهرها منها تنبت [النخلة]. والقطمير: القشرة الملفوفة عليها.
قال الأخفش: يزكون أنفسهم تمام، وخولف في هذا لأن ما بعده متصل به.
قوله: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} الآية.
معناها: انظر يا محمد، كيف يختلقون الكذب على الله في تزكيته لأنفسهم(2/1353)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 20] وكفى بفعلهم {إِثْماً مُّبِيناً} أي: ظاهراً.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} الآية.
معناها: ألم تر يا محمد بقلبك إلى الذين أعطوا حظاً من الكتاب يعني: علماء بني إسرائيل أعطوا في كتابهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته فكتموه.
قال عكرمة: الجبت والطاغوت صنمان كان المشركون يعبدونهما. وقال ابن عباس: الأصنام هي الجبت والطاغوت الذين يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ وأرضاه أنه قال: الجبت الساحر والطاغوت الشيطان.
وقال ابن جبير: الجبت بلسان الجبشة الساحر، والطاغوت الكاهن، وكذبلك قال أبو العالية. وقال قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وكذلك قال السدي. وعن ابن جبير أيضاً: الجبت الكاهن والطاغوت الشيطان.(2/1354)
وعن ابن عباس: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وهما رئيسان من رؤساء اليهود، وكذلك قال الضحاك والفراء.
والجبت والطاغوت عند أهل اللغة كل ما عبد من دون الله [ عز وجل، وروي عن ابن وهب عن مالك أنه قال: الطاغوت ما عبد من دون الله] سبحانه، قال الله عز وجل: { اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]، قال: فقلت لمالك: وما الجبت قال: سمعت من يقول: هو الشيطان.
قال قطرب: الجبت أصله عند العرب الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير فيه ولا عنده، فأبدلت التاء عن السين، وهي لغة رديئة لا يجب أن يحمل القرآن عليها.
وعن عمر: أن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان.
وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} أي: يقول اليهود لبعض الكفار، هؤلاء أصحابكم أهدى من المؤمنين بالله ورسوله طريقاً، يغبطونهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وذكر أن ذلك من قول كعب بن الأشرف.
وقال ابن عباس: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل(2/1355)
المدينة وسيدهم، قال: نعم، ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السداة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه، فأنزل الله {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الكوثر: 3] وأنزل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ. . .} الآية.
قال عكرمة: انطلق كعب بن الأشرف إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يغزوه، وقال: أنا معكم نقاتله فقالوا: أنتم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل، وقال: أنتم خير من محمد، فأنزل الله عز وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} الآية.
فالجبت والطاغوت على هذا الخبر هما الصنمان. وقال ابن زيد: فاعل ذلك حيي بن أخطب. وقيل: هو كعب، وحيي ورجلان من اليهود من بني النضير لقوا قريشاً بالموسم، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ إن أهل(2/1356)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
السقاية والسدانة وأهل الحرم، فقال له: لا أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهم يعلمون أنهم كاذبون حملهم على ذلك الحسد، فأنزل الله عز وجل { أَلَمْ تَرَ}، الآية. قوله {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أي: أخزاهم وأبعدهم من رحمته {وَمَن يَلْعَنِ الله} أي: يخزيه ويبعده عن توفيقه ورحمته {فَلَن تَجِدَ لَهُ} من ينصره من عقوبة الله ولعنته سبحانه.
قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك} الآية.
أم هاهنا بمعنى: بل أي: بل لهم نصيب. وقيل: أم عاطفة على شيء محذوف قبلها تقديره: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلت أم لهم نصيب؟. والمعنى: ليس لهم حظ من الملك، ولو كان لهم لم يعطوا الناس منه نقيراً لبخلهم. وقيل: الناس هنا: محمد صلى الله عليه وسلم. والنقير النقطة في ظهر النواة وقيل: النقير هنا نَقْر الإنسان بأطراف أصابعه، والفائدة فيها: وصفهم بالبخل وأنهم لو كانوا ملوكاً لبخلوا بالشيء الحقير اليسير.
قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} الآية.
المعنى: أن اليهود حسدوا قريشاً إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فوبخهم الله عز وجل وقال: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إبراهيم الكتاب والحكمة} فيجب أن يحسدوهم أيضاً، {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} وهو ما أعطى سليمان صلى الله عليه وسلم فكيف لم يحسدوا هؤلاء.
وقال ابن عباس: عنى بالناس: محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن به. وعنه أنه قال: نحن(2/1357)
الناس: يعني قريشاً، وهو قول عكرمة والسدي ومجاهد والضحاك. . . حسدوه في أمر النساء، وقالوا: قد أحل الله له من النساء ما شاء، فأنزل الله عز وجل: { يَحْسُدُونَ الناس} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم على ما أحل الله له من النساء، وهو الفضل فوق أربع، فأم بمعنى بل هنا، {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} قال السدي: كانت لداود مائة امرأة ولسليمان أكثر من ذلك. وقال القتبي: كانت لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية.
قال همام: {مُّلْكاً عَظِيماً} أيدوا بالملائكة والجنود.
قال أبو عبيدة: معنى {أَمْ يَحْسُدُونَ}: (أيحسدون).
وقيل الناس هنا: العرب، حسدهم اليهود إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم منهم فهو الفضل. وقيل: الملك العظيم النبوة. وقيل: هو تحليل النساء لهم. وقيل: هو ما(2/1358)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
أعطي سليمان. وقيل: " الملك العظيم ": هو تأييدهم بالملائكة.
واختار الطبري أن يكون {مُّلْكاً عَظِيماً} هو ما أوتي سليمان صلى الله عليه وسلم من الملك وتحليل النساء.
قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} الآية.
المعنى: فمن أهل الكتاب الذين قيل لهم آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم: من آمن بالله عز وجل. وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: بالقرآن وهو أبينها لقوله: {آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} ثم قال {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} أي: بما نزلنا، وهو القرآن، {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي: لم يؤمن به.
وقيل: {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي: عن محمد صلى الله عليه وسلم ( أي): أعرض عنه، وقيل: {مَّنْ آمَنَ بِهِ}: القرآن. قاله مجاهد، وقيل: " به " بهذا الخبر. وذكر السدي في قصة طويلة أن إبراهيم صلوات الله عليه، كان عنده طعام كثير بورك له فيه كسبه من زرع زرعه من قمح كونه من عند الله تعالى، فكان الناس يأتونه في مجاعة يطلبون(2/1359)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
منهم شراء الطعام، فيقول: هذا الطعام من آمن بالله فليأخذ منه، ومن لا يؤمن بالله فلا شيء له، وآمن بعض وأخذوا، وامتنع قوم من الإيمان فلم يأخذوا، فهو قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ}.
وفي هذه الآية دليل علي أن من لم يؤمن قد أخرت عقوبته التي توعد بها في قوله: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} إلى يوم القيامة لإيمان من آمن منهم وهو قوله: {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} وإنما كان الوعيد لهم من الله جلت عظمته بالعقوبة على مقام جميعهم على الكفر، فلما آمن بعضهم خرجوا عن الوعيد الذي توعدوا به في دار الدنيا، وهو الطمس وأخرت عقوبة المقيمين على الكفر.
وسعير: فعيل، مصروف عن مفعوله كما قال: كف خضيب، ولحية دهين، والمسعورة: الموقودة بشدة التوقد، والمعنى وكفى بجهنم سعيراً لمن صد عنه، أي: أعرض عن محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بآياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} الآية.
هذا وعيد من الله عز وجل لمن أقام على الكفر وأعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} أي نلقيهم في النار.(2/1360)
وقيل المعنى: سوف نشويهم بنار. يقال أصليته: ألقيته في النار وصليته شويته، فنلقيهم أولى بالمعنى لأنه رباعي.
قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي احترقت واشتوت.
قال ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاء مثل القراطيس.
قال الحسن: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيكونون كما كانوا. قال الربيع: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، ومنه تسعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه جبل وسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها. قال الحسن: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال: وغلظ جلد الكفار أربعون ذراعاً، والله أعلم بأي ذراع.
وإنما جاز أن يبدلوا جلوداً غير جلودهم التي كانت في الدنيا فيعذبون منها(2/1361)
وهي لم تذنب، لأن الألم إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما تحرق النار الجلد ليصل الألم إلى الإنسان، وينعم ليصل النعيم إلى الإنسان، وليس بألم الجلد ولا اللحم وإنما يألم الإنسان، ألا ترى أنه لو مات وحرق الجلد واللحم لم يكن ألم ثابت يحس، وإنما بمنزلة الجندل إذا زالت الإنسانية منه.
وقيل: المعنى: بدلناهم جلوداً غير محرقة، أي يصير الجلد (غير) محرق، وهو كما تقول: صغ لي خاتماً من هذه الفضة، فإذا تم الخاتم فهو الفضة بعينها.
وقيل: المعنى: كلما نضجت سرابيلهم بدلوا سرابيل من قطران غيرها، فجعلت السرابيل لهم جلوداً لملازمتهم لها كما يقال: الشيء الخاص بالإنسان هو الجلدة ما بين عينيه لملازمته لها. وقد أخبر الله بلباسه السرابيل من قطران فقال
{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] فأما جلودهم فليس تحرق لأن في احتراقها فناءها، وفي فنائها راحتها وجواز فناء غيرها من أجسامهم ولحومهم. وقد أخبر الله تعالى أنهم لا يخفف عنهم ولا يموتون.(2/1362)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
والاختيار عند أهل النظر أن يكون الجلد الأول أعيد جديداً كما كان، كما تقول صغت من خاتمي خاتماً فأنت وإن غيرت المصوغة، فالفضة واحدة لم تبدلها.
قوله: {لِيَذُوقُواْ العذاب} أي: فعلنا ذلك ليذوقوا العذاب أي: ألمه وشدته {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} أي: لم يزل عزيزاً في انتقامه لا يقدر على الامتناع منه أحد {حَكِيماً} في تدبيره وقضائه.
قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} الآية.
المعنى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وأدوا العمل الصالح فندخلهم يوم القيامة بساتين تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً أي: بغير نهاية ولا انقطاع {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي بريئا من الأدناس والريب والحيض والغائط والبول والمخاط، وغير ذلك من أقذار بني آدم {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} (أي): كثيفاً كما قال {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 32].
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ".
وقيل: معنى {ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي: يظل من الحر والبرد وليس كذلك كل ظل(2/1363)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
فأعلمهم الله تعالى أن ظل الجنة لا حر معه ولا برد.
قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} الآية.
قال زيد بن أسلم: نزلت الآية في ولاة أمور المسلمين.
قال مكحول في وقوله: {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ}: هم أهل الآية التي قبلها في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا}.
وقال ابن زيد: قال أبي: هم الولاة أمرهم الله عز وجل أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها.
وقال ابن جريج: خوطب بهذا النبي عليه السلام أن يرد مفاتيح الكعبة على عثمان بن طلحة كان المفتاح لآبائه من قصي، وكان أبوه قتل يوم بدر فورثه من أبيه(2/1364)
طلحة.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا عثمان خذ المفاتيح على أن للعباد معك نصيباً، فأبى أن يأخذه حتى نزلت الآية، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشرك معه أحداً، فهو اليوم في ذريته الأمثال فالأمثال.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها منه يوم فتح مكة، ففتح البيت ودخله، ثم خرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفاتيح ".
وقيل: نزلت لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة من شيبة بن عثمان.
وروى أهل التفسير أن العباس عم النبي عليه السلام سأل النبي عليه السلام أن يجمع له السقاية والسدانة، وهي الحجابة، وهو أن يجعل له مع السقاية فتح البيت وإغلاقه، فنازعه شيبة بن عثمان فقال: " يا رسول الله: اردد علي ما أخذت مني "، يعني مفاتيح الكعبة فرده صلى الله عليه وسلم على شيبة.
وقال الحسن: " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فقال: " أرنا المفتاح "، فلما أتاه به قال عباس: " يا رسول الله اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده مخافة أن يدفعه إلى العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم(2/1365)
الآخر فأرني المفتاح ".
فقال: هاك في أمانة الله عز وجل، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتح باب الكعبة، ثم دخل، فأفسدها ما كان في البيت من التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم فوضعه حيث وصعه، ثم طاف بالبيت مرة أو مرتين، ونزل جبرئيل عليه السلام بالآية يأمره أن يرد المفتاح إلى أهله، فدعا عثمان فقال: هاك المفتاح إن الله يقول: " أدوا الأمانات إلى أهلها وقرأ الآية كلها ".
وقال ابن عباس: الآية على العموم في كل من ائتمن على شيء فعليه رده إلى أهله.
واختار أهل النظر أن يكون خطاباً لولاة أمور المسلمين أن يؤدوا الأمانة.
يما ائتمنوا عليه من أمور المسلمين في أحكامهم والقضاء في حقوقهم بكتاب الله، والقسم بينهم بالسوية، ويدل على صحة ذلك أن الله تعالى أمر المسلمين بطاعتهم بعد ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} فحض الولاة على العدل والإنصاف بين المسلمين، وحض المسلمين على طاعة الولاة.
قوله: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: نعمه العظيمة يعظكم بها يا ولاة أمور المسلمين، في أداء ما ائتمنتم عليه من أموال المسلمين {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} أي: لم يزل(2/1366)
سميعاً لما تقولون وتنطقون وتحكمون في رعيتكم {بَصِيراً} بما تعملون فيما أئتمنكم عليه من الحكم والإنصاف، لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. وهذا كان لولاة أمور المسلمين ومن قام مقامهم من الحكام، وقد حض على ذلك في غير موضع من كتابه فقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى} [النحل: 90].
وقال: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26].
وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47]، {فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47]، و {فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45].
وقال: {كُونُواْ قوامين بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين} [النساء: 135].
وقال صلى الله عليه وسلم " المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمان، وكلتا يديه - جلت عظمته - يمين هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وأموالهم ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أحب الناس إلى الله عز وجل وأقربهم إليه سبحانه وتعالى - إمام(2/1367)
عادل " وقال: " إن أبغض الناس إلى الله جل ذكره وأشدهم عذاباً إمام جائر " وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أفضل عباد الله منزلة إمام عادل رقيق، وإن شر عباد الله تعالى منزلة يوم القيامة إمام جائر ".
وقال معقل المزني عند موته: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس من ولي أمة قَلت أوكثرت لم يعدل فيهم إلا كبه الله على وجهه في النار".
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من أمير عشرة إلا وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوبقه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام مقسط، وشاب نشأ في عبادة الله - عز وجل - حتى توفاه الله على ذلك، ورجل ذكر الله في خلا، ففاضت عيناه من خشية الله - عز وجل -، ورجل كان قلبه متعلقاً بالمسجد حين يخرج منه حتى يرجع إليه، ورجل قال أحدهما للآخر: إني أحبك في الله، وقال الآخر: إني أحبك في الله، فتصادرا على ذلك، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".(2/1368)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فى خطبته: "اصحاب الجنه ثلاثة: ذو سلطان مقسط ,ومصدق مؤمن , ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذى قربى ومسلم , ورجل عفيف فقير.
قال ابن مسعود, إذا كان الإمام عادلا فله الأجر , وعليكم الشكر وإذا كان جائرا فعليه الوزر وعليكم الصبر.
وقال بعض الحكماء انفع من خصب الزمان.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله. . .} الآية.
أي: دوموا على طاعته {وَأَطِيعُواْ الرسول} في سنته، وما أتاكم به {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} أي: ولاة أموركم، وهم الأمراء، قال ذلك أبو هريرة، وابن عباس وغيرهما.
وقيل: هم أصحاب السرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال زيد بن زيد أسلم: هم السلاطين.
وقال جابر بن عبد الله " هم أهل العلم والفقه والخير، قاله مجاهد وقتادة، وأبو العالية، وروي عن ابن عباس مثله وقاله عطاء، ولذلك قيل، إن الأمر في هذا: القرآن: فمعناه: وأولي القرآن، وأولي العلم بالقرآن، ودل على أن الأمر: القرآن(2/1369)
قوله: {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: 5].
وعن ابن عباس أنه قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. وروي عن مجاهد أنه قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عكرمة: هم أبو بكر وعمر.
واختار أهل النظر أن يكون المراد أمراء مسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: " سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لهم، وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم ".
قال صلى الله عليه وسلم: " على المرء المسلم الطاعة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس بخير ما استقامت لهم هذاتهم وولاتهم " والهداة العلماء العاملون بعلمهم.
قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله} الآية.(2/1370)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
المعنى: إن اختلفتم في شيء من أمور دينكم فردوه إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله، وحكمه.
وقيل: المعنى إن اختلفتم في شيء فقولوا: الله أعلم، على التغليظ في الاختلاف والنهي عنه، قوله: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي هذا الفعل خير لكم في دنياكم وأخراكم، وأحسن عاقبة، لأنه يدعوكم إلى الإلفة وترك الاختلاف والتنازع، والفرقة.
وقال مجاهد {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}: أحسن جزاء.
وقيل: أحسن ثواباً وخير عاقبة.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُو} الآية: معناه ألم تعلم بقلبك الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك من الكتاب، وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمرهم الله أن يكفروا به: أي: بما جاء به الطاغوت.
والطاغوت كل ما عبد من دون الله عز وجل فهو جماعة، وهو يذكر ويؤنث، فإذا ذُكِّر ذهب به إلى [معنى] الشيطان وإذا أُنِّث ذُهب [به] إلى معنى الألوهية، وإذا جمع ذهب به إلى [معنى] الأصنام.(2/1371)
قال الله في التذكير: {وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} فذكر على معنى الشيطان، وقيل: هو كعب بن الأشرف.
قال الله جل ذكره: {اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] فأنث على معنى الألوهية. وقال في الجمع: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة: 257] فجمع على معنى: أوليلؤهم الأصنام.
قوله: {يُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ} أن يضلهم أي: يضل هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن الحق أي: يصدهم عنه.
وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما، فكان المنافق يدعوه إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، واصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن جهينة ليحكم بينهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فأنزل الله هذه الآية فقوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني به المنافق {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني به اليهود {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} وهو الكاهن {وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} أمر هذا في كتابه، وهذا في كتابه أن يكفروا بالكاهن. وقيل: إنهما رجلان من اليهود تخاصما فدعا أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يدعو إلى الكاهن فمضيا، فأنزل الله هذه الآية.(2/1372)
وقال ابن عباس: كانت اليهود إذا دعيت إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أبوا، وقالوا: بل نتخاصم إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله {ضَلاَلاً} مصدر لفعل دل عليه {يُضِلَّهُمْ} كأنه فيضلهم {ضَلاَلاً} مثل: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} هذا ذم لفعل المذكورين أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، فأخبر الله تعالى أنهم إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله " أي: إلى كتابه جلت عظمته وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ} أي: يمتنعون عنك.
و {صُدُوداً}: هو اسم للمصدر عند الخليل، والمصدر عنده الصد، وهو مصدر عند الكوفيين، والصد أيضاً مصدر عندهم.
ووقع الإخبار عن المنافق بالصد لأنه هو الذي دعا إلى الكاهن، ولم يمض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جريج: دعا اليهودي المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: " دعا اليهودي المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المنافق: بيني وبينك الكاهن، فلم يرض اليهودي بالكاهن، ومضيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم لليهودي على(2/1373)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
المنافق، فقال المنافق: لا أرضى، وقال: بيني وبينك أبو بكر، فحكم أبو بكر لليهودي، فلم يرض المنافق، فقال: بيني وبينك عمر، فمضيا إلى عمر فأخبره اليهودي أن المنافق قد حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فلم يرض بحكمهما، فقال عمر للمنفق: كذلك؟: قال: نعم، قال عمر اصبر، فإن لي حاجة ادخل فأقضيها وأخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه وخرج إلى المنافق فضاربه بالسيف فقتله، فجاء أهله فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن قصته فقال عمر: رد حكمك يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الفاروق ".
ومعنى: يصدون عنك أي: عن حكمك.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ} الآية.
معنى: كيف في هذا: الاستفهام، ولها معان أخرى.
تكون بمعنى التحذير، والتخويف نحو قوله {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل: 51].
وتكون بمعنى الجحود فتتبعها إلى نحو قوله {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله} [التوبة: 7] ألا ترى بعده {إِلاَّ الذين} [التوبة: 7] تقديره ما يكون للمشركين عهد.
وتكون كيف استفهام بمعنى التوبيخ والتعجب، نحو قوله {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أمواتا} [البقرة: 28] {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} [آل عمران: 101] وتكون تنبيهاً نحو قوله:(2/1374)
{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا} [الإسراء: 21]، {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الإسراء: 48].
وتكون توكيداً لما قبلها، وتحقيقاً له، نحو قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] فهذا كله من تفسير الكوفيين النحويين وهو صحيح.
والمعنى كيف يكون حال هؤلاء الذين يتحاكمون إلى الطاغوت ويزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ويمتنعون أن يأتوا حكمك إذا أصابتهم مصيبة أي: نزلت بهم نقمة من الله تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بذنوبهم التي تلفت منهم {ثُمَّ جَآءُوكَ} حالفين بالله {إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إحسانا وَتَوْفِيقاً}.
أخبر الله عنهم أنهم لا يردعهم عن النفاق: والعبر والنقمات وأنهم إذا أصابتهم مصيبة بذنوبهم أخذوا يحلفون كاذبين أنا لم نرد إلا الإحسان والتوفيق أي: لم نرد باحتكامنا إلى الكاهن إلا الإحسان من بعضنا البعض، ولم يرجعوا إلى التوبة والاعتراف.
وقيل: أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر القتيل الذي قتله عمر وحلفوا، أنا أردنا بطلب الدم إلا إحساناً وموافقة الحق.(2/1375)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
قوله: {أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: يعلم ما أضمروا من احتكامهم إلى الكاهن، وتركهم الاحتكام إلى كتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم ذلك منهم، وإن حلفوا أنا أردنا إلا الإحسان والتوفيق {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (أي): فدعوهم ولا تعاقبهم في أبدانهم ولكن {عِظْهُمْ} بالتخويف من الله عز وجل أن تحل بهم عقوبة منه {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} هذا التوعد بالقتل لمن خالف حكم الله وكفر به.
وقيل: قوله {في أَنْفُسِهِمْ} مؤخر عن موضعه يراد به التقديم، فكيف إذا أصابتهم مصيبة في أنفسهم بما قدمت أيديهم.
وكونه في غير موضعه من غير تقديم ولا تأخير، أحسن لتمام المعنى بذلك، إنما يحسن تقدير التقديم والتأخير إذا لم يكمل معنى الآية، وتقدير التقديم والتأخير مروي عن مجاهد.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} الآية.
المعنى {وَمَآ أَرْسَلْنَا} رسولاً إلا افترضنا طاعته على أمر من أرسل إليهم، فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليهم فهذا توبيخ لمن احتكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: {بِإِذْنِ الله} أي: بعلمه، فدل هذا، أن هؤلاء الذين لم يتحاكموا إلى(2/1376)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا طاعته إنما ذلك لشيء سبق في علم الله عز وجل، فطاعته تكون ممن سبق في علم الله أنه يطيعه، وكذلك خلافه.
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} لو أن هؤلاء المنافقين إذ تحاكموا إلى الكاهن، فظلموا أنفسهم بذلك {جَآءُوكَ} تائبين مستغفرين مما فعلوا، فسألت الله العفو عن جرمهم {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} ومعنى تواباً راجعاً عما يكرهون إلى ما يحبون، رحيماً بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم.
قوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
المعنى في قوله: {فَلاَ} أي: ليس الأمر على ما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك، ثم استأنف القسم فقال: {وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: وربك يا محمد، لا يؤمنون أي: لا يصدقون بالله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، أي: يحكمونك حَكَماً بينهم في خصوماتهم. وقرأ أبو السمأل: {شَجَرَ بَيْنَهُمْ} بإسكان الجيم وهو بعيد لخفة الفتحة.
قوله: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} أي: ضيقاً من حكمك أي لا تأثم أنفسهم بإنكارها حكمك، وشكها في طاعتك لأن الحرج الإثم، وكأنه قال: ثم لا(2/1377)
تحرج أنفسهم بإنكارها حكمك، قال: معنى ذلك مجاهد والضحاك.
وقيل: الحرج: الشك وكله يرجع إ'لى الإثم.
{وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي: يسلموا لحكمك إقراراً بنبوتك.
ويروى أن هذه الآية نزلت في الزبير بن العوام وخصم له، " ذكر عن الزبير أنه خاصم رجلاً من الأنصار وهو حاطب بن أبي بلتعة في شريج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري سرح الماء يمر، وكانت أرضه أسفل من أرض الزبير فأبى عليه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك. فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا زبير اسق، ثم تحبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك، فاستوعب رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم وكان(2/1378)
أولاً أراد النبي صلى الله عليه وسلم الرفوت والسعة لهما فنزلت الآية ".
وقيل: نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تقدم ذكرهما قاله مجاهد وغيره، وهو أولى بسياق الكلام.
قال الطبري: ولا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع فيكون حكم المتحاكمين إلى الطاغوت، وحكم الزبير وخصمه.
ومن قال إنها في الزبير وخصمه ما زالت أحسن الوقف على ما [قبل الآية، ومن قال: إنها في اليهود والمنافق ما زالت، فليس الوقوف على ما] قبلها بتمام، لأن القصة واحدة.
وروي " أنها نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلقا إلى عمر، فلما أتيا عمر قال الذي له الخق: يا ابن الخطاب قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك، قال: كذلك؟ قال: نعم! قال عمر: مكانكما حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فاراً إلى(2/1379)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " ما كنت أطن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن "! فأنزل الله عز وجل: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية ".
قوله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} الآية.
فالمعنى: ولو أنا كتبنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المتحاكمين إلى الطاغوت أي: فرضنا عليهم قتل أنفسهم، والخروج من ديارهم ما فعل ذلك إلا قليل منهم.
ومعنى: قتل أنفسهم قتل بعضهم بعضاً كما أمر أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم، ولما نزل ذلك افتخر ثابت بن قيس ورجل من اليهود، فقال اليهودي، والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا وبلغت القتلى منا سبعون ألفاً، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله عز وجل { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} وقيل: " إن الآية لما نزلت قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قيل: هو أبو بكر رضي الله عنهـ لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ".(2/1380)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
ومعنى {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي: أثبت لهم في أمورهم وأقوى.
وقال السدي: وأشد تثبيتاً أي تصديقاً.
قوله: {وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً} المعنى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، {وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً}، أي ثواباً في الآخرة {وَلَهَدَيْنَاهُمْ} أي لوفقناهم للصراط المستقيم وهو طريق الجنة.
قولهم: {وَمَن يُطِعِ الله والرسو} الآية.
المعنى من يطع الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم بتسليم لأمرهما والرضا بحكمهما، فهو مع الذين أنعم الله عليهم لأنبيائه، وأهل طاعته في الآخرة {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} أي: وحسن الأنبياء ومن معهم رفيقاً.
و {رَفِيقاً} منصوب على الحال عند الأخفش، بمعنى رفقاء، وقال الكوفيون: نصبه على التفسير، وقال بعض البصريين نصبه على التمييز.
والصديقون: أتباع الأنبياء صلوات الله عليهم، صدقوهم فهو فعيل من الصدق وقد كثر ذلك عنه.(2/1381)
وقيل: هو فعيل من الصدقة كأنه (كثر) ذلك منه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكاية أنه قال: " الصديقون المتصدقون ".
وفعيل أصله المبالغة في ذم أو مدح.
{والشهدآء} جمع شهيد، وهو المقتول في سبيل لله [شهد لله عز وجل بالحق، فسمي شهيداً لذلك. وقيل: سمي شهيداً لأنه يشهد كرامة الله] سبحانه وقيل: لأنه يشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة، وقيل: هم الذين قاموا وشهدوا لله بالحق. ويقال: الشهداء عدول يوم القيامة.
{والصالحين} كل من صلحت سريرته وعلانيته. {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} في الجنة. والرزق لفظه لفظ واحد وهو في معنى الجمع.
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم حزنوا على فقد النبي صلى الله عليه وسلم حذر ألا يروه في الآخرة، فأخبرهم الله عز وجل أن من أطاعه، وأطاع رسوله مع النبيين في الجنة.(2/1382)
وقال ابن جبير: " جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون: قيل: هو عبد الله بن زيد الذي رأى الآذان في منامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " مالي أراك محزوناً؟ " فقال: يا نبي الله، شيء فكرت فيه يقال: " ما هو؟ " فقال: نحن نغدر ونروح ننظر في وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا تصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} الآية.
فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره ".
وقال مسروق: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك لو قدمت رفعت فوقنا، فلم نرك، فأنزل الله عز وجل { وَمَن يُطِعِ الله والرسول} الآية: وروي نحو ذلك قتادة والسدي وغيرهما.
وقال عطاء: " جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال: " ما يبكيك يا فلان؟ " فقال: يا نبي الله والله الذي لا إله 'لاّ هو، لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، والله الذي لا إله إلا هو، لأنت أحب إلي من نفسي، وأنا أذكرك وأنا في أهلي،(2/1383)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
فيأخذني الجنون حتى أراك، فذكرت موتك وموتي، فعرفت ألا اجتمع معك، إلا في الدنيا، وأنت ترفع مع النبيين وعرفت أني إن دخلت الجنة منزلتي أدنى من منزلتك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأنزل الله عز وجل { وَمَن يُطِعِ الله والرسول} الآية ".
قيل هو عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في المنام وروي أنه لما بلغه موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعد حبيبي صلى الله عليه وسلم فعمي من وقته.
قوله: {ذلك الفضل} أي ذلك العطاء بأن يكونوا مع النبيين صلوات الله عليهم، فضل من الله عز وجل عليهم، بأن وفقهم للطاعة، فجعلهم من النبيين والصديقين في الجنة، فهو سابقة منه لهم، لم يطيعوا إلا بفضله، وبالطاعة التي هي بفضله وصلوا إلى فضله، فكل من عنده، وبفضل منه، لا إله إلا هو، لا خير إلا من عنده، ولا توفيق إلا به يوفق للخير ويجازي عليه بخير، فهذا الفضل العظيم الظاهر {وكفى بالله عَلِيماً} أي اكتفوا به.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ. . .} الآية.
هذا أمر من الله للمؤمنين أن يأخذوا أسلحتهم وينفروا إلى عدوهم مجتمعين أو متفرقين، جماعة بعد جماعة، يعني سرايا متفرقين.(2/1384)
فقوله: {ثُبَاتٍ} جمع ثبة، والساقط منها اللام، وهو ياء وتصغيرها ثبية، وثبت الحوض، وهو يثوب الماء إلى الحوض أي رجع، الساقط منها العين وهو واو، لأنها من: ثاب يتوب، وتصغيرها: تويبة، والثُبات هنا: الجماعة المتفرقة.
قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ}: لام " لام " تأكيد وليبطئن لام قسم، كان التقدير لمن أقسم: ليبطئن، والتشديد [في الطاء] بمعنى التكثير.
وقرأ مجاهد: " ليبطئن " بإسكان الباء، وتخفيف الطاء.
ومن قرأ كأن لم تكن، فلتأنيث لفظ المودة.
ومن قرأ بالياء حمله على معنى الود. لأن المودة والود بمعنى واحد. وقرأ الحسن ليقولن بضم اللام على الجمع حمله على معنى من، فَضَم، لتدل على الواو المحذوفة.
ومعنى الآية أن الله تعالى أعلم المؤمنين منهم من يبطئ أن ينفر معهم إلى جهاد(2/1385)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
العدو، أي يتأخر وهم المنافقون، فإن أصابتكم أيها المؤمنون مصيبة. أي: هزيمة أو قتل أو جراح من عدوكم قال: {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} أي حاضر، فيصيبني ما أصابهم ولئن أصابكم فضل من الله " اللام في " لئن لام اليمين و " فضل " أي: ظفر على عدوكم أو غنيمة. {لَيَقُولَنَّ} هذا الذي أبطأ عنكم، وجلس عن قتال عدوكم: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} هذا كله صفة المنافق يشمت إذا أصاب المؤمن ضرر ويحسدهم إذا أصابوا نفعاً وظفراً، فهو غير راج ثواباً، ولا خائف من عقاب كل هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.
والتقدير في: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة " أن يكون مؤخر المعنى " [فأفوز فوزاً عظيماً كأن لم يكن بينكم وبينهم] أي: كأن لم يعاقبكم على الجهاد.
وقيل: التقدير {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة ولا أن أصابكم فضل من الله ".
قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة} الآية.
حض الله عز وجل المؤمنين على القتال في هذه الآية غالبين أو مغلوبين، ومعنى، {فِي سَبِيلِ الله} أي: في ذات الله ودينه، ومعنى {يَشْرُونَ} يبيعون حياتهم الدنيا بنعيم الآخرة، يقال: شربت الشيء بعته، وشريته اشتريته {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي:(2/1386)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
نعطيه في الآخرة ثواباً عظيماً [ال] معظمه مقدار يبلغ إليه الخلق.
قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين} الآية.
{المستضعفين} عطف على السبيل كأنه قال: " وفي المستضعفين أي: في خلاصهم.
وقيل: المعنى: وفي سبيل المستضعفين، وهم الذين أسلموا بمكة وغلبوا على أنفسهم بالقهر، وعذبوا في أبدانهم ليرجعوا عن دينهم.
حض الله عز وجل المؤمنين على القتال من أجل دين الله سبحانه [ومن أجل] المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، عذرهم الله، وأخبر أنهم يقولون {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} أي: التي ظلم أهلها.
روى الحسن وقتادة: أن رجلاً من بني إسرائيل خرج من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، فاحتجت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمروا أن يعدوا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فتوفته ملائكة الرحمة، وقيل: أن الله قرب إليه القرية الصالحة والقرية الصالحة هي مكة.
قوله: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أي: من عندك ولياً يلي خلاصنا.(2/1387)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} أي: من عندك من ينصرنا على أعدائك، وينصرنا على الخلاص منهم، والذين في موضع خفض على البدل من المستضعفين، أو نعت لهم، أو نعت للجميع المذكور من الرجال وغيرهم.
قوله: {الذين آمَنُواْ يقاتلون فِي سَبِيلِ الله} الآية.
أخبر الله عز وجل أن: {الذين} صدقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به يقاتلون في سبيل الله.
وأن الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت، وهو الشيطان هاهنا بدليل قوله: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} أي: الذين يتولونه ويطيعون أمره {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً}: لأولياؤه ضعاف لأنهم يقاتلون لغير الثواب، والمؤمنون يقاتلون رجاء الثواب.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ} الآية.
هذه الآية نزلت في ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تسرعوا إلى قتال المشركين بمكة قبل الهجرة، بما يلقون منهم من الأذى، فقيل لهم: كفوا أيديكم عن القتال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فكانوا يتمنون القتال {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ} كرهه جماعة منهم، ومعنى كتب فرض، ومعنى {لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: إلى أن نموت(2/1388)
بآجالنا، ولا نتعرض للقتال فنقتل، حباً للدنيا فقال الله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى}.
قال ابن عباس: هو عبد الرحمن بن عوف وأصحابه سألوا النبي صلى الله عليه وسلم القتال ثم كرهه جماعة منهم لما فرض غليهم.
وقال السدي: قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال فسألوا القتال، فلما فرض عليهم كرهه جماعة منهم وخاف منه كما يخاف الله وأشد من ذلك.
وقيل: هم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه.
وقيل: نزلت في يهود فعلوا ذلك، فنهى الله هذه الأمَة أن تصنع صنيعهم.
ويجوز - والله أعلم - أن يكون هؤلاء اليهود الذين فعلوا ذلك هم الذين ذكرهم الله في البقرة في قوله {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] ثم قال: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} [البقرة: 246] أي فرض {تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 246].
ومن قراء {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بالتاء أجراه على الخطاب لأن بعده {أَيْنَمَا تَكُونُواْ}.(2/1389)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
ومن قرأ بالياء أجراه على ما قبله وهو قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} وقوله {وَقَالُواْ} وقوله {لَهُمْ} وقوله {كفوا} وشبهه.
{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} الآية.
هذا توبيخ من الله عز وجل لهؤلاء الذين يخشون الناس كخشية الله فراراً من الموت، فقال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}.
قال مالك: في قصور السماء، ألا تسمع قوله: {والسمآء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] وقيل: معناه: " في قصور محصنة قاله قتادة. وقيل المعنى: في قصور السماء، قاله أبو العالية.
والمشيدة عند أهل اللغة المطولة، والمشيدة بالتخفيف المزينة، وقيل: هي المعمولة بالشيد وهو الجص.
وقال بعض الكوفيين: التخفيف والتثقيل أصلحهما واحد.
والتشديد يراد به الجمع كقولهم: غنم مذبحة، وقباب مصنعة، فيقال: " قصور(2/1390)
مشيدة " على ذلك {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] مثل: كبش مذبوح وكباش مذبحة.
(ومَّشِيدٍ) مفعول: فالمشيدة على هذا المعمولة بالشيد وهو الجص وكذلك قال عكرمة.
قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} أي: رضاء أو ظفر أو غنيمة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} أي: شدة وهزيمة أو جراح (يقولوا هذه من سوء تدبيرك) {قُلْ} يا محمد {كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} أي: الشدة والرخاء، والظفر والهزيمة {مِنْ عِندِ الله} أي: بقضائه وقدره {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي: ما شأنهم لا يفقهون أن كلاً من عند الله سبحانه.
والوقف على {فَمَالِ هؤلاء} لا يحسن، لأنه إن خالف خط المصحف لم يحسن، وإن وقف على الكلام قبح لأنه لام خفض وقد روي عن بعضهم الوقف على اللام وهو حمزة والكسائي وعاصم قياساً على أصولهم في اتباع السواد، وروي عن غيرهم من القراء الوقف على {فَمَا} على الأصل، والاختيار ألا يوقف عليه فهو(2/1391)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
أسلم وأحسن، وليس بموضع تمام، وإنما تكلم فيه الناس على الاضطرار وانقطاع النفس، ووقع ذلك كيف يكون الوقف، فأما أن يتعمد الوقف على هذا فلا يجوز.
قوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله. . .} الآية.
قال الأخفش: {مَّآ} بمعنى الذي.
وقيل: {مَّآ} للشرط.
والمعنى: ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة، فبفضل الله عليك وإحسانه، وما أصابك من جدب وشدة وسقم وألم، فبذنب أتيته قوقبت به، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما يصيب الرجل من خدش من عود ولا غيره إلا بذنب، وما يغفر الله عز وجل أكثر ".
وقال ابن عباس: الحسنة هنا فتح بدر وغنيمتها، والسيئة ما أصابه يوم أحد عوقبوا عند خلاف الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ما عوقب به بذنوبهم التي اجترحوها، فهو قوله {فَمِن نَّفْسِكَ} قال أبو زيد: " وقوله في آل عمران ":(2/1392)
{قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] معناه بذنوبكم وهو بهذا المعنى.
وقرأ ابن عباس: فمن نفسك وأنا كتبتها عليك وكذلك هي قراءة عبد الله بن مسعود.
وعن ابن عباس أن الآية نزلت في قصة أحد تقول: ما فتحت عليك يا محمد من فتح فمني وما كانت من نكبة فمن ذنبك وأنا قدرت ذلك عليك.
وقد ذكر النحاس: أن القول محذوف من الآية والتقدير {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} يقول ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة من نفسك [أي: بشؤمك].
وذكر ابن الأنباري قولاً ثالثاً: أن المعنى: ما أصابك الله به من حسنة فمنه،(2/1393)
وما أصابك من سيئة فمن نفسك] أي: بذنبك فالفعلان من الله عز وجل، وهذا يرجع إلى القول الأول. وذكر فيه قولاً رابعاً: وهو أن يقدر ألف الاستفهام محذوفة والتقدير: وما أصابك من سيئة. أفمن نفسك؟ كما قال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا (عَلَيَّ)} [الشعراء: 22] على معنى: وتلك نعمة كما قال في قوله تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 78] أي: هذا ربي لأنه لم يوجب أنه ربه وإنما قال هذا ربي على سبيل الاستخبار.
قال نفطوية: أصل السيئة ما يسوؤك، فالمعنى وما أصابك من أمر يسوؤك فهو بذنبك وذلك أمر من الله.
وقال الضحاك عن ابن عباس: الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر يوم بدر، والسيئات ما نكبوا به يوم أحد.
قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} الآية.
رسولاً: مصدر مؤكد لأرسلناك، ودخلت " من " في قوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ}(2/1394)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
كما تدخل مع حروف الشرط تقول: إن يكرمني من أحد أكرمه، فتدخل من لأنه غير واجب كما تدخل في النفي إذا هو غير واجب، ولكنها تلزم في الشرط في مثل هذا.
قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} الآية.
هذا إعذار من الله عز وجل إلى خلقه في طاعة نبيه عليه السلام فإنه عن الله يأمر وينهى، وهو رد إلى قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ} للناس رسولاً، ثم قال: ومن يطعك فقد أطاع الله، لكنه خرج من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة، كما قال: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22] ثم قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]، {وَمَن تولى} أي: من طاعتك يا محمد {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}، رجع الكلام إلى الخطاب ولو جرى على الغيبة لقال: فما أرسلناه.
وقيل: معنى الآية: من يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فرائضه، وهذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين، لأن قوله فما أرسلناك عليهم حفيظاً. يدل على الإعراض عنهم وتركهم إذا تولوا عنه، وهذا مثل " {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] " ثم(2/1395)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
أتى بعد ذلك الغلظة والأمر بالقتال، قال ذلك ابن زيد.
وقال أبو عبيدة: معنى " حفيظاً " محتسباً.
قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} الآية.
" طاعة " رفعت على معنى: أمرنا طاعة، فالمبتدأ مضمر وأجاز الأخفش النصب [على] المصدر كأنهم يقولون نطيع طاعة، وهذه الآية، نزلت في الذين تقدم ذكرهم أنهم لما كتب عليهم القتال خشوا {الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77].
فالمعنى: يقولون أمرنا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه يا محمد، فإذا خرجوا من عندك يا محمد {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} أي: غير جماعة منهم ليلاً الذي تقول أي: تقول الطائفة.
ويجوز أن يكون المعنى غير الذي تقول يا محمد من القرآن وغير ذلك، وكل من(2/1396)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
عمل عملاً فقد بيته، {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي: يثبت ما يغيرون من قولك في كتب أعمالهم التي تحصى عليهم.
قال السدي: هم المنافقون يطيعون، إذا حضروا، فإذا خرجوا غيروا وبدلوا، وقال ابن عباس وغيره.
وقيل معنى: يكتب ما يبيتون أي ينزله في كتابه إليك يا محمد ويخبرك به، وفي ذلك أعظم الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه يخبرهم بما يسرون ليلاً.
قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: دعهم قال الضحاك: المعنى لا تخبرهم بأسمائهم.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فوض أمرك إليه، {وكفى بالله وَكِيلاً}، أي: حسبك ناصراً على عدوك.
قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} الآية.
[المعنى]: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} المبيتون غير ما تقول {القرآن} فيعلمون حجة الله عليهم، وأنك أتيتهم بالحق من عند الله متسق المعاني مختلف الأحكام بعضه يشهد على بعض بالتحقيق وأن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، فليس من كلام آدمي إلا وفيه اختلاف، إما في(2/1397)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وصفه، وإما في معناه، وإما في بلاغته، وإما في غير ذلك، من أنواع فنونه، والقرآن لا يدخله شيء من ذلك كله.
وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} معناه على قولكم ودعواكم إذ ليس يجوز أن يأتي من عند غير الله مثله، ومعنى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} ألا ينظرون في عاقبته، يقال: " تدبرت الشيء فكرت في عاقبته ".
قوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} الآية.
هذا خبر من الله عز وجل هؤلاء المنافقين الذين يبيتون غير ما يقول القرآن إذا جاءهم [خبر] من سرية غزت للمسلمين أنهم آمنون من عندهم، (أو) أنهم خائفون: صحيح أو غير صحيح، لم يتوقفوا حتى يصح، ويثبت، وأفشوه في الناس.
وقوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} أي: أفشوا (ونشروا) وأسمعوا به، وأعلنوه كان خيراً(2/1398)
أو شراً فبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ} أي: ولو ردوا الأمر الذي جاءهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون هو الذي يخبر الناس به إن كان صحيحاً، ويسكت عنه إن كان سقيماً {وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} أي: ليعلموا صحته وسقمه فيخبرون الناس بالصحيح.
والهاء في {بِهِ} وفي {لَعَلِمَهُ} و {يَسْتَنْبِطُونَهُ} للأمر، وقيل: للخوف، وقيل: عليهما جميعاً، واكتفى بالتوحيد عن التثنية.
ومعنى: {يَسْتَنْبِطُونَهُ} أي: يبحثون عن صحته، ويستخرجونه. والهاء والميم في " منهم " تعود على أولي الأمر أي: ليعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه أي: يبحث عن صحته ويستخرجها.
يقال: استنبطت الركية: استخرجت ماءها وسمي النبط نبطاً لاستنباط الماء. أي: استخراجهم الماء، والنبط: الماء المستخرج من الأرض.
وقيل: إن الذين عنوا بذلك ضعفة المسلمين كانوا يسمعون من المنافقين أخباراً غير صحيحة فيفشونها فعذلهم الله على ذلك، وأمرهم برد ما سمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر فيعلمون صحة ما قيل من سقمه، ويعرفون كذبه من صحته(2/1399)
بالاستنباط.
وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لولا نعمته عليكم بأن عافاكم مما ابتُلي بـ هؤلاء المنافقون الذين وصفهم بالتبييت والخلاف {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} وهو خطاب للذين قال لهم {خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ}.
وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} الآية.
هو استثناء من المستنبطين قاله قتادة، وهو قول الزجاج واختياره.
وقال ابن عباس هو استثناء من قوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} {إِلاَّ قَلِيلاً} فهو استثناء من الإذاعة، وهو قول الأخفش والكسائي وأبي عبيدة، وأبي حاتم [وأبي عبيد] وجماعة من النحويين، وهو اختيار الطبري.(2/1400)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
وقال الضحاك: هو استثناء من {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يهموا باتباع الشيطان كما هم الذين استنقدهم الله.
ومعنى {أَذَاعُواْ بِهِ} وأذاعواه سواء، قاله الكسائي.
قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} الآية.
المعنى: جاهد يا محمد أعداء الله {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي: لا يلزمك إلا أن تقاتل بنفسك {وَحَرِّضِ المؤمنين} أي: حضهم على القتال معك، وأعلمهم ثواب الله في الآخرة للشهداء، {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} أي: يكف قتاهم، وعسى من الله واجبة، {والله أَشَدُّ بَأْساً} أي: نكاية في الكفار {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي: عقوبة، وهذه الفاء في {فَقَاتِلْ} متعلقة بقوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} {فَقَاتِلْ} أي: من أجل هذا فقاتل.
وقيل: هي متعلقة بقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 75] وإنما أمره تعالى بالقتل وحده لأنه وعده بالنصر، ولما أمره الله عز وجل بالقتل بنفسه لبس يوم أحد(2/1401)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
درعيم، وركب فرسه وأسكب نبله، فلما نزعه انكسرت بينية القوس من قوته، فأكب نبله، وجعل يناول سعداً سهماً ويقول: ارم فداك أبي وأمي، ولم يقلها لأحد قبله، ولا بعده، فهو من فضائل سعد، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم رمحاً صغيراً أعطاه له قتادة ابن النعمان، فيه قتل أُبي بن خلف الجمحي.
قوله: {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} الآية.
المعنى: من يشفع لأخيه شفاعة حسنة يكن له نصيب منها في الآخرة، أي: حظ {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} أي: إثم منها في الآخرة.
وقال مجاهد: هو شفاعة الناس بعضهم لبعض، وقاله الحسن وابن زيد وغيرهم.(2/1402)
وقال الطبري: " المعنى: من يشفع وتراً لأصحابك يا محمد في جهاد عدوهم يكن له نصيب منها: حظاً في الآخرة، ومن يشفع وتراً لكافرين يكن له كفل منها أي: وزر وإثم في الآخرة.
وإنما اختار ذلك لأنه في سياق الآية التي حض الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم على القتال فيهت، وحضه على أن يحرض المؤمنين على القتال معه، فصارت هذه الآية وعداً لمن أجاب تحريض رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال، وكان ذلك أشبه عنده من شفاعة الناس بعضهم لبعض إذ لم يجر له ذكر قبل ولا بعد.
والكفل والنصيب عند أهل اللغة سواء، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 27] أي: نصيبين، والنصيب قد يكون خيراً أو شراً.
وقال الحسن: الشفاعة الحسنة ما يجوز في الذين، والشفاعة السيئة ما لا يجوز في الدين.
وقال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها وإن لم يُشَفَّع.
وروي أن قوله: {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} نزل في اليهود كانوا يدعون على المؤمنين في الغيبة بالهلاك، ويقولون لهم في الحضور: السام عليكم، وهو دعاء أيضاً، ثم اتْبع ذلك بقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} وهو: السلام.
والمقيت: الحفيظ عند ابن عباس.(2/1403)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
وقيل: الشهيد، قاله مجاهد.
وقال السدي: المقيت: القدير وهو اختيار الطبري.
وقال الكسائي: مقيتاً مقتدراً.
وقال أبو عبيدة: المقيت: الحافظ المحيط.
وقال ابن جريج: المقيت القائم على كل شيء رواه عن ابن كثير.
وقال بعضهم:
وَذيِ ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عنه ... وَكُنْتُ على مُسَاءَتِه مَقِيتاً
قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} الآية(2/1404)
المعنى: إذا دعي لأحدكم بطول الحياة والبقاء والسلامة فردوا ذلك بأحسن منه، أو ردوا التحية.
وقيل: المعنى: إذا قيل لكم السلام عليكم، فقولوا السلام عليكم ورحمة الله، فهذا خير من التحية، أو يردها فيقول: السلام عليكم، كما قيل له، قال ذلك السدي، وروي عن ابن عمر أنه يرد: وعليكم السلام.
وقال ابن عباس: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} على أهل الإسلام أو ردوها على أهل الكفر، وقال: من سلم عليك من خلق الله فأردده عليه، وإن كان مجوسياً، وقال ذلك قتادة.
وقال ابن زيد: قال أبي: " حق على كل مسلم (حُيَّيَ) بتحية أن يُحَيِّيَ(2/1405)
بأحسن منها " للمسلمين {أَوْ رُدُّوهَآ} على الكفار.
وروي عن ابن عباس: {أَوْ رُدُّوهَآ} يقول: وعليكم: على الكفار.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ".
واختار الطبري أن يكون المعنى للمسليمن، يرد عليهم أحسن من تحيتهم بزيادة الرحمة والبركة، أو يرد عليهم تحيتهم بعينها بغير زيادة، ويكون الرد على أهل الكتاب معمولاً به بقوله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يزاد على ذلك.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا لهم: وعليكم يظن على أن يقال لهم مثل ما قتالوا، فيجب أن تكون الآية كلها في المسلمين وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يبدأوا بالسلام، والسلام عند الجماعة تطوع والرد فريضة، وقال مالك في معنى الآية: إن ذلك على المشمت في(2/1406)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
العطاس.
وقال: مجاهد الحسيب: الحفيظ. وقال أبو عبيدة: كافياً.
وقيل معنى حسيب: محاسب كما يقال: أكيل بمعنى: مواكل.
والحسيب عند أهل اللغة الكافي. يقال حسبه إذا كفاه، ومنه {عَطَآءً حِسَاباً} [النبأ: 36] أي: كافياً: ومنه {حَسْبُكَ الله} [الأنفال: 64] أي: يكفيك الله.
قوله تعالى: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ}.
(معنى الآية) أنه تخويف وتحقيق للبعث والحشر وأن ذلك لا ريب فيه أي لا شك فيه {يَوْمِ القيامة} يوم القيام لرب العالمين، والهاء زيدت للمبالغة، وقيل: سميت بذلك لأنه يوم يقوم الناس من قبورهم فيه، والهاء للمبالغة أيضاً.
ومعنى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي: لا أحد أصدق حديثاً من الله.(2/1407)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} الآية.
هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، رجعوا إلى المدينة، وقالوا لأصحاب النبي عليه السلام: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} أي: فرقتين {والله أَرْكَسَهُمْ} أي: ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم، وذلك بما كسبوا من خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد وغيره: نزلت في قوم أتوا مكة: زعموا أنهم مهاجرون، ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ففرقة تقول: إنهم منافقون، وفرقة تقول: هم مؤمنون، فأنزل الله الآية.
وقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة مسلمين فأقاموا ما شاء الله، ثم استوخموا المدينة، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى البادية، فأذن لهم، فتكلم الناس فيهم،(2/1408)
واختلفوا في نفاقهم وإيمانهم فأعلمهم الله بنفاقهم وأعلمهم أنه أركسهم بما كسبوا من المعاصي: أركسهم في النفاق بذنوبهم.
وقيل: {أَرْكَسَهُمْ} معناه أضلهم.
ثم قال مخبراً عنهم {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} فدل على أنهم ارتدوا، وأن النفاق كفر، وقوله تعالى {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} يدل على أنهم قوم كانوا بمكة يَدَّعون الإيمان، وليسوا بمؤمنين وهو قول ابن عباس وعمر وغيرهما.
وقيل: إنهم لما خرجوا يريدون البادية مضوا إلى مكة فاختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أمرهم، فأوضح الله عز وجل خبرهم، وحكمهم في هذه الآية.
وقال معمر: كتب ناس من أهل مكة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون لهم: إنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذباً، فلقيهم المسلمون بعد ذلك، فاختلفوا فيهم، فقالت طائفة: دماؤهم حلال، وقالت طائفة: دماؤهم حرام فأنزل الله الآية، وهم ناس لم يهاجروا وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(2/1409)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
وقال ابن عباد: هم قوم كانوا بمكة فكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين على المسلمين فخرجوا من مكة في حاجة، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. وقال ابن زيد: هذا نزل في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم به.
وأركسهم: ردهم، وقيل: أوقعهم وقيل: أضلهم وأهلكهم.
وقال القتبي: أركسهم نكسهم وردهم في كفرهم،، وحكى الفراء أركسهم وركسهم بمعنى ردهم إلى الكفر.
قوله: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} الآية.
هذا تبعيد لهدي من أضل الله {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي: طريقاً مستقيماً، وقيل: سبيلاً إلى الحجة.
قولهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} الآية.
المعنى: تمنى المنافقون الذين بمكة، الذين اختلفتم فيهم فرقتين لو تكفرون مثلهم، فتكونون أنتم وهم في الكفر سواء {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أي: أخلاء {حتى يُهَاجِرُواْ} أي: يخرجوا من ديار الشرك إلى ديار الإسلام، ويكون خروجهم ابتغاء وجه الله {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ} أي: أدبروا عن الله ورسوله والهجرة إليكم، {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي: أين اصبتموهم من أرض الله، {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ}:(2/1410)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
أي: خليلاً {وَلاَ نَصِيراً} أي: تناصراً في دينكم على أعدائكم فإنهم {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118]
قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} الآية.
المعنى اقتلوا من وجدتم من المنافقين الذين اختلفتم فيهم إن لم يهاجروا إلا أن يتصل قوم منهم بمن بينكم وبينهم عهد فيدخلون فيما دخلوا فيه، ويرضون بما رضوا، فلا يقتل من كانت هذه حاله منهم فإن لهم حكمهم.
قال السدي: المعنى إذا أظهروا كفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلا أن يكون أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثلما تجرون على القوم واحكموا في الجميع بحكم واحد.
ومعنى: {يَصِلُونَ} يتصلون.
وقال أبو عبيدة: معنى: {يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ}: ينتسبون إليهم. وهو بعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل من ينتسب إلى من بينهم وبينه عهد، وليس النسب مما يمنع قتال الكفار لعهد بيننا وبين قرابتهم.(2/1411)
وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال قتادة: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ [مِّيثَاقٌ]} نسخ بعد ذلك، فنبذ إلى كل ذي عهد عهده، ثم أمرنا بالقتال في براءة.
وقال ابن زيد: نسخها الجهاد.
قوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} الآية.
المعنى: إلا الذين جاؤوكم قد ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، فدخلوا فيكم، فلا تقتلوهم، {وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي: لسلط عليكم هؤلاء الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، والذين يجيئونكم قد {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي: ضاقت عن قتالكم، وقتال قومهم، فيقاتلوكم مع اعدائكم من المشركين، ولكن الله كفهم عنكم.
وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} ليست اللام بجواب للقسم [كاللام في {لَسَلَّطَهُمْ}، وإنما دخلت للمجاءاة لا للقسم]، ومثله قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21]. ليست اللام(2/1412)
بجواب للقسم وإنما دخلت للمحاذاة للامين اللتين قبلها، اللتين هما جواب قسم سليمان في قوله {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ} [النمل: 21] ولهذا نظائر ستراها.
قوله: {فَإِنِ اعتزلوكم} أي: اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم فلم يقاتلوكم {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم}. أي: صالحوكم، وقيل المعنى: استسلموا إليكم.
{فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي: ليس لكم إليهم طريق فتستحلونهم بما في أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وهذا كله منسوخ بقوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
وقال الحسن وعكرمة: قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ} إلى قوله {سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 91] وقوله: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين} [الممتحنة: 8] إلى {يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8] قالا: بنسخ ذلك في براءة فجعل لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر.(2/1413)
قال قتادة: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} إلى {مُّبِيناً} منسوخ ببراءة، وقال ابن زيد: نسخ هذا كله، نسخة الجهاد وضرب لهم أجل أربعة أشهر إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد.
واختلف في {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، فقال المبرد المعنى: الدعاء، لأنه قال: {أَوْ جَآءُوكُمْ} أحصر الله صدوركم أي: ضيقها عن قتالكم، وقتال قومهم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، فالمعنى أو جاءكم ثم خبر بعد فقال: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، وأكثر النحويين على أنه حال، وقد مضمرة والتقدير: أو جاؤوكم قد حصرت أي: ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. أي: جاؤوكم في هذه الحال فلا تقاتلوهم.
وقال الطبري: المعنى: أو جاؤوكم قد حصرت.(2/1414)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وقرأ الحسن حصرةً بالتنوين والنصب على الحال أي: ضيقت صدورهم، واستحسن هذا المبرد، ويجوز على قراءة الحسن الخفض على النعت، والرفع على الابتداء.
وقرأ أبي بن كعب: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}، وحصرت صدورهم بإسقاط أو {جَآءُوكُمْ}، ولا يقرأ به الآن.
قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} الآية.
المعنى: إن هؤلاء قوم كانوا يظهرون الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا منهم، ويظهرون الكفر لأهل مكة إذا رجعوا إليهم ليأمنوهم، {كُلَّ مَا ردوا} أن يخرجوا من {الفتنة} - وهي الشرك - {أُرْكِسُواْ فِيِهَا}. أي: ردوا فيها. وأصل الفتنة الاختبار فالمعنى فلما ردوا إلى الاختبار. {أُرْكِسُواْ} أي: نكسوا.
قيل: هم أسد، وغطفان قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم رجعوا إلى(2/1415)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
ديارهم، فأظهروا الكفر.
وقيل: نزلت في قوم من المشركين [طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين] قاله قتادة.
وقال: {كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا} أي: كلما عرض عليهم بلاء هلكوا فيه.
وقال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان يأمن في المسلمين والمشركين.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم} أي: فإن لم يعتزلكم هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ويساسلموا [إليكم] ويعطونكم القيادة في الصلح {ويكفوا أَيْدِيَهُمْ} يعني عن القتال. {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: اقتلوهم أين أصبتموهم أي: إن لم يفعلوا ذلك {وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي: حجة {مُّبِيناً} أي: ظاهرة.
قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية.(2/1416)
قوله: {إِلاَّ خَطَئاً} استثناء ليس من الأول.
وإلا عند البصريين في هذا النوع بمعنى لكن.
وهذا كلام أوله حظر، وآخره في الظاهر إباحة، وقتل المؤمن لا يباح لكنه محمول على المعنى الباطن، ومعناه ما كان مؤمن ليقتل مؤمناً على النفي، والنفي يستثنى منه الإثبات، فهو محمول على معنى الأول وباطنه، فالمعنى أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ فهو خبر، خبر بأنه قد يقع، وليس بإطلاق ولا إباحة قتل، ومثله {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] فظاهر هذا الحظر، والله لا يحظر عليه.
ومعنى الآية: أنه ليس لمؤمن قتل مؤمن البتة إلا أن يقتله خطأ، فإن قتله خطأ، فعليه تحرير رقبة في ماله، ودية مسلمة إلى أهل المقتول يؤديها عاقلة القاتل {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي: أن يتصدق أولياء المقتول على عاقلة القاتل بديته فيسقط عنهم الدية.
وقرأ أبو عبد الرحمان السلمي:(2/1417)
{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} بالتاء أراد: تتصدقوا ثم أدغم.
قال مجاهد وغيره: هذه الآية نزلت في عيا [ش] ابن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً يحسب أنه كافر، وقد كان ذلك الرجل يعذب عياشاً بمكة، أخبر عياش النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}.
قال ابن زيد: نزلت في أبي عامر، والد أبي الدرداء خرج في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، فوجد رجلاً في غنم، فقتله، وكان يقول: لا إله لا الله، وأخذ غنمه فوجد من ذلك في نفسه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه النبي (عليه السلام) قتله، إذ قال: لا إله إلا الله فنزلت الآية: وقيل: نزلت في اليمان والد حذيفة،(2/1418)
واسمه حسل من بني عبس قتل خطأ يوم أحد.
وروي أن حذيفة وأبا الدرداء تصدقا بدية أبويهما على من قتلهما، وكذلك قتل هشام بن صبابة الكناني خطأ فنزلت الآية في ذلك.
والآية عند جماعة العلماء عامة في كل من قتل خطأ واختلف في الرقبة، فقيل: لا يُعْتَق إلا مؤمن قد صام وصلى وعقل وبلغ، وقيل: كل مؤمن يجزئ وإن لم يبلغ.
ومعنى {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} أي موفرة، والدية مائة من الإبل على أهل الإبل.
وروي عن عمر أن على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشرة آلاف درهم.(2/1419)
قال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثني عشر ألف درهم.
وقيل: دية الحر مائة من الإبل لا يجزئ غيرها، وبه قال الشافعي، قال إلا ألا توجد فيُأخذ الفدية، ويجعل [الإبل] خمسة أخماس خمس جذاع وخمس حقاق وخمس بنات لبون.
وخمس بنات مخاض وخمس بنو لبون، وهو قول لمالك والشافعي وغيرهما.
ودية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول جماعة الصحابة والتابعين، والفقهاء، إلا الشاذ منهم.(2/1420)
وأهل الذهب: الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي.
وكل ما جناه جان خطأ فعلى عاقلته الدية، إلى أن يكون الذي يجب في ذلك أقل من ثلث الدية، فليس على العاقلة شيء، وذلك في مال الجاني، وتؤجل دية الخطأ في ثلاث سنين، وثلث الدية تؤديها العاقلة في سنة، ونصف الدية يجتهد فيها الإمام، فيجعلها في سنتين أو في ستة ونصف وثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين، وهي على الرجال البالغين دون النساء والصبيان، وليس على كل واحد شيء معلوم ولكن على كل واحد قدر يسره، فأما دية العمد فهي على القاتل خاصة إذا قبلت منه.
وقوله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار أعداء لكم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: والمقتول مؤمن فقتله مؤمن يظن أنه كافر {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي: فعليه ذلك.
قال عكرمة: هو الرجل يسلم في دار الحرب، فيقتل يظن أنه كافر، فليس فيه دية، وفيه الكفارة: تحرير رقبة مؤمنة.
وروي ابن القاسم عن مالك أنه قال: إنما ذلك في حرب رسول الله عليه السلام أهل مكة، يكون فيهم الرجل المؤمن لم يهاجر، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ، فليس على المسلمين فيه دية لأنه تعالى (يقول): {والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ(2/1421)
أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72]، وعليهم الكفارة تحرير رقبة على كل نفس.
وقال ابن عباس والسدي وغيرهما: هو أن يكون الرجل مؤمناً، وقومه كفار لا عهد لهم، فيقتل خطأ، فليس لأهله دية لأنهم كفار، وعلى القاتل الكفارة تحرير رقبة، وقاله قتادة.
وقال الحسن البصري، وجابر بن زيد: هو مؤمن من قوم معاهدين، وهو قول مالك.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه، فيقيم فيهم، وهم مشركون، فيمر بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتل فيمن قتل فلا دية فيه، وفيه الكفارة.
وجماعة أهل التفسير على أن المعنى إن كان المقتول في دار الحرب مؤمناً، وهو من قوم كفار وهو بينهم فلا دية فيه وفيه الكفارة.
قوله: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}.
المعنى: وإن كان المقتول خطأ بين أظهرهم من قوم كفار بينكم وبينهم عهد، ففيه الدية إلى أهله، والكفارة تحرير رقبة مؤمنة.
وقيل: المعنى: إن كان المقتول خطأ في دار قومه من قوم كفار بينكم وبينهم عهد(2/1422)
ففيه الدية والكفارة [كسائر المؤمنين، واختلف في المقتول هنا: فقيل عن ابن عباس أنه إن كان كافراً، ففيه الدية والكفارة] كالمؤمن لأن له عهداً وميثاقاً.
وقال الزهري: دية الذمي دية المسلم.
وقيل: المراد به إن كان المقتول مؤمناً قتل خطأ، وهو من قوم كفار بينكم وبينهم عهد ففيه الدية إلى قومه الكفار، وفيه تحرير الرقبة المؤمنة قاله النخعي ومثله روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهركم لم يهاجر وأصيب خطأ فإن ديته على المسلمين يردونها إلى قومه الذين كان بين أظهركم الكفار، ومما يبين ذلك أن أبا جندل ورجل آخر أتيا النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين في الهدنة، فردهما إليهم فكما كان لهم أن يردوا(2/1423)
إليهم، فكذلك كانت ديته لهم إذا قتل خطأ، ودية الخطأ عند مالك والشافعي في هذا تؤدى في ثلاث سنين على كل رجل ربع دينار، وروي ذلك عن جابر بن عبد الله، وقاله الحسن.
وكان الطبري يختار أن يكون المقتول من أهل الذمة لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل: " وهو مؤمن " كما قال في الأول {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وقد قال جماعة: إن دية الذمي والمسلم سواء، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود ومعاوية. وقال عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير: دية الكتابي نصف دية المسلم، وبه قال عطاء وابن المسيب والحكم وعكرمة، وهو قول الشافعي.(2/1424)
فأما دية المجوسي فثمان مائة درهم روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار، والحسن وعكرمة ومالك والشافعي.
وقال عمر بن عبد العزيز: دية المجوسي نصف دية المسلم.
وروى عن النخعي والشعبي والثوري أن ديته مثل دية المسلم.(2/1425)
وإذا قَتَل العبد المؤمن حراً مؤمناً خطأ، فدمه في رقة العبد وأن لا دية فيه لأن العبد لا عاقلة له وعلى العبد الكفارة، فعتق رقبة على قول من قال: إن العبد يملك ما لم يمنعه سيده، ومن قال: لا يملك العبد، فعليه صيام شهرين متتابعين، وكذلك حكمه في الظهار لا يجزئه الصيام في قول مالك لأنه عنده يملك.
قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} أي: لم يجد رقبة مؤمنة لعسرته، وقلة ما في يده، فعليه صيام شهرين متتابعين.
وقال الشعبي: صوم الشهرين عن الدية والرقبة جميعاً إذا لو يجدها لفقره، وفقر عاقلته.
وقال الطبري: عن الرقبة خاصة لأن الدية على العاقلة، وهو قول جماعة العلماء.
قوله: {تَوْبَةً مِّنَ الله} مصدر، وقيل مفعول من أجله.
{وَكَانَ الله} أي: لم يزل بما يصلح عباده {حَكِيماً} " فيما يقضي به ويأمر ".
تم الجزء الحادي عشر
قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} الآية.(2/1426)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قيل: معناه: من لم يجد الدية، ولا الرقبة، فليصم شهرين متتابعين. وقيل: معناه: من لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين، وهذا القول أولى لأن الدية لم تجب على القاتل خطأ فيكون الصيام يقوم مقامها، وإنما وجبت الدية في الخطأ على العاقلة، فلا يجزئ عنها صوم القاتل.
قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية.
وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والله للدنيا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق ".
وروى عنه أيضاً أنه قال: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب على جبهته: آيس من رحمة الله " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل ذنب عسى [الله] أن يغفره إلا لمن مات مشركاً، أو من قتل مؤمناً متعمداً " المعنى: من يتعمد قتل مؤمن فجزاؤه جهنم.(2/1427)
وقتل العمد عند مالك سواء كان بحجر أو عصا أو حديدة فيه القود. وقال غيره: لا يكون قتل العمد إلا بحديد، وأثبت جماعة شبه العكد وهو قول الشافعي، وهو الضرب بالخشبة الضخمة والحجر، فجعلوا فيه ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة وأربعين خليفة.
وليس عند أكثرهم في القتل غير الخطأ أو العمد، فأما شبه العمد فليس له نص في كتاب الله، ولا تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم. ..
مذهب مالك: ومن أحرق رجلاً قتل به، وهو عمد، ولو أطعمه شيئاً فقتله، وقال: لم أرد قتله إنما أردت أن أسكره، فقال مالك: يقتل، ولا يقبل منه،(2/1428)
وهو عمد. ومن قتل رجلاً بخنق فهو عمد، وقال محمد بن الحسن: إذا خنقه، وألقاه من ظهر جبل أو سلم (فمات) فهو خطأ. وإذا أمسكه واحد وقتله الآخر قتلا به جميعاً عند مالك، إلا أن يكون الممسك أمسكه وهو لا يظن أن الآخر يقتله، فيعاقب ولا يقتل الممسك، وإذا أمر الرجل عبده بقتل رجل فقتله العبد فيقتلان جميعاً عند مالك، وهو قول قتادة.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: أما العبد فيسجن، وأما السيد فيقتل. وقال أبو هريرة: يقتل الآمر دون العبد وكذلك قال الحسن وعكرمة، وقال الشعبي يقتل العبد ويضرب السيد. وقال الشافعي: إن كان العبد أعجمياً، أو صبياً فعلى السيد القود دون العبد، وإن كان يعقل ويفهم، فعلى العبد القود، وعلى السيد العقوبة. فإن أمره رجل بقتل آخر، فقتله فعلى القاتل القود عند مالك، والشافعي، وجماعة من التابعين.
وقوله: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا} معناه: فجزاؤه إن جازاه، قاله التميمي(2/1429)
وغيره، ورواه ابن جبير عن ابن عباس. وهو كما يقول الرجل لعبد قد جنى عليه: ما جزاؤك إلا كذا وكذا، وهو لا يفعل به ذلك، فمعناه هذا جزاؤك إن جوزيت على ذنبك، كذلك الآية، معناها: فجزاؤه إن جوزي على فعله جهنم، والله أكرم الأكرمين، له العفو وله العقوبة بفعل ما يشاء لا معقب لحكمه.
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ}
[النساء: 48] يدل على جواز العفو على القاتل عمداً.
وقيل: إنها نزلت في رجل بعينه أسلم، ثم ارتد، وقتل رجلاً مؤمناً، فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً مستحلاً قتله فجزاؤه جهنم، فالكافر يقتل المؤمن مستحلاً وليس كذلك المؤمن، بل إن قتل فإنما يقتل وهو يعلم أن قتله حرام.
وقيل: نزلت في رجل من الأنصار قُتِل ولي له. وقبل الدية، ثم وثب على قاتل وليه فقتله وارتد، قال ذلك ابن جريج وغيره.
وقال مجاهد: إلا من تاب يعني ان العفو من الله جائز للقاتل عمداً إذا(2/1430)
تاب، وهو قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجماعة من العلماء.
وعن ابن عباس أنه لا توبة له، وأنها محكمة لم تنسخ.
وقال زيد بن ثابت: نزلت {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية بعد أن نزلت
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية بأربعة أشهر.
وقال ابن عباس: هذه الآية التي في النساء مدنية نسخت التي في الفرقان {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] لأنها مكية.
وعن ابن عمر وزيد بن ثابت: إن للقاتل توبة وهو قول جماعة من العلماء لقوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ} [طه: 80] وقوله: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 23]. وروي عن ابن عباس أنه قال: التي في الفرقان نزلت في(2/1431)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
أهل الشرك.
وعن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت سورة النساء بعد الفرقان بستة أشهر.
وكان الطبري يقول: جزاؤه جهنم حقاً، ولكن الله يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيه بالخلود فيها إما أن يعفو، فلا يدخلهم النار، وإما أن يدخلهم، ثم يخرجهم بفضل رحمته لقوله {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 30].
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} الآية.
من قرأ بالتاء، فمعناه: فتثبتوا حتى يتبين لكم الفاسق من غيره، والمأمور بالتثبت في فسحة أوسع من المأمور بالتبيين، لأن المأمور بالتبيين قد لا يعذر على ذلك، والمأمور بالتثبت لا شك أنه يقدر على ذلك، فهو في فسحة من أمره، ومقدرة على فعل ما أمر به، وليس كذلك المأمور بالتبين لأنه قد لا يتبين له ما يريد إذا تبين، والتثبت لا يمنع عليه من نفسه.
ومن قرأ بالياء فمعناه: تبينوا الفاسق من غيره، ولا تعجلوا حتى تتبينوا، فإن العجلة من الشيطان. وقال أبو عبيدة: إحداهما قريبة من (الأخرى).(2/1432)
وقال النحاس وغيره: فتبينوا أؤكد لأن الإنسان قد يتثبت ولا يتبين. وهو لا يتبين إلا مع التثبت، ففي البيان يقع التثبت وليس بالتثبت يقع البيان. [فالبيان] لا بد منه فكل من تبين أمراً فبعد أن يتثبت فيه بان له، وليس كل من تثبت في أمر تبينه، فالبيان على هذا أوكد وأعلم، ولكنه أشد كلفة في التثبت.
ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين إذا ضربوا في الأرض أي: ساروا في الجهاد أن يتثبتوا في القتل، إذا أشكل عليهم الأمر، فلم يعرفوا حقيقة إسلام من أرادوا قتله، وأن لا يقولوا لمن ألقى إليهم السلم، أي: من استسلم في أيديهم {لَسْتَ مُؤْمِناً} ليأخذوا ما معه.
ومن قرأ السلام: فمعناه لا تقولوا لمن سلم عليكم {لَسْتَ مُؤْمِناً} لتأخذوا ما معه، فعند الله مغانم كثيرة من رزقه، فلا يغرنكم سَلَب من استسلم في أيديكم. {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} أي: كنتم من قبل مثل هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله استخفى بدينه من قومه حذراً على نفسه منهم، وكذلك كنتم.
وقيل: معناه، وكذلك كنتم كفاراً مثله، فهداكم الله وأعز دينكم، ومَنَّ عليكم(2/1433)
بالإسلام والتوبة.
وقيل: معنى: {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} فقد مَنَّ الله عليكم بالتوبة من قتيلكم هذا الذي استسلم إليكم، ثم قتلتموه وأخذتم ماله، فتثبتوا أي: لا تعجلوا في قتل من التبس عليكم أمر إسلامه.
وقرأ أبو رجاء: السِلْم بكسر السين.
وقرأ أبو جعفر: (لست مؤمَناً) بفتح الميم أي: لسنا نؤمنك.
وهذه الآية نزلت في قتيل من غطفان اسمه مرداس كان قد أسلم، فقتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قال: إني مسلم، وقيل: بعدما سلم عليهم. وقيل: بعدما قال: إني مسلم لا إله إلا الله، وكانت معه غنيمة فأخذوها.
ويروى أن الذي قتله مات ودفن، فلفظته الأرض ثلاث مرات، يدفن وتلفظه الأرض فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقوه في غار من الغيران، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبرة ".(2/1434)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
وقراءة من قرأ السلام يدل على أن ما روي أنه كان رجل معه غنيمة لقيه سرية من المسلمين، فقال: السلام عليكم، وكانت جُنَّة لا يقتل من قالها، فقتل الرجل وأخذ ما معه.
وحجة من قرأ السلام ما روي أنه قال لهم: إني مسلم وما روي أنه قال: إني مسلم لا إله إلا الله.
قوله: {[إِنَّ الله] كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: خبيراً بما تصنعون في طلبكم الغنيمة، ولم تقبلوا منه ما قال لكم.
قوله: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} الآية.
من قرأ: غيرَ بالنصب فعلى الاستثناء بمعنى [إلا] أولي الضرر، فإنهم يستوون مع المجاهدين، ويجوز النصب على الحال بمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم.
ومن رفع على النعت للقاعدين بمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء عن(2/1435)
الجهاد يوم بدر والمجاهدون.
وقدره أبو إسحاق: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون} الذين هم {غَيْرُ أُوْلِي الضرر}، وهو بمعنى [الصفة] التي ذكرنا وقرأه أبو حيوة غيرِ مخفوض على النعت للمؤمنين. وقال المبرد: هو بدل لأنه نكرة والأول معرفة.
{دَرَجَةً} نصب على البدل من قوله {أَجْراً}.
وقيل: إن فيه معنى التأكيد كما تقول علي ألف درهم عرفاً.
ومعنى الآية: لا يعتدل من جاهد في ذات الله، ومن قعد عن ذلك، إلا أن يكون القاعدون من أولي الضرر، فإنه يستوي مع المجاهد. هذا على قراءة النصب، والنصب في الآية أحسن لما روى البراء رضي الله عنهـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " " إيتوني بكتف أو لوح فكتب " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " وعمر بن أم مكتوم خلف(2/1436)
ظهره فقال: هل لي من رخصة يا رسول الله؟ فنزلت {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} " على الاستثناء.
وقال زيد بن ثابت: املى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله}.
قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، قال: فأنزل الله عليه، وفخذه على فخذه، فثقلت حتى خشيت أن تسترض فخده [ثم] سرى عنه فقال: {غَيْرُ أُوْلِي الضرر}.
وهذا في غزاة بدر، وقد قال ذلك عطاء وقتادة والسدي والزهري ذكروا أن الاستثناء نزل في ابن أم مكتوم.
قوله: {فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً}، أي: فضيلة يريد القاعدين من أولى الضرر، فضل الله المجاهدين على القاعد للضرر درجة واحدة لجهاده بنفسه وماله {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي: المجاهد والقاعد من أولي الضرر، وعدهم الله الحسنى، وهي الجنة لأنهم كلهم مؤمنون.
وذكر الأموال في هذا الموضع، وتفضيل الذين ينفقونها في سبيل الله يدل على تفضيل الغنى على الفقر، وهو في القرآن كثير، فلا يستوي في الفضل من أعطاه الله(2/1437)
مالاً، فأنفقه في سبيله، ومن لم يعطه الله مالاً، فود لو كان معه مال فأنفقه في سبيل الله، لا يستوي [من نوى] ففعل، مع من نوى ولم يفعل، فقد أنفق عثمان رضي الله عنهـ على جيش العسرة وبان بفضل ذلك، وود أصحابه أن يقدروا على مثل فعله. وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أيسر من كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأجمع المسلمون أنهم أفضل ممن هو أفقر منهم في ذلك الوقت من الصحابة.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم " إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل اغنيائهم بنصف يوم من أيام الآخرة " معناه الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأغنياء من غير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لفضل الصحابة لا للفقر.
ويدل على ذلك ما " روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: من أول الناس وروداً الحوض؟ فقال: " نفر من المهاجرين الشعثة رؤوسهم الدنسة ثيابهم، الذين لا(2/1438)
تفتح لهم السدود، ولا ينكحون المتنعمات " ".
قوله: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً} يعني: على القاعدين من المؤمنين من غير أولي الضرر.
وقوله: و " درجات منه " أي فضائل منه، ومنازل من منازل الكرامة.
وقال قتادة: الدرجات كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الإسلام درجة، والقتل في الجهاد درجة.
وقال [ابن] زيد: الدرجات التي فضل بها المجاهد على القاعد تسع، وهي التي ذكرها الله عز وجل في براءة، قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120]. فذلك خمسة، والسادسة والسابعة قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121].
وقيل الدرجات: سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد(2/1439)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
المضمر سبعين سنة.
قوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} الآية.
المعنى: إن الذين تقبض الملائكة أرواحهم ظالمين أنفسهم أي مكتسبين غضب الله عز وجل وسخطه {قَالُواْ}: أي: قال لهم الملائكة {فِيمَ كُنتُمْ} أي: أي شيء كنتم من دينكم؟
وقيل المعنى: قالت لهم الملائكة: أكنتم في المشركين، أم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابوا الملائكة بأن قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} في أرضنا بكثرة العدو، وقوته قالت لهم الملائكة، {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} أي: تخرجوا من بين أظهر المشركين إلى أرض الإيمان.
{فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم مصيرهم إلى جهنم وهي سكناهم {وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي: ساءت جهنم مصيراً لأهلها.
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أسلموا والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر النبي عليه السلام أقاموا بمكة، فمنهم من ارتد إلى الشرك فتنه أبوه وعشيرته حتى ارتد، ومنهم من بقي على حاله.
فلما خرج المشركون لنصرة غيرهم إلى بدر خرجوا مع المشركين، وقالوا إن(2/1440)
كان محمد في كثرة ذهبنا إليه، وإن كان في قلة بقينا في قومنا.
فلما التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، في بدر نظروه في قلة فبقوا في قومهم فقتلوا، فتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فاعتذروا بأنهم استضعفوا بمكة، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان} وهو من عجز عن الهجرة، ولا طاقة له بالخروج قد استضعفهم المشركون {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي لا يعرفون طريقاً يخلصهم من المشركين، لا قوة لهم ولا معرفة طريق {فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ [عَنْهُمْ]} أي إن هؤلاء المستضعفين لعل الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون.
{وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} أي: بعباده قبل أن يخلقهم ومعناه: لم يزل كذلك.
وقيل: إن (كان) من الله بمنزلة ما في الحال. فالمعنى والله عفو غفور.
وروي أن هاتين الآيتين، والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا، وآمنوا، وتخلفوا عن الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المؤمنين، فلم يقبل الله تعالى معذرتهم وقولهم(2/1441)
" كنا مستضعفين في الأرض ".
وقال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وأخفوا الإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم لقتال المسلمين، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية فكتب المسلمون إلى من بقي بمكة: ألا عذر لهم بهذه الآية، فخرجوا من مكة فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم
{وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] فكتب بها المسلمون إليهم، فخرجوا، ويئسوا من كل خبر فنزل فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} [النحل: 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
ومعنى: {المستضعفين مِنَ الرجال} يعني الشيخ الكبير.
قال السدي: " لما أسر العباس، وعقيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: " افْدِ(2/1442)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
نفسك، وابن أخيك " فقال: يا رسول الله، ألم نصل [ل] قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: " يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم "، ثم تلا عليه هذه الآية: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} " فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجروا {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي: لا يعرفون طريقاً إلى المدينة.
قال ابن عباس: كنت أنا من الولدان.
وروى عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
قال السدي: الحلية المال، والسبيل الطريق إلى المدينة.
قوله: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
المعنى أن من يفارق أرض الشرك، ويمضي إلى أرض الإسلام فإنه يجد مذهباً، ومسلكاً إلى أرض الإسلام، فالمراغم: المذهب.
قال مالك: المراغم الذهاب في الأرض، والسعة سعة البلاد.
قال مالك: لا ينبغي المقام في أرض يسب فيها السلف، ويعمل فيها بغير الحق، والله يقول: {يَجِدْ فِي الأرض مراغما كَثِيراً وَسَعَةً}.(2/1443)
وقال الثوري: ومعنى " وسعة " أي: سعة من الرزق.
وقال ابن عباس: المراغم: المتجول من أرض إلى أرض.
وقال مجاهد: المراغم: المندوحة عما يكره.
وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر.
وقال أهل اللغة: المراغم: المضطرب والمذهب.
قوله: {وَسَعَةً} يريد سعة في الرزق.
وقال قتادة: " وسعة " أي " سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.
والمراغم: مشتق من الرغام وهو التراب، يقال: رغم أنف فلان: إذا ألصق بالتراب، يستعار ذلك لمن ذل وصغر. يقال راغمت فلاناً: إذا عاديته. فسمي المهاجر مراغماً، لأن المهاجر يعادي من يخرج عنه من أهل الكفر.
وقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً} الآية.
المعنى: إنه لما نزل {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية.(2/1444)
قال ضمرة بن نعيم وكان بمكة عليلاً: لي مال ولي رقيق، ولي خليلة، فاحملوني فخرج، وهو مريض أو هاجر، فأدركه الموت، عند التنعيم فدفن، ثم نزلت فيه {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ}.
وقيل: اسم أبيه جندب، وقيل زنباع، وقيل العيص.
وقال ابن زيد: هو رجل من بني كنانة هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فمات في الطريق، فسخر به قومه واستهزءوا وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه، فأنزل الله {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} الآية.
ومعنى: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} قال ابن جبير: هو رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، كان مريضاً فأمر أهله أن يحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير ففعلوا، فأتاه الموت بالتنعيم فنزلت فيه الآية وفي من كان مثله.
وقيل: نزلت في رجل من كنانة من بني ضمرة مرض بمكة بعد إسلامه،(2/1445)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
فقال: أخرجوا بي إلى الروح، يريد المدينة، فخرجوا به، فلما كان بالحصاص مات قال عكرمة.
وبهذه الآية أوجب العلماء للغازي إذا خرج للغزو ثم مات قبل القتال أن يعطى سهمه، وإن لم يشهد الحرب وذلك مذهب أهل المدينة فيما ذكر يزيد بن [أبي] حبيب، ذكر ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد.
قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الآية.(2/1446)
ذكر بعض أهل المعاني [أن الآية] في قصتين وحكمين.
فقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} في الإقصار في السفر، وتم الكلام عند قوله: {مِنَ الصلاة}.
ثم ابتدأ قصة أخرى في إباحة صلاة الخوف وصفتها.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ سأل قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا يا رسول الله: أنضرب الأرض؟ أي: نسير، فأنزل الله عز وجل { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول وغزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم هو وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله عز وجل { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} - إلى قوله - {عَذَاباً مُّهِيناً} فنزلت صلاة الخوف بكيفيتها.
وقال ابن عباس: معنى القصر هنا هو أن يقصروا من ركوعها وسجودها في حال الخوف، ويصلي كيف ما أمكن إلى القبلة وإلى غيرها ماشياً أو راكباً، كما قال: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] وهو اختيار الطبري، قال: ودليله قوله {فَإِذَا اطمأننتم} وإقامتها إتمام ركوعها وسجودها، وفرائضها من قبلة وغيرها.
فقد قال جماعة من التابعين والصحابة منهم: حذيفة وجابر بن عبد الله وابن(2/1447)
جبير، وروى مجاهد عن ابن عباس، وقالوا: فرض الله على المقيم أربعاً، وعلى المسافر ركعتين وفي الخوف الخوف ركعة، قالوا: فقصر الصلاة في الخوف أن تصلي ركعة لأنهم مسافرون، فصلاتهم ركعتان، وقصر الركعيتن لا يكون إلى ركعتين إنما ذلك أن يصلوا ركعة واحدة، وتواترت الأخبار عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم أتمت صلاة المقيم، وأُقرت صلاة المسافر بحالها.
وقرأ أبي بن كعب " أن تقصُروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " بحذف {إِنْ خِفْتُمْ} على معنى كراهة أن يفتنكم.
وروي عن عائشة أنها قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها إلا صلاة المغرب فإنها وتر، وإلا صلاة الصبح لطول قراءتها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى ركعتين.
قال ابن عباس: من صلى في السفر أربعاً كمن صلى في الحضر ركعتين.(2/1448)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
(وقال عمر بن عبد العزيز: صلاة السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرهما)، وروى عن مالك الإعادة على من أتم في السفر.
قال ابن القاسم: في الوقت يعيد.
وقال أصحاب الرأي: إذا صلى المسافر أربعاً، فقعد في الثانية قدر التشهد فصلاته تامة، وإن لم يقعد قدر التشهد، فصلاته فاسدة وقال الشافعي وأبو ثور: المسافر بالخيار في الإتمام والقصر.
قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} الآية.
المعنى: وإذا كنت يا محمد في الضاربين في الأرض من أصحابك، وثم خوف من عدو فأقمت لهم الصلاة {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ [مِّنْهُمْ]} معك في الصلاة وباقيهم في وجاه العدو {وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ} أي: ولتأخذ الطائفة المصلية معك أسلحتهم من سيف يتقلد به الرجل، وخنجر يشده إلى وسطه، ودرع يلقيه على نفسه (ونحوه).
وقال ابن عباس: الطائفة المأمورة بأخذ السلاح التي وجاه العدو، وليست المصلية، لأن المصلي لا يحارب.(2/1449)
وقال النحاس: " يجوز أن يكون الجميع هو المأمور بأخذ السلام لأن ذلك أهيب للعدو، ويجوز أن يكون المأمور بذلك هو الذي وجاه العدو، لأن الذي في الصلاة لا يقاتل ".
قوله: {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي: سجد الذين معك " {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} أي: فلينصرفوا بعد سجودهم خلفكم في موضع الذين لم يصلوا.
فمن قال إن صلاة الخوف ركعة قال: ينصرفون بسلام فيقفون بإزاء العدو ولا قضاء عليهم، وتأتي طائفة أخرى فيصلي بهم ركعة ويسلمون بسلام الإمام، ولا قضاء عليهم، وكذلك وصف حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة بكل طائفة، ولم يقضوا شيئاً.
وقد روى عن جابر بن عبد الله، وعمر وابن عمر أن الركعتين ليستا بقصر.
وروي عن جابر أنه قال: ليست الركعتان في السفر بقصر إنما القصر واحدة عن القتال وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة وحماد في شدة الحرب قالوا: يؤمنون بها.
وقال الضحاك: فإن لم يقدروا يكبروا تكبيرتين حيث كان وجهه.
وروى الزهرى عن سالم عن ابن عمر أنهم يصلون ركعتين كيفما تيسر، وحيثما(2/1450)
توجهوا، وهو مذهب مالك، والشافعي والنخعي والثوري وأكثر الفقهاء.
وصفة ذلك أن يقوم الإمام بطائفة، والأخرى وجاء العدو، فيركع بالطائفة التي معه، ركعة بسجدتيها ثم يقوم ويثبت قائماً ويتمون لأنفسهم الركعة الثانية. ثم يسلمون وينصرفون وجاه العدو والإمام قائم وتأتي الطائفة الأخرى فيكبرون مع الإمام ويركع بهم الركعة الأخرى بسجدتيها ثم يسلم، ويقومون فيأتون بركعتهم لأنفسهم بسجدتيها، ثم يسلمون وفيها أقوال غير ما ذكرنا.
ولا يصلي صلاة الخوف إلا من كان في سفر عند مالك.
فأما الخائفون في الحضر فإنهم يصلون أربعاً على سنة صلاة الخوف إذا خافوا العدو، ويصلى الإمام في الخوف لأهل الحضر والسفر المغرب بالطائفة الأولى ركعتين ثم يتشهد بهم، ويثبت قائماً. ويتمون لأنفسهم ويسلمون، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويتشهد ويسلم، ويقومون هم لتمام ما بقي عليهم، ويقرأون فيما يقضون بأم القرآن وسوره.(2/1451)
وفي حديث يزيد بن رومان: لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الأخرى لنفسها ما بقي عليها، ثم يسلم بهم.
وفي حديث ابن القاسم أنه يسلم ويقومون يتمون ما بقي عليهم، وإليه رجع مالك، وقد كان يقول بحديث يزيد بن رومان ثم رجع عنه لحديث القاسم.
فإن سها الإمام بنقص سجدت الطائفة الأولى قبل السلام بعد قضاء ما عليها، وإن زاد سجدت بع السلام، والإمام قائم لا يسجد، فإذا أتت الطائفة الأخرى صلى بهم الركعة الباقية.
فعلى حديث القاسم يسجد ويسلم إن كان نقصاً، ولا يسجدون حتى يتموا لأنفسهم. وسجدوا بع السلام إن كان زيادة، ويسجدون هم أيضاً إذا أتموا، وعلى قول ابن رومان يثبت حتى يتموا لأنفسهم ثم يسجد بهم، ويسلم أو يسلم ويسجد.
قوله: {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} الآية.
معناها: تمنى الكافرون [لو] تشتغلون بصلاتكم عن سلاحكم وأمتعتكم(2/1452)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
التي بها بلاغكم في أسفاركم، فيحملون عليكم حملة واحدة فيقتلونكم، فحذر الله المؤمنين وأعلم بما تمنى به المشركون وأمرهم أن يقترفوا عند الصلاة، فتقوم طائفة مع الإمام وطائفة تمنع العدو، على الترتيب الذي ذكرنا رفقاً منه تعالى بالمؤمنين وتيسيراً عليهم.
قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} الآية.
(أي: ليس عليكم إثم إن نالكم ضرر من مطر، وأنتم وجاه العدو، وإن كنتم مرضى أي: جرحى أو أعلاه، {أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} أي: ضعفتم عن التمادي في حملها فأباح تعالى للمؤمنين أن يضعوا السلاح إذا وجدوا ضرراً في حملها، ولكن حذرهم عند وضعها فقال: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} لئلا يميلوا عليكم وأنتم غير مسلحين غافلين.
وأصل الجناح: العدل، ومنه جناح الطائر لأنه غير معتدل والإثم غير مستو فسمي به.
قوله: {عَذَاباً مُّهِيناً} أي مذلاً.
وذكر ابن عباس أن قوله {أَوْ كُنتُمْ مرضى} نزل في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً.
قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة. . .} الآية.
المعنى: إن الله تعالى أمرهم بذكره بعد الفرائض من الصلاة التي قد بينها لهم(2/1453)
إرادة البركة بالذكر ليكون سبب النصر على الأعداء والفتح، ونظيره قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45].
قوله: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة} [أي: فإذا سكن خوفكم، فأقيموا الصلاة] بتمامها في أوقاتها كما فرضت عليكم.
فالمعنى: عند من جعل القصر في صلاة الخوف هو النقص من تمام السجود والركوع لا من العدد: فإذا أمنتم في سفركم، فأتموا الركوع والسجود، قاله السدي وهو اختيار الطبري.
والمعنى عند من لم ير ذلك: فإذا اطمأننتم في أمصاركم ودوركم، فأقيموا الصلاة التي أمرتم أن تقصروها في حال خوفكم وسفركم، قال ذلك مجاهد وقتادة.
وقال ابن يزيد: المعنى: فإذا اطمأننتم من عدوكم فصلوا الصلاة، ولا تصلوها ركباناً، ولا مشاة ولا جلوساً فهو إقامتها.
قوله: {كتابا مَّوْقُوتاً} أي: فريضة مفروضة قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقال قتادة: {كتابا مَّوْقُوتاً} منجماً يؤديها في أنجمها أي: في أوقاتها.
وقيل: معنى {مَّوْقُوتاً} محتوماً لا بد من أدائها بتمامها في أوقاتها.(2/1454)
وقال ابن مسعود: إن للصلاة وقتاً كوقت الحج.
وقال ابن زيد بن أسلم: " كتاباً موقتاً " أي منجماً. كلما [مضى] نجم أي: كلما [مضى] وقت جاء وقت.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس بين العبد والكافر إلا ترك الصلاة ".
وقال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر ".
وقال النخعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق: من ترك الصلاة عامداً حتى خرج وقتها بغير [عذر] فهو كافر، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولم يسمعه مالك كافراً، ولكن قال: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك قال الشافعي.
وروي أنه يستتاب ثلاثاً فإن صلى وإلا قتل.
وقال الزهري: يضرب ويسجن إلا أن يكون ابتدع ديناً غير دين الإسلام، فإنه(2/1455)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
يقتل إن لم يتب.
قوله: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ. . .} الآية.
قرأ عبد الرحمن الأعرج: أن تكونوا تالمون بفتح إن على معنى لأن تكونوا أي: لا تهنوا من [أجل] ألمكم،، أي لا تضعفوا عن عدوكم من أجل ما أصابكم من الجراح، والتعب فإنهم قد أصابهم مثل ما أصابكم، ولكم عليهم فضيلة، وهي أنكم ترجون من الله الجنة في الآخرة، والأجر والخلاص من النار، وترجون الغنيمة في الدنيا وهم لا يرجون جنة ولا أجراً، ولا يأمنون من عذاب، فأنتم أيها المؤمنون أولى ألا تضعفوا وأن تصبروا على عدوكم.
وقيل: معنى ترجون هنا: تخافون.(2/1456)
وقيل: لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا إذا تقدمه جحد، كقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي: لا تخافون الله عظمة.
والرجاء هنا بمعنى الأمل أحسن وأقوم.
ومعنى: {ابتغآء القوم} في طلبهم.
فقال عكرمة نزلت يوم أحد {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140] ونزلت {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ}.
قال ابن عباس: " لما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد الجبل جاء أبو سفيان فقال: يا محمد: ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال، يوم لما ويوم لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجيبوا- "، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: عزى لنا ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: إن الله مولانا ولا مولى لكم.(2/1457)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
قال أبو سفيان: أُعْلُ هبل، أُعْلُ هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قولوا): [الله] أعلى وأجل ".
قال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم بدر الصغرى، وكان بالمسلمين جراح. فقاموا وبهم الجراح.
قوله: {وَكَانَ الله عَلِيماً} أي: لم يزل عالماً بمصالح خلقه. {حَكِيماً} أي: حكيماً في تدبيره وتقديره.
قوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} الآية.
المعنى: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} أي: بما أنزلنا إليك من كتابه {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي: لا تكن لمن خان مسلماً أو معاهداً خصيماً.
وقد كثرت الروايات في السبب التي نزلت فيه هذه الآية. غير أنها، وإن اختلفت ألفاظها ترجع إلى معنى واحد.
واختصار القصة أن رجلاً من الأنصار اسمه: طعمة بن أبيرق وكان منافقاً، سرق درعاً لعمة كانت عنده وديعة، فلما أن خاف أن يعرف فيه قذفها على يهودي، وأخبر بني عمه بذلك فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بالدرع، وقال: والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي، فلما رأوا ذلك بنو عم طعمة جاءوا إلى(2/1458)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرئوا صاحبهم من الدرع، ويسألونه أن يبرئه منها، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئه من السرقة حتى نزل {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يريد طعمة وبني عمه.
وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأه بقولهم على رؤوس الناس.
فقال الله عز وجل: { استغفر الله} أي: مما هممت به، ومما فعلته {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يريد طعمة ومن أعانه وهو يعلم بسرقته.
وقال السدي: بل الخيانة التي ذكرها الله عز وجل هي وديعة كان قد استودعها يهودي عند طعمة بن أبيرق وهي درع، فأخفاها طعمة، وجحدها، ثم رماها في دار رجل آخر من اليهود. فأتى اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنها رميت في داره.
وروي أن طعمة قال لليهودي صاحب الدرع: إنك إنما استودعت درعك عند فلان، وأنا أشهد لك عليه، ثم ألقى طعمة الدرع في دار ذلك الرجل الذي يريد أن يشهد عليه فجادل الأنصار عن طعمة أنه لم يفعل شيئاً، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل فأنزل الله عز وجل { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} إلى رأس ثلاث آيات.(2/1459)
ولما نزل القرآن في طعمة لحق بقريش وارتد، ثم عاد، إلى مشربة الحجاج حليف لبني عبد الدار فنقبها فسقط عليه حجر، فوحل لحمه، فلما أصبح أخرجوه، ونفوه من مكة فخرج فلقي ركباً فعرض لهم، وقال: ابن سبيل منقطع به، فحملوه حتى إذا جن الليل عدا عليهم، فسرقهم، ثم انطلق، فخرجوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات.
قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت.
ومعنى: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يُخوِّنونها، أي: يجعلونها خونة أي: يلزمون الخيانة.
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} أي: لا يحب من كانت هذه صفته.
قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يخفون أمر خيانتهم من الناس الذين لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً.
و {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} الذي هو مطلع عليهم، ويعلم ما تخفون فهو أحق أن(2/1460)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
يستخفى منه {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} وذلك أنهم قالوا: تقول إن اليهودي سرقها، ويحلف طعمة على ذلك، فيقبل من طعمة بيمينه، لأنه على دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل من اليهودي لأنه على غير دينه فهذا ما أعدوا في الليل.
وقيل: يبيتون " يبدلون، وقيل يؤلفون ".
وهذا كله في الرهط الذي مشوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طعمة يبرئونه وهم يعلمون أنه سارق الدرع.
وعن ابن عباس: " أن طعمة دفن الدرع فأتي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إذا غَدوت من منزلك، فإنك سترى أثراً بيناً، فاتبعه حتى إذا انقطع، فأمر من يحفر، فإن الدرع مدفون ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فاستخرج الدرع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر فمن كان ألحن بحجته من صاحبه فقضيت له بحق ليس له، فإنما أقطع له قطعة من النار: وهرب المنافق إلى مكة ".
قوله: {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} أي لم يزل محيطاً بما يصنعون وما يبيتون لها، لا يخفى عليه شيء منها حتى يجازيهم بها.
قوله: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} الآية.(2/1461)
أم في قوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ} منفصلة من " من " في أربعة مواصع فقط في السواد.
{أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة: 110].
{أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} [الصافات: 11].
{أَم مَّن يأتي آمِناً} [فصلت: 39].
وسائره في القرآن " أمَّن " غير منفصل والانفصال هو الأصل، والاتصال استخفاف إذ وجب الأدغام، والمدغم بمنزلة حرف واحد فكتب على ذلك.
و" هؤلاء " بمعنى الذين خبروا الابتداء.(2/1462)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
وقيل: " هؤلاء " نداء ولم يجزه سيبويه [لأنه] لا يجيز حذف حرف من المبهم، ولا من النكرة، ويجيزه الكوفيون وكلهم أجازوا الحذف من غير هذين النوعين كقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29] وكقوله: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي} [آل عمران: 40] وحذفه من المضاف كثير في القرآن والكلام.
والمعنى أنتم الذين جادلتم عنهم أي: عن بني أبيرق في الحياة الدنيا {فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} أي: فمن يخاصم الله في الآخرة؟ " أم من يكون عليهم وكيلاً "؟ أي من ذا الذي يتوكل لها، ولا الخائنين يوم القيامة في خصومتهم بين يدي ربهم، الذي يعلم الغيوب، ولا يستر عليه شيء مما بيتم وما صنعتم.
قوله: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية.
هذه الآية نزلت في الذين يختانون أنفسهم الذين ذكرهم الله أولاً [و] أخبر أنه من عمل سوءاً [أ] وذنباً أو ظلم نفسه بأن ألزمها ما يستحق عليه العقوبة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} أي: يستدعي المغفرة من الله فإنه يجد الله غفوراً لذنبه، رحيماً به، وهي عامة في كل من أصاب ذنباً.(2/1463)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
قوله: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} الآية.
المعنى: من يكسب ذنباً فإنما وباله على نفسه دون غيره، فالمعنى، لا تجادلوا عن من اختان نفسه، فإن من كسب ذنباً فإنما هو راجع عليه {وَكَانَ الله عَلِيماً} أي: عالماً بما تصنعون أيها المجادلون وجميع خلقه.
و {حَكِيماً} بسياستكم وجميع خلقه.
قوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} الآية.
الخطيئة ما أتاه الإنسان [من ذنب] متعمداً، وغير متعمد والإثم ما أتاه متعمداً فقط. ومن أجل ذلك فصل بينهما في الاكتساب.
فالمعنى: ومن يكسب خطيئة على غير عقد منه لها، أو إثماً على عمد منه، {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أي يضيف ذلك إلى بريء {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً} أي تحمل بفعله ذلك فرية وكذباً وإِثْماً عَظِيماً.
وقيل: إن الخطيئة والإثم واحد، ولكن لما اختلف اللفظان جاز.
وقيل: إن الخطيئة هي الصغيرة، والإثم في الكبيرة ولذلك انفصلا.
وقال أبو إسحاق: سمى الله تعالى بعض المعاصي خطايا، وسمى بعضاً إثماً فأعلم أن من اكتسب معصية تسمى خطيئة، أو كسب معصية تسمى إثماً، ثم رمى(2/1464)
بها من لم يعملها {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}.
والبهتان: الكذب.
وهذا نزل في شأن طعمة وما رمى به اليهودي أو غيره من سرقة الدروع، والهاء في " به " تعود على الإثم، ولا يجوز أن تعود على الإثم والخطيئة، لأنها بمعنى الجرم والذنب، ولأن الأفعال، وإن اختلفت العبارات منها فهي راجعة، إلى معنى واحد، فرجعت الهاء على ذلك، هذا قول من قال: لما اختلف اللفظان جاز أن يكررا، والمعنى فيهما سواء.
ويجوز أن تعود على الخطيئة لأنها بمعنى الذنب.
وقيل: تعود على الكسب [ودب] عليه يكسب.
وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ}.
المعنى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بأن نبهك على الحق، وعصمك بتوفيقه، وبين لك من الخائن {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} بمساعدتهم، فتبرئ طعمة من سرقة الدروع على رؤوس الملأ، وتلحقها باليهودي لأنهم سألوه في ذلك، فهم به حتى نزلت عليه الآية، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} أي ليس يضرك هؤلاء الخائنون شيئاً، إنما يضلون أنفسهم ويضرونها.(2/1465)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قوله: عز وجل { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} الآية.
المعنى: لا خير في كثير من نجوى المتناجين من الناس إلا في من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير، فنجوى على هذا اسم للناس المتناجين.
والصدقة: معروف.
وقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} هو جميع فعل الخير غير الصدقة.
وقد قيل: المعروف في هذا: القرض يقرضه الإنسان المحتاج فقد أتى: " أن القرض كالصدقة " وأن فيه أجراً عظيماً.
وقيل: المعنى: لا خير في كثير من نجوى الناس إلا في نجوى من أمر بصدقة.
فتكون على القول الأول النجوى هم الناس، ولكنه خرج على جمع جرحى،(2/1466)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
وشكرى، ويكون في القول الثاني على بابها: اسم للسر لكن تقدر في الثاني حرف تقديره " إلا في نجوى من أمر بصدقة ".
قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى. . .} الآية.
المعنى: من يباين الرسول من بعدما تبين له أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به الحق {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غير طريقهم، ومنهاجهم، وهو التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما [جاء به] {نُوَلِّهِ مَا تولى} أي: نجعل ناصره من استنصر به واستعان به الأوثان والأصنام.
وقال مجاهد: {نُوَلِّهِ مَا تولى}: نتركه وما يعبد.
وقيل: نتركه واختياره.
{وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي نجزه بها.
{وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي ساءت جهنم مصيراً، وهو الموضع الذي يصير إليه.(2/1467)
ونزلت هذه الآية أيضاً في الخائنين الذين تقدم ذكرهم لما أبى التوبة طعمة بن الأُبيرق، لحق بالمشركين من عبدة الأوثان مرتداً عن الإسلام، فهو [من] الذين شاقوا الرسول من بعد أن كان مؤمناً، واتبع غير طريق المؤمنين. ورجع إلى عبادة الأصنام، فقال الله عز وجل: { نُوَلِّهِ مَا تولى}.
" وجهنم ": في قول بعض اللغويين اسم مختلق للنار، لا يعرف له اشتقاق، ومُنِع من الصرف للتعريف والعجمة.
وقال أكثرهم: هو اسم عربي مشتق من قول العرب: هذه رِكية جهنام: إذا كانت بعيدة القعر، فسميت النار جهنم لبعد قعرها، ومنعت من الصرف على هذا القول للتعريف والتأنيث.
ولما مات ابن الأبيرق مقتولاً من أجل السرق الذي سرق بعد ارتداده، أنزل الله عز وجل { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} معناه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك به، ومات على شركه، ولا لمن هو مثله، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} يعني أن طعمة لولا أنه أشرك ومات على شركه لكان في مشيئة الله سبحانه على ما سلف من(2/1468)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
خيانته ومعصيته.
{وَمَن يُشْرِكْ بالله} أي: من يجعل له في عبادته شريكاً فقد ذهب عن طريق الحق، وزال عن قصد السبيل ذهاباً بعيداً.
قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً. . .} الآية.
المعنى: إن الله أخبر عما يعبد الذين ذهب إليهم طعمة، وصار على دينهم وهم كفار قريش.
ومعنى: {إناثا} اللات والعزى ومناة ونائلة، فسمى هذا إناثاً لأن المشركين سموها بأسماء الإناث، قاله السدي وابن زيد.
وقال الحسن: الإناث هنا. المرأة حجر أو خشب.
وقال الضحاك: قوله: {إناثا} هو أن المشركين كانوا يَدَّعون أن الملائكة بنات الله تعالى الله أن يكون له ولد.
وقيل: إنهم كانوا يقولون لأصنامهم أنثى بني فلان، فأنزل الله ذلك كذلك على نحو تسميتهم لها.
وقال مجاهد: {إناثا} أي إلا أوثاناً. وفي مصحف عائشة إلا أوثاناً.
وكان ابن عباس يقرأ [أُثُنا] جمع [وثن وأصل الهمزة على هذا واو مثل(2/1469)
إخوة، وحقيقة هذا الجمع أنه جمع وثنا على] وثان كجمل وجمال، ثم جمع وثاناً على وُثُن كمثال ومُثُل ثم أبدل من الواو همزة.
قوله: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} أي ما يدعون إلا شيطاناً متمرداً على الله سبحانه، والمتمرد الخارج عن الخير.
والمريد: العاتي {لَّعَنَهُ الله} أي قد لعنه الله أي: أخزاه وأبعده من كل خير.
وقال {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} أي معلوماً. قال الشيطان إذ لعنه الله: لأتخذن منهم بإغوائي إياهم عن طريق الحق نصيباً مفروضاً، أي: معلوماً، وقال الشيطان أيضاً: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} أي: عن الحق إلى الكفر {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي ولأزيغنهم بما أجعله في نفوسهم من الأماني عن طاعتك (و) توحيدك إلى طاعتي.
وقيل: المعنى: أمنيهم طول الحياة وتأخير التوبة مع الإصرار على المعاصي.
{وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} أي: لآمرنهم أن يشرعوا غير ما شرعت لهم(2/1470)
فأجعلهم يقطعون [آذان الأنعام، وهي البَحيرة كانوا يقطعون] آذانها لطواغيتهم، وهو دين شرعه لهم إبليس.
والبَحيرة كانت عندهم: الشاة أو الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن شقوا آذانها، ولم ينتفعوا بها.
والبتك: القطع.
{وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} الآية.
(قيل: إخصاء البهائم، قاله عكرمة وسفيان).
وقال ابن عباس: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} دين الله، قاله مجاهد. وروي عن قتادة والحسن والضحاك {خَلْقَ الله} الفطرة دين الله.
وقيل: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} هو: الوشم.
وقيل: معنى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} هو أن الله خلق الشمس والقمر، والحجارة(2/1471)
للمنفعة [بها] فحولوا ذلك، وعبدوها من دون الله.
وكان الطبري يختار قول من قال: المعنى دين الله، لقول الله تبارك وتعالى: {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] وقوله {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ [الله]} [الروم: 30] أي: دينه يدل عليه قوله: {ذَلِكَ الدين القيم} [الروم: 30].
قوله: {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله} أي: يطيعه في معصية الله سبحانه {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} أي: هلك هلاكاً ظاهراً.
وقوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} أي: يعد أولياءه، ويمنيهم الظفر [على] من حاول خلافهم {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: باطلاً لأنه يقول لهم يوم القيامة {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ. .} [إبراهيم: 24] الآية.
وقيل معنى: {يَعِدُهُمْ} أي: يعدهم الرياسة والجاه والمال.
قوله: {فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي: أولئك الذين اتخذوا الشيطان ولياً {مَأْوَاهُمْ} أي: مصيرهم إليها {جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي: لا يجدون عن جهنم إذا(2/1472)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
صيرهم إليها معدلاً يعدلون إليه، ولا محيداً.
يقال: حاص فلان عن الأمر إذا عدل عنه وحاد.
وحكى جاص بالجيم والصد المعجمة بمعنى جاص في الكلام لا في القرآن.
قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} الآية.
المعنى: إن الله يدخل المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار وعداً حقاً لا كعدة الشيطان لأوليائه، وتمنيه الذي هو غرور {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} أي: لا أحد أصدق منه قيلاً والقول والقيل سواء.
وقيل: تمام إن جعلت قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} مخاطبة للمسلمين، مقطوعاً عما قبله وإن جعلته مخاطبة للكفار الذي تقدم ذكرهم لم يكن {قِيلاً} تمام وكان قطعاً.
قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} الآية.
قال مسروق: تفاخر النصارى والمسلمون، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم.(2/1473)
فأنزل الله عز وجل: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} الآية.
ثم أفلح الله تعالى حجة المؤمنين فقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} ثم زاد في الفضل فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية.
وقال قتادة: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أحق بالله منكم، وقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الآية.
أي: ليس ذلك الي قلتم بأمانيكم ففي ليس اسمها في جميع هذه الأقوال.
{مَن يَعْمَلْ سواءا} ابتداء شرط، وجوابه خبره وهو: {يُجْزَ بِهِ}.
وقال الضحاك: تخاصم أهل الأديان: اليهود والنصارى والمسلمون فأنزل الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الآية.
وقال مجاهد: عنى بذلك أهل الشرك من عبدة الأوثان، قالوا: لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111].
فأنزل الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} يعني المشركين في قولهم: لن نبعث ولن نعذب.(2/1474)
{ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} يعني قولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} خلافاً لمن أدعى الجميع.
والمعنى: ليس الكائن من أمركم بما تتمنون يا أهل الشرك ولا بما يتمنى أهل الكتاب، وهو اليهود والنصارى بل {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ}.
وقيل: التقدير: ليس ثواب الله بأمانيكم لأنه قد جرى ذكر ذلك في قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ} الآية {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} أي: مقدار النقير وهو النقطة في ظهر النواة وهي منبت النخلة.
وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} ذلك ما يصيبهم في الدنيا، وقاله مجاهد وغيره.
وقال الحسن: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} الكافر وقرأ {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [سبأ: 17]، وقال في قوله {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} [النجم: 31]: " هِمُ الكُفَّارَ " {وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31] قال: كانت والله لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم بها.
وقال ابن زيد: يعني المشركين يريد بالآية قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم(2/1475)
سيئاتهم.
وقال الضحاك: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} يعني بذلك اليهود والنصارى، والمجوس وكفار العرب.
قوله: {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}.
وروي أن هذه الآية لما نزلت قال أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ: " يا رسول الله: وإن لمجزون بأعمالنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما المؤمن فيجزى بها في الدنيا، وأما الكافر فيجزى بها يوم القيامة " ".
وقال الحسن وابن أبي كثير {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} أي يعمل شركاً يجز به بدلالة قوله: {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} وتلاها الحسن مع هذه (الاية) استشهاداً بها.(2/1476)
وروى عن ابن عباس أنه قال: السوء هنا: الشرك، ومعنى من يشرك: يجز به.
وقال ابن جبير: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} أي: من يشرك.
قالت عائشة وأبي بن كعب: إن المعنى: من عمل سوءاً من مؤمن، أو كافر جوزي به، وهو اختيار الطبري، واحتج بما روى أبو هريرة قال: " لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها ".
وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهـ أنه قال: " لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أوليس يصيبك كذا (ويصيبك كذا) فهو كفارة " ".
وقال ابن عمر: سمعت أبا بكر يقول: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} في الدنيا ".
وروى عن ابن أبي بكر رضي الله عنهـ أنه قال: " يا نبي الله: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك(2/1477)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
اللاواء؟ فهو ما تجزون به " ".
وروي أن أبا بكر قال: " لما نزلت هذه الآية، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما هي المضائق في الدنيا ".
قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} الآية.
روي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنهـ.
والمعنى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ} أي: استسلم لله، وانقاد له {وَمَنْ أَحْسَنُ} أي: عمل بما أمر به {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} أي: دينه {حَنِيفاً} مستقيماً.
وقيل: {حَنِيفاً} مائلاً عن سائر الأديان غير دين إبراهيم.
{واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} أي: اتخذ [هـ] يعادى فيه، ويحب فيه، ويوالي فيه، والخلة التي في إبراهيم النبي، والخلة التي في الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم هي نصره له على من حاوله بشر كالذي فعل به إذ أراده نمرود بالإحراق، وكالذي فعل به إذ أعانه على ملك مصر إذ أراده عن أهله، ومن ذلك تصييره إماماً لمن بعده من عباده وشبه ذلك.(2/1478)
وقيل: سمي خليلاً للفظة خرجت منه صلى الله عليه وسلم فسمي بها خليلاً.
وذلك أنه أصاب أهل ناحيته جدب فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل، وقيل: من أهل مصر يمتار طعاماً من عنده لأهله فلم يصب عنده حاجته.
فرجع فلما قرب من أهله مر بمغارة فيها رمل فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أُغم أهلي بدخولي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون، ففعل ذلك فحول الله ما في غرائره من الرمل دقيقاً.
فلما صار إلى منزله، نام، وقام ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقاً فعجنوا منه وخبزوا، واستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا من أين هو؟ فقالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فعلم ما صنع الله عز وجل له، فقال نعم. هو من عند خليلي فسماه الله عز وجل بذلك خليلاً.(2/1479)
والخليل في اللغة يكون للفقير كأنه به اختلال.
وقد قيل: في قوله {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} معناه فقيراً محتاجاً إليه، ويكون الخليل المحب المنقطع إلى الله عز وجل الذي ليس في انقطاعه إلأيه اختلال، فيكون سمي (خليلاً) لانقطاعه إلى الله سبحانه، ومحبته له من غير خلل يدخل ذلك.
ويكون الخليل أيضاً الذي يختص الإنسان فيكون سمي بذلك لأن الله عز وجل قد اختصه في الوقت بالرسالة دون غيره.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " واتخذ الله صاحبكم خليلاً يعني نفسه "، أي: اختصه بالرسالة، وهذا القول قول مختار.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً " أي: لو اختصصت أحداً بشيء من الدنيا لاختصصت أبا بكر.
وقد قال بعض أهل اللغة: الخليل الذي ليس في محبته خَلَل فسمي إبراهيم(2/1480)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
خليلاً لذلك.
قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له ما فيهن، فلم يتخذه خليلاً لحاجة إليه، لأن له ما في السموات وما في الأرض، ولكنه اتخذه خليلاً لمسارعته إلى رضاه فكذلك سارعوا أنتم إلى ذلك فيتخذكم أولياء.
{وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} أي: يحيط بما يعمله الخلق، لا يخفى عليه شيء.
قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. . .} الآية.
" ما " في قوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} في موضع رفع عطف على اسم الله عز وجل.
" وما " هو القرآن. أي الله يفتيكم فيهن، والقرآن يفتيكم فيهن أيضاً، وهو قول ابن عباس وغيره.
وقال الفراء، {مَا} في موضع خفض عطف على الضمير في {فِيهِنَّ} أي: الله يفتيكم في النساء، وفيما يتلى عليكم يفتيكم، وهو غلط عند البصريين لأنه عطف ظاهر على مضمر مخفوض.
وقيل {مَا} في موضع رفع بالابتداء، و {مَا} القرآن أيضاً على معنى: (ما(2/1481)
يتلى عليكم يفتيكم).
قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ}.
المعنى عن أن، وأن في موضع نصب بحذف الخافض.
وقيل المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، والإعراب واحد، والمعنى مختلف معنى قول من أضمر " عن " إنهم لا يريدون نكاحهن ومن أضمر " في " فمعناه أنهم يريدون نكاحهن ويرغبون في ذلك.
قوله: {والمستضعفين} عطف على يتامى النساء، أي يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين.
ومعنى الآية: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} يفتيكم أيضاً يعني ما في أول السورة من الفرائض في اليتامى.
قالت عائشة: " هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله، وهو أولى بها من غيره فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لما لها فلا يُنكحها غيره كراهة أن يشركه أحد في مالها ".(2/1482)
فهذا التفسير يحري على قول من أضمر " عن " مع " أن ".
وقال ابن جبير: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، ولا يرث الصغير ولا المرأة، فلما نزلت المواريث في أول النساء توقفوا، ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} أي: في أول السورة، قال وكان الولي إذا كانت عنده المرأة ذات الجمال والمال رغب فيها ونكحها، وإن لم تكن ذات جمال ومال أنكحها غيره.
وقال النخعي: كان الرجل إذا كانت عنده يتيمة دميمة لم يعطها ميراثها وحبسها عن التزويج حتى تموت فيرثها فنهى الله عز وجل عن ذلك {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء الاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي: عن أن تنكحوهن، وذلك كله كان في الجاهلية.
وقال ابن جبير {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} هو ما أتى في آخر السورة قوله:
{إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 175].
روى أن عمرة بنت عمرو بن حزم، كانت تحت سعد بن الربيع، فقتل يوم أحد، فكانت لها منه ابنة، فأتت عمرة النبي صلى الله عليه وسلم تطلب ميراث ابنتها من أبيها، فنزلت الآية في ابنتها، وكان أمرهم في الجاهلية، أن الرجل إذا مات ورث أكبر ولده ماله(2/1483)
كله.
وقيل: المعنى: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وفيما {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء} والذي يتلى هو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3]. فما في موضع خفض على هذا التأويل.
وقيل: المعنى {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} والقرآن يفتيكم وهو قوله:
{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع}.
{وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وفقرهن.
وقيل: المعنى وترفبون في نكاحهن وذلك لمالهن وحسنهن.
واختار الطبري أن يكون المعنى: وترغبون عن نكاحهن لأنهم إنما عيب عليهم أن يأخذوا مالها ويحبسوها ولا ينكحوها، ولم يعب عليهم نكاحها إلا إذا لم يعطوها صداق مثلها، ولم يذكر هنا الصداق فالمعنى أنهم لا يعطونهم ميراثهن ويرغبون عن نكاحهن.
قوله: {والمستضعفين مِنَ الولدان} أي: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء} وهي اليتيمة يأخذ مالها ولا يتزوجها ولا يزوجها، وفي المستضعفين من الصبيان كانوا لا يورثون إلا بالغاً.
{وَأَن تَقُومُواْ} أي: وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط تعطوا الصغير والكبير حقه،(2/1484)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
وفرضه الذي نص الله عز وجل عليه لكم هو {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] والذي أفتاهم في اليتامى قوله {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
وقيل هو: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء: 2]. والذي يتلى عليكم في التزويج هو قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3].
قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} أي: ما تفعلوا من عدل في اليتامى، فإن الله لم يزل عالماً بما هو كائن منكم من ذلك.
قوله {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا [نُشُوزاً] أَوْ إِعْرَاضاً. . .} الآية.
قرأ الجحدري {أَن يُصْلِحَا} بتشديد الصاد وكسر اللام.
وأصله أن يصطلحا ثم أدغم الثاني في الأول أعني: دغم الطاء في الصاد.(2/1485)
(وصلحاً) منصوب على معنى فيصلح الأمر بينهما صلحاً.
وفي قراءة عبد الله: فلا جناح عليهما [إن أصلحا].
ولذلك اعتبر الكوفيون قراءتهم فقرأ وا " يصلحا " ولقوله: " صلحاً ".
والصلح الاسم، والعرب تضع الاسم موضع المصدر كقولهم المطية لمطاء.
فأما من قرأ " يصلحا " فليس " صلحاً " باسم له ولا مصدر، فقراءة الكوفيين أقرب إلى {صُلْحاً} من قراءة غيرهم لأن {صُلْحاً} اسم الفعل لأصلح.
ومعنى الآية فيما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك ولا تقسم لي ففعل " فنزلت " {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} الآية.(2/1486)
فالمعنى أنه إن علمت امرأة من بعلها ميلاً إلى غيرها وهو النشوز أو " إعراضاً " أي: إن أعرض عنها بوجهه وبمنفعته فلا جناح عليهما أن يصالحا أي: لا إثم عليهما في الصلح وهو أن ترضى المرأة أن تترك له يومها أو تسمح له ببعض ما يجب لها من المنفعة لتستديم المقام عنده وتستعطفه بذلك.
{والصلح خَيْرٌ} أي: جرب تسمح فبقى في حرمتها أولى وأحسن من الطلاق والفرقة.
وقيل: المعنى {والصلح خَيْرٌ} من الفرقة ولكن حذف لدلالة الكلام عليه.
قال ابن عباس: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر فيريد أن يتزوجها عليها فيتصالحا على أن لهذه يوماً ولهذه يومين أو ثلاثة أو أكثر.
وقالت عائشة رضي الله عنها: هي المرأة تكون عند الرجل ولعله لا يستكثر منها، ولا يكون لها ولد وتكون له صاحبة فتقول له: لا تطلقني وأنت في حل من شأني.
وعلى هذه المعنى في الآية جميع أهل التفسير.
وروي أن هذه الآية نزلت في خولة بنت محمد بن مسلمة الأنصاري، والبعل(2/1487)
رافع بن خديج الأنصاري ثم هي عامة.
قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} أي: أنفس النساء. حريصة في الشح على الأيام، وقيل: هو على نصيبها من الرجل، ونفس الرجل في حرصه على الميت عند من تميل نفسه إليها.
وقال عطاء: [هو] في الأيام والنفقة.
وقال ابن جبير: نزلت الآية في صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت قد كبرت، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فاصطلحا على أن يمسكها، ويجعل يومها لعائشة شحاً منها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد وغيره معنى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} يعني نفس الزوجة، والزوج لا يترك أحد حقه لصاحبه.(2/1488)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
قوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: إن تحسنوا أيها الأزواج إلى النساء إذا كرهتم منهن شيئاً، وتتقوا الله فيهن في الصحبة بالمعروف، فإن الله لم يزل حبيراً بما تعملون.
قوله: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ. . .} الآية.
المعنى: ولن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين النساء في حبهن بقاؤكم حتى تعدلوا بينهن، فلا تكون لبعضهن مزية على بعض {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فإن ذلك مما لا تقدرون عليه {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} أي: لا تميلوا على من لم تملكوا صحبته من قلوبكم فتجوروا عليها بترك أداء الواجب لها {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} أي كالتي هي لا ذات زوج، ولا هي أيم.
وليس في قوله: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} دليل على جواز بعض الميل، إنما معناه لا تميلوا بما تقدرون على تركه ميل الميل فهو أمر يُغلب الإنسان عليه، ولذلك كان عمر رضي الله عنهـ يقول: " اللهم أما قلبي أملك، وأما غير ذلك فأرجو أن أعدل ".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: " اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ".
قال ابن أبي مليكة: " نزل ذلك في عائشة رضي الله عنها. يعني كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها(2/1489)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
أكثر من غيرها ".
قال سفين: " نزلت في الحب والجماع ".
وقال السدي: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} قال: " يجوز عليها فلا تنفق ولا تقسم ".
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت له امرأتان يميل [مع] إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط ".
وقال قتادة: " المعلقة ": المحبوسة.
وقال ابن جبير: " لا مطلقة ولا ذات بعل.
قوله: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ} أي تصلحوا أعمالكم، فتعدلوا في أزواجكم، وتتقوا الله فيهن {فَإِنَّ الله} لم يزل {غَفُوراً رَّحِيماً} لكم أي يستر عليكم ما سلف منك (رحيماً بكم).
قوله: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ. . .} الآية.
المعنى: وإن رأت المرأة التي مال عنها زوجها، إلا أن تفارقه، ولا تسمح له بشيء من حقها، وأبى الزوج الأخذ عليها بالإحسان، فتفرقا بطلاق الزوج إياها {يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} أي: الزوج والمرأة أن تتزوج من هو أصلح لها من الأول، ويتزوج هو من هي أصلح له منها في رزقه وعصمته.
{وَكَانَ الله وَاسِعاً} أي: ذا سعة في الرزق لخلقه {حَكِيماً} فيما قضى به بينهما(2/1490)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
والواسع: الكثير العطايا.
وقيل: الواسع: المحيط بكل شيء، ومنه قوله تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 96] أي أحاط به.
وقال أبو عمرو في " واسع كريم " قال الواسع الغني والكريم الجواد.
قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} الآية.
كرر تعالى ذكره، ذكر كون ما في السموات وما في الأرض أنه له، في ثلاثة مواضع متوالية، وفي كل آية معنى من أجله وقع التكرير:
1 - أما الأول فإن الله جل ذكره نبه الخلق على ملكه بعقب قوله {وَكَانَ الله وَاسِعاً}، فأخبر أن من سعته أن له ما في السموات والأرض، وفي هذا تقوية لقول أبي عمرو أن الواسع الغني، ثم رجع تعالى بعد إعلامه إيانا، وتنبيهه على ملكه إلى إعلامه إيانا أنه قد وصى من كان قبلنا بتقواه كما وصانا بالتقوى في الأزواج وغيرها، والذين من قبلنا من أهل الكتاب وصاهم بذلك في التوراة والإنجيل، وصانا نحن في القرآن بالتقوى أيضاً، فقال: {أَنِ اتقوا الله}.
2 - ثم قال: {وَإِن تَكْفُرُواْ} كما كفر أهل الكتاب {فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات [وَمَا فِي الأرض]} إنه لا يضره كفرهم إذ له كل شيء، كما لم يضره ما فعل أهل الكتاب في مخالفتهم أمره، {وَكَانَ الله غَنِيّاً} أي غني عن خلقه، فأخبرنا في هذه الآية بغناه عنا،(2/1491)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
وحاجتنا إليه.
3 - [ثم] أعلمنا في الآية الثالثة بحفظه لنا، وعلمه بنا فقال {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً} أي كفى به حفيظاً.
فهذا فائدة التكرير أنه تعالى نبهنا على ملكه، وسعته بعد قوله {وَكَانَ الله وَاسِعاً}. فأعلمنا أنه من سعة ملكه أن له ما في السموات وما في الأرض.
وأعلمنا في الثانية بحاجتنا إليه، وغناه عنا.
وفي الثالثة أعلمنا بحفظه لنا وعلمه بتدبيرنا.
وتقدم قوله: {غَنِيّاً حَمِيداً} على {وكفى بالله وَكِيلاً} لأنه خاطبهم أولاً فأخبرهم أنه لا يحتاج إليهم، إن كفروا، وأنهم مضطرون إليه، إذ له ما في السموات وما في الأرض.
قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ. . .} الآية.
هذه الآية مردودة على وقوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} فقال تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالفناء {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} من غيركم وهو قادر على ذلك.
وقيل: إنها ترجع على طعمة، وأصحابه الذين تقدم ذكر نياتهم توبيخاً لهم، وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم " لما نزلت هذه الآية ضرب على ظهر سلمان بيده وقال: " هم(2/1492)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
قوم هذا " " يعني عجم الفرس.
هذه الآية نزلت في المنافقين الذين أظهروا [الإيمان ليدفعوا عن أنفسهم الضرر في الدنيا، والمعنى من كان أظهر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق لغرض {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا} يعني جزاؤه في الدنيا ما يأخذ من الغنم إذا شهد مع المسلمين، وثواب الآخرة، وهو نار يصلاها أبداً، ومثل هذا قوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} [هود: 15 - 16] الآية.
وقيل: إن الآية نزلت في أمر الذين سعوا في أمر طعمة وعذروه، وهم يعلمون أنه سرق.
قوله: {وَكَانَ الله} أي: يسمع قوله هؤلاء الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، ويقولون آمنا إذا لقوا المؤمنين {سَمِيعاً بَصِيراً} بهم فيما يكتمون.
وقيل: إن الآية نزلت في الكفار، وذلك أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ويتقربون إلى الله ليوسع عليهم في الدنيا، ويدفع عنهم مكروهاً، فأنزل الله عز وجل: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا. . .} الآية.(2/1493)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُونُواْ قوامين بالقسط} الآية.
قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا} وقال الأخفش: " أو " بمعنى الواو، فلذلك قال: " بهما " ولم يقل به.
وقيل: المعنى: إن يكن المتخاصمان غنيين أو فقيرين.
وقيل: هو مثل قوله {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} [النساء: 12].
وقيل: لما كان المعنى فالله أولى بغنى الغني، وفقر الفقير، رد الضمير عليهما.
وقيل: إنما ردع الضمير إليهما لأنه لم يقصد فقيراً بغني، فجاء الرد عليهما: بالتثنية، وبالتوحيد وبالجمع.
ومعنى الآية: " إن الله تعالى تقدم إلى عباده أن يقوموا بالقسط أي: بالعدل، ولو على أنفسهم أو والديهم أو قرابتهم ولا يكونوا كالذين قالوا لطعمة بغير القسط لقرابته منهم.(2/1494)
والقسط: العدل.
وأن لا يميلوا لفقر فقير، ولا لغنى غني، فيجوروا.
{فالله أولى بِهِمَا} أي أحق بهما لأنه خالقهما، ومالكهما دونكم {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} في الميل مع أحدهما. والشهادة على نفسه هو أن يقر بها عليه.
وقيل: إن الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، تخاصم إليه غمي وفقير، فكان ميله مع الفقير يروى أنه لا يظلم الغني لفقره.
وقيل: نزلت في الأمر بالشهادة بالحق، وترك الميل مع الغني لغناه، أو مع فقير لفقره.
قال ابن شهاب: كان فيما مضى من السلف الصالح تجوز شهادة الوالد لولده والأخ لأخيه ويتأولون في ذلك قول الله {كُونُواْ قوامين بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين} فلم يكن يتهم أحد في ذلك من السلف الصالح ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة.
ومذهب الحسن البصري والنخعي والشعبي، وشريح ومالك والثوري(2/1495)
والشافعي وأحمد بن حنبل أنه: لا تجوز شهادة الوالد لولده.
وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولاً.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنه أجازه، وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق وأبو ثور والمزني.
ومذهب مالك رضي الله عنهـ جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلاً [إلا] في النسب.
وروى ابن وهب هنه: أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيبه مال يرثه.
ولا تجوز عند مالك شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر، وأجازه الشافعي. ولا تجوز شهادة الرجل المصاحب له بصلة، أو بعطف عليه عند مالك. وكذلك لا تجوز شهادة رجل لرجل، والشاهد [في عيال] المشهود له، قوله(2/1496)
{وَإِن تَلْوُواْ} هي مخاطبة للحكام، فالمعنى: وإن تلووا أيها الحكام، في الحكم لأحد الخصمين على الآخر أو تعرضوا، فإن الله لم يزل خبيراً بما تعملون.
وقال ابن عباس: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون لَيُ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر.
وقيل: هي مخاطبة للشهداء، والمعنى أن تلووا أيها الشهداء ألسنتكم بغير الحق، أو تعرضوا عن الحق.
وقيل: أو " تعرضوا " عن الشهادة فتتركوها.
وقال مجاهد: {وَإِن تَلْوُواْ} تبدلوا الشهادة: {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي: تكتموها كذلك قال قتادة والسدي.
قال ابن زيد: {وَإِن تَلْوُواْ} تكتموا بعضها، أو تعرضوا [تكتموها] فتأتوا الشهادة، تقول: أكتم عن هذا أنه مسكين، رحمة به، ويقول: هذا غني أتقيه، وأرجو ما قِبَلَه، فهو قوله {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا} أي: إن يكن المشهود عليه غنياً أو(2/1497)
فقيراً، فأقيموا الشهادة عليه لأن الله أولى به.
{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} في ألا تعدلوا: {وَإِن تَلْوُواْ} تغيروا الشهادة {أَوْ تُعْرِضُواْ} تكتموها {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} مجازيكم ومن قرأ {وَإِن تَلْوُواْ} بواو فيحتمل أن تكون مثل تلوا من اللي ولكن أبدلت من الواو المضمومة همزة، ثم ألغيت حركتها على اللام على أصل التسهيل، ويكون المعنى واحداً.
ويجوز أن يكون من الولاية، قال ذلك الكسائي، فيكون المعنى وإن تلوا شيئاً من الشهادة، فتبلغوه على حقه، ولا تجوروا فيه {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي: تتركوا تبليغه(2/1498)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
فتكتموه، فإن الله لم يزل خبيراً بأعمالكم.
قوله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ. . .} الآية.
المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، والرسل وصدقوا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي أنزل من قبل وهو التوراة والإنجيل.
{وَمَن يَكْفُرْ بالله} أو بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وملائكته وكتبه ورسله {فَقَدْ ضَلَّ} أي: ذهب عن الحق وجار جوراً بعيداً، فهو خطاب لمن آمن بما قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو خطاب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم آمنوا أي اثبتوا على الإيمان به، وبما جاء من عند الله.
وقيل: هو خطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بالله ورسوله، أي صدقوا به بقلوبكم إيماناً يقيناً يوافق اللسان القلب.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ. . .} الآية.
المعنى: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بعيسى يعني النصارى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بموسى وعيسى عليه السلام [هو](2/1499)
تغيير ما أتى به كل واحد منهما من عند الله عز وجل، وتبديله وقبول الرشا عليه {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إذ كفروا بكتبه ورسله {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ [سَبِيلاً]} أي طريق هدى.
وقيل: عُنِي بذلك المنافقون آمنوا مرتين وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك.
وقيل: هم اليهود والنصارى.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى: آمنت اليهود بالتوراة، وكفرت بالإنجيل، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا [كفراً] بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وآمنت النصارى بالإنجيل ثم تركت العمل بما فيه، فكفرت بذلك، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أي: لا يغفر لهم كفرهم الأول والآخر، وذلك أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإن رجع إلى الكفر لم يغفر له كفره الأول.
وقال ابن عمر: يستتاب المرتد ثلاثاً، أي كلما ارتد يستتاب، فإن آمن، ثم ارتد استتيب، فإن تاب، ثم ارتد استتب، فإن تاب ثم ارتد قتل، فإنما يستتاب ثلاث(2/1500)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
مرات قياساً على هذه الآية.
وقيل: يستتاب، كلما ارتد.
قوله: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} الآية.
المعنى اجعل ما يقوم لهم مقام البشارة بالعذاب الأليم {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} أي: المنعة باتخاذهم لهم أولياء {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي: المنعة لله، والنصر من عنده.
يقال أرض عزاز وعزاز إذا كانت صلبة شديدة، ومنه قولهم: عز الشيء إذا لم يوجد أي: اشتد وجوده، أي: صعب.
وقال النحاس: " هذا يدل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق لأنه لا يتولى الكافرين.
قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} الآية.
المعنى قد أخبرتم أيها المنافقون في القرآن {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.(2/1501)
فاتخذتموهم أولياء {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} كفار، إذا جالستموهم على تلك الحال، لأن من لم يجتنبهم، فهو راض بفعلهم، فالرضا بالكفر كفر.
وهذه الآية تدل على اجتناب أهل المعاصي إذ ظهر منهم منكر، ومجانبة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والقدرية وغيرهم إذا خاضوا في فسقهم.
وروى إبراهيم التيمي عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساؤه فيسخط الله عليهم.
وقال إبراهيم النخعي: إذ سمع هذا عن أبي وائل، صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله عز وجل { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ(2/1502)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} أي: يجمعهم بموالاة بعضهم بعضاً فكلهم كافر.
قوله: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الآية.
في قراءة أبي: ومنعناكم في موضع: نمنعكم.
وأجاز الفراء: ونمنعكم بالنصب على الصرف.
ومعنى الآية: أنها صفة للمنفقين لأنهم كانوا يتربصون بالمؤمنين، فإن كان فتح من الله جل وعز للمؤمنين، قالوا للمؤمنين: ألم نمنعكم في جهادكم، فطلبوا الفيء من الغنيمة {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ} ظفر على المؤمنين قالوا للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي: نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين {وَنَمْنَعْكُمْ} من المؤمنين، أي: كنا عيوناً لكم نأتيكم بالأخبار في السر، ونخذل المؤمنين حتى غلبتموهم {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي: بين المؤمنين والمنافقين {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} أي: حجة يوم القيامة.
وهذا وعد من الله جل ذكره للمؤمنين يكون في القيامة فأما في الدنيا فقد يغْلِبون ويُغلَبون، ودل على ذلك قوله {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة}.
وقيل: معناه: لا يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلاً يوم القيامة في قتلهم لهم، وسبيهم لذراريهم، ذلك مباح للمؤمنين في الدنيا، ولا درك عليهم في(2/1503)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
ذلك في الآخرة.
وقال ابن جريج: معن: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم يتبين لكم أنا معكم.
وأصل الاستحواذ الغلبة والاستيلاء.
قوله: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله} الآية.
معنى الآية أن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم لإيمانهم دماءهم وأموالهم، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} هو ما حكم فيهم من منع دمائهم وأموالهم بما ظهر من إيمانهم مع علمه بباطن اعتقادهم استدراجاً للانتقام منهم في الآخرة.
وقال السدي: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يعطيهم الله يوم القيامة نوراً يمشون به مع المؤمنين كما كان معهم في الدنيا إيمان يمنع من دمائهم ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بسور.
وقال ابن جريج: إخداع الله لهم هو ما ذكر من قولهم {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13].
وقال الحسن: يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به حتى إذا انتهوا إلى(2/1504)
الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فينادونهم
{انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} ألم نكن معكم في المسجد والحج والغزو؟
{قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} باعتقادكم خلاف ما أظهرتم {وَتَرَبَّصْتُمْ} عن التوبة {وارتبتم} أي: شككتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وثواب الله عز وجل وعقابه سبحانه.
قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم.
وقيل: المعنى: يُخادعون أولياء الله وهو أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي معاقبتهم، وسمي الثاني خداعاً لأنه مجازاة للأول، وقيل: لازدواج الكلام.
وقيل: معنى: {يُخَادِعُونَ الله} أي نبيه صلى الله عليه وسلم لأن من خادع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خادع الله سبحانه كما قال {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10].
قوله: {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} الآية.
هذا إعلام من الله تعالى أن المنافقين لا يعملون شيئاً من الفروض إلا رياء، وإبقاء على [أنفسهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذ ليست عندهم بفرض. إنما يقومون للناس] رياء إذ لا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً.(2/1505)
ثم يقال: {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا ذكراً قليلاً.
والمعنى: أنهم يذكرون الله رياء لا ذكر مؤمن موقن بتوحيد الله عز وجل فلذلك سمي قليلاً، إذ هو غير مقصود به الله سبحانه، وما عنده تعالى، فمن أجل هذا وصف بالقلة، مع أنه ليس في ذكر الله عز وجل قليل، إنما قل من أجل اعتقادهم لا من أجل قلة ذكرهم.
قال الحسن: إنما قل لأنه كان لغير الله سبحانه.
وقال علي رضي الله عنهـ " ما قل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل! يريد قوله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] فمن تقبل شيء من عمله، فهو من المتقين، ومن كان من المتقين فهو من أهل الجنة، يقول الله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ} [القمر: 54].
قوله: {مُّذَبْذَبِينَ} أي: متحيرين في دينهم مضطربين، وأصل التذبذب التحرك والاضطراب، فهم يتحيرون في دينهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، فهم حيارى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة،(2/1506)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
وإلى هذه مرة ولا تدري لأيهما تتبع ".
قال قتادة: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين.
وقيل: إلى المؤمنين ولا [إلى] أهل الكتاب
{وَمَن يُضْلِلِ الله} أي: ومن يخذله الله {فَلَن تَجِدَ لَهُ} يا محمد {سَبِيلاً} أي: طريقاً يسلكه إلى الحق.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ} الآية.
المعنى: إن الله نهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين، فيجعلون على أنفسهم الحجة لله، والسلطان: الحجة، وهو يذكر ويؤنث وبالتذكير أتى القرآن.
فمن ذَكَّر ذهب إلى معنى صاحب السلطان، أي صاحب الحجة، وقيل ذهب إلى البرهان والاحتجاج.
ومن أَنَّث فلتأنيث الحجة، والعرب تقول: قضت به عليك السلطان أي الحجة.
قوله: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} الآية.(2/1507)
معنى الدرك الأسفل: القعر الأسفل
والنار أدراك سبعة، فهم في القعر السابع، نعوذ بالله منها.
والدَرْك والدَرَك لغتان بمعنى.
والفتح: الاختيار عند بعض العلماء لقولهم: أدراك كجمل وأجمال وجمعة في الكثير: الدروك.
ومن أسكن الراء جمعه في القليل على أدرك، والكثير الدروك، وقال عاصم: " لو كانت الدروك بالفتح لقيل السفلى " ذهب إلى أن الفتح إنما هو على أنه جمع دركة ودرك، كبقرة وبقر.
وطبقات النار سفل سفل، يقال لها أدراك.
ومنازل الجنة يقال لها درجات وهو علو علو.
وقوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ} كتب بغير ياء على لفظ الوصل.(2/1508)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
والوقف عند سائر القراء على ما في السواد.
ومذهب النحويين في هذا: الوقف على الياء.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أعلمنا أن المنافقين في الطبق الأسفل من النار، وأنهم لا ناصر لهم ينقذهم منها.
والعرب تقول لكل ما تسافل درك، ولكل ما تعالى درج. وقال ابن مسعود: إن المنافقين في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار.
وقال أبو هريرة: {فِي الدرك الأسفل} في توابيت ترتج عليهم.
وقال ابن عباس: في أسفل النار.
ثم استثنى تعالى التائبين فقال {إِلاَّ الذين تَابُواْ} أي: رجعوا عن نفاقهم وشكهم إلى اليقين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وأصلحوا أعمالهم فعملوا بما أمرهم الله عز وجل { واعتصموا بالله} عز وجل أي: تمسكوا بما أمرهم الله به {وَأَخْلَصُواْ} طاعتهم له عز وجل، ولم يعملوا رياء الناس {فأولئك مَعَ المؤمنين} في الجنة {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً}.
وقال الفراء: {مَعَ المؤمنين} أي: من المؤمنين.
قوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ. . .} الآية.
المعنى: ما يفعل الله بعذابكم أيها المنافقون إن تبتم، ورجعتم وآمنتم، بمعنى أي(2/1509)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
شيء يصنع الله بعذابكم، وما حاجته إلى ذلك بل سيشكر لكم ما يكون منكم من الطاعة، والإيمان فيجازيكم عليه، بأن يعافيكم من الدرك الأسفل من النار، ويدخلكم الجنة خالدين.
قال قتادة: في هذه الآية: " إن الله لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً ".
وقيل: معنى: {شَاكِراً} مشكوراً على كل حال.
قوله: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} الآية.
قرأ زيد بن أسلم، والضحاك وابن أبي إسحاق {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} بفتح الظاء.
ومعنى الآية: لا يحب الله أن يجهر أحد بالدعاء [على أحد] إلا من ظُلم فيدعو على ظالمه. أي: لكن من ظُلم فله أن يدعو على ظالمه، ولا يكره الله ذلك.
قال ابن عباس: أُرخص للمظلوم أن يدعو على ظالمه، وإن صبر فهو خير له.
قال قتادة: عذر الله سبحانه المظلوم.(2/1510)
وقال الحسن: هو الرجل يُظلم يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج لي حقي، ونحو ذلك.
و" من " في موضع رفع بالهجر، كأنه: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا المظلوم وإن شئت في موضع نصب كما قال تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23] وكقولهم: إني لا أكره الخصومة، والمراء إلا رجلاً يريد الله بذلك، فهذا محمول على المعنى وأن لم يكن قبله أسماء.
وأصل الاستثناء المنقطع أن يكون منصوباً، وهذا من ذلك.
وقال مجاهد في الآية: هو الرجل لا تحسن ضيافته، فيخرج فيقول أساء ضيافتي، رخص له أن يقول ذلك.
وقال السدي: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح.
ومن قرأ بفتح الظاء، فمعناه إلا من ظلم فلا بأس أن يُجْهَر له بالقول.
قيل: إن هذه الآية: نزلت في الرجل ينزل بالرجل وعند المنزول به سعة، يضيفه، فإن تناوله بلسانه في تأخره عن ضيافته فقد عذره الله عز وجل، وسمى الله سبحانه ترك(2/1511)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
الضيافة ظلماً.
وقال ابن زيد معنى الفتح: لا يحب الله أن يقول لمن تاب عن النفاق: ألست نافقت؟ ألست الذي ظلمت وفعلت؟ {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي: إلا من أقام على النفاق، فإنه يقال له ذلك، ودل على هذا قوله تعالى {إِلاَّ الذين تَابُواْ}.
وقيل: المعنى {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه.
وقال قطرب: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي: إلا المكره لأنه مظلوم.
{وَكَانَ الله سَمِيعاً} أي: لما تجهرون به {عَلِيماً} أي بما تسرون وبغير ذلك.
قوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. . .} الآية.
المعنى: إن تقولوا جميلاً لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك وتخفوه. أي: تتركوا إظهاره، فلا تبدوه {أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء} أي: تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء، أي: الذي قد أُذن لكم أن تجهروا به وهو قوله {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فإن الله كان عفواً، أي: لم يزل عفواً عن خلقه مع قدرته على الانتقام منهم. وهذا(2/1512)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
التأويل يدل على خلاف قول من تأول لقوله {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أنه في المنافق التائب، والذي لم يتب، لأن الله عز وجل لم يأمر المؤمنين بالعفو عن نفاقهم ولا نهاهم أن يسبوا من كان منهم معلناً النفاق.
قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} الآية.
معنى الآية أنها في اليهود والنصارى يكفرون بالله بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} أي: يزعمون أنهم افتروا على ربهم {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} آمنت اليهود بموسى، وكفرت بعيسى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بموسى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، { أولئك هُمُ الكافرون} أي: مَنْ، هذه صفته كافر {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: طريقاً لا مع المؤمنين ولا مع غيرهم وقيل بين الإيمان والجحد طريقاً.
قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} الآية.
المعنى: الذين صدقوا بواحدانية الله عز وجل، وأقروا برسله [صلوات الله عليهم] {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [أي لم يكذبوا ببعض وآمنوا ببعض {أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي من هذه صفته سوف نؤتيهم أجورهم أي يعطيهم(2/1513)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
أجورهم] على تصديقهم للجميع {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: يغفر لمن فعل ذلك من خلقه أي يستر ذنوبه، وكان {رَّحِيماً} بهم أي: لم يزل كذلك.
قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء. . .} الآية.
قوله: {جَهْرَةً} حال من الضمير في قالوا، وهو العامل فيه، أي: قالوا مجاهرين بذلك، قال ذلك أبو عبيدة.
وقيل: هو نُعت بمصدر محذوف [تقديره] رؤية جهرة.
ومعنى الآية: أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة، قالوا له: إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب} الآية.
قال ابن جريج: سألوا أن ينزل عليهم رجال منهم كتاباً من السماء بتصديقه واتباعه وهم اليهود والنصارى.
وقيل: هم اليهود خاصة سألوا النبي عليه السلام أن يصعد إلى السماء وهم يرونه بلا كتاب، وينزل ومعه كتاب تعنتاً. فأعلمه الله عز وجل أنهم قد سألوا موسى عليه السلام أكبر من هذا {فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي: رؤية منكشفه {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي صعقوا بظلمهم أنفسهم، في عظيم ما سألوا موسى صلى الله عليه وسلم مما ليس لهم أن يسألوا مثله {ثُمَّ اتخذوا العجل} أي(2/1514)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
اتخذوه إلهاً بعد إحيائهم من صعقتهم {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} أي الدلالات الواضحات أنهم لا يرون الله عياناً في الدنيا، وأنه لا معبود إلا الله، فمن الآيات إصعاق الله إياهم عند مسألتهم ثم أحياؤهم.
قوله: {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} أي: عفونا عن عبادتهم العجل {وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} أي: أعطيناه حجة تبين عن صدقه وصحة نبوته.
قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ. . .} الآية.
المعنى: ورفعنا فوقهم الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة، وقبول ما جاءهم به موسى صلى الله عليه وسلم { بِمِيثَاقِهِمْ} أي ما أعطوا الله من الميثاق ليعملوا بما في التوراة {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} يعني باب حطة أمروا بذلك، فدخلوا يزحفون على أستاههم {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم، وذلك أنهم أمروا ألا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يتعرضوا لها. {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} أي شديداً أنهم يعظمون ما أمرهم الله، وينتهون عما نهاهم عنه.
قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله} الآية.
المعنى: وينقض هؤلاء الذين تقدمت صفتهم: الميثاق - وهو كتمانهم أمر(2/1515)
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عليهم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] وكفرهم بآيات الله أي: بإعلامه وأدلته وب {وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} وب {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: عليها غشاوة وأغطية عما يقول، فلا نفهمه عنك، فأخبر الله عز وجل بكذبهم في قولهم، وقال {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} أي: ليست بغلف، ولكن طبع الله عليها طابعاً من أجل كفرهم بالله {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} لأنهم إنما صدقوا ببعض الأنبياء، فإيمانهم قليل لأنهم قد كذبوا بأكثر الأنبياء فيما جاءوا به، ومن كذب بالبعض، فهو مكذب بالكل من جهة أن الذي صدق به من نبي وكتاب يصدق ما كذب به هو ويقرب بصحته وهذا كلام متصل بما قبله.
والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم وبكفرهم، وبكذا وبكذا أخذتهم الصعقة.
قال الطبري: هذا غلط لأن الذين أخذتهم الصاعقة قوم موسى صلى الله عليه وسلم، والذين رموا مريم بالبهتان بعدهم بدهر طويل، فهؤلاء غير هؤلاء.
والذي قال الطبري لا يلزم، لأن اليهود قد تأخروا، وهم الذين طالبوا عيسى صلى الله عليه وسلم بالصاعقة، وإن لم تأخذهم بأعيانهم، فقد أخذت آباءهم. فالمراد آباؤهم على ما مضى في البقرة وفي غيرها لأنهم راضون بما كان عليه آباؤهم من الكفر فلهم من الحكم ما لآبائهم إذ هم على مذهبهم.
وقال قتادة: {لَعنَّاهُمْ} محذوف من الكلام كأنه: فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم(2/1516)
كذا وكذا لعناهم وهو اختيار الطبري. قال: ودل على المحذوف قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} لأن من طبع الله على قلبه فقد لعنه الله وغضب عليه.
وقيل: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم كذا (وقولهم كذا). طبع الله عليها.
وقال الزجاج: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.
قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَبِكُفْرِهِمْ} هو أنهم رموها بالزنا {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح} أي: بدعواهم ذلك، فأكذبهم الله في ذلك، فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}.
قيل: إن اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى، فأشكل عليهم أمر عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى.(2/1517)
قال وهب بن منبه: أتى عيسى ومن معه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاط بهم اليهود، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا لترزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً، قال عيسى لأصحابه: من يشتري اليوم نفسه بالجنة؟ قال رجل منهم: أنا فخرج إليهم.
فقال: أنا عيسى، فأخذوه وقتلوه، وهو على صورة عيسى، وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك، إذا الصورة مشبهة، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
وقيل: إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم يريدون خلاصه، فقال: أنا أخليه لكم، فقالوا: بل نريد قتله، فرفعه الله إليه، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله، وقال لهم: قد قتلته، خوفاً منهم، وهو الذي شبه لهم.
قوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى، ومن معه وأرادوا قتله، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كان في البيت، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل: فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك.
وقيل: إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل.
وزعم بعضهم أنه ما قتل، فهم شاكون فيه. ودل على صحة شكهم قوله تعالى:(2/1518)
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم.
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً، ولكنهم قتلوه على شك، فالهاء عائدة على الظن.
قال ابن عباس: المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً.
وقال السدي: وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى.
وقال الفراء: المعنى: ما قتلوا العلم به يقيناً.
وقيل المعنى: الذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً، بل قتلوه على شك {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} أي عيسى.
" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً ".
" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى: قال هذا قولاً يقيناً ".
قال النحاس: إن قدرت أن يكون المعنى: " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل،. . . وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل.
وقال بعض أصحاب حمزة ": عيسى ابن مريم تمام. لأنهم لم يقروا بأنه رسول(2/1519)
فليس بمتصل بما قبله.
وقال نافع: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} تمام.
وأجاز ابن الأنباري الوقف على " قتلوه " على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقيناً، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً، ثم تبتدئ {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} مستأنفاً.
قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه.
والاستعارة في كلام العرب باب، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [فالاستعارة] معناها: أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [عنه] يكون، والمطر سماء، لأنه منها ينزل، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات.
وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر. ويقولون " لقيت من فلان عرق القربة " أي: شدة، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه، فاستعير عرقه في موضع.
ومن ذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] أي: شدة الأمر، وذلك أن(2/1520)
الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة، شمر عن ساقه، فاستعير الساق في موضع الشدة، وهو كثير في القرآن، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه.
ومنه قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49] {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول: ما رزانه، زبالاً، فالزبال ما تحمله النملة بفيها.
ومنه قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء.
ومنه {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] أراد به أبطلناه، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت، والمنبث ما سطع من سنابك الخيل.
ومنه: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] أي: لا تغني خيراً، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه.
ومنه: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] أي أطلعنا، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم(2/1521)
نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار سبباً للتبين فاستعير مكان التبيين والاطلاع.
ومنه: {حُبَّ الخير} [ص: 32] يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها.
ومنه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه} [الأنعام: 122] أي كافراً فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} [الأنعام: 122] أي إيماناً {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان.
ومنه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] أي: إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل، وشبه بالثقل، لأن الحمل والثقل سواء فقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أي آثاماً مع آثامهم.
ومنه: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] أي نكاحاً لأن النكاح يمون سراً، ولا يظهر فاستعير له السر.
ومنه: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] كما تزرع الأرض، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض.
ومنه: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 266] أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرء، بصره عن(2/1522)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
الشيء ويغمضه فسمي الترخيص إغماضاً.
ومنه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان، ويلتصقان كالثوب في تضامه، والتصاقه على الإنسان، وقد قيل معنى
{لِبَاساً} سكناً، كما قال {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67 - القصص: 73].
ومنه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي: نفسك من الذنوب، فجعل موضع النفس، لأنه يشتمل عليها، وشبه ذلك كثير.
قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. . .} الآية.
التقدير عند سيبويه، (وإن من أهل الكتاب أحد).
وعند الكوفيين (وإن من أهل الكتاب إلا (من) ليؤمنن [به]) حذفوا الموصول وهو قبيح.
وسيبويه إنما قدر حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، وذلك كثير في(2/1523)
القرآن والكلام، قال الله: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ} [سبأ: 11] أي: دروع سابغات فحذف الموصوف، فقول سيبويه أحسن واختيار جيد.
وحذف الموصول وإقامة الصلة مقامه على قول الكوفيين غير جائز ولا موجود لأن الصلة كبعض الموصول، ولا يحسن حذف بعض الاسم، ولأن الصلة لا بد منها للموصول وليس الصفة كذلك فقد يستغنى عنها.
والمعنى: إنهم كلهم يؤمنون بعيسى إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الأمم كلها واحدة ملة الإسلام، كذلك قال ابن عباس، والحسن وقتادة.
قال ابن زيد: إذا نزل عيسى لقتل الدجال لم يبق يهودي إلا آمن، وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم، فالهاء في " به " يعود على عيسى صلى الله عليه وسلم في هذين القولين.
وروى عن ابن عباس أنه قال: ليس من أهل [الكتاب] أحد إلا يؤمن(2/1524)
بعيسى قبل موته " أي موت الكتابي إذا عاين الحق ".
وقال [مجاهد]: لا تخرج نفس الكتابي حتى يؤمن بعيسى قال وإن غرق، وإن تردى من حائط لا بد أن يؤمن بعيسى.
وقد قرأ أُبي: " قبل موتهم " فهذا يدل على أنها لأهل الكتاب وهو قول أكثر المفسرين.
وقال ابن عباس: " لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وإن عجل عليه بالسلاح.
وقال عكرمة: لو وقع يهودي من فوق القصر لم يبلغ الأرض حتى يؤمن بعيسى، فالهاء تعود على الكتابي على هذه الأقوال ويجوز أن تكون لعيسى.
وروي عن عكرمة أيضاً، لا يموت اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد عليه السلام. فالهاء في " به " تعود على محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي حرف أُبي ومصحفه " قبل موتهم " يعني: أهل الكتاب.(2/1525)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
واختار الطبري أن تكون لعيسى، وأن يكون المعنى ليس أحد من أهل الكتاب الحاضرين عند نزول عيسى إلا ليؤمن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الأنبياء أخوات لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بينه وبيني نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يُهلك الله عز وجل في زمانه الملل كلها غير الإسلام، ويُهلك الله في زمانه المسيح الكذاب الدجال وتقع الأمنة في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان والصبيان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً، ثم يلبث في الأرض ما شاء الله - وربما قال - أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه ".
قوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: شاهداً على تكذيب من كذبه، وتصديق من صدقه، وأنه بلغ الرسالة وأقر بالعبودية.
قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية.
قال ابن إسحاق: هذا بدل من {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} والذي حرم عليهم هو قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا(2/1526)
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية.
والظلم هنا هو نقضهم الميثاق {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله} {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.
{وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} وعلى عيسى. فهذا هو الظلم، فمن أجله حرمت عليهم الطيبات وهي كل ذي ظفر والشحوم من البقر والغنم.
وقوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله} أي صدوا أنفسهم، وغيرهم عن الحق {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} هو قولهم أؤخرك بديني وتزيدني {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل} هو ما يأكلون من الرشا في الحكم، وعلى تغيير الدين يأخذون أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله، فسمي ذلك باطلاً لأنه أخذ بغير استحقاق.
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} أي من هؤلاء اليهود {عَذَاباً أَلِيماً} أي موجع أي مؤلماً.
قوله: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون} الآية: نصب {والمقيمين الصلاة} عند سيبويه على التعظيم.
وقال الكسائي: هو في موضع خفض عطف على " ما " جعل المقيمين هم الملائكة عليهم السلام، وهو اختيار المبرد، والطبري.
واستبعد المبرد النصب على المدح لأن المدح إنما يكون بعد تمام الخبر، والخبر لم(2/1527)
يأت بعد.
ومذهب سيبويه أن " يؤمنون " الخبر فقد أتى قبل الراسخون. ومذهب المبرد أن أولئك الخبر، فهو لم يأت بعد.
وقيل: هو معطوف على قبلك.
وقيل: على الكاف في قبلك.
وقيل: على الكاف في أولئك.
وقيل: على الهاء، والميم في منهم.
وهذه الأقوال الثلاثة عطف فيها على مضمر مخفوض على مذهب الكوفيين، وهو لا يجوز عند البصريين.
قوله: {والمؤمنون} في رفعه خمسة أقوال:
رفعه عند سيبويه على الابتداء.
وقيل: رفع على إضمار مبتدأ.
وقيل: عطف على المضمر في المقيمين.
وقيل: عطف على المضمر في " يؤمنون ".(2/1528)
وقيل: هو معطوف على الراسخين.
ومعنى الآية: إن الله تعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم سألوا محمد صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، ثم بيّن أنهم ليسوا كلهم قالوا ذلك، فأخبر أن الراسخين في العلم منهم أي: من أهل الكتاب والمؤمنون أي منهم أيضاً يؤمنون بالقرآن، والتوراة والإنجيل، وجميع كتب الله، وهو ما أنزل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم فهم لا يسألون ما سأل أولئك.
وقوله: {والمقيمين الصلاة} هم من أهل الكتاب أيضاً.
قال أبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب يعني كونه بالياء وإنما حقه الرفع بالواو وهي قراءة ابن مسعود.
وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة إذ سألها عن اختلاف الإعراب في {والمقيمين الصلاة} وفي
{والصابئون} [المائدة: 71] في المائدة وفي {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في طه، يا ابن أختي، هذا عمل(2/1529)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
الكاتب غلطوا في الكتاب.
وفي قراءة عبد الله " والمقيمون " بالرفع.
وقال عثمان رضي الله عنهـ أرى فيه لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها، يريد المصحف، وهذه الأحاديث مطعون فيها عند العلماء لصحة جواز المصحف على لغة العرب.
وإذا كان للشيء وجه لم يجز أن يحمل على الغلط، وقد ذكرنا أن كونه بالياء له وجوه سائغة في لغة العرب، ويدل على أنه ليس بخطأ من الكاتب إن في مصحف أُبَيّ {والمقيمين} أيضاً فلو كان الرفع الصواب لم تجتمع المصاحف على تركه.
قوله: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ. . .} الآية.
قرأ الحسن: يونس ويوسف بالكسر جعله فعلاً مستقبلاً سمي به من آسف وآنس، وعلى هذا يجب أن يصرفا في النكرة، ويهمزا، ويكون جمعهما: يا أنس ويا أسف.
ومن لم يهمز قال في الجمع: يوانس ويواسف.(2/1530)
وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بالفتح لغة.
ومعنى الآية إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل إليه بالرسالة كما أرسل إلى من ذكر من الأنبياء وإلى من لم يسم.
وقيل: معناه: أوحى إلى جميعهم وإلى محمد صلى الله عليه وسلم { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13].
وكان سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بما أوحى الله إليه من سؤالهم إياه أن ينزل عليهم كتاباً فتلا ذلك عليهم وفضحهم: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية تكذيباً لهم.
وقيل: إنهم قالوا عند نزول هذه الآية {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ولا على عيسى، ولا على موسى، فأنزل الله {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] الآية.
وروي أن سكين بن عدي بن زيد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله، يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية.(2/1531)
وروى [أبو] ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الأنبياء مائة ألف وعشرون ألف. والرسل منهم ثلاثة مائة وثلاثة عشر منهم أربعة سريانيون وهم آدم، وشيث وإدريس، ونوح، ومنهم أربعة من العرب: هو وشعيب وصالح ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ".
وأول أنبياء بني إسرائيل بعد أولاد إسرائيل وإسرافيل يعقوب موسى، وآخرهم عيسى صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
وروى أيضاً عنه أنه (قال): جميع كتب الله التي أنزل مائة كتاب، وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل،(2/1532)
والزبور والقرآن، فكانت صحائف إبراهيم أمثالاً كلها: يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة مظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من كافر. . . " وكان فيها: " وعلى العاقل أن تكون له ساعات: [ساعة] يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنيع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. ". " وعلى العاقل ألا يكون صاحباً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. . . " وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه.
ومن حسب كلامه: " من عمله قل كلامه ".
قال: وكانت صحف موسى كلها عبراً.
" عجبت لمن أيقن بالموت وهو يفرح ".
" وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو يسخط ".
" وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها ".
" وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ".
ويروى أن آدم عاش ألف سنة وفي التوراة عاش ألأف سنة إلا سبعين عاماً.
وكان بين آدم والطوفان ألفاً سنة ومائتا وإثنان وأربعون سنة.(2/1533)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
وبين الطوفان وبين موت نوح ثلاثمائة وخمسون سنة.
وبين نوح وإبراهيم ألفاً سنة ومائة سنة وأربعون سنة.
وبين إبراهيم وموسى سبعملئة سنة.
وبين موسى وداود خمسائة سنة.
وبين داود وعيسى ألف سنة ومائتا سنة.
قال وهب بن منبه: كان بين آدم ونوح عشرة آباء، وبين نوح وإبراهيم عشرة آباء.
قال عكرمة: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.
قال القتيبي: قرأت في الإنجيل: أن بين إبراهيم وداود أربعة عشر قرناً، ومن داود إلى جالية بابل أربعة عشر قرناً، ومن جالية بابل إلى عيسى أربعة عشر قرن.
قوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} الآية.
[رسلاَ] نصب عطفاً على معنى {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ}، لأن معناه إنا بعثناك وبعثنا رسلاً.
وقيل: هو منصوب بفعل يفسره ما بعده كأنه: وأرسلنا رسلاً قصصناهم عليك.
وقيل: المعنى: وقصصنا رسلاً قصصناهم عليك، والمعنى إنها معطوفة على ما(2/1534)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قبلها.
ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أنه أوحى إليه كما أوحى إلى من ذكر من الأنبياء، وكما أوحى إلى رسل قد قصهم عليه، وإلى رسل لم يقصهم عليه، تكذيباً لليهود إذ قالوا {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ثم أعلمه أنه خص موسى بالكلام، وأكده بقوله {تَكْلِيماً} ليعلم أنه حقيقة لا مجاز، ولأن الفعل في كلام العرب إذا أكد بالمصدر علم أنه حقيقة لا مجاز.
قال كعب: كلم الله موسى بالألسنة كلها، فجعل موسى يقول: يا رب لا أفهم، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة.
وقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ} نصب على الحال من أسماء الأنبياء.
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي كيلا يقولوا: هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134 - القصص: 47].
قوله: {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ. . .} الآية.
المعنى: إن جحدوا ما أنزل إليك يا محمد بأن قالوا: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} فإن الله يشهد أنه أنزله إليك بعلم منه أنك خِيرته من خلقه ويشهد بذلك ملائكته(2/1535)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{وكفى بالله شَهِيداً} أي اكتفوا به شهيداً على صدق نبيكم، أي: حسبكم ذلك.
وقيل معنى: {بِعِلْمِهِ} أي وفيه علمه، كما تقول: جائنا فلان بالسيف أي ومعه.
قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في جماعة من يهود دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إني والله أعلم، أنكم لتعلمون أني رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} ".
المعنى: إن الذين جحدوا نبوتك بعد علمهم بها {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن الدين الذي بعثك الله به، وهو الإسلام وهو قولهم: لمن سألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما نجد صفته في كتابنا، وقولهم: إن النبوة لا تكون إلا في ولد هارون، وذرية داود {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} أي قد جاروا عن قصد الطريق جوراً شديداً.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ. . .}. الآية.
المعنى: إن الذين جحدوا نبوة محمد، ووضعوا الحق في غير محله، ليس يغفر لهم الله ذلك، إذا ماتوا عليه، ولم يكن ليهديهم طريقاً إلى الحق، ولكن يخذلهم حتى يسلكوا طريق جهنم فيقيمون فيها، خالدين [فيها] أبداً.(2/1536)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
وقيل معنى: {[وَلاَ] لِيَهْدِيَهُمْ} أي لا يوفقهم إلى الإسلام. {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} اي الخلق خلقه، والأمر أمره يفعل ما يشاء.
قوله: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ. . .} الآية.
{خَيْراً لَّكُمْ} نصب عند سيبويه بإضمار فعل التقدير (وأتوا خير لكم).
وهو عند الفراء: نعت لمصدر محذوف.
وعند أبي عبيدة خبر كان، التقدير: يكن خيراً لكم.
وقيل: نصبه على الحال. لأن التقدير: وآمنوا خيراً لكم، فلما حذف هو، الذي هو كناية عن مصدر يرتفع خير به، اتصل خبر بمعرفة قبله فنصب على الحال، وفي بعد، لأن خيراً غير جار على الفعل، ولا هو بمعنى الجار.
والمعنى: أنه خطاب لمشركي العرب وسائر أصناف الكفر. والحق هو الإسلام.
والمعنى: {وَإِن تَكْفُرُواْ} أي: تجحدوا، رسالة صلى الله عليه وسلم وتردوها فعن ذلك لا يضر الله شيئاً. لأن له ما في السموات والأرضين، فلن ينقصه كفركم شيئاً، ولم يزل الله عليماً بكم، وبما أنتم إليه صائرون وعاملون حكيماً في أمره إياكم.
قوله: {يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق. . .} الآية.(2/1537)
معنى {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ}: أي: آلهتنا ثلاثة.
{انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} نصب {خَيْراً} عند سيبويه على إضمار فعل دل عليه الكلام لأنه أمرهم بالانتهاء عن الكفر والدخول في الإيمان، فالمعنى: وأوا خيراً لكم. قال: لأنك إذا قلت أنتم فأنت تخرجه من شيء، وتدخله في آخر، ومثله عنده.
قواعد من سر حتى ملك ... أو الربا بينهما أسهلا
والمعنى: وآت أسهلا.
ومذهب أبي عبيدة أنه خبر كان، والتقدير يكن خيراً لكم، ورد ذلك المبرد(2/1538)
لأنه يضمر الشرط وإضماره لا يحسن.
ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف كأنه قال: انتهوا انتهاء خيراً لكم.
قوله: {سُبْحَانَهُ} انتصب انتصاب المصدر.
و {أَن يَكُونَ} إن في موضع [نضب] بحذف الخافض المحذوف، [والتقدير على أن يكون، وقد قيل: في موضع خفض بإعمال الخافض المحذوف].
ومعنى الآية: أنها خطاب للنصارى.
فمعنى: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي: " لا تجاوزوا الحق في دينكم.
{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله [إِلاَّ الحق]} أي: لا تقولوا في عيسى إلا الحق فإن قولكم في عيسى غير الحق إذ تقولون إنه: ابن الله، فهذا قولهم على الله غير الحق.
و {المسيح} فعيل بمعنى مفعول بمعنى ممسوح وسمي بذلك لأن الله مسحه من الذنوب والأدناس.
وقد قيل: إنها لفظة أعجمية أصلها مشيحا فأعرب فقيل المسيح، وقد ذكرنا(2/1539)
ذلك في غير هذا الموضع بأشبع من هذا التفسير.
ومعنى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} الكلمة هنا الرسالة التي أمر الله ملائكته أن تأتي بها مريم مبشرة من الله لها التي ذكرها الله في آل عمران.
قال قتادة: كلمة [قوله] {كُنْ فَيَكُونُ}.
ومعنى: {أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} أعلمها بها وأخبرها، كما تقول: ألقيت إليك كلمة حسنة، بمعنى أعلمتك، بها.
ومعنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي: ونفخ منه، وذلك أنه حدث عيسى في بطن أمه بأمر الله، وتقديره من غير ذكر من نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه، فنسبه تعالى إليه لأنه عن أمره كان.
وسمي النفخ روحاص: لأنه ريح تخرج من الروح.
وقيل: معنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}: أنه كان بإحياء الله إياه بقوله {كُنْ} فمعناه وحياة منه.
وقيل: معنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} ورحمة منه كما قال {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] فمعنى برحمة منه أي جعله رحمة لمن تبعه وصدقه.
كما قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} [مريم: 20].(2/1540)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
وقال أُبي بن كعب [في قوله] {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية.
قال: أخذهم فجعلهم أرواحاً، ثم صورهم ثم، استنطقهم، فكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد، والميثاق فأرسل تلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها فحملت فهو قوله {وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
وقيل: الروح في الآية معطوف على المضمر في {أَلْقَاهَا} والمضمر اسم الله، والروح اسم جبريل كان تقديره: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم، كما قال:
{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعرا: 193] وهو جبريل عليه السلام.
وقيل معنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} وبرهان منه لمن اتبعه، وذلك ما أنزل عليه من كتابه، وسمي البرهان روحاً، لأنه يحيى به من قبله
قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح. . .} الآية.
{أَن} في موضع نصب، أي: من إن، أو: عن إن.
والمعنى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} و {لاَ الملائكة المقربون} أن يقروا بالعبودية لله والإذعان له.(2/1541)
و {المقربون} هم من قرب منهم من الله في المنزلة لا قرب المسافة.
وقيل: هم من قرب منهم من السماء السابعة قاله الضحاك.
وفي هذا اللفظ دليل على فضل الملائكة على بني آدم.
ومعنى: {لَّن يَسْتَنكِفَ} لن يتعظم ويستكبر.
{وَمَن يَسْتَنْكِفْ} أي يتعظم من عبادته ويستكبر عنها.
{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي يبعثهم، فأما المؤمنون وهم المقرون بالوحدانية {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [بعد ذلك] تفضلاً منه. [وذلك أنه تعالى [وعد] المؤمنين للحسنة عشر أمثالها، ثم يزيدهم تفضلاً منه] ما شاء غير محدود.
وقيل: الزيادة إلى سبعمائة ضعف، وقيل إلى ألفين.
قوله: {وَأَمَّا الذين استنكفوا} أي " تعظموا عن عبادته " {واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي مؤلماً.
{وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي: يستنقذهم من عذاب الله.(2/1542)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ. . .} الآية.
المعنى: إنه خطاب لجميع الملل.
ومعنى: {بُرْهَانٌ} أي حجة. ومن أجل تذكير البرهان في اللفظ قال {قَدْ جَآءَكُمْ} ولم يقل قد جاءتكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم هو حجة على جميع الخلق.
{وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} أي القرآن.
قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} أي تمسكوا بالنور وهو القرآن فالهاء تعود على القرآن.
وقيل: معنى {واعتصموا بِهِ} أي اقتنعوا بكتابه عن معاصيه.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: يوفقهم لإصابه فضله، ويهديهم لسلوك طريق من أنعم عليه من أهل طاعته.
وقال بعض الكوفيين في نصب الصراط: إنه على القطع من الهاء في إليه.
وقيل: معنى {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي: إلى ثوابه.
والهاء في إليه تعود على الله جل ذكره.
وقيل: تعود على الفضل.
وقيل: على الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب والرحمة في قول مقاتل: الجنة.
قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة. . .} الآية.(2/1543)
قوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ} أي: كراهة أن تضلوا قاله المبرد.
وقال الكسائي والفراء: المعنى: لئلا تضلوا.
وروى ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَدْعُوَنَّ أحدكم على ولده، أن يوافق من الله إجابة " المعنى: لئلا يوافق.
وقيل: المعنى: يبين الله لكم الضلالة لتجتنبوه.
ومعنى الآية: أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ. . .} الآية.
والكلالة من لا ولد له ولا والد من الموتى، فهو اسم للميت الذي لم يترك ولداً ولا والداً.
وقيل: الكلالة اسم للورثة الذين لا ولد فيهم ولا والد، وقد مضى ذكر هذا بأشبع من هذا.
وقيل: إنها نزلت في جابر بن عبد الله عاده النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، قال جابر: فقلت يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له ولد ولا(2/1544)
والد، قال: فلم يجبني النبي صلى الله عليه وسلم بشيء حتى نزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية.
وقال الفراء وأنس: هي آخر آية نزلت من القرآن.
وقال جابر: نزلت في المدينة.
وقيل نزلت في سفر كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى حكمها: أن من مات لا ولد له ولا والد {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ} إن مات وليس لها ولد ولا والد، وللاثنين فأكثر من أخيهما الثلثان.
فإن ترك إخوة ذكوراً وإناثاً {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} والأخ للأب يقوم مقام الأخ للأب والأم عند عدمه، وكذلك الأخت.
وقوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} فيه قولان:
قال الأخفش: التقدير: فإن كان من ترك اثنتين ثم ثنى الضمير على معنى من.
وقال المازني: فائدة الخبر هنا أنه لما قال {كَانَتَا} كان يجوز أن يكون الخبر صغيرين، أو كبيرين، فلما قال {اثنتين} اشتمل على الصغير والكبير فأفاد ذلك.(2/1545)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 347 هـ
المجلد الثالث
المائدة - الأنعام
1429 هـ - 2008 م(2/1546)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
قال علقمة: ما كان في القرآن {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهو نزل بالمدينة، وما كان {يا أيها الناس} فهو نزل بمكة.
وهذا قول جرى من علقمة على معنى أن الأكثر كذلك، وليس يصحب ذلك في كل القرآن، بل " قد " يكون في المدني {يا أيها الناس} وفي المكي {يا أيها الذين آمَنُواْ}.(3/1551)
ولكن ما كان فيه {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهو مدني، وما كان (فيه) {يا أيها الناس} ولَيْسَ فِيه {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهو مكي، وفي " النور " اختلاف.
قوله {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} نصب على الحال من المضمر في {أَوْفُواْ} يراد به التقديم، وقيل: هو حال من الكاف والميم " في قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ}. وقيل: من(3/1552)
الكاف والميم " في {عَلَيْكُمْ}.
ومعنى الآية الأولى - من هذه السورة - أن العقود: العهود التي (قد) كان عاهد بعضهم بعضاً بها في الجاهلية من النصرة والمؤازرة، أمروا في الإسلام أن يوفوا بها، قال ذلك ابن عباس ومجاهد والضحاك / وقتادة والسدي والثوري.(3/1553)
وروي أن النبي عليه السلام قال: " أَوْفوا بِعَقْدِ الْجاهِلِيَّةِ وَلا تُحدِثوا عَقْداً في الإِسْلامِ ".
وقال الكلبي: العقود هنا الفرائض وما أُحِلَّ لهم وما حرم عليهم.
وقيل: هو كل شيء عقده الإنسان على نفسه: من حج أو يمين أو هبة أو عتق أو نكاح أو طلاق أو شبه ذلك.(3/1554)
وكل طاعة ألزمها الإنسان نفسَه، فليس له أن يخرج منها حتى يُتِمَّها، وعليه القضاءُ إن قطعها من غير عذر.
" و " قال ابن جريج: هي العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد، فهي لأهل الكتاب خاصة، وكان في كتاب رسول الله الذي بعثه إلى نجران: هذا بيانٌ من الله ورسولِه: {يا أيها الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} إلى {سَرِيعُ الحساب}.(3/1555)
وقال زيد بن أسلم: العقود - في هذه الآية - " سِتَّة ": " عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين ".
(و) قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} " الآية.
" قال الحسن: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم ". وقال قتادة والسدي والضحاك: بهيمة الأنعام: {الأنعام} كلُّها. وقال ابن عمر: بهيمة الأنعام: ما في(3/1556)
بطونها.
قال عطية: هو بمنزلة كبدها يؤكل، وسئل ابن عمر عنه يخرج ميتاً، فأجاز أكله، يريد بعد ذكاة أمه، (لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ذَكاةُ الْجَنينِ ذَكاةُ أُمِّهِ "). فأما إِن خَرجَ ميّتاً - والأم حية - فلا يؤكل أَلبتَّة، وقال ابن عباس مثل ذلك.
وروي " عن " الضحاك أن بهيمة الأنعام الوحش مثل (الظباء والحمر) وشبهه.(3/1557)
والأنعام - في اللغة - يشتمل على الإبل والبقر والغنم، وسميت الأنعام بهيمة، لأنها أُبْهِمَت عن التمييز.
وقوله {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي: فإِنَّه حرام، وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة (والدم)} [المائدة: 3] وما بعدها.
وقيل: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو الخنزير.
وقيل: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو الدم المسفوح، لأنه أحلها ثم حرّم دمها.
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: الحُرم جمع حرام، " وحرام " بمعنى مُحرِم.(3/1558)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
وهذه الآية - على عدد المدني، من أول السورة إلى {يُرِيدُ} - فيها خمسة أحكام:
- الأول قوله: {أَوْفُواْ بالعقود}.
- والثاني قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام}.
- والثالث قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ}.
- والرابع قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
- ودل على أن الصيد حلال لغير المحرم، فهو الحكم الخامس.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية.(3/1559)
قوله: {شَنَآنُ قَوْمٍ} مصدر أصله الفتح، و [لكن] من أسكن جعله اسماً. وقد توهم أبو عبيدة وأبو حاتم أن من أسكنه جعله مصدراً، فأنكراه على ذلك، وليس هو عند من أسكن مصدراً، بل هو اسم " ككسلان " و " غضبان ".
وقرأ يحيى بن وثاب {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بالضم.(3/1560)
وهي عند الكسائي لغتان: " أَجرَم " و " جَرَم "، ولا يعرف البصريون " أجرم " إلا في الجنابة.
ومن قرأ {أَن صَدُّوكُمْ} بالكسر، فالمعنى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا إن صدّوكم "، فالصد لم يكن بعد. وفي حرف ابن مسعود شاهد للكسر، لأنه قرأ (إِن يَصُدّوكُم)، ومثله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ} [محمد: 22].(3/1561)
ومن قرأ بالفتح، احتج أن الصد قد كان، وذلك أن الآية نزلت عام الفتح، سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست /، فالصدّ كان قبل الآية.
وقيل: " إِنْ " بمعنى " إذْ "، فهو صَدٌّ قد كان، فالكسر أولى به، ويدل على الكسر قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله [وَلاَ الشهر الحرام] وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} ولا كذا ولا كذا، فهو أمر للمؤمنين ألا يعتدوا إنْ صَدّ لهم، ولو كان الفتح الصواب لكان نَهْياً للمشركين ولم يقل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ}، وقد جعل النحاس هذه الحجة حجة للفتح، وهو خطأ، إنما(3/1562)
تكون حجة للكسر.
ومعنى الآية: أن الله نهى المؤمنين أن يحلوا شعائره، وهي معالمه وحدوده التي جعلها علماً لطاعته في الحج.
وقال عطاء: شعائر الله حرماته، حضهم على اجتناب سخطه واتباع طاعته.(3/1563)
وقال السدِّي: شعائر الله حرَم الله.
وقال ابن عباس: " شعائر الله مناسك الحج ".
وعن ابن عباس أيضاً: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} نهاهم أن يرتكبوا ما نهى عنه المحرمَ أن يصيبه.
وواحد الشعائر: شعيرة، وقيل: هي " فعيلة " بمعنى: " مُفعَلَة ".
قال أبو عبيدة: الشعائر الهدايا. قال الأصمعي: أشعرتها: أعلمتها.(3/1564)
ابن قتيبة: الإشعار أن [يُجَلَّلَ] ويُقلَّد ويُطعَن في سنامه ليُعلَم بذلك أنه هدي، فنهى الله أن يستحلوه قبل أن يبلغ مَحِلَّه.
وقيل: الشعائر العلامات بين الحِلِّ والحَرم، فنُهوا أن يجاوزوها غير مُحرِمين، وهو مشتق من قولهم " شَعر فُلانٌ بالأمرِ " إذا علم به.
قال زيد [بن] أسلم: الشعائر ست: الصفا والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. قال: والحرمات خمس: الكعبة الحرام، والبلد [الحرام]، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والمُحرِم حتى يَحِلَّ.
وقال الكلبي: كان عامة العرب لا يَعُدُّون الصفا والمروة من الشعائر، ولا(3/1565)
يقفون في حجهم (عليهما، وكانت الحُمْسُ لا يرون عرفات من الشعائر ولا يقفون بها في حجهم)، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وغيرها.
وقوله: {وَلاَ الشهر الحرام} أي: لا تستحلوه بأن تقاتلوا فيه [أعداؤكم]، وهو مثل قوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].
وعنى بالشهر الحرام رَجَب مُضَر، كانت مضر تحرّم فيه القتال.
وقيل: عنى به ذا القعدة. وقيل: إنهم كانوا يُحرّمونه مرة ويُحلّونه مرة، فنهوا(3/1566)
عن تحليله.
وقوله {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد}: أما الهدي فهو ما أهداه المؤمن من بعير " أو بقرة " أو شاة إلى بيت الله، حرّم الله سبحانه أن يُغْصَب أهله عليه أو يمنعوا أن يبلغوه محلّه. وقوله {القلائد} أي: لا تحلوا الهدايا المقلدات ولا غير المقلدات، فقوله {الهدى} هو ما لم يقلد، وقوله {القلائد} هو ما قلد منها. وقيل: القلائد هو ما كان المشركون يتقلدون به - إذا أرادوا الحج مُقبلين إلى مكة - من لحاء السَّمِرُ فإذا انصرف تقلد من الشَّعَر، فلا يعرض له أحد.(3/1567)
وقيل: إنه كان يأخذ معه من شوك الحرم فلا يعرض له أحد. قال قتادة: كان الرجل - في الجاهلية - إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من السَّمُر فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلا يعرض له أحد.
وقال عطاء وغيره: كان الرجل إذا خرج من الحرم تقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن، فأمر الله المؤمنين ألا [يحِلُّوا] من تقلد بذلك.
وهو منسوخ، وكذلك / قال السدي وابن زيد. وقيل: إنما نهى الله أن يُنزع شجر الحرم فيُتَقلّد به على ما كانت الجاهلية تصنع. فالتقدير على هذه الأقوال: ولا أصحاب القلائد.(3/1568)
وقيل: كان الرجل إذا خرج من أهله حاجاً أو معتمراً - وليس معه هدي جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فَأمِن بها إلى مكة، وإذا خرج من مكة علق في عنقه من لحاء شجر مكة فيأمن بها إلى أهله.
وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما: فأنزل الله {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} أي: لا تستحلوا ترك ذلك، {وَلاَ الهدي} أي: لا تعرضوا لهدي المشركين، {وَلاَ القلائد} أي: لا تستحلوا من قلد بعيره، وكان أهل مكة يُقَلِّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوبر، وقوله {ولا آمِّينَ البيت الحرام} أي: لا تستحلوا منع القاصدين للبيت الحرام.
وقرأ الأعمش (ولا آمِّي البَيْتِ) بالإضافة.(3/1569)
وقيل: المعنى: ولا تستحلوا منع قصد القاصدين البيت.
و" هذه الآية [نزلت] في رجل من ربيعةَ يقال له الْحُطَم " بن هند - كافرٍ، أتى حاجاً، قد قلد هديه، فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إليه فنزلت الآية، فنهاهم الله (عن) ذلك.
قال ابن جريج: " قدم الحُُطَمُ البكري على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني داعِيةُ قومي وسَيِّدُ قومي، فأْعْرِض عَلَيَّ ما تقول، فقال له النبي: أدعوك إلى الله أن تعبده: لا تشرك به (شيئاً) وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.(3/1570)
قال الحطم: في أمرك غِلظة، أَرجعُ إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرتَ، فإن قبلوا أقبلتُ معهم، وإن أدبروا كنت معهم.
قال له النبي: ارْجِعْ. فلما خرج قال: لقد دخل عليَّ بِوجهٍ كافرٍ وخرج عنّي بقفاً غادِرٍ، وما الرجل بمسلم. فَمَرّ على سَرْح لأهل المدينة، فانطلق به وقَدِم اليمامة وحضر الحج، فتجهز [خارجاً]- وكان عظيم التجارة - فاستأذن أصحابُ النبي أن يتلقّوه ويأخذوا ما معه "، فأنزل الله عز وجل { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية.
والحُطَم هذا هو القائل:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطم ... ليس براعي إبلٍ ولا غَنَم(3/1571)
ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمٍ ... باتوا نِياماً وابنُ (هندٍ لَمْ) ينَمْ
(بَاتَ يُقاسيها) غُلامٌ كالزَّلَم ... خَدَلَّجَ (السَّاقَيْن) مَمْسوحَ الْقَدَم
وقيل: اسم الحُطم [ضُبَيْعَة] بن شرحبيل البكري، قال ذلك إذ ساق السرح وهرب به. وقال ابن زيد: جاء ناس يوم الفتح يَؤُمّون البيت بعمرة وهم مشركون، فقال المسلمون: نُغِيرُ عليهم، فنزل {ولا آمِّينَ البيت الحرام}.(3/1572)
قال الشعبي: هذه الخمسة الأحكام منسوخة، كأنه يريد [أنها] نسختها {[فاقتلوا] المشركين} [التوبة: 5]، قال الشعبي: ولم ينسخ من سورة المائدة غير هذه.
وكذلك قال ابن عباس وقتادة في {ولا آمِّينَ البيت الحرام}: أمر ألا يمنع مشرك من الحج، ثم نسخ ذلك بالقتل.
وقال ابن زيد: هذا كله منسوخ بالأمر بقتالهم كافة.
(و) قال قتادة: نسخ من المائدة {لا آمِّينَ البيت الحرام}، نسخه آية القتل(3/1573)
في " براءة ".
ومن قال: نزلت كلها في شأن الحطم، قال: هي منسوخة. ومن قال: الشعائر حدود الله ومعالمه، قال: هي محكمة.
وأما (الشهر الحرام) فهو منسوخ أيضاً، لأن الجميع قد أجمعوا على أن الله تعالى قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها.
(و) قوله / {وَلاَ القلائد} منسوخ، لأن المشرك لو تقلد بجميع شجر الحرم لم نؤمّنه الآن: إجماع من الأمة، فهو منسوخ.(3/1574)
وقد قيل: إن المائدة لم ينسخ منها شيء، لأنها آخر ما نزل فيما ذكرت عائشة رضي الله عنها. وقد قال البراء: آخر سورة نزلت " براءة " وآخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} آخر النساء.
وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً}
قال قتادة: هي للمشركين يلتمسون فضل الله ورضوانه عند أنفسهم وفيما يُصلح شأنهم في الدنيا خاصة.
قال ابن عباس: يترضون الله بحجِّهم عند أنفسهم، وقال مجاهد: يبتغون الأجر والتجارة.(3/1575)
وقيل: هي للمسلمين، فهي محكمة، لأن المشرك لا يبتغي رضوان الله وفضله بحجه.
وكونها في المشركين أبين في أقوال المفسرين وأكثر.
قوله {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} هذا إباحة (وليس بحَتْمٍ).
قال عطاء بن (أبي رباح): [أربع رخصة وليس بعزيمة]:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا}، {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا} [الحج: 36]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10].
قوله {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} المعنى: لا يحملنّكم بغض قوم أن(3/1576)
تعتدوا من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، هذا على قراءة الفتح، ومن كسر فمعناه: إن فعلوا ذلك بكم فيما تستقبلون.
والقوم - هنا - أهل مكة صدوا النبي عليه السلام ومن معه عن المسجد الحرام يوم الحديبية. وقيل: معنى {" وَ " لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم.
وقوله {أَن تَعْتَدُواْ} قيل: إنها نزلت في النهي عن الطلب بِنُحول الجاهلية أمروا ألا يطالبوا بما (مضى من أجل أنهم صُدُّوا عن البيت، فيحملهم البغض [أن] يطالبوا بما) تَقدَّم في الجاهلية من قتل أو غيره. ثم أُمروا أن يتعاونوا على(3/1577)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
البر والتقوى، والبِرُّ: ما أُمِرْتَ به، والتقوى: ما نُهيتَ عنه: قاله ابن عباس.
وقال سهل بن عبد الله: " البر: الإيمان، والتقوى: السنة ". {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} {الإثم}: الكفر، {والعدوان}: البدعة.
{واتقوا الله} أي: خافوه إنه شديد العقاب.
قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} الآية.
المعنى: أن الله تعالى حرم [أكَلَ كل] ما مات من الأنعام وغيرها قبل التذكية، وحرم الدم المسفوح ولحم الخنزير [مُذَكّى] أو غير [مُذَكّى] وحرم {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وهو (ما ذبح) للأصنام والأزلام وشبهها مما أريد به غير الله، ومما تُعُمِّدَ في وقت ذبحه تَركُ ذكر اسم الله عليه، وحرم {المنخنقة} وهي التي(3/1578)
تَخْتَنِقُ بحبل أو بين حجرين أو عودين - ونحو ذلك - فتموت قبل التذكية، وحرم {والموقوذة} وهي التي تموت من ضرب عصا أو حجر أو [غير] ذلك فتموت قبل التذكية، وحرم {والمتردية} وهي التي تسقط من جبل أو في بئر ونحو ذلك فتموت قبل التذكية، وحرم {النطيحة} وهي التي تموت من نطح شاة أخرى لها، أو من نطحها لشاة أخرى، وكانوا يأكلون ذلك في الجاهلية من غير تذكية.
واختلف في {النطيحة} فقيل: (هي) " فعلية " (بمعنى " مفعولة " وقيل هي) بمعنى " فاعلة "، ولذلك ثبتت الهاء (فيها).(3/1579)
وقال الفراء: إنما ثبتت الهاء، لأنه ليس قبلها مؤنث فتحذف الهاء لدلالة المؤنث على التأنيث، إنما تحذف إذا كان قبلها ما يدل على التأنيث.
وحرم {وَمَآ أَكَلَ السبع} وهو أن [يؤخذ] منه وقد أكل بعضها وليس مما علّم / للصيد.
وكان سبب ذكر هذه الأشياء أن العرب الجاهلية كانت تضرب الشاة بالعصا حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل ما لحقت من الشاة وغيرها في فم الأسد، وكانت تخنق الشاة بالحبل حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل جميع ما ذكر الله تحريمهُ، فأنبأنا الله بتحريمه، وهذه حجة من أجاز أكل جميع ذلك إذا ذكى وفيه حياة على أي: حال كان.(3/1580)
قوله {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} اختلف العلماء في هذا الاستثناء: فأكثرهم على أنه مستثنى ذكر تحريمه، كأنه حرم علينا جميع ما ذكره إلا ما أدركنا ذكاته وفيه شيء من روح. وأكثر الفقهاء على أن ما أدرك من جميعه فذكيّ وتحركت رجله أو طرف بعينه أو علم أنه بقيت (فيه) حياة، فإنه يؤكل.
ومنهم من يرى أن هذا الاستثناء إنما هو من التحريم، لاَ مِنَ المحرمات المذكورة، كأن تقديره: إلا ما أحله الله لكم بالتذكية، وهو مذهب أهل المدينة، فيكون المعنى: إلا ما ذكيتم مما ذكر مما تُرجى له الحياة لو ترك، لا ما ذكيتم مما لا ترجى (له) الحياة لو ترك، فكل ما أصيب من ذلك في مقتل، فلا تنفع فيه الذكاة وإن أدرك(3/1581)
وفيه حياة، هذا مذهب مالك وأهل المدينة.
ويدل على صحة هذا القول أن هذه الأشياء المذكورات بالتحريم لو كانت لا تحرم إلا بالموت قبل الذكاة، لكان قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} يغني عن ذكر ما بعده، ولا يكون لِذكرِ ما بعد الميتة فائدة.
وقد قال المخالف: الفائدة في ذكر ما بعد الميتة وهو من الميتة ما تقدم ذكره من أن (أهل) الجاهلية كانت تخنق الشاة حتى تموت وتأكلها وتضرب الشاة حتى تموت وتأكلها، فأعيد ذكرها بعد الميتة لهذا السبب.(3/1582)
وقد سئل مالك عن الشاة يخرّق بطنها وتدرك (و) فيها حياة، قال: لا أرى أن تذكى ولا تؤكل، وكذلك مذهبه في كل ما تيقن أنه لا يعيش مما نزل به: أنه لا يذكى ولا يؤكل إن ذكي وفيه بعض حياة.
وأصل التذكية - في اللغة - التمام، يقال: " لفلانٍ ذَكاءٌ " أي: تمام الفهم، " وذَكَّيْتُ النار ". أتْمَمْتُ إيقادَها.
وقرأ الحسن: (السَّبْع) بالإسكان، وهي لغة أهل نجد. وأجاز مالك أكل ذبيحة السارق، ومنعه غيره. ولا يؤكل ما ذبحه المُحْرِم من صيد، لا يأكله هو ولا غيره عند مالك وغيره، بخلاف ما ذبح السارق. وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} مخصوص، لأن الدم الذي هو غير مسفوح - كالكبد وما أشبهه - حلال،(3/1583)
" وأحل النبي صلى الله عليه وسلم أكل الحيتان والجراد والميتة "، فالدم خصصه قوله في " الأنعام " {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145]، والميتة خصصتها السنة.
وقوله {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} حرم الله ما ذبح ليقرب إلى الأصنام، وقيل: النصب حجارة يذبح عليها أهل الجاهلية ويعبدونها.
قوله {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام}: أي وحرم ذلك عليكم، وهو أن أحدهم(3/1584)
(كان) إذا أراد سفراً أو غزواً أجال القداح - وهي الأزلام - وكانت مكتوباً على بعضها " نهاني ربي "، وعلى بعضها، " أمرني ربي "، فإذا خرج القدح الذي عليه النهي لم يسافر، وإذا خرج الذي عليه الأمر سافر. وقيل: الأزلام حصىً بيض كانوا يضربون بها.
وقيل: الأزلام كعاب فارس كانوا يتقامرون بها.
وقيل: هي الشطرنج.
ومعنى {تَسْتَقْسِمُواْ} تستدعوا القِسْمَ، كما تقول: استسقى إذا استدعى(3/1585)
السقي، والاستقسام من القِسْم، كأنهم يطلبون بها النصيب من سفرٍ أو بركة على ما يريدون.
وقال ابن إسحاق: كانت هبل أعظم صنماً لقريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة يروى أن إبراهيم وإسماعيل حفراها ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة من حلي وغيره، وكانت عند هبل سبعة أقداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه " العقل " إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه " نعم "، إذا ضربوا به فخرج " نعم " عملوا به، وقدح فيه " لا " فإذا أرادوا(3/1586)
أمراً فضربوا (به) فخرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك، وقدح فيه " منكم "، وقدح فيه " مُلصَق "، وقدح فيه " من غيركم "، وقدح فيه " المياه "، فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح - وفيها ذلك القدح - فإذا خرج عملوا به، وكانوا يستعملون ذلك في نكاحهم وجميع أمورهم، وكانوا إذا شكوا في نسب أحد [منهم] ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قرّبوا صاحبهم وقالوا: يا إلهنا، هذا فلان (بن فلان) أَخْرِجْ لنا الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه " منكم " كان من أوسطهم، (وإن خرج عليه " من غيركم " كان حليفاً)، وإن خرج [عليه] " ملصق " كان لا نسب له ولا حلف، وإن خرج " لا " أخّروه عامهم ذلك وأتوا به عاماً آخر: أحكاماً لم يأمر (الله بها) ولا رضيها.(3/1587)
قوله {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} الآية، المعنى: الآن يئس الكفار منكم أن تتركوا دينكم وترتدوا إلى دينهم، وذلك اليوم (يوم) عرفة، عام حج النبي عليه السلام حجة الوداع، بعد دخول العرب في الإسلام.
وقيل: ذلك يوم جمعة، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فلم ير إلا موحداً فحمد الله على ذلك، فنزلت الآية.
وقيل: المعنى: الآن، والعرب تقول: " أَنَا الْيَوْمَ قَد كَبِرْتُ عن هذا " أي: الآن.
وقال الحسن: يئسوا أن تستحلوا في دينكم ما استحلوا في دينهم.
{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي: لا تخافوهم أن يقهروكم فيردوكم عن دينكم، وخافون أي: إن خالفتم أمري.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.(3/1588)
فهذا يقوي قول من (قال): " لا منسوخ فيها "، وهو قول الحسن وغيره، وليس عليه العمل، بل فيها ناسخ ومنسوخ عند أكثر العلماء.
قوله {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي: أتْممتُ فرائضي عليكم وحدودي، ونزل ذلك يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش النبي عليه السلام - بعد نزول هذه الآية - إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، " ولما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يُبْكِيكَ؟
فقال: كُنَّا في زيادةٍ من ديننا، فَأَمَّا إِذا كَمُلَ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقْتَ ".(3/1589)
قال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة.
وقيل: معنى كمال الدين: أنه منع أن يحج مشرك وكمل الحج للمسلمين ونُفِيَ المشركون من البيت الحرام والحج، قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما
وقيل: المعنى: اليوم أظهرت دينكم على سائر الأديان وأهلكت عدوكم.
وذكر بعض العلماء أن في المائدة (ثمان عشرة) فريضة ليست في غيرها (وهي):
تحريم الميتة / والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، والاستقسام بالأزلام، وتحليل طعام أهل الكتاب، وتحليل المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، والجوارح(3/1590)
مكلِّبين، وتمام الطهور: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وحكم السارق والسارقة، ونفي (فرض) البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وهي آخر سورة نزلت.
واختيار الطبري أن يكون المعنى أن الله أعلم نبيه أنه أكمل لهم دينهم(3/1591)
بانفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين حتى حج المسلمون، لا مشرك يخالطهم، فأما إكماله بتمام الفرائض فيعارضه ما روى البراء بن عازب أن آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] الآية، (و) أيضاً فإن قول من قال: " نزل بعد ذلك فرائض "، أولى من قول من قال: " لم ينزل "، لأن الذي نفى يخبر أنه لا علم عنده، والنفي لا يكون شهادة مع خبر الصادق بالإيجاب.
وقوله {[وَ] أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} هو منع المشركين الحرام وانفراد المسلمين به.
(وقوله) {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} أي: رضيت لكم أن تستسلموا لأمري(3/1592)
وطاعتي، {دِيناً}: ولم يزل تعالى راضياً به لهم، ولكن لما تَمَّ وكمُل ذكر الرضى به.
وقيل: إن هذه الآية نزلت بالمدينة يوم الاثنين.
وقوله {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ} أي: من أصابه ضرّ في مجاعة، فالميتة حلال له.
والمخمصة: من خَمَصِ البطن، وهو ضموره من الجوع، وذكر بعضهم أنه مصدر من: " خَمَصَهُ الجوع " وقيل: هو اسم للمصدر.
ومعنى {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي: غير مائل ولا متحرف إلى أكلها يريد به(3/1593)
التعمد - من غير ضرورة - (واتباع الشهوة) وقيل: معناه: غير مُتَعَمّدٍ لاكتساب الإثم بأكله من غير ضرورة، يقال: " جنف القوم "، إذا مالوا وكل أعرج فهو أجنف.
قوله {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: له، وفي الكلام حذف، والمعنى غير متجانف لإثم فأكله. [والمعنى]: فإن الله يسترُ له عن أكله ويرحمه، ومن رحمته أنه أباح له ما حرم عليه عند الضرورة.(3/1594)
قال الحسن والنخعي والشعبي: إنما يأكل المضطر من الميتة قدر ما يقيمه.
وقال عطاء: يأكل منها قدر ما يرد نفسه، ولا يشبع.
وقال مسروق: من اضطر إلى الميتة فتحرّج أن يأكل منها حتى مات، دخل النار.
قال مسروق: (و) ليس في الخمر رخصة، إذا اضطر إليها [مضطر] لأنَّها لا تروي.(3/1595)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
ولا يحل أكل الميتة لمضطر خرج لفساد الطرق وقطعها، قاله مجاهد.
قوله {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية.
المعنى: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي أحل الله لهم، فقال الله له {[قُلْ] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وهو الحلال الذي أذن فيه من الذبائح، وأعلمهم أنه أحل لهم (مع ذلك) أكل صيد ما علموا من الجوارح، وهي سباع البهائم والطير، سميت " جوارح " (لكسبها لأربابها) أقواتهم، فالجوارح: الكواسب، (و) واحدها: جارحة يقال: جرح فلان أهله خيراً "، إذا أكسبهم خيراً، و " فلان جارحة أهله " أي: كاسبهم، و " لا جارح لفلان " أي: ليس له كاسب، و " فلان يجترح " أي: يكتسب، ومنه قوله تعالى: / {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي:(3/1596)
اكتسبوها، ومنه قوله تعالى {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] أي: ما اكْتَسَبْتُمْ.
وفي الكلام حذف، والتقدير: قل أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح.
وكان النبي قد أمر بقتل الكلاب، فسألوا عما يحل اتخاذه منها وصيده، فنزل {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} فعلم أنه مباح اكتساب كلاب الصيد سلوقية أو غير سلوقية.
ومعنى {مُكَلِّبِينَ}: أصحاب كلاب، قال مجاهد: الفهد من الجوارح، وكلهم على أن الصقر والبازي من الجوارح، وكذلك العقاب.
والجوارح هي المعلَّمة من هذه الأنواع، إذا دعيت أجابت وإذا زجرت أطاعت،(3/1597)
فكل من أرسل منها شيئاً فسمى الله عز وجل فأصابت صيداً أكل، وإن قتلته فهو حلال، غير أن الضحاك قال: الجوارح: الكلاب المعلّمة دون غيرها لقوله {مُكَلِّبِينَ}، وقد " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيد البازي، فقال: " ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُل " ".
وما صاد غير المعلَّم لا يؤكل إلا أن تدرك ذكاته وهو حي صحيح، لم يحدث فيه ما إن ترك لم يعش. وإذا أكل الكلب المعلم من الصيد، أكل باقيه عند مالك.
ومعنى {مُكَلِّبِينَ} أصحاب كلاب، ويقال: أكلب الرجل، إذا كثرت عنده الكلاب، فهو مُكْلِب.(3/1598)
وقد قرأ ابن مسعود (مُكْلِبين) بإسكان الكاف، يريد كثرة كلابهم، وقيل معنى {مُكَلِّبِينَ} معلّمين محرّشين.
وقوله {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي: تؤدبوهنّ من التأديب الذي أدبكم الله به والعلم الذي علمكم، وهو الطاعة إذا زُجر والأخذ إذا أُمر.
قال ابن عباس: التعليم: أن يمسك الصيد فلا يأكل حتى يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه فلا يؤكل، وهو قول سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقتادة وعطاء وعكرمة والشافعي، وروي عن أبي هريرة.(3/1599)
وقال ابن عمر: يؤكل وإن أكل وبه قال (مالك وجماعة معه).
ومن أرسل كلباً غير معلم فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ إلا أن يُدْرِكَ ذكاته فإن أرسل معلماً فأخذ ولحقه قبل أن يموت - فاشتغل عن تذكيته حتى مات - فلا يؤكل، لأنه أدركه حيّاً وفرَّط في تذكيته، فإن (كان) أدركه (حيّاً) وقد أنفذ الكلب - أو البازي - مقاتله فلم يذكه حتى مات، أكل، لأن الذكاة ليست بشيء إذ هو ميت لا محالة لو ترك.(3/1600)
فإن أرسل المُعَلَّم فوجد معه كلباً آخر - معلَّما أو غير معلَّم - فلا يؤكل، لأنه لا يدري لعل الآخر قتله وهو لم يرسله ولا سمى الله عليه، كذلك قال مالك والشافعي وغيرهما، وقال الأوزاعي: إن كان الثاني معلَّما أكل، وإن كان غير معلّم لم يؤكل، وكذلك قياس البازي. فإن أرسله على صيد فأخذ غيره، فإن مالكاً يكره أكله، فإن أرسله في جماعة: فأيها أخذ أكل.
ولا بأس عند مالك بلعاب الكلب الصائد يصيب ثوب الإنسان، وقال الشافعي: هو نجس.
فإن انفلت المعلّم من يد صاحبه - ولم يرسله - فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ عند(3/1601)
مالك والشافعي، وقال عطاء والأوزاعي: يؤكل.
ولا يؤكل صيد أهل الكتاب عند مالك، لأن الله تبارك اسْمُهُ قال {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] وتؤكل ذبائحهم. وأجاز الشافعي وعطاء وغيرهما أكل ما صاد كلب الكتابي المعلم.
وأما صيد المجوسي فأكثرهم منعه ولم يجز أكله، فأما صيد الكتابي والمجوسي للحيتان والجراد فهو / حلال أكله عند أكثر العلماء، وكره مالك صيد المجوسي الجراد، ولم يكره الحيتان، فرق بين صيد البر والبحر، وكذلك قال النخعي.(3/1602)
وكل ما أصاب المِعْراض يؤكل إذا كان بغير عَرْضه عند مالك والشافعي. فأما صيد البندقة فكرهه مالك والشافعي وغيرهما. ولم ير مالك رضي الله عنهـ بأساً بأكل الصيد يغيب عن عين صاحب الكلب إذا وجد فيه أثراً من كلبه، وكذلك السهم ما لم يبت عنه. ولم يجز ابن القاسم أكل الصيد إذا بات عن المرسل.
وقال ابن الماجشون: إذا أنفذ سهمك - أو كلبك - مقتل الصيد(3/1603)
فكله. وإن بات عنك، وإذا لم ينفذ مقتله فلا تأكل إذا بات عنك، لعل غير كلبك قتله، وقاله أشهب وأصبغ.
وقوله {[مِمَّآ] أَمْسَكْنَ} من: للتبعيض. وقيل: هي زائدة.
ومعنى التبعيض أنه يؤكل، لحمه حلال، ويترك دمه [وفَرْثه]، لأن الدم حرام.
وقوله: {واذكروا اسم الله " عَلَيْهِ "} أي: حين الإرسال. وقيل: حين(3/1604)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
الأكل.
ومن نسي فلا شيء عليه، فإن تركها عامداً لم [يؤكل] ما أخذ، كما لا يؤكل ما ذبح إذا ترك التسمية عامداً.
قوله: {واتقوا الله} أي: اتقوه فيما أمركم به، وأن لا تأكلوا صيد غير معلم، {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: لمن حاسبه، حافظ لجميع ما تعملون.
قوله: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} الآية.
الطيبات - هنا - الحلال من الذبائح. وقيل: هي كل ما تلذذ به من الحلال. {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} أي: ذبائحهم، {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (أي) ذبائحنا جائز (لنا)(3/1605)
أن نطعمهم إياها، فتحليل ذلك هو لنا لا لهم، ومثله قوله {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} [الممتحنة: 10] أي: أعطوهم ما أنفقوا، فالأمر لنا لاَ لَهم، لأنهم ليسوا ممن يؤمن بالقرآن فيكون الأمر لهم.
ومذهب الشعبي وعطاء وغيرهما أنه تؤكل ذبائحهم وإن سَمَّوا عليها غير اسم الله، وهذا عندهم ناسخ لقوله {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، ويروى ذلك عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت.
ومن العلماء من قال: هذا استثناء وليس بناسخ لِما في الأنعام، تؤكل ذبائح(3/1606)
أهل الكتاب وإن ذُكِر عليها اسم المسيح.
ومذهب عائشة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وابن عمر أنه لا تؤكل ذبيحة الكتابي [إذا] لم يسم عليها.
و" كان " مالك يكره ذلك ولم يحرمه. وأما إن ذكر عليه اسم المسيح فلا تؤكل عند مالك. وكره مالك ذبائح أهل الكتاب لكنائسهم ولم يحرمه. فأما ذبيحة المجوسي فلا تؤكل.(3/1607)
وذبيحة نصارى تغلب لا تؤكل. وقال ابن عباس: تؤكل ذبائحهم، وهم بمنزلة غيرهم، وقال بذلك غيره من الفقهاء.
وقال علي بن أبي طالب: لا تؤكل ذبائحهم، وبه قال الشافعي: فأما الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس: " سُنّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتابِ " فإنه غير متصل الإسناد، (و) أيضاً فإن الحديث إنما جرى على سبب الجزية لا غير، وقوله " سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ " يدل على أنهم ليسوا منهم.(3/1608)
وقوله {والمحصنات مِنَ المؤمنات} أي: أحل لكم الحرائر من المؤمنات والحرائر من الذين أوتوا الكتاب - نصرانية أو يهودية -، إذا أعطيتها صداقها وهو {أُجُورَهُنَّ}.
وقيل: المحصنات - هنا - العفائف من هؤلاء ومن هؤلاء، فأجاز قائل هذا / نكاح الإماء من أهل الكتاب وتحريم غير العفائف من الجميع، قال ذلك مجاهد، وقاله سفيان والسدي.
والحربية من أهل الكتاب - وغيرها سواء - جائز نكاحها. ومن قال: المحصنات العفائف، فالحربية - من الإماء والحرائر - جائز نكاحها عنده، ومذهب مالك وغيره أن إماء أهل الكتاب لا يجوز نكاحهن.
وروي أن ثواب الرجل مع الزوجة المؤمنة أفضلُ من ثوابه مع الزوجة الكتابية، وروي أن الرجل إذا قبَّل زوجته المؤمنة، كتب له عشرون حسنة، وإذا جامعها(3/1609)
كتب له عشرون ومائة حسنة، فإذا اغتسل منها، لم يمرّ الماء بشعرة من جسده إلا كتبت (له (عشر)) حسنات ومحي عنه عشر سيئات، وباهى الله به الملائكة فقال: انظُروا إلى عبدي قام في ليلة [قَرَّةٍ] يَغتَسِلُ من خَشْيَتي، ورَأَى أن ذلكَ (حقٌّ لي) عليه، اشهدوا يا ملائكتي أنّي قَد غَفرتُ لَه.
وروي أن المرأة لا تضع شيئاً من بيت زوجها، تريد بذلك إصلاحه، ولا ترفعه إلا كتب لها عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا حملت ثم طلقت، فلها بكل طلقة كأنما أعتقت نسمة (من ولد إسماعيل) خير النسم،(3/1610)
فإذا أرضعت كان لها بكل مصة عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا أفطمته نادى منادٍ من السماء: أَيَّتُها المرأة قد غفر لك فاستأنفي العمل.
وروي عن (ابن المسيب) والحسن أنهما كانا لا يريان بأساً بنكاح إِماء اليهود والنصارى.
و (قد) قيل: عنى بذلك نساء أهل الذمة من أهل الكتاب خاصة، ونساء(3/1611)
أهل الحرب حرام، روي ذلك عن ابن عباس.
قوله {مُحْصِنِينَ} أي: أعِفّاء، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي: غير مزانين، {وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} أي: أَخِلاّءٌ على الزّنى، والخدن: الخليل للمرأة يزانيها.
قوله {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي: بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: بالإيمان بالله عز وجل وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: بالإيمان: بما نزل من الحرام والحلال والفرائض.
ونزل ذلك في قوم تَحَرَّجوا نكاح [نساء] أهل الكتاب، فأنزل الله {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}، أي من يردّ من أتى(3/1612)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الإيمان - هنا - التوحيد، وهو مثل قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ومثل قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} [آل عمران: 85] الآية.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية.
قوله {وَأَرْجُلَكُمْ}: من خفض.
(فهو) عند الأخفش وأبي عبيدة على الجوار، والمعنى للغسل، شبه(3/1613)
الأخفش بقولهم " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ "، وهذا قول مردود، لأن الجوار لا يقاس عليه، إنما يسمع ما جاء منه ولا يقاس عليه.
وأيضاً فإن الأرجل معها حرف العطف، ولا يكون الإتباع مع حرف العطف.
وقيل: إنه إنما خفض لاشتراك الغسل والمسح في باب الوضوء، كما قال {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] فخفض وعطفه على الفاكهة التي يطاف بها، وهذا مما لا يطاف(3/1614)
به، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في التنعم بهما، وكما قال الشاعر:
شرّابُ أَلْبَانٍ وتَمْرٍ وأَقطٍ. ... فعطف التمر والأقط على ما يشرب، وليس يشربان، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما في التغدي بهما، ومثله قوله:
ورأيتُ زوجَكِ قد غدا ... مُتَقَلِّداً سيفاً ورُمحاً
فعطف الرمح على / السيف وليس الرمح مما يتقلد به، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في الحمل وفي أنهما سلاح، ومثله:
عَلَفتُها تِبْناً وماءً بارداً. ... فعطف الماء على التّبن وليس مما يوصف بالعلف، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما(3/1615)
في أنهما غذاء لها. ومثله قوله:
وزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيونا. ... فعطف العيون على الحواجب وليست مما يُزَجَّجَ إنما تكحّل، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في التزيّن بهما، فكذلك يحمل الغسل على المسح لاشتراكهما في باب الوضوء.
وتقدير ما ذكرنا - عند النحويين - على حذف فعل فيه (كله) على قدر معانيه، كأنه قال [وأكّالِ تَمْرٍ]، (وحامِلاً رُمْحاً)، (وَسَقيْتُها ماءً)، (وكَحَّلنَ الْعُيُونَ) ونحو ذلك من التقدير.(3/1616)
وقال علي بن سليمان تقديره: وأرجِلكم غسلاً.
وقيل: المسح - في كلام العرب - يكون بمعنى الغسل يقال: تمسحت للصلاة أي: توضأت لها فاحتمل المسح للأرجل أن يكون بمعنى الغسل وبغير معنى الغسل، فبيّنت السنّة أن المسح للرؤوس بغير معنى الغسل، وأن المسح للأرجل بمعنى الغسل.
وقال قوم من العلماء - منهم الشعبي -: من قرأ بالخفض [فقراءته] منسوخة بالسنة.
واستدل من قال: أن معنى الخفض النصب، بقوله {إِلَى الكعبين}، فحدد كما(3/1617)
حدد اليدين إلى المرفقين، ولما كانت اليدان مغسولتين بالإجماع وجب أن تكون الرجلان كذلك لاشتراكهما في التحديد.
وقال ابن عباس: [قراءة] النصب ناسخة للمسح على الخفين وهو مذهب عائشة وأبي هريرة. قال ابن عباس: ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين بعد نزول المائدة. وقد أجاز المسح على الخفين جماعة من الصحابة ورووه عن النبي عليه السلام أنه مسح بعد (نزول) المائدة، ومن أوجب شيئاً أولى بالقبول ممن نفى،(3/1618)
وعليه جماعة الفقهاء، وهو قول علي وسعد وبلال و (عمرو بن) أمية وحذيفة وبريدة وغيرهم.(3/1619)
وهذه الآية ناسخة لقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى}
[النساء: 43]، وهو قول جماعة.
وقيل: هي ناسخة لما كانوا عليه: روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أحدث (لم يكلم أحداً) حتى يتوضأ فنسخ ذلك بالوضوء عند افتتاح الصلاة " وقيل: هي منسوخة، لأنها لو لم تنسخ لوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء، فنسخها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وجمعه صلاتين وصلوات بوضوء واحد.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: هي على الندب، نَدَبَ كُلَّ قائم إلى الصلاة إلى الوضوء وإن كان (على وضوء) وقيل: يجب على كل من قام إلى الصلاة الوضوء -(3/1620)
وإن كان) متوضئاً - بظاهر الآية، وهذا قول خارج عن قول الجماعة، وهو قول عكرمة وابن سيرين. وروي أن علياً رضي الله عنهـ كان يتوضأ لكل صلاة.
وقال زيد بن أسلم وأهل المدينة: الآية مخصوصة فيمن قام من النوم.
وقيل: الآية مخصوصة يراد بها من كان على غير طهارة، وهو قول الشافعي، قال: المعنى: إذا قمتم - وقد أحدثتم - فافعلوا كذا.
ومعنى {إِذَا قُمْتُمْ}، إذا أردتم القيام، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن(3/1621)
فاستعذ بالله} [النحل: 98] أي: إذا أردت [قراءة] القرآن.
وقوله {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ}: الباء للتوكيد / لا للتعدية، والمعنى: (و) امسحوا رؤوسكم، ولا يجزئ مسح بعض الرأس لأجل دخول الباء، كما لا يجزئ مسح بعض الوجه في التيمم لدخول الباء في قوله: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} [النساء: 43]، وهذا إجماع، فالرأس مثله.
وقوله: {إِلَى المرافق}: روى أشهب عن مالك أنه قال: الغسل إليهما ولا يدخلان في الغسل، وروى غير أشهب عنه أن غسلهما واجب مثل الكعبين اللذين أجمع على غسلهما، وهو قول عطاء والشافعي.(3/1622)
وأصل (إلى) - في اللغة - الانتهاء، كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187]، فالليل آخر الصوم غير داخل في الصوم، وكذلك المرفقان غير داخليْن في الوضوء.
ومَن أدخل المرفقين في الغسل، فإنما هو على أن يجعل " إلى " بمعنى " مع " كما قال: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أي: " مع "، وكما قال: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52، الصف: 14] أي: مع الله، هذا قول بعض أهل اللغة. ومنع ذلك المبرد وغيره من النحويين لأن اليد - عند العرب - حدها إلى الكتف فلو كانت " إلى " بمعنى " مع " وجب غسل اليد كلها إلى الكتف، لأنه آخرها، و " إلى " عنده على بابها، قال المبرد: إذا كان ما بعد " إلى "(3/1623)
مِمّا قبلها، فما بعدها داخل فيما قبلها كآية (الوضوء)، وإذا كان بعدها مخالفاً لما قبلها، فالثاني غير داخل فيما دخل فيه الأول، كقوله {إِلَى الليل}، فلو قلت " بِعتُ هذا الفدّان إلى هذه الدّار "، لم تدخل الدّار في البيع، لأن الدار مخالفة للفدان، ولو قلت " بعتُ هذا الثّوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف "، دخل الطرف الثاني في البيع، كذلك لمّا كانت المرفقان من جنس اليد، دخلتا في الغسل مع اليد، فإذا كان الحد من جنس المحدود دخل معه، وإذا كان من غير جنسه لم يدخل معه، هذا التفسير قول المبرد، وهو حسن جيد، ولذلك يقول الموثقون: " اشترى الدّار بحدودها "، فالحدود داخلة في البيع.(3/1624)
(وكان الطبري يقول): ليس غسلهما بواجب، فهو ندب من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: " أمتي الغر المُحَجَّلون من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غُرَّتَه فليفعل ".
قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} أي: [ذوو] جنب، " وجُنُبٌ " مصدر لا يثنى ولا يجمع، كعدل ورضًى وصَوْم، يقال: قوم صَوْمٌ، ورجل صَوْمٌ، يقال: أجنب(3/1625)
الرجل وجَنَب وجَنُب.
(و) قوله: {وَإِن كُنتُم مرضى} أي: جرحى أو مجدورين وأنتم جنب، {أَوْ على سَفَرٍ} أي: مسافرين وأنتم جنب.
وقوله: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} قيل: اللمس: الجماع. (وقيل): هو المس دون الجماع، كالقبلة والمباشرة.
ويسْأل من قال: هو الجماع، ما وجه تكريره وقد مضى حكم الجنب في قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا}؟ فالجواب: أن الأول بيَّن حكمه وأمره بالطهر إذا وجد الماء، ففَرَض عليه الاغتسال، ثم بيَّن - ثانيةً - حكمه إذا أعوزه الماء، فأعلَمه أن التيمم(3/1626)
بالصعيد طهور حينئذ. والتيمم: القصد والتوخي إلى الشيء.
قوله: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم (مِّنْ حَرَجٍ)} أي: ضيق في فروضكم، {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي: يطهركم بما فرض عليكم فَتَطَّهَّرونَ من الذنوب، " وروى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الوضوءَ يُكفِّر ما قبله، ثم تصير الصلاةُ نافلةً، قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم، / غير مرةٍ ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ".
وقال ابن جبير: معنى {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}: ليدخلكم الجنة، (أي) فإنها لم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة، ولن يدخله الجنة حتى يغفر له، كذلك(3/1627)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قال لنبيه: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] فلم تتم النعمة إلا بعد المغفرة، وهو قول زيد بن أسلم ذكر جميع ذلك ابن وهب وغيره.
قوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} الآية.
قوله: {بِذَاتِ الصدور}: قال الأخفش والفراء وابن كيسان: الوقف بالتاء على (ذات) وهو خط المصحف، لأن التاء كأنها متوسطة.
ومذهب الكسائي والجرمي أن تقف بالهاء، وهو اختيار أبي غانم، لأن هذا تأنيث الأسماء.(3/1628)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
ومعنى الآية أن الله تعالى ذكرهم بنعمته أن هداهم لما فيه النجاة لهم.
ومعنى {وَمِيثَاقَهُ} هو ما بايعوا عليه النبي عليه السلام من السمع والطاعة فيما (أحبوا) وكرهوا والعمل بكل ما أمرهم به، قال ذلك ابن عباس وغيره وقال مجاهد: الميثاق - هنا - ما أخذه الله عز وجل على عباده إذ أخرجهم من صلب آدم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]، فأقروا بأن الله ربهم، وصار ذلك ميثاقاً عليهم، فمن آمن بالله وأسلم فقد تمسك بالميثاق، ومن كفر فهو نقض الميثاق. وقيل: هي بيعة الرضوان.
قوله: {واتقوا الله} أي: خافوا الله أن تُضمروا لرسوله صلى الله عليه وسلم خلاف ما تبدون، فإنه يعلم ما في الصدور.
قوله: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ} الآية.
المعنى: أن الله عز وجل حضّ المؤمنين أن يكونوا شهداء بالعدل في أوليائهم(3/1629)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وأعدائهم.
قوله {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} أي لا يَحمِلنَّكم بغض قوم على ألا تشهدوا بالحق وعلى ألا تعدلوا في حكمكم فيهم، والمعنى: لا يحملنكم بغض المشركين على ترك العدل. وهذه الآية نزلت حين هم اليهود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أمرهم بالعدل فقال: {اعدلوا} أي: اعدلوا في الأعداء وغيرهم، فالعدل أقرب إلى التقوى، أي: أن تكونوا من أهل التقوى لا مِنْ أهل الجور، وهو كناية عن العدل.
قوله {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
يقال " وعدتُ الرجل " تريد: " وعدته خيراً "، و " أوعدته " تريد: " أوعدته شراً "، فإذا ذكرت الموعود قلت فيهما جميعاً " وعدته " و " أوعدته " فإذا لم تذكر الموعود قلت في الخير " وعدته "، وفي الشر " أوعدته "، هذا قول أكثر العلماء.(3/1630)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} هو على الحكاية، (لأنه لا يجوز في الكلام " وعدتُ لكَ درهماً "، وإنما جاء في القرآن على الحكاية)، كأن تقديره: قال الله جل ذكره: لِلَّذين آمنوا عندي جنات، ثم أمر النبي عليه السلام أن يخبرهم، ثم أخبر ما قال فحكاه، فقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} يقوم مقام الموعود، وهو تفسير للوعد.
قوله {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ (بِآيَاتِنَآ)} الآية.
أي الذين جحدوا وحدانية الله ونقضوا ميثاقه وعهوده وكذبوا بآياته وجحدوا [أنبياءه]: (هم) أصحاب الجحيم.
قوله: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} الآية.(3/1631)
معنى الآية: أن الله جل ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالشكر على نعمه (إذ دفع) عنهم كيد اليهود عليهم اللعنة. وكان / سبب نزول هذه الآية أن النبي عليه السلام أمّن رجلين مشركين من بني كلاب وأعطاهما سهمين من سهامه أماناً لهما، فلقيهما عمرو بن أمية الضَّمْري وهو مقبل من بئر معونة فقتلهما ولم يعلم أن معهما أماناً من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو على النبي عليه السلام قال له: قَتَلْتَهُما (و) معهما أماني؟! قال: لم أعلم، فَوداهُما النبي عليه السلام ومضى إلى بني النضير من اليهود ومعه أبو بكر وعمر وعلي وعثمان رضي الله عنهم، يَسْتعينهم على دية الكلابِيَيْن(3/1632)
اللّذَيْن قتلهما عمرو فلما قَرُبَ من مدينتهم، خرجوا إليه فتلقَّوه وقالوا: مرحباً بك يا أبا القاسم، ماذا جِئْتَ له؟، فقال: رجل من أصحابي أصاب رجلين من بني كلاب - معهما أمانٌ منّي - فقتلهما فَلَزِمَني دِيَتُهما، فأريد أن تُعينوني قالوا: نعم والحُبُّ لَك والكَرامةُ يا أبا القاسم، اقْعُد حتى نجمع لك، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تحت الحصن، فلما خلا بنو النضير - بعضهم (إلى بعض) - قالوا: لن نجد محمداً أقربَ منه الآن، فَمَن رَجُلٌ يَظهَر على هذا الجدار فَيَطْرح عليه رحىً أو حجراً فيريحنا منه؟، فقال رجل منهم: أنا، وهو عمرو بن جحاش، فأتى جبريل النبي صلى الله عليهما فأعلمه الخبر، فقام وتبعه(3/1633)
أصحابه، فأنزل الله جل ذكره {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} الآية، وفي ذلك نزل {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ)} [المائدة: 13]، فعند ذلك بعث (إليْهم النبيُّ) محمد بن مَسْلَمَة الأُوسي، وأمره أن يأمرهم بالرحيل والخروج من جواره، فلما أتاهم محمد بن مسلمة، تلقوه وسلموا عليه، فقال [لهم]: إني أُرسِلْتُ إليكم برسالة، ولَسْتُ أَبَلِّغكُمُوها حتّى أَسْأَلَكُم عن شيء قلتموه لي قبل اليوم، قالوا: (سَلْنا عمّا بدا لَكَ)، فقال لهم محمد بن مسلمة: أليس قد أتَيْتُكم سَنَة كذا وكذا فقلتم لي: يا ابن مَسلمةٍ، إن (شِئت هَدَيْناك وإن شئت غدّيناك)، فقلت: والله(3/1634)
ما لي حاجة بهداكم، فقَرَّبْتُم إليّ طعاماً في صَحْفة جَزْع - كأني انظر: إليها -، فلما فَرَغْتُ من [غذائي]، قلتم لي: ما الذي أرغبك عن التوراة؟، فقلت: ما لي بها حَاجة، فقلتم كأنك تريد الحنيفية؟، فقلت: إيهاً والله أريدها، فقلتم لي: أما إنَّ صاحبها قد [رهنك] خروجه، وأشرتم نحو مكةَ وقلتم لي: ذلك الضّحوك القتّال يركب البعير ويَلبَس الشملة و [يجتزئ] بالكسوة، سيفه على عاتقه، (لتكونن - على يديه - في هذه البلاد) ملاحم وملاحم وملاحم، قالوا: قد قلنا لك ذلك، ولكن ليس هو هذا.
قال: أشهد (أن(3/1635)
لا) إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، هو - والله - هذا، وقد بعَثَني إليكم وقال: قد غدرتم مرةً ومرةً ومرةً، فارْتحِلوا من بَلَدي وارتحلوا من جواري، فقالوا: أخِّرنا عشرة أيام نتجهز ونخرج، ففعل، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرَه، فَصَوَّبَ أمرَه، وأمرَ النّبي صلى الله عليه وسلم بحراسة المدينة، فدبّّ إليهم المنافقون وقالوا: لِمَ ترتحلون، وإنّما أنتم أهل الثمار والأموال، وقد نَزَل بكم محمد ولم تَنزِلوا به؟، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اصْنَع ما أنت صانع فلسنا بمُرتَحلين، فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث تكبيرات ثم قال: خابَتْ يَهودُ، لا تُصَلُّوا الظُّهرَ إلاّ عندهم، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم فصالحوه / على ما حمل (الحافر والخُفَّ):(3/1636)
الجمل بين رجلين، والحافر لرجل واحد، وَارْتَحَلوا.
قال قتادة: هذه الآية نزلت على النبي عليه السلام وهو بنَخْل في الغزوة السابعة، أراد بنو ثعلبة أن يفتكوا بالنبي عليه السلام فأطلعه الله على ذلك.
وقيل: النعمة التي أمر الله بالشكر عليها - هنا - هي أن اليهود كانت همت بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في طعام دَعَوْهُ إليه، فأعلم اللهُ نَبيَّه بما همُّوا به، فلم يأتهم.
وقيل: هي ما أطلع الله نبيه من أمر المشركين إذ هموا أن يميلوا على المسلمين - وهم في صلاتهم - ميلة واحدة، وذلك يوم بطن [نخل]، فعلَّم الله نبيَّه صلاة(3/1637)
الخوف والحذر منهم، وهي الغزوة السابعة.
وقيل: هي ما فعل الأعرابي، وذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مستظلاً تحت شجرة - وأصحابه متفرقون - إذ جاء أعرابي إلى سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو معلق في شجرة - فأخذ السيف وسله، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مَن يمنعك مني؟، قال: الله، قال الأعرابي - مرتين أو ثلاثاً -: من يمنعك مني؟، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه "، قال قتادة: كان قوم أرادوا أن يفتكوا برسول الله عليه السلام، فأرسلوا هذا الأعرابي.
وقيل: " هم قريش بعثت رجلاً ليفتك برسول الله، فأتى وسَلَّ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من يمنعك مني يا محمد؟، [قال: الله]، ثم رد السيف في غمده ".(3/1638)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
قوله {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} الآية.
أخبر الله تعالى في هذه الآية بما كان من أسلاف هؤلاء الذين أرادوا كيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( و) قوله: {اثني عَشَرَ نَقِيباً}: النقيب - في اللغة - كالأمين والكفيل والعريف.
قال قتادة: جعل من كل سبط (رجلاً شاهداً) عليهم.
والأسباط: نسل (اثني عشر ولداً) ليعقوب، (فنسل كل ولد ليعقوب) سبط، (فجعل من كل سبط) رجل أمين عليهم.
قال السدي: أمر الله موسى وبني إسرائيل بالسير إلى بيت المقدس - وفيها(3/1639)
جبارون - فلما (قَرُبوا) بعث موسى اثني عشر نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل ليأتوه بخبر الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين - يقال له عاج - فأخذ (الإثني عشر) فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق بهم إلى امرأته (وقال): انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يقاتلوننا، فطرحهم بين يديها وقال: (ألا أطْحَنهُم) برجلي، فقالت له امرأته: لا بلْ خلِّ عنهم حتى يُخبروا قومَهم بما قد رَأوا، ففعل ذلك، فقال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبَرْتُم بني إسرائيل خبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموه وأخبروه [نَبِييَ] الله فيكونان هما يَرَيان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ثم رجعوا،(3/1640)
فنكث عشرة منهم العهد، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج، وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم فأخبروهما الخبر.
وقال مجاهد: أرسل موسى النقباء - من كل سبط رجلاً - إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم، ولا يَحمِل عنقود عنبِهم إلا خمسةُ أنفس، ويدخل في شطر [الرمانة]- إذا نُزِع حَبُّها - خمسة أنفس، فرجع النقباء، كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وآخر معه فإنهما / أمرا بقتالهم، فعصوا وأطاعوا أمر الآخرين، فعند ذلك قالوا: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا(3/1641)
هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
قال ابن عباس: جاء النقباء بحبة من فاكهتهم يحملها رجل، فقالوا: اقْدُروا قوة قوم هذه فاكهتهُم.
{وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ} أي: " ناصركم على عدوكم "، قيل: هو للنقباء. وقيل لجميعهم.
(ومعنى) {(وَ) عَزَّرْتُمُوهُمْ} أي: نصرتموهم. وقيل معناه [وَقَّرْتُموهم] بالطاعة (لهم).(3/1642)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
وأصل التعزير المنع.
ومعنى {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي: " أنفقتم في سبيل الله ".
وقوله: {قَرْضاً} خرج مصدراً على " قرض "، كما قال {نَبَاتاً} [نوح: 17] وقبله {أَنبَتَكُمْ} [نوح: 17].
وقوله تعالى {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة} وما بعده: تفسير لأخذ الميثاق كيف هو وما هو.
وقوله: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ} إلى قوله {مَعَكُمْ}: اعتراض بين الميثاق وتفسيره، غير داخل في الميثاق الذي نقضه بنو إسرائيل دون النقباء، لأن الله تعالى قال للنقباء: {إِنِّي مَعَكُمْ}، ومن كان الله معه لم ينقض ميثاقه.
قوله {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} الآية.
(ما) زائدة مؤكدة للقصة، أو نكرة. و {نَقْضِهِم} بدل منها.(3/1643)
و {قَاسِيَةً} و (قسِيّة) لغتان، كعالم وعليم، ويؤيد قراءة {قَاسِيَةً} قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر: 22]. ويؤيد قَرَأَةَ (قسية) أن " فعيلاً " أبلغ - في المدح والذم - من " فاعل "، فعليم أبلغ من عالم، وسميع أبلغ من سامع، فالمعنى: من أجل نقضهم للميثاق - للذي أخذ عليهم - لعنهم الله، أي: أبعدهم من رحمته، وجعل (الله) قلوبهم قسية، أي: غليظة [نابية] عن الإيمان والتوفيق بطاعة الله.(3/1644)
والقاسية والعاتية: واحد.
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} أخبر الله عز وجل عن فعلهم أنهم يبدلون ما في التوراة ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله، ويقولون لجهالهم: هذا كلام الله. وهذا من صفة القرون (التي) كانت بعد موسى من اليهود، ومنهم من أدرك عصر نبينا، فأخبره الله عنهم بما [يعملون]، وأدخلهم في ذكر ما كانوا قبلهم إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم.
وقيل: معنى {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} يتأولونه على غير تأويله.
وقيل: معنى {[وَجَعَلْنَا] قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}: (أي وصفناهم بهذا).
وقوله: " {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} أي: تركوا نصيباً مما أُمِرُوا بِهِ ".
قال الحسن: تركوا عُرى دينهم، أي: تركوا (الأخذ والعمل) بالتوراة.(3/1645)
وقوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} أي: لا تزال يا محمد تطلع من اليهود - الذين نقضوا الميثاق - على خيانة {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ}، والخائنة، الخيانة، وضع الاسم موضع المصدر، كقولهم " خاطئة " في موضع " خطيئة " و " قائلة " في " قيلولة ". وقيل: (التقدير): على فرقة خائنة. وقيل على رجل خائنة، كما يقال: رجل راوية، يريد: لا تزال يا محمد تطلع على مثل الذين هموا بقتلك.
وقيل: المعنى على نسمة خائنة منهم. ويجوز أن يكون التقدير: على فرقةٍ خائنة، أو: على طائفة خائنة. وقيل: الهاء للمبالغة، وقيل: (المعنى): على خائن(3/1646)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
منهم.
{فاعف عَنْهُمْ واصفح}: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء الذين أرادوا قتله من اليهود. وقال قتادة: هي منسوخة بآية القتال في " براءة ". وقيل: هي منسوخة بقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58]. وقيل: المعنى: فاعف عنهم واصفح ما دام / بينك وبينهم ذمة وعهد.
قوله {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} الآية.
هذا في الإعراب كقولك " من زيد أخذت درهمه " وهو حسن، ولو قلت: " درهمه من زيد (" أخذت "، و " ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا "، و " أخذت درهمه من زيد ")، و " (ألْيَنَهَا لبِست من الثياب) "، لم يجز [لتقدم] المضمر على(3/1647)
المظهر.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أعلمنا أنه أخذ أيضاً من النصارى ميثاقهم، فسلكوا مسلك اليهود، فبدلوا ونقضوا وتركوا حظهم الذي ذكّروا به من الإنجيل مثل اليهود.
وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} أي: حرضنا وألقينا. وهي الأهواء المختلفة والتباغض والخصومات في الدين التي بين اليهود والنصارى.
وقيل: بين النصارى بعضهم مع بعض، وبين اليهود بعضهم مع بعض. والهاء والميم في {بَيْنَهُمُ} تعود على اليهود والنصارى.
وقيل: على النصارى، لأنهم قد افترقوا فرقاً منهم: النسطورية(3/1648)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
واليعقوبية و [الملكانية] وغير ذلك، فالعداوة بين بعضهم مع بعض.
قوله {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً} الآية.
المعنى: أن الله عز وجل أعلم أهل الكتاب أنه أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم يبين لهم كثيراً مما أخفوا من الكتاب - وهو التوراة والإنجيل -، وكان ذلك من أدل ما يكون على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ أعلم الناس بما فعل أهل الكتاب، فمما بينه: رجم الزانيين المحصنين - وقد أخفوه وغيروه -، وقتل النفس بالنفس وغيره.(3/1649)
وقال [القرظي]: أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن - حين قدم المدينة - هاتان الآيتان وكانت اليهود بها يومئذ، ثم نزلت السورة كلها جملة (واحدة) عليه بعرفات.
ومعنى {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي: (و) يترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم، فلا يأمركم بالعمل به، إلا أن يأمره الله بذلك. وقيل: هو ما جاؤهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخفيف ما كان الله شدده عليهم وتحليل ما كان حرم عليهم.
قوله {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} إلى {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
والمعنى: يا أهل التوراة والإنجيل {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم. هو نور لمن استنار به، {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} هو القرآن.
[وقيل: النور: التوراة، والكتاب المبين: القرآن]. {يَهْدِي بِهِ} أي:(3/1650)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
بالكتاب، {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي: يهدي الله بالكتاب {سُبُلَ السلام} من اتَّبع رضى الله عز وجل في قبول ما أتاه من ربه.
و [{السلام}] هنا: اسم الله جلت عظمته، أي: سبل الله.
وقيل [السلام]- هنا - السلامة، أي: طرق السلامة، والرضى من الله القبول للعبد. وقيل: هو خلاف السخط.
{وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات} أي: من الكفر {إِلَى النور} أي: إلى الإسلام، {بِإِذْنِهِ} أي: بأمره، أي: [بأمر] الله له بذلك.
قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ} الآية.
معنى الآية أنها ذمّ للنصارى في قولهم واحتجاج عليهم في قولهم.
ومعنى {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ} أي: (من) يقدر ويطيق رد ما أراد الله عز وجل، فلو كان(3/1651)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
المسيح إِلهاً، لقدر على رد ما يأتيه من أمر الله سبحانه، وفي عجزه عن ذلك دليل على أنه ليس بإله، إذ الإله لا يكون عاجزاً مقهوراً تلحقه الآفات، فعيسى كسائر ولد آدم.
قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي: تصريف ما فيهما وما بينهما، فهو يهلك من يشاء ويبقي من يشاء. (ووحّد) الأرض، لأنها تدل على النوع.
/ قوله: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله} الآية.
معنى الآية أن قوماً من اليهود والنصارى كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم وخوّفهم فقالوا: ما تُخَوِفُنَا يا محمد؟ نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال الله لنبيه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم (بِذُنُوبِكُم)} إن كنتم كما زعمتم، وذلك أن اليهود قالت:(3/1652)
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فأقروا بالعذاب وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه.
ثم قال: قل لهم يا محمد {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي: أنتم مثل سائر بني آدم، لا فضل لكم عليهم إلا بالطاعة.
{يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أي: يستر ذنوبه، وهم المؤمنون، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أي: يميته على الضلالة فيعذبه. وقال السدي في معنى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أي: يهدي من يشاء في الدنيا فيغفر له، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} (أي يميته على الضلالة) فيعذبه.
{وَ [للَّهِ] مُلْكُ السماوات والأرض} أي: تدبيرها وتدبير ما بينهما، وإليه مصيركم فيجازيكم بأعمالكم.
وقوله {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم} معناه: فلم عذّبكم بذنوبكم فمسخكم قردة وخنازير؟ وإنما احتج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قد كان وعلم، ولم يحتجّ عليهم بما لم يقع بعد، لأنهم ينكرون ذلك ويدّعون أنهم لا يعذبون فيما يستقبلون، فالماضي [أولى] به وعليه(3/1653)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
المعنى.
قوله {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل} الآية.
قوله {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا}: {أَن} في موضع نصب أي: [كَرَاهَةَ] أن تقولوا.
وقال الفراء: المعنى: (لأن لا) تَقُولُوا.
ومعنى الآية أنها مخاطبة لليهود الذين كانوا بين ظهرانيْ (مُهَاجَرِ النَّبِي) صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لما دعاهم النبي إلى الإيمان به وبما جاءهم به، قالوا: ما بعث الله من نبي بعد موسى، ولا أنزل كتاباً بعد التوراة.
(و) قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن(3/1654)
وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فأنكروا ما قالوا لهم، وقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله الآية.
ومعنى {على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل}: على انقطاع من الرسل وسكون، وذلك أنه كانت الرسل بين موسى وعيسى متواترين.
وقد اختلف في الفترة التي كانت بين محمد وعيسى عليهما السلام: فقال قتادة: هي خمس مائة سنة وستون سنة.
وقيل عنه: خمس مائة وأربعون، وقيل عنه: ست مائة وزيادة سنين.(3/1655)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
وقال الضحاك: هي أربع مائة سنة وبضع وثلاثون سنة.
وقال ابن عباس: هي أربع مائة سنة فترة لا نَبِيَّ فيها، وكانت مائة سنة بعث الله فيها أربعة أنبياء، منهم ثلاثة رسل، وهم الذين ذكروا في " يس "، فبين ميلاد عيسى وميلاد محمد خمس مائة سنة.
وقيل: هو ما جاءهم به رسول الله من تخفيف ما كان الله شدد عليهم وتحليل ما كان حرم عليهم.
ومعنى {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} أي: أعذرنا إليكم برسول وكتاب كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.
قوله {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} الآية.
روي عن ابن كثير أنه قرأ {يَاقَوْمِ} بالرفع على معنى: يا أيها القوم، رواه(3/1656)
شبل بن عباد عنه.
وهذه الآية إعلام من الله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم، / فقديم فسق اليهود وغيهم، وإن موسى صلى الله عليه وسلم ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم، إذ أرسل (إليهم) الأنبياء يأتونهم بالوحي، وأنه حرضهم على الجهاد، وأن لا يرتدوا على أدبارهم في قتال الجبارين الذين أمرهم الله عز وجل بقتالهم.
وقيل: الأنبياء - الذين جعلهم الله عز وجل فيهم - هم الذين اختارهم موسى للميقات، وهم السبعون الذين ذكرهم الله في " الأعراف ".(3/1657)
{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} أي: تُخْدَمُون، ولم يكن في ذلك الوقت من بني آدم من يُخْدَم سِواهم، قال قتادة: هم أول من سخر له الخدم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان له بيت وخادم فهو ملك ".
وقيل: المعنى: جعلكم ذوي منازل لا يُدْخَلُ عليكم فيها إلا بإذن.
وقيل: المعنى: (جَعلَكم تَملِكُون أمركم لا يغلبكم عليه غالب).
(وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يذكر عن عبد ربه) بن سعيد أن معنى {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} هو أن يكون للرجل المسكن يأوي إليه والمرأة يتزوجها والخادم(3/1658)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
تخدمه، هو أحد الملوك.
وقوله: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} الذي آتاهم هم المن والسلوى والبحر والحجر والغمام، قاله مجاهد. وقيل: هو الدار والخادم والزوجة.
ومعنى {مِّن العالمين} من عالَمي زمانكم. وقال ابن جبير: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً} هذه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} الآية.
قال ابن عباس: هي فلسطين والأردُنُّ (و) عنه وعن مجاهد: الأرض المقدسة: الطور وما حوله أمرهم موسى بدخولها عن أمر الله لهم. وقيل: هي(3/1659)
الشام، قاله قتادة.
وقيل: هي دمشق (و) فلسطين، (و) قال مقاتل: هي أريحا أرض الأردن.
والمقدسة: المطهرة، وقيل: المباركة.
وقوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: التي كتبها الله لبني إسرائيل، وقد سكنها بنو إسرائيل ولم يسكنها هؤلاء الذين خاطبهم موسى صلى الله عليه وسلم لقوله {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}،(3/1660)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
ولم يعن موسى صلى الله عليه وسلم أن الله كتبها للذين خاطبهم، وإنما عنى أن الله تعالى كتبها لبني إسرائيل وقيل: معناه: التي وهب الله لكم وأعلم بها أباكم إبراهيم.
وقال السدي: التي أمركم الله بدخولها.
{وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} أي: امضوا لأمر الله في قتالهم ولا ترجعوا القَهْقَري، {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} لِنكولكم عن قتال عدوكم الذي أمركم الله به.
قوله: {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} الآية.
المعنى: أن الله تعالى ذكره أخبر عن (قول) قوم موسى له إذا أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وأنهم قالوا: إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنَا بِهم.(3/1661)
سموا " جبارين " لشدتهم وعظم خلقهم وقوتهم.
وأصل الجبار: أن يكون المصلح أمر نفسه ومن يلزمه أمره، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعاً بباطل أو حق، حتى قيل للمعتدي: جبار وقال بعض أهل اللغة: " الجبار - من الآدميين - (العاتي) الذي يَجبُر الناس على ما يريد ".
وقولهم {لَن نَّدْخُلَهَا} لم تدخل (لن) للعصيان منهم وللامتناع من أمر الله لهم، ولو كان كذلك لكفروا، إنما دخلت لتدل على امتناع الدخول للخوف من الجبارين ودل على ذلك قولهم {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}، ومن أسماء الله جل وعز: الجبار، لأنه المصلح أمر / عباده.
قال ابن عباس: لما قرب منهم موسى، بعث إليهم اثني عشر نقيباً ليأتوه(3/1662)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
بخبرهم، فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً (من) هيئتهم وأسجامهم فدخلوا حائطاً لبعضهم، فجاء صاحب الحائط يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعها، فوجدهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.
وقال الضحاك: {اإِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} قال: سفلة لاَ خَلاَقَ لهم ".
فعند ذلك قالوا لموسى {(إِنَّا) لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}.
قوله: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} الآية.
قرأ سعيد بن جبير {الذين يَخَافُونَ} على ما لم يسم فاعله، فأخبر الله تعالى نبيه بما(3/1663)
قال رجلان صالحان من بني إسرائيل وهما يوشع بن نون وكلاب بن [يافنا]- وقيل: كالب، وقيل: اسمه كالوب بن مَافِنَة - فَوَفَيَّا موسى بما عهد إليهما.
وقال ابن عباس: لما نزل موسى بمدينة الجبارين بعث من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ليأتوا بخبره فصاروا فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه (فحملهم) حتى أتى بهم المدينة ونادى في قومه، فاجتمعوا إليه [فقالوا]: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بَعَثنا إليكم لنأتيه بخبركم. فأعطوهم حبة عنب [بِوِقْرِ] الرجل: فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قدر قوم هذه فاكهتهم، فلما أتوهم قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا،(3/1664)
{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} وهما رجلان - كانا من أهل المدينة - أسلما واتبعا موسى وهارون فقالا لموسى {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)} الآية.
قال الكلبي: كانوا [بجبال] أريحا من الأردن فَجُبِنَ القوم أن يدخلوها فأرسلوا جواسيسَهم - من كل سبط رجلاً - يأتوهم بخبر الأرض المقدسة فدخل الإثنا عشر فمكثوا بها [أربعين] ليلة ثم خرجوا، فصدق اثنان وكذب عشرة، فقالت العشرة: رأينا أرضاً تأكل أهلها ورأينا حصونا منيعة، ورأينا رجالاً جبابرة ينبغي لرجل منهم مائة منا، فجبنت بنو إسرائيل وقالوا: لا ندخلها حتى يخرجوا منها، فقال يوشع بن نون وكالوب وهما الرجلان [اللذان] أنعم الله عليهما بالإيمان -:(3/1665)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
نحن أعلم بالقوم من هؤلاء، إن القوم قد (مُلِئوا منّا) رعباً، ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا: يا موسى أَيُكَذِّبُ منا عشرة ويُصَدِّقُ اثنان؟ إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها.
قال الله عند ذلك: فإنها محرمة عليهم أبداً، وهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة. فلم يدخلها أحد ممن كان مع موسى، هلكوا كلهم في التيه، إلا الرجلين فإنهما دخلاها، ودخلها (مع) موسى أبناء القوم الهالكين في التيه، وهذا على [قراءة] من قرأ: (يُخافون) بالضم.
ومعنى / {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} أي: بطاعته واتباع نبيه. وقيل: أنعم الله عليهما بالخوف. وقال الضحاك: أنعم الله عليهما بالهدى، وكانا من مدينة الجبارين.
قوله: {قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} الآية.
(و) هذا أيضاً خبر من الله عن قول القوم لموسى، ومعنى (أبداً): أيام حياتنا ومقامهم.(3/1666)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
ومعنى {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} أي: وليعنك ربك، لأن الله لا يجوز عليه الذهاب وإنما الذي سألوه الذهاب موسى وهذا إعلام من الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يزالوا يعصون الأنبياء وأن [الذين] بحضرتك أسوة في العصيان.
قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} الآية.
المعنى: قال موسى - عند قولهم له ما حكى عنهم، ونكولهم عن قتال عدوهم -: ربِّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلا نَفْسي، وَأخي كذلك، أي: وأخي [أيضاً لا يملك] إلا نفسه.
(وقيل: المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، فيكون نسقاً على نفسي).
فالأخ - على القول الأول - في موضع رفع، عطف على موضع {إِنِّي}، وعلى(3/1667)
الثاني في موضع نصب.
ويجوز الرفع في الأخ من وجه آخر: وهو أن يكون معطوفاً على المضمر في {أَمْلِكُ}، كأنه قال: إني لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. ويجوز النصب على أن [يكون] نسقاً على الياء التي هي اسم (أنّ)، بمعنى قال: إني وأخي لا أملك إلا أنفسنا.
ومعنى الآية: أنه خبر من الله عن موسى وما قال عندما قال له قومه.
ومعنى {فافرق بَيْنَنَا} (أي فافصل بيننا) {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} أي: افصل بيننا بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم، يقال " فرقت بين الشيئين " بمعنى: فصلت بينهما، قال ابن عباس: اقض بيننا.
وقيل: المعنى: اجعل الجنة دارنا ليكون بيننا وبينهم فرق.
وأجاز أبو حاتم الوقف على {إِلاَّ نَفْسِي}، قال: لأن المعنى: وأخي لا يملك إلا(3/1668)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
نفسه، وهذا قول مردود، لأن كل إنسان يملك نفسه فلا فائدة في الكلام على هذا، ولو كان موسى لا يملك أخاه، لم يكن في تخصيص ذكره فائدة، لأنه أيضاً لا يملك قومه، فهم بمنزلة الأخ على هذا القول. (وقد أنكر هذا القول) المبرد وغيره.
قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الآية.
{أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوب بـ {يَتِيهُونَ}، لأن موسى غضب عليهم لما قالوا، فدعا عليهم، فحرمها الله عليهم أبداً وألزمهم أن يتيهوا أربعين سنة عقوبة ولم يدخلوها.
وقيل: وهو منصوب بـ {مُحَرَّمَةٌ} وأنهم عوقبوا بأن حرمت عليهم أربعين(3/1669)
سنة، و {يَتِيهُونَ}، حال العامل فيه {مُحَرَّمَةٌ}، ثم بعد الأربعين فَتَحَها لهم وأسكنهم إياها وكانوا يومئذ ست مائة ألف مقاتل، فلبثوا أربعين {سَنَةً} في ستة فراسخ جادين في السير، فإذا سئموا ونزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، فاشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل الله عز وجل عليهم المن والسلوى و (ظللهم بالغمام)، وانفجر لهم حجر أبيض عن اثنتي عشرة عيناً، لكل سبط منهم عين، فلما تمت الأربعون سنة أمرهم الله أن يأتوا المدينة، فقد كفوا أمر عدوهم، وقال لهم: إذا أتيتم المسجد فَأْتوا الباب واسجدوا وقولوا " حطة "، بمعنى: حط عنا ذنوبنا، فأتى عامة القوم وسجدوا على خدودهم وقالوا: حنطة.
قال السدي: / لما ضرب عليهم التيه، ندم موسى فمكثوا أربعين سنة، ثم إن(3/1670)
موسى اجتمع بعاج، [فنزا] موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله، ولم يبق أحد ممن أبى (أن يدخل) قرية الجبارين - ممن كان مع موسى - إلاَّ مات ولم يشهد الفتح، وإنما كان معه أبناؤهم، ثم إن الله [نَبَّأ] يوشع بن نون وأمره بقتال الجبارين، فآمن به بنو إسرائيل، فهزموا الجبارين، قال: فكانت العصابة من بني إسرائيل تجتمع على عُنُقِ الرجل يضربونها لا يقطعونها.
قال ابن عباس: كل من دخل التيه - ممن جاز العشرين سنة - مات في التيه، ومات موسى عليه السلام في التيه، ومات هارون قبله، وبرز يوشع [بمن بقي] معه مدينة الجبارين فافتتحها.(3/1671)
قال قتادة: مات موسى في الأربعين سنة ولم يدخل بيت المقدس إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا.
قال الطبري: ثبتت الأخبار أن موسى قتل عاج بن عناق وهو من أعظم الجبارين، وموسى صلى الله عليه وسلم هو الذي افتتح مدينة الجبارين والرجلان على مقدمته.
وروي أن طول عاج ثمان مائة ذراع، وأنه لما ضربه موسى بعصاه [في] الكعب [سقط] ميتاً، فكان جسراً للناس يمرون عليه.
وروى ابن زيد عن أبيه أن النبي عليه السلام قال: " كان طول موسى عشرة أذرع، وطول عصاه عشرة أذرع، ونزا موسى عشرة أذرع (فما نال من عوج إلا العِرق) - الذي تحت الكعب - فقتله بتلك الضربة " قال زيد: فبلغني أن جيفته سدَّت بطن وادي الأردن.(3/1672)
قال نوف البكالي: كان طول عوج ثمان مائة ذراع، وعرضه أربع مائة ذراع.
وقال وهب بن منبه: لما نظر عوج إلى عسكر موسى - وكانوا ستمائة (ألف مقاتل) ونيفاً - اقتلع من الجبل صخرة - على قدرهم من الأرض - فاحتملها رافعاً بها يديه ليرسلها على العسكر، فبعث الله عز وجل الهدهد - ومعه قطعة من ماسٍ - فأداره على الصخرة تلقاء رأسه، فما نزا موسى فأصاب عرق عوج، سقط موضع التقوير من الصخرة في عنق عوج فسقط ميتاً.(3/1673)
وقوله: {يَتِيهُونَ} أي: يحارون.
وقوله: {فَلاَ تَأْسَ} خطاب لموسى. وقيل: لمحمد عليهما السلام.
والتمام عند الأخفش وأبي حاتم ونافع ويعقوب: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} على أن نصب " الأربعين " بـ {يَتِيهُونَ}.
" قال أبو العالية: كانوا ست مائة ألف، سماهم الله " فاسقين " بهذه(3/1674)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
المعصية ".
قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق} الآية.
المعنى: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو (خبر ابني) آدم على اليهود الذين ذكر قصتهم فيما تقدم، فيخبرهم عاقبة الظلم ونكث العهد، وما جزاء المطيع منهما وما آل إليه أمر العاصي منهما. وابنا آدم هما: هابيل وقابيل، أمرهما الله عز وجل أن يقربا قرباناً، وكان أحدهما صاحب غنم وكان له حمل يحبه - ولم يكن له مال أحبَّ إليه منه - فقربه وقبله الله منه، وهو الذي فدى به إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ( لم يزل يرتع في الجنة حتى فدى به الذبيح، وقرب الآخر شرَّ حرثه - وكان صاحب حرث - / فلم يتقبل منه، قال ابن عمر: وَأَيْمُ الله، لقد كان المقتول أشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرّج أن يبسط يده إلى أخيه.
قال ابن عباس: كان قَبول القربان أن تأتي نار فتأكل المُتَقبَّل وتترك الذي لم(3/1675)
يُتقبَّل - ولم يكن في الوقت مسكين يُتصدَّق عليه، فحسد الذي لم يُتقبَّل منه المُتقبَّل منه، فقال: {لأَقْتُلَنَّكَ}، قال له أخوه: وما ذنبي؟، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين}.
قال مجاهد: لما قتله عقل الله إحدى رجليه بساقها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس، حيث ما دارت [دار] عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وفي الصيف حظيرة من نار، معه سبعة أملاك، كلما ذهب ملك جاء آخر.
وقابيل هو القاتل لهابيل - فيما ذكر المفسرون -، وقابيل هو الأكبر.
وذكر ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آدم كان يولد له غلام وجارية، فإذا ولد له بطنان، زوج أخت هذا لهذا وأخت هذا لهذا، وإن قابيل كان له أخت حسنة أحسن من أخت هابيل، فأبى أن يزوجها لهابيل، وقال: أنا أحق بها، فأمره آدم أن يزوّجها منه فأبى، وإنهما قَرَّبا قُرباناً إلى الله: أيّهما أحق بالجارية، وكان آدم قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، وكان قد قال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأَبَت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم،(3/1676)
فاذهب تجد أهلك كما يسرك. فلما قرّبا قرباناً، قرّب هابيل جَذَعَة سمينة، وقرّب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة فَفَرَكَها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وقد كان قابيل يفخر بأنه الأكبر وأنه وصيُّ آدم، فغضب قابيل وقال: لأقتلنّك حتى لا تنكح أختي.
قال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه.
وقيل: إنهما لما امتنع قابيل أن يزوج أخته لهابيل، غضب آدم وقال: اذهبا فتحاكما إلى الله وقرِّبا قرباناً، فأيّكما قُبِل قربانُه فهو أحق بها، فقرَّبا القربان بمنى - فمِن ثَمَّ صار مذبحُ الناس اليوم بمنىً - فنزلت نار فأحرقت قربان هابيل، ولم تأكل قربان قابيل، فقتله قابيل بحجر: رضخ رأسه (به)، واحتمل أخته حتى(3/1677)
أتى بها وادياً من أودية اليمن - في شرقي عدن - (فكَمَن) فيه، وبلغ آدمَ الخبرُ فأتى فوجد هابيل قتيلاً.
قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، يلوي برقبته ويأخذ برأسه، فنزل إبليس فأخذ طيراً، فوضع رأسه على صخرة ثم أخذ حجراً، فرضخ به رأسه (وقابيل ينظر ففعل [ذلك] بأخيه فرضخ رأسه).
ومكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك، ثم أُتِيَ (فقيل له) (حيّاك الله) وبيّاك. معنى " بيّاك ": أضحكك.
وروي عن علي أنه [قال]: بكاه آدم وقال:
تغيَّرتِ الْبِلادُ ومَنْ عَليْها ... فَوَجْهُ الأَرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ(3/1678)
تَغيَّر كلُّ ذي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وقَلَّ بَشاشَةَ الْوجْهُ المُليحُ.
" بشاشَةَ ": نصب على التفسير، لكن حذف التنوين لالتقاء الساكنين. ومن الناس من يرويه بخفض " الوجهِ المليحِ " على أنه [مُقْوٍ].
/ و {المتقين} - هنا -: " الذين اتقوا الله وخافوه ". وقيل: هم من اتقى الشرك، قاله الضحاك وغيره.
وروي أن الذي قرّب هابيلُ كان كبشاً سميناً من خيار غنمه، وأن الله تعالى(3/1679)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
أدخل ذلك الكبش الجنة، فلم يزل حتى فدي به ولد إبراهيم.
قوله: {لَئِن بَسَطتَ (إِلَيَّ) يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الآية.
أخبر الله - في هذه الآية - بتحرّج المقتول عن القتل، وقال ابن عمر: وأيْمُ الله - إنْ كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده.
قال مجاهد وغيره: كان فرض الله عليهم ألا يمتنعوا ممن أراد قتلهم.
{إني أَخَافُ (الله) رَبَّ العالمين} أي: أخافه إن خالفت أمره فمددت يدي إليك.
قوله: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي} الآية.
ومعنى إرادته لأن يبوأ أخوهُ بإثمه: أن المؤمن يريد الثواب ولا ينبسط إليه،(3/1680)
فصار في كف يده - عمن يقتله - بمنزلة من يريده، فهو مجاز على هذا، وهو قول المبرد.
وقيل: هو حقيقة، لأنه لمّا قال {لأَقْتُلَكَ}، استوجب النار بما تقدم في علم الله عز وجل أنه سيفعل، فعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله.
وقال ابن كيسان: إنما وقعت الإدارة بعدما بسط يده بالقتل.
وقيل: المعنى: بإثم قتلي إن قتلتني. وقيل: المعنى: إذا قتلتني أردت ذلك " لك "، لأنه إرادة الله للقاتل.(3/1681)
ومعنى {بِإِثْمِي} أي: بإثم قتلي، ومعنى {وَإِثْمِكَ} (أي وإثمك) الذي من أجله لم يُتقبّل منك، وهو قول مجاهد. وقيل: معناه: بإثم قتلي وإثم اعتدائك عليَّ، لأنه يأثم في الاعتداء وإنْ لم يقتل.
وقيل: المعنى: {بِإِثْمِي} الذي كان يلحقني لو بسطتُ يدي إليك، وإثمك في تحمّلك قتلي. وعن ابن عباس: بإثم قتلي وإثم معاصيك المتقدمة لك.
وقال إبراهيم بن عرفة: (أراده عن) غير محبة ولا شهوة، لأنّه لمّا لم يكن بُدٌّ من أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، اختار - عن ضرورة وعن غير محبة لذلك - أن يُقتل، كما تقول للرجل - يحاول ظلمك -: " أريد أن أَفدي نفسي منك " وأنت لا تحب ذلك ولكن الضرورة ألجأتك إلى هذه الإرادة.(3/1682)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
(و) قوله: {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} قيل: هو (من) قول المقتول. وقيل: هو إخبار من الله لنا. وهذا يدل على أن الله عز وجل قد كان أمر آدم ونهاه وولده " ووعدهم " وأوعدهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمَاً إِلاّ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ منها، ذلك بأنه أوَلُ مَن سَنَّ القتل ".
ومعنى {تَبُوءَ} أي: تحمل وتلزم وتنصرف به.
قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} الآية.
معنى " طوّعت ": أجابته إلى ذلك وانقادت (له إلى ذلك ففعل).
وقيل: معناه: زَيَّنَت. وذلك أنه وجده نائماً فشدخ رأسه بصخرة: وذلك أن(3/1683)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
الغلام فَرَّ منه فطلبه فوجده نائماً عند غنم له يرعاها فشدخ رأسه. وذكر (. . .) ابن جريج أن إبليس علّمه ذلك.
قوله: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً} الآية.
قرأ الحسن: (أَعَجِزَتْ) بكسر الجيم، وهي لغة شاذة، إنما يقال: " عَجِزَت المَرْأةُ ": إذا كبِرت عجيزتها.
ومعنى الآية: أن القاتل لم يدر ما يصنع به.
قال ابن عباس: فمكث يحمل أخاه في خِوان على رقبته سنة، فبعث الله غرابين، فرآهما يبحثان. فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟. / وقيل: بعث الله غراباً حياً إلى غراب ميت، فجعل الحي يواري الميت فتعلم منه ابن آدم. وقيل: بعث الله غرابين أخوين فاقتتلا قدّامه، فقتل أحدهما الآخر،(3/1684)
فأقبل القاتل يواري المقتول فتعلم ابن آدمَ القاتلُ منه، فوارى أخاه.
وقال مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: {يَاوَيْلَتَا} أعجَزت أن {أَكُونَ} أفعل مثل ما فعل هذا؟.
وهذا كله مَثَلٌ ضربه الله لابن آدم وحرصه في الدنيا.
ومعنى {مِنَ النادمين} أي: من النادمين على قتل أخيه.
قال نافع: {مِنْ أَجْلِ ذلك} التمام، وخالفه في ذلك جماعة العلماء باللغة، وقالوا التمام {مِنَ النادمين}، لأن الذي كُتب على بني إسرائيل إنما كان من أجل قتل ابْْنَي آدم: أحدهما الآخر. وإذا وقف على {مِنْ أَجْلِ ذلك}، صار إنما كُتب عليهم لغير علة،(3/1685)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
وليس التفسير على ذلك.
قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} الآية.
قرأ الحسن: {أَوْ فَسَادٍ} بالنصب، على معنى: أو تحمل فساداً، ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: أو أفسد فساداً.
و [قراءة] الجماعة بالخفض على معنى: أو بغير فساد في الأرض.
ومعنى الآية: من أجل هذا القتل كتبنا - أي: [حكمنا]- على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً ظلماً - لم تَقْتُل نفساً - أو قتلها بغير فساد كان منها في الأرض، وفسادُها: إخافة السبل.
وقوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
قال ابن عباس: معناه من قتل نبياً أو إماماً عدلاً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أعان نبياً أو إمامَ عدلٍ فنصره من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقيل المعنى: من قتل نفساً بغير ذنب فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها - أي: ترك قتلها مخافة الله(3/1686)
- فكأنما أحيا الناس جميعاً.
وقيل المعنى: فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن استنقذ نفساً من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ.
وقيل: المعنى: أن صاحب القتل يَصْلى النار، فهو بمنزلة من قتل الناس جميعاً، ومَن سَلِم مِن قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً.
وقال مجاهد: معناه أنه يصير إلى جهنم بقتل نفس كما يصير إليها بقتل جميع الناس. وقيل: المعنى (أنّ) من قتل نفساً، يجب عليه من القصاص والقَوْد كما يجب على من قتل الناس جميعاً، قال ذلك ابن زيد عن أبيه.
وقيل: معنى {مَنْ أَحْيَاهَا}: مَن عفا عمن يجب عليه القصاص، فهو مثل من عفا عن جميع الناس لو وجب (له عليهم قصاص).
قال ابن زيد أيضاً: {مَنْ أَحْيَاهَا}: من عفا عنها، أعطاه الله من الأجر مثل لو عفا(3/1687)
عن الناس جميعاً. وعن مجاهد: من أحياها من غرق أو حرق أو هلكة. قال الحسن: وأعظم إحيائها: إحياؤها من كفرها وضلالتها.
وقيل: المعنى يُعذَّب - كما يعذب قاتل الناس جميعاً - من قتل نفساً، ويُؤجَر من أحيا نفساً - أي: استنقذها - كما يؤجر من أحيا الناس جميعاً.
وقيل: المعنى هو: في الجرأة على الله والإقدام على خلافه كمن قتل الناس جميعاً، تشبيهاً لا تحقيقاً، لأن عامل السيئة لا يجزي إلا بمثلها.
وقوله / {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ} هذا يُعْطَى من الأجر مثل ما يعطى من أحيا الناس جميعاً، لأن الحسنات تضاعف ولا تضاعَفُ السيئات، فهذه حقيقة والأول على التشبيه لا على الحقيقة.(3/1688)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} الآية؛ أي: جاءت بني إسرائيلَ الرسلُ بالحجج الواضحة البيّنة، {إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ} أي: بعد مجيء الرسل بالآيات البيّنات {لَمُسْرِفُونَ} أي: " لعاملون بمعاصي الله ".
قوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية.
معنى الآية: أنها بيان من الله عن حكم المفسد في الأرض.
والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
ونزلت هذه الآية في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، وقطعوا السبل، فخيّر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بالحكم فيهم، قاله ابن عباس (وغيره، قال ابن عباس): خيّر الله نبيه، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع من خلاف. (و) قال الحسن: نزلت هذه الآية في المشركين.(3/1689)
وقيل: نزلت في قوم - من عُكْل وعُرَيْنة - ارتدوا عن الإسلام (وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أنس وغيره، إنهم ارتدوا " واسْتَاقُوا المواشي وقتلوا الرِّعاء، فقطع النبي أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. وقال بعض العلماء: إن هذه الآية ناسخة لما فعل النبي بالعُرَنيين إذ مثَّل بهم، فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المثلة. وقيل: بل فعل ذلك النبي بوحي وإلهام لقوله:(3/1690)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
والسَّمْلُ: فَقْءِ العينِ بحديدة أو بشوكة.
وقوله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض}: قيل: يخرجون من ديار الإسلام إلى دار الحرب، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: ينفى من البلد الذي أحدث فيه ذلك إلى غيره. وقال الكوفيون: النفي - هنا - الحبس، لأنه لا يمكن أن ينفى من الأرض كلها لو تركنا والظاهر.
قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} الآية.
أي: إلا الذين تابوا من محاربتهم وشركهم والسعي في الأرض بالفساد من قبل أن تملكوهم، فإن الله يغفر لهم، أي: يستر عليهم ما تقدم من فعلهم ويرحمهم.(3/1691)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
وهذه الآية - عند جماعة - إنما في المشركين - وأما الرجل المسلم فليس يحرزُه من الحد إذا قتل أو أفسد الأموال توبته. وقيل: هي للمؤمنين وغيرهم إذا استأمنوا أو تابوا أو أمَّنَهُم الإمام، فليس لأحد أن يطلبهم بدم ولا بغيره، قاله السدي وغيره.
وقال مالك: لا يطلب بشيء إذا جاء تائباً - المؤمن ولا غيره - إلا أن يكون معه مال يُعرف فيأخذه صاحبه أو تقوم على المسلم بينة بالقتل فيقاد منه، ولا يتبعه الإمام بشيء من الدماء التي لم يطلبها أولياؤها. وقال الشافعي: تضع توبتُه عنه حقوق الله ولا يَسقط عنه بها حقوقُ بني آدم.
وقيل: إنما تضع التوبة الحقوق عمن لحق - في حرابته - بدار الكفر ثم أتى تابئاً، وأما من لم يلحق بدار الكفر، فالحقوق كلها لازمة له - تاب أو لم يتب -.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ} الآية.(3/1692)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
المعنى: خافوه فيما أمركم / به واطلبوا إليه القربة. والوسيلة: القربة. وقيل: هي المحبة. وقيل: الوسيلة درجة في الجنة.
{بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ}، قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} الآية.
(و) معناها: أن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وماتوا على ذلك، لو ملكوا - يوم القيامة - ما في الأرض كلها وضِعْفَهُ معه، لرضوا أن يفتدوا به من العذاب وليس يُتَقبّل منهم ذلك ولا ينفعهم.
وهذا إعلام من الله عز وجل لليهود والنصارى ومشركي قريش أنهم لا بد لهم من الخلود في النار، وأن قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] باطل كذب.
(ثم) أخبر تعالى أنهم يريدون أن يخرجوا من النار بعد دخولها وأنهم ليسوا(3/1693)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
بخارجين منها وأنهم في عذاب مقيم، (أي دائم) أبداً.
قال نافع بن الأزرق لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار (و) قد قال الله عز وجل: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا}، فقال له ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها، هذا للكفار. قال الحسن: (كلما رفعتهم) بلهبها حتى يصيروا إلى أعلاها، أعيدوا فيها.
قوله: {والسارق والسارقة} الآية.
قال سيبويه: أبت العامة إلا الرفع، يريد بالعامة الجماعة من الرواة والقراء، والاختيار عنده النصب، لأن الأمر بالفعل أولى، فهو عنده مثل " زيداً فاضربه "،(3/1694)
وخولف في ذلك فقال الكوفيون: الرفع أولى، لأنك لا تقصد إلى سارق بعينه، وإنما المعنى: كل من سرق فاقطعوا يده، ولذلك أجمعوا على أن [قرأوا]: {واللذان يَأْتِيَانِهَا} [النساء: 16] بالرفع، وهو مذهب المبرد.
وقال: {أَيْدِيَهُمَا} بالجمع ليفرق بين ما في الإنسان منه واحد وما فيه اثنان، هذا قول الخليل. وقال الكوفيون: أكثر ما في الإنسان - من الجوارح - اثنان " اثنان " مثل اليدين والرجلين والقدمين والأذنين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِب بالواحد منهم - إذا أضيف إلى آخر - مذهب الجمع.
وقيل: فعل ذلك، لأن التثنية جمع. وقيل: لأنه لا يُشْكل.(3/1695)
وأجاز سيبويه جمع غير هذا مما (ليس) في الإنسان في حال التثنية وحكى (" وَضَعا رِحالَهما): يريد رَحْلَيْ راحِلَتَيْن.
وقرأ ابن مسعود " والسّارق والسّارقَةَ " بالنصب، وبه قرأ عيسى بن عمر.
{جَزَآءً} مفعول من أجله، ويكون مصدراً، ومثله {نَكَالاً}.
وقرأ ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما).
والألف واللام في {السارق والسارقة} دخلتا لتعريف النوع ك { رضي الله عنR الزانية والزاني} [النور: 2]،(3/1696)
و [ليستا] لتعريف الجنس، إنما يكونان لتعريف الجنس فيما لزمته الألف واللام (من أجل جنسه: كالرجل والدينار والدرهم، وما لزمه الألف واللام) لأجل فِعله، فهو تعريف النوع كالسارق والزاني وشبهه، وهذا يزول عنه هذا الاسم بزوال فعله، والأول لا يزول عنه أبداً.
ومعنى الآية: من سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيديهما.
وعنى بذلك سارق ثلاثة [دراهم]، أو ربع دينار أو (ما قيمته) ربع دينار، أو ثلاثة [دراهم] فصاعداً، هكذا بيَّنَته السنة.(3/1697)
ولا يقطع السارق حتى يسرق من حرز وما أشبه الحرز، وهو قول أهل المدينة: مالك وأصحابه. وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم في مجن / قيمته ثلاثة دراهم، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهم.
وروي أن علياً قطع في ربع دينار: درهمان ونصف.
وروي عن ابن مسعود أن القطع في دينار أو عشرة دراهم فصاعداً، لا فيما دون ذلك. وقال عطاء: لا تقطع يد السارق فيما دون عشرة دراهم.(3/1698)
وقال النخعي: تقطع يد السارق في دينار أو في قيمته.
وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن اليد تقطع في أربعة [دراهم] فصاعداً، لا فيما دون ذلك.
وقد أوجب قوم القطع على كل من سرق وإن قَلَّ ذلك، على ظاهر الكتاب.
ولا قطع على السارق حتى يُخرج المتاع من حرزه أو ما يشبه الحرز، وهو قول الشعبي والزهري وعطاء، وروي ذلك عن عثمان وابن عمر، وهو قول مالك(3/1699)
والشافعي وغيرهما.
ولو نقب بيننا فأدخل يَدَه وأخذ متاعاً فرمى به إلى الخارج ثم خرج فأخذه، فعليه - في ذلك - القطع عند مالك وغيره، لأنه قد أخذه من حرزه - وهو الحائط -، ولو ناوَلَهُ آخرَ خارجاً من البيت، كان القطع على الداخل ولم يُقطع الخارج.
ولو دخل جماعة بيتاً وأخذوا متاعاً وحملوه على أحدهم وخرجوا به، فقال ابن القاسم عن مالك: لا يقطع إلا مَن حمله، وقال ابن أبي أويس (عنه): يقطعون جميعاً.
ولا قطع على من سرق باب دار أو باب مسجد، لأنه ظاهر لا حرز عليه.(3/1700)
وإذا سرق من بيت الحمام - ومع المتاع من يُحرزه - قطع عند مالك، فإن لم يكن مع المتاع من يحرزه لم يقطع.
وإذا سرق رجلان شيئاً - لو سرقه أحدهما وجب عليه القطع - قُطِعَا جميعاً عند مالك، كالرجلين يَقتُلان رجلاً، فإنهما يُقتَلان به.
وقال الشافعي: لا قطع على أحدهما حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما فيه القطع.
وإذا سرق من رجلين أربعة [دراهم] فصاعداً، قطع عند مالك.
وإذا سرق سارق ما يجب فيه القطع ثم سرقه منه آخر، فعليهما القطع عند مالك وغيره، ولو كانوا سبعين قطعوا. وقيل: لا قطع على الثاني.(3/1701)
ولو كان لرجل على رجل مائة دينار دَيْناً فسرق الذي له الدّيْنُ من مال الذي عليه الدّيْن مائة درهم، فإنه يقطع عند مالك.
فإذا سرق السارق ثم رد ما سرق ورفع إلى الإمام بعد ذلك، قطع في قول مالك وإن عفا عنه صاحب المتاع. وقيل: إنّه لا يقطع إذا عفا عنه صاحب المتاع.
ويقطع عند مالك [في الفواكه] إذا كان فيها قيمة ما تقطع عليه اليد. وقيل: لا قطع في ذلك.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ " " والكَثَرُ: الجُمَّار ".
ومن سرق مصحفاً قطع عند مالك والشافعي.
ولا قطع على مختلس أو خائن عند جماعة العلماء.(3/1702)
وأوجب مالك وغيره القطع على الطرّار الذي يَطُرُّ النفقة من الكم.
وقيل: إن كانت الصُرَّةُ داخل الكم قطع، وإن كانت خارجاً لم يقطع.
وعلى الولد إن سرق من مال والده القطع، وهو قول مالك. وقيل: لا قطع عليه.
وكلهم لم يوجبوا على الوالدين قطعاً إذا سرقا [من] مال ولدهما.
فأما [ذوو] المحارم فقال الشافعي: يقطعون. / وقال غيره: لا(3/1703)
يقطعون.
وكذلك اختلف في الزوجين، فقال مالك: يقطع كل واحد منهما إذا سرق مال الآخر.
وقال غيره: لا قطع على واحد منهما.
وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، (ثم إن سرق قطعت يده اليسرى)، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عُزر وحُبس، هذا قول مالك والشافعي وغيرهما. وقيل: تقطع [أولاً] اليمنى ثم يده اليسرى، ثم إن سرق حبس. وقيل: تقطع يده اليمنى ثم رجله ثم لا قطع عليه، قاله الزهري وغيره.(3/1704)
وإذا كانت يمنى السارق شلاء قطعت يسراه عند مالك. وقيل: تقطع الشلاء. وذكر ابن القاسم أن مالكاً لم يجبه فيها بشيء، قال: ثم بلغني أنه قال: تقطع اليسرى.
وقال غير ابن القاسم عن مالك: تقطع رجله، لأن يَدَهُ الشّلاء كالمقطوعة.
وإذا أمر الحاكم بقطع يمينه (فقطعت يساره) أجزأ.
وقال مالك: إذا كان السارق مريضاً يُخاف عليه لم يُقطع حتى يبرأ.(3/1705)
و (العبد والحر) في (جميع) ذلك سواء عند مالك.
ولا يُحَدّ إلا بالغ، والإنبات في حد البلوغ عند جماعة من العلماء، وحد البلوغ - عند مالك - الاحتلام أو يبلغ من السن ما لا يجاوزه غلام (إلا احتلم).
وأجاز جماعة من العلماء أن يُشفع في الحدود ما لم يبلغ السلطان، روي ذلك ابن عباس والزبير بن العوام، وهو مذهب الأوزاعي وابن حنبل.
وروي عن ابن عمر وغيره كراهة ذلك، وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد صاد الله في حكمه.(3/1706)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وقال مالك: من لم يُعرف منه أذى للمسلمين (و) إنما كانت منه (تلك) زلة، فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام أو الشُّرَط أو الحرس.
ومعنى {نَكَالاً مِّنَ الله} أي: مكافأة بفعلهما، {والله عَزِيزٌ} أي: عزيز في انتقامه من السارق وغيره (و) من أهل معصيته، {حَكِيمٌ} في فرائضه وحدوده.
قوله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} الآية.
المعنى: فمن تاب من هؤلاء السراق من بعد سرقته وأصلح، {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي: يرجعه إلى ما يحب ويرضى عن ما يسخطه، {إِنَّ الله غَفُورٌ (رَّحِيمٌ)} أي: ساتر على من تاب رحيم بعباده الراجعين إليه.(3/1707)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
فتوبة الكافر عن كفره تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أدْعى إلى الدخول في الإسلام.
وتوبة المسلم عن السرق والزنى لا تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أعظمُ لأجره في الآخرة وأمنع بِمَن هَمَّ أن يفعل مثل ذلك، وقال مجاهد: توبة السارق في هذا الموضع إقامة الحد عليه.
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أمر بقطع) امرأة سرقت حلياً فقالت المرأة: هل من توبة؟، فقال لها رسول الله: أنتِ اليومَ مِن خَطيئَتِك كيومَ ولَدَتْكِ أمّك "، فأنزل الله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} الآية.
قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به من كان بالمدينة وحواليها من اليهود، والمعنى: ألم يعلم هؤلاء القائلون: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه أن الله مدبر ما في السماوات وما في الأرض وأنه يعذب من يشاء / ويغفر لمن يشاء قادر على ذلك لا يمتنع عليه.
قوله {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ} الآية.(3/1708)
هذه الآية نزلت في أبي لبابة قال: " لبني قريظة - حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم -: إنما هو الذبح فلا تنزِلوا على حكم سعد ". وقيل: (إنّه) إنما أشار إليهم بيده إلى حلقه يريد أنه الذبح إن نزَلتم على حكم سعد.
وقيل: " إنها " نزلت في عبد الله بن صوريا ارتد بعد إسلامه، وأُمِر النبي ألاّ يَحزن عليه: وقال أبو هريرة: إن أحبار اليهود اجتمعوا في أمر رجل (زنى بامرأة) وهما محصنان، فقالوا: امضوا بنا إلى محمد فَسَلوه كيف الحكم فيهما: فإنْ حَكَم بعملكم من التحميم - وهو الجَلد بحبل من ليف مطلي بِقارٍ - ثم(3/1709)
يُسَوَّد وجهه ثم يُحمل على حمار ويُحوَّل وجهه ما يلي دُبُر الحمار، وكذلك يُفعل بالمرأة، فاتَّبِعوه وصدِّقوه، فإنه ملك، وإن (هو) حكَم بالرجم فاحْذَروه على ما في أيديكم.
فأتوا النبي، فمشى النبي عليه السلام حتى أتى أحبارهم (فقال لهم): أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم، فأخرَجوا ابنَ صوريا الأعور - وكان أحدثَهم سنّاً - فخلا به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن صوريا أُذكِّرك أيادِيَ الله عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه في التوراة بالرجم؟، فقال: اللهم نعم، أما واللهِ يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك! فخرج (رسول الله) فأمر بهما في جماعة - عند باب مسجده - فرُجما، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية.
وقال البراء: مُرَّ (على) النبي بيهودي مُحمَّمٍ مجلودٍ، فدعا النبي رجلاً(3/1710)
من علمائهم فقال: [هكذا] تجدون حد الزاني فيكم؟
قال: نعم، قال: فأُنشِدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني ما حَدّثتك، ولكن كثر الزنى في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فنضع شيئاً مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم) أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه!، فأمر به فرجم، فأنزل الله {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية.
وذكر ابن حبيب أن اليهود أنكرت أن يكون الرجم في التوراة فرضاً عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: مَن أعلَمُكم يا معشر يهود؟ قالوا: ابن صوريا - وهو(3/1711)
غلام منهم أمرد أبيض أعور - فدعاه (رسول الله)، [فقال " له "]: أنت أعلم يهود؟، قال: كذلك يزعمون، قال له رسول الله: فماذا تجدون (في الرجم) في كتاب الله الذي أنزله على موسى؟ قال: يا محمد إنهم يفضحون الشريف ويرجمون الدني، وجعل [يَرُوغ] عما في كتابهم، فنزل جبريل عليه السلام على (رسول الله) صلى الله عليه وسلم فقال له: اِسْتَحْلِفْه بما آمرك به، فإن حلف وكذب، احترق بين يديك وأنت تنظر، فقال له رسول الله - وهو الذي أمره به جبريل -:
أُنشِدك الله الذي لا إله إلا هو القوي، إلَه بني إسرائيل الذي [أخرجكم] من مصر وفرق لكم البحر - وأحلفه بأشياء كثيرة - هل تجد في التوراة آية الرجم (على) المحصن؟، قال: نعم، والله يا محمد لو قلتُ غير هذا لاحترقتُ بين يديك(3/1712)
وأنت تنظر.
وقال ابن جريج ومجاهد: " هم " {سَمَّاعُونَ / لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ - آخَرِينَ} - هم اليهود -.
والمعنى: لا يحزنك تسرع (من تسرع منهم إلى الكفر، لأنهم آمنوا بألسنتهم ولم (يؤمنوا بقلوبهم). {وَمِنَ الذين هَادُواْ} أي: ولا يحزنك تسرع) الذين هادوا إلى جحود نبوتك، ثم وصفهم فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: هم سماعون للكذب، وهو قَبولهم ما قال لهم أحبارُهم من الكذب: أن حكم الزاني المحصن - في التوراة - التحميم - والجلد، وهو صفة لليهود خاصة، ثم أخبر أنهم سماعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي، وهم أهل الزاني والزانية، بعثوا إلى النبي يسألونه عن الحكم ولم يأتوا النبي.(3/1713)
وقيل: إن السماعين يهود فَدَكٍ، و " القوم الآخرين " - الذين لم يأتوا النبي - يهود المدينة.
وقيل: المعنى سماعون من أجل الكذب، أي: يستمعون منك يا محمد ليكذبوا عليك. {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} أي: يستمعون منك ليُبَلغوا ما سمعوا قوماً آخرين، فهُمْ عليك عُيون لأولئك الغيب.
{يُحَرِّفُونَ الكلم}: أي يغيرون حكم الله الذي أنزله في التوراة في حكم المحصنين من الزناة، ومعنى: {يُحَرِّفُونَ الكلم} أي: حكم الكلم، {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: من بعد وَضعِ الله ذلك مواضِعَه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، مثل {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 177].
{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} أي: (إن حكم) بهذا الحكم المحرف (فاقبلوه،(3/1714)
يقول ذلك أحبار اليهود لهم في أمر الزانيين، [يقولون]: إن حكم محمد بينكم بهذا الحكم المحرف) - وهو التحميم والجلد - فخذوه، {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} أي: وإن لم يحكم بينكم به فاحذروه ولا تؤمنوا به.
وقال السدي: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه - وهو الجلد - وإن لم تؤتوه فاحذروا - وهو الرجم -.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما حكَّموا النبي صلى الله عليه وسلم في اللَّذَيْن زنيا، دعا رسول الله بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها - وقد وضع يده على آية الرجم - فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثم قال: هذه - يا نبي الله - آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم النبي عليه السلام: يا معشر يهود، ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو(3/1715)
بأيديكم؟ فقالوا: أما إنه قد كان فيما نعمل به حتى زنى منا رجل بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل بعده فقالوا: لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلان، (فلما فعلوا ذلك، اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التحميم وأماتوا ذكر الرجم)، فقال النبي: فأنا أول من أحيا أمر الله، ثم أمر بهما ورجما عند باب المسجد، قال ابن عمر: فكنت ممن رجمهما.
وقال قتادة: الآية نزلت في قتيل من بني قريظة، قتله بنو النضير، وكانت بنو النضير إذا قتلت قتيلاً وَدَت الدية - لا غير - لفضلهم، وإذا قُتل لهم قتيل لم يرضوا إلا بالقَود تَعزُّراً، فأرادت النضير أن ترفع أمر القتيل - الذي قتلوه -(3/1716)
إلى النبي، فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيلُ عمد، متى رفعتموه إلى محمد خَشِيتُ عليكم القَوَد، فإن قُبلت منكم الدّية فأعطوها، وإلا فكونوا منه على حذر.
وقوله: {وَمَن يُرِدِ / الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً}: هو تسلية للنبي عليه السلام ألا يحزن على مسارعة من سارع إلى الكفر من المنافقين واليهود، وفتنته: ضلالته.
{فَلَن تَمْلِكَ (لَه (ُ مِنَ الله شَيْئاً}: لا اهتداء له أبداً.
{أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: بالإسلام " في الدنيا ".
{لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} أي: ذل وصغار وأداء الجزية عن يد، {لَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله لم يرد كفر أحد من خلقه، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين، فكان ما لم يرد ولم يكن ما أراد - تعالى عن ذلك -، وقد قال(3/1717)
(الله): {لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] وقال: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال: {وَلَوْ شَآءَ [رَبُّكَ] مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنِّي [لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ]} [السجدة: 13].
وقال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30]، وقال: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً}، وقال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ [مَن] فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99]، وقال: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} [الرعد: 31]، وقال: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [النحل: 93]، وفي كتاب الله من هذا ما لا يحصى، يخبر تعالى في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون، وأن جميع الحوادث كانت عن(3/1718)
إرادته ومشيئته، وأنه لو شاء لأحدثها على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلَّهم مؤمنين.
فعَندت المعتزلة عليها لعنة الله عن ذلك وخالفته، وقالت: حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله، وعلى إرادة من الشيطان، وقد أجمع المسلمون على قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالت المعتزلة: يكون ما لا يشاء الله، وهو كفر الكافر، معاندةً لإجماع الأمة، وقد حصلت المعتزلة في قولها على أنه ليس لله - تعالى ذكره - على إبليس مزيَةٌ، لأن إبليس شاء [ألا] يؤمن أحد فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، وشاء الله - عندهم - ألا يكفر أحد فكفر الكافرون، فكان خلاف ما شاء، فلا فرق بينهما على قولهم الملاعين، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علواً كبيراً، بل كان عن مشيئته، كان يفعل (ما) يشاء: يوفق من يشاء فيؤمن، ويخذل من يشاء فيكفر، لا معقب لحكمه ولا رادّ لمشيئته، وخلق من شاء للسعادة فوفقه(3/1719)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
لعملها، وخلق من شاء للشقاء وخذله عن العمل بغير عمل أهل الشقاء، " كل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ "، هذا هو الصراط المستقيم، أعاذنا الله من الزيغ عن الحق.
قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ} الآية.
السحت: فيه لغتان: إسكان الحاء وضمها.
وروى خارجة عن نافع: " السَّحْت " بفتح السين وإسكان الحاء، جعله(3/1720)
مصدر: " سحته سحتاً ".
ومعنى الآية: أن الله زاد في وصف من تقدم وصفه من اليهود أنهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}، فذكر أيضاً أنهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} على التأكيد. ويجوز أن يكون الأول معناه: أنهم يسمعون " مِن " قول مَن يقول لهم: " محمد ليس بنبي "، ويقول لهم: " ليس على المحصن رجم إذا زنى / "، ويكون الثاني معناه: أنهم يستمعون إليك ليكذبوا عليك - وقد قيل ذلك في معنى الأول، وقد ذكرته -. ثم وصفهم تعالى بأنهم: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهو الرّشا في الحكم.
قال قتادة والحسن: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} هم حكام اليهود، يسمعون الكذب ويقبلون الرشا.
والسحت - في اللغة -: كل حرام يسحت الطاعات أي: يذهبها، يقال: سحته: إذا أذهبه قليلاً قليلاً، ويقال للحالق: " اِسْحَتْ " أي: استأصل.
وقيل: السحت: الرشا في الأحكام، وأكل ثمن الخمر، وأكل ثمن الميتة، وثمن(3/1721)
جلدها الذي لم يُدْبَغ، وأكل ما نهى النبي عن أكله من كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وأدخل قوم في السحت أكل (أموال الناس) بالباطل.
وقوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} معناه: فإن جاءك قوم المرأة - الذين ذكر أنهم لم يأتوا بَعْدُ -، فاحكم بينهم إن شئت بالحق، وإن شئت فأعرض عنهم، أي: دع الحكم بينهم إن شئت.
وقيل: نزلت في الدية في بني النضير وقريظة، كانت دية النضيري كاملة، ودية القرظي نصف دية لشرف [النضيري]، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله أن يحكم بينهم بالحق، ثم خيّره في الترك، قاله ابن عباس.
(و) قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب للنضيري ديتان،(3/1722)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
وللقرظي دية، فلما علمت [قريظة] بحكم النبي قالوا: لا نرضى إلا بحكم محمد، فخيّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم.
قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} الآية.
وهو الرجم على المحصن إذا زنى. (و) قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك} هو ما غيَّروا من حكم الرجم المنصوص في التوراة، وجَعلُهم عوضه التحميمَ والضربَ بحبل لِيف مفتول أربعين ضربة استحرافاً منهم [لحكم] لم يؤمروا به، والحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بهذه الآية، إن شاء حكم بالحق على مذهبه، وإن شاء لم يحكم، وهو مذهب الشعبي والنخعي وعطاء وعمرو بن شعيب، وهو قول مالك، فهي محكمة على قول هؤلاء.(3/1723)
وقيل: إن الآية منسوخة بقوله {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه لما قدم المدينة - واليهود بها كثير - كان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فقال {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فأباح له ترك الحكم بينهم، فلما قوي الإسلام أنزل [الله] {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 49].
قال ابن عباس: نسخت من سورة المائدة آيتان: القلائد وقوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، وهو قول عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وهو المشهور عن الشافعي، وهو قول الكوفيين.
وكل العلماء أجاز للإمام أن ينظر بينهم إذا تحاكموا إليه، وإنما اختلفوا في الإعراض عنهم.(3/1724)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
وقوله: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي: إن أعرضت عنهم - فلم تحكم بينهم - فإنهم لا يضرونك. {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} أي: إن اخترت أن تحكم بينهم، فاحكم بالعدل، إن الله يحب العادلين في حكمه.
قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} الآية.
المعنى: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك {وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا [حُكْمُ الله]} أن على الزاني المحصن الرجم، والنفس بالنفس، {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عن حكمها، أي: يتركون حكم التوراة جرأة على الله، وهذا تقريع لليهود، لأنهم تركوا حكم ما في أيديهم من كتابهم، ورجعوا إلى حكم النبي عليه السلام وهم يجحدون نبوته، ثم قال {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} أي: (ما) من فعل هذا بمؤمن.
قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} الآية.
المعنى: أن الله أنزل التوراة فيها هدى لما سألوا عنه من حكم الزانيين المحصنين،(3/1725)
وفيها (نور: أي) جلاء مما أظلم عليهم من الحكم.
وقيل: المعنى {فِيهَا هُدًى} أي: بيان أمر النبي، {وَنُورٌ} أي: بيان ما سألوا عنه.
ومعنى قوله {النبيون الذين أَسْلَمُواْ} أي: الذين سلموا لما في التوراة من أحكام الله، فلم يتعقبوا بالسؤال عنه، وليس الإسلام - هنا - ضد الكفر، لأن النبي لا يكون إلا مسلماً مؤمناً، وإنما الإسلام هنا: الانقياد والتسليم، ومثله قول إبراهيم: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] أراد مسلمين لأمرك، منقادين لحكمك بالنية والعمل، وكذلك قوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] أي: سلمت لأمره.
ومعنى {لِلَّذِينَ هَادُواْ} أي: يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار {لِلَّذِينَ هَادُواْ}، أي: عليهم، فاللام بمعنى " على "، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:(3/1726)
" اشترطي لهم الولاء أي: عليهم، ولم يأمرها بأن تشترط الولاء لهم، وهو لا يجوز، (فلا يأمرها بفعل ما لا يجوز)، وإنما أمرها بفعل ما يجوز، وهو أن يكون الولاء لها، فلما اشترطوا الولاء لأنفسهم قال صلى الله عليه وسلم: ما بال قوم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ".
وقيل: المعنى: للذين هادوا (و) عليهم، أي: يحكمون لهم (و) عليهم، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.
وقيل: المعنى: فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار.
(و) عني بالنبيين - هنا - محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله، قاله السدي وقتادة و [غيرهما].(3/1727)
وروي (أن) النبي صلى الله عليه وسلم قال - لما نزلت هذه الآية -: " نحن - اليوم - نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان ".
والأحبار: [العلماء] [الحكماء]، واحدهم حَبْرٌ، وقيل: حِبْرٌ. وسموا أحباراً، لأنهم يحبرون الشيء، فهو في صدورهم مُحَبّرٌ.
وسمي الحبر - الذي يكتب به - حبراً، لأنه يحبر به، أي: يكتب به.
وقال الفراء: التقدير فيه: مداد حِبْرٍ، (لأن العالم يقال له " حِبْر " فإذا [قلت: " هذا] حِبْرٌ " للمداد، فالمعنى: مداد حِبْرٍ)، أي: مداد عالم، ثم تحذف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقال الأصمعي: (إنما سمي) الحبر - الذي هو المداد - حِبْراً لتأثيره، يقال:(3/1728)
" على [أسنانه] حبرَةٌ " أي: صُفْرَةٌ أو سَوَادٌ.
{والربانيون والأحبار}: القراء والفقهاء. وقيل: الفقهاء والعلماء. و " قال ابن زيد: الربانيون ": الولاة، والأحبار: العلماء ". والرَّبَّاني - عند أهل اللغة -: رب العلم، أي: صاحبه، والألف والنون للمبالغة.
وقيل: معنى {لِلَّذِينَ هَادُواْ}: للذين تابوا من الكفر، أي: يحكم هؤلاء بما في التوراة للذين " تابوا " من الكفر.
وقوله: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} أي: يحكمون بما استودعوا من كتاب الله، والباء متعلقة بالأحبار، والمعنى: يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي: والعلماء / بما استودعوا من كتاب الله، {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} أي: وكان النبيون(3/1729)
والربانيون والأحبار شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله، وقال ابن عباس: الشهداء - هنا - الربانيون والأحبار شهداء أن الذي قضى [به] محمد صلى الله عليه وسلم حق في أمر الزانيين المحصنين وقد أخبرنا الله أنهم استحفظوا كتابهم، وأعلمنا أنهم بدلوا وغيّروا، وأعلمنا تعالى أنه يحفظ علينا ما أنزله من القرآن فقال {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فغير جائز أن يبدل أحد أو يغير ما حفظه الله علينا، فنحن أمة محمد عليه السلام برآء من التبديل والتغيير لشيء من كتاب الله، إذ الله تولى حفظه علينا، ولم يسلم أهل التوراة من ذلك، إذ الله استحفظهم عليه فخانوا، ولم يحفظه هو.
وقوله {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} هذا خطاب للربانيين والأحبار، أمرهم ألا يخشوا الناس في تنفيذ حكمه وإمضائه على ما في كتابه، وأن يخشوه في ذلك، قاله السدي وغيره. وقوله {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي: لا تأخذوا [الرّشى] في الأحكام، فإنه(3/1730)
عِوَضٌ خسيس وثمن قليل.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} أي: من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه في الزانيين المحصنين وغيرهما من دية القتيل، {فأولئك هُمُ الكافرون} أي: الساترون الحق.
وهذه في كفار أهل الكتاب.
وقيل: هي في المشركين.
وقيل: المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلاً له، فأولئك هم الكافرون.
وقال بعد ذلك: {هُمُ الظالمون}. وقال بعد ذلك: {هُمُ الفاسقون}.
فقيل: إن الأوصاف الثلاثة لمن غير حكم الله [ومن جميع الخلق.(3/1731)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وقيل: هي لليهود المغيرين حكم الله].
وقيل: الوصف الأول لليهود، والثاني والثالث للمسلمين.
وقيل: نزل {الكافرون} في المسلمين إذا غيّروا حكم الله، و {الظالمون} في اليهود، و {الفاسقون} في النصارى. وهو ظاهِرُ النص.
قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس [بالنفس]} الآية.
قرأ الكسائي برفع (العين) وما بعده، واحتج له بإجماعهم (على الرفع) في {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقوله {والله وَلِيُّ المتقين} [الجاثية: 19]، فرفع [ما] بعد (أنّ)(3/1732)
فيهما على القطع، فكذلك (العين) وما بعدها.
وقيل: هو معطوف على موضع {النفس (بالنفس)}. وقيل: هو معطوف على المضمر الذي في [النفس].
وقال بعض العلماء: من نصب جعله كله مكتوباً في التوراة، من رفع جعل {والعين بالعين} وما بعده ابتداء حكم في المسلمين، وجعل {النفس بالنفس} هو المكتوب في التوراة دون ما بعده. والرفع [قراءة] النبي عليه السلام فيما روي عنه.
ومن نصب {والجروح} عطفه على ما قبله، وأعمل فيه {أَنَّ}، و {قِصَاصٌ}(3/1733)
الخبر.
ومن رفع قطعه مما قبله، [واختير قطعه مما قبله] لمخالفة خبره خبر ما قبله، ولمخالفة حكمه حكم ما قبله، ولمخالفة إعراب خبره (إعراب) خبر ما قبله، فلما خالف ما قبله، من هذه الوجوه قوي القطع، فرُفع على الابتداء.
والمعنى: وكتبنا على هولاء اليهود الذين يحكمونك - وعندهم التوراة - في التوراة أن يحكموا بالنفس [في النفس] والعين " بالعين " وما بعده.
قال ابن عباس: لم يجعل الله لبني إسرائيل دية، إنما هو النفس بالنفس أو العفو.
فهذا استوى فيه أحرار المسلمين: الرجال والنساء فيما بينهم في النفس، وفيما دون النفس / إذا كان عمداً، ويستوي فيه العبيد: رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس، وفيما دون النّفس.(3/1734)
والقصاص من العين هو ظاهر النص، وبه علي بن أبي طالب والشعبي والنخعي والحسن ومالك والشافعي وغيرهم و [قراءة] الرفع توجب ذلك، لأنه حكم مستأنف للمسلمين، وليس بحكاية عما في التوراة. والنصب إنما هو حكاية عما في التوراة، فيجوز ألا يكون (حكماً لنا). ويكون القصاص في الأنفس عندنا من قوله تعالى: [{الحر بِالْحُرِّ} الآية، ويجوز أن يكون (حكماً لنا) أيضاً بنص آخر وهو]: {العبد بالعبد}، فيكون هذا بيان أن ذلك حكم لنا.
وأحسن ما روي في صفة الاقتصاص من العين ما فعل " علي " بن أبي طالب: وهو أنه أمر بِمِرْآةٍ فَأحْمِيَتْ، ثم وضع على العين الأخرى قُطناً، ثم أخذ المِرآة(3/1735)
بكلبتين. فأدناهما من عينه حتى سال إنسانُ عينه.
وإذا ضرب رجل عين رجل فأذهب بعض بصره وبقي بعض، فالحكم فيها - على ما فعل علي بن أبي طالب -: أن تُعْصَب عينُه الصحيحة، ويعطى رَجُلٌ بيضة ويذهب " بها "، فحيث ما انتهى بصر المضروب عُلِّمَ، [ثم يرجع فيغطّي] عينه، وتكشف الأخرى، ثم يذهب الرجل بالبيضة فحيث ما انتهى بصر المضروب علم]، ثم يحوّل المضروب فيفعل به من ناحية أخرى في عينيه جميعاً مثل ذلك، ويكال الموضعان فإذا استويا نظر ما بين امتداد نظر الصحيحة والسقيمة، فيعطي من مال الضارب بقسطه، وبذلك قال مالك والشافعي.(3/1736)
ولو فقأ أَعْورُ عين صحيح: فقيل: لا قود عليه، وعليه الدية.
روي ذلك عن عمر وعثمان. وقيل عليه القصاص، وهو قول علي بن أبي طالب، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن شاء فقأ عينه، وإن شاء أخذ دية عين أعْوَر كاملة.
وإذا أُوْعِبَ جَدْعُ الأنفِ، ففيه الدية، وهو قول سائر العلماء. ولو كسره(3/1737)
عمداً لكان فيه القود عند مالك، وإذا كسره خطأ - فبرأ على غير عثم - فلا شيء فيه عند مالك، وإن برأ على عَثْمٍ، ففيه اجتهاد الإمام. وكذلك قال: (ابن) القاسم إن خَرّم أنفه: وإذا قطع من أصله - أو من العظم - ففيه الدية كاملة عند مالك -. وإذا أفسد الخياشيم فانكسرت حتى " لا " يتنفس، ففيها الاجتهاد.
وأما السن: فجاء من الخبر من أنه أقاد من السن، وأنه قال: (و) في السن(3/1738)
خمس من الإبل. وظاهر النص " القصاص ".
ورُوي عن علي بن أبي طالب وابن عباس في السن بخمس من الإبل أي: سن كانت، وبه قال عروة بن الزبير والزهري وقتادة ومالك والشافعي والثوري وغيرهم.
وروي عن عمر أنه حكم فيما أقبل من الفم - الثنايا والرباعيات والأنياب - بخمس فرائض في كل سن.
كل فريضة: عشرة دنانير، فذلك خمسون ديناراً في كل سن.(3/1739)
وقضى في الأضراس (ببعير بعير)، وقضى معاوية في الضرس بخمس فرائض. فالدية تزيد إذا أصيب الفم كله عند معاوية، وتنقص عند عمر.
وإذا اسودت السن من ضربة أو جناية، فقد تم عقلها عند مالك وغيره، لأن جمالها قد ذهب، فإن طرحت بعد ذلك، كان فيها عقلها، لأن منفعتها قد ذهبت.
وروي عن عمر أنها إذا اسودت ففيها ثلث ديتها.
وقيل: فيها حكومة إذا اسودت، وبه قال الشافعي.
(وإن) قلعت سن الصبي، فنبتت، فلا شيء فيها، إلا أن تنبت ناقصة(3/1740)
الطول (عن ما) هو مثلها، / فيؤخذ من الجاني بقدر ما نقصت، هذا مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال مالك: لأولياء الصبي أن يضعوا عقلها، فإن نبتت ردوها على أهلها.
وقيل: في ذلك حكومة.
وإذا أخذ الكبير دية سنه ثم نبتت، فلا يرد ما أخذ عند مالك، لأنه أخذه بحق. وقال أصحاب الرأي: يرد ما أخذ. واختلف في ذلك قول الشافعي.
ولو جنى عليها آخر فسقطت، أخذ صاحبها إرشها تاماً.(3/1741)
ولو قلعت سن قوداً ثم أخذها صاحبها فردها فالتحمت، فلا شيء عليه عند ابن المسيب، وهو قول عطاء، وقال: ليس له أن يردها ثانية، وإن ردها، أعاد كل صلاة صلاها وهي عليه، ويَجْبُره السلطان على قلعها مرة أخرى.
وكذلك قول الثوري وغيره: تقلع ثانية، لأن القصص للشَّيْن، فلا بد من قلعها.
وقال مالك في قصاص الأسنان: " الثنية بالثنية "، والرباعية بالرباعية والسفلى بالسفلى.
ولا [تقاد] سن إلا بمثلها في موضعها، فإن لم يكن له مثل الذي طرح، رجع ذلك إلى العقل.(3/1742)
ولو قلعت سن رجل فداواها وردها [فالتحمت]، فلا شيء فيها على الجاني عند مالك إذا عادت كهيئتها. وقال الشافعي: لا يسقط عن الجاني شيء مما وجب عليه.
وفي السن الزائدة إذا قلعت - عند مالك - حكومة، وهو قول الثوري والشافعي. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث السن.
فإن كسر بعضها أعطى صاحبها بحساب ما نقص منها، وهو قول الجماعة. [وأما] الأذنان: فإذا ذهب سمعهما ففيهما الدية، فإن قطعتا ولم يذهب(3/1743)
السمع ففيهما الاجتهاد، هذا قول مالك.
فإن ضرب رجل رجلاً فادعى المضروب أن سمعه ذهب، اغتفل المضروب وصيح به، فإن أجاب جواب من يسمع، لم يقبل قوله، وإن لم يجب، أحلف بالله: لقد صممت وما وجدت الصمم إلا منذ ضربت، فإذا حلف أعطي عقله كاملاً.
وفي اللسان الدية. فإن قطع بعضه، نظر ما نقص من مخارج الحروف من ثمانية وعشرين حرفاً، فيكون على الفاعل - من الدية - بمقدار ما ذهب من كلامه.
وليس في اللسان قود عند مالك، وروي عنه أنه قال: فيه القود إن كان(3/1744)
يستطاع القود منه.
وفي لسان الأخرس حكومة عند مالك والشافعي وأهل العراق وغيرهم.
وقال النخعي: فيه الدية كاملة، وقال قتادة: فيه ثلثا الدية.
وفي ذهاب الصوت الدية عند جماعة من الفقهاء، وقيل: فيه حكم.
وفي كل اثنين من الإنسان الدية كاملة: في الأذنين والشفتين واليدين والرجلين ونحو ذلك.
وعن زيد بن ثابت أن في الشفة السفلى ثلثي الدية، وفي العليا الثلث، وهو(3/1745)
قول ابن المسيب والزهري.
وفي اللحية حكومة عند ابن القاسم. وقال غيره: إن أنبتت فلا شيء فيها، وإن لم تنبت ففيها الدية.
وفي نتف الحاجبين وأشفار العينين حكومة عند مالك " وإن لم تنبت ".
والأصابع إذا زالت من الكف ففيها عقل اليد. وفي اليد من المنكب دية اليد لا غير. وما كان من ذلك خطأ، حملته العاقلة، وما كان عمداً ففيه القصاص.
/ وإذا شلت اليد أو الرجل فقد تم (عقلها)، فإن كان الضرب: عمداً، ضرب الضارب مثل ما ضرب.(3/1746)
/ وإذا شلت [الأصابع] تمت ديتها، فإن قطعت الشلاء (أو) [الأصبع] الأشل، فإنما في ذلك حكومة في مال الجاني. ومن قطع يد رجل - ناقصة منها أصبع - قطعت يده ولا يسأل عن نقص [الأصبع]، أي: أصبع كانت. فإن كانت اليد تنقص أصبعين أو ثلاثة، لم يقطع يد الجاني، ولكن عليه العقل في ماله.
ومن قطع (من) يد رجل أصبعين وما يليهما من الكف (في ضربة) واحدة، وجب عليه خمساً دية الكف.
ومن قطع كفاً لا أصابع فيها، ففيها حكومة.
ومن قطع يمين رجل - ولا يمين له -، فعليه العقل مثل عقل العمد - إذا قُبلت(3/1747)
- من ماله.
ومن أصيب أصبعه خطأً، أو ذهبت بأمر من الله، ثم قطع كفه خطأ، فإنما له أربعة أخماس الدية على العاقلة.
وكذلك إذا ذهبت الأنملة، ثم قطع الكف، إنما له حساب ما بقي.
وفي الظفر الاجتهاد إذا برأ على عثم، وإن كان عمداً ففيه القصاص.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " جعل في الأصابع عشراً عشراً ".
وأصابع اليد والرجل سواء، لا فضل لبعضها على بعض.(3/1748)
وروي عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلاثة عشر، وفي التي تليها باثني عشر، وفي الوسطى بعشرة، وفي التي تليها بتسعة، وفي الخنصر بست.
والأشهَر أنها سواء (عشر عشر) لكل واحدة.
وفي كل أنملة ثلث دية الأصبع إلا الإبهام ففيها الثلثان، في كل أنملة نصف دية [الأصبع].
وروي عن مالك أنه قال: في الإبهام ثلاثة أنامل: الثالثة مع الكف، ففي كل واحدة ثلث دية الأصبع كسائر الأصابع.
وروي عنه أنه قال: الإبهام مفصلان: في كل مفصل نصف دية أصبع، وفي(3/1749)
الثالثة التي تلي الكف حكومة، بمنزلة باقي الكف إذا قطعت بعد الأصابع.
وعن عمر أنه جعل في اليد الشلاء والرجل الشلاء ثلث ديتها.
وقال ابن شهاب: فيها نصف ديتها، ومثله الأصبع الأشل، وقال الشافعي: فيها حكومة.
وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية.
وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.(3/1750)
وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية.
وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.
فإن قطع القضيب بعد الحشفة ففيه اجتهاد عند مالك، وينتظر به حتى ينظر ما يحدث عليه من قطعه. فإن قطع من طرف الحشفة، قيس مقداره فيما بقي وكان بحساب ذلك، ولا يقاس ما بقي القضيب، لأن في الحشفة الدية كاملة.(3/1751)
وفي الأنثيين - في خطأ - الدية كاملة، وفي العمد القصاص. وفي بيضة واحدة نصف الدية.
وقال سعيد بن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية، لأن الولد منها، وفي اليمنى الثلث.
وإن قُطع ذكر رجل وأنثياه، ففي ذلك ديتان، وكذلك إن قطعا في وقتين، ففي كل واحد الدية.
وفي ذكر الخَصِيّ حكومة عند مالك، وفي الدية " كاملة " عند الشافعي. وقال قتادة: فيه ثلث الدية.(3/1752)
وفي كسر العظام إذا [كسرت] القصاص عند مالك: الساق بالساق، ولا قصاص فيما فوقه، ولا في كسر ظهر ولا فخذ.
ويجتهد الإمام في اللطمة عند مالك. و " قد " قيل: / فيها القصاص.
وفي الموضحة - وهي الضربة التي توضح العظم - خمس من الإبل. وهي تكون في الرأس والوجه قال مالك: إنْ كانت التي في الوجه تَشِينهُ، زِيدَ على الجاني بقَدْر شَيْنِها. وليس موضحة البدن مثل موضحة الرأس والوجه. ولا يعجل(3/1753)
بأخذ الدية من صاحب الموضحة حتى ينظر (إلى) ما يصير إليه أمرُها، فإن مات منها كان في ذلك قسامة.
وقال مالك: يقاد من العمد، ولا يعقل جراحات الخطأ إلا بعد البرء، وإن اقتص من الجارح عمداً فبرأ، فإن كان جرحُه مثلَ جُرح المَجروح أوّلاً أو أكثر فلا شيء (عليه) للأول، وإن كان في الأول عثل وبرأ المقتص منه على غير عَثَلٍ، أو على عثل دون عثل الأول، اجتهد الإمام في الحكومة على قدر ما زاد شَيْنُ المجروح الأول.(3/1754)
والموضحة في الوجه - عند مالك - من اللَّحْيِ الأعلى فما فوقه خاصة. و [لا] تكون الموضحة في الأنف عند مالك.
وفي الموضحة - في سائر البدن - حكومة عند مالك والشافعي. وروي عن أبي بكر وعمر أن فيها نصف عشر دية ذلك العضو الذي وقعت فيه، وسند ذلك إليهما ضعيف.
وفي الهاشمة القودُ عند مالك إلا أن يخاف منها فلا يقتص منها، وفيها(3/1755)
عشر من الإبل. وفي المُنَقّلة خمسَ عشرة من الإبل عند مالك وجماعة العلماء، ولا قود فيها عند مالك والشافعي وغيرهما. والمُنَقِّلَة: (التي ينقل منها) العظام.
وفي المأمومة - وهي التي تصل إلى أم الدماغ - ثلث الدية، وهو قول مالك(3/1756)
وجماعة العلماء، ولا قود فيها عند مالك وأكثر العلماء.
والشجاج - التي دون الموضحة - ست:
أولها: الدامية: وهي التي تَدْمَى ولا يسيل دمها.
ثم الدامعة: وهي التي يسيل دمها.
ثم الخارصة: وهي التي تَحرِص الجلد (أي) تشقه قليلاً، ومنه قيل: حَرَصَ الثوبَ القَصَّارُ: إذا شَقّهُ.(3/1757)
ثم الباضعة: وهي التي تشق الجلد وبعض اللحم.
ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم أكثر من الباضعة.
ثم السمحاق: وهي التي لم يبق بينها وبين العظم إلا قشرة " رقيقة " وكل قشرة رقيقة فهي سمحاقة، ويسميها أهل المدينة: المِلْطاة، وفي جميع ذلك - عند مالك والشافعي وغيرهما - حكومة.
وقد حد غيرهم في كل نوع حدا: قضى زيد بن ثابت (ببعير في الدامية)، وفي الدامعة بنصف بعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي(3/1758)
السمحاق بأربعة أبعرة.
وروي عن علي في السمحاق مثل ذلك، وروي أن فيها نصف دية الموضحة، وروى مالك أن عمر وعثمان قضيا في [الملطاء].
وفي السمحاق بنصف الموضحة، وكان يرى فيها حكومة كسائرها. ورأى مالك: القصاص فيما دون الموضحة، مما ذكرنا إذا كان عمداً.(3/1759)
وفي الْجَائِفَة ثلث الدية، قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك وغيره. ولا فرق بين العمد والخطأ في الجائفة. وفي الجائفة [النافذة] ثلثا الدية.
وفي ثدي المرأة نصف الدية، وفيهما جميعاً الدية كاملة، هذا مذهب الجميع.
وفي الحُلْمة - إذا انقطع لبَنُها - نصف الدية عند مالك.
وفي ثدي الرجل حكومة عند مالك. وعن زيد بن ثابت أن فيها ثمن(3/1760)
الدية. وقال الزهري: خمس من الإبل.
وقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} أي: من تصدق بجرحه، هدم عنه ذنوبه مثل ما تصدق به، [قاله] جابر بن زيد. وروى الشعبي عن / رجل من الأنصار قال: سئل النبي عليه السلام عن قوله تعالى {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: هو الرجل تُكسَرُ سِنُّه، أو يُجْرح في جَسَدِه فَيَعْفو عنه فَيُحَط من خَطاياه بقَدْر ما عفا: إن كان نصف الدّية فنصفُ خَطاياهُ، وإن كان ثُلثُ الدية فَثُلُث خَطاياهُ، وإن كان رُبُع الدية فَرُبُع خطاياه، وإن كانت الدية كلها فخطاياه كلها.
وقال قتادة: " {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} يقول: لولي القتيل الذي عفا ". فالهاء المجروح،(3/1761)
أو لولي القتيل. وقيل: الهاء للجارح، والمعنى: إن تَصَدَّق المجروح على الجارح بإِرْش جُرحِه، فالصدقة كفارة للجارح، ليس يبقى عليه ذنب من الجرح.
قال زيد بن أسلم: " إِنْ عَفا عنه، أو اقتص منه، أو قَبل منه الدية فهو كفارة له "، أي: للفاعل، وفي هذا القول بُعْدٌ، لأنه لم يَجْرِ ذكر للجارح، وإنما جرى ذِكرُ المجروحِ في (" مَنْ ")، فالهاء تعود عليه أَوْلى، وهو اختيار الطبري، قال: ولأَنّ المعهود أن التكفير إنّما يكون للمتصدِّق دون المتصدَّق عليه.
وقيل: الهاء في (بِهِ) لإرش الجرح، وفي (لَهُ) للجارح، أي: مَن تصدق بما وجب له من الإرش والدية {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}، أي: فذلك الفعلُ كفارةٌ للجارح والقاتل في(3/1762)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
حُكم الدنيا، و (مَن) اسم للمجروح (أو لولي) المقتول.
وقيل: (" مَن ") اسم للقاتل والجارح، والهاء في (به) تعود على القتل أو الجرح، والهاء في (له) تعود على القاتل أي: من تصدق بِبيان أنه هو القاتل وهو الجارح، فذلك الإقرار كفارة للمُقِرّ، لأنه قد أباح نفسه بإقراره لأخذ الحدّ منه، ورفع التُّهم عن الناس:
قال مجاهد: إذا أصاب الرجلُ الرجلَ بأمر، ولم يعرف الفاعل، فاعترف الفاعل، وأقرّ، فهو كفارة له، وقد روي أن عروة بن الزبير أصاب عين رجل خطأً عند الركن فقال: أنا عروةُ، فإن كان بعينك [بأس فأنا] بها.
قوله: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} الآية.
المعنى: و " أَتْبَعْنا عيسى بنَ مريم على آثارِ النبيين الذين أسلموا من قبلك ".(3/1763)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة} أي: مصدقاً لما أتى به موسى " قبله ".
{وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} أي: أعطيناه كتاباً اسمه الإنجيل، {فِيهِ هُدًى} أي: بيانُ ما جهِله الناس من حكم الله في زمانه، {وَنُورٌ} أي: وضياء من عمى الجهالة، {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: وجعلنا الإنجيل مصدقاً لما قبل عيسى من التوراة وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل عيسى، {وَهُدًى} أي: هدى إلى صحة ما أنزل الله على أنبيائه من الكتب، {وَمَوْعِظَةً} أي: [زجراً] لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، {لِّلْمُتَّقِينَ} أي: للذين خافوا الله واتقوا عقابه.
قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ} الآية.
مَن كسر اللام ونصب الفعل في {لْيَحْكُمْ}، جعلها لام " كي "، والمعنى:(3/1764)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
أعطيناه ذلك كي يحكم أهل الإنجيل، فخالفوا حكمه. ومن أسكن اللام، جعلها لام الأمر، والمعنى: وأمرْنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه، فلم يفعلوا ما أُمِروا به.
قال ابن زيد: كل شيء في القرآن " فاسق " فهو بمعنى " كاذب " إلا قليلاً، فالفاسقون هنا الكاذبون.
قوله: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} الآية.
المعنى: أنه خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب - هنا -: القرآن، ومعنى {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما قبله من كتب الله أنها حق من الله، {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي: شهيداً على الكتب / أنها حق، وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال للرجل إذا حفظ الشيء وشَهِدَه: " قد هَيْمَنَ، يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً ". قال ابن عباس: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}(3/1765)
أي: شهيداً " عليه، وهو قول السدي. وقال قتادة: مهيمناً: [أي]: أميناً وشاهداً.
وقال ابن جبير: {وَمُهَيْمِناً} ([أي] مؤتمناً)، القرآن مُؤتمن على ما قبله من الكتب، وكذلك (روي أيضاً) عن ابن عباس والحسن وعكرمة.
وقال عبد الله بن الزبير: المهيمن: القاضي على ما قبله من الكتب.
وقال المبرد: الأصل " مُؤَيْمن "، ثم أُبدِل من الهمزة هاء.
قال أبو عبيد: يقال: هيمن على الشيء، إذا حفظه.(3/1766)
وقرأ مجاهد وابن محيصن: {وَمُهَيْمِناً} بفتح الميم. قال مجاهد: " محمد عليه السلام مؤتمن على القرآن ".
فيكون على قول مجاهد {وَمُهَيْمِناً} حالاً من الكاف في {إِلَيْكَ}. وعلى قول غيره حال من الكتاب، مثل: {مُصَدِّقاً}.
والهاء في {عَلَيْهِ} - في قول مجاهد - تعود على الكتاب (الأول الذي هو القرآن. وعلى قول غيره تعود على الكتاب) الثاني الذي هو بمعنى الكتب(3/1767)
المتقدمة التي القرآن يصدقها ويشهد عليها بالصحة أنها من عند الله.
وقد طعن قوم في قول مجاهد من أجل الواو التي مع " مهيمن "، لأن الواو توجب عطفه على " مصدق "، و " مصدق " حال من الكتاب الأول، والمعطوف شريك المعطوف عليه، قال: ولو كان حالاً من الكاف التي للنبي صلى الله عليه وسلم في {إِلَيْكَ}، لم يؤت بالواو، فالواو تمنع من ذلك. ولو تأول متأول أن {مُصَدِّقاً} حال من الكاف في {إِلَيْكَ}، {وَمُهَيْمِناً} عطف عليه، لَبَعُد ذلك، من أجل قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، ولم يقل " يديك ".
وهو جائز على بُعدِه على التشبيه بقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] بعد قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك}. فإن تأولته على هذا، كان " مصدق " و " مهيمن " حالين من(3/1768)
الكاف التي هي اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو المصدق للكتب المتقدمة، والمؤتمن على الكتاب، وهو القرآن.
وقوله: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} أي: إذا أتوك فاحكم بينهم بشرائع الله التي [أنزلها] عليك، {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق} إذ قالوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} [المائدة: 41] أي: إن حَكَم بينكُم (في المحصنين) بالتَّحْميم والجَلْدِ بِحَبْل ليف فاقبلوا منه، وإن لم يحكم بذلك فاحذروا أمره ولا تتبعوه، وذلك قول يهود فَدَك ليهود المدينة، فأمر الله نبيَّه ألا يتبع أهواءهم في ذلك، وأن يحكم بما أنزل الله أي: بحدوده.
قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً [وَمِنْهَاجاً]} أي: شريعة، {وَمِنْهَاجاً} أي: طريقاً واضحاً.(3/1769)
قال قتادة: معناه أن للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويُحرِّم ما يشاء لِيَعْلَم أهل طاعته، والإخلاصُ واحد، والتوحيدُ واحدٌ لا يختلف، ولا يقبل غيره، وهو الإسلام، فالإسلام دين الأنبياء كلهم وشرائعهم في (الحلال والحرام) والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات مختلِفٌ على ما أراد الله من أمة كل نبي، لِيبلوَ الجميع بما يشاء من أحكامه، فَيَجْزِي الطائعَ ويعاقب العاصي، لا إله إلا هو.
وقال مجاهد: معناه: لِكُلِّكُم جعلنا القرآن شِرعةً ومنهاجاً، أي: شرعة وطريقاً واضحاً، عنى بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، هذا معنى قوله.
واختار الطبري القول الأول، وهو أن يكون: لكل أمة جعلنا شريعة(3/1770)
وطريقاً، / واستدل بقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي يجعلكم (كلكم) - أيها الأُممُ - على شريعة واحدة، قال: ولو عنى بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن لقوله {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فائدة، لأنهم أمة واحدة - أمة محمد - قد فعل بهم ذلك. ويدل على أنه أراد به الأمم (أنه قد جرى) ذكر الكتب التي قبل القرآن، وذكر عيسى وغيره، فرجع الكلام على ذلك. وقال ابن عباس (شرعة ومنهاجاً): سبيلاً وسنة، وكذلك قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: إن الشرعة السبيل، والمنهاج السنة.
{وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على دين واحد وعلى شريعة واحدة.
قوله تعالى: {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم} في الكلام حذف، والمعنى: ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم فيما آتاكم من شرائعه. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم،(3/1771)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
والمراد به النبي ومن معه ومن مضى من الأمم.
{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي: فبادروا إلى عملها قبل أن تعجزوا عنها بموت أو هرم أو مرض، فإن (مرجعكم إلى الله)، فيجازيكم بأعمالكم، ويخبر كل فريق بعمله، ويبين المحق من المبطل، (وتنقطع الدعاوى، لأن الأنبياء قد أخبرت بالمحق من المبطل) في الدنيا، ولكن الدعاوى لم تنقطع، ففي الآخرة تنقطع الدعاوى وتقع الحقائق.
قوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} الآية.
هذا معطوف على {الحق} [المائدة: 48] أي: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم بينهم. وهذا - عند جماعة - ناسخ للتخيير الذي تقدم في الحكم بينهم، أمره الله(3/1772)
بالحكم بينهم وأن لا يتبع أهواءهم في الأحكام التي قد أحدثوها في القتيل من بني النضير ومن قريظة، وفي التحميم الذي جعلوه على المحصن من عند أنفسهم، حذّره منهم أن يفتنوه عن الحكم الذي أنزل الله فيردوه إلى [حكمهم].
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن الاحتكام إليك والرضا بحكمِك، فاعلم أن ذلك إنما هو من الله ليعجل لهم عقوبة ذنوبهم السالفة في عاجل الدنيا.
{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} يريد به اليهود، إنهم لتاركون العمل بكتاب الله وخارجون من طاعته: ذكر ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: امضوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: قد علمت أننا علماء يهود وأشرافها، وإنا(3/1773)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
إذا اتَّبعْناك [اتّبَعَنا] يهود، فنؤمن بك كلنا، وبيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدقك. فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} الآية.
قال ابن زيد: معنى {أَن يَفْتِنُوكَ}: أن يقولوا لك كذا وكذا في التوراة بخلاف ما فيها، قد بين الله له ما في التوراة، فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45]، يعني: كتب ذلك في التوراة.
قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} الآية.
قرأ الحسن وقتادة والأعمش {أَفَحُكْمَ الجاهلية}، والحَكَم والحاكم سواء، والعامل فيهما [(يبغون)]، والحُكْم في الجاهلية: الكاهن.(3/1774)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
ومن قرأ بالتاء في (تبغون) فمعناه قل لهم يا محمد، أفحكم الجاهلية تبغون، على المخاطبة، ومن قرأ بالياء، فعلى الخبر من الله عنهم. ومعنى (تبغون) تطلبون، وهو خطاب وتوبيخ لهؤلاء اليهود الذين لم يرضوا بحكم رسول الله، ثم وبخهم أيضاً فقال: / {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} أيها اليهود عند من كان يؤمن بالله، فأي حكم أحسن من حكم الله؟!.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} الآية.
أكثر العلماء على أن المأمور بذلك جميع المؤمنين. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، كان بينهما وبين بني قَيْنُقاع عهد وحلف، فلما حاربت بنو قينقاع النبي عليه السلام، قام دونهم عبد الله بن أبيّ و [حاجّ] عنهم، ومضى(3/1775)
عبادة بن الصامت إلى النبي عليه السلام [وتبرأ] من حلفهم وعهدهم وقال: أنا أتولى الله ورسوله والمؤمنين.
وقال الزهري: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال بعض اليهود: غركم أن أصبتم رهطاً من قريش لاَ عِلْمَ لَهُمْ بالقتال، أما أنّا لو عزمنا عليكم واستجمعنا لم يكن لكم يَدان بقتالنا، فتبرأ عبادة بن الصامت عند رسول الله من أوليائه من يهود، فقال عبد الله ابن أبي: لكن أنا لا أبرأ من ولاء يهود، أنا رجل لا بد لي منهم، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} الآية.(3/1776)
وقيل نزلت في قوم من المؤمنين (هموا - حين) نالَهم بأُحُدٍ ما نالهم - أن يأخذوا من اليهود والنصارى عُصَمَاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك. وقال السدي: لما كانت وقعة بأُحُدٍ، اشتد على قوم ذلك، فقال رجل لصاحبه: [أما أنا] فأَمُرُّ بذلك اليهودي فآخُذُ منه أماناً، فإِنِّى أخاف أن يِدَّال علينا، وقال آخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني فآخُذُ منه أماناً، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} الآية.(3/1777)
وقال عكرمة: بعث رسول الله عليه السلام أبا لُبابة - من الأوس - إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حُلقِه: الذَّبح (الذبح)، فأنزل الله الآية فيه.
وقيل: نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يخبرون اليهود والنصارى بأسرار المؤمنين ويوالونهم.
والاختيار عند الطبري أن يكون نهياً عاماً لجميع المؤمنين.
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي: اليهود بعضهم أنصار بعض، وكذلك النصارى ففيه معنى التحريض للمؤمنين: أن يكون أيضاً بعضهم أولياء بعض.
قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي: من والاهم فهو منهم، لأنه لا [يواليهم] إلا وهو بدينهم راض، فهو منهم.
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: " لا يُوَفِّقَ " من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم لله ورسوله ".(3/1778)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
قوله: {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [يُسَارِعُونَ فِيهِمْ]} الآية.
هذه الآية بيان لما في الآية التي قبلها، والمعنى: ترى قوماً في قلوبهم مرض يسارعون في ولاية اليهود والنصارى، {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي: تكون الدائرة علينا، فيوالون اليهود والنصارى لضُعْفِ إيمانهم.
وقيل: يعني بذلك عبد الله بن أبي بن سلول المنافق.
وقال مجاهد: كان المنافقون يَصَانِعُونَ اليهود ويَسْتَرْضُونَهم ويستعرضون أولادهم يقولون: نخشى أن تكون الدائرة لليهود، وفيهم نزلت الآية، وكذالك قال قتادة.
قال ابن عباس: معنى قولهم: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} (أي): نخشى (ألا يدوم) الأمر لمحمد ويغلب علينا المشركون.
وقيل: يراد بها عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل في طلب بني / قَيْنُقاع حتى أسرهم، ولم يزل عبد الله بن أبي يسأل فيهم حتى خلاهم له وقال:(3/1779)
خذهم لا بارك الله لك فيهم، فماتوا حتى بقي منهم نافخ النار.
وقيل: المعنى: نخشى أن يصيبنا قحط فلا يفضلوا علينا، فيوالونهم لذلك.
والأول أحسن لقوله: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} أي: بالنصر.
(و) قال ابن عباس: فأتى الله بالفتح، فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَة قُريظَةَ، وسُبِيَت ذراريهم، وأُجْليَ بنو النضير.
ومعنى {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} يخبر بأسماء المنافقين الذين يوالون اليهود والنصارى.
{فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ (في أَنْفُسِهِمْ)}. (من) موالاة اليهود والنصارى {نَادِمِينَ}.(3/1780)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
وقيل: {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} إيجاب الجزية على اليهود والنصارى. وقيل معنى: {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} بالخصب.
ومعنى: (بالفتح): فتح مكة، فيصبحوا نادمين إذا رأوا النصر.
وقيل: الفتح: القضاء، ومن قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89].
قوله: {يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله} الآية.
من نصب (يقولَ) عطفه على (أن يأتي)، وهو بعيد جداً، لأنك (لو قلت): " عسى زيد أن يقوم ويأتي عمروا " لم يجز، كما لا يجوز: " عسى زيد أن يقوم عمرو ".
ولو قلت: " عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو " حَسُنَ، كما يَحسُن " " عسى أن(3/1781)
يقوم عمرو ".
فلو كان نص الآية: " فعسى أن يأتي الله بالفتح "، حَسُن العطف، وإنما تجوز الآية على أن تحمل على المعنى، لأن قولك: " عسى أن يأتي الله بالفتح " و " عسى الله أن يأتي بالفتح "، سواء فيجعل النصب على المعنى، ويكون مثل قول الشاعر:
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً ... ومعنى الآية أنها متعلقة بما قبلها، والمعنى: {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} إذا رأوا النصر، {يَقُولُ الذين آمَنُواْ} بعضهم لبعض، تعجّباً منهم ومن نفاقهم: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} مؤمنين والمعنى - على [قراءة] من أتى بالواو - مثل ذلك وهو أبين.(3/1782)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
ومن قرأ بالنصب فمعناه: وعسى أن يقول الذين آمنوا كذا وكذا.
وقال مجاهد: المعنى: {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [حينئذ]
{يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ} إنهم مؤمنون.
قال الكلبي: فجاء الله بالفتح، فأمر الله نبيه بقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وإجلاء [بني] النضير، فندم المنافقون حين أُجلِيَ أَهْلُ وَدِّهِمْ، وظهر (نفاقهم)، فعند ذلك قال المؤمنون - بعضهم لبعض - {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} الآية.(3/1783)
هذه الآية وَعيدٌ لمن يرتد فيما يُستقبل، لأن الله تعالى قد علم أنه سيرتد بعد وفاة نبيه قوم.
وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}: قال الحسن والضحاك وغيرهما: هم أبو بكر الصديق وأصحابه، رَدُّوا من ارتد بعد النبي وقال: لا نؤدي الزكاة إلى [أهل] الإيمان.
وقيل: هم أهل اليمن. وقيل هم آل أبي موسى الأشعري، " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أَوْمَأ إلى أبي موسى الأشعري عند نزول هذه الآية، وقال: هم قوم هذا، وهم أهل اليمن " وعن مجاهد أنه قال: " هم قَوْمُ سَبَإٍ ". وقال السدِّي: هم الأنصار.(3/1784)
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} (أي) جانبهم لين للمؤمنين / {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أي: جانبهم خشن على الكافرين. وقيل: (أعزة) بمعنى أشداء عليهم ذوي غلظة.
وقال علي بن أبي طالب: أذلة: ذوي رأفة " وأعزة: ذوي عنف.
وقال ابن جريج: أذلة: رحماء، أعزة: أعداء.
{يُجَاهِدُونَ} أي: يجاهدون من ارتد ولم يؤمن، {وَلاَ يَخَافُونَ} في جهادهم ذلك {لَوْمَةَ لائم}. وهذا مما يدل على صحة خلافة أبي بكر، لأنه جاهد بعد النبي من ارتد لم يرجع لقول قائل، وقد كان كسر عليه جماعة عن قتال أهل الردة فأبى إلا قتلهم، فقاتلهم حتى رجعوا إلى الإسلام وأداء الزكاة، فرأى كل من كسر عليه أولاً(3/1785)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
أن الذي فعل هو الصواب، رضي الله عنهم أجمعين.
قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} الآية.
هذه الآية راجعة إلى ما تقدم من تحذير الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، فأعلمهم في هذه [الآية] أن الذي هو وليهم الله ورسوله والذين آمنوا.
وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من ولاية يهود.
وقال: الكلبي: " بلغنا أن عبد الله بن سلام ورهطاً من مسلمي أهل الكتاب أتوا النبي عند صلاة الظهر، فقالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية، ولا نجد متحدثاً دون المسجد، وإنَّ قومنا لَمَّا رأونا صَدَّقْنا الله ورسوله وتركنا دينهم، أظهروا لنا العداوة، وأقسموا ألا يخالطونا ولا يجالسونا، فشق ذلك علينا. فبينما هم يشكون ذلك إلى النبي حتى نزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} الآية، فلما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم(3/1786)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
قالوا: رضينا بالله ورسوله والمؤمنين أولياء، وأذن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله والناس يصلون بين قائم وراكع وساجد، وإذا هو بمسكين يسأل، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: خاتم من فضة، قال: مَن أعطاكَ؟ قال: ذلك الرجل القائم، فإذا هو عليّ، قال: على أي: حال أعطاك؟ قال: أعطانيه وهو راكعٌ. فزعموا أن رسول الله كبَّر عند ذلك ".
قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ}،
قيل: هو علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. قال السدي مرَّ به سائل - وهو راكع - فأعطاه خاتمه. وقيل: عنى به جميع المؤمنين.
قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ} الآية.
المعنى: أن الله أعلم أن من [تبرأ] من يهود - الذين هم حزب الشيطان -(3/1787)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
ووالى الله ورسوله والذين آمنوا، هم حزب الله، {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون}، والحزب: الأنصار.
قوله: {اأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} الآية.
ومعنى الآية: أن الله حذر المؤمنين ألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ووصفهم تعالى بأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعباً، وهم (قد) أوتوا الكتاب من قبلنا، يعني التوراة والإنجيل.
و [حذرهم] ألا يتخذوا الكفار أولياء، وهم مشركو قريش.
فمن نصب (الكفار) فالمعنى فيه: أنه تعالى نهانا عن اتخاذهم أولياء ولم يخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كأهل الكتاب. ومن خفض فمعناه أنه تعالى(3/1788)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
نهانا عن اتخاذهم أولياء، وأخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كما فعل أهل الكتاب.
ومعنى اتخاذهم ديننا هزواً ولعباً: / هو إيمانهم: ثم كفرهم وإظهارهم خلاف ما يبطنون أخبر الله عنهم أنهم {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
{واتقوا الله} أي: اتقوه (في اتخاذهم) أولياء، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين بالله.
قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية.
المعنى: أنه إخبار عما يفعل اليهود والنصارى، أنهم كانوا إذا نودي بالصلاة سَخِرُوا ولعِبوا من ذلك، لأنهم قوم لا يعقلون، ما في إجابتهم إليهم لو فعلوا، وما عليهم إذا سخروا من العقاب على ذلك.
قال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع في النداء " أشهد أن(3/1789)
محمداً رسول الله " (قال): " حُرِّقَ الكَاذِبُ " فدخلت خادم - ذات (ليلة من الليالي) - بنار - وهو نائم - فسقطت [شرارة] من النار فأحرقت البيت واحترق هو وأهله.
وقال ابن عباس: ضحك قوم من اليهود والمشركون من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله (هذه). الآية.
قال الكلبي: كان إذا نادى منادي رسول الله للصلاة، قالت اليهود والمشركون:(3/1790)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قد قاموا، لا قاموا، وإذا ركعوا سخروا (و) استهزأوا بهم وضحكوا.
قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} الآية.
المعنى: قل يا محمد لليهود والنصارى: هل [تكرهون] منا وتجدون علينا شيئاً من الأشياء إلا إيماننا بالله وإقرارنا به، وبما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبل أي: التوراة والإنجيل وجميع الكتب؟ {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي: وهل تنقمون منا إلا أن أكثركم فاسقون؟، كأنه: هل تنقمون إلا إيماننا وفسقكم؟.
ومنع بعض العلماء حمل {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ} على {تَنقِمُونَ}، وقال: كيف يجوز " هل تنقمون (منا) إلاَّ فسقكم "، والفسق منهم، فغير جائز أن ينقموا على غيرهم فسقهم، قال: وإنما هو مردود على (بالله) أي: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وبأن أكثركم(3/1791)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
فاسقون.
وذكر ابن عباس أن ناساً من يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم [ فسألوه] عمن يؤمن به من الرسل، فقال: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى [وعيسى]}، وما أوتي النبييون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: " لا نؤمن (بمن آمن) به "، فأنزل الله {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} الآية.
قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً} الآية.(3/1792)
{مَن لَّعَنَهُ (الله)} [من]: في موضع رفع، كما قال: {شَرٌّ}: النار. والتقدير فيه هو: لَعْنُ مَن لَعَنَهُ الله ويجوز أن تكون {مَن} في موضع نصب {أُنَبِّئُكُمْ}، ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من {شَرٌّ}.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا [دينكم] هزواً ولعباً م الذين أوتوا الكتاب والكفار -: هل أنبئكم بشر من ثواب ما تنقمون هو لعن {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير}، وهم أصحاب السبت من اليهود.(3/1793)
وقرأ حمزة {وَعَبَدَ الطاغوت} بضم الباء وخفض الطاغوت، بإضافة " عبد " إليه، ومعناه: وخَدَمُ الطَّاغُوتِ.
{أولئك شَرٌّ مَّكَاناً} أي: شر من هؤلاء الذين نَقَمتُم عليهم لإيمانهم بالله وبما أنزل من قبل، {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} أي: أجْوَرُ / عن قصد الحق، وهذا كلام فيه تعريض لليهود الذين نقموا إيمان المؤمنين، فهم [المُعْنيون] بذلك.
وقيل: المعنى: أولئك الذين نقموا عليكم - أيها المؤمنين - شرُّ مَكاناً عند الله من الذين لعنهم الله، وجعل منهم القردة والخنازير.
وقيل: المعنى أولئك الذين آمنوا شرّ؟ أم مَن لعنه الله؟، (ويعني به المقول) لهم ذلك من اليهود.(3/1794)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
قوله: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا} الآية.
المعنى: وإذا جاءكم - أيها المؤمنون - هؤلاء المنافقون من اليهود، قالوا: " آمنا "، وقد دخلوا عليكم بالكفر إذا جاؤكم، وخرجوا به أيضاً كما دخلوا، لم يحولوا عما يعتقدون، وإنما كذبوا بألسنتهم وقالوا ما لا يعتقدون، {والله أَعْلَمُ بِمَا [كَانُواْ] يَكْتُمُونَ} من كفرهم، قال السدي: هؤلاء ناس من المنافقين - كانوا يهود - دخلوا كفاراً (وخرجوا كفاراً)، إذ لم ينتفعوا بما سمعوا.
قوله: {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ} الآية.
المعنى: ترى يا محمد كثيراً من هؤلاء اليهود يسارعون في الأثم، [أي] في الكفر، والعدوان، وهو مجاوزة حدود الله، فمعنى ذلك أنهم يسارعون في معاصي الله وترك حدوده، ويسارعون في أكلهم السحت، وهو الرشا في الأحكام.(3/1795)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [في الكلام معنى القسم، والمعنى: أقسم بالله لبئس ما كانوا يعملون] في مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
قوله: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} الآية.
المعنى: هلاَّ ينهاهم عن ذلك الربانيون، وهم أئمتهم وعلماؤهم.
وقيل: وُلاتهم. (والأحبار) (و) هم الفقهاء والعلماء.
{عَن قَوْلِهِمُ الإثم} وهو الكفر. وقيل: {وَأَكْلِهِمُ السحت} وهو الرشوة في الأحكام.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي: لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لا ينهون عامتهم عن ذلك.(3/1796)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
وهذه الآية أشد آية وُبِّخ فيها العلماء، قال ابن عباس: ما في القرآن آيةٌ أَشَدُّ توبيخاً من هذه، والمعنى: أقسم [لبئس ما] كانوا يصنعون.
وقرأ أبو الجراح (الرِّبِّيُّون) وهم [الجماعات]، مأخوذ من الرِّبَّة، والرِّبَّةُ: الجماعة، ونُسب إليها فقيل: رِبِّيٌّ، ثم جُمع فقيل: رِبِّيُّونَ.
قوله: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} الآية.
هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أخبرهم بمكنون سرهم وخفي اعتقادهم. ومعنى قولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}: " خير الله مُمسَك " وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم واليد - هنا - بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ(3/1797)
يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أي: لا تقتر في النفقة حتى تضر بنفسك وبمن معك، {(وَ) لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] أي: لا تسرف في الإنفاق والتبذير، فتبقى لا شيء لك. وإنما خصت اليد بأن جعلت في موضع الإمساك والإنفاق، لأن عطاء الناس وبذلهم مَعْروفهم، الغالب عليه باليد، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضاً بالكرم أو بالبخل بأن أضافوه إلى اليد التي بها يكون العطاء والإمساك، فخوطبوا بما يتعارفونه في كلامهم، فحكى الله عن اليهود أنهم قالوا {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي: أنه يبخل علينا بالعطاء كالذي يده مغلولة عن العطاء، تعالى الله عما قال أعداء الله علواً كبيراً.(3/1798)
وقال بعض المفسرين (في) معنى الآية: نعمة الله مقبوضة عنا.
لأنهم كانوا إذا نزل بهم خير، / قالوا: يد الله مبسوطة علينا، وإذا نزل بهم ضيق وجدْبٌ، قالوا: يد الله مقبوضة عنا، أي: نعمته وأفضاله.
وقد قيل: في قوله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}: أنهما مطر السماء ونبات الأرض، لأن النعم (بهما ومنهما) تكون.
قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي: من الخير، {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} أي: أبعدوا من رحمة الله عز وجل لقولهم ذلك. وقيل: غلت في الآخرة، وهو دعاء عليهم.
ثم قال تعالى - راداً لما حكى من قولهم -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: بالبذل(3/1799)
والإعطاء، {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: يعطي: فيحرم هذا ويُقَتِّرُ عليه، ويُوسِّع على هذا.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك: قولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} معناه: أنه بخيل ليس بالجواد. وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره.
قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} قيل: معناه: نعمتاه الظاهرة والباطنة على خلقه مبسوطتان. وقيل: معناه: نعمتاه، يعني نعمته في الدينا ونعمته في الآخرة. والعرب تقول: " لفلان عند فلان يد "، أي: نعمة. وقيل: عنى بذلك القوة، كقوله: {أُوْلِي الأيدي والأبصار} [ص: 45] أي: أصحاب القوة والبصائر في الدين.
وقد قيل في معنى قولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي: عن عذابنا، [أي يده مقبوضة عن(3/1800)
عذابنا، و] معنى {مَبْسُوطَتَانِ} أي: [مطلقتان].
واليد - عند أهل النظر والسنة في هذا الموضع وما كان مثله - صفة من صفات الله، ليس بجارحة، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله، إذ ليس كمثله شيء، و (أن ما) وقع من ذكر هذا وشبهه، وذكر المجيء والإتيان، صفات لله، لا أنها فيها انتقال وحركة وجارحة، فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء، فلو أنك أثبت له حركة أو انتقالاً أو جارحة لكنت قد جعلته كبعض الأشياء الموجودة، وقد قال:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فاحذر أن يتصور في عقلك أن البارئ جل ذكره يشبه شيئاً من الأشياء التي عقلت وفهمت، ومتى فعلت شيئاً من هذا فقد ألحدت، وأهل السنة يقولون: ان يديه غير نعمته.(3/1801)
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي: ليزيدنهم ما أطلعناك عليه من خفي اعتقادهم، وسوء مذهبهم، {طُغْيَاناً} عن الإيمان بك، {وَكُفْراً} بما جئت به.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة} أي: بين اليهود والنصارى. وهو مردود إلى قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ} [المائدة: 51].
{كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} أي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء شتته الله وأفسده عليهم. قال قتادة: (لن تلقى) يهودياً ببلد إلا وجدته (من) أذل أهل ذلك البلد، ولقد جاء الإسلام - حين (جاء - وهم) تحت أيدي المجوس أبغض خلق الله إليه.(3/1802)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وهو كلام تمثيل، وتحقيقه: كلما تجمعوا لتفريق المؤمنين وحربهم، شتتهم الله و [محقهم].
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} أي: يسعون في إبطال الإسلام، والكفر برسوله وآياته، {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} أي: " من كان عاملاً بمعاصيه ".
قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتابءَامَنُواْ واتقوا} الآية.
المعنى: لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله و [رسوله]، واتقوا مخالفتهما، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ [سَيِّئَاتِهِمْ]} أي: لغطينا ذنوبهم وسترنا / عليها. {ولأدخلناهم جنات النعيم} أي: بساتين يتنعمون [فيها] في الآخرة.(3/1803)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة [والإنجيل]} الآية.
أي: لو أن اليهود أقامت التوراة، أي: عملت بما فيها وأقرت بما فيها من صفة النبي ونبوته، ولو أن النصارى أقامت الإنجيل، أي: عملت بما فيه وأقرت بصفة النبي ونبوته التي هي فيه، {وَ [مَآ] أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} يعني القرآن، أي: وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، والمعنى في ذلك: التصديق بجميع الكتب.
(و) قوله: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} أي: من قطر السماء، {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}: من نبات الأرض. وقيل: معناه التوسعة عليهم في الأرزاق كما يقول القائل: " هو في خير من قرنِهِ إلى قدمه ".
{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}: أي مؤمنة بمحمد. وقيل: مقتصدة في القول في عيسى أنه(3/1804)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ}. قال مجاهد: هم مسلمو أهل الكتاب. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي: عملهم مذموم.
قوله: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} الآية.
والمعنى: أن الله تعالى: أكد على النبي في تبليغ ما أنزل إليه من ربه، لأنه كان يرفق بالناس في أول الإسلام وابتدائه، فأمر بالاجتهاد في التبليغ.
وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: إن تركت آية وكتمتها، لم تبلغ رسالته، قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: إن (لم) تبلغ ذلك معلناً، غير مُتَوَقٍّ أمراً، فما(3/1805)
بلغت، وهو مثل قوله {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].
وقوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} أي: أمره تعالى بالتبليغ، وأخبره بالعصمة من الناس.
قال ابن جبير: " لما نزلت {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، فإنّ ربي قد عصمني. وكان ناس من أصحابه يتعقبونه في الليل، فلما نزلت {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، قال: يا أيها " الناس " إِلْحَقُوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس " وروي " أن النبي كان إذا نزل منزلاً، اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابي فخرط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال النبي: الله،(3/1806)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة حتى (انْتَثَرَ) دماغه، فأنزل الله {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} " وقيل: " كان " النبي " صلى الله عليه يخاف قريشاًَ، فلما نزلت هذه الآية، استلقى ثم قال: من شاء فَلْيَخْذُلني، مرَّتين أو ثلاثاً ".
قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ} الآية.
المعنى: لستم على دين حتى تصدقوا بما في التوراة من الفروض وصفة محمّد، و [بما] في الإنجيل، وتصدقوا [بما] أنزل إليكم من ربكم، وهو القرآن الكريم.
(و) قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي: ليزيدنهم ما أطْلَعْتُكَ عليه من أمرهم، {طُغْيَاناً} أي: تجاوزاً في التكذيب، {وَكُفْراً} أي: [وجحوداً(3/1807)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
لنبوتك] {فَلاَ تَأْسَ} أي: لا تحزن عليهم، فإنهم كافرون.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية.
مذهب الخليل وسيبويه في [الصَّابون] أنه رفع على أنه عطف على موضع (إن) وما عملت فيه.
وقال الكسائي والأخفش: هو عطف على المضمر في {هَادُواْ}. وقو قول مطعون فيه، لأنه يلزم أن يكون {الصابئون} دخلوا في اليهودية.
وقال الفراء: / إنما جاز الرفع، لأن {الذين} لا يظهر فيه عمل (إن).
وأجاز الكسائي: إن [زيدا وعمرو]. قائمان " قال: لضعف " إن " واستدل بقول الشاعر:
فإني وقيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ. ...(3/1808)
وقال الفراء: لا حجة للكسائي في هذا البيت، لأن قيارا قد عطف على اسم مكنّىً عنه، والمكنّى لا يتبيَّن فيه الإعراب ك {الذين}، فهل فيه أن يعطف على الموضع.
وقرأ [سعيد] بن جبير " والصَّابِينَ " بالنصب، على ظاهر العربية.
ومعنى الآية: أن الذين آمنوا بألسنتهم، يعني المنافقين، واليهود والصّابين والنصارى، من آمن منهم، أي: من حقّق الإيمان بمحمد - وما أتى به - بقلبه، وباليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم. وقيل المعنى: أن الذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم، من ثبت منهم على الإيمان {وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي: لا يخافون يوم(3/1809)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
القيامة ولا يحزنون.
قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً} الآية.
اللام في {لَقَدْ} لام قسم، " والمعنى: أقسم " لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على إخلاص التوحيد، والعمل بما أمرهم به، والانتهاء عما نهاهم عنه، وأرسلنا إليهم (بذلك رسلاً)، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسُهُم، فريقاً كذّبوا وفريقاً قتلوا، نقضاً للميثاق الذي أخذ عليهم. فالتكذيب اشتركت فيه اليهود والنصارى، والقتل هو من فعل اليهود خاصة، كانت تقتل النبيين (والمرسلين) إذا أمروا بالمعروف ونهو عن المنكر.
قوله: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية.
المعنى: وظن هؤلاء الذين أُخِذَ ميثاقهم أنه لا يكون لهم من الله ابتلاء " واختبار بالشدائد من العقوبات، {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} أي: عن الحق والوفاء بالميثاق الذي(3/1810)
أخذ عليهم. و (كثير) بدل من المضمر. وقيل: هو تأكيد كما تقول: " رأيت قومك ثلثهم " وقيل: رفعه على إضمار مبتدا، [و] المعنى: العمى كثير منهم وقيل: التقدير: العمى والصم منهم كثير. وقيل هو على لغة من قال: " أكلوني البراغيث "، فيرتفع (كثيرٌ) بـ[عَموا وصَمُّوا]. ويجوز - في غير القرآن - النصب على أنه نعت لمصدر محذوف.
(و) قال مجاهد: (هم) اليهود خاصة وقيل: المعنى: وحسبوا ألا يكون اختبار. لقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، فعموا عن الحق وصموا.(3/1811)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
{ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} أي: لم يعلموا بما سمعوا، ولا انتفعوا بما رأوا من الآيات فكانوا بمنزلة العُمْيِ الصُّم.
وقيل: معنى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ}: ثم بعث الله محمداً يخبرهم أن الله يتوب عليهم إن تركوا الكفر وآمنوا، {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} أي: لم ينتفعوا بما قيل لهم.
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} الآية.
أخبر الله عن النصارى أنه لما اختبرهم بوفاء الميثاق، كفروا وقالوا: المسيح الله، وقد عملوا أنه (ابن) مريم، والله لا يكون مولوداً، تعالى (الله) عن ذلك. وأخبر عن المسيح أنه قال لهم {اعبدوا الله} إلى آخر الآية، وهذا قول اليعقوبية من اليهود.
والمسيح: الصديق.(3/1812)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
وقال ابن عباس: سمي مسيحاً، لأنه كان أَمْسَحَ الرجل، لا أخمصَ له.
وقيل: سُمِّيَ مسيحاً، لأنه كان لا يمسح بيديه ذا عاهة إلا برأ، ولا يضع يديه على شيء إلا أعطي فيه مراده. وقال / ثعلب: سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض، أي: يقطعها بالسياحة.
و [قيل]: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.
وأما المسيح الدجال، فإنما سمي به لأنه أمسح العين، فهو بمعنى ممسوح، ك " قتيل " بمعنى " مقتول ".
قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} الآية.
أخبر الله في هذه الآية قولَ بعضهم وكفرهم، وهو قول جمهور النصارى.(3/1813)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
وقوله: (منهم) تعود (على أهل الكفر) من الذين قالوا: {[إِنَّ] الله هُوَ المسيح [ابن مَرْيَمَ]} ومن الذين قالوا: {[إِنَّ] الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} الآية.
(و) المعنى: [أفلا] يرجعون عن قولهم ويستغفرون منه، {والله غَفُورٌ} أي: ساتر: لذنوب الناس، {رَّحِيمٌ} بهم.
قوله: {مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ} الآية.
هذا احتجاج على فرق النصارى في قولهم في عيسى. فالمعنى: ليس عيسى(3/1814)
أول رسول مبعوث إلى الناس فيعجبوا من ذلك، بل قد خلت من قبله الرسل إلى الخلق، فهو واحد منهم، (فهو) مثل قوله في محمد {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} [الأحقاف: 9]، و (مثل) قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} [آل عمران: 144].
(والصدّيقة: الفعلية من الصدقٍ].
ومعنى الآية: ما المسيح في إنبائه بالمعجزات - من إبراء الأكمه وإحياء الموتى - {إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} أي: مثل الرسل التي قد خلت من قبله، أتى بالمعجزات كما أتى موسى وابراهيم، فهو أظهر الآيات، (فهو) كغيره ممن تقدم من الرسل الذين أظهروا الآيات.
- ومعنى {خَلَتْ}: تقدمت -، فليس هو بأول رسول فيعجب منه.(3/1815)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قوله {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} كناية عن إتيان الحاجة، فنبه بأكل الطعام على عاقبته، وغلَّبَ المذكر على المؤنث. وقيل: المعنى: كانا يتغديان كما يتغدَّى البشر، ومن كان هكذا فليس بإله، لأن الإله لا يحتاج إلى شيء.
قوله: {انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات} أي: انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى {الآيات}، وهي العلامات على بطلان ما يقولون في أنبياء الله، ثم انظر: يا محمد - مع تنبيهنا إياهم على ذلك - كيف يؤفكون، أي: من أين يصرفون عن الحق. يقال لكل مصروف عن شيء: (هو مأفوك عنه)، و (وقد أفكت فلاناً عن كذا) أي: صرفته عنه، آفِكُه أَفْكاً، و (قد أُفِكَتِ الأَرْضُ): إذا صرف عنها المطر.
قوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء القائلين في المسيح ما ذكرت عنهم: أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، والذي خلقكم ورزقكم، فيخبرهم تعالى أن المسيح -(3/1816)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
الذي زعموا أنه إلهٌ - لا يملك لهم دَفْعَ ضُرٍّ إِنْ أَحَلَّهُ الله [بهم]، ولا صَرْفَ نَفْعٍ إن أعطاهم الله إيّاه.
{والله هُوَ السميع العليم} أي: أنتم أقررتم أن عيسى كان في حال لا يسمع ولا يعلم، والله لم يزل سميعاً عليماً، " وهذا من ألطف ما يكون من الكناية ". وقيل: المعنى: {هُوَ السميع} لاستغفارهم لو استغفروه من قولهم في المسيح، {العليم} بتوبتهم - لو تابوا منه - وبغير ذلك من أمورهم.
قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} الآية.
المعنى: قل يا محمد: يا أهل الإنجيل لا تغلوا في دينكم أي: لا تفرطوا في القول في أمر المسيح فتجاوزوا الحق في جعلكم إياه [إلهاً]، ولكن قولوا: {رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ [مِّنْهُ]}.(3/1817)
{وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} أي: أهواء اليهود الذين قد ضلوا من قبلكم عن سبيل الله الهدى {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} أي: أضل هؤلاء اليهود كثيراً من الناس عن الحق، فحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح، {وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} أي: عن قصد السبيل.
وسمي (الهوى / هوى، لأنه يهوي) بصاحبه في الباطل والهوى - في القرآن - مذموم. والعرب لا تستعمله إلا في الشر، وأما في الخير فيستعملون الشهوة والمحبة.(3/1818)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
وقال ابن أبي نجيح: {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} اليهود أضلوا المنافقين.
قوله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} الآية.
(ذلك) في موضع رفع، على معنى: ذلك اللعن بما عَصَوا، أو على معنى: الأمرُ ذلك بما عصوا، ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: فعلنا ذلك بما عصوا.
والمعنى: أن الذين لعنوا على لسان داود (هم) أهل السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى (ابن مريم) هم أصحاب المائدة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة، والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أول ما وقع النقص في بني إسرائيل: أن أحدهم كان يرى أخاه على(3/1819)
المعصيةِ فينهاهُ، ثم لا يمنعه ذلك من الغد أن يكون أكيله وشريبه ".
قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد في القرآن.
وقال مجاهد: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير. والمراد بذلك - والله أعلم - أنه (تعالى) حذرهم أن يقولوا في عيسى ما قالوا فلعنوا كما لعن هؤلاء.
ورُوي أن داود عليه السلام دعا عليهم على عهده: وذلك أنه مرَّ على نفر وهم(3/1820)
في بيت، فقال: من في البيت؟ [فقالوا]: خنازير، فقال: (اللهم اجعلهم خنازير)، فأصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال: " اللهم الْعَنْ مَنْ افْتَرَى عَلَيَّ وَعَلَى أُمِّي، فَاجْعَلْهُمْ " قردة خاسئين. ذلك بعصيانهم واعتدائهم.
ثم أخبر تعالى أنهم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}. أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، والمنكر: المعاصي.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} في الكلام معنى القسم. والمعنى: أقسم لبئس الفعل فعلهم في تركهم النهي عن المعاصي.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن أولَ ما كان من نقض بني إسرائيل ومعصيتهم: أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، شبه تعْذير، فكان أحدهم إذَا لقي(3/1821)
صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله وشاربه وخالطه، كأنه لم يعب عليه شيئاً، فلعنهم الله على لسان داود وعيسى بن مريم ".
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " لا يزال العذاب مكفوفاً عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها، فلم تنكر، استحلوا عقاب الله ".
وقال عليه السلام: " إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تُغَيَّر ضرتِ العامة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ( لا تعذب) الخاصة بعمل العامة حتى تكون الخاصة تستطيع أن تغير على العامة، فإذا استطاعت ذلك - فلم تفعل - عذبت (الخاصة والعامة) ".(3/1822)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
قوله تعالى: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} الآية.
المعنى: ترى يا محمد كثيراً من اليهود يوالون المشركين من عبدة الأوثان ويعادون أولياء الله قال مجاهد: يعني المنافقين.
{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} ف (أَنْ) في موضع رفع، فالذي قدمت لهم أنفسهم هو سَخَطُ الله بما فعلوا. {وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ} / أي: مقيمون في الآخرة.
المعنى (لعنوا) - عند أكثر المفسرين -: أبعدوا من رحمة الله فمسخوا بذنوبهم.
(و) روى ابن حبيب في حديث يرفعه إلى النبي عليه السلام أنه قال: الممسوخ خمسة عشر صنفاً: الفيل، والدب، والضب، والأرنب، والعنكبوت، والخنفساء،(3/1823)
والوطواط، والعقرب، والقنفذ، والدعموص، و [الجريث]، والقردة، (و) الخنازير، وسُهَيْلٌ، والزهرة.
قيل: يا رسول الله، فما كان سبب هؤلاء إذ مُسخوا؟، فقال: أما الفيل فكان رجلاً لوطياً، وكان ينكح البهائم، لا يدع رطباً ولا يابساً، فمسخه الله فيلاً. وأما الدب فكان (رَجُلاً) مؤنثاً يؤتى، فمسخه الله دباً. وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج فمسخه الله ضباً. وأما الأرنب: فكانت امرأة [قذرة] لا تغتسل من حيض ولا غير ذلك، فمسخها الله أرنباً. وأما الخنفساء: فكانت امرأة سحرت ضرتها فمسخها الله(3/1824)
خنفساء. وأما العنكبوت فكانت امرأة عاصية لزوجها معرضة عنه، مبغضة له، فمسخها الله عنكبوتاً. وأما الوطواط: فكان رجلاً يسرق الرطب من رؤوس النخيل ليلاً، فمسخه الله وطواطاً، وأما القنفذ، فكان رجلاً سيء الخلق، فمسخه الله قنفذاً. وأما العقرب: فكان رجلاً همّازاً لا يسلم من لسانه أحد، فمسخه الله عقرباً. وأما [الدعموص] فكان رجلاً نمَّاماً يفرق بين الأحبة، فمسخه الله دعموصاً. وأما [الجريث]: فكان رجلاً ديوثاً يدعو الرجال إلى حليلته فمسخه الله [جريثاً]. وأما القردة: فالذين تعدوا في السبت من بني إسرائيل. وأما(3/1825)
الخنازير: فالذين سألوا عيسى نزول المائدة ثم كانوا بعد نزولها أشد ما يكونوا تكذيباً. وأما سهيل: فرجل عَشَّار كان باليمن متعدّياً فمسخه الله شهاباً. - وروي أن (رسول الله صلى الله عليه وسلم) يلعنه إذا رآه -.
وأما الزهرة: فامرأة افتتن بها هاروت وماروت، فمسخها الله شهاباً.
وسورة المائدة: من آخر ما نزل من القرآن. وروي أن فيها إحدى وعشرين فريضة ليست في شيء من القرآن وهي: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، وما علمتم من الجوارح مكلبين، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم، وطعامكم حلٌّ لهم،(3/1826)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
{والمحصنات مِنَ المؤمنات} والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وتمام الطهور، والسارق والسارقة، وآية المحاربين، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، وكفارة الإيمان، وتحريم الخمر، وتحريم الصيد في الحرم، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت جملة، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب وتخلصه. وقد اختلف هل فيها منسوخ (أولا)، وقد ذكرنا ذلك في [موضعه] ".
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله} الآية.
المعنى: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا(3/1827)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
/ {يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن طاعة الله. وقال مجاهد: المنافقون. ولم يبين.
قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً} الآية.
قوله: {قِسِّيسِينَ} هو جمع (قسِّيس) مسلماً، (و) تكسيره على (قساوسة)، أُبدل من إحدى السينات واواً. ويقال: (قَسٌّ) في معناه، وجمعه (قُسُوس)، ويقال للنميمة (قَسَّ).(3/1828)
ورهبان جمعه رهابنة ورهابين.
والمعنى: لتجدن - يا مُحَمَّد - أشد الناس عداوة للذين اتبعوك، فآمنوا بك {اليهود والذين أَشْرَكُواْ}، وهم عبدة الأوثان، ولتجدن أقربهم مودة لمن آمن بك، النصارى.
{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن الحق.
وهذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر من نصارى الحبشة لما سمعوا القرآن أسلموا. " وقيل: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وَأَصْحَابٍ له أسلموا ".
قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي وفداً إلى النبي، فقرأ عليهم القرآن(3/1829)
فأسلموا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم.
قال ابن عباس: بعث النبي - وهو بمكة، حين خاف على أصحابه من المشركين - نفراً إلى النجاشي، منهم: ابن مسعود وجعفر بن أبي طالب، فبلغ ذلك المشركين، فبعثوا عمرو بن العاصي في رهط إلى النجاشي يحذرونه من محمد، فسبق أصحاب المشركين، فقالوا للنجاشي: خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها وقد بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك بخبرهم، قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون (لي)، فقدم أصحاب النبي، فأتوا باب النجاشي، وقالوا: استأذِنوا لأَولياء الله، فقال: ائذن لهم، فمرحباً بأولياء الله. فلما دخلوا عليه، سلموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى - أيها الملك - لم يحيوك بتحيتك!(3/1830)
فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي. فقالوا له: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ بتحيةِ أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال (لهم): ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ [قالوا]: هو عبد الله وكلمة من الله وروح منه، ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء البتول. قال: فأخذ عوداً من الأرض (وقال): " ما زاد عيسى وأمَّه على ما قال صاحبكم قدرَ هذا العود "، فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. قال لهم النجاشي: هل تعرضون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: اقرأوا، فقرأوا، وهناك قسيسون ورهبان ونصارى، فعرفت كل قرأوا، وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله الآية.
وقال الكلبي: كانوا أربعين رجلاً: اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، فأسلموا حين هاجر إليهم المؤمنون وسمعوا القرآن فعرفوا الحق وانقادوا(3/1831)
إليه، وكانت اليهود أشد عداوة لمن آمنوا برسول الله يومئذٍ بالمدينة، وكذلك كانت قريش لمن آمن بمكة.
وقيل: إن الذي قرأ على النجاشي هو جعفر بن أبي طالب، قرأ عليه أول سورة مريم.
وقال السدي: بعث النجاشي اثني عشر من الحبشة: سبعة " قسيسون وخمسة " رهبان، ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه، فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل الله، فبكوا وآمنوا، / وأنزل الله فيهم: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين]}، فرجعوا إلى النجاشي فآمن وهاجر بمن معه، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له.
وروى ابن شهاب عن أم سلمة - زوج النبي عليه السلام، وكانت قد هاجرت إلى(3/1832)
أرض الحبشة مع من هاجر من مكة من المسلمين حين آذاهم المشركون - فقالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار - النجاشي -، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله عز وجل، لا نُؤذَى ولا نَسمَع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَيْنِ، وأن يهدوا له هدايا مما يستظرف من متاع مكة، فجمعوا له هدايا ولم يتركوا بطريقاً من بطارقته إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاصي، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق (منهم) هديته قبل أن تُكَلِّما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سَلاَهُ أن يُسَلِّمَهُم إليكما قبل أن يكلمهم.(3/1833)
قالت أم سلمة: فخرجا حتى قدما على النجاشي - ونحن عنده بخير دار عند خير جار - فلم يبق من بطارقته بِطْريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق: " إنه قد صبأ إلى بلاد الملك مِنّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مُبْتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومنا لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأَشِيروا على أن يُسَلِّمَهم إلينا ولا يكلّمهم، فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هدية النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد صبأ إليك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، ابتدعوا ديناً لا نعرفه نحن ولا أَنْتَ، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم(3/1834)
لنردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالت البطارقة من حوله: صدقاً - أيها الملك -، فأَسْلِمْهُم إليهما. قالت: فغضب النجاشي (وقال): لاها الله اذن، وَلاَ أُسْلِمُهُم، (ولا يكاد قومٌ جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني من سواي) حتى أدعوهم [فأسألهم] فما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما [يقولان]، أسلَمتهم إليهما ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غَير ذلك، منعتهم(3/1835)
(منهم)، وأحسنت جوارهم ما [جاوروني].
قال أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو بن العاصي من أن يسمع النجاشي كلام المؤمنين، فدعا النجاشي المؤمنين، فلما جاءهم رسول النجاشي، اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون اذا جئتموه؟ قالوا: نقول - والله - ما علّمنا نبيُّنا وما أمرنا كائناً في ذلك ما كان. فلما جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقِفَته فنشروا مصاحبهم حوله - سألهم فقال: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا (به) في ديني، ولا (في) دين أحد من [هذه] الملل؟، (و) قالت أم سلمة: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهـ، فقال له: أيها الملك، كنَّا(3/1836)
قوماً، - أهلَ جاهلية - نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، نُسيء الجِوار، ويأكل القويُّ (الضعيفَ، فكنا على ذلك) حتى (بعث) الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصِدْقَه وأَمانَتَه وعافيته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونَخْلَعُ ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا / من الحجارة والأوثان، وأَمَرنا بِصِدْق الحديث وردِّ الأمانة وصِلَة الرحم وحُسنُ الجِوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقولِ الزور وأكل (مال) اليتيم، وقذف المحصنة، وأَمَرَنا أن نعبدَ الله ولا نشرك به شيئاً، وأَمَرنَا بالصلاة والزكاة وبالصيام. - قالت أم سلمة: فَعَدَّدَ عليه أمور الإسلام - فصدّقنا وآمنّا به، واتّبعناهُ على ما جاءنا به من عند الله، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأَحْلَلنا ما أحلَّ لنا، فَعَدا علينا قومنا فعذَّبونا وفَتنونا عن ديننا(3/1837)
ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كُنّا نستحلُّ من الخبائث فلما قَهَرونا (وظَلَمونا) وضَيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا (أن لا) نظلم عندك أيها الملك.
قالت أم سلمة: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله (من) شيء؟، قال له جعفر: نعم، قال: فَاقْرَأْهُ عليَّ. قالت: فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} [مريم: 1]، فبكى النجاشي (وبكى أساقفته حِينَ سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي): إن هذا والذي جاء به عيسى لَيَخرُج من مِشْكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسْلِمْهم(3/1838)
إليكما أبداً، ثم قال لجعفر (وأصحابه): اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي - والشُّيُومُ في لسانهم: الآمنون -، من سبَّكُم [غَرِم]، من سبّكم [غَرِم]، قالها ثلاثاً، ثم قال: رُدُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، (فوالله) ما أخذ [الله] (الرشوة مني) حين رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فآخُذُ الرشوة (فيه)، وما أطاع الله الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة: فخرجا من عنده مقبوحين.
ففي النجاشي وأصحابه نزل {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول [ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ(3/1839)
الحق]} الآيات.
قالت عائشة رضي الله عنها في قول النجاشي: " ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخُذَ الرشوَة فيه، وما أطاع الله الناس فيّ فأطيع الناس فيه "، قالت: إن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد غيره، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر ولداً، فقالت الحبشة بينهم: لو قتلنا أبا النجاشي، وملَّكْنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه [اثني] عَشَرَ ولداً، فيتوارثوا الملك من بعده وتبقى الحبشة بعده دهراً.
فغَدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا. ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيباً حازماً من الرجال، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّه (ونزل) منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكَانَه من عمِّه قالت(3/1840)
بينهم: والله لقد غَلَب هذا الفتى على أمر عمّه، وإنا لنتخوف أن يُمَلِّكه علينا، وَإِنْ مَلَّكَه (علينا) ليقتلنا أجمعين، لقد عَرَفَ أنَّا نحْن قتلنا أباه. فَمَشَوا إلى عمه فقالوا: إمّا أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تُخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفْنا على أنفسنا. فقال: ويلكم، قَتلتُم أباهُ بالأمس وأقتُلهُ اليومَ؟ بل أُخرجُه من بلادكم، فخرجوا به إلى السوق فباعوه [من رجل] من التجّار بست مائة درهم، فقذفه في سفينة وانطلق به حتى [إذا] [العشيّ] من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة، فقتلته ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هم حمق، ليس في واحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرُها، فلما ضاق عليهم أمرهم، قال بعضهم لبعض، تَعْلَموا - والله - أن مَلِككم -(3/1841)
الذي لا يقيم أمركم غيرُه - الذي بعتم، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه.
قالت: / فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه وجاءوا به، وعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملَّكوه أنفسهم، فجاءهم التاجر الذين كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ فقالوا: لا نعطيك شيئاً، قال: إذن والله أكلمه. قالوا: فدونك.
قالت: فجاءه التاجر، فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعتُ غلاماً من قوم بالسوق بست مائة درهم فأسلموا إليّ غلامي (وأخذوا دراهمي حتى إذا سِرْت، خرجت بغلامي، أدركوني فأخذوا غلامي مني ومنعوني دراهمي. فقال لهم النجاشي: لتُعْطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامه) يده في يده، فليذهبن به حيث(3/1842)
شاء. قالوا: [بل] نعطيه دراهمه.
قال: فلذلك قال: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مات النجاشي، كان يُتَحَدَّثُ أنه لا يزال نور يرى على قبره.
وقال ابن جبير: هم سبعون رجلاً وجَّهَ بهم النجاشي، وكانوا ذوي فقه وسنن، فقرأ عليهم النبي {يس} [يس: 1]، فبكوا، وقالوا: {رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} وفيهم نزل: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54] إلى آخر الآية.(3/1843)
وقال قتادة: هم ناس كانوا على الحق من شريعة عيسى، ثم آمنوا بالنبي عليه السلام.
والرهبان يكون واحداً وجمعاً، وإذا كان جمعاً فواحده: " راهب "، وإذا كان واحداً فهو كقربان، وجمعه: رهابين، مثل قرابين.
ثم نعتهم تعالى ذكره في الآية الأخرى فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق]} يعني الرهبان والقسيسين الذين أتوا من عند النجاشي، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم { يس} [يس: 1] ففاضت أعينهم لما سمعوا الحق وعرفوه.
ومعنى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين}: قال ابن عباس: مع محمد وأمته، لأنهم شهدوا أنه قد بلغ، وأن الرسل كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
ثم ذكر تعالى قولهم أنهم قالوا: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق} [الآية] وهو النبي والقرآن.
{وَنَطْمَعُ} أي: ونحن نطمع، {أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} أي: المؤمنين(3/1844)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
المطيعين.
قوله: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} الآية.
المعنى: فجزاهم الله بقولهم ذلك وإقرارهم وتصديقهم، {جَنَّاتٍ} أي: دخول جنات، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في الآخرة، {خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين}.
أخبر تعالى أن من كفر منهم ومن غيرهم، وكذب بالقرآن، أنهم أصحاب الجحيم. " {الجحيم}: ما اشتد حره من النار، وهو الجاحم " أيضاً.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} الآية.
(معنى الآية): أن الله أباح أكل الطيبات التي تشتهيها الأنفس، وألا يحرمها أحد على نفسه، ثم نهاهم عن الاعتداء، وهو تعدي الحدود التي (قد)(3/1845)
حرمت.
وهذه [الآية] " نزلت في أبي بكر وعمر (وعثمان) وعلي وابن مسعود وغيرهم، اجتمعوا في (دار) عثمان بن مظعون على أن يَجُبُّوا أنفسهم، وأن يعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحماً ولا دسماً وأن يلبسوا المسوح، ولا يأكلوا من الطعام إلا القوت، وأن يسيحوا في الأرض / كهيئة الرهبان، فبلغ ذلك النبي عليه السلام، فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده ولا [إياهم]، فقال لامرأة عثمان أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟، فقالت: ما هو يا رسول الله؟،(3/1846)
فأخبرها، فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله، إن كان عثمان أخبرك فقد صدقك، فقال لها: [قولي] لزوجك وأصحابه - إذا رجعوا -: إن رسول الله يقول لكم: إني آكل وأشرب، وآكل اللحم والدسم، وأنام وأصلي، وآتي النساء، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ثم انصرف. فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمرها (به) رسول الله، فجاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله [حَدَّثَتْني] نفسي فلم أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك، فقال (له النبي صلى الله عليه وسلم: ( و) ما تحدثك به نفسك يا عثمان؟، قال: تحدثني أن أختصي. قال: مهلاً يا عثمان، فإن خصاء أمتي الصيام. فقال: (يا) رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال. فقال: مهلاً يا عثمان، فإن ترهب أمتي الجلوس في المسجد لانتظار الصلوات. فقال: يا رسول(3/1847)
الله (فإن نفسي) تحدثني أن أسيح [في الأرض] قال: مهلاً يا عثمان، فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة. قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله. قال: مهلاً يا عثمان، فإن صدقتك يوماً بيوم، وتكف عيالك وترحم المسكين واليتيم فتعطهما أفضل لك. فقال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أطلق خولة [بنت خويلد] امرأتي، قال: مهلاً يا عثمان، فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله، وهاجر في حياتي، وزار قبري بعد مماتي، أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع. قال: فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشى النساء. قال: مهلاً يا عثمان، فإن الرجل، المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه، فإنه(3/1848)
لم يكن له من وقعته تلك ولد، كان له وصيف في الجنة، وإن كان (له) ولد من وقعته فمات قبله، كان له فرطاً وشفيعاً يوم القيامة، وإن مات بعده كان له نوراً يوم القيامة.
قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم. قال: مهلاً يا عثمان، فأنا أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت [ربي أن] يطعمنيه (في) كل يوم لأطعمنيه. قال: يا رسول الله: فإن نفسي تحدثني ألا أمس الطيب. قال: مهلاً يا عثمان، فإن جبريل أمرني بالطيب غباً، لا ترغب عن سنتي، [فمن] رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب، ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وغلّظ) فيهم المقالة وقال: إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم يستقم لكم "
، فنزلت:(3/1849)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} إلى {مُؤْمِنُونَ}.
والاعتداء " ها " هنا هو ما نووا من جب أنفسهم، نهو عن ذلك، قاله السدي. وقيل: هو ما نووا من التحريم على أنفسهم. وقال الحسن: معنى: {لاَ تعتدوا} إلى {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}. وأصل الاعتداء: التجاوز إلى ما لا يحل.
قال تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً} حلالاً لكم، ذلك (و) طيباً. {واتقوا الله} في أن تحرموا ما أحل (الله) لكم، أو تحلوا ما حرم الله عليكم، {الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي: مصدقون مقرون.
قوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} الآية.
معنى الآية: أن الذين ذكر أنهم أرادوا أن يحرموا الطيبات في الآية التي قبلها،(3/1850)
/ كانوا قد حلفوا ليفعلُن ذلك، فنهوا عن تحريم ما أرادوا تحريمه، وأُعلموا أن الله لا يؤاخذ باللغو في الأَيمان.
قال ابن عباس: لما نهاهم النبي عن ما أرادوا أن يفعلوا من التحريم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع في أيماننا التي حلفنا بها؟، فأنزل الله {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} (الآية). ({ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}): من شدّد {عَقَّدتُّمُ} فمعناه: بما وكدتم الأيمان، فالتشديد يدل على تأكيد اليمين. ومن خفف فِلأَن " عقدهُ " تلزم فيه الكفارة إذا [حنث] بإجماع.(3/1851)
واختير التخفيف - عند من قرأ به -، لأن السامع إذا سمع التشديد سبق إليه أن الكفارة لا تكون إلا مع التأكيد وتكرير اليمين وهذا لا يقول به أحد.
والتخفيف يدل على أنه إن عقده ولم يكرره لزمته الكفارة إذا حنث. وأنكر أبو عبيد على من قرأ بالتشديد، وقال: لأنه يوهم أن الحنث لا يجب إلا بتكرير اليمين، لأن " فعّل " - في كلام العرب - لتكرير [الفعل].
وهذا الاعتراض لا يلزم، وإنما يكون التشديد للتكرير مع الواحد، فأما مع الجميع فلا، لأنه قد تكرر واحد يمين عقده كقولك: " ذَبَّحتُ الكباش "، فكذلك ([عقّدتم الأيمان])، إنما وقع التكرير من أجل الجمع، ولو(3/1852)
كانت الآية " عقدتم اليمين "، للزم ما قال أبو عبيد، فالتشديد يكون للتكرير، (إلا أن) التكرير ينقسم قسمين:
- قسم يتكرر الفعل فيه على الواحد.
- وقسم يتكرر الفعل فيه على آحاد: مرة لكل واحد، وهو الذي في الآية.
وقال مجاهد: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}: بما تعمدتم الأيمان. وقال عطاء: " بِما عقَّدتم الأيْمَانَ " كقولك " والله الذي لا إله إلاّ هو ".
وروى نافع عن ابن عمر: إذا حلف من غير أن يُؤَكِّدَ اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين [مد] وإذا وكَّد اليمين أعتق رقبة.
فقيل لنافع: ما معنى " وكَّد اليمين "؟، قال: أن يحلف على الشيء مراراً.
ولغو اليمين: أن يحلف على الشيء يراه أنه كما حلف، ثم لا يكون كذلك، وهو(3/1853)
قول مالك وجماعة معه، وقيل هو قولك: " لا والله " و " بلى والله "، وهو قول الشافعي وجماعة معه.
وقيل: هو تحريمك ما أحل الله لك، فلتفعله ولا كفارة عليك، قاله ابن جبير وغيره. وقال مسروق: لغو اليمين: كل يمين في معصية ليس فيها كفارة.
وعن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين: أن تحلف وأنت غضبان. لا كفارة في جميع ذلك على الاختلاف المذكور.
والأيمان ثلاث: - يمين تُكَفَّر، كيمينك ألا تفعل الشيء ثم تفعله.
- والثانية: يمين لا تكفر لشدتها، وجرمها عظيم، وهو أن تتعمد فتحلف على الشيء وأنت تعلم أنك كاذب.(3/1854)
- ويمين لا تكفر، ولا جرم لها، وهي اللغو.
وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ}: الهاء تعود على ما في قوله {بِمَا عَقَّدتُّمُ}، فمعناه: " فكفارة ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين ".
وقيل: الهاء تعود على " اللغو "، وفيه ذكرت الكفارة، وأما ما عقدتم يمينه فلا كفارة له وهو أعظم من أن يكفر.
والأحسن أن تعود الهاء على (ما): لأن اللغو في اللغة: المطرح، (ولو) كان اللغو يكفر لم يكن مطرحاً. وقيل المعنى: فكفارة " إثمه ".
والإطعام: أن تطعم لكل مسكين مداً في قول مالك وغيره. وقيل: تطعم(3/1855)
لكل مِسْْكين صاعاً.
ومعنى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي: من أعدل ذلك، قيل: الخبز والسمن.
وقيل: الخبز والتمر. و [قيل]: الخبز و [الزيت] وقيل: المعنى: من أوسط ذلك في الشبع: / إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين، وإن كان ممن يقوتهم، قوت المساكين.
وروي عن عاصم من طريق الشموني عن أبي بكر (أوسط)(3/1856)
بالصاد.
قال مالك: إن غذاهم وعشاهم أجزأه، ولا يجزيه قيمة الطعام عند الشافعي، وهو قياس مذهب مالك، وأجازه بعض العراقيين، ولا يعطي إلا مسلماً.
ولا يجزيه إلا مؤمنة إن أعتق. ولو أعتق مولوداً أو مرَضعاً من قِصَر النفقة أجزأه عند مالك.
[{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} أي: إن لم يجد الإطعام ولا العتق والكسوة فعليه(3/1857)
صيام ثلاثة أيام، ولا يصوم إلا عند عدم الإطعام أو العتق. وفي قراءة ابن مسعود (فَصِيَامُ ثَلاثةِ (أَيَّامٍ) مُتَتَابعاتٍ).
والتفريق عند مالك يجوز في كفارة اليمين، وهو قول الشافعي وغيره. والصوم للعبد أحسن وإن أذن له سيده بالعتق والإطعام، ولم يُجِز له جماعة إلا الصوم، واختلف فيه قول مالك. والكفارة قبل الحنث جائزة، وبعده أحسن.
وقد قيل: لا تجزي قبله.(3/1858)
وروي عن النبي عليه السلام: " كَفِّر عَن يمينك و [أْتِ] الذي هو خير ".
وقد بدأ تعالى ذكره في هذه الآية بالتخفيف، ثم أتى بالأشد بعده، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى (بالأخف بعده)، وذلك أن الله جل ذِكره إنما بدأ بالأخف ثم أتى بالأشد على طريق التخيير، فأتى بـ (أوْ) للتخيير، ثم أتى بالأَخف بعد ذلك عند عدم ما وقع فيه التخيير، فقال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى بالأخف عند عدم الأشد، لا على طريق التخيير في ذلك.
قوله: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}: (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من الإطعام أو العتق أو الكسوة، أو الصيام عند عدم الثلاثة، ومعنى {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أي: ستر إثم(3/1859)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم وأنتم قد عقدتم الأيمان.
{واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} أي: احفظوها أن تحنثوا، ولا تكفروا.
{كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ}: أي: كما يبين لكم الكفارة في أيمانكم، يبين الله لكم آياته، أي: علاماته، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (أي تشكرون) على هدايته لكم وبيانه لكم.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية.
أخبر الله تعالى الذين أرادوا التحريم على أنفسهم - بعد أن نهاهم عن التحريم - أن الخمر والميسر - وهو الذي يتياسرونه -، والأنصاب - وهي التي يذبحون عندها -، والأزلام التي يقتسمون بها {رِجْسٌ} أي: إثم ونتن، {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} أي: مما زيَّنه الشيطان لكم وحسنه في أعينكم، [{فاجتنبوه}] أي: فاتركوه وارفضوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.(3/1860)
والميسر: القمار. وسئل القاسم بن محمد عن الشطرنج والنرد، (فقال): هو ميسر، وقال [كل ما] صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
قال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار هو ما يتخاطر الناس عليه.
قال الأصمعي: الميسر كان في الجزور خاصة، كانوا يقتسمونها على(3/1861)
ثمانية وعشرين سهماً. وقال الشيباني: على عشرة أسهم. ثم يلقون القداح ويتقامرون على مقاديرها.
" والأنصاب: حجارة كانوا يعبدونها في الجاهلية، " والأزلام: القداح ".
والرجس: كل عمل يقبح فعله، (وهو) النتن.
(و) قوله {فاجتنبوه}: الهاء تعود على " الرجس ". وقيل: تعود على " الخمر ". / وقيل: المعنى: فاجتنبوا هذا الفعل. وقيل: المعنى: فاجتنبوا ما ذكر.
وذكر ابن المنكدر أن النبي عليه السلام قال: " مَن شَربَ الخمرَ ثُمّ لم يسكر، أَعْرَضَ(3/1862)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
اللهُ عَنه أربعين ليلةً، وإن أسكر لم يَقبَل اللهُ منه صَرْفاً ولا عَدلاً أربعين ليلة، فإن مات فيها، مات كعابد الأوثان، وكان حقاً على الله أن يَسْقِيَه يوم القيامة من طينة الخَبال. قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عُصارة أهل النار: القيح والدم ".
قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة} الآية.
(المعنى): إنما يريد الشيطان بكم شرب الخمر ليوقع بينكم العداوة والبغضاء {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله} أي: يصدكم بغلبة الخمر والميسر عليكم عن ذكر الله وعن الصلاة، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي: عن شرب الخمر.
ويقال: إن عمر ذكر لرسول الله مكروه عاقبة الخمر، فأنزل الله تحريمها.
وروي أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في " البقرة ": {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] الآية، فقُرِئت على عمر فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " النساء ": {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] الآية، فكان النبي يقول إذا(3/1863)
حضرت الصلاة: فلا يَقْرَبَن الصلاةَ سكران، (ودعي) عمر فقرئت عليه، فقال: اللهمَ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " المائدة ": {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية [إلى) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}، فقال عمر: انتهينا، انتهينا. وقيل: نزلت بسبب سعد بن أبي وقاص [لاحى] رجلاً على شراب فضربه بلَحْيَيْ جَمل ففزر أنفه فنزل ذلك.
وكان الرجل في الجاهلية يقامر عن أهله وماله حتى يقعد حزيناً سليباً، ينظر إلى ما له في يد غيره، فيورث ذلك عداوة بينهم. فنهى الله عن ذلك، وهو الميسر.(3/1864)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
وقال مصعب بن سعد: صنع رجل (من الأنصار طعاماً)، فدعاني وأبي - سعداً - فشربنا الخمر قبل أن تحرم فانتثينا. فتفاخرنا، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَي جزور فضرب به أنف سعد ففزره، فنزل: {إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية.
وقال ابن عباس: شرِب حيّان من الأنصار الخمر حتى سكروا، فلما سكروا جرح بعضهم بعضاً، فلما صَحَوْا، جعل (يرى الرجل) الأثر في وجهه ورأسه ويقول: فعل هذا بي أخي فلان!، وكانوا إخوة لا ضغائن بينهم، فصارت بينهم ضغائن، فنزلت الآية بالتحريم.
قوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} الآية.
المعنى: وأطيعوا الله عز وجل في اجتنابكم ما تقدم فيه النهي عن الخمر والميسر(3/1865)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
والأنصاب والأزلام، وأطيعوا الرسول فيما بلغ إليكم. {واحذروا} أي: احذروا الخلاف لما أمرتم به، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} (أي) إن " لَمْ " تفعلوا ما أمرتم به، {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي: ليس هو بمسيطر عليكم، إنما عليه أن يبلغكم ما أرسل به، ويوضحه لكم، والعقاب على الله المرسِل، ليس على المرسَل وهذا تهدد لمن خالف (أمر) الله.
قوله: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ} الآية.
المعنى: في قول ابن عباس وغيره -: أن المؤمنين قالوا لما نزل تحريم الخمر: (يا رسول) الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية.
{إِذَا مَا اتقوا} أي: اتقى اللهَ الأحياء منهم في اجتناب ما حرم عليهم، {وَآمَنُواْ}(3/1866)
أي: وصدقوا الله ورسوله فيما أمرهم به، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله، / {ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ} أي: " وَ " اتقوا محارمه وصدقوا فثبتوا على ذلك، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} أي: اتقوا الله، فدعاهم تقواهم إلى الإحسان، وهو العمل بما (لم) يفرض عليهم: من الخير والنوافل. فالاتقاء الأول: اتقاء تلقي أمر الله وقبوله، والثاني: الاتقاء بالثبات على الاتقاء الأول وترك التبديل، والاتقاء الثالث: الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل.
فهذه الآية نزلت - في قول الجميع - فيمن مات منهم وهو يشربها، أُعلِموا أنه لا جناح عليهم. وقال جابر بن عبد الله: صبح ناس غداة أُحد الخمر فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها، يريد: فنزلت الآية فيهم.(3/1867)
وقيل: نزلت فيما أكلوا من الحرام بالميسر و (ما شربوا) من الخمر فأُعلِموا أنه لا جناح عليهم في ذلك إذا ما اتقوا فيما يستقبلون.
وقيل: معنى {إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ} أي: اتقوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها " {ثُمَّ (اتَّقَواْ وَآمَنُواْ)} أي: اتقوا الكبائر وازدادوا إيماناً، " {ثُمَّ اتَّقَواْ} " أي: اتقوا الصغائر، {وَّأَحْسَنُواْ} بالنوافل.
وقيل: {إِذَا مَا اتقوا} الكفر، {ثُمَّ اتَّقَواْ} الكبائر، {ثُمَّ اتَّقَواْ} الصغائر.
وقيل: [معنى هذا: {إِذَا مَا اتقوا} فيما مضى: على إضمار " كان " مع " إذا "، {ثُمَّ اتَّقَواْ} في الحال التي هم فيها، {ثُمَّ اتَّقَواْ} فيما يستقبلون.
(وقيل: {. . . . . .} {إِذَا مَا اتقوا}: في الحال التي هم فيها [{ثُمَّ اتَّقَواْ} فيما(3/1868)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
يستقبلون] {ثُمَّ اتَّقَواْ} أي: ماتوا على ذلك وهم محسنون.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} الآية.
أي: يا أيها الذين صدقوا. ليختبرنكم الله في الطاعة والمعصية بشيء من الصيد، أي: ببعضه، لأنه صيد البر خاصة، ف (مِن) للتبعيض. وقيل: هي لبيان الجنس.
قوله {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني ما يؤخذ باليد من البيض والفراخ.
{وَرِمَاحُكُمْ} كالحمير والبقر والظبا، وما يصاد بالنبل، امتحن الله عباده في حال إحرامهم لعمرتهم وحجهم، فلا [يقربوه].
{لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي: كي يعلم من يتبع أمره ممن لا يتبع، {بالغيب}: في(3/1869)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
الدنيا بحيث لا يراه أحد، والمعنى: ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه بحيث لا يراه أحد.
وقيل: ليعلم ذلك علم معاينة يقع عليها الجزاء، وقد علمه غيباً لا إله إلا هو عَلاَّم الغيوب.
قوله: {فَمَنِ اعتدى} أي: فمن تجاوز حد لله في الصيد بعد تحريمه عليه {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية.
{هَدْياً} حال من الهاء في (به)، ويجوز نصبه على البيان، ويجوز نصبه على المصدر.
و {بَالِغَ الكعبة} نعته، والتقدير فيه: التنوين. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا، لا(3/1870)
تقتلوا صيد البر وأنتم حرم لحج أو عمرة.
{وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} (أي) ناسياً لإحرامه، معتمداً لقتل الصيد، فإن كان ذاكراً لإحرامه وتحريمه، فمجاهد وابن زيد يقولان: لا حكم عليه و [نقمة] الله منه أعظم. ومن الناس ما قال: لا حج له.
ومن قتل الصيد خطأ، فعليه ما على المتعمد عند مالك وجماعة غيره.
وقيل: لا شيء عليه، إنما أتى النص في المتعمد. وقال الزهري: نص الله(3/1871)
على المتعمد وأتت السنة بما على المخطيء.
(قال أبو محمد): (وإيجاب الجزاء على المخطئ) يحتاج إلى نظر، وقد أفردنا لذلك كتاباً لاتساع الكلام في ذلك، إذ ظاهر النص يعطي ألا شيء على المخطئ، وإيجاب الجزاء على المخطئ [أولى] لدخوله تحت عموم الابتلاء في قوله {لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} [المائدة: 94]، ولدخوله تحت عموم النهي في قوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، ولدخوله تحت عموم التحريم في قوله / {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96]، ولأنه عمل أهل المدينة، ولِمَا قال ابن شهاب: إنه السنة.
ومعنى {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} هو (أن ينظر) إلى أشبه الأشياء به، فيجزيه(3/1872)
(به) ويهديه إلى الكعبة.
فمن أصاب نعامة فعليه بَدَنَة، وفي بيض النعامة عُشر ثَمن البدنة، هذا قول مالك، كما يكون في جنين الحرة (غُرَّةٌ: عَبْدٌ أو) وليدة، وقيمة الغرة خمسون ديناراً وذلك عُشر دية الأم.
وفي الظبي شاة. وفي الأرنب - عند مالك - قيمتها من طعام، وكذلك ما أشبه الأرنب، مثل اليربوع وشبهه، مثل الضب: فإن شاء أطعم كل مسكين مداً، وإن شاء صام لكل مُدٍّ يَوْماً، هو بالخيار.
وفي الحَمَام - عند مالك شاة. وفي حمام الحِلّ حكومة عند مالك، وليس كحمام الحرم، وكره مالك أن يذبح الأهلي وهو محرم.(3/1873)
وعلى كل واحد من الجماعة - إذا اشتركوا في قتل صيد - جزاء عند مالك.
وصيد الحرم حرام على الحلال عند جميع العلماء.
ورخص مالك في إدخال الصيد من الحل إلى الحرم. ومنعه غيره، وكرهه ناس.
وإذا نتف المحرمُ من الطيرِ ما يَضُرُّ به ويخاف منه هلاكه، فعليه جزاؤه تامّاً عند مالك. وإذا أحرم وفي يده صيد فعليه أن يرسله. ويأكل المحرم لحم(3/1874)
الصيد إلا ما اصطيد من أجله (عند مالك، فإن أكل منه وقد صيد من أجله) فعليه جزاء ذلك الصيد عند مالك.
وكفارة الصيد في قتل الصيد ككفارة الحر.
ولا يكون الجزاء إلا بمنى أو بمكة.
ويحكم في الجزاء عدلان يجتهدان. ولا يحكمان في ذلك من الإبل والبقر والغنم إلا بما يجوز في الضحايا. وإذا اختلفَ الحكمان في الجزاء، ابتدأ الحكم غيرهما. ولهما أن يحكما بغير أمر الإمام، وله أن يرجع إلى غيرهما.(3/1875)
وعلى من قتل صيد الجزاء أن يكفر بإطعام مساكين، أو يصوم لكل مُدٍّ يَوْماً، فللحكمين أن يُقوِّما الجزاء بطعام، فإن شاء أتى بالجزاء، وإن شاء أطعم الطعام: مداً لكل مسكين، وهو قوله {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وإن شاء صام عن كلّ مُدٍّ يَوْماً، وهو قوله: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً}، هو مخير في ذلك.
ولا يطعم بعضاً ويصوم بعضاً، بل يطعم الكل أو يصوم عن الكل.
وقيل: يصوم عن كل نصف صاع يوماً، وهو قول من قال: يعطي(3/1876)
الطعام، نصف صاع لكل مسكين. والعَدْل: المِثْلُ، والعِدْلُ (نصف) الحمل.
وقال الكسائي: هما لغتان في المثل.
وقرأ طلحة بن مصرف والجحدري: {أَو عَدْلُ} بالكسر، وأنكر ذلك جماعة من أهل اللغة، لأن العِدل (نصف) الحمل.(3/1877)
وقال الكسائي: عَدل الشيء: مثله من غير جنسه، وعِدله: مثله من جنسه.
وقوله: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} أي: عفا لكم عما سلف لكم في جاهليتكم من قتل الصيد وأنتم حرم، ولكن من عاد فقتله - وهو محرم - فالله ينتقم منه في الآخرة وعليه الكفارة. وقد ذكر ابن عباس أن المعنى: من عاد مرة أخرى فقتل متعمداً، فلا حكم عليه، والله (ينتقم منه)، ومن عاد خطأ حكم عليه.(3/1878)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
وقال عكرمة: لا يحكم عليه، ذلك إلى الله.
وقيل: المعنى عفا (الله) لكم عن قتلكم الصيد قبل تحريمه عليكم، ومن عاد لقتله بعد تحريمه عليه. عالماً بقتله وبِإِحْرامِه، فالله ينتقم منه، ولا كفارة عليه.
{والله عَزِيزٌ} / (أي): ممتنع، {ذُو انتقام} أي: ذو عقوبة لمن عصاه.
قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ} الآية.
المعنى: {أُحِلَّ لَكُمْ} - وأنتم حرم - {صَيْدُ البحر} وهو حيتانه.
و {مَتَاعاً} مصدر، والمعنى: متعتم به متاعاً، لأن المعنى {أُحِلَّ لَكُمْ}: متعتم بصيد البحر متاعاً.(3/1879)
وكل نهر تسميه العرب بحراً، فالأنهار صيدها داخل في هذا، حلال بإجماع.
ومعنى {وَطَعَامُهُ} (أي): ما قُذِفَ ميتاً. وقيل: طعامه ما كلن مملحاً، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقيل: طعامه ما جاء به الموج. وقيل: صيده أن يصطادوه، وطعامه أن يأكلوه، فذلك حلال لهم، وهذا قول حسن، أباح الله الصيد واللحم. وقرأ ابن عباس: (وطُعْمُهُ) بضم الطاء من غير ألف.
ولم يرَ في الحوت يُطرح في النار حياً بأساً. وكرهه غيره. ودواب(3/1880)
البحر كلها - مثل الحيتان حلال للمحرم، وتؤكل الميتة منها. ولم يُجز جماعة أكل خنزير الماء وإنسان الماء للمحرم ولغيره.
وليس في شيء يخرج من البحر ذكاة. وليس طير الماء من صيد البحر، (لأنها تعيش) في البر.
قوله: {مَتَاعاً لَّكُمْ}: (أي منفعة لكم)، {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي: يأكل منها السيارةُ في أسفارهم، وهو المملح.
قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي: حرم الله عليكم أن تصطادوا من البر ما(3/1881)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
دمتم محرمين.
وأجاز قوم للمحرم أن يشتري الصيد المذبوح من ماله، لأن النهي إنما وقع على صيده.
{واتقوا الله} أي: احذروه فيما أمركم به، فإنه إليه تحشرون فيثيبكم بأعمالكم.
قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} الآية.
إنما سميت الكعبة كعبة لتربيعها، قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: لتربيع أعلاها.
ومعنى {قياما} أي: جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عن ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: جعلها مصالح لأمورهم، كالرئيس الذي يصلح أمر من يتبعه، وكذلك {الهدي والقلائد} جعل ذلك أيضاً قياماً للناس.
والناس - هنا -: مَن كان في الجاهلية، كان الرجل لا يخاف إذا دخل في الحرَم(3/1882)
ولو لَقِي من قتل أباه أو أخاه، لم يخف الفاعل في الحرَم، وإذا لَقِي الهدي لم يَعرِضْ له القاطع ولا الجائع، وكان الرجل إذا أراد الحج تقلد بقلادة من شعر، وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يعرض له ولا يؤذى حتى يصل (إلى) أهله.
وقيل: الناس هنا: جميع الناس.
قال ابن عباس: قياماً لدينهم ومَعْلَماً لحجهم. قال ابن زيد: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع عن بعضهم (ظلم بعض)، فجعل الله لهم البيت الحرام قياماً، يدفع بعضهم عن بعض، وكذلك الشهر الحرام لا يؤذى أحد في الحرم، ولا في الشهر الحرام وإنْ كان ذا جناية، وهذا (كله منسوخ) بالحدود (و) بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]، لا يمنع الحرم من الاقتصاص من جان، ولا من إقامة حد على من وجب عليه الحد، وهذا إجماع.(3/1883)
وقيل {قياما} يأتمون بها ويقومون بشرائعها. وقيل: (معنى) {قياما لِّلنَّاسِ}: أي: بالحج يَسْلَمُون من استعجال العقوبات.
قال بعض العلماء لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما أنظِروا.
/ قوله: {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} الآية.
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم من قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} الآية، فالمعنى: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما تحدثون وما تصنعون، كما يعلم ما في السموات و {مَا فِي الأرض}، ولتعلموا أن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء من أموركم.
قال المبرد: كانت الجاهلية تعظم البيت الحرام و {الأشهر الحرم}، كانوا يُسَمُّون رجباً: الاصم "، لأنه (لا) يسمع فيه وقع السلاح، فأعلم الله ما يكون منهم من إغارة بعضهم على بعض، فألهمهم (الله) ألا يقاتلوا في الأشهر الحرم، ولا(3/1884)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
عند البيت الحرام ولا مَن كان معه القلائد، ثم أعلمهم أن الذي ألهمهم هذا يعلم ما السماوات وما في الأرض.
وفي تكرير الاسم في قوله: {وَأَنَّ الله}، ولم يقل: " وأنه "، معنى التعظيم.
قال: {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} الآية تخويفاً، والمعنى: اعلموا - أيها الناس - أن الله شديد العقاب لمن عصاه، وأنه غفور لذنوب من أطاعه، أي: ساتر لها، رحيم (به).
قوله: {مَّا عَلَى الرسول} الآية.
هذه الآية تحذير من الله لعباده ووعيد، والمعنى: ليس على الرسول إلا أن يبلغ الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ثم إلى الله فعل الثواب بمن أطاع، والعقاب بمن عصى، {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي: غير خفي عليه ما تبدون من طاعته ومعصيته، وما تخفون من ذلك.(3/1885)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
وقيل: هذا مردود إلى قوله: {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، وأخبر (الله) تعالى أنه يعلم ما يبدون من ظاهر الإيمان وما يكتمون من الكفر.
قوله: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث} الآية.
المعنى: قل يا محمد: لا يعتدل الصالح والطالح {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي: لو كثر أهل المعاصي، فإن أهل الطاعة - وإن قَلُّوا - هم أهل رضوان الله. و {الخبيث}: المشركون، والطيب: المؤمنون. وهذا خطاب للنبي عليه السلام، (و) يراد به أمته، ودل على ذلك قوله: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي: فاتقوه فيما أمركم يا أولي العقول واحذروا أن يستفزكم الشيطان بإعجابكم بكثرة المشركين، وتضعف نيتكم بقلة المؤمنين، فإن المؤمن لا يستوي مع المشرك.(3/1886)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} الآية.
هذه الآية: نزلت في سبب أقوام سألوا النبي مسائل امتحاناً له، فيقول له بعضهم: (من أبي)؟، ويقول بعضهم إذا ضَلَّت ناقته: أين ناقتي؟، فنهى الله عن ذلك.
قال أنس: " سأل الناس النبي حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم وقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينتُ لكم. فألقى الناس ثيابهم على رؤوسهم يبكون، فأنشأ رجل كان إذا لاحى دعي بغير أبيه - فقال: يا رسول الله، من أبي؟، قال: حذافة، فقام عمر فقبّل رِجلَ رسول الله فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، أعوذ بالله من شر الفتن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والذي(3/1887)
نفسي بيده: لقد صُوِّرَت مثل (النار والجنة) آنفاً في عُرض هذا الحائط، فلم (أر كاليوم) في الخير والشر. قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة له: ما رأيت ولداً أعقَّ منك قط!، أكنت تأمن أن تكون أمُّك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية، فتفضحها على رؤوس الناس؟، فقال: والله لو ألحقني بعبد / أسود للحقته ".
وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله صلى الله عليه - وهو غضبان - حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل (فقال): أين أنا؟ فقال: في النار. و (قام آخر فقال): من أبي؟، قال: (أبوك) حذافة. فقام عمر (وقال): رضينا بالله رباً(3/1888)
وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، فنزلت هذه الآية ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " لما نزلت هذه الآية {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً}، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟، فسكت، ثم قالوا: أفي كل عام؟، فسكت، ثم قال: لا ولو قلت " نعم " لوجب، فأنزل (الله) الآية ".
وروي أنه قال " لما كرر عليه السؤال: والذي نفسي بيده، لو قلت: " نعم " لوجبت، (ولو وجبت) عليكم، ما أطعتموه، ولو تركتموه لكفرتم، فأنزل الله {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} الآية ".
وروي عنه أنه قال: " لو قلت " (نعم) " لوجبت، و (لو وجبت) ثم تركتم،(3/1889)
لهلكتم، أسكتوا ما سكتَّ عنكم، فإنما هَلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فأنزل الله الآية ".
وهذه القصة فيها ثلاثة فصول من النظم مختلفة:
فمن قوله: {يا أيها} إلى قوله: {تَسُؤْكُمْ}: نهى عن السؤال للنبي فيما لا يعنيهم، فهذا فصل.
- والثاني: قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} إلى {لَكُمْ}، والمعنى: وإن تسألوا عن أشياء أُخَر - غير الأول - تظهر لكم، (لأن) الله قد نهاهم عن السؤال، فكيف (يبيح لهم) ذلك؟ إنما تقديره: وإن تسألوا عن غيرها حين ينزل القرآن تظهر لكم، فيكون الكلام فصلاً ثانياً (مبيناً على حذف) المضاف وهو " غير "، إذ قد امتنع أن يقول لهم: لا تسألوا عن ذلك، وإن تسألوا عنه حين ينزل القرآن يظهر(3/1890)
لكم، فلما امتنع هذا لم يكن بد من تقدير حذف.
والفصل الثالث: قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ}
فهذا سؤال لغير شيء، والسؤال الأول والثاني إنما هما سؤال عن الشيء: ما هو؟ وكيف هو؟، سؤال عن حال.
وعن ابن عباس أنهم سألوا عن البحيرة (والسائبة) والوصيلة والحامي، فأنزل الله الآية ينهى عن السؤال، قال: ألا ترى أن بعده {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] الآية، فهو جواب لمن سأل عنه.
قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ}.
أي: ولكن [إن تسألوا] عنها إذ أنزل القرآن بها، فإنها تظهر لكم، قال تعالى:(3/1891)
{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فنهاهم أن يسألوا عما لم يُنْزِلْ به كتاباً ولا وحياً.
قوله: {عَفَا الله عَنْهَا} أي: ما لم يكن مذكوراً في حلال ولا حرام، فهو شيء عفا الله عنه، فلا تبحثوا عنه، فإنما هي أشياء حرَّمها الله فلا تنتهكوها، وأشياء أحلها فلا تحرموها، وأشياء عفا عنها وسكت عنها، فلا تبحثوا عنها، فلعلها إن ظَهَر لكم حكمها ساءكم ذلك، وإن سألتم عنها إذا نزل القرآن بها ظهرت لكم.
{والله غَفُورٌ} أي: ساتر لذنوبكم، {حَلِيمٌ} عما ترتكبون من مخالفته. ثم أخبر أن قوماً سألوا عنها من قبلنا، فلما فرض عليهم، وبيّن لهم ما سألوا عنه وأعطوا ذلك، كفروا به، وذلك كقوم صالح الذين سألوا الناقة، وقوم عيسى الذين سألوا المائدة فكفروا لما نزلت.
وقيل: المعنى: أنها نزلت فيما سئل النبي بمكة من قولهم: اجعل لنا الصفا ذهباً، فلم يلتفت إلى قولهم صلى الله عليه، فكفروا.(3/1892)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ [وَلاَ سَآئِبَةٍ} الآية.
أي: ما حرم الله ذلك. وقيل: المعنى: ما بحر الله بحيرة]، ولا وصل وصيلة ولا / سيب سائبة، ولا حمى حامياً، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك.
وقد تعلق قوم من الجهلة القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً} [الزخرف: 3] أنه بمعنى فعلناه، أي: خلقناه، وهذه الآية تظهر جهلهم، وهو قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ}، فإن كان " جعلنا " بمعنى " خلقنا " قد نفى عن نفسه هنا الجعل، فمن خلقها؟ (أَثَمَّ) خالق غير الله؟ ويدل على فساد قولهم: قوله تعالى:(3/1893)
{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} [القصص: 5]، فإن كان " جعل " بمعنى " خلق " فلم يكن القوم إذاً موجودين. وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]، فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت وقال: {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] فواجب - على قولهم - أن يكون قد ميز الخبيث من الطيب وهو غير موجود، وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} [النحل: 57] حكاية عن الكفار، (وتراهم) أيها الجهلة القدرية خلقوهم (هم)، إنما سموهم، ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين لقوله: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91]، وقوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3]، وهذا أكثر من أن يحصى. والجعل يكون بمعنى التعبير والوصف والتسمية، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالةٍ تدل عليه، نحو قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] أي: وخلق، لكن إذا كانت " جعل " بمعنى " خلق " لم تتعد إلا على مفعول واحد.(3/1894)
(و) روى زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قد عرفت أول من بحر البحيرة، (و) هو رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرم ألبانهما (وظهورهما وقال: هاتان لله: ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما) وركب ظهورهما، قال: فلقد رَأيتُه في النار، يُؤذي أهل النار (ريحُ قُصبِه) ".
والبحيرة: " فَعِيلة " بمعنى " مفعولة "، وهي الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة.
والسائبة: " فاعلة " بمعنى " مَفعِلة "، كما قيل: راضية بمعنى مَرْضِية، وهي(3/1895)
المُخَلاَّة من المواشي، كانت الجاهلية تفعله ببعض المواشي، فيُحرِّم الانتفاع به على نفسه.
وأما الوصيلة: فإن الأنثى من نعمهم كانت - في الجاهلية - إذا أتت بذكر وأنثى، قيل: " قد وصلت أخاها "، أي: منعته من الذبح، فسموها وصيلة.
وأما الحامي: فهو الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب والانتفاع بسبب تتابع أولاد [تَحدُث] في فِحْلَتِه.
وقال قتادة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظر إلى البطن الخامس، فإن كان ذكراً أكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، وإن(3/1896)
كانت أنثى بحروا أذنها - أي: شقوها - وتركت، فلا يشرب لها لبن ولا [تركب]، وكانوا يسيّبون ما شاءوا من أموالهم، فلا يُمنع من ماء ولا كلأ، ولا ينتفع به.
وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى البطن السابع، فإن كان ذكراً ذبح، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت ميتة أكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت، وإن (كانت ذكراً) وأنثى، قيل: وصلت أخاها فمنعته من الذبح. وكان الحامي هو الفحل إذا ركب من ولده عشرة، / قيل: حمى ظهره، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق.
ويقال: إن الناقة كانت إذا (تتابعت باثنتي عَشْرَةَ أنثى) ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها، فما نتجت - بعد ذلك - من أنثى شقَّ أذنها وخلاّها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، كما (فعل)(3/1897)
بأمها، فهي البحيرة ابنة السائبة.
والوصيلة: هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، وقالوا: وصلت، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله: الذكور والإناث منهم.
والحامي: هو الفحل إذا نتج (له) عشر إناث متتابعات، ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك. فنفى الله جل ذكره عن نفسه أن يكون سمى شيئاً من ذلك أو صيّره كذلك، فقال: {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} أي: يخترقونه.
و {الذين كَفَرُواْ}: هم اليهود، والذين {لاَ يَعْقِلُونَ}: أهل الأوثان.(3/1898)
وقيل: المراد بذلك أهل الجاهلية الذين سنّوا ذلك، فهم الكفار، والذين لا يعقلون: أتباعهم، أي: لا يعقلون أنه إنما سن لهم ذلك مَن تقدمهم من غير أمر (من) الله فيه، وأنه باطل كذب، وذِكْرُ أهل الكتاب - في هذا - لا معنى له، إذ ليس لهم في هذا صنع ولا سنة، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب، فهم الذين عنوا بذلك.
وقيل: إنهم لا يعقلون (أن) الشيطان حرمه عليهم وسنَّه لهم.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: " قَد عَرَفْتُ أََوَّلَ مَن سَيَّب السُّيَّب، ونصَّب النُّصُب وغَيَّرَ عَهْدَ إِبراهيمَ: عمرو بنُ لُحَيّ، لقد رأيتُه وإِنَّه لَيَجُرَّ قُصَبه في النار يؤذي أهلَ النار بريحه " القُصْبُ: الأمعاء. روى مالك أيضاً عن زيد بن أسلم عن عطاء أن النبي قال: " قد عرفت(3/1899)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
أول من بحر البحائر: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع [آذانهما]، وحرَّم ألبانهما وظهورهما، ثم احتاج فركبهما وشرب ألبانهما، فلقد رأيتُهما وإيّاه في النار، وإنهما لتخبطانه بأخفافهما، وتعضانه بأفواههما " وفي ذلك اختلاف كثير والمعنى متقارب.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} الآية.
المعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين قد سموا ما ذكر من البحيرة وغيرها: تعالوا إلى كتاب الله وإلى رسوله ليتبين لكم كذب قولكم فيما سننتم، {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} أي: يكفينا ما صنع آباؤنا، ويرضينا من تحليل وتحريم، ثم قال الله تعالى لنبيه: أولو كان - يا محمد - آباء هؤلاء القائلين لا يعلمون شيئاً {وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي: ولا يهتدون، جهلوا أنهم يفترون على الله بقيلهم ما كانوا يقولون، أيتبعونهم على فعلهم،(3/1900)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وهذه حالهم في الجهل.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية.
(والمعنى): عليكم أنفسكم [إذا] أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
وقال ابن عمر: هذه لأقوام يأتون بعدنا، إن قالوا لم يُقبل منهم، وأما نحن فقد قال رسول الله: ليُبَلِّغ الشاهد / الغائبَ، فكنا نحن الشهودَ وأنتم الغيب.
وحكى جبير بن نفير عن جماعة من أصحاب النبي أنهم قالوا له في هذه الآية: عسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحّاً مطاعاً، وهوىً متَّبعاً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يَضرُّك من ضل إذا اهتديت.
وقال ابن مسعود: لمّا يجىء تأويل هذه بعد، إن القرآن أُنزل حيث أُنزل،(3/1901)
منه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن يَنْزِلْن، ومنه آي تأويلهن على عهد النبي، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي بيسير، ومنه آي قد وقع تأويلهن يوم الحساب، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تُلبَسوا شيعاً، ولم (يَذُق بعضكم) بأس بعض، فأْمُروا بالمعروف وانْهُوا عن المنكر. وإذا اختلفت الأقوال والأهواء، وأُلْبِستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسَه، عند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
وقيل: هي في الكفار، لا يضر المسلمَ كفُر الكافر، عليه نفسه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. وجعلها ابن عباس وغيره عامة، وقال في معناها: إنّ العبد إذا أطاع الله فيما أمر به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده. وقال ابن المسيب وغيره: معناها: لا يضركم مَن ضل بعد أمركم إياه (بالمعروف) ونهيكم عن(3/1902)
المنكر. وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا أيها الناس لا تَغْتَرّوا بقول الله جل وعز {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فيقول أحدكم: " علي نفسي "، والله، لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتُنْهَوُنَّ عن المنكر [أو] لَيَسْتَعْمِلَنَّ عليكم شراركم فَلَيَسُومُنَّكم سوء العذاب، (وَلَيَدْعُنَّ) الله خيارُكم فلا يستجيب لهم. قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناس المنكر والظالم، فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يَعُمَّهم الله بعقابه.
وقال ابن جبير: معناها: لا يضرُّكُم من كَفَرَ بالله من أهل الكتاب، فإنما عليكم أنفسكم، وليس يضركم كفر الكافر.(3/1903)
(و) قال ابن زيد: كان الرجل إذا أسلم قال له أهل دينه الذي كان عليه: سفَّهتَ آباءك وضللتهم، وفعلت [بآبائك]. كذا وكذا، وكان ينبغي لك أن تنصر [آباءك]، فأنزل الله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} الآية، (أي) إنما عليكم أنفسكم، وليس عليكم من ضلالة آبائكم شيء.
وقد قيل: إن ذلك في الأمر، أُمِروا بأنفسهم، وأُعلِموا أنهم لا يضرهم ارتداد من ارتد، ولا كفر من كفر وقيل: الآية منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(3/1904)
والاختيار عند أهل المنظر أن يكون المعنى: لا يضرّكم من ضل بعد أمركم إياه بالمعروف ونَهيِكم عن المنكر، وإنما ذلك لأن الله أمر المؤمنين بالقيام بالقسط، وأن يتعاونوا على البر والتقوى: ومن القيام بالقسط: الأخذ على يدي الظالم، ومن التعاون على البر والتقوى: الأمر بالمعروف وليس في ذلك رخصة إلا العجز عن القيام بها. ومعنى {إِذَا اهتديتم}: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، فليس يضركم من ضل بعد ذلك.
وقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 104]، وذم اليهود فقال: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] / ولعنهم على تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع أهل العلم على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يجب على الأمراء، ويُعينُ على ذلك المؤمنون إذا احتيج (إليهم)، وبعض الناس يحمله عن بعض: كالجهاد، فهذا إجماع العلماء ويجب على الإنسان - في النظر والقياس - أن يأمر(3/1905)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
من ضيع شيئاً من الخير بما يأمر به نفسه، وينهى عن الشر كما ينهى عنه نفسه. وكل شيء وجب لك فعله، وجب عليك الأمر به [أو النهي عنه. والأمر بالمعروف هو النهي عن المنكر]، لأن ترك المنكر معروف وترك المعروف منكر.
قوله: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي: إليه تردون فيحكم بينكم فيما أمرتم به فلم يقبل منكم، أو نهيتهم عنه، فينتقم من المتَعدِّي على محارمه، ويجازي الدال على مرضاته.
قوله: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} الآية.
وهذه الآية - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً! ومعنى وحكماً.(3/1906)
فقوله: {شَهَادَةُ} رفع بالابتداء، و {اثنان} الخبر، والتقدير: فيه شهادة اثنين، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وقيل: التقدير: عدد شهادة بينكم اثنان، ثم حذف، و " ما " محذوفة مع " بينكم "، تقديره: ما بينكم، و [" ما " المحذوفة] إشارة إلى التنازع والتشاجر.
وقيل: {اثنان} رفع بفعلهما، والتقدير: ليكن منكم أن يشهد اثنان.(3/1907)
وقيل: {إِذَا حَضَرَ} خبر الشهادة: لأنها مستأنفة ليست واقعة لكل الخلق، و {اثنان} - على هذا - بفعلهما، تقديره أن يشهد اثنان، ودل على ذلك {شَهَادَةُ} المتقدم ذكرها.
قوله: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ}
{آخَرَانِ}: ارتفعا بفعل مضمر، و {يَقُومَانِ} نعت، و {الأوليان} بدل من {آخَرَانِ} أو من المُضمر في {يَقُومَانِ}.
روى اسحاق الأزرق عن أبي بكر عن عاصم (شهادةٌ) بالتنوين، (بينكم) بالنصب، وهي مروية عن الأعرج.(3/1908)
ورُوي عن أبي عبد الرحمن المقريُ {شَهَادَةَ} بالنصب والتنوين على: " ليشهد اثنان شهادةً "، فهو مصدر.
(و) روى عبد الله بن مسلم {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} بالنصب فيهما وتنوين (شهادةً) على معنى: لا نكتم الله شهادةً. وقيل تقديره: ولا نكتم شهادة والله، فلما حذفت الواو تعدى الفعل [إلى] المُقسم به فنصب.(3/1909)
وقرأ الشعْبي (شهادةً) بالتنوين، (اللهِ) بالخفض على القسم، أعمل الحرف وهو محذوف، وقد أجازه سيبويه، ومنع ذلك غيره.
وقرأ أبو عبد الرحمن {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} بالمد، جعل ألف الاستفهام عوضاً من حرف القسم، فخفض بها كالحرف.
وقرأ ابن محيصن: [(إنا إذاً لملاثمين)] أدغم النون في اللام، وهو بعيد في العربية، وهو مثل (عادً [لوُلَى] في قراءة نافع، وإنما بعد، لأن اللام حكمها(3/1910)
السكون، والحركة التي عليها إنما هي للهمزة، والمدغم لا يدغم أبداً إلا في متحرك أصلي، وليست اللام بأصلية الحركة.
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ليشهد بينكم - إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم، (أي من المسلمين وقيل: من أهل الموصي. والأول أكثر.
قال الحسن: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أي: من العشيرة، لأن العشيرة أعلم بالرجل وماله وولده، وأجدر ألا ينسوا ما يشهدون عليه، فإن لم يكن من / العشيرة أحد، فآخران من غير العشيرة، فإن شهدا - وهما عدلان - مضت شهادتهما، وإن ارتيب في شهادتهما حبسا بعد صلاة العصر فيقسمان بالله {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى(3/1911)
وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله}، فتمضي شهادتهما إذا حلفا، وإنما استُحلفا، لأنهما وصيان شاهدان، فإن اطلع - بعد ذلك - أنهما شهدا بزور، حلف وليان من الورثة، واستحقا ما حلفا عليه، وهو معنى قوله: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً} أي: (حلفاً) زوراً، {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي: مقام الشاهدَيْن، {فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} أي: لَيمَينُنا أحق من يمينهما، {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ}، أي: يأتي الشاهدان بالشهادة على حقها، ولا يغيّرانها.
وهذا منسوخ عند أكثر العلماء. وقال الحسن: يحلف الشهود، وليس بمنسوخ.
ومن قال: إن معنى {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} من المسلمين، (قال: أو) من غيركم: من غير المسلمين لتصح المحاذاة، لأن نقيض المسلم الكافر. ومن قال: معنى:(3/1912)
{ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} من قبيلتكم أو من عشيرتكم أو من أهليكم، قال: معنى: ([من] غيركم): من غير قبيلتكم أو من غير عشيرتكم أو [من] (غير) أهليكم، فهو كله (في المسلمين) لتصح المحاذاة في الطرفين، ثم يقع الاختلاف في النسخ على ما ذكرنا وما نذكر على اختلاف هذه المعاني.
والشهادة (هنا) بمعنى الإشهاد على الوصية، فالاثنان يشهدان على الوصية.(3/1913)
وقيل: الشهادة هنا بمعنى الحضور، أي: ليشهد اثنان، أي: ليحضر اثنان حين الوصية، فهما وصيان لا شاهدان، واستدل الطبري على أنه غير الشهادة التي تؤدي للمشهود له، أنْ قال: إنا لا نعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزاً أن يصرف الشهادة في هذا، وتكون هي التي يقام بها عند الحاكم للمشهود له، (و) في حكم اله باليمين على ذوي العدل [أو] على من قام مقامهما باليمين - يقول: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله} - أَوُضَحُ دليل على أنه ليس يراد به الشهادة التي يقضى بها للمشهود له.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال ابن المسيب: معناه: من غيركم، أي: من أهل الكتاب.
وقال ابن جبير: أي: من غير أهل ملتكم، وقال الحسن: معناه: شاهدان من قومكم أو من غير قومكم. وقيل: معناه: من غير حيّكم.(3/1914)
قوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي: سافرتم ذاهبين وراجعين، فنزل بكم الموت.
وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: إذا ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين، وفي الكلام حذف واختصار، تقديره: ودفعتم إليهما ما معكم من مال ثم متم، وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما واتهموهما (وادعوا) عليهما خيانة، فإن الحكم في ذلك أن [تحبسوهما]، أي: تتوثقوا منهما بعد الصلاة، وفي الكلام حذف أيضاً وهو ما ذكرنا، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، (أي) لا نحلف كاذبين على عرض نأخذه من حق هؤلاء الورثة، {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} يقسمان / بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً ولو كان الذي نقسم له به ذا قرابة منا.(3/1915)
قال ابن عباس: إنما هذا لمن حضره الموت في سفر ولم يجد مسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر: بالله لم نشتر بشهادتنا ثمناً.
فقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} (- على قول ابن عباس - من صفة الآخرين، والمعنى: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة) إن ارتاب الورثة في مال الميت، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، ولو كان ذا قربى.
والصلاة - عند أبي موسى الأشعري وابن جبير - صلاة العصر. وقيل: هي صلاة من صلاة أهل دينهم.
قال السدي وغيره: أمر الله المؤمنين أن يُشهدوا عند الموت في الحضر شاهدْين (من المسلمين) فيما عليه وله، وأمرهم أن يشهدوا في السفر شاهدين(3/1916)
من غير ملتهم إذا عدموا أهل ملتهم، كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً، فإذا دفع إليهما ماله، (فإن أتهمهما) أهل الميت حبسوهما بعد الصلاة وحلفا: بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، وذلك صلاة أهل ملتهما، ويقولان بعد ذلك: {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين}، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإن هذه التركة، (ويخوفهما) الامام قبل اليمين، ف {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ}.
قال ابن زيد: " لا نشتري به ثمناً " لا نأخذ به رشوة.
قال: الهاء في " به " تعود على القسم، وهو اليمين، وقيل: بل تعود على الله جل ذكره.
قوله: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً} أي اطلع على أنهما خانا بعد حلفهما، وأنهما حلفا كاذبين في أيمانهما (ما خنا)، فيقوم آخران من ورثة الميت حينئذ(3/1917)
مقامهما، فيحلفان أنه كان كذا وكذا، ويستحقون ما حلفوا عليه.
وقال ابن عباس: يحلفان: إن شهادة الكافرين كانت باطلاً، وأنّا لم نَعْتَدِ في دعوانا، إذا اطلع أنهما كذبا في يمينهما وخانا، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة المؤمنين.
وقيل: إنما يحلف أولياء الميت إذا أدعى الشاهدان أنه أوصى بما لا يجوز في دين الإسلام، كقولهم: أوصى بماله كله "، فيحْلف اثنان من أولياء الميت: إن صاحبنا (ما كان يرضى بهذا ولا نرضى به، وإنهما) يكذبان. وشهادتنا أحق من شهادتهما.
والأكثر على أن الأولياء يحلفون إذا وجدوا خيانة بعد يمين الكافرين، أو قيل لهم (إنهما) غير مرضيين، فيحلفان: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإنه لقد ترك كذا وكذا، وما أوصى بكذا ونحوه. وقيل: إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما زعما أن الميت أوصى لهما بكذا وكذا، فإن عثر على أنهما كاذبان في ذلك، حلف آخران من أولياء(3/1918)
الميت: لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا.
وجماعة من العلماء يقولون: كان هذا ثم نُسخ.
ولا تجوز شهادة كافر على مسلم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهي منسوخة عندهم. وقيل: ذلك جائز إذا كانت وصية، وهو قول ابن عباس وغيره.
وقيل: الآية كلها / في المسلمين، والآخران من المسلمين، وهو قول الزهري والحسن.
وقيل: الشهادة - هنا - بمعنى الحُضور، وقد تقدم ذكره.
وقيل: الشهادة - هنا بمعنى اليمين، فمعنى " شهادة أحدكم ": أي: يمين(3/1919)
أحدكم أن يحلف اثنان، وهو اختيار الطبري.
فال ابن عباس: كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة للتجارة - نصرانيين -، فخرج معهما رجل من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم فأوصى إليهما، فوصّلا تركته إلى أهله، وحبسا جَاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب، ففقده أولياء الميت السهمي، فأتوا النبي، فاستحلفهما: " ما كتمنا ولا اطلعنا "، ثم عُرفَ الْجامُ بمكة، [فقالوا]: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي(3/1920)
فحلفا بالله إن هذا لَجَامُ السهمي، ولشهادتُنا أحقُّ من شهادتهما وما اعتدينا، إنّا إذاً لمن الظالمين، وأخذا الْجَامَ، ففيهم نزلت الآيات. والروايات في هذا الخبر كثيرة مختلفة الألفاظ، ترجع إلى معان يقرب بعضها من بعض.
وتقدير قراءة من قرأ بضم التاء وقرأ (الأوليان) أنه أراد: فآخران من أهل الميت - الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم منهما - يقومان مقام [المُسْتَحِقَّيِ] الإثم منهما لخيانتهما.
و (من قرأ) بفتح التاء، فتقديره: فآخران يقومان [مقام] المؤتمَنيْن(3/1921)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
اللَّذَين عثر على خيانتهما.
قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} الآية.
المعنى: " واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ومعنى {مَاذَآ أُجِبْتُمْ}: ما أجابتكم أممكم حين دعوتموهم؟، فذهلت عقول الرسل عليهم السلام لهول اليوم، فقالت: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ}، فلما سئلوا في موضع آخر ورجعت إليهم عقولهم أجابوا.
وقيل: المعنى: لا علم لنا، لأنك أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وهو اختيار الطبري، يدل على ذلك أنهم ردوا العلم إليه، فقالوا {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}.(3/1922)
وقال مجاهد: تنزع أفئدتهم فلا يعلمون، ثم ترد إليهم أفئدتهم فيعلمون. وقيل: معناه: لا علم لنا بما عملته أُمَمُنا بعدَنا، {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}.
وقال ابن جريج: المعنى: ماذا عملت أمتكم بعدكم؟، فيقولون: لا علم لنا حقيقة، (أي لا علم لنا) بما غاب عنا، إنك أنت علام الغيوب.
وَيشُدُّ هذا التأويل قول النبي عليه السلام: " يَرِد عليَّ قومٌ الحوضَ [فَيُخْتَلَجون]، فأقول: أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".(3/1923)
وقد طُعِن في قول ابن جريج، لأن الله لا يسأل عما غاب عن الأنبياء ولم يُعلمهم به، وقد قيل: إن الرسل لا يفزعون، لانهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والمعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية، ومعنى مسألة الله الرسل [عما] أجيبوا، إنما هو بمعنى التوبيخ لمن أرسلوا إليهم، كما قال: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * (بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)} [التكوير: 8 - 9]، وإنما تُسأل هي على التوبيخ (لقاتلها).
وقيل: إنما سألهم الله عن السر والعلانية، فرَدّوا الأمر إليه، إذ ليس عندهم إلاّ علمُ الظاهر، والباطن عِلمُه إلى الله، لأنه يعلم الغيب، وهذا القول أحب الأقوال إليّ، لأن سؤاله لهم سؤالاً عاماً يقتضي السؤال عن سر الأمم وعلانيتها، والسر علمه إلى من يعلم / الغيوب، (وهو الله جل ذكره، فأقروا بأنهم لا علم عندهم منه، ورَدّوا(3/1924)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
العلم إلى من يعلم الغيب).
قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي} الآية.
قرأ ابن محيصن {إِذْ أَيَّدتُّكَ}، وكذلك روي عن مجاهد، وهما لغتان.
والمعنى: واحذروا يوم يجمع الله {الرسل}، فيقول كذا وكذا، إذ قال الله يا عيسى ابن مريم.
(و) قوله: {(أَيَّدتُّكَ) بِرُوحِ القدس} أي: أعنتك بجبريل. وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} هو الخط، {والحكمة}: الفهم بمعاني الكتاب، {والتوراة}: وهو ما أنزل على موسى، {والإنجيل}، وهو الذي أنزل عليه، ومعنى {بِإِذْنِي}: أي: بعوني لك.(3/1925)
ومعنى {تَخْلُقُ} تعمل وقيل: تُقَدِّر.
{وَتُبْرِىءُ الأكمه} هو الذي يولد أعمى، وقيل: يكون الأكمه أيضاً (الذي) يعمى بعد البصر.
{وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى} أي: تخرجهم أحياء من قبورهم، {بِإِذْنِيِ} أي: بعوني {وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ} أي: منعتهم إذ هموا بقتلك لما جئتهم بالبينات، وهذا كله تعديد نِعمِ الله على عيسى. والبينات: الأدلّة المعجزة الدّالّة على نبوتك.
{إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}: من قرأ {سِحْرٌ} فمن أجل أن بَعْدَه {مُّبِينٌ}، والسحر مما يوصف بالبيان.(3/1926)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
ومعنى {سِحْرٌ} أي عمله، وما أظهره سحر. ومن قرأ: (ساحر)، فلأن المذكور في الكلام هو عيسى، وليس مما يوصف بأنه سحر، لأن الإنسان لا يكون سحراً، إنما يكون ساحراً، وكل ساحر لا يسمى بذلك حتى يعمل السحر، وكل من أضيف إليه سحر فهو ساحر فالقراءتان متقاربتان.
والكهل: ابن أربعين سنة، وقيل: ابن أربع وثلاثين سنة.
ومعنى النعمة على عيسى في أن يكلم الناس كهلاً: أنه مد في عمره إلى أن بلغ الكهولية.
قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} الآية.
المعنى: واذكر اذ أوحيت إلى الحواريين، ومعنى {أَوْحَيْتُ}: قذفت في قلوبهم،(3/1927)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قاله السدي.
وقيل: ألهمتهم، والحواريون: وزراء عيسى.
قوله: {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ} الآية.
روي عن ابن عامر: (الحواريون) بالتخفيف، استخفافاً، والتشديد الأصل.
ومعنى الآية: أنهم سألوا ذلك ليثبتوا في صدقه، كما قال إبراهيم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260].
وقيل: إنهم إنما سألوا (هذا) قبل أن يعلموا أن عيسى يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى، فسألوه آية.(3/1928)
ومعنى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ}، أي: ينزل علينا ربك مائدة، كما تقول للرجل: " أتستطيع أن تنهض معي في كذا؟ "، وأنت تعلم أنه مستطيع، وإنما تريد: " أتنهض معي في كذا؟ ".
وقيل: معناه: هل يستجيب لك ربك إن سألته؟.
وقال الحسن: المعنى: هل ربك فاعل بنا ذلك؟. والعرب تقول: " ما أستطيع ذلك "، أي: ما أنا فاعل ذلك، وهو يستطيع.
وقيل: إنهم سألوه قبل أن يكونوا مؤمنين محققين، ثم آمنوا بعد ذلك، ودل على ذلك استعظام عيسى لقولهم، وقوله لهم: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}.
قال ابن شهاب: قال ابن عباس: قال عيسى لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على مَن عمل له!، [ففعلوا ثم قالوا: يا معلّم الخير، قلتَ لنا: " إن أجر العامل على مَن عمل له "]، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً(3/1929)
إلا أطعمنا - حين فرغ - طعاماً، فهل يستطيع ربك أن ينزّل / علينا مائدة من السماء؟ فقال عيسى: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}، فاعتذروا بقولهم: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي: بنبوتك، ونعلم صدقك، فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة (أرغفة وسبعة أحوات) حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
قال السدي المعنى: " هل يطيعك ربك إن سألته ".
وقرأه الكسائي بالتاء، ونصب (ربَّك)، ومعناها: أن الحواريين لم يكونوا شاكين، إنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟.
قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر على أن ينزل عليهم(3/1930)
مائدة.
(و) روي عنها أنها قالت: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}.
(و) تقدير قراءة الكسائي: هل تستطيع مسألة ربك أن ينزل علينا مائدة.
والمائدة فاعلة، من مادَ فلان القوم يميدهم: إذا أطعمهم. قال أبو عبيدة: (مائدة) من العطاء، وهي " فاعلة " بمعنى مفعولة وقال الزجاج: " مائدة: فاعلة من مادَ يميد: إذا تحرك "، ومنه ماد الرجل في البحر: إذا دار رأسه وقيل:(3/1931)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
المائدة: المطعمة، كأنها الطاعمة.
ومعنى قوله: {اتقوا الله} أي: اتقوه أن تَنزِل بكم عقوبة، فإن الله سبحانه لا يعجز عن شيء أراده، فلا تَشُكّوا في قدرته هذا على قراءة الجماعة.
قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا} الآية.
قوله: {تَكُونُ لَنَا}: حال بمعنى: كائنة. وقرأ الأعمش (تكُن) جعله للطلب.
وقرأ الجحدري: (لأولانا وأُخرانا).(3/1932)
فالمعنى: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً لما ولمن بعدنا.
وقيل: معناه: نأكل منها جميعاً، قاله ابن عباس.
(و) روي أن عيسى عليه السلام قام فلبس الشعر، وكان يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل، فلبس جبة من شعر ورداء من شعر، ووضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره، ثم صف (بين) قدميه، فألصق الكعب بالكعب، وساوى الإبهام بالإبهام، وطأطأ رأسه خاشعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فبكى حتى سالت الدموع على لحيته، فجعلت تقطر على صدره، فقال: {اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء}، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي مُنْقَضّة وعيسى صلوات الله عليه يبكي ويقول: اللهم اجعلني لك من الشاكرين، إلهي اجعلها رحمة ولا تَجعلها عذاباً، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني، إلهي أعوذ بك من أن تكون أنزلتها غضباً وزجراً، اللهم اجعلها عافية وسلامة(3/1933)
ولا تجعلها مثلة ولا فتنة حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحاً طيباً، لم يجدوا مثلها قط، وخرّ عيسى ساجداً والحواريون معه، وبلغ اليهود ذلك، فأقبلوا غماً وكيداً ينظرون أمراً عجيباً، وإذا منديلٌ قد غطى السفرة، وجاء عيسى عليه السلام، فجلس وقال: من كان أَجرأَنا وأَوثَقَنا بنفسه، وأحسَنَنا يقيناً عند ربنا، فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل ونسمي اسم ربنا ونحمد إلهنا. فقال {الحواريون}: أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته /. فئوضاء عيسى وضؤاً جيداً، وصلى صلاة طويلة، ودعا دعاءً كثيراً، وبكى بكاءً طويلاً، ثم قام حتى جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين، وكشف المنديل، فإذا سمكة طرية مشوية، ليس عليها قشورها، وليس لها شوك، وتسيل سيلاً من الدسم، قدم نُضِّد حولها(3/1934)
البقول ما خلا الكراث، وإذا خلٌّ عند رأسها، وملح عند ذنبها، وسبعة أرغفة، على كل واحد منها زيت، وعلى سائرها حَبَّ رمان وتمر، فقال شمعون رأس الحواريين -: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، (أم من) طعام الآخرة؟، فقال عيسى صلى الله عليه: أو ما نُهيتم عن تفتيش المائدة؟، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا. فقال (شمعون): لا وإله إسرائيل، ما أردت سوءاً (يابن) الصديقة. قال عيسى: نزلت وما عليها من السماء شيء، وليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها: شيء ابتدعه الله بالقدرة الغالبة، قال (له الله): " كن "، فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمددكم ويزدكم.
قالوا: يا روح الله وكلمته، لو أَرَيْتَنا اليوم آية من هذه الآية. فقال عيسى: احْيَِيْ بإذن الله، فاضطربت(3/1935)
السمكة حية (طرية)، تدور عيناها في رأسها، ولها وبيص تتلمط بفيها كما يتلمط الأسد، وعاد عليها قشورها، ففزع القوم، فقال عيسى: ما لكم تسألون عن أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها، ما أخوفني عليكم (أن تُعذَّبوا)، يا سمكةُ عودي كما كنت بإذن الله، فعادت السمكة مشوية كما كانت، ليس عليها قشور بإذن الله. فقالوا: كن أنت - يا روح الله - الذي يأكل منها أول مرة، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها من طلبها وسألها، ففَرِق الحواريون من أن يكون نزولها سخطاً ومثلة، فلم يأكلوا منها، فدعا عيسى أهل الفاقة والزَّمانة من العميان والمجذومين والبُرْص والمُقْعدين والمجانين وأصحاب الماء الأصفر، فقال لهم:(3/1936)
كلوا من رزق ربكم، وادعوه يزدكم، إنه ربكم واحمدوه يكن المُهْنَأ لكم، والبلاء لغيركم، واذكروا اسم الله وكلوا. ففعلوا وصدروا عن تلك السمكة والأرغفة وهم ألف وثلاث مائة بين رجل وأمرأة، (و) من بين فقير وجائع وزَمِن، فصدروا كلهم شباعاً يَتَجَشَّؤون، فنظر عيسى صلى الله عليه فإذا المائدة كهيئتها إذ نزلت من السماء، فرفعت السفرة وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، فلم يزل غنياً حتى مات، وبرأ كل زَمِن أكل منها، وقدم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها. ثم كانت تنزل بعد ذلك، فيأتي الناس إليها من كل مكان، فزاحم بعضهم بعضاً: الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والأصحاء والمرضى، فلما رأى (ذلك عيسى) جعلها نُوَباً بينهم، فكانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً،(3/1937)
كناقة صالح في الشرب، فأقاموا بذلك أربعين صباحاً تنزل عليهم ضحاً، فلا تزال موضوعة حتى إذا (فاء الفيء) طارت صاعدة ينظرون / إلى ظلها حتى تتوارى عنهم، وأوحى الله عز وجل إلى عيسى (أن) اجْعل مائدتي ورزقي في اليتامى والزَّمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك، أعظمت (ذلك) الأغنياء، فادعت القبيح حتى شككوا الناس وشكوا، فوقعت الفتنة في قلوب الشاكين، حتى قال قائلهم: يا مسيح، وإن المائدة لحق؟، (و) إنها لتنزل من عند الله؟، فقال عيسى: ويلكم هلكتم، (فأبشروا) (بالعذاب) إلا أن يرحم الله. فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ شرطي من الكذابين، وقد اشترطت عليهم أن أعذب من كفر منهم بعد(3/1938)
نزولها (عذاباً) لا أعذبه أحداً من العالمين. فقال عيسى: (رب) {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، فمسخ الله جل ذكره ثلاثة وثلاثين رجلاً منهم خنازير من ليلتهم، فأصبحوا يأكلون العذرة والخشوش، وأصبح الناس يطوفون بعيسى (فزعاً ورهباً من عقوبة الله، وعيسى) يبكي، وأهلوهم يبكون معه، وجاءت الخنازير تسعى على عيسى حين أبصرته، فأطافوا به ينظرون إليه، ويشمّون ريحه، ويسجدون له، وأعينهم تسيل دموعاً لا يستطيعون الكلام، فقام عيسى يناديهم بأسمائهم: " يا فلان "، فيومئ إليه برأسه: " نعم "، فيقول " قد كنت أحذركم عذاب الله، وكأني كنت انظر: إليكم قد مُثّل بكم في غير صوركم.(3/1939)
قال وهب بن منبه: كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف، فقال رؤساء القوم لقوم من ضعفائهم: إن هؤلاء يُلطّخون علينا ثيابنا، فلو بنينا (لها بناء) يرفعها. فبنوا لها دكاناً، فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله رفعها عنهم.
قال ابن عباس: أكل منها آخرهم كما أكل أولهم، فكانت لجميعهم عيداً.
وقوله: {وَآيَةً مِّنْكَْ}: (أي آية) على قدرتك، وعلى أني رسولك. ونزلت عليهم وعليها حوت وطعام، فأكلوا (منها)، ثم رفعت لأحداث أحدثوها.
(وقيل): كان في المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.(3/1940)
قال ابن عباس: نزلت المائدة مرتين وعنه: نزلت مراراً. وقال سلمان كذلك. وقيل: وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً.
قال الحسن: لما قال الله {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} قالوا: لا حاجة لنا إليها فلم تنزل. قال الفراء: نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرتين: غدوة وعشية، فلذلك اتخذوه عيداً.
وعن ابن عباس أنه قال: كانوا يأكلون منها أينما نزلوا إذا شاءوا.
وقال وهب بن منبه: نزلت عليهم قرصة من شعير وأحوات. وقال مجاهد: هو طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا. وقال إسحاق بن عبد الله: نزلت على عيسى(3/1941)
سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها متى شاءوا. قال فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً (فرفعت). وروي عن ابن عباس أنه قال: أُنزل على المائدة كل شيء غير اللحم. قال قتادة: لما صنعوا في المائدة ما صنعوا من الخيانة، حُوِّلوا خنازير، وكانوا أمروا ألا يخونوا ولا (يخبئوا ولا يدخروا)، فخانوا وخبؤوا وادخروا.
(و) روى عمار / عن النبي عليه السلام أنه قال: " نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا و (رفعوا لغد)، فمسخوا قردة وخنازير ".(3/1942)
قال عمار بن ياسر: لم يتم يومهم حتى خانوا وادخروا ورفعوا.
وروي عن عمار بن ياسر أنه قال: كان عليها ثمر من ثمار الجنة.
قال مجاهد: إنما هو مثل ضربه الله لينتهوا عن مسألة النبي، ولم ينزل الله عليهم شيئا. وقيل: لما قيل لهم: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} الآية، استعفوا، فلم ينزل عليهم شيء، قال ذلك الحسن. وقال مجاهد: أبوا ذلك حين عرض عليهم العذاب.
والذي عليه أكثر العلماء أن الله أنزلها عليهم، لقوله {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، ولا يجوز(3/1943)
أن يخبر أنه ينزلها، ثم لا ينزلها.
ومعنى {مِّنَ العالمين}: من عالمي زمانكم.
وكان نزول المائدة يوم الأحد، فلذلك اتخذوه عيداً.
والعذاب الذي أُوعِدوا به، قيل: هو متأخر إلى الآخرة. وقيل إنَّهم عُجِّل لهم ذلك في الدنيا بأنهم مسخوا قردة وخنازير.
وروي أن المائدة لما نزلت عليهم فرقوا أن تكون عقوبة وسخطاً، فقالوا: يا روح الله، كن أنت أول من يأكل منها، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، ولكن يأكل منها الذين طلبوها. فلم يأكلوا منها خوفاً أن تكون سخطاً عليهم، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والحاجة والزمنى والعمي والبرص، وكل مَن به داء، فقال لهم: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واذكروا اسم الله. فأكلوا حتى شبعوا وهم ألف وثلاث مائة، قاله سليمان.(3/1944)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
وقال مقاتل: كانوا خمسين ألفاً، وأفاقوا من كل دائهم.
قوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} الآية.
المعنى: واذكر إذ قال {الله}. وجماعة من المفسرين على أن الله أخبرنا أنه قال لعيسى حين رفعه إليه، قاله السدي وغيره.
وقيل: هو خبر من الله عما يكون في القيامة، قال ابن جريج: يقول ذلك لعيسى والناس يسمعون، فيراجعه بالإقرار والعبودية، فيعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان باطلاً.
ودَلّ قوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} على أنه يوم القيامة. و (إذ) - على هذا - بمعنى " إذا "، ويكون {قَالَ} بمعنى " يقول " كما قال: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] أي:(3/1945)
إذا (فزعوا) وإذ يفزعون.
والمسألة في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ} إنما هي على وجه التوبيخ للذين ادعوا عليه ذلك، وهم بنو إسرائيل.
واختار الطبري قول السدي أنه خبر قد كان حين رفعه الله إليه، لأن (إذ) {فِي} (الأغلب) من كلام العرب - لما مضى - فحَمْلُ الكلام على الاكثر الفاشي أولى، ولأن عيسى لا يشك - هو ولا أحد من الأنبياء - أن الله لا يغفر لمن مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أنه قال في الآخرة - مجيباً لربه إذ سأله عمن اتخذه (هو) وأمه إلهين {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118].(3/1946)
ووجه سؤال الله لعيسى عما قد علم أنه لم يفعله: هو على معنى تنبيه المسؤول على الاستعظام، كقولك للرجل: " أفعلت كذا وكذا؟ " - وأنت تعلم أنه لم يفعله - / ليستعظم فعل ما قد سألته عنه، وقيل: إنما سأله عن ذلك على وجه إعلامه أن أمته قد فعلت ذلك بعده، فأعلمه حالهم بعده.
ومعنى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك حتى تُطلِعَني عليه، {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} أي: علام الخَفِيّات من الأمور. وقيل: المعنى: تعلم حقيقتي ولا أعلم (غيبك) ولا حقيقتك.
والنفس - في كلام العرب - يجري على ضربين:
على النفس التي بخروجها يكون الموت، كقولك: " خَرَجَت نفسُ فلان " أي: مات.
ويكون جملة الشيء وحقيقته، تقول: " قَتَل فلان نفسَه "، فليس المعنى (أن) الهلاك وقع ببعضه، إنما وقع بذاته كلها وحقيقته. وأجاز بعضهم الوقف على (ما(3/1947)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
ليس {لِي}، ويكون {بِحَقٍّ} متعلقاً بـ {عَلِمْتَهُ} على معنى: فقد علمته بحق، ورد ذلك بعضهم، لأن التقديم والتأخير لا يجوز إلا بتوقيف أو فيما {لاَ} يمكن إلا ذلك.
والتمام عند نافع وغيره {بِحَقٍّ}. وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وقف عليه.
قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ} الآية.
قوله: {أَنِ اعبدوا الله}: (أن) مفسرِّة لا موضع لها من الإعراب، بمنزلة (أَنِ امْشوا)، وقيل: هي في موضع نصب على معنى: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله.(3/1948)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قوله: {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}: (ما) في موضع نصب، {وَ} المعنى: مدة دوامي، فهو ظرفٌ عَمِلَ فيه {شَهِيداً} أي: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}، {مَّا دُمْتُ} أي: مدة دوامي. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي: قبضتني إليك، {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: الحفيظ عليهم.
قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية.
المعنى: إن تعذبهم بقولهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوبتهم عما قالوا فتستر عليهم، {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} في انتقامك، {الحكيم} في أفعالك.
وقال السدي: المعنى: إن تعذبهم فتميتهم على نصرانيتهم فيحق عليهم العذاب(3/1949)
فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصارنية وتهديهم إلى الإسلام، فإنك أنت العزيز الحكيم، قال: هذا قول عيسى في الدنيا.
وقال بعض أهل النظر: يكون هذا من عيسى في القيامة وإنما يقوله على التسليم لأمر الله، وقد أيقن أن الله لا يغفر لكافر، ولكنه سلم الأمر، ولم يكن يعلم ما أحدثوا بعده: أكفروا أم لا.
قال ابن الأنباري: لم يقل هذا عيسى وهو يقدّر أن الله يغفر للنصارى إذا ماتوا مصرين على الكفر، لكنه قاله على جهة تفويض الأمر إلى ربه، وإخراجِهِ نَفْسَه من حالة الاعتراض.
والمعنى: إن غفرت لهم، لم يكن {لِي} و {لاَ} لأحذ الاعتراض عليك من حكمك، وإن عذبتهم (فبعدل) منك، ذلك لكفرهم.
وقيل: الهاء في {تُعَذِّبْهُمْ} للبعض الذين أقاموا على الكفر، والهاء في {(وَ)(3/1950)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
إِن تَغْفِرْ لَهُمْ} للبعض الذين تابوا من الكفر. وقيل: الهاءات كلها للنصارى والكفار، والمعنى: إن تعذبهم بتركك إياهم على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوفيقك إيّاهم للإيمان والتوبة فأنت العزيز الحكيم.
قوله: {قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} آية.
حكي عن المبرد أنه منع قراءة من نصب (يوماً)، قال: لأنه (خبر الابتداء) والنصب جائز عند غيره، لأن المعنى: قال الله هذا لعيسى في {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} /، ف (يوم) ظرف للقول، وهو الناصب له.
وقيل: المعنى: هذا الأمر وهذا الشأن في {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} أي: في يوم(3/1951)
القيامة، فيكون العامل في (يوم) المضمر، وهو " الأمر " و " الشأن ".
وقيل: هذا كله مقول يوم القيامة، لقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] ولقوله: {قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين}.
وقال بعض أهل النظر: لم يقصد عيسى إلى (أن الله) يغفر لمن مات مشركاً، وإنما مقصده: وإن تغفر لهم الحكاية عني (التي) كذبوا علي فيها، والحكاية كذب، ليست بكفر، والكذب جائز أن يغفره {الله}.
وهو - عند الكوفيين - بناء: لأنه مضاف إلى غير متمكّن، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الفعل معرب، وإنما يبنى إذا أضيف إلى غير معرب كالماضي و " إذ " وشبه ذلك، والإضافة عند البصريين في هذا إنما هي (إلى المصدر).(3/1952)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
وقال أبو اسحاق: حقيقته الحكاية.
ومعنى {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ}: الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة، لأن الآخرة ليست بدار عمل، ولا ينفع أحداً (فيها) ما قال وإنْ أحسن، ولو صدق الكافر (وأقر) بما عمل، وقال: " كفرت " (أو أسأت)، ما نفعه. وإنما الصادق ينفعه صدقه الذي كان منه في الدنيا، (لا) في الآخرة.
قوله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ} أي: لهم في الآخرة - بصدقهم في الدنيا - جنات مخلدين فيها.
{رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ وفّى لهم بوعده.
قوله: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية.
المعنى: لله - أيّها النصارى - ملك السماوات والأرض وما فيهنّ، دون عيسى(3/1953)
الذي جعلتموه وأمّه إلهين، وعيسى وأمُّه داخلان في المُلك، وهو يقدر على إفناء ذلك كما ابتدعه وأظهرَه قبل أن لم يكن شيئاً.
وفي وصل (قدير) بـ (الحمد {للَّهِ} خمسة أوجه:
الأول: المستعمل عند القراء: أن تكسر للتنوين، وتحذف ألف الوصل وتصل.
الثاني: أن تحذف التنوين لالتقاء الساكنين وتصل.
والثالث: أن تُلقي حركة ألف (الحمد) على التنوين فنفتحه، كأنك تنوي الابتداء بـ (الحمد).
والرابع: أن تسكن الراء وتبتدئ (الحمدُ للهِ) بالقطع، وهذا مستعمل عند القراء أيضاً.
والخامس: أن تنوّن وتقطع ألف (الحمد) لتدل على الانفصال.(3/1954)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
"قال أبو محمد": روى أنس بن مالك عن النبى - صلى الله عليه وسلم - (أن) سورة الأنعام نزلت ومعها موكب من الملائكة، سد ما بين الخافقيّن، لهم زَجَل بالتسبيح، والأرض لهم ترتج، ورسول الله يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات.
قال ابن عباس: نزلت بمكة جملةً، ومعها سبعون ألف ملك حولها.(3/1955)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
بالتسبيح وعن ابن عباس: نزلت ليلا بمكة, وحولها سبعون ألف ملك (يجأرون) حولها بالتسبيح.
قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية.
المعنى: الحمد الخالص الكامل لله. ومُخرج الكلام مخرج الخبر، ومعناه الأمر، أي: أخلصوا الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وهي من أعظم الآيات، وأضاف إلى ذلك - من آياته - إظلام الليل وضياء النهار.
قال قتادة: " خلق السماوات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار ".
ومعنى: {وَجَعَلَ} هنا، خلق، وإذا كانت بمعنى " خلق "، لم تتعد (إلا)(3/1956)
إلى مفعول واحد.
وقوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الآية.
{ثْمَّ} لغير مُهلَة، لأن الله قد قضى الآجال كلها قبل خلق كل / شيء، وإنما {ثْمَّ} لإتيان خبر بعد خبر، لا لترتيب زمان بعد زمان.
ومعناه: أن الله يعجب خلقه من هؤلاء الذين يجعلون لله عديلاً ومثيلاً ومساوياً، وهو خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ومن جعلوه عديلاً لا يقدر على شيء من ذلك ولا من غيره، فذلك عجب من فاعله.
وقيل: إنها نزلت في (المانية) الذين يعبدون النور والظلمة يقولون: الخير من النور، والشر من الظلمة، فعدلوا بالله خلقه، وعبدوا(3/1957)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
المخلوقات.
(و) ذكر (عن) عبد الله بن أبي رباح أنه قال: فاتحة التوراة، فاتحة الأنعام: {الحمد للَّهِ} إلى {يَعْدِلُونَ} قال: وخاتمة التوراة خاتمة هود {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
قال مجاهد: {يَعْدِلُونَ} يشركون.
وهذه الآية نزلت في أهل الكتاب عند جماعة من المفسرين. وقال أكثرهم: (عني) بها المشركون من عبدة الأوثان وسائر أصنافهم.
قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} الآية.
المعنى: أن الله خلق آدم من طين، فخوطب الخلق بذلك، لأنهم ولده، وهو أصل لهم، قال قتادة ومجاهد والسدي. قال ابن زيد: خلق آدم من طين، ثم خُلقنا(3/1958)
من آدم حين أخرجنا من ظهره.
وقيل: المعنى: أن النطفة من طين، لكن قَلَبهَا الله تعالى ذكره حتى كان الإنسان منها.
وقوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ}.
الأجل الأول: أجل الإنسان من حيث يخرج إلى الدنيا إلى أن يموت، والأجل الثاني: هو ما بين وقت موته إلى أن يُبعث، قاله قتادة والضحاك والحسن. وقال ابن جبير: الأول الدنيا، والثاني الآخرة. وكذلك قال مجاهد. وقال عكرمة: الأول: الموت، والثاني: الآخرة، كالقول الأول، وكذلك قال ابن عباس، وقاله السدي.
و {ثُمَّ} - على هذه الأقوال كلها - يراد بها التقديم للخبر الثاني على الأول.
كما قال الشاعر:
قُل لِمَنْ ساد ثمَّ ساد أَبوهُ ... ثُمَّ قَدْ سادَ بَعْدَ ذَلَكَ جَدُّه(3/1959)
فالجد سابق للأب، والأب سابق للمدوح.
وقيل: الأول قبض الروح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت، روي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقيل: معنى ذلك أن الأول هو ما أعلمنا (أَلاَّ نبَيَّ) بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والآخر هو القيامة. وقيل: الأول ما نعرفه من الأهِلّة وأوقات الزروع ونحو ذلك، والأجل الثاني: موت الإنسان متى يكون. ومعنى {ثُمَّ قضى أَجَلاً} لم يرد أنه قضى الأجل خلق آدم، بل الأجل قَضاهُ قبل خلق المخلوقات كلها، ولكن الكلام محمول على الخبر من الله جل ذكره لنا، كأنه قال: أخبركم أن الله خلقكم من طين، يعني آدم، ثم أخبركم أن الله قضى أجلاً قبل خلقه لآدم، ف (ثم) إنما دخلت لنسق الخبر الثاني على الأول، لا لوقت الفعلين.
وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} معناه: تشكون (في من) خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وقضى أجل الموت وأجل الساعة، إنه إله واحد قادر، لا عديل له ولا شبيه.(3/1960)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
وقوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً} وقف حسن عند نافع وغيره من النحويين.
فسوف يأتيهم (أخبار) تكذيبهم، وهي ما حل عليهم من الأسر والسيف يوم بدر، وفتح (مكة) وغير ذلك، ومعناه: سوف يعلمون ما تؤول إليه أمورهم.
قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} الآية.
والمعنى: ألم ير هؤلاء المكذبون بمحمد، كم أهلكنا من قبلهم من القرون، وهي الأمم الخالية، مُكّنوا في الأرض ما لم يمكن لهؤلاء، وأرسلت السماء عليهم مدراراً، وفجرت العيون من تحتهم. ومعنى مدراراً (أي) (غزيراً دائمة)، فأعطت الأرض ثمارها، فعصوا، فأهلكوا بعصيانهم. وهذا وعظ وتخويف من الله(3/1961)
لمن كذب بمحمد ألا يصيبهم ما أصاب من هو أقوى منهم وأمكن في البلاد منهم وأطغى منهم.
والقرن: ستون عاماً. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. وقيل: مائة. وقيل: القرن كل عالم في عصر، وهو مأخوذ من الاقتران، لأن بعضهم مقترن ببعض، فهذا يدل على أنه العصر.
قوله: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً - آخَرِينَ}: أي: أحدثنا، ومعنى الخطاب في الآية في قوله: {لَّكُمْ} - وقد تقدم ذكر الغيبة في قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} - أن العرب إذا أخبرت خبراً عن غائب - فأدخلت فيه قوماً - وجهت الخبر أحياناً إلى الغائب وأحياناً إلى المخاطب، فيقولون: قلت لعبد الله: " ما أكرمه "، وإن شئت: " ما أكرمك "، وهو مثل:(3/1962)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} الآية.
قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ} الآية:
معنى الآية: أن الله أعلم نبيه أن هؤلاء المكذبين لا ينفعهم شيء من الآيات، (و) لا يرجعون عن جحودهم، وأنهم لو رأوا كتاباً نزل (عليهم) من السماء في قرطاس ولمسوه بأيديهم، ورأوا فيه صدق ما جئتهم به، لكفروا به وقالوا: هذا سحر مبين.
قال ابن عباس: لو نزل من السماء صُحُف فيها كتاب لزادهم ذلك تكذيباً.
روي عن نافع أن الوقف على {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}، وهو بعيد عند غيره، لأن {لَقَالَ} جواب (لو).
قوله: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} الآية.
المعنى: أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا لمحمد: هلا أنزل عليك ملك في صورته يصدقك ويخبرنا بنبوتك، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} أي: لو فعلنا فكفروا(3/1963)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
وكذبوا لنزل (عليهم) العذاب، فقضى أمرهم ولا يؤخرون.
وقيل: المعنى: لو رأوه / في صورته لماتوا، قاله ابن عباس. وقد قال في " الفرقان " عنهم إنهم قالوا {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: هلا كان ذلك.
{بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} قوله (تعالى): {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} الآية.
المعنى: لو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لجعلناهُ في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون مخاطبة الملك على هيئته، ولا يرونه.
قال ابن عباس: معنى {لَّقُضِيَ الأمر} أي: لو رأوه لماتوا من صورته، ولا يخاطبهم إلا مَن هو في صورة الآدمي، فإذا كان رجلاً كان ذلك أكثر لبساً عليهم(3/1964)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
فيقولون: هو ساحر كذاب.
قال أبو إسحاق: كانوا يقولون لضعفتهم: إنما محمد بشر، لا فرق بينكم وبينه، فيلبسون عليهم بهذا، فأعلم الله نبيه أنه لو أنزل ملكاً لأنزله في صورة رجل، إذ كانوا لا يقدرون على رؤية الملك في صورته كما سألوا، ولكان يقع عليهم من الّلبس ما وقع عليهم في محمد.
يقال: " لَبَسْتُ الأَمرَ ": (أي) أشكلته وشبهته، أي: أدخلت فيه الشبه. ومُخرج قوله: {وَلَلَبَسْنَا} مُخرج قوله: {يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] لأنه مجازاة لفعلهم، فسمي باسمه، وليس به.
قوله: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} الآية.
المعنى أن الله جل ذكره سَلّى نبيه ليهُوَّن ما يلقى من المشركين، وأعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما حل بالأمم الماضية الذين استهزأوا برسلهم.
ومعنى " فحاق بهم ": أي: وجب ونزل وأحاط بهم ما كانوا يُنكرون، وهو العذاب.(3/1965)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
والمضمر في {مِنْهُمْ} يعود على الرسل، وتقديره: فحاق بالذين سخروا من الرسل عقاب ما كانوا يستهزئون.
قوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا} الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله غيره، المكذبين بك: سيروا في الأرض، أي: جولوا فيها، تروا ما (صار) إليه عاقبة أشكالهم من الناس - الذين كذبوا الرسل - من العذاب والهلاك فتحذروا (أن يصيبكم) مثل ما أصابهم.
قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض (قُل للَّهِ)} الآية.
قوله {الذين خسروا} في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من المضمر في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}، وهو قول الأخفش. وقيل: إن(3/1966)
{لَيَجْمَعَنَّكُم} بدل من {الرحمة} على معنى التفسير لها.
ورد المبرد قول الأخفش، وقال: لا يجوز أن يبدل من المخاطب إلا المخاطب، لو قلت: " مَرَرْت بك زيدٍ "، و " مررت بي زيد " لم يجز، لأن هذا لا يُشكِل فيُبيَّن، ولكنه مرفوع بالابتداء، و {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} الخبر.
وقال ابن قتيبة: {الذين} في موضع خفض على البدل أو النعت " للمكذبين " الذين تقدم ذكرهم.
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين المكذبين {لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} أي: لمن ملك ذلك؟، وليس لهم جواب عن ذلك، فكأنهم طلبوا الجواب من السائل، فقالوا لمن ذلك؟، فقيل لهم: {للَّهِ}، فصار السؤال والجواب من جهة واحدة في الظاهر والجواب إنما هو (جواب) لسؤال مضمر، لأنهم عجزوا عن الجواب فقالوا: لمن ذلك؟، فأجيبوا: {للَّهِ}، أي: هو للهِ، فأخبرهم أن ذلك للهِ، وأعلمهم أن الله كتب على نفسه الرحمة لعباده، فلا يعجل عليهم بالعقوبة، فتوبوا إليه.
روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " كَتَب اللهُ كِتاباً قبلَ الخَلْقِ: إن رَحْمَتي(3/1967)
تَسْبِقُ غَضَبِي ".
وعن سلمان أن الله لما خلَق السماء و (الأرض)، خلقَ مائةَ رحمة، كلُّ رحمةٍ تملأُ ما بين السّماء والأرضِ، فَعِندهَ تِسعٌ وتسعونَ رحمةً، وقَسَّمَ رحمةً بينَ الخلائقَ، (فبها يتعاطفون)، فإذا كان ذلك - يعني يوم القيامة - قَصَرها الله على المتقين، وزادهم تسعاً وتسعين. وعن سلمان قال: نجد ذلك في التوراة.
وروى الحكم بن أبان عن عكرمة قال: إذا فَرَغ الله عز وجل من القضاء بين خَلْقه، أخرج كتاباً من تحتِ العرش فيه: (أن رَحْمَتِي سَبَقَت غضبي وأنا أرحمُ الراحمين). قال: فيَخْرُجُ من النار مثل أهل الجنة، أو مِثْليْ أهل الجنة، مكتوباً ها هنا - وأشار الحكم إلى نحرِهِ - " عُتَقاء اللهِ ". فقال رجل لعكرمة: فإن الله يقول: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37]. قال عكرمة: أولئك أهلها(3/1968)
" الذين هم أهلها ".
وعن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن لله مائة رحمةٍ، أهبط منها رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجِنُّ والإِنسُ وطائرُ السماءِ، وحيتان الماء، ودوابُّ الأرض وهوامُّها، وما بين الهواء، واختزن عنده تسعاً وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، فحَولها إلى ما عنده، فجعلها في قلوب أهل الجنة، (و) على أهل الجنة.
فمعنى {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة}: أمهلكم إلى يوم القيامة، لأن معنى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أي: يُمهلكم حتى يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.
ومعنى {كَتَبَ} هنا: قضى.(3/1969)
وقيل: {إلى} بمعنى " في "، أي: ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل: المعنى ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة، ف (إلى) لغير معنى " في ".
واللام في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لام قسم، جواب لِ {كَتَبَ}، لأن {كَتَبَ} بمعنى " أوجب " والقسم إيجاب، (فاحتاج الايجاب إلى جواب، إذ هو بمعنى القسم في الإيجاب)، وله نظائر كثيرة في القرآن تقاس على هذا.
والوقف على {الرحمة} حسن عند أبي (حاتم والفراء)، ويكون {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} مبتدأ على القسم على قولهما.
وقيل: إن {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بدل من (الرحمة)، فلا يوقف على (الرحمة)، ومعنى(3/1970)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
البدل أن اللام بمعنى " أن "، فالمعنى: الرحمة: أن يجمعكم، أي: كتب ربكم على نفسه أن يجمعكم. ومثله على مذهب سيبويه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ (مَا) رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّه} [يوسف: 35] المعنى: أن يسجنوه، ف " أن " الفاعلة، ومثله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ} [الأنعام: 54] في قراءة من فتح (أن).
قال نافع: {قُل للَّهِ} تمام. {لاَ رَيْبَ فِيهِ}: وقف حسن عند نافع وغيره.
قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} الآية.
المعنى: وقل لهم - يا محمد -: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} أي: ما استقر، فكيف تعدلون به وتشركون بمن له الخلق والأمر.(3/1971)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} الآية.
المعنى: قل (لهم) يا محمد: أغير الله أتخذ ولياً وهو فاطر السماوات (والأرض)، أي: مبتدعهما وخالقهما.
قال ابن عباس: كنت لا أدري ما {فَاطِرِ السماوات والأرض}، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: " أنا فطرتها ": (أي) ابتدأتها.
وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: (ولا يَطعم) بفتح الياء، وقرأوا الأول مثل الجماعة على معنى: وهو يَرزقُ ولا يأكل. وقرأه الجماعة على معنى: " وهو يَرزق ولا يُرزق ".
وقوله: (تعالى): {إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي: قل لهم يا محمد: إني أمرت(3/1972)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
أن أكون أول من خضع بالعبودية، وقيل: (لي: لا) تكونن من المشركين.
وقال بعض العلماء قوله: {أُمِرْتُ} بدل من " قيل لي: كن أول من أسلم و (قيل لي): لا تكونن من المشركين "، فالثاني محمول على معنى الأول، اجتُزئ بذكر. الأمر عن ذكر / القول، والمعنى: قل " إني قيل لي: كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين ". فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. والوقف على (الأرض) حسن، وعلى (يُطعَم حسن.)
قوله: {قُلْ إني أَخَافُ} الآية.(3/1973)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
المعنى: (قل) يا محمد لهؤلاء الذين لا يخافون: {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: هائل شديد.
قوله: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} الآية.
من قرأ {يُصْرَفْ} بضم الياء وفتح الراء، فعلى ما لم يُسمَّ فاعله. ومن فتح الياء وكسر الراء، فعلى إضمار، والتقدير: " من يَصرِف اللهُ عنه العذاب " يومئذ.
والأول أحسن عند سيبويه، لأن الإضمار كلما قل كان أحسن. فتقدير من ضم الياء: من يُصرَف عنه يومئذ فَقد رحِمَه اللهُ، ففي {يُصْرَفْ} ذكر العذاب المتقدم، ويضمر الاسم بعد (رحمه)، وفي الفتح يضمر الاسم والعذاب جميعاً.(3/1974)
وقيل التقدير - في قراءة من فتح الياء - مَن يَصرف (الله) عنه شرَّ يومئذ، ثم حذف المضاف.
وفي قراءة عبد الله وأُبيّ: (من يصرف الله عن يوم القيامة)، وهذا شاهد لمن قرأ بالفتح.
واحتج بعضهم لقراءة من فتح الياء أنه قريب من اسم الله، كأن تقديره: من يَصرف ربّي (العذاب عنه) فقد رحمه، واحتج أيضاً بقوله: {فَقَدْ رَحِمَهُ} ولم يقل: (" فقد رُحم ")، فجريان آخر الكلام على أوله أحسن من مخالفته لأوله. قال: ولو قلت: " من وَهَب لك درهماً فقد أكرَمَك "، كان أحسن من أن تقول: " من وُهِبَ له درهم فقد أكرمه "، وقولك: " من يؤخذ منه ماله، فقد ظُلم " أحسن من قولك " من يؤخذ منه ماله فقد ظَلَمه "، وهو بعيد في الكلام وكذلك من قرأ: (" من " يُصرَف عنهُ يوْمَئذ فَقد رَحَمِه.(3/1975)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
وقراءة الفتح اختيار أبي عبيد وأبي حاتم على معنى: من يصرف الله عنه يومئذ عذابه فقد رحمه.
{وَذَلِكَ ا}: إشارة إلى صرف العذاب. و {الفوز}: النجاة من الهلاك، والظفر بالمطلوب، {المبين} (أي) الظاهر لمن وفقه الله.
قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} الآية.
المعنى: إِن يمسك (الله) - يا محمد - بضر، فلا يكشفه إلا هو، (و) الضر - هنا -: الشدة في العيش والضيق، {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} أي: برخاء في عيش وسَعَة، فهو على ذلك وغيره قدير.
قوله {إِلاَّ هُوَ} تمام حسن.
قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} الآية.
المعنى: والله المُذلّل لعباده، العالي عليهم علّو قدرة وقهر،(3/1976)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
لا (علو) انتقال من سفل، بل استعلى على خلقه بقدرته فقهرهم بالموت وبما شاء من أمره، لا إله إلا هو. ولمّا وصف نفسه تعالى بأنه المذل القاهر، ومن صفة القاهر أن يكون مستعلياً، قال {فَوْقَ عِبَادِهِ}، {وَهُوَ الحكيم} أي: في علوه، {الخبير} بمصالح عباده.
قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة} الآية.
{أَيُّ} اسم مبهم معرب، وإنما أُعرِب دون سائر المبهمات لعلتين:
- إحداهما: أنه قد أُلزم الإضافة فخالف سائر المبهمات، والمضاف إليه يَحل محل التنوين فيه، إذ لزمه ما هو عِوضٌ من التنوين، وإذا قدر التنوين فيه وجب إعرابه، لأن التنوين علامة للأمكن، والأمكنُ لا يكون إلا معرباً.
- والوجه الآخر: أنه مخالف لسائر المبهمات، لأنه يدل على البعض المعيّن،(3/1977)
فإذا قلت: " أيُّ الرجليْن أتاك "؟، فالذي تسأل عنه داخل في " الرجلين "، وليس ذلك في " ما " و " من ".
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين جحدوا نبوتك: أي: شيء أعظم شهادة؟، ثم أخبرهم بأن الله أعظم شهادة ممن يجوز عليه السهو والغلط والكذب والخطأ من خلقه. وقيل: المعنى: سلهم يا محمد: أي: شيء أكبر شهادة حتى أستشهد به عليكم؟.
(و) قال الكلبي: قال المشركون - من أهل مكة - للنبي: من يعلم أنك رسول الله فيشهد لك، فأنزل الله {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أني رسوله، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}.
والله - جل ذكره - شيء بهذه الآية، لكنه شيء لا كالأشياء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن} (أي وقل لهم: أوحي إلي هذا القرآن) لأنذركم(3/1978)
به عقاب الله، {وَمَن بَلَغَ}: (أي) وأنذر به من بلغه ذلك بعدي.
قال محمد بن كعب القرطبي: من بلغته آية فكأنما رأى الرسول.
قال ابن عباس: " من بلغه هذا القرآن فهو له نذير ".
ف {من} في موضع نصب. وقيل: المعنى في {وَمَن بَلَغَ}: أي: وأنذر من بلغ الحلم، لأن من لم يبلغ الحلم، فليس بمخاطب ولا متَعَبد. والقول الأول: " إن معناه: ومن بلغه القرآن "، وهو أولى.
وقال مجاهد {وَمَن بَلَغَ} أي: من أسلم. وقيل معناه: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ} أيها(3/1979)
العرب {وَمَن بَلَغَ} أي: العجم، كقوله: {بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2] يعني العرب، ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} [الجمعة: 3] أي: من الذين أرسل إليهم، يعني العجم.
(و) قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهءَالِهَةً أخرى}: هذا على التوبيخ لهم. ثم قال لنبيه: قل يا محمد لا أشهد بما تشهدون، إنما هو إله واحد، وإنني بريء من إشراككم بربكم.
(و) روى ابن عباس " أن طائفة من اليهود قالوا للنبي: يا محمد، ما نعلم مع الله إلهاً غيره!، فقال رسول الله: لا إله إلا الله، بذلك بُعثت وإلى ذلك أدعو "،(3/1980)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
فأنزل الله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
ووقف نافع: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة}. والتمام عند الجماعة {وَمَن بَلَغَ}.
قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} الآية.
(معنى ذلك أن أهل الكتاب - هنا - (هم)) اليهود والنصارى. ومعنى {يَعْرِفُونَهُ}: أي: يعرفون أن دين الله الاسلام، وأن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وهو عندهم في التوراة والانجيل.
وقيل: المعنى: يعرفون محمداً كمعرفتهم أبناءهم. وقد قال بعض من أسلم من أهل الكتاب: والله لنحن أَعَرفُ به من أبنائنا، لأن صفته ونعته في الكتاب، وأما أبناؤنا فلسنا ندري ما أحدث النساء فيهم.(3/1981)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
وقيل: المعنى يعرفون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله.
وقيل: يعرفون القرآن.
وأكثر العلماء على أن الهاء تعود على النبي.
وقوله: {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: أوبقوها في النار بإنكارهم محمداً، {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بخسارتهم أنفسهم.
و {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ}: تمام إن جعلت {الذين} مبتدأ.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية.
المعنى: من أشدُّ ظلما ممن اختلق على الله قول الباطل، أو (جحد آياته)(3/1982)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
وأدلته، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي: لا ينجح القائلون على الله الباطل.
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الآية.
المعنى: أن هؤلاء المفترين على الله الكذب لا يفلحون في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعاً (أي) ولا يوم القيامة، ففي الكلام تقدير محذوف.
ومعنى: {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (أي تزعمون) " أنهم (لكم آلهة) من دون الله افتراءً وكذباً ".
وقال القتبي: المعنى أين آلهتكم التي جعلتموها لي شركاء، فنسبها إليهم، لأنهم ادعوها أنها شركاء لله.(3/1983)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الآية.
قرأ ابن مسعود وأبي (وما كان فتنتهُم) بالرفع.
ومن (قرأ) تكن بالتاء، ونصب " الفتنة "، فإنما أنَّث، لأن " القول " هو " الفتنة "، فأنث على المعنى، وهو مذهب سيبويه.
وقيل: إنما أنت، لأن {إِلاَّ أَن قَالُواْ} بمنزلة " مقالتهم " فأنث على ذلك. و (قد قرئ) برفع " الفتنة "، والياء في (يكن) على المعنى، لأن " الفتنة بمعنى " الفتون ".(3/1984)
ومعنى {فِتْنَتُهُمْ}: مقالتهم. وقيل: معذرتهم إلا أن أقسموا بالله ربهم إنهم لم يكونوا مشركين.
ومعناه عند أبي إسحاق أن المشركين افتتنوا بشركهم في الدنيا، فأخبر الله عنهم أن فتنتهم التي كانت في الدنيا عادت انتفاء من الشرك، وهذا مِثْل إنسان يرى (محبّاً له) في هَلكة فيتبرأ منه، فيقال له: صارت محبتك (تبرؤا).
واختار الطبري قراءة النصب في (ربَّنا)، لأنه جواب من المشركين الذين قيل لهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُم} [الأنعام: 22]؟، فنفوا عن أنفسهم أن يكونوا فعلوا ذلك وادعوه أنه ربهم كان فنادوه، ولذلك قال لمحمد: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الأنعام: 24].
وإنما قصدوا إلى نفي الشرك عن أنفسهم دون سائر الذنوب والكبائر، لأنهم(3/1985)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
رأوا أن كل شيء يغفرُهُ الله إن شاء إلا الشرك، فنفوه عن أنفسهم رجاء أن يغفر لهم ما ارتكبوا دون الشرك، ودل على ذلك قوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] (فدل هذا) على أن ما دون الشرك مغفور إن شاء الله، ذلك: إما بتوبة وإقلاع، وإما بفضل من الله ورحمة.
قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} الآية.
معنى النظر هنا: هو نظر القلب " معناه: تَبيَّنْ فاعلم كيف كذبوا في الآخرة ".
وقوله: {كَذَبُواْ} معناه: يكذبون، إلا أنه لما كان أمراً يقع بلا شك، أخبر عنه بمثل ما يخبر (عما) وقع.
ومعنى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: وفارقتهم الأنداد والأصنام، وتبرأوا منها. وقيل: (معناه) ذهب عنهم ما كانوا يختلقون.(3/1986)
قال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا (تعالوا) فلنجحد ما كنا فيه، فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثاً، فود الذين كفروا حين ذلك لو تسوى بهم الأرض، و {لاَ يَكْتُمُونَ} حديثاً.
وقال ابن جبير: لما أمر بإخراج من دخل النار من أهل التوحيد، قال من فيها من المشركين: تعالوا فلنقل " لا إله إلا الله " لعلنا نخرج من هؤلاء. فقالوا، فلم يُصَدّقوا، فحلفوا فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.
وقال قطرب: إنهم لم يتعمدوا الكذب، ولكنهم قالوا ما قالوا وهم عند أنفسهم صادقون، لكنهم كاذبون عند الله، ولذلك قال: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ}.
والذي يدل على خطأ قول قطرب قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا(3/1987)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]. فلم (يحلفوا للنبي) قط إلا وهم يعلمون أنهم كاذبون، وقد أخبر الله أن (اليمينين متساويتان). وقوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} يدل على أنهم تعمدوا الكذب.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية.
المعنى: ومن هؤلاء المختلقين على الله الكذب من يستمع القرآن منك يا محمد - قال مجاهد: هم قريش - ويستمع كل واحد ما تدعوه إليه من الإيمان، فلا ينفعه ذلك، ولا يَعِيهِ، ولا يتدبره، ولا يعقله عنك، لأن الله جعل على قلبه كنانا، أي / غطاء، وجمعه أكنة، وجعل في آذانهم وقراً عن ما تقول لهم(3/1988)
وتتلو عليهم. فعل ذلك بهم مجازاة لهم على كذبهم، وليس المعنى أنهم لا يسمعون ألبتة ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، كانوا بمنزلة الذي في أذنيه وقر، وعلى قلبه غطاء.
(و) قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} يريد أنهم رأوا القمر منشقاً، فقالوا: (سحر، ثم) أخبر عنهم أنهم إذا أتوا يجادلون قالوا: هذا سحر ((مبين)).
قوله: {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ((و)) {وَقْراً} تمامان عند الأخفش.
و {أَن يَفْقَهُوهُ} (تمام) عند غيره. و (بها) التمام الحسن عند أبي حاتم.(3/1989)
ومعنى {أساطير الأولين} أي: أحاديثهم. وقيل: أساجيع الأولين. وقيل: المعنى ما كتبه الأولون.
ومعنى جدالهم المؤمنين أن ابن عباس قال: كان المشركون يجادلون المسلمين في الذبيحة، يقولون لهم: ما ذبحتم وقتلتهم تأكلون، وما قتل الله لا تأكلون وأنتم تتبعون أمر الله.
(وواحد الأساطير " أسطورة " كأًُضْحوكة (وأُحدوثَة)، وقيل:) واحده " أَسْطار "، كأقوال، وأَسْطار جمع سَطَر، (يقال: سَطْر) وسَطَر. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، كأبابيل ومذاكير وعباديد، وقد قيل: إن واحد الأبابيل " إِبيّل ". وقيل: هو " إِبّوْل "، كِعَجَّوْلِ.(3/1990)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية.
المعنى أن الله أخبر عن المشركين أنهم ينهون الناس عن اتباع النبي والقبول منه، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يبعدون.
قال ابن عباس: لا يأتونه ولا يدّعون أحداً يأتيه. فالهاء - على هذا - تعود على النبي.
وقيل: المعنى أنهم ينهون [الناس عن] أن يستمعوا ما في القرآن، ويتباعدون هم عن استماعه، فالهاء للقرآن.
وقيل: المعنى: أنهم ينهون الناس عن أذى محمد، (ويتباعدون هم) عنه، أي: عن اتباعه.(3/1991)
(و) روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب عم النبي عليه السلام ونفر من كفار قريش كانوا ينهون ((الناس)) عن أذى النبي ولا يؤمنون به، ولا بما جاءهم به، وكان أبو طالب ينهى أن يؤذى محمد، ويتباعد عن قبول ما جاء به. وهذا يدل على أنها في قريش.
وكان الطبري يختار أن تكون عامة في المشركين، لأن أول الكلام جرى على العموم، فيكون المعنى على هذا: وهم ينهون الناس أن يتبعوه ويتباعدون عن اتباعه، وما {يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} أي: ما يهلكون بصدهم عنك إلا أنفسهم، لأنهم يكسبونها سخط الله {وَمَا يَشْعُرُونَ} (أن) ذلك راجع عليهم.
وقرأ الحسن {وَيَنْأَوْنَ (عَنْهُ)} بإلقاء حركة الهمزة على النون على(3/1992)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
أصل التسهيل.
قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} الآية.
من قرأ برفع (نكذبُ) و (نكونُ) فعلى القطع، (أي: يا ليتنا) نرد، ثم ابتدأ على معنى: ونحن لا نكذب. هذا قول سيبويه، والمعنى عنده: ونحن لا نكذب رُددنا أو لم نُردّ، فإنما سألوا الرد وقد أوجبوا على أنفسهم أنهم لا يعودون للتكذيب ألبتة، رُدوا أو لم يُردوّا، ومثله عند سيبويه: " دعني ولا أعود ": أي: وأنا لا أعود. تركتني أو لم تتركني.
ومن نصب فإنما أراد أن يكون " رد " يتبعه ترك عودة، كأنه في المعنى: إن رُددنا لم نعد للتكذيب. ومثله: " زرني وأزورَك "، (أي، لتكن(3/1993)
منك) زيارة وأن أزورَك، ولو رفعت لكان المعنى: وأنا أزورُك، زُرتَني أو لم تَزرْني.
ووجه آخر في الرفع، وهو أن يكون معطوفاً على (نُرد)، كأنهم تمنوا أن يردوا، وتمنوا (ألا) يكذبوا / وأن يكونوا من المؤمنين. والأول أحسن، لأنهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الرد وادعوا أنهم إذا رُدوا لم يكذبوا وكانوا من المؤمنين.
(والنصب) على جواب التمني، كأنه: يا ليتنا وقع لنا الردّ و (ألا) نكذب، فالواو في جواب التمني كالفاء، وقيل: المعنى في الرفع: لا نكذب واللهِ(3/1994)
ونكون - والله - من المؤمنين، وهو أيضاً منقطع.
وأنكر جماعة النصب، وقالوا: هو خبر أخبروا به عن أنفسهم، ألا ترى أن الله كذبهم فيما أخبروا به، والكذب لا يقع إلا في جواب الخبر.
وأنكر بعض النحويين أن يكون الجواب للتمني بالواو، وقالوا: إنما يكون بالفاء.
وأجاز أبو إسحاق أن يكون التمني داخلاً في الخبر، قال: لأن الرجل الفاسق (يقول): " ليتني في الجنة "، فيقال له: كذبت، لو أردت ذلك لاتقيت الله.
وقد قيل: إنه منصوب على الظرف، وإن معنى الكلام: أنهم تمنوا أن يوقفوا ((وهم) غير مكذبين، لأنهم وقفوا مكذبين، فتمنوا أن يوقفوا) على غير تلك الحال.(3/1995)
(والآية) عند أبي عمرو على التمني، ولا يجوز فيه صدق (ولا) كذب، وإنما كذب الله خبرهم، لا تمنيهم، وخبرهم هو قولهم: (ولا نكذب)، (ونكونُ)، (إن رددنا) فعلنا ذلك، فهذا خبر، فأكذبهم الله في ذلك الخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا في تمنيهم.
أو يكون المعنى - على الرفع - (ولا نكذبُ)، (ونكونُ): أي: نفعل ذلك، رُددنا أو لم نُردّ، فهذا خبر منهم، فأكذبهم الله في ذلك، التكذيبُ إنما هو للخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا للتمني.
وقال بعض النحويين: إنما يكون هذان الفعلان - في حال النصب - غير متمنَّيْن إذا كانا جواباً لِما في (ليتنا)، وتكون الواو الأولى بمعنى الفاء.
فأما(3/1996)
إن كانت الواو على جهتها، ونصبت على الظرف منويا به الحال، فالفعلان متمنَّيان، والتكذيب للتمني وقع.
ومن قرأ (ولا نكذّبُ) بالرفع، ونصب (ونكونَ)، فالمعنى: أنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبرَوا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إنْ رُدُّوا إلى الدنيا.
قوله {وَلَوْ ترى} فعل منتظر، وقوله و {إِذْ وُقِفُواْ}: فعلان ماضيان، وكذلك {فَقَالُواْ}، وكلها منتظرة لم تقع. وهو حسنٌ لطيف فصيح، غاية في البلاغة، لأن كل ما هو كائن - ولم يكن بعد - فهو عند الله بمنزلة ما قد كان، لصحة وقوعه على ما أخبر به عنه، ولِنفوذِ حكم الله به، وتقديره لوقوعه على ما أخبر به، فالكائن وغير الكائن سواء في علم الله.
وقوله {وُقِفُواْ} بمعنى: حُبسوا، و {عَلَى النار} بمعنى " في النار "، بمنزلة قوله:(3/1997)
{على مُلْكِ سليمان} [البقرة: 102] أي: في ملكه. وقيل: معنى {وُقِفُواْ عَلَى النار}: أُدخلوها، كما تقول: " قد وَقفتُ على ما عندك "، أي: عَرفتُ حقيقته. وقيل: أوها. وقيل: رأوها. وقيل: جازوا عليها.
و {إِذْ} بمعنى " إذا "، لأنه خبر لا بد أن يكون، فصارِ بمنزلة ما قد كان. يقال: " وقفتُ وقفاً للمساكين " و " وقفتُ أنا "، (وقِفْ) دابتك يا رجلُ.
وحكي عن أبي عمرو أنه قال: ما علمت أحداً من العرب يقول: " أوقفتُ الشيء " بالألف، إلا أني لو رأيت رجلاً في مكان فقلت له: " ما أَوْقَفَكَ ها هنا؟ بالألف، لرأيته حسناً. وفي الآية معنى التعظيمِ لِما هُم فيه.(3/1998)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} الآية.
المعنى: بل ظهر لهم في الاخرة من أعمالهم ما كانوا يخفون في الدنيا، {وَلَوْ رُدُّواْْ} إلى الدنيا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي: (لو وصل) الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما أخبروا به عن أنفسهم. فأعلمنا الله - في هذه الآية - أن ما لا يكون، كيف كان يكون، لو كان. وفي هذا دليل على قدم علمه بجميع الأشياء، لا إله إلا هو، لم يزل يعلم ما يكون كيف يكون، قبل كونه بلا أمد.
قوله: {وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} الآية.
أي قال هؤلاء المشركون: ماَثمَّ حياة إلا حياة الدنيا، وما ثَمَّ بعث بعد الفناء، وهذه حكاية عنهم، وما كانوا يقولون في الدنيا. وقال ابن زيد: هي خبر(3/1999)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
عنهم أنهم لو رُدّوا لقالوا ذلك، ولعادوا لما نهوا عنه.
وقد كره قوم الوقف على {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} لقبح اللفظ بنفي البعث، ولو صح هذا، لكان الوصل كالوقف، ولوجب امتناع القراءة بهذا اللفظ، وهو قول ساقطٌ مردود، فالوقف على {بِمَبْعُوثِينَ} جائز حسن عند أهل العربية، ولا شناعة فيه، إنما هو حكاية عن قول المشركين، وقد جهل من منع ذلك واستخف به.
قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق} الآية.
المعنى: ولو ترى يا محمد هؤلاء القائلين: " ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين "، إذ حُبسوا (على ربهم): أي: على حكم ربهم وقضائه وعدله فيهم، فقيل لهم، أليس هذا الحشر والبعث بعد الممات - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقاً؟، فأجابوا: بلى وربنا إنه لحق، قال: فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا جزاءً لكفركم وتكذيبكم.
وقال: {وَلَوْ ترى}، فأتى بالمستقبل لأنه أمر ينتظر يوم القيامة، ثم قال: (إذ): و " إذ " لما مضى وانقضى، وقال: (وَقِفوا) ف {قَالُواْ}، فجاء بفعلين ماضيين قد كانا،(3/2000)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
وإنما ذلك، لأن (كل ما) أعلمنا الله به أنه سيكون هو كالكائن الواقع، لصدق المخبِر بذلك ونفوذ علمه بكونه، فصار كالواقع الكائن، فأتى بلفظ الماضي.
قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} الآية.
المعنى: قد وُكس فيه بيعه من باع الإيمان بالكفر. وقيل: المعنى: " قد خسروا أعمالهم وثوابها ".
ومعنى لقاء الله هنا: أنه البعث والنشور اللذان عندهما يكون لقاء الله والمصير إليه.
ويجوز أن يكون معناه: كذبوا بلقاء ثوابه وعقابه - (وقد قيل) في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} [السجدة: 23] أي: في شك من لقاء موسى ربَّه وتكليمهِ له -، ولا يكون اللقاء في هذه الآية النظرَ إلى الله جل ذكره، لأنهم لم يؤمنوا بالبعث، فضلاً عن النظر إليه، وإذا لم يؤمنوا بالبعث، فأحرى ألا يؤمنوا بالنظر، لأن البعث يؤدي إلى(3/2001)
النظر إلى الله تعالى ذكره، يَرَاه المؤمنون يوم القيامة.
وقد يكون اللقاء بمعنى القرب والنظر في غير هذا.
ويكون اللقاء بمعنى السبب الذي يؤدي إلى اللقاء، مثل هذه الآية، ومنه قولهم: " اللهم بارك لنا في لقائك "، يراد به: بارك لنا في الموت الذي يؤدي إلى البعث الذي فيه لقاؤك، وقال الله: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله} [العنكبوت: 4] أي: يخاف الموت.
و {بَغْتَةً} نصب على الحال، وهو مصدر في موضع الحال عند سيبويه، ولا يقاس عليه غيره.
قوله: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}: هذا (حين) يرى أهل النار منازلهم من الجنة لو عملوا بعمل أهل الجنة، فيندمون على التفريط / في الدنيا، فيقولون: {يا حسرتنا} أي: تعال يا حسرة، فهذا وقتُك وإِبّانُكِ.
والهاء في (فيها) عائدة على الصفقة، وهي التي ذكرت قبل في قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} أي: خسروا ببيعهم الايمان بالضلالة، ومنازلهم في الجنة(3/2002)
بمنازلهم في النار، فإذا جاءتهم الساعة، تبين لهم خسران بيعهم، وندموا صفقتهم فقالوا: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي: في الصفقة؟
ويجوز أن تعود الهاء على {الدنيا} [الأنعام: 29]، لأن فيها كان تفريطهم.
وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} أي: " آثامهم وذنوبهم ". وخص " الظهر "، لأن الحمل قد يكون على غيره.
وروي عن عمرو بن القيس المُلائي أن المؤمن إذا خرج من قبره، استقبله أحسن شيء صورة، وأطيبُه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟، فيقول: لا، إلا أن الله قد طيّب ريحك وحسّن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طال ما ركبتك في الدنيا، فاركبني، أنت اليوم، وتلا(3/2003)
{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} [مريم: 85].
(وإن) الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟. فيقول: لا، إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك. فيقول: كذا كنت في الدنيا، أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك.
وتلا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ}. ورواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام بهذا المعنى، واللفظ مختلف.
وقال السدي: (قوله): {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ}: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلاّ جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون منتن الريح، عليه ثياب دَنِسَة حتى يدخل معه في قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك!، قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال ما أنتن ريحك!، قال: (كذلك كان) عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك! (قال كذلك) كان عملك دنساً. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك. فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال: إني كنت أحملك في الدنيا(3/2004)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ}.
وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة، بعث الله مع كل امرئ مؤمن عمله، ويبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئاً يروعه ولا شيئاً يفزعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر بالذي يسرك، فإنك لست بالذي يراد بهذا ". ولا يرى الكافر شيئاً يفزعه ولا يروعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر يا عدو الله بالذي يسوءك، فوالله (إنك) لأنت الذي (يراد بهذا) " ".
وقوله: {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} معناه: بئس الشيء يحملون.
قوله: {وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية.
هذه الآية تكذيب للكفار في قولهم: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] فأخبر الله تعالى أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأخبر أن الدار الآخرة خير، على معنى: ولَعَمَل الدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون.(3/2005)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} الآية.
المعنى: أن / (قد) في هذا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه، و (نعلم) بمعنى: " علمنا ". والتقدير: قد نعلم - يا محمد - إنه ليحزنك قولهم إنك كاذب، وإنك ساحر.
{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} جهلاً منهم بصدقك، بل أنت - فيما يسرون - صادق، ولكنهم حسدوك فكذبوك، وهم يعلمون أنهم ظالمون لك، وأنك صادق، هذا على قراءة من قرأ بالتشديد. قال أبو عمرو: وتصديقها {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ} [الأنعام: 34].
ومعنى قراءة التخفيف - عند الفراء والكسائي -: هو من قولهم: " أكذبت الرجل "، إذا أخبرت أنه كاذب فيما قال فقط. و " كذّبته ": إذا أخبرت أنه كاذب في كل(3/2006)
ما يأتي به.
وحكى أبو عبيدة: " أكذبت الرجل " إذا أخبرت أنه جاء بالكذب، و " كذّبته " إذا أخبرت أنه كاذب.
وروي أن أبا جهل قال للنبي: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ}.
ومعنى التشديد - عند غير هؤلاء - فإنهم لا ينسبونك إلى الكذب. ومعنى التخفيف فإنهم لا يجدونك كاذباً، كما يقال: " أحمدت الرجل "، إذا أصبته محموداً.(3/2007)
ويكون معنى التخفيف (أيضاً): لا يبيِّنون عليك أنك كاذب، يقال: " أكذبته "، إذا احتججت عليه وبيّنت (أنه كاذب)، وقال قطرب: " أكذبت الرجل ": دللت على كذبه.
وروي " أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله يوماً وهو جالس حزين، فقال له: ما يُحزنك؟، فقال: كذّبني هؤلاء. فقال له جبريل: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} هم يعلمون أنك صادق، {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} ".
ويروى أن الأخنس بن شريق الثقفي مر بأبي جهل (بن هشام) يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، (أصادق) هو أم كاذب؟ فأنه ليس هنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟!، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبؤة،(3/2008)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
فما يكون لسائِر قريش؟ فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} أي: عن يقين.
وقيل معناه: فإنهم لا يكذبونك ولكن يكذبون ما جئت به، (وروي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك، ولكن نتهم الذي جئت به).
قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} الآية.
وهذه (الآية) تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أعلم أنه قد حل برسل من قبله مثل ما حل به، فصبروا على التكذيب والأذى، فاصبر أنت يا محمد كما صبروا حتى يأتيك الصبر كما أتاهم.
(قوله): {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} أي: لما سبق في علمه، لا بد أن يكون.
{وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} أي: أتاك (نبأهم) أنهم كذبوا وأوذوا فصبروا(3/2009)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
حتى أتاهم النصر.
قوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} الآية.
المعنى: وإن كان يا محمد عظُم عليك إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك، فلم تصبر، فعظم عليك أن يعرضوا إذ سألوا أن تنزل عليهم ملكاً، {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض} أي: سرباً فتذهب فيه، {أَوْ سُلَّماً فِي السمآء} تصعد فيه، - (في) بمعنى " إلى " -، {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}، فافعل.
(و) السلم: المصعد هو مشتق من السلامة، كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد. وجواب الشرط هنا محذوف، المعنى فافعل ذلك.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى}.
أي على كلمة الحق، لفعل، ولكنه لم يفعل لسابق علمه أنه يهدي من(3/2010)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
يشاء ويضل من يشاء، فليس الاهتداء بفعل للعبد، بل هو لله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} أي: ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه، وهذا يدل على رد (قول) من زعم أنْ ليس عند الله لطف يوفق به الكافر حتى يؤمن.
وقيل: معنى الخطاب لأمة محمد، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين. ومثله في القرآن كثير.
قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} الآية.
المعنى: أن الله أعلم نبيه أنه إنما يستجيب لدعائه الذين فتح الله أسماعهم إلى سماع الحق، وسهل لهم اتِّباع الرشد.
{والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} أي: والكفار الذين هم عدد الموتى يبعثهم الله في عدد(3/2011)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
الموتى الذين لا يسمعون صوتاً ولا يعقلون قولاً، {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} في القيامة.
و {يَسْمَعُونَ} تمام عند الجميع.
وقال الحسن: المعنى: أن الكفار مثل الموتى، والله يوفق منهم من يشاء إلى الإيمان فيكون ذلك بعثهم من موتهم.
{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يوم القيامة.
وقال مجاهد: معناه: حين يبعثهم الله {يَسْمَعُونَ} يعني الكفار، أي: إذا وفقهم الله يسمعون.
قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} الآية.
أي قال هؤلاء العادلون بالله غيره: هلا نزل على محمد آية، أي: علامة، قل يا محمد: {إِنَّ الله (قَادِرٌ على) أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن الله إنما ينزل ما فيه الصلاح لعباده.(3/2012)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض} الآية.
المعنى: أنه ليس طائر يطير ولا دابة إلا وقد أحصى الله عملها وآثارها وحركاتها، فهي تتصرف - كما يتصرفون - فيما سخرت له، ومحفوظاً عليها ما عملت من عمل، لها وعليها، حتى يجازى (به) يوم القيامة، لم تخلق عبثاً، فمن أحصى أعمال الطير وجميع البهائم هو قادر على إحصاء أعمالكم وتصرفكم أيها العادلون بالله.
ومعنى {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي: يعرفون الله ويعبدونه.
والأمم: الأجناس.
وقال ابن جريج: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي: " أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ".
قال أبو هريرة: ما من دابة في الأرض ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة ثم يقتص(3/2013)
لبعضها من بعض، حتى (يقتص للجماء) من ذات القرن، ثم يقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. وإن شئتم فاقْرَأوا: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض (وَلاَ طَائِرٍ) يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إلى {يُحْشَرُونَ}.
ومعنى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} - وقد علم أنه لا يطير إلا بهما -: أن هذا كلام جرى على عادة العرب في لغاتها في التأكيد فخوطبوا بما يعلمون أنه مستعمل عند العرب، ((تقول العرب): " مشيتُ إليه برجلي " و " كلمته بفمي " فوكد الطيران ((بقوله)): (بجناحيه) على ذلك.
وقيل: لما كانت العرب تستعمل لفظ " الطيران " في غير الطائر، فتقول لمن ترسله في حاجة: " طِ~ر في حاجتي "، تريد " أسرع ". ويقولون: " كاد الفرس يطير " إذا أسرع في جريه، فيعبرِّون بالطيران عما ليس له جناحان، ففرق(3/2014)
بذكر الجناحين بين المعنيين.
ويكون " الطائر " عمل الإنسان اللازم له من خير وشر، ويكون " الطائر " من السعد والنحس، كقوله: {طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل: 47]، فبين في الآية /. أنه الطائر الذي يطير بجناحيه، لا غير.
وقيل: معنى {(إِلاَّ أُمَمٌ) أَمْثَالُكُمْ} أي: خلقهم ودبّرهم ورزقهم وكتب آثارهم وآجالهم كما فعل بكم.
(و) قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} أي: قد دللنا على كل شيء من أمر الدين في القرآن، إما دلالة مشروحة، وإما جملة.
قال ابن عباس: " ما تركنا شيئاً إلاَّ قد كتبناه في أمِّ الكتاب "، يعني اللوح المحفوظ مما يكون وكان.(3/2015)
وقيل: المعنى: أن آثار هذه الأمم وآجالها وأرزاقها، كل مكتوب عند الله، فلم يفرط فيه في الكتاب الذي عنده، كل مكتوب فيه.
ف (الكتاب) على هذا القول والذي قبله: هو اللوح المحفوظ و (الكتاب) في القول الأول: هو القرآن.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن الله قد حد حُدوداً فلا تنتهكوها، وسنَّ سُنناً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء - لم يدَعْها نِسياناً، كانت رحمة من الله - فَاقْبلَوها ".
وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " الأمور ثلاثة - يا ابن عباس - أمرَ بَانَ لك رُشُده فاتَّبِعْه، وأمر بَانَ لك غيُّه فاجتنبه، وأمرٌ غاب عنك فكِلْهُ إلى الله عز وجل ".
وقيل المعنى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} مما يحتاجون إليه، يعني القرآن. وقوله {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن عباس: " موت البهائم: حشرها ". قال الفراء:(3/2016)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
" حشرها: موتها، ثم تحشر مع الناس فيقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك يتمنى الكافر أنه كان تراباً ". وقيل: الحشر هنا: الجمع يوم القيامة.
و" روي أن عنزين انتطحا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتدرون فيما انتطحا؟، قالوا: لا ندري. قال: لكنّ اللهَ يدري، وسيقضي بينهما " ".
قوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} الآية.
المعنى: أن الله تعالى أعلمنا أن الكافرين بآيات الله {صُمٌّ} عن سماع الهدى، {وَبُكْمٌ} عن قول الحق، {فِي الظلمات} أي: في الكفر، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بما سمعوا ولا قالوا ما ينتفعون به، كانوا بمنزلة الصم والبكم، ثم أخبر تعالى أنه المضل لمن يشاء من خلقه عن الإيمان، وأنه يهدي من يشاء إلى الحق والصراط المستقيم، كل ذلك قد تقدم (في) علمه.
والتمام عند بعضهم: {فِي الظلمات}.
قوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} الآية.(3/2017)
حكى أبو (عبيد) عن ورش في " أرايت " و " أرايتكم " أنه يحقق الأولى، ويسقط الثانية ويعوض منها ألفاً. فمن أجل هذه الرواية رواه جماعة عن ورش بالمد. والذي عليه أهل العربية أنه يسهل الثانية فيجعلها بين الهمزة والألف، فلا يقع فيه إشباع مدُّ. وقد قرأنا فيه لورش بالمد على القول الأول.(3/2018)
واختُلف في الكاف: فقال البصريون: لا موضع لها من الإعراب، وإنما هي للمخاطبة.
وقال الكسائي: هي في موضع نصب لوقوع الرؤية عليها، والمعنى: أرأيتم أنفسكم.
وقال الفراء: هي في موضع رفع، لأنه لم يرد أن يوقع فعل الرجل على نفسه، لأنه يسأل عن غيره.
وفرق الكسائي بين (رؤية) القلب والعين: فأسقط الهمزة من رؤية القلب، (لأن رؤية القلب) معناها: أخبروني عن كذا. وليس ذلك في رؤية العين. ففرق - بطرح الهمزة - بين المعنيين، وهو خطاب للكفار.(3/2019)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
/ ومعنى الآية: أخبروني أيها العادلون بالله غيره إنْ أتاكم عذاب الله، كالذي جاء من كان قبلكم من الامم الظالمة، أو جاءتكم الساعة فبُعثتم للعرض، أغير الله تدعون في ذلك الوقت إن كنتم محقّين في دعواكم أن آلهتكم تنفع وتضر.
قال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} الآية.
أي إليه تستغيثون، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} (أي) فيكشف الضر الذي من آجله دعوتم. {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي: تنسون شرككم إذا أتاكم العذاب. فقوله: {إِنْ شَآءَ} مشيئة قدرةٍ، و (هو لا يشاء أن يكشف) عنهم العذاب عند نزوله، (لقوله): {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85].
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ} الآية.
(هذه الآية) تحذير للعادلين بالله غيره أن يتمادوا على ظلمهم فيهلكهم الله بالبأساء والضراء، كما أهلك من كان قبلكم حين كذبوا الرسل. والبأساء: شدة(3/2020)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
الفقر والضيق في المعيشة، والضراء: الأسقام والعلل في أجسامهم.
وقيل: البأساء: الجوع والفقر، والضراء: نقص الأموال والأنفس. وقال القتبي: " (البأساء): الفقر وهو البؤس، والضراء: البلاء ".
وفي الكلام حذف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً، فكذبوهم، فأخذناهم.
ومعنى {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي: ليكونوا على رجاء من التضرع، هذا مذهب سيبويه. والتضرع: التفعل من الضراعة، وهو الذل والاستكانة.
قوله: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا} الآية.
" المعنى: فهَلاّ إذ جاءهم بأسنا تضرّعُوا "، أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قد بلغ(3/2021)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
(منهم - من القسوة -) ما تركوا التضرع معها، والطلبة عند اتيان العذاب. وتحقيق المعنى: لعلهم يتضرعون فلم يتضرعوا، {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} فيصرف عنهم العذاب. {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: أقاموا على التكذيب وأصروا عليه وزيّن لهم الشيطان أعمالهم.
قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الآية.
المعنى: فلما تركوا العمل بما أُمروا به على ألسن الرسل.
وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: استدرجناهم بالنعم التي كنا متعناهم إياها.
روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا رأيتَ الله يُعطي العبدَ مَا يُحِبّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنّما ذلك استدراج " ثم نوع بهذه الآية {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (إلى قوله {رَبِّ العالمين}.(3/2022)
ومعنى: {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: كل شيء) كان قد أَغلق عنهم من الخير، جَعل مكان الضراء الصحة والسلامة، ومكان البأساء الرخاء والسعة، حتى إذا فرحوا بما فتح عليهم من النعيم والصحة اللذين كانا قد أَغْلَقَ عنهم، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي: أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا يعلمون.
قال ابن جريج: أخذوا أعجب ما كانت الدنيا إليهم.
{فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} قال السدي: معناه، هالكون قد انقطعت حجتهم، نادمون على ما سلف منهم.
وقال بعض (أهل) اللغة: معنى {فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا}: ظنوا أنهم إنّما أوتوا / ذلك استحقاقاً، قال: والمبلس: الشديد الحسرة الحزين.(3/2023)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
قال ابن زيد: الإبلاس أشد من الاستكانة.
وروي عن النبي عليه السلام (أنه) قال: " إذا رأيتَ اللهَ يُعطي عبدهَ في دُنياهُ، فإنّما هو اسْتِدراجٌ "، يعطي: يوسع عليه دنياهُ وهو لا يقلع عن المعاصي، يدل على ذلك الحديث الذي بعده، " ثم تلا هذه الآية {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الآية.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأيتَ اللهَ يعطي العِبادَ ما يشاءون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم "، ثم تلا الآية.
وقيل: الإبلاس: انقطاع الحجة والسكون.
وقيل: هو الندم والحزن على الشيء يفوت.
وقيل: هو الخشوع. وقال القتبي: " (مبلسون): يائسون ".
قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم (الذين ظَلَمُواْ)} الآية.(3/2024)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
المعنى: فاستُؤْصِل القوم الذين ظلموا، فلم يبق منهم أحد إلا هَلَكَ بغتة. والدّابِر: الآخِر. وإذا قطع دابرهم فقد قُطعوا، ولأن الآخِر لا يوصَل إليه إلا بعد أوّلٍ.
{والحمد للَّهِ} أي: الثناء التام لله على نعمه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم من أهل الكفر.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ} الآية.
روى ابن (عامر) عن أصحابه عن ورش: (بِهُ انظُر) بالضم للهاء، وكذلك روى ابن سعدان عن (المسيبي)، وهي قراءة(3/2025)
الأعرج، أتوا بالهاء على أصلها، وهو الضم. وإنما كسرت - في قراءة الجماعة - لأجل كسرة الباء قبلها، لئلا يخرج من كسر إلى ضم، وذلك ثقيل.
وقيل: إنما كسرت الهاء، لأنه ليس في الكلام " فِعْلُ "، والضم هو الأصل.
والمعنى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}، فذهب بها، {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ}، أي: طبع عليها، فلا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون، من معبود غير الله يرد عليكم ما ذهب (عنكم)؟، وهذا (تعليم من الله) لنبيه الحجة على المشركين. ثم قال لنبيه: انظر:(3/2026)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
كيف نصرف (لهم) الآيات أي: كيف نتابع لهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال، ثم هم - مع ذلك - يصدفون، أي: يعرضون قاله مجاهد وجماعة معه. وقال ابن عباس: يعدلون. وقال السدي: يصدون.
وقوله: {يَأْتِيكُمْ بِهِ}: الهاء تعود على السمع، وقيل: المعنى: يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار، فوحدت الهاء لأنها مكان " ما "، وقيل: الهاء كناية عن الهدى.
{يَأْتِيكُمْ بِهِ} تمام عند نافع وغيره.
قوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إنأتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً} الآية.
المعنى: قل يا محمد لهم: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة، أي: فجأة(3/2027)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
على غَرّة، أو أتاكم جهرة، أي: وأنتم تجاهرونه، أي: تعاينونه، {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} أي: (لا) يُهلِك اللهُ منا ومنكم إلا من ظلم فعبد مَن (لا) يستحق العبادة، وترك عبادة من يستحق العبادة.
قوله: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ (مُبَشِّرِينَ)} الآية.
المعنى: أن الله أعلمنا أنه إنما يرسل الرسل مبشرين أهل الطاعة بالجنة والفوز، ومنذرين أهل الخلاف والكفر بالنار على فعلهم، لم يرسلهم ليقترح عليهم الآيات بل تصحبهم منها ما يدل على صدقهم مما يريد الله، {فَمَنْءَامَنَ} أي: صدق بالرسل، {وَأَصْلَحَ} أي: (عمل) صالحاً في الدنيا، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}(3/2028)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
في الآخرة ولا حُزُنٌ.
/ قوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب} الآية.
قرأ يحيى بن وثاب {يَفْسُقُونَ} بكسر السين، لغة معروفة. وقرأ الحسن والاعمش {العذاب بِمَا} بالإدغام.
وقال ابن زيد: " كل " فسق " في القرآن فمعناه: الكذب ".
والمعنى: والذين جحدوا ما جاءتهم به رسلهم يمسهم العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل.
قوله: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله: لست أقول لكم عندي خزائن الله أي: لست أقول: إني أنا الرب الذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولست أعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الرب، {ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهراً بصورته لأبصار البشر في الدنيا فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك، {إِنْ أَتَّبِعُ}:(3/2029)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
(أي ما أتبع)، {إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ}.
و (كل هذا) تنبيه من الله لنبيه على مواضع الحجة على مشركي قريش. ثم قال: قل (لهم) يا محمد: هل يستوي الأعمى عن الحق والبصير به.
و {الأعمى}: الكافر: لأنه عَمِي (عن) حجج الله. و {البصير}: المؤمن، لأنه أبصر حجج الله وآياته، فاهتدى بها، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فيما أقول لكم.
وقيل: المعنى: لا أقول لكم عندي خزائن الله التي فيها العذاب، لقولهم: {ائتنا بِعَذَابِ الله} [العنكبوت: 29].
قوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا} الآية.
هذه الآية أمر من الله للنبي أن ينذر بالقرآن الذين يخافون الحشر والحساب والعقاب وقد صدقوا به وآمنوا. واختص هؤلاء، لأن الإنذار ينفعهم،(3/2030)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
إذْ هُم قابلوه ومصدقوه.
والخوف: بمعنى العلم، أي: يعلمون ذلك ويَتَيقَّنُونَه، وقد أُرسل النبي عليه السلام لإنذار الخلق كافة.
وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}: هذا رد لقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (بالغداة والعشي)} الآية.
قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين}: جواب النهي، و {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي. والتقدير: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء فتَطرُدهم: آخِرُ الكلامِ لأَوَّلِه، وأوسطُهُ لأِوسَطِهِ.(3/2031)
وهذه الآية نزلت في سبب جماعة صحبوا رسول الله - من ضعفاء المسلمين - فقالت قريش للنبي - وعنده صهيب وعمار بن ياسر وبلال وخباب، ونحوهم من الضعفاء -: يا محمد، رضيت بهؤلاء (من قومك، أهِؤُلاء) {مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} [الأنعام: 53]، أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟، اطْرُدْهم، فلعلك إنْ طَرَدْتَهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية.
وروي عن خباب أنه قال: جاء ناس من المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم جالس مع بلال وصهيب وخباب وعمار في أناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقّروهم، فأتوا فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب(3/2032)
فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعْبُدِ، فإذا جئناك فَأَقْصِهِم، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال نعم. فقالوا: فاكتب (لنا عليك) / بذلك كتاباً. قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ودعا عليّاً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية، ثم قال له: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] الآية، ثم قال (له): {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] الآية. فألقى النبي الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54]، فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم(3/2033)
تَرَكَنا، فأنزل الله {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] (الآية)، فكان رسول الله يقعد معنا بعد ذلك، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، (قمنا) وتركناه حتى يقوم.
وقال الفضيل في هذه الآية: جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب، فاسْتَغِفر لنا، فأعرض عنهم، فأنزل الله عز وجل: { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54] الآية.
وقيل: إنما أراد المشركون أن يطرد النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء، (فيحتجوا عليه إذ لم يتبعه الفقراء، ويقولوا: إن أتباع النبي الفقراء). فعصمه الله مما أرادوا به.(3/2034)
وقال الكلبي: (أبو طالب) عم النبي (هو الذي) قال للنبي: اطْردْ فلاناً وفلاناً. وإنّ ناساً من أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله، صدق عمك فاطرد عنا سفلة الموالي. فعاتبهم الله في الآية الأولى، فجاءوا يعتذرون من قولهم " أطردهم "، فأنزل الله {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ}
[الأنعام: 54].
ومعنى: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} قال مجاهد: (هي) " الصلاة المفروضة: الصبح والعصر ". وقال ابن عباس: هي الصلوات المفروضة الخمس، وقاله الحسن. وكذلك قالوا كلهم في قوله: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} [الكهف: 28].
وقال قتادة والضحاك: هي صلاة الصبح والعصر. وعن ابن عمر قال: يشهدون المكتوبة.(3/2035)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
وقيل: معنى - الدعاء - هنا -: ذِكرُهم الله غدوةً وعشياً. وقيل: الدعاء هنا: العبادة. وقيل: هو إِقْراء القرآن.
وقال الحسن: يعني الصلاة التي فرضت بمكة: ركعتان غدوة وركعتان عشية، وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس. وقال عمرو بن شعيب: هما صلاة الصبح وصلاة العصر. وقد قيل: إنهم القُصَاصَ. وأنكر ذلك جماعة من الصحابة والتابعين.
وروي أنهم سألوا النبي أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول.
والتمام هنا: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين}، لأنه جواب النهي، وقد قيل: {فَتَطْرُدَهُمْ} تمام، وليس بجيد.
قوله: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية.(3/2036)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
المعنى: وكذلك ابْتَلَيْنا بعضهم ببعض)، أي: جعل بعضا فقيراً، وبعضاً غنياً وبعضاً ضعيفاً، وبعضاً قوياً، فأحوج بعضهم إلى بعض اختباراً منه لهم.
قال ابن عباس: قال الأغنياء للفقراء: {أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} فهداهم؟، استهزاءاً منهم وسخرياً.
ومعنى اللام: أنه لما آل عاقبة أمرهم إلى هذا القول، صاروا كأنهم إنما احتبروا (لِيَقولوا)، بمنزلة {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
(و) قوله: {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} أي: الموحدين.
قوله: {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية.
هذه الآية عني بها الذين تقدم / ذكرهم في النهي عن طردهم. وقيل: عنى بها قوماً أصابوا ذنوباً عظاماً، فاستفتوا النبي فيها، فلم يُؤَيّسْهم الله من(3/2037)
رحمته. وقيل: عنى بها قوماً من المسلمين كانوا قد أشاروا على النبي بطرد الذين نهى الله عن طردهم، فكان ذلك منهم خطيئة، فاعتذروا من ذلك، فأُخبِروا في الآية أنه من تاب قُبِل منه، هذا على قول عكرمة وابن زيد.
ومعنى {سواءا بجهالة} أي: من عمل ذنباً وهو جاهل به.
ومعنى {كَتَبَ}: أوجب ذلك وقيل: " كتب في اللوح المحفوظ ".
والوقف فيها مفهوم، لا يحسن أن يبتدأ بـ (أن) وهي مفتوحة، ولا بالفاء في (فَإِنَّه)، كسرتَ (أن) أو فَتَحْتَها، وتبتدئ بـ (إِنْ) إذا كسرتها،(3/2038)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وهي الأَوْلَى فاعلم.
قوله: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ} الآية.
المعنى: و (كما) فصلنا لك يا محمد ما تقدم، نفصل (لك) الأعلام والحجج الدّالة علينا فيظهر لك طريق المجرمين، وتعلم باطل ما هم عليه.
واللام متعلقة بفعل محذوف دل عليه (نُفَصِّل). والمعنى: لتستبين سبيلَ المجرمين (فَصَّلناها، وهذا خطاب للنبي والمراد به أمّته، والمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين)، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان عالماً بطريقهم، وأنهم على باطل. هذا على قراءة من نصب " السبيل ".(3/2039)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
فأما من رفع، ففي الكلام حذف، والمعنى: ولتستبين سبيل المجرمين (والمؤمنين) فصلناها.
ومعنى: {نفَصِّلُ الآيات} نأتي بها متفرقة شيئاً بعد شيء لتُفهم على مهل.
قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ} الآية.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: إني نهيت أن أعبد أصنامكم الذين تقولون إنها تقربكم إلى الله زلفى، ولا أتبع أهواءكم التي عبدتم بها ما لا يجوز أن يُعبد، {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي: قد ضللت إن عَبدتُها، {وَ (مَآ أَنَاْ) مِنَ المهتدين}، أي: من المتّبعين الهدى إنْ فعلتُ ذلك.
قوله: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} الآية.
المعنى: {قُلْ}: لهم يا محمد: {إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}: أي: حجة ظاهرة، وهي النبوة(3/2040)
قد ظهرت لي.
وكذبتم أنتم به: أي: بربكم. وقيل: بالقرآن. وقيل: بالبيان وقيل: بالعذاب.
{مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يريد من النقم والعذاب الذي تقترحون به، أي ليس ذلك بيدي، ما الحكم إلا لله في عذابكم وإمهالكم.
{يَقُصُّ الحق} أي: يقضي القضاء الحق، {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي: الحاكمين.(3/2041)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
وفي قراءة عبد الله: (وهو أسرع الفاصلين).
{وَكَذَّبْتُم بِهِ} وقف، {تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} وقف.
قوله: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآية.
المعنى: {قُل} يا محمد لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب: {أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب، لَجِئتُكم به، فيُقضى الأمر بيني وبينكم، ولكن ذلك بيد الله، وهو أعلم بالظالمين، أي: متى يهلكهم.
وقيل: معنى {لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}: لذُبِحَ الموت، قاله ابن جريج، يريد به معنى قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر} [مريم: 38].
يروى " أن أهل الجنة والنار إذا استقر كل واحد في موضعه، أُتِيَ بالموت في(3/2042)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
صورة / ما شاء الله فيُذْبَح بِمَرأَىً من الجميع، ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ لا موت، ويا أهل النار خُلودٌ لا موت " هذا معنى الحديث لا لفظه. فهو الذي قال النبي لهم: {لَقُضِيَ الأمر}، وهو التفسير في قوله {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} [مريم: 38].
{وَبَيْنَكُمْ} وقف حسن.
قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} الآية.
واحد المفاتح: مِفَتح، بكسر الميم وفتحها، والمعنى: وعند الله خزائن الغيب.
قال ابن عباس: مفاتح الغيب خمس في آخر " لقمان ": {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34](3/2043)
إلى {خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: ما تغيض الأرحام، وما في غد، ومتى يأتي المطر، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأيّ أرضٍ تموت " ورواه ابن عمر عن النبي عليه السلام.
{إِلاَّ هُوَ}: تمام.
وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}: أي: ما تسقط من ورقة في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا الله يَعلَمها، {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض} أي: بطون الأودية، ولا رطبها ولا يابسها، {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، مرسوم فيه عدده ووقته في اخضِراره ويُبسِه وسقوطه. وكل ذلك عن علم الله غيرُ خارج، وإنما أثبتت في اللوح امتحاناً لحَفَظَة الخلق. فقد روي أنهم مأمورون بكتابة(3/2044)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
أعمال العباد، ثم يَعرِضها على ما أثبته تعالى في اللوح المحفوظ.
قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض (من) شجرة ولا مغرِز إبرة إلا عليها (ملك) موَكّل يأتي الله بعلمها: يُبْسها إذا يَبِسَت، ورطوبتها إذا رَطُبَت.
وقيل: المعنى في كَتْبِها: أنه لتعظيم الأمر، فمعناه: اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف ما فيه ثواب وعقاب؟
قوله: {وَهُوَ الذي يتوفاكم} الآية.
المعنى: قال لهم يا محمد: إن الله أعلم بالظالمين، وإن الله عنده مفاتح الغيب، وإن الله هو الذي يتوفاكم، (أي): يقبض أرواحكم من أجسادكم(3/2045)
بالليل، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار}: أي: ما اكتسبتم من الأعمال بالنهار.
وأصل الاجتراح: عمل الرجل بجارحة من جوارحه: يَدِه أو رِجليه، فكثر ذلك حتى قيل لكل مكتسب (شيئاً بأيّ أعْضاء جسمِه كان: " (مجترح) "، ولكل مكتسب) عملاً: " جارح ".
ومعنى: التوفَّي: استيفاء العدد
وقوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظكم من منامكم في النهار.
الهاء في (فيه) تعود على " النهار "، لأن الإنسان يتمادى به النوم حتى يصير في النهار فينتبه، فلذلك بَعثُهُ. وقال ابن جبير: (يَبعثُكم فيه): في المنام.(3/2046)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى}: أي: ليقضي الله الأجل (الذي سماه لحياتكم، ثم يأتي الموت الذي مرجعكم منه إلى الله)، فينبئكم بما كنتم تعملون في الدنيا.
و {أَجَلٌ مُّسَمًّى}: الموت. {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} بعد الموت.
قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} الآية.
المعنى: وهو الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته، قد قَهَرَهم بالموت، ليس كأصنامهم (المقهورة)، المذللة، المَعْلو عليها، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} هي الملائكة، يتعاقبون بالليل والنهار، يحفظون أعمال العباد ويكتبونها، لا يفرطون في إحصاء ذلك، ويحفظونه مما لم يُقدَّر عليه، فإذا جاء أحدَهم الموت، توفته الرسل التي تقبض الأرواح، وقابض الأرواح هو ملك الموت، / إلا أن الله جعل له أعواناً، فهم(3/2047)
يقبضون (الأنفس) بأمر ملك الموت، فلذلك قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}، ولم يقل: " رسولنا ".
قال ابن عباس: " لملك الموت أعوان (من الملائكة) ".
قال قتادة: تلي الملائكة قبض النفس وتدفعها إلى ملك الموت.
وقال الكلبي: ملك الموت يتولى، ثم يدفع النفس إلى ملائكة الرحمة إنْ كان مؤمناً، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافراً.
قال مجاهد: جُعلت الأرض لملك الموت (مثل الطست)، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان يتولون ذلك، ثم يقبضها هو منهم. قال مجاهد: " ما من(3/2048)
أهل بيت شَعَر ولا مَدَر إلا وملك الموت يطوف بهم كل يوم مرَّتين ".
وروى (البراء) بن عازب أنه سمع النبي عليه السلام يقول: " إذا كان العبد عِندَ انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه (ملائكة من السماء)، بيضُ الوجوه كأنّ وجوهَهم الشمس (حتى يقعدوا) منه مَدَى البصر، ويجيء ملك الموت معهم حتى (يقعد) عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، أُخرُجي إلى مغفرة (من) الله ورضوان، فتخرج تسيل كما (تسيل القطرة) في السقاء، فيأخذها ملك الموت في يده، فإذا وقعت في يده، لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه، فيجعلونها في كفن من الجنة وحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة ".(3/2049)
" قال الحسن: (إذا احتضر) المؤمن (احتضره) خمس مائة ملك يقبضون روحه فيعرُجون به ".
والأجساد هي التي تموت، فأما الأرواح والأنفس فهي حية عند الله، ودل على ذلك قوله: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93]، فلو كانت النفس تموت لم يكن لها نزل،(3/2050)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
وقوله: {قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون: 99 - 100] أي: تقول النفس: أَرْجِعني إلى جَسَدي لعلي أعمل صالحاً، فلو كانت النفس تموت بموت (الجسد)، ما سألت الرَجعَة.
قال عبد الملك: ولا يقول " إن النفس والروح يموتان بموت الجسد " إلا رجل جاهل بأمر الله، أو رجل منكر للبعث، وقد قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} [الزمر: 42]، فلو كانت النفس تموت بموت الجسد ما أمسكها، وليس يُمْسَك إلا حيٌّ.
قوله: {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} الآية.
المعنى: ثم ردت الأنفس إلى الله مولاهم الحق.
وقرأ الحسن (الحَقَّ) بالنصب على " أعني ".(3/2051)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{أَلاَ لَهُ الحكم} أي: القضاء، {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} أي: أسرَعُ من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم، وقيل: معناه: يعلم أعمالكم بلا معاناة، ويحصيها بلا حساب ولا عدد، لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة أحد، فذلك غاية السرعة في المحاسبة.
{الحق} تمام، و {الحك}: تمام. و {مَوْلاَهُمُ}: وقف على قراءة الحسن.
قوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر} الآية.
{تَضَرُّعاً}: مصدر. وقيل: هو حال على معنى: ذوي تضرع.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، أي: كروبهما، إذا ضللتم وتحيرتم فلم تهتدوا، وأخذتم في الدعاء (تقولون): لئن أنجيتنا، أي: من هذه الظلمات التي / نحن فيها، يفعلون ذلك جهرة(3/2052)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
و (خفية)، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي: من المؤمنين.
ثم قال: (قل) لهم يا محمد: {الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا} الآية.
أي من الظلمات والهلاك، وينجيكم من كل كرب سوى ذلك فيكشف، {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} في عبادة ربكم.
قوله: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ} الآية.
" {شِيَعاً}: نصب على الحال، أو المصدر ". والمعنى: قل لهم يا محمد: الله القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، جزاء لشرككم به بعد إذ (نجاكم مما) أنتم فيه.
والعذاب الذي (هو) من فوقهم: هو الرجم، والذي من تحت أرجلهم: الخسف، قاله ابن جبير ومجاهد والسدي.(3/2053)
وقال الفراء {مِّن فَوْقِكُمْ}: المطر والحجارة والطوفان، و {مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: الخسف.
وقال ابن عباس: العذاب الذي (هو) من فوق: أئمة السوء، والذي من أسفل: خدمة السوء وسفلة الناس.
وقال الضحاك: {مِّن فَوْقِكُمْ}: من كباركم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: من سفلتكم.
(و) قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (أي) يخلطكم (فرقا، من " لَبَست عليه الأمر ": أخلطته فمعناه: يخلطكم) أهواء مختلفة مفترقة.(3/2054)
وقال الفراء: {يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي: ذوي أهواء مختلفة.
وقرأ المدني {يَلْبِسَكُمْ} بضم الياء، من " ألبس ".
وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أصل هذا من " ذوق الطعام "، ثم استعمل في كل ما وصل إلى الرجل من حلاوة أو مرارة أو مكروه.
(قال (ابن عباس): يعني بالسيوف. و) قال ابن عباس: " يسلط (بعضكم) على بعض بالقتل ".(3/2055)
وقد قيل: إنه عني بهذا المسلمون من أمة محمد.
قال النبي عليه السلام: " إني سألت الله في صلاتي هذه ثلاثاً - وأشار إلى صلاة صبح كان قد أبطأ فيها - قال: سألته ألا يُسَلّط على أمتي السّنة، فأعطانيه، وسألته ألا يلبسهم شيعاً، وألا يُذيق بعضَهم بأسَ بعضٍ، فمنعنيهما ".
وروى جابر أن النبي عليه السلام قال: - " لما نزل عليه {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} -: أعوذ بوجهك. فلما نزل {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال: هاتان أيْسَرُ وأَهْوَنُ ".
قال الحسن قوله: {أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: هذا للمشركين {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: هذا للمسلمين.
ثم قال: انظر يا محمد {كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، أي: يفقهون ما يقال لهم.(3/2056)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق} الآية.
المعنى: وكذب يا محمد بما تقول وتخبر - من الوعد والوعيد - قومك، وهو الحق.
فالهاء ترجع إلى القرآن. وقيل: إلى " التصريف "، أي: وكذب بتصريف الآيات قومك. وقيل: ترجع على محمد، أي: وكذب بمحمد قومه، وهو الحق.
ثم قال: {قُل} (يا محمد لهم) {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: بحفيظ ولا رقيب، إنما أنا رسول. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخ هذا آية السيف. ولا يَحسُن نَسْخُ هذا عند أهل النظر والمعاني، لأنه خبر.(3/2057)
وقوله: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} أي: لكل خبر قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها فيعلم حقه وصدقه من / كذبه، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} صحة ما أقول لكم، وهو ما أوعدهم به من العذاب، فظهر ذلك يوم بدر.
قال السدي: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق}، قال: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحق ".
قال السدي: وأما {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب ".
وكان الحسن يتأول ذلك أنها الفتنة التي كانت بين أصحاب محمد بعده.
وقال النحاس: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} هو تهديد إما بعذاب الآخرة، وإما بالأمر بالخوف، والمعنى: لكل خبر توعدون به وقتٌ يحدث فيه، وأجل ينتهي إليه فيكون ذلك، والنبأ: الخبر.(3/2058)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فيءَايَاتِنَا} الآية.
المعنى: وإذا رأيت - يا محمد - المشركين الذين يخوضون في آيات الله، وخوضهم فيها: استهزاؤهم بها وتكذيبهم لها، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: فَصُدَّ عَنْهمُ بِوجهِك، وقُمْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله.
(و) قوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان}: أي: إن أنساك الشيطان نهي الله لك عن الجلوس معهم في حال استهزائهم، ثم ذكرت ذلك، فقم عنهم ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي يستمعون منه، فإذا سمعوا استهزأوا، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم إذا استهزأوا (إلا أن ينسى)، فإن نَسِيَ ثم ذَكَرَ، أمرُ أن يقوم عند التّذكّر.
قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم} الآية.
المعنى: أنه ليس على من اتقى الله من حساب هؤلاء الخائضين شيء، أي:(3/2059)
ليس (عليه) من إثمهم شيء إذا اتقى ما هم فيه. وليس المعنى: ليس عليه شيء من إثمهم إذا جالسهم في حال خوضهم، (إنما المعنى: ليس (عليه) شيء إذا لم يجالسهم في حال خوضهم)، لأن الله قال: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]: أي: حتى يخوضوا في غير الكفر والاستهزاء بآيات الله.
ومعنى: {ولكن ذكرى} أي: إذا ذكرت فقم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (أي) الخوض فيتركونه، هذا قول السدي.
وقيل: إن المعنى ليس على الذين يتقون من حسابهم (من) شيء إذا قعدوا إليهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} [النساء: 140] الآية، روي ذلك عن ابن(3/2060)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
عباس. ونَسْخُ مثلِ هذا لا يحسن، لأنه خبر.
قال الكلبي: قال أصحاب النبي: إنا كنا كلما استهزأ المشركون بكتاب الله، قمنا وتركناهم لم ندخل المسجد ولم نطف بالبيت، فرخص الله للمسلمين الجلوس معهم، وأُمروا أن يُذَكِّروهم ما استطاعوا.
و {ذكرى} في موضع نصب، على معنى: فأعرضوا عنهم ذكرى، وتكون في موضع رفع على معنى: لكن إعراضهم ذكرى لأمر الله.
قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الآية.
المعنى: أنه أمر من الله لنبيه أن يترك هؤلاء الذين هذه صفتهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف.(3/2061)
(و) قوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي: ذكر بالقرآن (كراهة) {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}: أي: تسلم (بعملها، غير قادرة على التخلص.
(وقال الزجاج): " والمُسْتَبْسِل: المُسْتَسْلِم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ".
وقال الفراء: ترتهن. وقيل: تُحبس. وقيل: تفضح، (قاله) ابن(3/2062)
عباس. وقيل: تُجزى، وهو قول الحسن، وبه قال الأخفش والكسائي.
وأصل الإبسال: التَّحريم، يقال " أَبْسَلْت المكان ": حرَّمته.
فالمعنى: ذكِّر بالقرآن من قبل / أن تُسلم نفس بذنوبها، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} يخلصها.
فالهاء في (به) للقرآن. وقيل: على التذكر. وقيل: على الدين، أي: ذكر بدينك.(3/2063)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
ثم قال: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أي: تفد كل فداء لا يقبل منها، قال قتادة والسدي: لو جاءت بملء الأرض ذهباً ما قُبِل منها.
{أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} أي: ارتهنوا بذنوبهم وأسلموا لها، (لهم شراب من حميم) أي: في جهنم، {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بما اكتسبوا من الأوزار في الدنيا.
قال ابن عباس: {أُبْسِلُواْ}: فضحوا. وقال ابن زيد: أُخذوا.
قوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا} الآية.
قرأ ابن مسعود (اسْتَهْواه الشَّيطان) وعن الحسن: (استهوته الشَّياطون بالواو، وهو لحن.(3/2064)
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين، واحْتَجَّ عليهم، فقل: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، أي: أندعو خشباً وحجراً لا يقدر على نفع ولا ضر، {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} أي: نرجع القهقري، إن فعلنا ذلك - والعرب تقول لكل من لم يظفر بحاجته: " قد رُدَّ على عقبيه " فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين، أي: زينت له هواه، ({حَيْرَانَ} أي) في (حال) حيرته.
{لَهُ أَصْحَابٌ}: أي: لهذا الحيران - الذي على غير محجة - أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا. وهذا مثل ضربه الله لمن كفر بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله، وأصحابه - الذين كانوا معه على الهدى - يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه، وهو يأبى ذلك.
وقيل: (هو) في أبي بكر (الصديق) رضي الله عنهـ وزوجته كانا يدعوان ابنهما عبد الرحمن إلى الإسلام.(3/2065)
ومعنى {ائتيا}: أطعنا، والمعنى: أَنْ ائتنا.
قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا ديننا واتركوا دين محمد، فقال الله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله} الآية، فمثلكم - إن كفرتم بعد الايمان - كمثل رجل كان مع قوم على طريق، فَضَلَّ الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق يدعونه إليهم، يقولون: " ائتنا، فإنا على الطريق "، فأبى أن يأتيهم، والطريق هو الإسلام.
وروي عن ابن عباس أن المعنى: أنه مثل لرجل أطاع الشياطين، وحَادَ عن الحق وله أصحاب على غير هدى يدعونه ويزعمون أن ذلك هو الهدى، فأكذبهم الله وقال: {قُلْ} يا محمد: {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى}، وقل: أُمِرنا كي نسلم لرب العالمين، أي: نخضع له ونطيعه.
{حَيْرَانَ}: تمام عند جميعهم. وقال نصير: {فِي الأرض} التمام، ورُدَّ ذلك(3/2066)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
عليه، لأن (حَيْرَان) منصوب على الحال.
قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} الآية.
{أَنْ} في موضع خفض، عطف على {الهدى} [الأنعام: 71]. أو عطف على (أَنْ) الناصبة للفعل في (نُسْلِم). ويجوز أن تكون في موضع نصب، على حذف الخافض، (و) المعنى: وبأن أقيموا. ويجوز أن تكون في موضع خفض على إضمار ذلك الخافض، والمعنى: وأمرنا بأن أقيموا الصلاة.
{واتقوه} أي: واتقوا رب العالمين الذي إليه تحشرون في الآخرة.
{واتقوه} تمام.
/ قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} الآية.(3/2067)
المعنى: والله - الذي أمرتم أن تسلموا له - هو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وهو رب العالمين.
ومعنى {بالحق}: أي: حقاً وصواباً، لا باطلاً. وقيل: المعنى: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: {ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت: 11]، فالحق هنا: كلامه ودليله.
(قوله): {قَوْلُهُ الحق} الآية.
(ف (الحق)): كلامه، خلق به (الأشياء المخلوقة)، وما خلق به الأشياء فهو غير مخلوق.
وقيل: المعنى: خلقهن (للحق)، يعني المعاد.
و {قَوْلُهُ} مرفوع (ب (يكون))، و (الحق): نعته. وقيل: المعنى: فيكون(3/2068)
ما أراد. و {قَوْلُهُ الحق}: ابتداء وخبر.
وقال الفراء: المعنى: ويوم يقول للصور: كن، فيكون، و (قولُه): ابتداء و (الحق) خبره.
و {الصور} عند أبي عبيد: جمع صورة. وقيل: هو القرن الذي ينفخ فيه.
وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} بدل من {يَوْمَ يَقُولُ}. وقيل: العامل فيه: {الحق}. وقيل: العامل فيه {وَلَهُ الملك}، لأنه يوم لا منازع له في الملك، فلذلك خصه بالذكر، وأن كان هو المالك في كل الأحيان، وهو مثل: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4].
{عالم الغيب}: رفع على النعت ل {الذي} في قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ}. وقيل:(3/2069)
{وَهُوَ} رفع على إضمار مبتدأ. وقيل: هو رفع بالمعنى، والتقدير: ينفخ فيه عالم {الغيب}.
والنفخ في الصور نفختان: واحدة لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، وبذلك أتى القرآن.
وقد تظاهرت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن إسرافيل قد الْتَقَم الصور (وحَنَى) جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ، وأنه قال: الصور قرن ينفخ فيه ".
قال قتادة: ينفخ فيه من الصخرة من بيت المقدس.
والصور قرن فيه أرواح الخلق فينفخ فيه، فيذهب كل روح إلى جسده فيدخل فيه.(3/2070)
وروي عن ابن عباس: " أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور " وتكون الآية بمنزلة قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومه ... ومعنى {عالم الغيب} أي: يعلم ما يغيب عنكم، {والشهادة} أي: يعلم أيضاً ما تشاهدون، {وَهُوَ الحكيم} في تدبيره، {الخبير} بأعمالكم.
وقوله: {بالحق}: وَقْف إن نصبت {وَ} يوم على معنى: واذكر، و {كُن}: تمام، (و) {فَيَكُونُ} تمام إن رفعت {قَوْلُهُ} بالابتداء،(3/2071)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
وجعلت {فَيَكُونُ} للصور، أو على معنى: فيكون ما أراد، و {قَوْلُهُ الحق}: تمام حسن إن جعلت {يَوْمَ يُنفَخُ} نصب بقوله: {وَلَهُ الملك}. (ويقف على {وَلَهُ الملك}) إن نصبت {يَوْمَ يُنفَخُ}، بمعنى: واذكر. و {فِي الصور} وقفٌ إن جعلت {عالم الغيب} على معنى {هُوَ} فإن جعلته نعتاً ل {الذي} - أو على إضمار فعلٍ يدل عليه {يُنفَخُ} -، لم تقف على {الصور}.
وقد قرأ الحسن {عالم} بالخفض على البدل من الهاء في قوله {وَلَهُ}.
(قوله): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} الآية.
ألف {أَتَتَّخِذ} ألف تقرير وتوبيخ، لأنه كان قد علم أنه يتخذها.
والمعنى: واذكر يا محمد - في محاجتك قومك في أصنامهم - حجاجَ إبراهيمَ قومَه في باطل ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، إذ قال لابيه آزر.(3/2072)
وآزر: اسم أبي إبراهيم في قول السدي والحسن وغيرهما، وكان رجلاً من أهل كوثي من قرية بسواد الكوفة، وهو آزر (و " تارح ")، كما يقال: " إسرائيل " و " يعقوب ".
وقال مجاهد: آزر ليس بأبي إبراهيم، إنما هو / اسم صنم.
وقيل: آزر صفة، وهو " المُعْوَج " في كلامهم، كأن إبراهيم عابه بزيغه واعوجاجه، كأنه قال لأبيه ذلك، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، ذكر(3/2073)
ذلك الفراء وغيره. والضم على النداء يحسن على هذا المعنى.
وحكي الزجاج (أن آزر) صفة، معناه: المخطئ، فيحسن أن يكون صفة للأب، كأنه: " قال لأبيه المخطئ ".
ويحسن أن يكون نداء فيضم على معنى: (يا مخطئ في دينه. وبذلك قرأ يعقوب الحضرمي، والحسن قبله. " وقال الضحاك: معنى آزر: شيخ ".
وذكر أبو حاتم عن ابن عباس: (أإزرا تتخذ) بهمزتين: مفتوحة ومكسورة، من غير ألف في (تتخذ)، نصبه (ب (تتخذ)، جعله مفعولاً من أجله، يكون مأخوذاً من الأزر الذي هو الظهر.
ويجوز أن يكون أصله: " أَوْزْراً "، ثم أبدل من الواو المكسورة همزة(3/2074)
" كإشاح ".
وروى غير أبي حاتم بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الحسن (آزرُ) بالرفع على النداء، وهي قراءة يعقوب. وقد قيل: إن رفعه على إضمار مبتدأ. وفي قراءة أُبَي (يا آزرُ).
(و) من جعله اسماً للصّنم: فهو بعيد، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل (فيه ما) بعده، وفتحه على النعت للأب، أو على البدل، وموضعه خفض.
{إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} بعبادتكم الأصنام، أي: يتبين لمن أبصرَهُ (الله) أنه جسور وحيرة عن سبيل الحق.
قوله {لأَبِيهِ} وقف على قراءة من رفع (آزرُ)، أو قرأه بهمزتين. وتقف(3/2075)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
على (آزر) في قراءة من جعله بدلاً أو صفة.
قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} الآية.
الواو والتاء زيدتا في ملكوت للمبالغة في " الملك " وقرأ أبو السَّمَّأل: (مَلكُوت) بإسكان اللام، وهو بعيد عند سيبوبه لخفة الفتحة.
والمعنى: ومثل ما أريناك يا محمد البصيرة في دينك، والحجة على قومك، أرينا إبراهيم ملك السماوات والأرض، {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.(3/2076)
وقيل: ملكوت - هنا - بمعنى ملك. وقيل: بمعنى خَلْق. وهو بكلام النبط " مَلْكوتاً ". وقيل: ملكوت: معناه آيات.
(وقال السدي): أقيم إبراهيم على صخرة وفتحت له السماوات، فنظر فيهن إلى ملك الله، ونظر إلى مكانه في الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض، قال: فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} [العنكبوت: 27]، أي: أَرَيْنَاهُ مكانهُ في الجنة، وقيل: أجره في الدنيا: الثناء الحسن بعده.
قال عطاء: لما رفع الله إبراهيم في ملكوت (السماوات) والأرض - تعالى الله وجل وعز -، رأى إبراهيم عبداً يزني، فدعا عليه فهلك، ثم رُفِع فأشرف، فرأى آخر، فدعا عليه فهلك. ثم رأى (آخر) فدعا عليه(3/2077)
فنودي: على رِِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجاب له، وإني من عبدي على (أحد) ثلاث: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه، وإما أن أُخْرِجَ منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه.
وقال الضحاك: (معنى ما) أراه الله من ملك السماوات والأرض: ما أراه من النجوم والشمس والقمر والشجر والجبال والبحار.
قال ابن عباس: فُرَّ بإبراهيم من جبار من الجبابرة، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطراف أصابعه، فكان لا يمص أصبعاً من أصابعه إلا جعل الله عز وجل فيها رزقاً. فلما خرج من ذلك السرب، أراه الله شمساً وقمراً ونجوماً وسحاباً وخلقاً عظيماً: فذلك ملكوت السماوات، وأراه الله بحوراً وجبالاً / وشجراً وأنهاراً وخلقاً(3/2078)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
عظيماً: فذلك ملكوت الأرض.
قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً} الآية.
المعنى: فلما ستر إبراهيم الليل بظلمته، - (يقال: جنَّ الليل (و) (جنَّه)، وأجنَّ عليه، وأجنَّه).
{رَأَى كَوْكَباً}: أي: أبصر. والكوكب: الزهرة. وقال السدي: وهو المشتري. قال ابن عباس: عبد الكوكب حتى غاب، فلما غاب، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين}، وكذلك فعل بالقمر والشمس، فلما غابا {ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.(3/2079)
وكان بين نوح وإبراهيم: هود وصالح، وكان النمرود في زمن إبراهيم، وكان من خبر إبراهيم مع النمرود: (أن النمرود) - قبل مولد إبراهيم - أتاه أهل النجوم يخبرونه أنه يجدون في علمهم: أن غلاماً يولد في قريتك هذه، يقال له " إبراهيم "، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم، في وقت كذا يولد. فلما كان ذلك الوقت، حبس نمرود كل امرأة حبلى عنده إلا أم إبراهيم، فإنه لم يعلم بحبلها لِما أراد الله من أمره، فجعل نمرود لا تلد امرأة (غلاماً في ذلك الوقت) إلا ذبحه، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق، خرجت ليلاًَ إلى مغارة، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يُصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل، فنجده حياً يمص أصابعه جعل الله له رزقاً فيها. وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر(3/2080)
كالسنة، وكانت أمه قالت: (لآزر أبيه): قد ولدت غلاماً فمات. فصدقها فلما بلغ إبراهيم في المغارة خمس عشرة، قال لأمه: أخرجيني أنظر. فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض، وقال: " إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لَرَبّي، ما لي إله " غيره ". ثم نظر إلى السماء فرأى كوكباً، {قَالَ هذا رَبِّي}، ثم اتبعه ينظر إليه (ببصره) حتى غاب، (فلما غاب)، {لا أُحِبُّ الآفلين} أي: الغائبين، ثم فعل ذلك بالقمر، ثم بالشمس. ثم أتى إبراهيم أباه آزره وأخبرته (أمه به) فَسُرَّ (به)، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم قبل مبايعته لهم فيقول: " من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ " فلا يشتريها منه(3/2081)
أحد. فإذا بارت عليه مضى بها إبراهيم إلى نهر، فصوَّب (فيه) رؤوسها وقال: (اشربي)، استهزاء بقومه، حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه (بها) في قومه من غير أن يبلغ ذلك نمرود.
وقد أنكر قوم من العلماء أن يكون إبراهيم عليه السلام عبد شيئاً من ذلك حقيقة، إنما فعل ذلك على وجه التعريض والإنكار لقومه وفعلهم، (لا أنه) (جهل) معبوده حتى عبد الكوكب والقمر والشمس، وكأنه أراهم أن الكوكب والقمر والشمس أضوأُ من الأصنام وأحسن، وهي لا تعبد، لأنها آفلة، فَتَركُ عبادة الاصنام التي لا ضوء لها ولا حسن ولا بهجة آكد، فكأنه عارض باطلاً بباطل على طريق التبكيت لهم، و (القطع) لحجتهم.(3/2082)
قال إبراهيم بن عرفة: كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام والحجارة، وكانوا يجادلونه، فأراهم من خلق الله / تعالى ما هو أعظم مما يعبدون، فقال: " هذا ربي "، لو كان رباً يعبد من دون الله، لأن هذا أعظم وأعلى مما تعبدون. فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين، فأراهم أن الكوكب يغيب إذا غلب عليه ضوء النهار، والمعبود لا يكون مغلوباً.
وقيل: بل كان ذلك منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه ولزوم الفرض له، وتلك حال لا يلزم فيها كفر ولا إيمان.
وقيل: معنى الكلام الإستفهام الذي في معنى الإنكار، والمعنى: أهذا ربي؟، قاله قطرب وغيره، وهو قول ضعيف، لأن الألف إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها نحو " أم " ونحوها.(3/2083)
وقال أبو إسحاق: لم يقل ذلك (على اعتقاد) منه بدلالة قوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35]، وبقوله: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]، أي: سليم من الشرك. وأنما المعنى: هذا ربي على قولكم: (لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ومثله قوله: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27، القصص: 62، 74، فصلت: 47] المعنى: أين شركائي على قولكم). ويجوز أن يكون المعنى: (قال): هذا ربي) أي: قال: تقولون: " هذا ربي "، ثم حذف القول، كما قال: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] أي: يقولون: سلام (عليكم).
ومعنى {بَازِغاً}: طالعاً، وهو نصب على الحال. وكذلك {بَازِغَةً}. وذكر {الشمس} في قوله: {هذا رَبِّي}، على معنى: " هذا البازغ ربي "، أو " هذا الشيء(3/2084)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
ربي "، أو " هذه النور ربي "، أو " هذا الطالع ربي ".
قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ (لِلَّذِي)} الآية.
هذا خبر عما قال إبراهيم بعد أن أوقفهم على نقص الكوكب والشمس والقمر في الأفول، فقال الحق ولم يبال بخلافهم، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي: قصدت في عبادتي: {لِلَّذِي فَطَرَ} (أي خلق) السماوات والأرض {حَنِيفاً} أي: مائلا إلى ربي، وما أنا مشرك مثلكم.
قوله: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ (قَالَ أتحاجواني فِي الله)} الآية.
المعنى: وجادل إبراهيم قَومُه في الله، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: أتحاجوني في توحيد الله وقد هداني للإيمان به، وإخلاص العمل له، ولست أخاف ما تشركون به أن ينالني بسوء ومكروه.(3/2085)
والهاء للضم، (وهو (ما)). وقيل: الهاء لله جل ذكره، يعني أصنامهم، وذلك أنهم قالوا له: إنَّا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء: من مرض أو خَبْلٍ لِسَبِّك لها. ثم قال لهم: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: إن أراد أن يصيبني بسوء " أو خير "، فهو لاحقي لا شك.
ووجه حذف النون من {أتحاجواني} أنه استثقل التشديد فحذفت النون الزائدة [لا] التي للإعراب، قال سيبويه: حذفت لكراهة التضعيف.(3/2086)
وقال (أبو) عبيدة: حذفت كراهة الجمع بين ساكنين.
وقد أنكر أبو عمرو الحذف وقال: هو لحن، لأنه تأول أن المحذوف النون التي للإعراب. والمحذوف عند سيبويه والخليل النون الزائدة.
قوله: {وَسِعَ [رَبِّي] كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي: [وسع] علم ربي كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، وليس كآلهتكم التي لا تنفع ولا تضر، {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي: تعقلون أنها لا(3/2087)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
تنفع ولا تضر.
قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} الآية.
هذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه بآلهتهم، فقال: {وَكَيْفَ [أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ]} أي: كيف أرهب أصنامكم التي لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إذا أشركتم بمن خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم، أشركتم به ما ليس معكم في عبادته حجة ولا برهان /، {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} من العذاب؟:
مَن آمن برب واحد يضر ويَنْفَعَ، أو مَن آمن بأرباب كثيرة لا تضر ولا تنفع، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} صدق ما أقول لكم.
قوله: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية.
يجوز أن يكون من قول إبراهيم، ويجوز أن يكون مستأنفاً من قول الله، فصل " الله " بين إبراهيم وقومه، فأخبر لمن الأمن.(3/2088)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
والحجة التي أوتي إبراهيم هو قوله: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} [الأنعام: 81]. ومعنى: {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: لم يخلطوه بشرك، ولما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب النبي، فقال لهم النبي: ليس الأمر كما تظنون، لهو كما قال لقمان: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتيناهآ إبراهيم (على قَوْمِهِ)} الآية.
{تِلْكَ}: إشارة قول إبراهيم لقومه: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].
وقيل: إنهم قالوا " له ": إنّا نخاف أن تُخَبِّلك آلهتنا لسبك لها، فقال لهم: أفلا تخافون أنتم منها - إذ سوَّيتم بين الصغير والكبير منها، والذكر والانثى - أن تخبلكم، ثم قال لهم: أمن يعبد إلهاً واحداً يضر وينفع أحقُّ بالأمن، " أم " من يعبد آلهة كثيرة لا تضر ولا تنفع؟، فهذه حجته التي آتاه الله على قومه ولقنه إياها.(3/2089)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
وفي الكلام حذف والمعنى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، فرفعنا درجته عليهم: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَآءُ}، وهذا كله تنبيه لمحمد في الحجة على أمته، وتنبيه له على التأسي بمن قبله من الأنبياء. {على قَوْمِهِ}: وقف حسن.
قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} الآية.
قوله: {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} عطف على " كل "، أي: وهدينا داوود. وقيل: هو عطف {إِسْحَاقَ} أي: وهبنا له داوود. وقيل: هو عطف على {وَنُوحاً}. والهاء في {[ذُرِّيَّتِهِ]}: تعود على (إبراهيم).
وقيل: على " نوح "، وهو قول الطبري، قال: لأن في سياق الكلام المعطوف {لُوطاً}، ولوط لم يكن من ذرية إبراهيم، إنما هو من ذرية نوح، فالمعنى: وهدينا نوحاً من قبل إبراهيم، وهدينا من ذرية نوح داود ومن بعده.(3/2090)
{كُلاًّ هَدَيْنَا}: وقف حسن، {وَإِلْيَاسَ}: أيضاً وقف عند أبي حاتم، ولا يحسن عند غيره، لأن بعده {وَإِسْمَاعِيلَ} معطوف عليه.
واختلف " الناس " في {إِلْيَاسَ}: فقيل: " هو " من ذرية هارون أخي موسى، بينهما ثلاثة آباء. وقال ابن مسعود: إلياس هو إدريس.
وإدريس جد نوح، بينهما أربعة آباء. فمحال أن يُنْسَب إلى نوح وهو جده الأعلى، والذي عليه " أهل " الأنساب: أن إلياس غير إدريس.
و {اليسع}: اسم أعجمي، جرى على غير قياس. وقد قال أبو عمرو:(3/2091)
إنما هو " يَسَعُ " ثم أدخلت الألف واللام عليه، وليس بفعل، ولو كان فعلاً لم يجز إدخال الألف واللام عليه، (ألا ترى) أنهم أدخلوها على " يزيد " إذ هو اسم، فقالوا: " اليزيد "، كما قالوا: " الوليد "، وأنشد الفراء:
وَجَدْنا الوْليدَ بْنَ الْيَزيد. (مُبارَكاً، ... ورد الكسائي هذه القراءة، وقال: لا تجوز، كما لا يجوز " اليحيى ")، وهذا لا يلزم، لأنا لو نكّرنا " يحيى " لأدخلنا عليه الالف واللام، والعرب تقول: / " اليعملة ".
ومن قرأ (الَّليْسَع) فأصله " ليسع "، مثل: ضيغم وزينب، ثم دخلت(3/2092)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
الألف واللام للتعريف. وأنكر " أبو " حاتم هذه القراءة، وقال: (لا يوجد) " ليسع ". وهذا لا يلزم، لأنه مثل: " ضيغم " و " زينب ".
واختار الطبري أن يكون بلام واحدة، لأنه أعجمي، وقد تواترت الأخبار بهذا الاسم بهذا اللفظ، وقال: ولم يُحفظ عن أحد من أهل العلم أنَّ اسمه " ليسع "، (إنما قالوا: اسمه " اليسع ").
قال زيد بن أسلم: كان يوشع بن نون خليفة موسى في قومه، وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، فشكر الله له ذلك، و [نبّأه]. بعد موسى في بني إسرائيل، وسماه " اليسع " بلسان العرب.
قال ابن عباس: الأنبياء كلهم من بني إسرائيل - وهو يعقوب - إلا عشرة: نوح وهود ولوط وصالح وشعيب وإبراهيم وإسماعيل " وإسحاق " وعيسى ومحمد.
قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية.
المعنى: وهدينا من آباء هؤلاء المذكورين، ومن ذرياتهم، ومن إخوانهم)،(3/2093)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
أي: بعض ذلك، {واجتبيناهم} أي: أَخْلَصْنَاهم، {وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: سدّدناهم وأرشدناهم إلى طريق الحق، وهو الإسلام. وهو مشتق من " جَبَيْتُ الماءَ في الحوض: إذا جمعته ".
قوله: {ذلك هُدَى الله} الآية.
أي ذلك الهدى الذي هُدِي به هؤلاء {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}: أي: يوفق به من يشاء، {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي: " لو " أشرك هؤلاء الأنبياء لذهب عنهم جزاء أعمالهم، لأن الله لا يقبل مع الشرك عملاً.
قوله: {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} الآية.
المعنى: أولئك الذين سميناهم من الأنبياء هم الذين أعطوا الكتاب، يعني صحف إبراهيم وموسى، وزبور داوود، وإنجيل عيسى، {والحكم} يعني: الفهم بالكتاب.(3/2094)
قال مجاهد: {الحكم}: اللب.
وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء} أي: بالآيات التي أنزلت عليك يا محمد، يريد القرآن، (هؤلاء) " أي " مَن بحضرتك من المشركين. وقيل: الإشارة إلى قريش، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني الأنصار:
قال قتادة: {هؤلاء}: إشارة إلى أهل مكة، والقوم الذين ليسوا بالآيات بكافرين: أهل المدينة، وكذلك قال الضحاك والسدي، وروي عن ابن عباس ذلك.
وقال: (أبو رجاء): {قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ}: الملائكة.
وعن قتادة قال: هم الأنبياء المذكورون، فهم ثمانية عشر.(3/2095)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
وأكثرهم قال: الإشارة في هؤلاء لكفار قريش.
قوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله} الآية.
المعنى: أن {أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره من النبيين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم، ويسلك طريقهم، والاقتداء: الاتباع. والمراد: اتّباعهم على ما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد، لا ما كانوا عليه من الشرائع، لأن شرائعهم كانت مختلفة، وغير جائز أن يؤمر النبي باتباع " شرائع " مختلفة، ولا يمكن ذلك، لأن ما حرم " عليهم " في شريعة نبي، أُحِلَّ في شريعة نبي آخر، فكيف يَقْدِر النبي صلى الله عليه وسلم على اتباع ذلك؟، والعمل بالشيء وضده - في حال هذا - لا يمكن ودليل ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] فهذا هو الصحيح، ليست الآية في الاقتداء بشرائعهم لاختلافها، إنما الآية في الاقتداء بهم فيما لم يختلفوا فيه، وهو التوحيد ودين الإسلام. وأما الشرائع فقد اختلفوا فيها بأمر الله " لهم " بذلك وفَرضِه على كل واحد ما شاء.(3/2096)
وأكثر النحويين " على " تلحين " من كسر الهاء من {اقتده} وهي قراءة ابن عامر، إلا ما قال أحمد بن محمد بن عرفة: إنه يجوز أن تكسر على التشبيه بهاء الإضمار، كما جاز إسكان هاء الإضمار على التشبيه بهاء السكت.
وقال بعض النحويين: من كسر الهاء، يجوز أن تكون الهاء لغير السكت، وأن تكون للمصدر، كأنه: " فبهداهم (اقتد الاقتداء) "، " قال ": ويجوز أن تكون كناية عن الهدى، والمعنى: فبهداهم اقتد " هداهم "، على التكرير للتأكيد.(3/2097)
والوقف على هذه الهاء أسلم، وهو الاختيار عند أكثر النحويين، لأنه تمام، ولأنه إنما جيء بها للوقف.
ثم قال تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا أسألكم على تذكيري إياكم أجراً " ولا " عوضاً، إن القرآن الذي جئتكم به {إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ}.(3/2098)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية.
المعنى: وما عظموا الله حق عظمته {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}.
وقيل: المعنى: وما عرفوه حق معرفته.
والذي قال ذلك هو " رجل من اليهود، جاء يخاصم النبي، فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟، وكان الرجل حبراً سميناً، فغضب اليهودي وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فقال له: أصحابه: ويحك، ولا على موسى؟. فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية ".
وقال محمد بن كعب القرظي: جاء ناس من اليهود إلى النبي فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملها من عند الله؟، فأنزل الله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} [النساء: 153] الآية، ثم {قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}، فأنزل اللهُ: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، ثم قال الله لنبيه محتجا عليهم:(3/2099)
{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى " نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ "} إلى قوله: {قُلِ الله}.
وقيل: إن هذا خبر عن مشركي العرب أنكروا أن يكون الله أنزل على أحد كتاباً.
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} هم يهود أخفوا من التوراة ما أرادوا، وأبدوا ما أرادوا.
واختيار الطبري أن يكون ذلك خطاباً لقريش، لأنه في سياق الحديث عنهم، ولأن اليهود لم يَجْرِ لهم ذكر.
قال مجاهد: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} هو خطاب لمشركي العرب، {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} إخبار عن اليهود، {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَءَابَآؤُكُمْ} للمسلمين.
فمن قرأ بالياء في (يجعلونه) و (يبدون) و (يخفون)، رَدَّهُ على الناس.(3/2100)
ومن قرأ بالتاء، فعلى المخاطبة لليهود، والمعنى: علمتم علماً فلم يكن لكم علم لتضييعكم إياه، ولا لآبائكم لتضييعهم إياه، لأن من عَلِمَ شيئاً وضيّعه، فليس له علم.
ويجوز أن يكون المعنى: وعلمتم علماً لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على الامتنان عليهم بإنزال التوراة عليهم، والأول: قول أهل التفسير.
{وَهُدًى لِّلنَّاسِ} وقف على قراءة من قرأ بالياء في {تَجْعَلُونَهُ} وما بعده، {وَلاَءَابَآؤُكُمْ} تمام عند نافع، {قُلِ الله} التمام عند الفراء، لأن المعنى عنده: قل الله عَلَّمَكُم.
وقيل: المعنى: قل يا محمد: الله أنزله، ولا جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب}.(3/2101)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} أي: دعهم في باطلهم، وهذا تهديد من الله لهم.
قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} الآية.
المعنى: وهذا القرآن - يا محمد - كتاب، - ومعنى الكتاب هنا -: مكتوب - أنزلناه إليك مباركاً، {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} أي: لتنذر عذاب الله وبأسه أم القرى.
وأم القرى: مكة، (ومن حولها): شرقاً وغرباً.
وسميت: {أُمَّ القرى}، لأن الأرض دُحيت منها، أي: بُسِطَت. وقيل: سميت بذلك، لأن فيها أول بيت وضع للناس. وقيل: سميت بذلك لأنها تُقصد من كل قرية.
ومن قرأ (وليَنذِرَ) رَدَّهُ على (الكتاب)، ومن قرأ بالتاء فعلى المخاطبة(3/2102)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
للنبي عليه السلام.
وقوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي: يصدقون بالبعث، {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بهذا الكتاب والهاء في (به) للقرآن، وقيل: لمحمد.
وقيل: إنه لما نزل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكُتبْها، فكذلك نُزِّلَت عليّ.
قوله: {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: على الصلوات التي افترضها الله.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية.
قوله: وَ (مَن) قال في موضع جر، عطفٌ على (مَن) الأولى.(3/2103)
المعنى: ومن أخطأُ قولاً ممن اختلق على الله الكذب، فادَّعى أنه بعثه نبياً. وهذا تسفيه من الله عز وجل لمشركي العرب في معارضة عبد الله بن أبي سرح ومسيلمة للنبي، ادعى أحدهما النبوة، وادعى الآخر أنه جاء بمثل ما جاء به النبي.
فالَّذي قال: {أُوْحِيَ إِلَيَّ} هو مسيلمة الكذاب، والذي قال: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان عبد الله هذا قد كتب للنبي، فكان يملي عليه (عزيزٌ حكيمٌ) فيكتب (غفورٌ رحيمٌ)، وقال: قد أنزل " عليّ " مثل الذي أنزل على محمد، قد كتبتُ ما لم يُمْل عليَّ. وكان يقرأ على النبي ما يكتب، فيقول له النبي: نعم سواء.(3/2104)
وقيل: إنه لمّا نزل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]، فقال له النبي: أكتُبها، فكذلك نُزِّلَت عليّ. فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وأخبرهم بما كان يصنع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في الذي يكتب: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة. وفيه نزل: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106].
وقيل: إن قائل القولين هو عبد الله هذا. وقيل: هو مسيلمة. وقال ابن عباس: الذي افترى على الله كذباً هو مسيلمة، والذي قال: " سأنزل مثل ما أنزل الله " هو عبد الله بن أبي سرح.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} / أي: لو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين المفترين على الله الكذب وقد قرب(3/2105)
" فناء " آجالهم، والملائكة قد بسطت أيديها، يضربون وجوههم وأدبارهم.
قال ابن عباس: البسط هنا: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. وقال الضحاك: بسطت الملائكة أيديها بالعذاب. وقيل المعنى: (باسِطو أَيْديهم) لإخراج أنفسهم
{أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} أي: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من العذاب، أي: خلصوها اليوم.
قوله: {اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي: عذاب جهنم، وهو عذاب الهوان، وهذا إخبار من الملائكة للكفار " بما " يصيرون إليه في الآخرة.
والهون - بالضم -: الهوان، والهَوْن بالفتح: الرفق والدَّعَة، تقول: " هُوَ هَوْنُ الْمؤوَنه "، ومنه قوله: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] يعني بالرفق والسكينة.(3/2106)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قال أبو أمامة: يقبضون [روح الكافر] ويعدونه بالنار ويشدد عليه وإن رأيتم أنه (يُهّون عليه، ويقبضون روح المؤمن ويعدونه بالجنة ويهون عليه وإن رأيتم) " أنه " يُشَّدد عليه.
قوله: {فِي غَمَرَاتِ الموت} ليس يوقف، لأن ما بعده في موضع الحال. و {مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله}: وقف حسن. {أَيْدِيهِمْ}: وقف، {غَيْرَ الحق} وقف عند نافع، {تَسْتَكْبِرُونَ} تمام حسن، لأنه آخر قول الملائكة.
قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} الآية.
قرأ أبو حَيْوَةَ {فرادى} بالتنوين، وهي لغة تميم، ويقولون في الرفع " فُرادٌ " وحكى أحمد بن يحيى " فُرادُ " بغير تنوين مثل " رُباع ".(3/2107)
قال القتبي: {فرادى} جمع فَرْدٍ، كأنه جمع على " فَرْدان "، ثم جمع على " فرادى "، ككَسْلان وكُسالى.
وقال الطبري: واحد {فرادى}: " فَرَدٌ "، بالفتح.
ومن قرأ (بَيْنَكم) بالنصب، فمعناه: لقد تقطع (الأمر بينكم) والسبب بينكم، ونصبه على الظرف.
ومن رفع، جعله غيرَ ظرف، بمعنى الوَصْل، تقديره: لقد تقطع وصلُكم.(3/2108)
ومعنى الآية: أنها خبر من الله عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء المشركين، يقول لهم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} أي: وُحداناً لا مال معكم، ولا أثاث، ولا شيء مما كان الله خَوَّلَكُم في الدنيا. ومعنى {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ}: قيل: منفردين لا شيء لكم، وقيل: عراة.
وروي " أن عائشة رضي الله عنها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه إن الرجال (والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، لا ينظر الرجال) إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شُغِل بعض عن بعض ".
ومعنى {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي: في الدنيا، {مَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} أي: ليس نرى معكم مَن كنتم تزعمون أنهم (لكم شفعاء) عند ربكم يوم القيامة.(3/2109)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
وكان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الآلهة، لأنها تشفع لهم عند الله، و [إنها] شركاء له.
قال عكرمة: قال النضر بن [الحارث]: " سوف تشفع لي اللات والعزى "، فنزلت هذه الآية.
قوله: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} الآية.
معنى الآية: أنها تنبيه لهؤلاء المشركين على قدرة الله، وأن ما يعبدون لا يقدر على ذلك. ومعنى فَلْقِه الحبَّ والنوى: يريد به النبات، فلق الحبة عن السنبلة، والنوى عن النخلة.
وقال الضحاك: معنى {فَالِقُ الحب والنوى} خالقهما، وروي ذلك عن ابن عباس.(3/2110)
وقيل: معنى ذلك أنه هو الذي جعل الشق في النواة وفي الحبة، قال مجاهد: هما (الشقان اللّذان) فيهما.
واختيار الطبري أن يكون المعنى: فلقهما للنبات، لأنه أتبع ذلك بقوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت}، (فخروج الحي من الميت) كخروج النبات عن الحب والنوى، قال: ولا يعرف في اللغة " فلق " بمعنى خلق.
وقوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} معناه: يخرج السنبل الحي من الحب الميت، ويخرج " الحب " الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي. والعرب تسمي النبات والشجر ما دام لم يَيْبَس " حياً "، فإذا يبس وجف سمي " ميتاً ". فتقديره: يخرج النبات الأخضر الغض من الحبة اليابسة، ويخرج اليابس من الأخضر الغض.(3/2111)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
وقال ابن عباس في معنى ذلك: يخرج النطفة الميتة من الحي، ويخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة.
{فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: من أين تُصْرَفون عن الحق ولا تتدبرون.
قوله: {فَالِقُ (الإصباح) وَجَعَلَ الليل سَكَناً} الآية.
قرأ الحسن: (فالِقُ الأَصباح) بفتح الهمزة، " و " جعله جمع صبح.
وقرأ النخعي {فَالِقُ الإصباح} بالنصب في (الإصباح) وكسر الهمزة، يقدر حذف التنوين لالتقاء الساكنين، كأنه " قال " فالق الإصباح، فالإصباح: مفعول به، لكن حذف التنوين لسكونه وسكون اللام.(3/2112)
ومعنى {فَالِقُ الإصباح}: مضيء الصبح عن سواد الليل.
{وَجَعَلَ الليل سَكَناً} أي: يَسْكُن فيه كل مُتحرك، ويستقر فيه كل متصرف.
قوله {والشمس والقمر حُسْبَاناً} أي: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. قال ابن عباس: يعني عدد الأيام والشهور والسنين.
وقال قتادة: {حُسْبَاناً}: ضياء.
والحسبان - بضم الحاء - " و " الحِساب بكسر الحاء: جمع حسبانة، وهي الوسادة الصغيرة.(3/2113)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قال الأخفش: " حُسبان " جمع " حساب ": كشهبان وشهاب. وقال يعقوب: حسبان: مصدر " حَسِبْت الشيء حُسباناً "، والحساب: الاسم.
{ذلك تَقْدِيرُ العزيز} أي: هذا الفعل الذي فعله الله: تقدير عزيز عليم، أي: عزيز في سلطانه، وعليم بمصالح خلقه.
قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم} الآية.
المعنى: والله " الذي " جعل لكم النجوم أيها المشركون به، جعلها أدلة في ظلمات البر والبحر لكم إذا ضللتم وتحيرتم {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: " قد " بيناها لِتَفْقَهوها وتعلموا أن الله مدبر ذلك كله، فلا تعبدوا غيره.
قوله: {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة} الآية.(3/2114)
المعنى: والله الذي قد تركتم عبادته هُوَ الذي أنشأكم من نفس واحدة، وهو آدم.
{فَمُسْتَقَرٌّ} أي في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعٌ} أي: في الصلب.
وعن ابن مسعود: المستودع: المكان الذي يموت فيه، وقوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} [هود: 6] أي في الأرحام، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] أي في الأصلاب، / وقيل: حيث تموت.
وقال ابن جبير: المستودع: ما كان في الأصلاب، والمستقر: ما كان في البطون وعلى الأرض وفي بطنها.
وقال ابن عباس: {مُسْتَقَرَّهَا} [هود: 6]: ما كان على وجه الأرض وفي الأرض،(3/2115)
{وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]: في الصلب. وعن ابن عباس " أيضاً ": المستقر: في الأرض، والمستودع: " عند الله، وكذلك روي عن مجاهد. وقال الحسن: المستقر: في القبر، والمستودع ": في الدنيا يوشك أن يلحق بصاحبه.
ومن قرأ بالفتح في {فَمُسْتَقَرٌّ}، فمعناه: أن الله استقره. ومن كسر، رد الفعل إلى المذكور عند الاستقرار.
{قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: بيّنّا الحجج والعلامات، {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} مواقِعَ(3/2116)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
الحجة. {وَمُسْتَوْدَعٌ}، وقف، و {يَفْقَهُونَ} التمام.
قوله: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء} الآية.
قوله: {وجنات} قراءة الجماعة بالنصب والتاء مكسورة، عطف على {نَبَاتَ}، كأنه [قال]: وأخرجنا به جنات. وقيل: هو معطوف على {خَضِراً}.
وقرأ الأعمش بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولهم جنات.
وقيل: هو معطوف على المعنى، (فعطف) على القنوان، كأنه قال: وثم قنوان وجنات.(3/2117)
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن: {وَيَنْعِهِ} بالضم: لغة، وقرأ محمد بن السَّمَيفَع {وَيَنْعِهِ} أي: مدركه.
والمعنى: والله هو الذي أنزل من السماء (ماء ففعل) به ما ذكر، وأخرج به ما ذكر.
ومعنى {خَضِراً} (أخضر)، أي: نباتاً أخضر، {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من الخضر، {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} وهو السنبل ونخرج من الماء من النخل من طلعها ما قنوانه دانية، أي: قريبة مُتَهَدَلة، يعني قصار النخْل التي قد لصقت عُذُوقُها بالأرض،(3/2118)
والقنوان طلعه.
وقوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه} أي: (قد) اشتبه في الخلق واختلف في الطعم.
قوله: {وَيَنْعِهِ} أي: نضجه. ومن قرأ (يانعة) فمعناه: ناضجة.
وقد قيل: إن {يَنْعِهِ} - بالفتح - جمع يانع، كتاجر وتَجْر. و (قد) قيل: هو مصدر " يَنِع الثمر يَنْعاً " اذا نضج.
وقرأ محمد بن السَّمَيفَع اليماني (ويانعه)، وقرأه ابن أبي اسحاق (ويُنْعه) بالضم، على معنى: ونُضجه.(3/2119)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{دَانِيَةٌ} وقف إن رفعت " الجنات "، {وَيَنْعِهِ} تمام.
قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} الآية.
{الجن}: مفعول أول لِ (جَعَلوا)، و {شُرَكَآءَ}: مفعول ثان، ويجوز " أن يكون {الجن} بدلاً من {شُرَكَآءَ} "، والمفعول الثاني: اللام في (لله) وما عملت (فيه)، وأجاز الكسائي رفع (الجن) على معنى: هم الجن.
وقرأ يحيى بن يعمر: {وَخَلَقَهُمْ} بالنصب وإسكان اللام، على معنى: وجعلوا لله خَلْقَهُم شركاء، لأنهم يخلقون الشيء، بمعنى: يقدرونه ويعبدونه.(3/2120)
ومعنى: {وَخَرَقُواْ لَهُ): اختلقوا كذباً. والتشديد فيه معنى التكثير.
ومعنى الآية: أن المشركين جعلوا الجن شركاء لله، كما قال عنهم {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158]، ومعنى جَعلِهم الجن شركاء لله: أنهم أطاعوهم كطاعة الله. وقيل: نسبوا إليهم الأفاعيل التي لا تكون إلا لله.
قال ابن جريج: هم الزنادقة. وقال القتبي: هم " الزنادقة جعلوا إبليس يخلق الشر، والله يخلق الخير ".
ومعنى الآية {وَخَلَقَهُمْ}: أي: والله خلقهم، والهاء والميم تعود على الفاعلين(3/2121)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
/ ذلك.
{وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وبنات (بِغَيْرِ عِلْمٍ)} قالت العرب: الملائكة بنات الله، وجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون، وهم البنون، وقال اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله كذباً واختراقاً منهم.
{سبحانه}: أي: تنزيهاً له عما يقولون، {وتعالى} عن ذلك.
قوله: {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد} الآية.
المعنى: هو بديع السماوات، أي: (مبتدعها ومحدثها) بعد أن لم تكن.(3/2122)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد} أي: من أي: وجه يكون له ولد {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة}؟ أي: إن الولَدَ إنما يكون للذَّكَر من الأنثى، ولا ينبغي أن تكون له صاحبة، فيكون له وَلد، لأنه خالق كل شيء. وقيل: المعنى: من أين يكون له ولد وولد كل شيء يشبهه، ولا شبيه لله. وهو خالق كل شيء، وهو عليم بكل شيء، لا يمكن أن يكون وَلدٌ لِمَن هذه صِفَته، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ} الآية.
والمعنى: فذلكم الذي ذكرت صفته هو الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء.
وقد تعلق القائلون بخلق القرآن بقوله: {خالق كُلِّ شَيْءٍ}، قالوا: القرآن شيء، فهو داخل تحت الخلق. وقد جرت هذه المسألة بين عبد العزيز بن يحيى المكي وبين بشر(3/2123)
ابن غياث المريسي القدري بحضرة المأمون، اختصرت الحكاية لطولها:
قال عبد العزيز: قلت لبشر: ما حجتك في خلق القرآن؟، وانظر: إلى أَحدّ سهمٍ في كنانتك فَاْرمِنِي به. قال: فقال لي بشر: تقول: إن القرآن شيء أم غير شيء؟. (قال عبد العزيز): فقلت له إن كنتَ تريد أنَّه شيء إثباتاً للوجود ونفياً للعدم، فَنَعَم هو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم لذاته وأنه كالأشياء فلا. قال له بشر: قد أَقْرَرْتَ أنه شيء وادّعيتَ أنه لا كالأشياء، فأت بنصٍ على ما زَعَمتَ. قال عبد العزيز: فقلت: قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، فبِقولِه تكون الأشياء، وليس هو كهي. وإنما تكون الأشياء بقوله وأمْرِه. فقولُه خارج(3/2124)
عن الأشياء المخلوقة، ألا ترى إلى قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فجمع في لفظة " الخلق " جميع المخلوقات، ثم قال: {والأمر} يريد الذي كانت به هذه المخلوقات كلها. والأمر غير المخلوقات، وهو قوله: {كُنْ} [النحل: 40]. وقال (الله) تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل الخلق ومن بعد الخلق. وقد أخبر عن الأشياء المخلوقات في غير موضع من كتابه، وأنه خلقها بأمره وقوله، فقال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} [الأنعام: 73]، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الحجر: 85، الأحقاف: 3]، والحقُّ هو كلامُه. فأمُره، كلامُه، وكلامُه: أمرُه، وأمرُه: الحقُّ، والحقُّ: أمرُه، وكلامُه: الحقُّ، والحقُّ: كلامُه.
فهذا يدل على أن كلامه لا كالأشياء المخلوقة، لأنها به كانت (وحَدَثَت). وأما ما يدل على أنه " شيء " فقوله: {إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 93]، فدل على أن الوحي شيء، ودل ما تَقدَّم على أنه لا كالأشياء.
قال بشر: قد زعمت أن الله يخلق الأشياء، وادّعيتَ أنَّها تكون بقوله، وأنَّها(3/2125)
تكون بالحق، وأنَّها تكون بأمره، وهذا متناقض.
قال عبد العزيز: إِنّ قولَه هو كلامُه، وقولَه هو الحقُّ، وأمرَه هو كلامُه: فالألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد، كما سمى كلامه: نوراً وهدىً وشفاءً ورحمةً و {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}، وكله يرجع إلى شيء واحد، [كذلك ذاك. وكما سمى نفسه: فرداً صمداً واحداً]، وهو شيء واحد لا كالأشياء. وهذا إنّما منعه بِشْر لجِهلِه بِلُغةِ العرب.
قال بشر: (لَستُ) أَقْبَلُ لغةَ العرب، ولا أَقَبل إلا النص.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} [الفتح: 15]، ثم قال: {كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} [الفتح: 15]، فسمى القرآن كلامه، ثم سماه: قوله، وقال: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، فسمى القرآن حقاً، وقال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق} [الأنعام: 66]، وقال:(3/2126)
{لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ} [يونس: 94]، ومثل هذا كثير.
قال بشر: قد أقررت يا عبد العزيز أن القرآن شيء على صفة ما، وقد قال تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْ} [الأنعام: 102، الرعد آية 16، الزمر آية 62، غافر آية 62]، وهذه لفظة لم تدع شيئاً من الأشياء إلا أدخلته في الخلق، ولا يخرج عنها شيء، قد تقَصَّتْ جميع الأشياءِ، فصار القرآن مخلوقاً بنص القرآن.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، فهل أبقت الريح - يا بشر - شيئاً لم تدمره؟
قال بشر: لا. قال عبد العزيز: فقلت له: قد - والله - أَكْذَب الله قائل هذا بقوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، فأخبر أن مساكنهم كانت باقية وهي أشياء كثيرة، وقال تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} [الذاريات: 42]، وقد أتت على الجبال والشجر والأرض فلم تجعله رميماً، وقال عز وجل: { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، يعني بلقيس، فهل(3/2127)
أوتيت ملك سليمان وهو أضعاف ملكها؟. فهذا تكسير لقولك يا بشر. ولكن ما تقول - يا بشر - في قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وقال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، وقال: {أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14].
وقال: {وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11، فصلت: 47]!، فأخبر تعالى أن له علماً. أفتقرُّ - يا بشر - أن له علماً كما أخبر في كلامه أو تخالف التنزيل؟.
فعلم بشر أنه (إنْ) قال: " له علم "، فيقول له: أهو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا؟. فإن قال: " دخل "، كفر. وإن قال: لا. أجاز ما منع في الكلام. وأبى أن ينفي العلم فخالف التنزيل، فحاد، ثم قال: معنى علمه: أنه لا يجهل.
قال عبد العزيز: لم أسألك عن هذا، قد علمت أن الله لا يجهل، انما سألتك:(3/2128)
هل تثبت له علماً كما أثبته لنفسه؟، وليس نفيك السوء - يا بشر - عن الله يوجب إيجاب المدح، لأن قولك: " هذه الأسطوانة لا تجهل " ليس هو إثباتاً أن لها علماً. ولم يمدح الله ملكاً (ولا نبياً ولا مؤمنا بِنَفِي الجهل) ليدل على (أنه) إثبات العلم، وإنما مدحهم بالعلم، فقال: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12]، ولم يقل: " لا يجهلون "، وقال لنبيه: {(وَتَعْلَمَ) الكاذبين} [التوبة: 43]، ولم يقل: " ولا تجهل "، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، ولم يقل: " الذين لا يجهلون "، فمن أثبت العلم نفى الجهل، وليس (كل) من نفى الجهل أثبت العلم، (و) على الخلق جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه.(3/2129)
فقال بشر: أتقول: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75، لقمان: 28] وإن له (سمعاً وبصراً) كما أثبت (له عِلْماً)؟.
قال عبد العزيز: فقلت: إنما على الناس أن يُثبتوا ما أثَبتَ، وينفوا ما نفى، ويُمسكوا عن ما أمسك الله. فأخبرنا تعالى أن له علماً، فقلت: " له علم "، ولم يخبرنا أن له سمعاً ولا بصراً، فأمسكنا عن ذلك.
فقال بشر: قد زعمت أن لله علماً، فما معنى علم الله؟.
/ قال عبد العزيز: هذا ما لا يعلمه إلا الله، قد تَفرَّد بذلك، وقد أمرني بشر أن أترك قول الله وأَمرَه، واتبع أمر الشيطان، لأن الله أخبر عن الشيطان أنه (يأمرنا أن) نقول (على) الله ما لا نعلم، وحرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم بقوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169، الأعراف: 33]، فقد اتبع بشر طريق الشيطان، وارتكب ما حرم الله علينا.(3/2130)
قال عبد العزيز: فانقطع بشر، فقلت له: يا بشر، ألست تقول إن لله نَفْساً بقوله: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41]، وبقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28، 30]؟.
قال بشر: نعم له نفس كما أخبرنا.
قال عبد العزيز: فقلت له: قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ (الموت)} [آل عمران: 185]، أفتقول - يا بشر - إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس المخلوقة؟. فأبى بشر من القول بذلك، فقال له عبد العزيز: وكذلك كلام الله ليس بداخل في الأشياء المخلوقة. فسكت بشر.
قال عبد العزيز ثم قلت له: القرآن نزل على أربعة أخبار:
- خبر مخرجه مخرج الخصوص، ومعناه الخصوص، كقوله: {اسجدوا لأَدَمََ} [البقرة: 34، الأعراف: 11، الاسراء: 61، الكهف: 50، طه: 166]، وكقوله: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} [آل عمران: 59]: هذا خاص في لفظه ومعناه.
- والثاني: خبر مخرجه مخرج العموم، ومعناه معنى العموم، كقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} [النمل: 91]، فكل شيء له، مخلوقاً كان أو غيرَ مخلوقٍ، وصفاته له، وخلقه له.(3/2131)
- والثالث: خبر مخرجه العموم ومعناه الخصوص، نحو قوله: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13]، و (النّاسُ) يجمع آدم وعيسى وغيرهما، ولم يكونا من ذكر وانثى. ومنه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وهي لم تَسَع إبليس والكفار، لقوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} [ص: 85].
- والرابع: (خبر) مخرجه الخصوص ومعناه العموم، كقوله: {وَأَنَّهُ (هُو (َ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49]، فخص " الشعرى "، والمعنى: أنه رب كل شيء: الشعرى وغيرها، ولكن خصّها الله باللفظ، لأنهم كانوا يعبدونها.
فهذا اختصار بعض ما جرى بينهما، فنرجع إلى ما كنا فيه. قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: قال الفراء: الوكيل: الكافي. ومنه قولهم: "(3/2132)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173]، أي: كافينا الله ونعم الكافي ". وقال قتادة: الوكيل: الحفيظ. وقيل: الوكيل: الولي. وقيل: الرب. وقيل: الكفيل.
قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} الآية.
قال ابن عباس: معناه: لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها.
وليس معناه: لا تراه، كما زعمت المعتزلة القدرية، وقد قال الله عن فرعون: {إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90] فوصف بأن الغرق أدرك فرعون) ولم يخبر أنه رآه، لأن الغرق ليس مما يُرى، فليس الإدراك هو الرّؤيةَ، وقد يرى الشيءُ الشيءَ ولا يُدرِكه، كما حكي عن أصحاب موسى حين قرب منهم أصحاب فرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، وكان أصحاب فرعون قد رأوا أصحاب موسى، ولم يكونوا(3/2133)
ليدركوهم، لأن الله قد وعد نبيَّه أنهم لا يُدرَكون بقوله: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77]، ولذلك قال لهم موسى: (كَلاّ) أي: ليس يُدرِكونا، فليس (قوله): {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} بمعنى: لا تراه الأبصار. وإنما معناه: لا تحيط به الأبصار، لأنه غير جائز أن تحيط به الأبصار، ومثل هذا وصفه بأنه يُعلم ولا يحاط به.
/ وقيل: معناه: لا تراه الأبصار في الدنيا، قال السدي وغيره.
والكلام على جواز رؤية الله جل ذكره في الآخرة يطول، وبجوازه يقول أهل السنة والجماعة، و (به) تواترت الأخبار وتتابعت الروايات عن النبي(3/2134)
عليه السلام، وهو معنى قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وهو المفهوم من قوله تعالى في الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فلو كان الخلق كلهم محجوبين عن ربهم، ما خص ذكر الكفار بالحجاب. وفي تخصيصه الكفار (بالحجاب) دليل على أن المؤمنين غير محجوبين عن ربهم، فأما قول من قال: إن معناه: " عن رحمة ربك " وقال في (الآية الأخرى): " إلى رحمة ربها ناظرة "، فهو قول متقاحم بالباطل، مُدَّعٍ ما ليس لفظُه في الكلام، مُخرِج للخطاب عن ظاهره، متكلِّف إضمارَ ما ليس في الكلام عليه دليل، ألْجَأَهُ إلى ذلك كله نَصْرُ باطله (بباطل مثله)، أعاذنا الله من ذلك كله.(3/2135)
وقيل: معنى (الأبصار) هي في هذا: أبصار العقول، كما قال: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} [الأنعام: 104]، فالمعنى: لا يدركه نفاذ العقول فتتوهمه وتُكيّفه إذ ليس كمثله شيء متوهّم محدود.
قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير): (اللطيف)}: مشتق من اللطف وهو التأني يقال: " أُلطُفْ لِفُلانٍ في هذا الأمرِ "، أي: " تأن له " من وجه يَخلُص (منه) إلى بغيته، (فالله لطيف بالخلق) حتى صاروا إلى ما يصلحهم. وقيل: {اللطيف}(3/2136)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
هو الذي فعل أفعالاً لطيفة، و {الخبير}: العالم بالشيء. فهو لطيف لإِحْكامهِ الخَلْقَ، وهو العظيم، لأنه خلق الخلق العظيم.
قوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} الآية.
المعنى: أن الله أمر نبيه أن يقول للمشركين ذلك. والبصائر: الهدى. وقيل: الآيات الدالة على الهدى.
{فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: استدل وعرف نفع نفسه، {وَمَنْ عَمِيَ}: أي: من ضَلّ فعلى نفسه، {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: لست عليكم برقيب أحصي أعمالكم، إنما أنا مُبلِّغ.(3/2137)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
وقيل: المعنى: (لست) آخذُكم بالإيمان أخذَ الوكيل عليكم، وهذا قبل الأمرِ بالقتال، فلّما أُمِر النبي بالقتال، صار حفيظاً ومسيطراً على كل من تولى. وقيل: المعنى لم أُؤْمَرْ بحفظكم عن أن تَهلكوا.
قوله: {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} الآية.
المعنى: وكما صرفنا لكم الحجج والعلامات فيما تقدم مثل ذلك أفعل في كل ما جهلتموه ولم تعرفوه، ومعنى (نُصَرّف): نبيّن.
وقوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أي: " ولئلا يقولوا درست ".
وقيل: المعنى: وليقولوا درست صرفناها، لأنهم لما آل أمرهم بَعدُ - (عند تصريف الآيات) - إلى أن يقولوا لمحمد: " درست ". صار كأنه إنما صرَّفها ليقولوا ذلك، مثل {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} [يونس: 88]، و {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً (وَحَزَناً)} [القصص: 8] وشبهه، وأهل اللغة(3/2138)
يسمون هذه اللام لام الصيرورة، لأن السبب الذي " صيرهم ليقولوا له ": " درست "، هو تصريف {الآيات}.
ومعنى (دَرَسْتَ): قَرأْتَ وتَعلَّمْتَ كتب الأولين.
ومن قرأ (دارَسْتَ) فمعناه: قارَأْتَ أهل الكتاب فتعلمت منهم وتعلموا منك.
ومن قرأ (دَرَسَتْ) / بإسكان التاء، فمعناه: تقادمت وَاّمَحتْ، أي: الذي(3/2139)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
تتلوه علينا قد مَرَّ بنا قديماً و (تطاولت) مدته.
وروى الحسن: (دَارَسَتْ) بألف وإسكان التاء. ولا يجيزها أبو حاتم، لأن الآيات لا تدارس. ومعنى الآية عند غيره: وليقولوا: دارستك أمتك.
{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: صرفناها لنبين القرآن لقوم يعلمون. فالهاء (في) {وَلِنُبَيِّنَهُ} للقرآن، وقيل: للتصريف.
قوله: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ} الآية.
المعنى: أن الله أمر نبيه باتباع القرآن والإعراض عن المشركين ثم نسخ ذلك بآية القتال في " براءة ".(3/2140)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ} الآية.
أعلم الله نبيه أنه لو شاء الله لهداهم فلم يشركوا. وقيل: المعنى: لو شاء لأنزل عليهم آية تضطرهم إلى الإيمان.
ثم قال لنبيه: وما أرسلناك عليهم حفيظاً، أي: إنما أرسلناك مبلغاً، لم ترسل لتحفظ عليهم أعمالهم، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: بِقَيّم تقوُمُ بأرزاقهم وأقواتهم. وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نُسخَ الأمرُ بالقتال هذا كله.
قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} الآية.
{عَدْواً}: مصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.(3/2141)
وفي قراءة المكيين: {عَدْواً} جعلوه واحداً يدل على الجمع، كما قال: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} [النساء: 101]، ونصبه على الحال. وقد روي عنهم: (عُدُوّاً) بضمتين، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، ونصبه على المصدر، يقال: عدا يعدو عَدْوا (وعُدُوّاً) وعُدْواناً.
ومعنى الآية: أن المشركين قالوا: لتنتهن عن سَبّ آلهتنا أو نهجو ربكم، فأمر (الله) المسلمين ألا يسبوا آلهتهم لئلا يسبوا الله جهلاً منهم بخالقهم ورازقهم.(3/2142)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
(ثم قال تعالى): {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} (أي) كما زيّنَا لهؤلاء عبادة الأوثان، كذلك زيَنّا لكل جماعةٍ - اجتمعت على عمل من الأعمال، طاعة أو معصية - عَمَلَهم، ثم مرجعهم بعد ذلك إلى الله فيخبرهم بأعمالهم ويجازيهم عليها.
قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} الآية.
المعنى: أن الله جل ذكره لمّا نزّل في " الشعراء " {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، أقسم كفار قريش: {لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربَّك أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فأنزل الله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وهو خطاب للمؤمنين السائلين النبي في ذلك.
وقيل: معنى الآية: أن الكفّار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية، وحلفوا ليؤمنن إِنْ أتت، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربك أن ينزلها (عليهم) حتى يؤمنوا،(3/2143)
(فأنزل الله): وما يشعركم أيُّها المؤمنون بذلك؟، أي: بصحة قولهم (ثم قال) مستأنفاً مخبراً عنهم - بما يفعلون لو نزلت -: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وهذا معنى الكسر، وهو الاختيار عند أكثر النحويين.
وهذه الآية هي التي توعّدوا بها / في الشعراء في قوله: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، فقال الله لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} وهو القادر على إنزالها.
والذي سألوه هم أنهم قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك،(3/2144)
فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك لَيُعذِبَنّهم الله، وَ (إِنْ) شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل يَتوبُ تائِبُهم "، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُواْ بالله} الآية.
ومن قرأ بالتاء، فإنما هو خطاب للمشركين الذي سألوا الآية، ويحتمل وجهين:
- أحدهما: أن تكسر (إِنّ) على معنى: وما يشعركم ذلك، ثم استأنف بالإخبار عما سبق في علمه، وعِلم ما لو كان كيف كان يكون، فقال: إنها إذا(3/2145)
جاءت لا تؤمنون أيها المشركون.
- ويحتمل أن تفتح (أنَّ)، ويكون المعنى: وما يُشعركم - أيُّها المشركون - أنها إذا جاءت تؤمنون؟، وتكون (لا) زائدة.
ومن قرأ بالياء فهو خطاب للمؤمنين الذين سألوا النبي أن يسأل آية ليؤمن المشركون عند نزولها على ما سألوا، وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، ويحتمل معنيين:
أحدهما: فتح (أنَّ) ويكون المعنى: وما يشعركم - أيُّها المؤمنون - أنَّها إذا جاءت يؤمنون؟، أي: (ما) يدريكم أنَّهم يؤمنون إذا نزلت الآية. وتكون (لا) زائدة.
- والوجه الآخر: أن تكون (إنِّ) مكسورة، ويكون المعنى: وما يشعركم - أيها(3/2146)
المؤمنون - ذلك. ثم استأنف فقال: {أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُون}، يخبر بما يكون لو فعل بهم ذلك.
ويجوز في القراءتين جميعاً - الياء والتاء - أن تكون (أنَّها) - إذا فتحت - بمعنى " لعلها "، وتكون (لا) غير زائدة.
والياء اختيار الطبري مع فتح (أنَّ) بمعنى " لعلها ".
ولو فتحت (أنَّها) ولم تقدر زيادة (لا) ولا كون (أنَّها) بمعنى " لعلها "، لكان ذلك عذراً لهم.
ولا يتم فتح (أنَّها) إلا بأحد وجهين:
- إمَّا أَنْ تقدرها بمعنى " لعلها " - أو تقدر زيادة (لا). فاعلم ذلك.(3/2147)
وقد حكى الخليل عن العرب: " ائت السوق أنَّكَ تشتري لنا "، أي: لعلك. وسمع الكسائي رجلاً يقول: " ما أدري أنه صاحبها "، أي: لعله. وسمع الفراء أبا الهيثم العُقيلي يقول: " أنَّها (تركته لفاقة حاله) "، يريد " لعلها تركته ". وفي قراءة أُبيّ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وفي حرف عبد الله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا (جَاءَتْ) لاَ يُؤْمِنُونَ).
ومن قدر زيادة (لآ) هنا، أوقع {يُشْعِرُكُمْ} على {أَنْ} ففتحها، ويجعل (لا) صلة كهي في قوله: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]، المعنى: حرام عليهم أن(3/2148)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
يرجعوا، ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]. قال الفراء: العرب تجعل " لا " صلة في كل كلام دخل في آخره (أو في أوله) جحد، أو في أوله جحد غير مصرح.
وقيل: في الآية قول حسن، وهو أن يكون المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون. ثم حذف الأخير لدلالة الأول عليه، فيِعمل (يُشْعِرُكُم) في (أَنَّها)، ويفتح (أَنَّ)، ولا يقدر زيادة / (لا)، ولا يقدر (أنَّها) بمعنى " لعلها "، ولا تكون عذرا لهم.
(والوقف على (يُشْعرِكُم) في قراءة من كسر (إنّ)، وفي قراءة من فتح على تقدير " لعلها " حسن، ولا يحسن الوقف على (يُشعِركم) على غير هذين الوجهين).
قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} الآية.
المعنى: أنهم لما أشركوا وجَحدوا، لم يثبت الله قلوبهم على شيءٍ. قال ابن(3/2149)
زيد: (المعنى): نمنعهم من الإيمان كما فعلنا بهم أول مرة. وقيل: المعنى: لو جئناهم بآية ما آمنوا كما لم يؤمنوا أول مرة، لأن الله حال بينهم وبين ذلك.
وقال مجاهد: المعنى: يَحُولُ بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون كما حُلْنا بينهم وبين الإيمان أولَ مرةٍ. كأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} كما لم يؤمنوا به أول مرة، وذلك قبل إتيان الآية: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم}، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره جعل عقوبة الإعراض عن الحق - بعد أن بين لهم - الطبعَ على قلوبهم، و (الغشاوة) على أبصارهم.
والهاء في (بِهِ) للقرآن. وقيل: لمحمد. وقيل: للمسؤول، أي: كما لم يؤمن أوائلهم بما سألوا من الآيات بعد نزولها، فكذلك يفعل كفار قريش لو نزل عليهم ما سألوا من الآيات.(3/2150)
وعن ابن عباس: (أن المعنى): أن الله (أخبرنا ما يفعل بعباده) لو ردهم إلى الدّنيا، فقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: لو ردُّوا إلى الدنيا لَحِيلَ بينهم وبين الهدى، كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
قال الطبري: المعنى: ونُقلّبُ أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان، وأبصارهم عن رؤية الحقِّ، كما لو لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها أول مرة، أي: قبل ذلك.
والهاء عنده تعود على التقليب، وفيما تقدّم من الأقوال، تعود على الهدى، أو على الإيمان، وقد قيل: على الرسول، وقيل: (على القرآن). وقيل: على الله جل ذكره.
وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: نتركهم في حيرتهم يترددون. قال النحاس: المعنى: نُقلّب أفئدتهم وأبصارهم على لهب النَّار كما لم يؤمنوا به في الدنيا. ثم قال: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، أي: ونمهلهم في الدنيا فلا نعاقبهم، أي: ونتركهم(3/2151)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
في طغيانهم يتحيرَّون.
قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} الآية.
وهذه الآية من الله (إعلام) يُزيل بها طمع النبي من (أن يؤمن) هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ، الذين سألوا الآية وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، فأخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ، فقال تعالى: لو نزّلتُ إليهم الملائكة، أي: عياناً {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} بأنك مُحِقٌّ فيما تقول، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: جمعنا عليهم، {كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي: عياناً.
/ وقيل: معناه: آتيناهم بما غاب عنهم من أمور الآخرة، ما آمنوا {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}، عزى الله نبيه بهذا، وأعلمه أن من سبق في علم الله ألا يؤمن، فلا ينفعه شيء.
قوله: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}: أي: يجهلون ما في مخالفتك - يا محمد - وهم يعلمون أنك نبي صادق فيما جئتهم به.(3/2152)
وروي " أن النبي عليه السلام كان يداعب أبا سفيان بمِخْصَرَة في يده، يطعن بها أبا سفيان، فإذا أخرقته قال له: نح عني مخِصَرَتَك، فوالله لو أسلمتُ إليك هذا الأمر، ما اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النبي: أسألك بالذي أسلمت له، (عن أي: شيء كان قتالُك إيّايَ)؟.
قال له أبو سفيان: تظنُّ (أنيِّ كَنْتُ) أقاتلك تكذيباً مني، والله ما شككت في صِدقك، وما كنت أقاتلك إلا حسداً مني لك، فالحمد لله الذي نزع ذلك من قلبي. فكان النبي يشتهي ذلك منه، ويَتَبَسَّم إليه " ومن قرأ (قُبُلاً) بالضم، احتمل ثلاثة أَوْجُهٍ:(3/2153)
- أحدها: أن يكون جمع " قبيل "، كرغيف ورُغُف. والقبيل: الضمين والكفيل، ويكون المعنى: وجمعنا عليهم كل شيء يَكتفِل الملائكة لهم بصحة هذا، لم يؤمنوا، كما قال: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الاسراء: 92] أي: ضميناً.
- والوجه الثاني: أن يكون " القُبُل " واحداً، بمعنى المقابلة، تقول: " أَتَيْتُكَ قِبَلاً لا دُبُرا ": إذ أتيته من قِبَل وجهه، فالمعنى وجمعنا عليهم كل شيء من قِبَل وُجوهِهم.
- والوجه الثالث: أن يكون (قُبُلاً) جمع " قبيل " أيضاً، ويكون " قبيل " بمعنى: فِرْقة وصنف. فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء صنفاً صنفاً وقبيلة (قبيلة)، فيكون (قبلاً) جمع " قبيل " و " قبيل " جمع " قبيلة ". ومن قرأ (قِبَلاً) فمعناه: عياناً، أي: معاينة.(3/2154)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
وهذا (إعلام) للنبي كإعلام نوح: {أَنَّهُ (لَن يُؤْمِنَ) مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36].
وقال المبرد: (قِبَلاً) بمعنى ناحية: أي: وجمعنا عليهم كل شيء ناحية، كما تقول: " لي قِبَلَ فلانٍ مالٌ "، أي: ناحِيتَه، فكان نصبه - على هذا - على الظرف، وعلى الأقوال المتقدمة: على الحال.
قوله: {وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شياطين الإنس} الآية.
{عَدُوّاً} مفعول أول ل (جَعَلنْا)، و {لِكُلِّ نِبِيٍّ}: المفعول الثاني، و (شياطين) بدل من {عَدُوّاً}. ويجوز أن يكون (شياطينَ) مفعولاً ثانياً، و (عَدُوّاً) أولا.
حكى سيبويه أنَّ (" جَعَلَ " بمعنى: " وَصَفَ ")، فَيَتَعدَّى إلى مفعولين،(3/2155)
ويكون التقدير: وكذلك جعلَّنا شياطين الإنسِ والجنِّ أعداء للأنبياء.
{غُرُوراً} مصدر، أي: يَغرُّون غُروراً. ويجوز أن يكون في موضع بالحال. ومعنى الآية: أنه فيها حذف، والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمد - ولأمَّتِك شياطين الإِنِّسِ والجنِّ أعداء يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً، كذلك جعلنا لكل من تقدمك من الأنبياء وأممهم، وهذا تسلِّية للنبي عليه السلام فيما لقي من (كفر) قومه.
ومعنى (شياطينَ الإنس (والجنِّ): قال السدي: للإنسِ شياطينِ تضلهم، ومثله للجن، فَيَلْقى شيطان الإنسي شيطان الجنِّي، فيقول أحدهما للآخر: " إني قد أضللت صاحبي بكذا وكذا، (فأَضْلِلْ أنت) صاحبك بذلك "، فيُعَلِم بعضهم بعضاً، فشياطينِ الإِنس من الجِنِّ، وشياطين الجنِّ من الجِنِّ. وكذلك قال عكرمة.(3/2156)
وقيل: المعنى: أن مَرَدَة الإنس شياطينَ، ومثل ذلك من مردة الجِنِّ، يوحي بعضهم إلى بعضٍ من القولِ ما يؤذونهم به. وقال مجاهد: شيَّاطين الإنِّسِ: كفارهم /، وشياطينَ الجِنِّ: كفارهم.
والشيِّطان - في اللغة - هو المتمرِّد في معاصي الله.
ومعنى {زُخْرُفَ القول} هو تزيين الباطل، يُقال: " زَخرفَ باطِلَه ": إذا حسَّنه، فهو تزيين الباطل بالألسنة.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله ما فعل هؤلاء الشياطين العداوة بالأنبياء وأممهم، ولكن لم يشأ ذلك ليبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كلُّ فريقٍ(3/2157)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
منهم ما سبق له في (أم) الكتاب.
والهاء في قوله: {مَا فَعَلُوهُ} تعود على الإيحاء لدلالة (يوحي) عليه، وقيل: على العداوة وذكر لأن التأنيث غير حقيقي.
وقوله: {فَذَرْهُمْ} أي: دعَّهم وافتراءهم. هذا فيه معنى التهديد والوعيد.
قوله: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} (الآية).
يقال: صَغَى يَصْغَى، وصَغَا يَصْغُو، (وَصَغَا يَصْغَا).(3/2158)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قرأ الحسن: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ} بإسكان اللامين.
ومعنى الآية: أنَّها معطوفة على ما قبلها، والتقدير: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعضٍ المُزَيّن من القول ليَغرُّوا به المؤمنين، و (لكي تصغى) إليه أفئدة الذين لا يؤمنون [بالآخرة].
فالهاء في (إليْهِ) تعود على (زُخْرُف الْقَوْل)، وهو المُزَيَّن له. ومعنى " تصغى ": تميل إليه.
ومعنى {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} أي: وليكتسبوا ما هم مكتسبون. يُقال: خرج فلان يقترف لأهله "، أي: يكتسب.
قوله: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} الآية.(3/2159)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{حَكَماً} نَصْبٌ على البيان أو على الحال.
والمعنى: قل لهم يا محمد: (أأبتغي) غير الله حَكَماً؟، أي: [أأبتغي] حُكماً غير حُكمِه ولا حُكْمَ أَعْدَلُ من حُكْمِهِ، {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} (أي القرآن)، {مُفَصَّلاً} أي: مبيّناً.
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق} يريد أهل التوراة والإنجيل المؤمنين منهم بمحمد، يعلمون أنه حق، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي: من الشاكين فيما جاءك من الأنباء، وفي {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق}.
قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (الآية).
حجة من قرأ (كلمات) - بالجمع - أنها في المصحف بالتاء، ولإجماع(3/2160)
الجميع على قوله: {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ}.
ومة قرأ بالتوحيد، احتج بإجماع الجميع على التوحيد في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [هود: 119]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى} [الأعراف: 137]. وإنما كتبت بالتاء عند من وحّد، لأنها كتبت على اللفظ، بمنزلة {وَمَعْصِيَتِ الرسول} [المجادلة: 8، 9] و {فِطْرَتَ الله} [الروم: 30] وشبهه.
والمعنى: أن الله سمى القرآن (كلمة)، كما تقول العرب للقصيدة: " هذه كلمة(3/2161)
فلان "، والموصوف هنا بالتمام هو القرآن، لا مبدل له، أي: لا مغير لما أخبر في كتابه أنه كائن، وهذا مثل قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} [الفتح: 15] والذي أرادوا أن يبدلوا هو قوله: {لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} [الفتح: 15]، فتقدم في علم الله أنهم لا يتبعون النبي، فأرادوا أن يبدلوا ذلك فقالوا للنبي: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15]، وقد تقدم من الله أنهم لا يتبعونهم فأرادوا أن يغيِّروا ما تقدَّم في علم الله وقد كان أخبره الله في كتابه بقوله: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ (فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن)} [التوبة: 83] إلى {الخالفين} [التوبة: 83]، فكلام الله هنا: ما أخبر أنهم لن يتبعوا، فأرادوا أن يبدلوا خبر الله ويتبعوه، وكذلك قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: أنَّه لا بُدَّ واقع كل ما أخبر به، لا يحيلهُ أحد ولا يغيره.(3/2162)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{وَهُوَ السميع} أي: السميع لما يقول العادلون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئِّن جاءتهم آية ليؤمنن بها، وغير ذلك مما يَقولُ خَلْقهُ، {العليم} بما يؤول إليه أمرهم من صدق وإيمان أو كفر.
قوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض (يُضِلُّوكَ)} الآية.
والمعنى: أن هذه الآية نزلت في أكل الميتة، قال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، فأنزل الله عز وجل خطاباً للنبي وأمّته: وإن تطيعوا هؤلاء وأكثر من في الأرض فيما دعوكم إليه من أكل الميتة أو أكل ذبائحهم لآلهتهم وما أهلوا به لغير الله، يضلوكم عن الحق، فإنهم ليس يتبعون في أمرهم إلا الظن، وليس ما يصنعون على يقين من أمرهم، إذ ليس عندهم به كتاب ولا رسول، {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} الكذب، ويقولون ما لا يحب الله، والله (يعذب) الكفار على ظنهم وجهلهم. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] ثم قال:(3/2163)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
{ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27].
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} الآية.
(مَن) استفهام، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: هو أعلم أي: الناس يضل بمنزلة {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12].
وقيل: موضعها خفض بإِضَّمَارِ الباء.
وقد قيل: هي في موضع نصب، و {أَعْلَمُ} بمعنى: يعلم، وهذا بعيد، لأن بَعدَه {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}، فدخول الباء هنا يدل على أن {أَعْلَمُ} ليس بفعل، إذ لو كان فعلا لم يصل بالباء، لا يقال: " هو يعلم بزيد " بمعنى: " يعلم زيداً ".(3/2164)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
فالمعنى: أن الله أعلم بأهل الإضلال عن سبيله، {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} إلى الحق من غيره.
قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} الآية.
هذا أمر للنبي وأمته أن يأكلوا مما ذبحوا وذكروا اسم الله عليه. وفي هذا دليل على النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه متعمداً، ثم بَيَّنَ ذلك فقال: {(فَكُلُواْ) مِمَّا ذُكِرَ اسم الله}، وقال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} الآية.
المعنى: وأي شيء لكم في ترك أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم الحرام من الحلال؟
وقرأ عطية العَوْفي (وَقَدْ فَصَلَ) بالتخفيف، على معنى: (أبان لكم)،(3/2165)
{إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} يريد لحم الميتة للمُضطَّر.
ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ} من فتح الياء أضاف الضلال إليهم في أنفسهم، وتصديقه قوله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} [النحل: 125، النجم: 30، القلم: 7] و {قَدْ ضَلُّواْ} [النساء: 167، المائدة: 77، الأنعام: 140، الأعراف: 149] و {هُمُ الضآلون} [آل عمران: 90].
وحجة من ضم أنه أبلغ، لأنَّ كلُّ من أضلَّ غيره فهو ضَالْْ، وليس كل من ضلَّ أضلَّ غَيْرَهُ، فالضم أبلغ في الإخبار عنهم. وحجَّته أيضاً، أنَّهم قد وصفوا قبل بالكفر الذي هو الضَّلال، فلا معنى لوصفهم بذلك، فوجب وَصْفُهم بأنَّهم مع ضلالتهم يُضِلُّون غيرهم. وكذلك الحجة فيما كان مثله مثل {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} [لقمان: 6]، الضم أبلغ لأنَّ شراء لهو الحديث ضلال،(3/2166)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
(فوصفه بفائدة) أخرى أولى من وصفه بما قد دَلَّ عليه الكلام الاول.
فالإضلال - هنا - أمكن من الضلال. وقد أجمع الجميع / على قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس} [الأنعام: 144] أنه بالضم، وعلى {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67].
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ (بالمعتدين)} أي: بمَنْ اعتدى حدوده فتجاوزها.
قوله: {وَذَرُواْ ظاهر الإثم (وَبَاطِنَهُ)} الآية.
المعنى: أن الله أمر بأن يترك الإثم، (علانيته وسرّه)، قليله وكثيره.
وقيل: الظاهر هو ما نهى عنه من قوله:(3/2167)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 22]، والباطن: الزنى، قاله ابن جبير.
وقال السدي: الظاهر: الزواني [اللاتي] في الحوانيت، والباطن: الصديقة تؤتى سراً، (و) قال الضحاك في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] قال: كان أهل الجاهلية يستسرّون بالزنى ويرونه سراً حلالاً، فحرّم الله السر والعلانية. وقال ابن زيد: الظاهر: التعري والتجرد في الطواف، والباطن: الزنا، وقال في: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)} [الأنعام: 151]: الظاهر: تعريتهم إذا طافوا، والباطن: الزنا.
قوله: {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي: يعملون به، سيجزون به.
قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} الآية.(3/2168)
المعنى: ولا تأكلوا - أيها المؤمنون - مما مات ومما ذبح لغير الله، أو ذبحه (غير) مسلم، أو مما تُعُمِّدَ ترك (ذكر) اسم الله عليه، فإن أكله فسق.
قال ابن عباس: هذا جواب للمشركين حين قالوا للنبي: لا تأكل ما قتل ربك وتأكل ما قتلت. فالمعنى على هذا: إنما هو (النهي) عن أكل الميتة.
ومذهب مالك وأكثر الفقهاء أن المسلم إذا نسي التسمية وذبح، أنه تؤكل ذبيحته.
ومعنى التسمية - عند أكثر المفسرين - في هذه الآية: المِلّة، لأن المجوس لو سموا ذبائحهم لم تؤكل.(3/2169)
وتؤكل ذبائح اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بالتوراة والانجيل. (وكره) مالك ما ذبحوا لِكنائسهم ولم يحرمه.
وقوله: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} يعني بذلك شياطين فارس، وهم مَرَدَتُهم من المجوس يوحون إلى أوليائهم من مردة قريش زخرف القول ليجادلوا به المؤمنين. قال عكرمة: كاتب مشركو قريش فارس على الروم، وكتبت فارس إلى مشركي قريش: " إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، (فما ذبحه) (الله) بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه، وما ذبحوا هم يأكلون "، فكتب به المشركون إلى أصحاب محمد، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت: {(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وَإِنَّ الشياطين} الآية.(3/2170)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
وقال ابن عباس: إبليس هو الذي يوحي إلى مشركي قريش، (يقول): كيف تعبدون شيئاً لا تأكلون ما قتل.
قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي: في أكل الميتة، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي: إنكم مثلهم، وهذا يدل على من حلَّل ما حرَّم الله أنه مشرك. قال الحسن وعكرمة: حُرِمَ أكل ما لم يُذكرْ اسم الله عليه في هذه الآية، واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5].
وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: لمعصية. وقيل: لكفر.
والهاء تعود على أكل الميتة، أو على أكل ما ذبح للأصنام وشبهه.
قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه} الآية.(3/2171)
/ رَوَى المسيَّبي عن نافع (أومَنْ كان) بإسكان الواو.
والمعنى: أن هذا الكلام جرى على التحذير من طاعة المشركين، والأخذ بطاعة المؤمنين، والمعنى: أطاعة من كان ميتاً فأحييناه، وهو المؤمن كان كافراً فصار مؤمناً، كطاعةِ من مَثَلُه كَمَثل من في الظلمات ليس بخارج منها، يتردَّدُ فيها، وهو الكفر يتردَّدُ فيه الكفار؟، فكان تحقيق ذلك: أطاعة المؤمنين كطاعة الكافر؟.
وهذه الآية نزلت في رجلين مؤمن وكافر: فالمؤمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، والكافر أبو جهل.
وقيل: المؤمن عمار بن ياسر، والكافر أبو جهل. وقيل: المؤمن حمزة حيي بالإيمان بعد أن كان ميتاً بالكفر، وقيل: هو النبي حيي بالنبوة.(3/2172)
{كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} أي: كمن هو في الظلمات، وهي الكفر، يراد به أبو جهل، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} إلى نور الإسلام أبداً.
روي أن أبا جهل رَمَى النبي بفرث - وحمزة عم النبي عليه السلام، لم يؤمن بَعْدُ - فأخبر أبو جهل حمزة بما فعل بالنبي، وبيد حمزة قوس، فَعَلا به أبا جهل غضباً للنبي، فأقبل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به: سفَّه عقولنا وعقول آبائنا؟. فقال له حمزة رضي الله عنهـ: ومن أسفهُ منكم وأحمقُ حيث تعبدون الحجارة من دون الله؟، أشهد (أن لا) إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فحيي بالإيمان الذي وَفَّقَه الله إليه، وبقي أبو جهل في ظلمات الكفر حتى مات كافراً، وفيهما نزل {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} [القصص: 61] يعني حمزة، {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا} [القصص: 61] يريد أبا جهل.(3/2173)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
ومعنى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} قال ابن عباس: يعني بالنور القرآن يَهتدِي به وقال ابن زيد: (نوراً) هو " الإسلام الذي هداه الله إليه ".
قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا}.
المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا في كل قرية عظماء مجرميها، يعني أهل الكفر والمعصية {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا}، {وَمَا يَمْكُرُونَ} أي: ما يحيق مكرهم ذلك إلا بأنفسهم، لأن الله من وراء عقوبتهم على ما يمكرون. والأكابر: العظماء، جمع أكبر.
وذكر ابن قتيبة أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير عنده: وكذلك " (جعلنا) في (كل) قرية مجرميها (أكابر) ". فَنَصَب (مُجْرمِيها بـ (جَعَلْنَا) و (أكَابِرَ) مفعول ثان ل " جَعَلَ "، كأن جعل عنده بمعنى " صَيَّرَ "، يتعدى الى(3/2174)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
مفعولين.
وحُكِيَ عن العرب " الأكابرة " بالهاء.
وقوله تعالى: {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} هو مِثْل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} [القصص: 8]، لما كان عاقبة أمرهم فيما تقدم من علمه تؤول إلى ذلك، صار كأنهم جُعِلُوا في كل قرية ليمكروا.
قوله: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} الآية.
المعنى: وإذا جاءت هؤلاء المشركين آية، (أي علامة)، تدل على نبوتك - يا محمد - وصدق ما جئت به، {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} بما جئتنا به، {حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} أي: حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي موسى وعيسى، ثم قال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي: إن الآيات لم يعطها الله من البشر إلا (رسولاً)، ولستم - أيها العادلون - بِرُسلٍ فَيُعْطيَكم الآيِات، بل هو أعلم من هو أولى بها. /(3/2175)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
وقيل: المعنى: الله يعلم من يصلح لنبوته ويختص بالرسالة، كما قال: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32].
(ثم قال): {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} أي: ذلة، أي: هم وإن كانوا أكابر، فَستُصِيبهُم ذلَّة عند الله، ومعنى {صَغَارٌ عِندَ الله} أي: عند الله صغار. وقيل: المعنى: صغار ثابت عند الله. وقال الفرَّاء: المعنى: صغار من عند الله.
والصغار: المصدر من قول القائل: " صَغَرَ صغاراً ".
قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} الآية.
من قرأ (ضَيْقاً) بالتخفيف، فيحتمل أن يكون مخففاً " ضَيقِ "، مثل (" ميْت، "(3/2176)
وميّت ")، ويحتمل أنْ مصدر " ضاقَ ضَيْقاً ".
ومن قرأ (حَرِجاً) بالكسر، فهو اسم الفاعل ل " حَرِجَ يَحَرجُ، فهو حَرِجٌ "، ومن فتحه جعله مصدرا ل " حَرِجَ حَرَجاً ".
ومعنى الكسر: ضَيقاً (ضيّقاً)، وهو الذي قد ضاق فلم يجد منفذاً إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. ومن فتح جعله صفة ل (ضيقاً)، كما يقال: " رجلٌ عدْلٌ " و " رضىً "، فكأنه يجعل صدره شديد الضيق.
ومعنى الآية: من يرد الله أن يهديه للإيمان، {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} أي: يفسحه ويهون(3/2177)
عليه ويُسَهّله.
قال النبي عليه السلام - وقد سُئِلَ عن هذه الآية: " إذا دخل النور القلب، انفسح وانشرح، قالوا: هل لذلك من علامة تعرف؟. قال نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و (التجافي عن) دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
وقال ابن جريج: " {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} بلا إله إلا الله ".
{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي: إضلاله عن سبيله، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} بخذلانه إياه، وغَلَبةِ الكفر عليه.
والحرج: أشدُّ الضيق، وهو الذي لا ينفذه من شدَّةِ ضيقه شيءٌ "، وهو - هنا - الصدر الذي لا تصل إليهُ موعظة، ولا يدخله نور الإيمان، وأصل (حرجاً)(3/2178)
أنه جمع " حَرَجَة " وهي الشجرة الملتف بها الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء من شدة التفافها.
وسأل عُمَرُ رجلاً من العرب فقال له: ما الحرجة فيكم؟ فقال: الحرجة فينا: الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيّة ولا شيء، فقال عمر: وكذلك قلب المنافق لا يصل اليه شيء من الخير.
وقال مجاهد: معنى {ضَيِّقاً حَرَجاً}: شاكاً. وقال قتادة: ملتبساً وقال ابن جبير: لا يجد الإيمان إليه منفذاً ولا مسلكاً.
وهذه الآية (من) أدل دليل على أن قدرة الطاعة غير قدرة المعصية، وأن كلا القدرتين من عند الله تعالى، لأنه أخبر أنه يشرح صدر من أراد (هدايته، ويضيق صدر من أراد) دَفْعَهُ عن الإيمان، فَتَضْيِيقُه للصدر منع الإيمان، ولو كان(3/2179)
يوصل إلى الإيمان مع تضييق الصدر عنه، لم يكن بين تضييقه وشرحه فرق.
وقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء}: هذا مثل ضربه الله لصدر الكافر في شدة ضيق صدره عن قبول الإسلام ونفوره عنه، فهو بمنزلة من تكلَّف ما لا يُطِيْقُهُ، كما أن من تكَلَّف صعود السماء تكلَّفَ ما لا يُطَاق.
ومعنى التشديد - على قراءة من شدد: أنه أتى به على " يَتَفَعَّل " ثم أدغم كأنه يتكلف شيئاً بعد شيء، وكُلُّهُ لا يطيقه.
/ ومن قرأ (يَصّاعد) أراد " يتصاعد "، ثم أدغم، ومعناه: كأنه يتعاطى ما لا يقدر عليه، لأن الله قد خذله عن أن يقبل الإيمان، وضيّق صدره عن قبوله.(3/2180)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
وتحقيق معنى {ضَيِّقاً حَرَجاً} - فيمن كسر -: ضيّقا جداً، كقولك: " مريض دَنِفٌ ". ومن فتح فمعناه: ضيقاً ذا حرج، كقولك: " رجل عدلٌ "، أي: ذو عدلٍ.
(والرّجْسُ) هنا: " ما لا خير فيه "، قاله مجاهد.
وقال ابن زيد: " الرجس: عذاب الله ".
وقال بعض البصريين: الرِّجزُ والرّجسُ: العذاب والرّجس (و) النجسُ: الشيء القذر. وقيل: " الرجس: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ".
قوله: {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} الآيتان.
المعنى: وهذا الذي بيَّنّا لك في هذه السورة وغيرها، {صِرَاطُ رَبِّكَ} أي:(3/2181)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
طريق ربك، ودينه الذي جعله مستقيماً، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: بيّناها لقومٍ يذكرون.
(و) قال ابن عباس: " يعني به الإسلام ".
وقوله: {لَهُمْ دَارُ السلام} أي: للقوم الذين يذّكّرون دار السلام، والسلام: اسم من أسماء الله.
فالله هو السلام، والدار: الجنة. وقيل: المعنى: دار السلامة أي: الدار التي يُسلِّم فيها من الآفات.
{وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أي: والله ناصرهم بعملهم، أي: جزاء بعملهم.
{مُسْتَقِيماً} تمام.
قوله: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن} الآية.
{جَمِيعاً} نصب على الحال. والمعنى: واذكر يوم نحشر هؤلاء العادلين (و)(3/2182)
أولياءَهُم من الشياطين، {يامعشر الجن} أي: يقول لهم: يا معشر الجن، ومعنى {قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} أي: قد استكثرتم من إضلال الإنس.
{وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم} أي: أولياء الشياطين من الإنس، {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} ومعنى الاستمتاع هنا: (أن) الرجل كان في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: " أعود بكبير هذا الوادي "، فهذا استمتاع الإنس. وأما استمتاع الجن فهو تشريف الإنس لهم واستعاذتهم بهم واعتقادهم أن الجن يقدرون على ذلك.
وقيل: معنى الاستمتاع: أن الجن أَغْوَتِ الإنس، وقَبِلت الإنس منها.
وقيل: المعنى: أن الإنس تلذذوا بقبولهم من الجن، (وأن الجن) تلذذوا(3/2183)
بطاعة الإنس لهم.
وقالوا: {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} وهو الموت. (قَالَ) الله: {النار مثواكم} أي: مقامكم بها خالدين.
وقوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} استثناءٌ ليس من الأول، والمعنى: إلا ما شاء الله من الزيادة في عذابكم. وسيبويه يمثل هذا بمعنى " لكنَّ ". والفراء يمثّله بمعنى: " سوى ".
ومثله في " هود ": {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أي: ما شاء من الزيادة، وقال الزجاج: معنى الاستثناء هنا إنِّما هو: إلاّ ما شاء رَبُّك من محشرهم ومحاسبتهم. وقال(3/2184)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
الطبري: المعنى فيه أنه استثنى مدة محشرهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثنى الله تعالى من خُلُودِهِمِ في النَّار. (و) قال ابن عباس: جعل الله أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إلى مشيئته، وروي عنه أنه قال: هذه آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنةٌ ولا ناراً. وقال: هذا الاستثناء لأهل الايمان.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} العليم: هو العالم الذي كمل فيه علمه، والحكيم: / الذي قد أكمل في حكمته، ويكون " الحكيم ": الحاكم، أو بمعنى الحكم.
قوله: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} الآية.
المعنى: وكما فعلنا بهؤلاء ما ذكرنا، نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر(3/2185)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
بالله، استدراجاً لهم وجزاء على مخالفتهم أمر الله، وما اجترحوا من المعاصي.
قال مجاهد: يجعل بعضهم ولياً لبعض. وقال قتادة: المؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أين كان وحيث كان.
وقيل: المعنى: يتبع بعضهم بعضاً في النار. قال ابن زيد: المعنى: يسلط ظَلَمَةِ الجن على ظَلَمَةَ الإنس. وقيل: المعنى: يجعل ظَلَمَةَ الجن أولياء لَظَلَمَةِ الإنس جزاء بما كانوا يكسبون، وهذا كقوله: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] إلى {فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 38].
قوله: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} (الآية).
معنى الآية: أنها خبر من الله ما هو قائل لهم يوم القيامة، ومعنى:(3/2186)
{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي: يخبرونكم بحجتي وأدلتي على توحيدي، {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي: يحذرونكم لقاء عذاب يومكم هذا، وهذا تقريع يكون لهم يوم القيامة على ما سلف منهم.
قال الضحاك: أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم بدلالة هذه الآية {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}.
وقيل: معناه: أَنَّ (مِنْكُمْ) للإنس خاصة، والرسل من الإنس لا غير، وهذا كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، واللؤلؤ إنّما يخرج من الملح دون العذب.
وتأول ابن عباس أن رسلُ الإنس رسلٌ من الله، ورسل الجن رسلٌ (رسلِ) الله منهم، وهم النذر، وهم الذين سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين. فهذا قول حسن.(3/2187)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
وقيل: إنه لما كانت الإنس والجن تخاطب وتعقل، قيل: {رُسُلٌ مِّنْكُمْ} وإن كان من أحد النوعين، ومعنى (مِنْكُمْ): أي: منكم في الخلق والتكليف والمخاطبة.
(و) قرأ الأعرج {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} بالتاء، على تأنيث المخاطبة.
وقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا} أخبر الله عنهم بما يقولون يوم القيامة إذا قيل لهم ذلك، ومعنى الشهادة: أنهم شهدوا أن الرسل قد أتتهم بآياته وأنذرتهم عذابه، ولم يؤمنوا، {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} أي: غرتهم زينتها فلم يؤمنوا، {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ} (بالكفر).
قوله: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ (مُهْلِكَ) القرى (بِظُلْمٍ)} إلى {(يَعْمَلُونَ)} [الآيتان].
{ذلك} في موضع رفع على معنى: الأمر ذلك، هذا مذهب سيبويه. وهو(3/2188)
عند الفراء في موضع نصب، (المعنى: فعل) ذلك.
والمعنى: لم يكن ربك - يا محمد - مهلك القرى بشرك من أشرك وأهل القرى غافلون عن شرك من أشرك، فمعنى {بِظُلْمٍ}: بشرك قوم آخرين فيهم، وهذا مِثْلُ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18].
وقيل: المعنى: لم يكن الله يعاجل قوماً بالعقوبة قبل أن يرسل إليهم الرسل، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة، [فيقولوا]: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيظلمهم.
وقوله: {وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ} أي: ولكل عامل - في طاعة أو معصية - منازل ومراتب يبلغه الله إياها، إن خيراً فخيراً وإن شراً (فشراً) وليس الله بغافلٍ عما يعملون.(3/2189)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
وروي عن النبي أنه قال: " الدَّرجةٌ في الجنَّةِ فوقَ الدرجةِ كما بين السماءِ والأرض، وَإِنَّ العَبْدَ - من أهلِ الجنةِ - لَيَرْفَعُ بصرَهُ فَيَلْمَع له برقٌ يكاد يَخطَف بصرَهُ، فيقول: ما هَذا؟ فيقال له: هذا نورُ أخيكَ فلان. فيقول: أخي فلان!، كنا في الدُّنيا نعمَلُ جميعاً، وقد فُضِّلَ عَليَّ هَكذا! فيُقالُ: إِنَّهُ أفضلُ منكَ عملاً. ثم يُجْعَلُ في قلبِه الرِضى فَيَرْضى بمنزلتِهِ ".
قوله: {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة} الآية.
المعنى: وربك - يا محمد - الغني عن عبادة من أَمَرَهُ بالعبادة، وطاعة من أمره بالطاعة؛ وهم المحتاجون إليه، لأن بيده موتهم وحياتهم ورحمتهم وعقابهم.
وقوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} معناه: إن يشأ الذي خلَق خلْقَه لغير حاجة منه إليهم، يذهبهم، أي: يهلكهم، {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ} (أي) يأتي بخلقٍ غيرهم. {كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}: أي: أنشأكم مكان خَلَقٍ آخرين، لم يرد أنهم من أصلاب قوم آخرين، انما المعنى: مكانهم. كما تقول: " أعطيتك من دينارك(3/2190)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
ثوباً "، بمعنى: مكان الدينار ثوباً، وليبس معناه: أن الثوب بعض الدينار.
وقرأ زيد بن ثابت (ذِرِيّةِ) بالكسر، وقرأ أبان بن عثمان (ذَريَّة) بفتح الذال وتخفيف الراء.
قوله: {(إِنَّ مَا) تُوعَدُونَ لآتٍ} الآية.
المعنى: أن الذي توعدون به - أيها المشركون - آت، أي: واقِعٌ بكم، {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي: ليس تعجزون ربكم هرباً، (أنتم) في قبضته.
قوله: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} الآية.
المعنى: قل لهم يا محمد: اعملوا على مكانتكم: أي: على حيالكم وناحيتكم.(3/2191)
وقال القتبي: " على موضعكم ".
وتحقيق معناه: اعملوا على ما أنتم عليه، كما تقول للرجل: " اثبت مكانك "، أي: اثبت على ما أنت عليه.
وفي الكلام تهديد، فلذلك جاز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه، وهو الكفر، إنّما هو توعد وتهديد، كما قال: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82]، ودل على ذلك قوله: {(فَسَوْفَ) تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار}، فالمعنى: اثبتوا على ما أنتم عليه إن رضيتم بالنار، فأنا عامل بما أمرني به ربي، فسوف تعلمون غداً من هو على الحق، وتكون له العاقبة الحسنة، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}.
وقوله: {مَن تَكُونُ}: (مَنْ) في موضع رفع على أنه استفهام، وفعل " العلم "(3/2192)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
معلق، والجملة في موضع المفعولين. ويجوز أن تكون (مَنْ) في موضع نصب، وهي بمعنى: " الذي "، ويكون {تَعْلَمُونَ} بمعنى: " تعرفون "، (و) يتعدى إلى مفعول واحد.
قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث (والأنعام نَصِيباً)} الآية.
المعنى: أنه حكاية عما كان يعمل أهل الجاهلية:
كانوا يجعلون لله نصيباً من حرثهم وأنعامهم، ولآلهتهم وشياطينهم (نصيباً، وهو) شركاؤهم من الأوثان والشياطين: قال ابن عباس: كانوا يجعلون الطعام حُزَماً، يجعلون منها لله، ومنها لآلهتهم، فكان إذا هبت الريح من نحو الذي(3/2193)
جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم /، وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، لم يردوه، فذلك قوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء الحكم في حكمهم، قال: وكذلك جعلوا من ثمرهم نصيباً لله، ونصيباً للشياطين ولأوثانهم، فإن سقط من نصيب الله شيء في نصيب الأوثان تركوه، وإن سقط من نصيب الأوثان (شيء في نصيب الله) ردوه في نصيب الأوثان، وإن انفجر من سِقْيِ ما جعلوه لله في نصيب الشيطان والأوثان تركوه، وإن انفجر من سِقْي ما للأوثان في نصيب الله رَدُّوه (وسَدُّوهُ)، فهذا ما جعلوا من الحرث، وأما الأنعام: فهو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وقد ذكر ذلك في " المائدة ".
وقال السدي: كانوا يزرعون زرعاً يجعلونه لله يتصدقون به، ويزرعون آخر يجعلونه لآلهتهم وينفقونه عليها، فاذا أَجْدَبَ ما لآلهتهم، أخذوا ما كان لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أَجْدَب ما كان لله، لم يأخذوا مما لآلهتهم شيئاً،(3/2194)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
(و) يقولون: " لَوْ شَاءَ اللهُ لَزَكَّى الذي لَهُ ".
وقال ابن زيد: كل شيء جعلوه لله من ذبح لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الآلهة، وما كان من ذبح للآلهة لا يذكرون عليه اسم الله.
وفي الكلام حَذْفٌ، والمعنى: " من الحرث والأنعام نصيباً، وجعلوا لأصنامهم نصيباً "، ودل على ذلك قوله: {وهذا لِشُرَكَآئِنَا}.
والفتح في " الزعم " لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بني أسد، والكسر: لغة تميم وقيس، وقد أنكر أبو حاتم الكسر، وحكاه الكسائي والفراء.
قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَآؤُهُمْ} الآية.
روي عن ابن عامر (زُيِّنَ) بالضم، (قَتْلُ) بالرفع: اسم ما لم يسم فاعله، (أوْلادِهِم) بالخفض على الإضافة، (شركاؤُهم) بالرفع على إضمار فعل دل عليه(3/2195)
(زُيِّنَ)، كأنه قيل: زَيَّنَهُ شركاؤهم، وحكى النحويون أنه يجوز: " ضُرِبَ زَيْدٌ عَمْرُو "، كأنه قيل: " ضَرَبَهُ عَمْرُو "، كما قال (الشاعر):
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لخُصومةٍ. ... كأنه قال: يبكيه ضارع.
وروى أبو عبيد عن ابن عامر (زُيّنَ) بالضم مثل الأول، (قَتْلُ) بالرفع، (أولادَهم) بالنصب، (شركائِهم) بالخفض على التفريق بين المضاف والمضاف اليه، وهو بعيد في الكلام، وبذلك قرأنا لابن عامر، وهي رواية الشاميين عنه، وإنما يجوز في (الظرف وحروف) الخفض. وقد روي بيت يجوز ذلك فيه وهو:(3/2196)
فَزَجَجْتُها مُتَمَكّناً زَجَّ القَلوصَ أبي مَزادَه وهو بعيد. ... وقد روي عن ابن عامر أيضاً مثل القراءة الأولى، إلا أنه خفض الشركاء مع خفض " الأولاد "، فهذا يجوز على أن تبدل " الشركاء " من " الأولاد "، لأن الأولاد شركاؤهم في النسب والميراث.
وأما قراءة الجماعة بفتح الزاي، ونصب (قَتْلَ)، وخفض " الأولاد "، ورفع " الشركاء " فهو ظاهر الكلام ووجهه.(3/2197)
ومعنى الآية: (و) كما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيباً، ولآلهتهم نصيباً، فحكموا فيه بما لا يجب، كذلك زين لكثير من المشركين قتلهم: أن قتلوا أولادهم خيفة العَيْلَةٍ، وهو وَأد البنات {لِيُرْدُوهُمْ} أي: ليهلكوهم، / {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ} أي: فعلوا ذلك (بهم) ليخلطوا عليهم دينهم) فيضلوا، {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ}: أي: لوفقهم إلى الصواب، ولكن خذلهم فقتلوا أولادهم وأطاعوا الشياطين. ولم يضطرهم إلى ذلك، إنما خَذَلَهُم وحَالَ بينهم وبين التوفيق.
قوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} هذا تهدد وتوعد من الله لهم، أي: ذرهم - يا محمد - وما يكذبون، فإني لهم بالمرصاد.(3/2198)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قوله: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الآية.
قرأ أبان بن عثمان (حُجُر) بالضم (للحاء والجيم). وقرأ قتادة والحسن (حُجْر) بضم الحاء وإسكان الجيم. وهي لغات في (حِجْر).
والحِجْرُ: الحرام، يقال: حُجُرٌ وحُجْرٌ وحِجْرٌ، وفيها لغة أخرى وهي " حِرْجٌ " بتقديم الراء، مثل: " جَبَذَ " و " جذب ".
وقيل: معنى " حِرْج ": ضيق، من قولهم: " فلان يتحرَّج " أي: يُضَيِّق على نفسه.
وعن ابن عباس: (وحَرْثٌ حِرْجٌ الراء قبل الجيم، وكذا في مصحف(3/2199)
أبُيّ، ومعناه ما ذكرنا.
ومعنى الآية: أن الله حكى عن المشركين أنهم يحرمون ويحللون من عند أنفسهم تَخرُّقاً منهم وتَقُّولاً بما لم ينزل الله ولا أمر به، و " الحرث " - هنا - (هو) ما ذكر في الآية الأولى من جعلهم لله ثم يردونه إلى آلهتهم، و (الانعام: قيل) إنهم كانوا يجعلون لله أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى أكلوه، ويجعلون لآلهتهم أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى عظموه، ويأكلون الميتة مما لله. وقيل: الأنعام هنا (هي) البحيرة وما بعدها مما ذكر في " المائدة ".
والحجر: الحرام، ومنه: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 22] أي: حراماً محرماً.(3/2200)
{وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} هو الحامي: وقيل: هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها. والحامي: البعير الذي يحمى ظهره، وهو الذي قد ألقح ولد ولده، فلا يركب ولا يجز (له وبر)، ولا يمنع من مرعى، وأي إبل ضرب فيها لم (يمنع منها).
والبحيرة: هي التي يبحر أذنها، أي: يشق، ويحرم لحمها على الرجال والنساء. وقيل: البحيرة: ابنة السائبة. والسائبة: الناقة كانت إذا نتجت سبعة أبطن سيبت فلم تركب ولم يجز لها وَبَرٌ، وبحرت أذن ابنتها وأجريت مجراها. وقد ذكر هذا في " المائدة " بأشبع من هذا.
وقوله: {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا}: هو ما ذبحوه لآلهتهم، لا يذكرون اسم الله [عليه]. وقوله: {إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} كانوا يذبحون أشياء لا يأكلها إلا خدمة(3/2201)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
الأصنام. وقيل: كانت البحيرة لا تركب ولا يحمل عليها شيء ذكر عليه اسم الله.
{افترآء عَلَيْهِ} أي: كذباً على الله، سيجزيهم بكذبهم.
وقد روي عن الدوري عن الكسائي (افتراء) بالإمالة، والفتح أشهر، وكذلك ذكر أبو الحارث عن الكسائي، (قال الكسائي) لأنه مصدر لا أميله.
قوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام} الآية.
قوله: {خَالِصَةٌ}: أُنّثت (ما) لتأنيث (الأنْعَامِ)، لأن ما في بطونها(3/2202)
ملتبس بها، كما قال:
(مشين كما اهتزّت رماح) تَسَفّهَتْ ... أعاليها مَرُّ الرِيّاح النواسم
فأنِّث، لأن المَرُّ من الرياح، هذا قول الفراء. وقال الكسائي والأخفش: دخل التأنيث للمبالغة. وقيل: " التأنيث على معنى (ما)، / والتذكير على اللفظ "، كذا قرأ ابن عباس (خَالِصُهُ) بالتذكير، والمعنى: ما خلص منه حياً لذكورنا.
{وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} يعني الإناث ".
وقرأ الأعمش (خَالصٌ) بغير هاء، على التذكير على اللفظ، ولأن بعده(3/2203)
{وَمُحَرَّمٌ}.
وهذه الآية - في قراءة الجماعة - أتت على خلاف نظائرها في القرآن، لأن ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، إنما يتقدم أولاً الحمل على اللفظ ثم يليه الحمل على المعنى، نحو: {مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 62] ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 62]، ونحو {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15] ثم قال: {وَظِلالُهُم} [الرعد: 15]، وهو كثير، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، يتقدم الحمل على اللفظ، ثم يحمل بعد ذلك على المعنى. وهذه الآية تقدم الحمل (فيها) على المعنى فقال: (خالِصَة)، ثم حمل بعد ذلك على اللفظ فقال {وَمُحَرَّمٌ}. ومثله قوله: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]، فقال أولاً (سَيئةً) فأنث وحمل على معنى (كل)، لأنها اسم لجميع ما تقدم مما نهى عنه من الخطايا، ثم قال بعد ذلك (مَكْروهاً)، فذكّر على لفظ (كل)، وهذا إنما هو على قراءة نافع ومن تابعه.(3/2204)
وكذلك {مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 - 13]، فجمع " الظهور " حملاً على معنى (ما)، ووحّد الهاء حملاً على لفظ (ما). وحكي عن العرب: " ليت هذا الجراد قد ذهب فأراحنا (من) أَنْفُسِهِ "، فجمع " الأنفس " ووحّدُ الهاء وذكّرَها.
ومن قرأ (يَكُن) بالياء، رده على لفظ (ما)، وردّه أيضاً على ما بعده، لأن بعده (فَهُمْ فيه)، ولم يقل: " فيها "، والمعنى: (وإن) يكن ما في بطونها ميتةً.
ومن رفع (مَيْتَةٌ) جعل " كان " بمعنى " وقع "، وقال الأخفش: التقدير: " وإن تكن في بطونها ميتةٌ "، جعل الخبر محذوفاً.(3/2205)
ومن قرأ بالتاء، أنّث على معنى (ما). وقيل: التقدير: " وإن تكن النّسمة ميتةً ".
و (هي لما) في بطون الأنعام التي يسمونها الوصيلة، وهي الشاة: كانت إذا ولدت ستة أبطن: عناقَيْن (عناقيْن)، وولدت في السابع عناقاً وجدياً، قالوا: وصلت أخاها، فكان لبنها حلالاً للرجال حراماً للنساء، فإن ماتت أحل لحمها للرجال والنساء، فعابهم (الله) بهذه الأحكام التي لم يؤمروا بها.
ومعنى الآية - في قول ابن عباس - أن الذي ذكروه مما في بطون الأنعام: هو اللبن، جعلوه حلالاً للذكور، (وحراماً على الإناث.
قال قتادة: هو ألبان البحائر، حلّلوه للذكور)، وحرموه على الإناث، وإنْ يَكن ميتة اشترك فيه الذكور(3/2206)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
والإناث. قال ابن عباس: كانت الشاة اذا ولدت ذكراً وذبحوه، أكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، (وإن) كانت ميتة فهم فيه شركاء. قال السدي وغيره: عنى بذلك ما في بطون الأنعام من الحمل، إن ولد حياً، فهو للرجال دون النساء، وإن ولد ميتاً أكله الرجال والنساء.
والأزواج هنا: نساؤهم. وقال ابن زيد: الأزواج هنا: بناتهم. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي: سيكافئهم وصفهم، أي: على وصفهم، وهو قولهم الكذب، قال قتادة: وصفهم: كذبهم، أي: يجزيهم عليه.
قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم} / الآية.
المعنى: قد هلك الذين قتلوا أولادهم وحرموا ما رزقهم الله، وهم الذين تقدم ذكرهم، وقوله {سَفَهاً} أي: جهلاً منهم، افتراء عليه، أي: كذباً عليه وتخرصاً، {قَدْ ضَلُّواْ} أي: تركوا الحق في فعلهم، {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي: لم يهتدوا إلى الحق في(3/2207)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
فعلهم ذلك، ولا وقفوا له.
قال قتادة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم خوف السباء والفاقة، ونسبوا البنات إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله}: هو تحريمهم أكل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
قوله: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات} الآية.
هذه الآية إعلام من الله وتذكير لعباده بنعمه، ومعنى {أَنشَأَ} أحدث وابتدع، الجنات وهي البساتين، والمعروشات: ما عُرِشَ كهيئة الكرم {وَغَيْرَ معروشات}: ما لم يُعرَش.
وقيل: المعروشات: ما غرس الناس، وغير معروشات: ما نبت في البر والجبال من غير غرس (الناس) له من الثمرات. وقيل: معروشات:(3/2208)
" عليها حيطان ".
{والنخل والزرع} أي: وأنشأ ذلك. {مُخْتَلِفاً} أي: مقدراً فيه الاختلاف ولم ينشأ في أول مرة مختلف، وهذا كما تقول: " لَتَدْخُلَنَّ الدَّارَ آكلِينَ شَارِبينَ "، أي: مقدرين ذلك.
والمعنى: " مختلفاً ما يخرج منه مما يؤكل ". {والزيتون والرمان} أي: وأنشأ الزيتون والرمان {متشابها} ((أي)) في اللون والمنظر، {وَغَيْرَ متشابه} ((أي)) في الطعم. وقيل: المعنى: أن منه ما يشبه بعضه بعضاً في الطعم، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضاً في الطعم والمنظر. {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أي: من رُطَبِهِ(3/2209)
(وعنبه).
قوله: {حَصَادِهِ}: بالفتح تميمية، وبالكسر حجازية.
وقوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: قال سعيد بن جبير: هذا منسوخ بالزكاة، وهو قول عكرمة، وبه يقول الطبري.
و" قال الضحاك: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ".
وقال ابن عباس: هو منسوخ بالسنة، بقول النبي: العشر ونصف العشر،(3/2210)
وهو قول السدي وابن الحنيفة والنخعي؟.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " هو ما يسقط من السنبل " والآية - على هذا - نَدْبٌ.
وقال أنس بن مالك: هي محكمة، والمراد بها الزكاة المفروضة، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم، وهو مروي عن مالك.
واختلف فيه أصحاب الشافعي: فمنهم من تأول عنها أنَّها منسوخة، لأنه ليس في الرمان ولا في شيء من الثمار زكاة إلا في النخل والكرم. ومنهم من قال: هي محكمة على تأويل مذهبه.(3/2211)
وقال سفيان: الآية في شيء آخر سوى الزكاة، وهو أن [يدع] المساكين لما يسقط من الحصادين، (وهي) محكمة. و (قد) قيل: إنَّها على الندب.
وقد عورض من قال: إنَّها في الزكاة المفروضة، بأنَّ هذه الآية مكية والسورة كذلك، ولم يختلف العلماء أنَّ الزكاة إنما فرضت بالمدينة، ولو كانت الزكاة المفروضة لوجب أن تعطى وقت الحصاد على نص الآية وقد جاءت السُّنَة أنَّ الزكاة لا تعطى إلا بعد الكيل.
وفي / الآية: {وَلاَ تسرفوا} فلا يجوز أَنْ يكون هذا في الزكاة، لأَنَّها معلومة محدودة، ويجب أَنْ تكون الزكاة في كل الثمر ولو كانت في الزكاة المفروضة، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال أبو حنيفة: إن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة إلا الحطب(3/2212)
والحشيش والقَصَبِ.
فخص الآية ولم يجرها على عمومها، وتفرد بذلك.
وروي أن قوله {وَلاَ تسرفوا} نزل في ثابت بن قيس لما صرم نخله خلى بين الناس وبينه كله فلم يبق لأهله شيئاً منه، فنزل {وَلاَ تسرفوا}، أي: في العطاء فتبقوا لا شيء لكم.
ولم يختلف العلماء أن في أربعة أشياء الزكاة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
وجماعة منهم على أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة، وهو قول الحسن والشعبي والثوري وابن المبارك وابن أبي ليلى والحسن بن(3/2213)
صالح وابن سيرين ويحيى بن آدم وغيرهم.
وزاد ابن عباس على هذه الأربعة: الزيتون (والسلت.
وزاد الزهري على هذه الأربعة: الزيتون) والحبوب كلها. وهو قول عطاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول ومالك والأوزاعي والليث، وهو قول(3/2214)
الشافعي بالعراق، ثم رجع بمصر. عن الزيتون فلم ير فيه زكاة، قال: لأنه أُدُمٌ وليس يُؤْكَلُ بنفسه.
وهذا كله يدل على أَنَّ الآية منسوخة، إذ ليس أحد منهم أوجب ظاهر نص الآية. ومن قال: إنَّها محكمة وإنَّها في شيء غير الزكاة، احتج بحديث رواه الخدري عن النبي عليه السلام أنه فسره فقال: " ما سقط عن السنبل " وهذا الحديث، لو صح لكان منسوخاً بالإجماع، لأنه قد أجمع على أنه لا فرض في المال سوى الزكاة.
فأما من قال بالندب فهو جائز، إلا أن قائله غير معروف. ومعنى(3/2215)
{وَلاَ تسرفوا} - عند ابن المسيب -: لا تمتنعوا من الزكاة المفروضة.
وقال أبو العالية: كانوا يعطون حتى يجحفون في الإعطاء، فأنزل الله {وَلاَ تسرفوا}، وهذا قبل فرض الزكاة. قال السدي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.
قال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس جَدَّ نخلاً (له)، فحلف ألا يأتيه أحد إلا أعطاه، فأمسى ليست له ثمرة فأنزل الله {وَلاَ تسرفوا}.
وقال مجاهد: ((و) لا تُسْرِفوا): لا تحرموا ما حرمت الجاهلية من الحرث والأنعام.(3/2216)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
وقال ابن زيد: هذا للسعاة، أي: لا تأخذوا للولاة ما لا يجب على الناس.
قال أصبغ بن الفرج: (و) لا تُسْرِفوا) (أي) لا تأخذوه بغير حقه ولا تضعوه في غير حقه.
قوله: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} (الآية).
{حَمُولَةً} منصوبة بـ (أَنْشأَ)، أي: وأنشأ من الأنعام حمولةً وفرشاً مع ما أنشأ من الجنات.
والحمولة: ما حمل عليه من الإبل، والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد، وقيل: الحمولة: الإبل والبقر التي يحمل عليها.(3/2217)
وقيل: هي ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك، والفرش: ما لم يحمل عليه من الصغار، وقيل: الفرش الغنم قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقال السدي: الفرش: الفصلان والعجاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو " حمولة ". قال ابن زيد: " الحمولة ": ما تركبون، والفرش: ما تأكلون وتحلبون ".
وقيل: الحمولة المُذَلَّلَة للحمل، والفرش: ما / خلقه الله من الجلود والصوف مما يُتَمَهَّدُ عليه ويُتَوَطَّأُ به.
ومما يدل على أَنَّها الإبل والبقر والغنم قوله: {ثمانية أزواج} [الأنعام: 143] بعده، فجعل: {ثمانية} بدلاً من {حَمُولَةً}، ثم فسرها بالإبل والبقر والغنم. فلا معنى للصوف(3/2218)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
والجلود في قوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} الآية: هذا (أمر للمؤمنين)، معناه: الإباحة لهم بأن يأكلوا من ثمراتهم وحروثهم ولحوم أنعامهم، ولا يحرموا ما حرم المشركون، ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} كما اتبعها هؤلاء، بحروا البحائر وسيبوا السوائب. ومعنى {خطوات الشيطان} أي: طرقه التي يتخطى فيها الحلال إلى الحرام والأنعام: الإبل. وقيل: الإبل والبقر والغنم. وقيل: هي كل ما أحله من الحيوان.
قوله: {ثمانية أزواج} الآية.
في نصب {ثمانية} خمسة أقوال:
- قال الكسائي: (هو) منصوب بـ {أَنشَأَ} [الأنعام: 141].(3/2219)
- وقال الأخفش: نصبه على البدل من {وَفَرْشاً} [الأنعام: 142]- وإن شئت: على الحال.
- وقال علي بن سليمان: (هو) منصوب بـ {كُلُواْ}، أي: كلوا [لحم] ثمانية أزواج.
- وقيل: هو منصوب على البدل من (ما) على الموضع.
وقوله: {اثنين} بدل من (ثَمانِيَةَ، وكذا {وَمِنَ المعز اثنين}.
وقرأ أبان بن عثمان: (مِنَ الضَّأنِ اثْنَان) برفع " الاثْنَيْنِ " على الابتداء والخبر.
ومعنى الآية: أَنَّ الله نَبَّه المؤمنين على ما أحل لهم لَئلاَّ يكونوا كمن ذكر ممن يحرموا ما أحل الله. ومعنى: {ثمانية أزواج} أي: أفراد لأن كل فرد يحتاج إلى غيره، فهو زوج، والثمانية الأزواج قد فسرها (تعالى)، وهي الضأن والمعز والإبل(3/2220)
والبقر، وسماها ثمانية وهي أربعة، لأن (كل) واحد: ذكر وأنثى، ألا ترى إلى قوله: {مَّنَ الضأن اثنين} أي: ذكر وأنثى، وكذلك: {وَمِنَ المعز اثنين}، وما بعده مثله. وقوله: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ (أَمِ) الأنثيين} أي: ما الذي حُرِّمَ عليكم فيما زعمتم: (أذكر) الضأن والمعز، أم أنثى الضأن والمعز؟، فإن كان التحريم من جهة الذكر فيجب أن تحرموا على أنفسكم كل ذكر، وأنتم تستمتعون ببعض الذكور وتأكلونه، وإن كان من جهة الأنثى فحرموا كل أنثى، أم حرم عليكم ما اشتملت عليه أرحام (الانثيين؟، فيلزمكم أن تحرموا كل ما اشتملت (عليه) الأرحام، فتحرموا الذكر والأنثى.
قال الطبري: أَمَرَ الله نبيه أن يقول لهم ذلك، فإن ادعوا تحريم الذكرين أَوْجَبُوا تحريم كل ذكر من ولد الضأن والمعز، وهم لا يفعلون ذلك، بل يستمتعون بلحوم بعض الذكران وظهورها، وإن قالوا: الأنثيين، أوجبوا تحريم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم، وهم لا يفعلون ذلك، وإنما هذا إبطال لما ادعوا أن الله حرم عليهم ذلك.(3/2221)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أي: أخبروني عن علم {إِن كُنتُمْ صادقين}.
ثم قال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله} الآية.
أي: أجاءكم به نبي، أم حضرتم ربكم إذْ أَمَر بهذا، فسمعتم ذلك منه، وهذا على التبكيت لهم والقطع لحجتهم، ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله} أي: اخترق الكذب {لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: من أشد ظلماً منه.
قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ} الآية.
المعنى: قل لهم يا محمد: لست أجد شيئاً قد حرمه الله على / آكل يأكله - فيما أوحي إليَّ من كتاب الله - إلا الميتة، والدم المسفوح - وهو الجاري السائل - ولحم الخنزير، وما ذبح للأصنام والأوثان: وهو قوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ}(3/2222)
ثم قال تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ} (أي) إلى أكل هذا المحرم، {غَيْرَ بَاغٍ}: (أي يبغي) الميتة، {وَلاَ عَادٍ} في الأكل. وقيل: باغ على المسلمين، من خرج لقطع السبيل، فليس له اذا جاع أن يأكل الميتة، قال ابن جبير. قال ابن عباس: من أكل الميتة غير مضَّطَر فقد بغى واعتدى. وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة.
ومن قرأ (تكون) بالتاء ونصب {مَيْتَةً} فتقديره: إلا أن {يَكُونَ} المأكولة ميتة.
ومن قرأ بالتاء ورفع " الميتة " جعل " كان " بمعنى " وقع "، وعطف {أَوْ دَماً}(3/2223)
على (أَنْ) المستثناةِ.
والرجس هنا: النجس.
وفي هذه الآية خمسة أقوال:
- قيل: إنها منسوخة بالسنة، لأن النبي عليه السلام قد حرّم لحوم الحَمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. والآية تدل على أنه لا محرّم إلا ما فيها. وهذا قَولٌ مَرْدودٌ، لأنه خبر، والأخبار لا تنسخ.
- وقيل: إن الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها. وهو قول ابن جبير والشعبي، وبه قالت عائشة: لا حرام إلا ما في الآية.
- وقال الزهري ومالك بن أنس وغيرهما. الآية محكمة، ويضم ما سَنَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون داخلاً في المحرمات.(3/2224)
والقول الرابع: إن الآية جواب لقوم سألوا عن أشياء فأجيبوا عنها، ثم بيّن النبي عليه السلام تحريم ما لم يسألوا عنه، ودل على ذلك قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157]. فالنبي عليه السلام يحرم بالوحي الذي في القرآن، ويحرم بما ليس في القرآن، وعلى الناس اتباع ذلك لقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]: ولقوله: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور: 54].
وأكثرهم يرى الضبع صيداً، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس. قال عكرمة: رأيتُها على مائدة ابن عباس. وأجازه ابن عمر.
وقال أبو هريرة: الضبع نَعْجَةُ الغنم. وكَرِهَهَا مالك.(3/2225)
وقال الحسن البصري والنخعي والزهري: الثعلب سبع. وبه قال مالك، وكذلك روي عن أبي هريرة. ورخص في أكله عطاء وطاوس وقتادة والشافعي وأبو ثور.
وأكثرهم على منع أكل الهَرِّ. وبه قال مالك. ورخص فيه الليث. وذكره مجاهد وطاوس ثمن السنَّوِر، وبيعه، وأكل لحمه، وأنْ يُنْتَفَعَ بجلده.
وكلهم على أن ما قطع من الحي مما يؤلمه فهو ميتة. ورخص مالك رحمه الله في(3/2226)
جواز قطع أَلْيَةِ الكبش ليُكْثِرَ لحمه، ومنع من أكل ما قطع.
وكره عمر بن الخطاب إخصاء الذكور، وكذلك ابن عمر، ورخص. فيه الحسن وطاوس وعروة بن الزبير. ولم ير مالك بإخصاء ذكور الغنم بأساً، لأنه صلاح للحومها.
قال ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل.
وأكثرهم على منع أكل لحم القرد.
وأجاز الشعبي أكل لحم الفيل، ولم يجزه الشافعي، ومنع من الانتفاع بعظمه.(3/2227)
وأرخص مالك لحوم الحيات، يعمل بها الدّرْيَاقُ، وقال: تَذّكى.
وكره ذلك سفيان والحسن البصري وابن سيرين.
وسُئِلَ الأوزاعي عن أكل الذُبَّانِ، فقال: ما أراه حراماً.
وأكثرهم / على جواز شرب أبوال ما أُكِلَ لحمه.
وقال مالك رحمه الله: أكره الفأر والعقارب والحيَّةَ من غير أن أراه حراماً بَيِنّاً، ومن أكل حيَّةَ فلا يأكلها حتى يذبحها.(3/2228)
(وسُئِلَتْ عائشة رضي الله عنها عن الفأرة، فقرأت: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} إلى آخر الآية، تريد تحليلها).
ولا يجوز - عند الشافعي - أكل شيء مما أبيح للمحرم قتله.
وسُئِل مالك رحمه الله عن أكل الغراب والحِدَإِ، فقال: لم أدرك أحداً ينهى عن أكل ذلك (ولا يأمر بأكلها.
وكره جماعة أكل الخيل، وكرهه مالك)، وأجازه جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وغيرهم، وبه قال الشافعي وابن حنبل.(3/2229)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
وأكثرهم على إجازة أكل (لحم) الضَّبِّ والأرنب واليربوع، وهو مذهب مالك والشافعي، ووقف مالك في القنفد.
قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية.
قرأ الحسن {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} بالإسكان، وقرأ أبو السمّأل {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} بكسر الظاء، وأنكر ذلك أبو حاتم.
(و) قوله: {أَوِ الحوايآ} في موضع رفع على معنى: " أو إلاّ ما حملت الحوايا "،(3/2230)
فهو عطف على " الظهور "، فتكون داخلة في الذي هو حلال، وكذلك (ما) الثانية داخلة في الحلال، وقيل: هي في موضع نصب، عطف على المستثنى وهو (ما). وقيل: هو معطوف على " الشحوم "، والمعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فتكون الحوايا داخلة في التحريم على هذا، و (ما) الثانية عطف عليها.
ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه أنه حرم على اليهود - جَزاءً بِبغْيِهِمْ - كل ذي ظُفُرٍ، وهو من البهائم (و) الطير ما لم يكن مشقوق [الأصابع] كالإبل والنَّعَام والإوز والبط، وأَنَّهُ حُرَمَ عليهم شحوم ثروب الغنم والبقر. وقيل: إنَّما حرّم(3/2231)
عليهم كل شحمٍ غير مختلط بعظمٍ ولا على عظمٍ.
وقال السدي: الذي حرّم عليهم هو شحوم الثروب و [الكلى]. {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}: يعني شحوم الجنب والظهر ونحوه.
وواحد " الحوايا ": " حاوياء "، مثل نافقاء، هذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي: واحدها " حاوية "، مثل ضاربة. وهي ما تَحَوّى في البطن ويَسْتَدير، وهي " المباعر "، فاستثنى في الحلال ما حملت الحوايا، فهذا يدل على عطف " الحوايا " على " الظهور " في موضع رفع. وأكثرهم على أن الحوايا: المباعر، تدعى عند العرب: " المرابض ".
{أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ}: يعني شحم الألية وشبهه حلال.(3/2232)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
وقيل: واحد الحوايا " حوية ".
قوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ} الآية.
المعنى: فإِنْ (كذبك) - يا محمد - (هؤلاء) اليهود فيما أوحينا إليك أَنَّا حرمنا عليهم، {فَقُلْ: رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} بالمؤمنين، تَسَعُ المسيء والمحسن منهم، ولا يعاجل من كفر به بالعقوبة، {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين} إذا أراد حلوله بهم، و " المجرمون ": الذين أجرموا أي: اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات.
وكان نزول هذه الآية بسبب أن اليهود قالت: لم يحرم الله علينا شيئاً، إنَّما حرُّمَ إسرائيل على نفسه الثرب وشحم الكليتين، فنحن نحرمه. فذلك قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ}، أي: قالوا: لم يحرم الله علينا ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة.
/ قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} (الآية).(3/2233)
والمعنى: سيقول المشركون من قريش وغيرهم - الذين تقدم ذكرهم - إذا تبين لهم أنُّهم على باطل، قالوا: لو شاء الله ما فعلنا ذلك، ثم أخبرنا الله أن قولهم هذا (قد) قال به من كان قبلهم حتى نزلت بهم العقوبة، وهو قوله: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي: نزلت بهم عقوبة فعلهم.
وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالوا: إن الله لم يشأ شرك المشركين، لأن الله لم يذكر هذه الآية إلا على جهة الذم لهم في قولهم: إن الله لو شاء ما أشركوا. فأضافوا ما هم عليه من الشرك أنه عن مشيئته كان ولو أن قولهم صحيح. ما ذَمَّهُمْ عليه. قالوا: فَدَلَّ ذلك على أن الله لم يشأ شرك المشرك.
وفي قوله تعالى - بعد الآية -: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، هود: 18، الكهف: 15] ما يدل على بطلان كذلك، بل الله المقدر لكل أمر من شرك وغيره.
ومعنى: {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} أي: لو شاء لأرسل إلى آبائنا رسولاً يردهم(3/2234)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
عن الشرك، فنتبعهم. وقيل: إِنَّما قالوا ذلك على جهة الهُزْء واللعب والاستخفاف، ولو قالوه على يقين وحق لما رَدَّ عليهم ذلك.
ثم قال لنبيه: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ}: (قل) لهم يا محمد: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} على ما تقولون وتدّعون أن الله رضي ما صنعتم من عبادتكم الأوثان وتحريمكم ما لم يأمركم به؟، {فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ} أي: فتظهروا العلم بذلك، وما تتبعون إلا الظن في عبادتكم وتحريمكم، وما أنتم إلاّ تخرصون، أي: تتقَوّلون الكذب والباطل على الله ظناً بغير علم ولا برهان.
قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} الآية.
والمعنى: {قُلْ} لهم يا محمد بعد عجزهم عن إقامة الحُجَّة فيما ادَّعَوا: لله(3/2235)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
الحُجَّة البالغة عليكم. ومعنى {البالغة} التي تبلغ مراده في ثبوتها على من احَتَجَّ بها عليه من خلقه، {فَلَوْ شَآءَ} ربكم، {لَهَدَاكُمْ} أي: لوفقكم للهدى. وذلك أنْهم جعلوا قولهم {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] حُجَّة في إقامتهم على شركهم، جعلوا أنّ كل من كان على شيء من الأديان فهو على صواب، لأنه يجري - فيما يعتقدون - على مشيئة الله.
وهذا يريدون به إبطال الرسالة، إذ لا معنى لها على هذا القول فيُقَال لهم: فالذين على خلافكم في الدّينِ، أليس هم أيضاً على مشيئة الله؟، فينبغي أن لا تقولوا إنهم ضالون، والله يفعل ما يشاء، قادر على أن يهدي الخلق أجمعين، وليس للعباد عليه أن يفعل بهم كل ما يقدر عليه، لا معقب لحكمه، ولا راد لفعله.
قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن الله حَرَّمَ عليهم ما ذكروا من الأنعام والحروث وغيرها: هاتوا شهداءكم يشهدون أن الله حرم عليكم ما ذكرتم،(3/2236)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{فَإِن شَهِدُواْ} أي: فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حرم ما يزعمون، {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} فإنهم كذبة.
وهذا خطاب للنبي، والمراد به أصحابه.
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي: لا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب وتحريم ما لم يحرِم الله، {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون / له عديلاً، أي: ولا تتبع أهواء هؤلاء أيضاً.
قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية.
(ألا تشركوا): (أن) في موضع نصب على البدل من (ما). وقيل: هي في موضع نصب على معنى: " كراهة ألا تشركوا "، ويكون - على ذلك - المتلو عليهم غير الإشراك.
ويجوز أن تكون في موضع رفع على معنى: " هو (أَنْ لاَ) تشركوا "(3/2237)
فيكون متلواً كالقول الأول، و {تُشْرِكُواْ} في موضع جزم على أَنْ (لا) للنهي، وهو اختيار الفراء، قال: لأن بعده: " ولا تفعلوا كذا ".
وإن شئت جعلت {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} خبراً في موضع نصب، كما تقول: " أمرتك ألا تذهب إلى زيد "، و " ألا تذهب " بالجزم والنصب. ولك أن تجعل {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} نصباً، وما عطفته عليه جزماً على النهي.
قوله: {مَا ظَهَرَ}: {مَا} في موضع نصب بدل من {الفواحش}.
قوله: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ}: " ذلك " في موضع رفع على معنى: الأَمْرُ ذلكم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: بَيَّنَ ذلكم.(3/2238)
ومعنى الآية: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المحرمين ما لم يحرمه الله عليهم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حقاً يقيناً (ووحياً) أوحي إلي، (وتنزيلاً) أنزله علي: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} أي: وأوصى بالوالدين إحساناً، {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} أي: خشية الفقر، فإنَّ الله هو رازقكم وإيَّاهم، وعنى بالأولاد هنا: الموؤدة التي زين قتلها للمشركين شركاؤهم، والإملاق: (مصدر " أملق) الرجل من (الزاد) " إذا فني زاده وافتقر، {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي: الظاهر منها والباطن.
والظاهر: هو ما كان من الزنى الظاهر، والباطن: هو ما كان منه في خفاء، قاله السدِّي وغيره. وقيل: هو كل منهي عنه وكل محرم (و) لا يأتونه ظاهراً ولا باطناً. وقيل: إنَّهم كانوا يستقبحون الزنى (الظاهر) ولا يرون بأساً(3/2239)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
بالبالطن، فنهوا عن الظاهر والباطن، قاله الضَحَّاك. وقيل: الظاهر: الجمع بين الأختين وتزويج الرجل امرأة أبيه بعده، والباطن: الزنى: قاله ابن عباس. وقال ابن جبير: {مَا ظَهَرَ}: نكاح الأمهات، {وَمَا بَطَنَ}: الزنى.
قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} أي: بنفس مؤمنةٍ أو مُعَاهَدَةٍ أو يزني وهو محصن، أو يرتد عن دينه الحق ولا يعود، {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ} أي: هذا الذي وصاكم به وإيانا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تعقلون ما وصاكم به. {عَلَيْكُمْ} تمام إن جعلت (أَنْ) رفعاً.
قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} الآية.
والمعنى: وأوصى ألا تقربوا مال اليتيم، {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}: يعني التجارة فيه. وقال السَدِّي: يُثَمَّرُ ماله.(3/2240)
وقال الضَحَّاك: يبتغي له فيه الربح ولا يأخذ من ربحه شيئاً. وقال ابن زيد: أن يأكل بالمعروف إن افتقر، ولا يأكل منه إن استغنى.
{حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}: الحُلُم عند مالك وغيره. قال السَدَّي: {أَشُدَّهُ}: ثلاثون سنة. وروي عنه: ثلاث وثلاثون. وقيل: بلوغ الأشد: أن يؤنس مع بلوغ الحلم. وهذا قول حسن، وبه يقول أهل المدينة.
ومعنى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: فإذا بلغ فادفعوا إليه ماله إن آنستم منه(3/2241)
قوله رشداً، هذا المعنى محذوف من الكلام للدلالة عليه، إذ / لو تركنا والظاهر، ولم نقدر حذفاً، لكان المعنى: أن يقرب ماله إذا بلغ أَشُدَّه، لأنَّ النهي إنَّما وقع على المدة التي هي قبل الأشدِ. قوله: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أي: لا تبخسوا الناس الكيل والميزان، ولكن اعطوهم حقوقهم، (بالقسط) أي: بالعدل، {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}: أي: لا نكلفها في إيفَاءِ الكيل والوزن إلا طاقتها، لا نُضِيّقُ عليها إلا أن تعطي الحق مبلغ طاقتها، قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} أي: إذا تكلمتم بين النَّاس فأَنْصِفُوا وقولوا الحَقَّ، ولو كان الذي يتوجه عليه الحَقَّ ذا قرابة منكم، فلا تحملنكم قرابته على القول بغير الحقِّ.
وقيل المعنى: إذا شَهِدتُم فقولوا الحقَّ ولو كان المشهود عليه ذا قرابة منكم. {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي: بوصيته التي وصاكم بها أوفوا، {ذلكم وصاكم(3/2242)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(بِهِ)} أي: وصاكم الله بهذه الأمور التي في هاتين الآيتين، وأمركم بالعمل بها لا بما قد سننتم من البحائر والسوائب والوصائل والحامي وقتل الأولاد ووَأْدِ البنات وتحريم بعض الأنعام واتباع خطوات الشيطان، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: أمركم بذلك لعلكم تذكرون نعمته عليكم وما قد هداكم إليه.
وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات من الآيات المحكمات. وقال كعب: - وقد سمع رجلاً يقرأ {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]-: والذي نفس كعب بيده إنّ هذا لأول شيء في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخر الآية.
قوله: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً (فاتبعوه)} الآية.(3/2243)
قوله {وَأَنَّ هذا} من فتح، جعلها في موضع نصب عطف على {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151]، أو في موضع رفع عطف على {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151] على مذهب من أضمر الابتداء مع {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151].
ومذهب الفراء أنها في موضع خفض بإضمار الخافض، تقديره عنده: " ذلكم وصاكم به وبأن هذا صراطي "، وهذا بعيد، لأن المضمر المخفوض لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض عند سيبويه وجميع البصريين. ومن خفف (أن) جعلها مخففة من الثقيلة. وقيل: خففها عطفاً على أن لا تشركوا)، فخفف كما كان المعطوف(3/2244)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
عليه مخففاً. ويجوز أن تكون (أن) في موضع رفع بالابتداء.
ويجوز أن تكون مخففة حكمها حكم المثقلة. ويجوز أن تكون (أَنْ) زائدة للتوكيد.
و {هذا} في موضع رفع على قراءة من خفف ومن جعل (أن) زائدة، وفي موضع نصب على قراءة من شدد.
ومعنى الآية: وهذا الذي وصاكم به ربكم - في هاتين الآيتين - وأمركم بالوفاء به: هو صراطه، أي: طريقه. ودينه المستقيم، (أي) الذي لا اعوجاج به، {فاتبعوه} أي: اجعلوه منهاجاً تتبعونه، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} أي: تسلكوا طرقاً غيره، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أي: عن طريقه ودينه، وهو الإسلام، {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ}: وصاكم بذلكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً} الآية.(3/2245)
{تَمَاماً} مفعول من أجله، وقيل: مصدر، و {أَحْسَنَ} فعل ماضي صلة {الذي}، وأجاز الكسائي والفراء أن يكون (اسماً) نعتاً " للذي " في موضع جر، وأجازا: " مررت بالذي أخيك "، ينعتان " الذي " بالمعرفة / وما قاربها. وهذا خطأ عند البصريين، لأن " الذي " لم يتم بعد، فكيف ينعت بعض الاسم؟. والمعنى عند البصريين: تماما على (المحسن).
وأجاز الكسائي والفراء أن يكون {الذي} بمعنى " الذين " هنا. وقال المبرد: تقديره: تماماً على الذي أحسنه (الله) إلى موسى من الرسالة، والهاء محذوفة.
قال مجاهد: معناه تماماً على المحسنين، ومعناه: أنه آتاه الكتاب فضيلة له على(3/2246)
ما آتى المحسنين من عباده. فهذا يرد قول الكسائي والفراء: إن {الذي} بمعنى " الذين ". وروي عنه أن المعنى: تماماً على (المحسن)، فهو اسم للجنس كله من المحسنين، كما قال البصريون.
قال الحسن: كان في قوم موسى محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتابا تماماً على المحسنين، وقرأ ابن مسعود: (تماما على الذين أحسنوا). وقيل: المعنى: تماماً على الذي {أَحْسَنَ} موسى من طاعة ربه.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (تماماً على {تَمَاماً} {الذي} {أَحْسَنَ}(3/2247)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
بالرفع على إضمار " هو " والمعنى: تماما على الذي هو أحسن الأشياء.
قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} الآية.
المعنى: وهذا القرآن - الذي أنزلناه إليك - كتاب منزل لنا مبارك، {فاتبعوه} أي: اجعلوه (إماماً) تعملون بما فيه، {واتقوا} أي: احذروا أن تضيعوا العمل (بما) فيه وتتعدوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. (فاتبعوه) وقف حسن.
والتقوى: الحذر من مخالفة ما أمر الله في السر والعلانية، وحقيقة ذلك القيام بما أوجب الله لله، وترك ما نهى الله عنه (لله).
قوله: {أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب} الآية.(3/2248)
{أَن تقولوا}: (أنْ) في موضع نصب على تقدير: كراهية أن تقولوا.
وقال الفراء: المعنى: (واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب وهو متعلق بالآية التي قبلها. وقيل: المعنى:) لئلا تقولوا، أي: أنزلناه مباركاً لئلا تقولوا، أو: كراهية أن تقولوا.
ومعنى الآية: أنها خطاب للمشركين أنه تعالى أنزل عليه كتابا مباركا، وأمرهم باتباعه، وإنما أنزله لئلا تقول قريش - ومن دان بدينها -: {إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا}، وهم اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا، ولا نعلم ما (يقرأون)، وما كنا عن دراستهم إلا غافلين، أي: ما نعلم ما هي، لأنه ليس بلساننا، فيجعلوا ذلك حجة لهم، فقطع الله(3/2249)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
حجتهم بإنزال القرآن بلسانهم، فقال: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] لئلا / (يقولوا: " إنما) أُنزِلَ الكتاب على اليهود والنصارى، ولم يَنزِل علينا شيء "، وفي هذا عذر لهم في تخلفهم عن الإيمان بالتوراة والإنجيل إذ لم ينزل عليهم ولا أرسل موسى وعيسى إليهم. وفيه بيان (أن لا) عذر لهم في التخلف عن الإيمان بالقرآن إذ محمد رسول إلى جميع الخلق، وإذ القول بلسانهم.
قوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} الآية.
والمعنى: ولئلا تقولوا: {لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ}، (أي) من هاتين الطائفتين: اليهود والنصارى، ثم قال لهم: {فَقَدْ جَآءَكُمْ} - أيها المشركون - {بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: كتاب بلسانكم تعرفون ما يتلى عليكم فيه، فهو لا يغيب(3/2250)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
عنكم كما غاب ((عنكم)) ما أنزل على الطائفتين ((من)) قبلكم، إذ هو بغير لسانكم، فهو حجة عليكم {وَهُدًى} أي: بيان للحق، {وَرَحْمَةٌ}: أي: لمن عمل به.
وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا} أي: من أشد ظلماً منكم إذ كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها، أي: أعرضتم فلم تؤمنوا بها. {سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ} أي: سنثيب الذين يعرضون عن {آيَاتِنَا سواء العذاب} أي:
شديده، {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي: يعرضون عن آيات الله في الدنيا.
قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)} الآية.
(والمعنى): هل ينظر هؤلاء المشركون {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة}، يعني عند(3/2251)
الموت، تقبض أرواحهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ} وذلك طلوع الشمس من مغربها، قاله مجاهد.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} أي: إذا طلعت (الشمس) من مغربها، لم ينفع الكافر إيمانه. روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها "، فذلك حين {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً}.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن باب التوبة مفتوح قبل المغرب عرضُهُ مسيرة سبعين عاما، لا يزال مفتوحاً حتى تطلع من قبله الشمس "، ثم قرأ الآية.(3/2252)
قال عبد الله بن عمر: يمكث الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة.
قال النبي عليه السلام: " وآية تلكم الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال " وقال ابن مسعود: بقي من الآيات أربع: " طلوع الشمس من مغربها، ودابة الأرض، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، والآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ".
المعنى: {أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً} أي (و) عملت في تصديقها بالله عملاً صالحاً، فمن عمل - قبل الآية - خيراً قُبِل منه ما يعمله بعد الآية، ومن لم يعمل - قبل الآية - خيراً لم يُقْبَل منه ما يعمله بعد الآية.
ثم قال تعالى: {قُلِ انتظروا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: انتظروا(3/2253)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
إتيان الملائكة لقبض أرواحكم، أو يأتي ربكم لفصل القضاء بينكم، أو يأتي بعض آيات ربكم، أي: التي (أنا) منتظر لذلك معكم.
قوله: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ (وَكَانُواْ شِيَعاً)} الآية.
من قرأ (فارقوا) بألف، فمعناه تركوا دينهم / الذي أمرهم الله به، وخرجوا عنه وارتدوا.
ومن قرأ (فرَّقوا)، فمعناه: تَنَصَّر بعضهم وتَهَوَّد بعضهم وَتَمَجَّس(3/2254)
بعضهم، وتصديق ذلك قوله: {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي: فرقاً وأحزاباً. وقيل المعنى: آمنوا ببعضه وكفروا ببعض. قال قتادة: " هم اليهود والنصارى ". وقال مجاهد: هم اليهود.
قال أبو هريرة عن النبي عليه السلام: " هم أهل البدع من هذه الأمة " وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " هم أهل الضلالة والبدع و (أهل) الشبهات من هذه (الأمة) ".
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هم الخوارج ".(3/2255)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
(و) قوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله} نزل هذا قبل إيجاب فرض القتال ثم نسخه الأمر بالقتال في " براءة "، قال السدي وغيره.
وقيل: الآية محكمة، وإنما هو خبر من الله لنبيه أن من أمته من يُحدِثُ بعده في دينه، أي يكفر.
وقال ابن عباس: نزلت بمكة ونسخها: {(قَاتِلُواْ الذين) لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29].
وقيل: المعنى: إنما أمرهم - في مجازاتهم - إلى الله فينبئهم بما كانوا يفعلون، فهي محكمة خبر من الله لنبيه.
قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الآية).
المعنى: من جاء يوم القيامة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم بالتوبة عماهم(3/2256)
عليه، فله - من الجزاء - عشرة أضعاف ما يجب له، {وَمَن جَآءَ بالسيئة} أي: (و) من وافى يوم القيامة - وهو مقيم على مفارقة دينه - فلا يجزى إلا مثل عمله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وليس معنى {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: " عشر أمثال التوبة "، إنما المعنى: فله ثواب عشر أمثالها.
وقيل: المعنى: " فله عشر حسنات أمثالها "، أي: أمثال الحسنات العشر التي حسنة العامل موازنة لها، فالهاء في {أَمْثَالِهَا} ترجع على الحسنات المحذوفة، وفي حذف الهاء من عشر دليل على أن المعنى: فله عشر حسنات أمثال (حسنة)، وهو من باب حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إن قدرت الانفصال في (أمثالها)، أي: " أمثال لها "، وإن لم تقدر الانفصال، فهو من باب حذف المبدل منه وإقامة البدل(3/2257)
مقامه.
وقرأ الحسن: (عَشْرٌ) منون، (أمثالُها) بالرفع على الصفة للعشر. وهي قراءة عيسى بن عمر ويعقوب.
وكن حذف الهاء من (عشر) للحمل على المعنى، لأن المراد: عشر حسنات وقيل: الهاء تعود على الحسنة المذكورة
والمثل المجازى به على الحسنة، هو معروف عند الله، لكنه تعالى يجازيه على(3/2258)
حسنته (عشرة أمثال) ذلك القدر - الذي هو معلوم عنده - جزاء على الحسنة فإنما يقع التضعيف على قدر معلوم عنده يجازي به على حسنة (حسنةً) واحدة.
وقال سفيان وغيره: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك، وهو قول مجاهد والقاسم وابن عباس والضحاك والحسن.
وروى قتادة أن النبي عليه السلام كان يقول: " الأعمال ستة: موجبة وموجبة، ومضْعِفَة (ومضْعِفة) ومثل (ومِثْلٌ)، فأما الموجبة والموجبة: فمن لقي الله(3/2259)
لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار / وأما المُضْعِفة (والمُضْعِفة): فنفقة الرجل المؤمن في سبيل الله سبع مائة ضعف، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها. وأما مِثْل (ومِثْل): فإذا هَمَّ العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (واحدة)، وإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة ".
وقال أبو سعيد الخدري: هذه الآية للأعراب، وللمهاجرين سبع مائة ضعف وقال ابن عمر: هذا للإعراب، وللمهاجرين ما هو أعظم من ذلك.
قال: الربيع: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، ويؤدون عُشر أموالهم فنزلت هذه الآية، ثم نزلت الفرائض - بعد - بصوم (رمضان) والزكاة.(3/2260)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الآية.
قوله: {دِيناً} نصب عند الأخفش (ب (هدَاني). وقيل: المعنى: أنه نصب بـ " عَرَّفَني ديناً ". كما تقول: " (هو يَدَعُهُ) ترْكا ".
وقيل: هو بدل من (صراطٍ) على الموضع. وقيل: هو منصوب على المصدر، والمعنى: فَدِنْتُ ديناً. وقيل: المعنى: هداني فَاهْتَدَيتُ ديناً، ودل (هداني) على " اهْتَدَيْتُ ".
و {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} مثله في التقدير. وقيل: هو بدل من " دين ". وشاهد من قرأ(3/2261)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
(قيّما) - بالتشديد - قوله: {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36، يوسف: 40، الروم: 30]، و {دِينُ القيمة} [البينة: 5]، و {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3]، فأجمعوا على تشديد ذلك.
ومن قرأ (قِيَماً) بالتخفيف، جعله مصدراً مثل: الصِّغَر والكِبَر. و {حَنِيفاً} حال من {إِبْرَاهِيمَ}: هو نصب بإضمار " أعني ".
ومعنى الآية: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين: {إِنَّنِي هَدَانِي ربي}، أي: أرْشَدَني ودَلّني على الصراط المستقيم، أي: الطريق القويم، وذلك الحنيفية.
قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} الآية.(3/2262)
روى أحمد بن صالح عن ورش أنه فتح {وَمَحْيَايَ}. وروى داود بن (أبي) طيبة وأبو الأزهر ويونس والأصبهاني عن أصحابه عن ورش بالإسكان. واختار ورش الفتح فيما روى هؤلاء عنه:(3/2263)
روى أبو بكر الأدفوي عن أحمد بن إبراهيم عن بكر بن سهل الدمياطي عن أبي الأزهر عبد الصَّمَدِ عن ورش أنه اختار من نفسه الفتح.
ومعنى الآية: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين، {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} أي: ذبحي، {وَمَحْيَايَ} أي: حياتي، {وَمَمَاتِي} أي: وفاتي، {لِلَّهِ} أي: ذلك كله له خالصاً.
{وبذلك أُمِرْتُ} أي: أمرني ربي، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} أي: أول من خضع وذل لربه.(3/2264)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
وقرأ ابن (أبي) إسحاق وعيسى وعاصم الجحدري (ومحييّ) بياءٍ شديدة من غير ألف، ووجه ذلك أن ياء الإضافة يكسر ما قبلها، فلما لم يكن سبيل إلى كسر الألف، غُيِّرت الألف إلى الياء وأدغمت في الياء التي بعدها، جعل قلبها عِوضاً من تغييرها إلى الكسر.
والنُّسُك هنا: الذَّبْحُ في الحج والعمرة.
قوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي (رَبّاً)} الآية.
(و) المعنى: {قُلْ} (يا محمد لهم): {أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً}، أي: طلب رباً {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} أي: مالك كل شيء.(3/2265)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وأصل " الرب " أنه مصدر " ربه يربه (رباً)، إذا قام بصلاحه. وإنما سمي به، كما قيل: " رجل عدلٌ " و " رضىً "، فرّبٌّ الدار، معناه: مالكها، وحقيقته ذو ملكها.
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (أي لا تجترح (إثماً إلا) عليها)، أي: لا تؤخذ نفس إلاّ بما كسبت، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: لا يؤخذ أحد بذنب آخر، كل ذي إثم معاقب بإثمه.
وحقيقة / معناه: أن الله أمر نبيه عليه السلام أن يخبر المشركين أنهم مأخوذون بآثامهم، وأنّا لسنا مأخوذين بإجرامكم ولا معاقبين بها، {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض} الآية.
" جعل " - هنا - بمعنى " صيّر "، فلذلك تعدت إلى مفعولين. وإذا كانت بمعنى " خلق " تعدت إلى مفعول واحد.(3/2266)
ومعنى الآية: أنها خطاب للنبي وأمته، والمعنى: والله (الذي) جعلكم تخلفون مَن كان قبلكم من الأمم، والخلائفُ: جمع خليفة.
وقيل: هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم آخر الأمم، قد خلفوا في الأرض مَن كان قبلهم من الأمم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقيل: سموا (خلائف)، لأن بعضهم (يخلف بعضاً) إلى قيام الساعة.
{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي: فضَّل هذا على هذا بسعة الرزق (و) بالقُوَّة، {لِّيَبْلُوَكُمْ} أي: (ليختبركم فيما) آتاكم من ذلك، فيعلم الشاكر من غيره، والمطيع من العاصي، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} أي: لمن (لم) يتبع أمره و (ينته) عن نهيه. وإنما وصف عقابه بالسرعة من أجل أن الدنيا بعيدُها قريب.(3/2267)
{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} أي: غفور لمن تاب وأطاعه، و {رَّحِيمٌ} بترك عقوبته على سالف ذنوبه.(3/2268)
المص (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف مكية
قوله: {المص}.
قال الكسائي المعنى: هذا كتاب أنزل إليك.(4/2269)
وقال الفراء المعنى: الألف واللام والميم والصاد، كتاب.
ويلزم الفراء أن يكون بعد هذه الحروف - أبداً - كتاب وليس الأمر كذلك، ويلزمه ألاّ تكرر.
وقال ابن عباس معناه: أنا الله الملك الصادق.
وعنه معناه: أنا الله أفصِلُ.(4/2270)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
وَرُوِيَ عنه: أنه اسم من أسماء الله، أقسم ربنا به.
وعن قتادة: هو اسم من أسماء القرآن.
قوله: {وذكرى}.
في موضع رفع على العطف على: {كِتَابٌ} عند الكسائي.
و {كِتَابٌ} مرفوع بإضمار مبتدأ، أي: هذا كتاب.(4/2271)
وقيل: {ذكرى} مرفوعة على إضمار مبتدأ، وهو قول البصريين.
وقيل: هو في موضع نصب على العطف على المعنى؛ لأن المعنى: كتاب أنزلناه إليك، فعطف على " الهاء " المقدرة، وهو قول الكسائي أيضاً.
وقيل: نصبه على المصدر، وهو قول البصريين أيضاً.
وقيل: هو في موضع خفض على العطف، على معنى {لِتُنذِرَ}؛ لأن معناه للإنذار وللذكرى.
و" الهاء " في: {مِّنْهُ}، تعود على الكتاب.(4/2272)
وقيل: على الإنذار.
وقيل: على التكذيب الذي دلَّ عليه المعنى.
و {لِتُنذِرَ بِهِ}، يراد به التقديم؛ أن " اللام " متعلقة بـ: {أُنزِلَ}.
ومعنى الآية: هذا يا محمد، كتاب أنزلناه إليك، {لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي: يذكرون به الآخرة، فلا يكن في صدرك ضيق منه.(4/2273)
قال قتادة، ومجاهد الحرج هنا: الشك، المراد به المرسل إليهم لا النبي، وهو قول ابن عباس، وغيره.
وذكر الزجاج، وغيره: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " إني أخاف أن يثلغوا رأسي(4/2274)
فيجعلوه كالخبزة ".
فالله أعلم نبيه، صلى الله عليه وسلم، أنه في أمان منهم، فقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67].
وكان منه هذا الخوف بمكة.
ومن رفع " الكتاب " بإضمار مبتدأ، أجاز الوقف على {المص}.
ومن رفعه بـ: {المص}، لم يقف عليها.(4/2275)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
ومن رفع الكتاب بإضمار مبتدأ، أضمر للهجاء ما يرفعه، كأنه قال: هذه الحروف، هذا {كِتَابٌ}.
قوله: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية.
فمعنى الآية: قل، يا محمد، [لهم]: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ}، وهو القرآن.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}، أي: أمر أولياء يأمرونكم بالكفر.
و" الهاء " في {دُونِهِ} للرب.
وقيل: ل {مَّا}.
ونصب قوله: {قَلِيلاً}، على معنى يذكركم تذكيراً قليلاً، أو وقتاً قليلاً تذكركم.(4/2276)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
وفي هذه الآية، دليل على ترك اتباع الآراء مع النص.
قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الآية.
{كَم} في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن تكون في موضع نصب، بإضمار فعل يفسره: {أَهْلَكْنَاهَا}، ولا يقدر إلا بعدها، وهو بمنزلة: أيّهم ضربته.
ومعنى الآية: أنها تحذير للكافرين، أن ينزل بهم من البأس، ما نزل بمن كان قبلهم بتكذيبهم.
ومعنى الكلام: أنه إخبار عن إهلاك القرى، والمراد أهلها؛ لأن القرى إنّما هي/(4/2277)
بأهلها، فإذا هلكت هلك أهلها، ودل على ذلك قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ}، فرجع إلى الإخبار عن الأهل.
وقيل المعنى: وكم من أهل قرية.
وقوله: {أَهْلَكْنَاهَا}، ثم قال: {جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} [الأعراف: 5]، إنما معناه أردنا إهلاكها، فجاءها البأس.(4/2278)
وقيل المعنى: {أَهْلَكْنَاهَا} بمنعنا إياها التوفيق إلى الطاعة، فجاءها البأس.
وقيل: إن الهلاك هو البأس بعينه، ففي كل واحد معنى الآخر، وسواء بدأ بالبأس أو بالهلاك، وهو كقولك: " زرتني فأكرمتني "، إذا كانت " الزيارة " هي " الكرامة "، فسواء عليك ما قدمت أو أخرت.
وقيل: الفاء هنا بمعنى الواو فلا يلزم الترتيب.
و {أَوْ} هنا للإباحة.
وكان يجب أن يقول: أَوْ وهم قائلون، إلا أنه إذا كان في الجملة عائد لم يُحْتَج(4/2279)
إلى الواو.
وقد قال الفراء: " الواو " محذوفة.
وقال غيره: حذفت " الواو " لئلا تجمع بين حرفي العطف، وهي: " واو الوقت " عند بعض النحويين.
ولو جعل مكان {أَوْ} " الواو " لفسد المعنى؛ لأنه يصير المعنى: أن البأس جاءهم في الليل، وهم قائلون، وهذا لا يمكن؛ لأن القائلة إنما هي نصف النهار، والبيات فعل في الليل.(4/2280)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ [إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ]}، الآية.
المعنى: فما كان دعوى أهل القرية التي جاءها البأس إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين.
و" الدَّعْوَى " في كلام العرب، على وجهين.
تكون: " الدُّعَاء "، تقول:
" اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوىَ مَنْ دعاك، قال الله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ}، أي: دعاؤهم. وقال: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15]، أي:(4/2281)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
دعاؤهم.
والوجه الآخر: الإدعاء للحق.
و {دَعْوَاهُمْ} هنا، إنما قالوه حين عاينوا البأس، لا قبله ولا بعده. وذلك أن الرسل كانت تعدهم بالسطوة من الله وتخبرهم بأمارة ذلك وعلامته ليزدجروا، فلما عاينوا علامات ما أوعدوا به، أقروا بالظلم على أنفسهم.
قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الآية.
المعنى: فلنسألن الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي: ماذا عملت فيما بلغتها الرسل من أمري ونهيي؟ [{وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين}، أي]: ولنسألن الرسل: هل(4/2282)
بلغت وأدت ما أرسلت به.
فسؤال الأمم سؤال توبيخ وتقرير، وهو عالم بما عملت، (وسؤال الرسل) سؤال تحقيق على الأمم؛ لأن الأمم قالت: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19] فأخبرت الرسل عند السؤال أنها قد بلغت، وأن الأمم التي أنكرت كاذبة في قولها.
فسؤال الرسل، إنما هو على وجه الاستشهاد على الأمم. وسؤال [الأُمَمِ] المرسل إليهم على وجه التقرير بما عملوا، لا أنه تعالى يسأل مسترشداً مستثبتاً؛ لأن هذا صفة من لا علم عنده، بل هو لا إله إلا الله، عالم بتبليغ الرسل، وبما أجابتهم به الأمم.
وهذا يدل على أن الكفار يحاسبون ويسألون.(4/2283)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} الآية.
والمعنى: فلنخبرنَّ الرسل والمرسل إليهم بعلم يقين عما عملوا في الدنيا.
قال ابن عباس معنى {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ}: أنه ينطق عليهم كتاب عملهم.
{وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}.
أي: عن أعمالكم وأفعالكم.
قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق [فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ]} الآية.
والمعنى: ووزن الأعمال يومئذ الحق.
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}.
أي: من كثرت حسناته. قاله مجاهد.(4/2284)
وقيل المعنى: فمن ثقلت موازين حسناته. وهو " ميزان " له لسان وكِفَّتَانِ، كالذي يعرفه الناس.
قال عبيد بن عمير: يجعل الرجل العظيم الطويل/ في الميزان، فلا يزن جناح بعوضة.
ووزن الأعمال في الميزان، هو نظير إثباتُ الله إياها في أُمِ الكتاب، واستنساخه ذلك في الكتب من غير حاجة إلى ذلك، وهو العالم بكل ذلك، وإنما فعل ذلك تعالى، ليكون(4/2285)
حجة على خلقه، فيحتج عليهم بما عاينوا وفهموا وعرفوا من ذنوبهم.
قال تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، فكذلك وزن أعمال العباد حجة عليهم، ليعلموا التضييع الذي فعلوا، أو يفهموه عن قرب على ما عملوا.
فأما وزن الأعمال وهي أعراض، فإنما يحدث الله خفة في جانب السيئات، وثقلاً في جانب الحسنات، على ما يشاء لمن أراد، كل ذلك احتجاج منه على خلقه، وتقريع لهم بما عملوا، وهذا مثل استنطاق أيديهم وأرجلهم بما عملوا في الدنيا، حجة منه عليهم، وقد تظاهرت الأخبار بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.(4/2286)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
ومعنى: {[وَ] مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}.
أي: من خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بالتوحيد لله، والإيمان برسوله.
{فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم}.
أي: غبنوا أنفسهم حظوظها من الثواب.
{بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ}.
الظلم هنا: الجحود لآيات الله.
قال سلمان الفارسي: يوضع الميزان يوم القيامة، ولو وضع في كفَّته السموات والأرض لوسعتها، فتقول الملائكة: ربنا ما هذا؟ فيقول تعالى: أَزِنُ به لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: ربنا ما عبدناك حق عبادتك.(4/2287)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
وقال مجاهد، " الميزان ": هنا: الحسنات والسيئات نفسها.
وقيل: " الميزان ": الكتاب الذي فيه أعمال الخلق.
والذي جاءت به الآثار أنه " الميزان " المعروف.
{يَوْمَئِذٍ الحق}، وقف حسن.
قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض}.
لام {لَقَدْ} لام توكيد.
روى خارجة عن نافع أنه قرأ: {مَعَايِشَ}، بالمد والهمز،(4/2288)
وكذلك روي عن عبد الرحمن الأعرج - ولا يجوز ذلك عند جماعة النحويين، لأن الياء أصلية، وإنما تهمز الزائدة. وروى الأصبهاني عن أصحابه عن ورش: {مَعَايِشَ} الياء ساكنة - وهو غلط؛ لأنها غير " مفاعل " والميم زائدة؛(4/2289)
لأنها من " العيش ".
ومعنى الآية: ولقد جعلنا لكم في الأرض قراراً ومهاداً، وجعلنا لكم فيها {مَعَايِشَ} أي: ما تعيشون به.
وقيل المعنى: وجعلنا (لكم) فيها ما تتوصلون به إلى المعيشة. شكراً قليلاً تشكرون على هذه النعم.(4/2290)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
و {مَعَايِشَ} وقف.
قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} الآية.
قوله: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}.
قال الأخفش، وقطرب: {ثُمَّ} هنا بمعنى " الواو ".
ومنع ذلك سائر البصريين. والمعنى عندهم فيه: ولقد ابتدأنا خلق آدم، ثم(4/2291)
صورناه، {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا} له بعد تمام خلقه. ودليله قوله تعالى: {كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن [فَيَكُونُ]} [آل عمران: 59].
وقيل المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أيها الناس في ظهر آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، يعني ذريته، في أرحام النساء في صورة آدم.
قاله ابن عباس وغيره.
وقال السدي المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، أي: خلقنا آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يعني: ذريته في الأرحام.
وأخبر عن خلق آدم بلفظ الجماعة؛ لأنه الأصل/ للجميع، فكأن (خلقه)(4/2292)
خلق الجميع.
والعرب تجعل مخاطبة الرجل لأبائه المعدومين، ومنه قول الله تعالى عز وجل: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} [البقرة: 63]، فالخطاب لمن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به من تقدم من آبائهم. فكذلك هذا الخطاب للمؤمنين، والمراد به الخبر عن أبيهم آدم، صلوات الله عليه. وكذلك قال قتادة.
وقال عكرمة المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أيها الناس نطفاً في أصلاب آبائكم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في الأرحام.(4/2293)
وكذلك روى سفيان عن الأعمش أنه فسره كذلك.
وقال مجاهد المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني: آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في ظهر آدم.
وقيل المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} في بطون أمهاتكم، يعنى: النطفة والعلقة، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} بعد ذلك في البطون.(4/2294)
واختار الطبري، قول من قال: (معناه): ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صورناه.
قال: لأن بعده: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ}، ومعلوم أن الله (تعالى) قد أمر الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام)، قبل أن يصور أحداً من ذريته في بطون أمهاتهم.
و {ثُمَّ} للتراخي فيما بين ما بعدها وما قبلها.
وقال بعض أهل النظر: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً؛ وإن ترتيبه: ولقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم.
وهذا بعيد عن النحويين؛ لأن " ثم " لا يجوز أن يراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر. فقد أنكر هذا القول النحاس، وغيره.(4/2295)
وقوله: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ}.
فعل تعالى ذلك بعد خلق آدم (عليه السلام) ابتلاء منه لهم، واختباراً لِتَتِمَّ مشيئته التي تقدمت في إبليس، فيعلم ذلك طاهراً وظهوراً يجب عليه العقاب (لهم] والثواب، فسجد جميعهم إلا إبليس.
وقال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وسلطان الأرض، فعصى، فمسخه الله (سبحانه) شيطاناً رجيماً.
قال ابن جريح: ومن يقل من الملائكة إني إله من دونه، لم يقله إلا إبليس(4/2296)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية.
قال قتادة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله [مِّن دُونِهِ]} [الأنبياء: 29]، هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس (اللعين) لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيماً.
قال ابن عباس: لما قتل إبليس الجن الذين عصوا الله ( عز وجل) في الأرض، وشردهم، أعجبته نفسه، فلذلك [امتنع] من السجود واستكبر على ربه [سبحانه].
قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية.(4/2297)
هذا السؤال من الله (تعالى) سؤال تقرير وتوبيخ؛ لأنه، تعالى، قد علم ذلك منه.
و" لا " زائدة مُؤكَّدة.
والمعنى: ما منعك أن تسجد.
وقيل: إن " لا " غير زائدة وإن في الكلام حذفاً. والمعنى: [ما منعك] من السجود وأحوجك ألا تسجد؟ فحذف " أحوجك " لدلالة الكلام عليه. وهو اختيار الطبري.
وقيل المعنى: (إن) المنع هنا بمعنى " القول " و " لا " غير زائدة،(4/2298)
والتقدير: من قال لك ألا تسجد إذ أمرتك بالسجود: ودخلت " أن " كما تدخل في كلام هو بمعنى القول، ولفظه مخالف للفظ القول كقولهم/ " ناديت أن لا تقم "، و " حلفت ألا تجلس " فلما كان المنع بمعنى القول، وليس من لفظه دخلت " أن ".
وقيل: إن المنع لما كان معناه الحول بين المرء وبين ما يريده، فالممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه، فلما كان معنى المنع هذا، كان تقدير الكلام: ما اضطرك إلى أن لا تسجد.
وقوله: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
هذا خبر من الله ( عز وجل) عما قال إبليس، إذ قال له الله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}، فقال إبليس: أنا أفضل منه؛ لأني من نار، وهو من طين، ففضل عليه كفضل النار على الطين. فجهل عدو الله الحق، وأخطأ طريق النظر، إذ كان معلوماً أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب، والارتفاع والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حمل الملعون بعد الشقاء الذي سبق له من الله ( عز وجل) على الاستكبار. وكان معلوماً أن(4/2299)
من جوهر الطين الرزانة والأناة، وذلك الذي حمل (آدم [عليه السلام]) بعدما سبق له عند ربه ( عز وجل) على الندم على الذنب والتوبة منه. ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: " أول من قاس إبليس "، يعنيان أنه أخطأ في قياسه في تفضيل النار على الطين؛ وأنها أقوى من الطين.
وقول إبليس: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} ليس بجواب في الظاهر لمن قال: " ما منعك أن تفعل؟ "؛ وإنما هذا جواب من قال: " أيكما خير؟ "؛ ولكنه جواب محمول على المعنى(4/2300)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
لا على ظاهر السؤال؛ كأنه لما قيل له: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}، قال: فضلي عليه أني من نار؛ وأنه من طين، فأخبر الملعون عن نفسه بخبر فيه معنى الجواب.
قوله: {قَالَ فاهبط [مِنْهَا]} الآية.
المعنى: قال الله ( عز وجل) لإبليس عندما صنع: {فاهبط مِنْهَا}، أي: من الجنة.
{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا}.
أي: ليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي. أي: لا يسكن في الجنة من يتكبر عن أمري. فأما غير الجنة فالمستكبر يسكنها، وغيره.(4/2301)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين}.
أي: أخرج من الجنة؛ إنك ممن نالهم الصغار، وهو: الذلة والمهانة.
قوله: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، الآيتان.
المعنى: إن إبليس علم ألا موت بعد قيام الساعة، فسأل النظرة إلى ذلك الوقت؛ ليصح له الخلود، وذلك لا سبيل لأحد إليه، فقال له [الله]: {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37 - 38]، وذلك اليوم هو اليوم الذي كتب الله فيه الفناء على جميع الخلائق، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت.
ولم يجبه الله إلى ما سأل؛ لأنه لم يقل له: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} إلى ما سألت، أو إلى يوم البعث.
قال السدي: سأل إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون، فلم ينظر إلى يوم البعث.(4/2302)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
وأنظر إلى يوم الوقت المعلوم، [وهو] يوم ينفخ في الصور النفخة الأولى، فيعصق من في السموات ومن في الأرض فيموت.
قوله: {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ]}، الآيتان.
المعنى: إن اللعين أقسم ليقعدن لهم، فجعل الإغواء قسماً له، كأنه قال: فبإغوائك إياي، لأقعدن لهم، ثم لأفعلن كذا.
وقيل المعنى: إنه سأل ربه بأي شيء أغواه، قاله ابن عباس. كأنه قال: فبأي شيء أضللتني.
وقيل المعنى: فبما دعوتني إلى شيء ضللت [به] من أجله.(4/2303)
وقيل المعنى: / فبما أهلكتني، من قولهم: " غَوِيَ الفَصيلُ " إذا هلك من فقد اللبن.
وقيل المعنى: إنه على معنى المجازاة، أي: كما أغويتني أفعل كذا وكذا، وأضلهم كما أضللتني. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابنِ آدَمَ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ، فقال له: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دينك ودين آبائك؟ فعصاه وأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: أتهاجر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ فعصاه وجاهد ".(4/2304)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
وقيل: {صِرَاطَكَ المستقيم}. (أي): طريقك (القويم)، وهو دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه. وسمي الدين " صراطاً "؛ لأنه الطريق إلى النجاة.
قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، الآية.
المعنى: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، من قبل الآخرة فأخبرهم أنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار.
{وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل الدنيا، فأزينها في أعينهم وأخبرهم أنه لا حساب عليهم فيما يعملون.
{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: من قبل الحق.
{وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: من قبل الباطل.
قال ابن عباس: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، أشككهم في الآخرة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أُرغِّبهم في الدينا، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أشبه عليهم في أمر دينهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: أُشَهِّي لهم(4/2305)
المعاصي.
وقال السدي وغيره: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، أدعوهم إلى الدنيا وأرغبهم فيها، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أشككهم في الآخرة، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أشككهم في الحق، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: أخفف البال عندهم.
وقيل: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: من قبل دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل آخرتهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: من قبل حسناتهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: من قبل سيئاتهم، قاله: ابن جريج، وغيره.
وقال مجاهد المعنى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حيث يبصرون، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} من حيث لا يبصرون.(4/2306)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
وقيل: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، يخوفهم في تركاتهم، ومن يخلفون بعدهم.
وقيل: {لآتِيَنَّهُمْ}، من كل جهة يعملون فيها.
{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.
كان ذلك ظناً منه، فكان الأمر على ما ظن، وهو قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20].
وقيل المعنى: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، من قبل الدِّين فألبسه عليهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل الشهوات، فأحببها إليهم في الدنيا، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}، من قبل الحق، فأرده باطلاً، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}، من قبل الباطل، فأرده في أعينهم حقاً.
قوله: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}، الآية.(4/2307)
{مَّدْحُوراً}: حال، مثل: {مَذْءُوماً}، ويجوز أن يكون نعتاً ل: {مَذْءُوماً}.
وروي عن عاصم أنه قرأ " لِمَنْ تَبِعَك " بكسر اللام، والمعنى على هذا: فعل بك ذلك من أجل من تبعك.
ومعنى الآية: أنها خبر من الله، بما قال لإبليس اللعين.
و {مِنْهَا}: من الجنة.(4/2308)
ومعنى: {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}: معيباً.
و" الذَّأمُ ": العيب. يقال: " ذَأَمَهُ ": إذا عابه، فهو مذءوم.
و" الذَّأْمُ " أبلغ في العيب من الذم، يقال: ذَمَمتُهُ وذِمْتُهُ/ بمعنى واحد.
قال أبو عبيدة: " ذَأَمْتُ الرجل " أشد مبالغة من: " ذَمَمْتهُ " و " المدحور ": المقصى المبعد.
وعن ابن عباس {مَذْءُوماً}: ممقوتا.(4/2309)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
و {مَّدْحُوراً}: مطروداً.
وقاله السدي.
وقوله: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ}.
هذا قسم، أقسم الله أن من اتبع إبليس، أن يملأ جهنم منهم، يعني من كفر فاتبعه وصدق ظنه.
قوله: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ [الجنة]}، الآية.
هذه الآية مذكور معناها في تفسير سورة البقرة، واختلاف الناس في الشجرة.
قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان}، الآية.(4/2310)
قرأ ابن عباس: ويحيى بن أبي كثير: " مَلِكَيْن " بكسر " اللام ". أي: من الملوك الذين في الدنيا.
ومن فتح " اللام " فمعناه: من الملائكة.
والمعنى: فالقى إليهما قولاً حملهاً على ركوب النهي.
ومعنى {لِيُبْدِيَ لَهُمَا}،: ليظهر سوآتهما التي هي مستورة، وحلف لهما أني(4/2311)
ناصح لكما في أن ربكما إنما نهاكما عن أكل الشجرة، كراهة أن تكونا مَلَكَيْن، أو كراهة أن تخلدا في الجنة.
ومعنى {[وَ] قَاسَمَهُمَآ}، حلف لهما، مثل طارقتُ النَّعْلَ وعاقَبْت اللص.
وقال قتادة: حلف لهما بالله، وقال: أنا خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما.(4/2312)
{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}.
أي: غرهما باليمين التي حلف لهما، وكان آدم، (صلوات الله [عليه])، يظن أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، فغره ذلك.
قال ابن عباس: كانت الشجرة التي نهيا عن أكلها، السنبلة، فلما أكلا بدت سوآتهما، أي: تقلص النور الذي كان يسترهما، فصار أظفاراً في الأيدي والأرجل، وظهرت سوآتهما لهما، فعمدا يلزقان ورق التين بعضها إلى بعض، فانطلق آدم موليّا في الجنة، فأخذت برأسه شجرة من الجنة، فناداه الله: آي آدم أمني تفر؟(4/2313)
فقالا: لا، ولكني استحييت منك يا رب! فقال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحداً يحلف بك كاذباً.
قال ابن جبير: حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله.
ومعنى " وسوس ": زين وألقى، وحسس المعصية حتى أكلا.
وقد تقدم ذكر دخول إبليس الجنة في فم الحية، وكانت إذ ذاك دابة لها أربع قوائم، كأنها البعير كاسية، فأعراها الله، وأزال قوائمها عقوبة لها.(4/2314)
و " اللام " في {لِيُبْدِيَ}: لام العاقبة، بمنزلة: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
ولما حملها على الأكل تقدمت حواء للأكل، وأبى آدم أن يأكل، فأكلت حواء، وقالت: يا آدم كل فإنه لم يضرني فأكل، ف: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا(4/2315)
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة}.
قال مجاهد: يعنى: يرقعانه كهيئة الثوب.
ومعنى (طَفِقَا): جعلا.
وأتت الأخبار عن النبي، عليه السلام، أن الله تعالى خلق آدم يوم الجمعة، ويوم الجمعة خرج من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه قبضه.
وكان مقدار مكث آدم في الجنة خمس/ ساعات.
وقيل: ثلاث ساعات.
وقال ابن عباس: كان مكث آدم نصف يوم من أيام الآخرة، وخرج بين الصلاتين: الظهر والعصر.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ،: أطيب أرض بالأرض ريحاً الهند، هبط آدم بها،(4/2316)
فعلق شجرها من ريح الجنة.
وقال ابن زيد: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فجاء في طلبها حتى أتى " جمعاً " فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت " المزدلفة "، وتعارفا بعرفات، فلذلك سميت " عرفات "، واجتمعا بِجَمْع، فلذلك سميت " جمعاً ".
وأهبطت الحية بأصبهان، وإبليس بميسان.
وقيل بساحل بحر الأُبُلَّة.
ولما أهبط آدم إلى الأرض، أهبط على جبل يسمى: " بوذ "، وكان أطول(4/2317)
جبال الأرض، فكان آدم عليه السلام، رجلاه على الجبل ورأسه في السماء، فكان يسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم، وكان (آدم) يأنس لذلك، فهابته الملائكة، فخفضه الله إلى الأرض إلى ستين ذراعاً فاستوحش، فشكا إلى الله في دعائه، فوجه إلى مكة فأنزل الله ياقوتة من الجنة، فكانت في موضع البيت فلم يزل يطاف بها حتى نزل الطوفان، فرفعت حتى بعث الله إبراهيم، فبناه.
وكان أصل الطيب عند جماعة من أهل التفسير: الورق الذي طفق آدم وحواء يخصفانه على أنفسهما نزلا به إلى الدنيا.
وقيل: إنه خرج ومعه صرة من حنطة.
وقيل: إن جبريل أتاه بها حين استطعم، أتاه بسبع حبات فوضعها في يد آدم، فقال آدم: وما هذا؟، فقال له جبريل: هذا الذي أخرجك من الجنة، فعلمه ما يصنع به.(4/2318)
قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر، (فكان) يحرث عليه، ويمسح العرق، وهو قوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117].
ومعنى {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}، (أي): خدعهما.
واللام في (قوله): {لِيُبْدِيَ} هي مثل اللام في: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}؛ لأن إبليس لم يعلم أنهما إن أَكلا من الشجرة {[بَدَتْ لَهُمَا] سَوْءَاتُهُمَا} إنما حملهما على ركوب المعصية لا غير. فكان عاقبة أمرهما لما أكلا ظهور سوءاتهما، فجاز أن يقول: فوسوس لهما ليبدي لهما لما أل أمرهما إلى ظهور سوءاتهما، كان كأنه فعل ذلك(4/2319)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
بهما لتظهر سوءاتهما.
قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} الآية.
المعنى: قال آدم وحواء: ربنا قد ظلمنا أنفسنا، أي: تعدينا أمرك فأكلنا ما نهيتنا عنه {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} خطيئتنا وتسترها علينا، {وَتَرْحَمْنَا} أي: تعطف علينا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}.
قوله: {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية.
هذا أمر لآدم، وحواء، وإبليس، والحية.
وقيل: هو لآدم وذريته وإبليس وذريته، قاله مجاهد.(4/2320)
{وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ}.
أي: قرار تستقرون به.
قال ابن عباس: هو القبور.
(ومعنى): {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}، أي: متاع تستمتعون به إلى انقطاع آجالكم.(4/2321)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وقيل: " الحين " هنا، قيام الساعة.
قوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (الآية).
المعنى: إنه تعالى أعلم من أهبط، أن في الأرض يحيون ما بقي من أعمارهم، {وَفِيهَا تَمُوتُونَ}، ومنها يخرجون في البعث.
قوله: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} الآية.
قوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً}، واللباس هو: الثياب، وهي/ غير منزلة، لكن لما كان حدوث الثياب من الكتان والقطن، والكتان والقطن إنما يكونان عن النبات بالماء، فالماء (هو) المنزل، فسمى ما يحدث عنه منزلاً أيضاً؛ لأنه عنه كان، وبه تم، ونما ونبت، وهذا يسمى: " التدريج ": لأن الثياب عن الماء اندرجت.(4/2322)
قوله: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ}.
من نصب " لباساً " عطفه على ما قبله، أي: وأنزلنا لباس التقوى، ويكون الوقف على {التقوى}، و: {ذلك}: مبتدأ، و: {خَيْرٌ} خبره.
و: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم مما أخبر أنه أنزل، فمعناه: ذلك الذي أنزلنا خير من كشف العورة والتجرد في الطواف.
ومن قرأ بالرفع، جعله مبتدأ، و: {ذلك} نعت له، و: {خَيْرٌ} خبر الابتداء.(4/2323)
والمعنى: ولباس التقوى ذلك [الذي علمتموه] خير من لباس الثياب والزينة. ويكون التمام: {وَرِيشاً}.
قال المبرد: من قرأ بالنصب، احتمل أن يكون {ذلك} إشارة إلى اللباس خاصة، وأن يكون إشارة إلى ما تقدم، ويكون في الوجهين في موضوع رفع.
ومعنى الآية: إن العرب كانت تتعرى في الطواف اتباعاً لأمر الشيطان في سلبهم من ستر الله تعالى.
ويعني بقوله: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً}، أي خلقناه لكم وعلمناكم كيف تعملونه،(4/2324)
وهو ما يستتر به من الثياب.
{يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ}.
(أي): يستر عوراتكم.
وسميت العورة " سوأة "؛ لأن صاحبها يسوءه انكشافها من جسده.
وقوله: {وَرِيشاً}.
قرأ المفضل عن عاصم، والحسن [وحسين] الجعفي عن أبي عمرو:(4/2325)
" ورياشاً " بألف.
قال الفراء: الرياش: جمع ريش، كذِئْب وذِئَاب، وبِئْر وبِئَار.
ويجوز أن يكون [رياش ك:] " ريش " كما يقال: لِبْسٌ ولِبَاس فيكونان مصدرين كاللِّبس واللِّباس.
و: " الريش " و: " الرياش ": ما ظهر من اللباس والشارة.
وقيل: الرياش: الأثاث.(4/2326)
وقد يستعمل " الرياش " في الخصب ورفاهة العيش.
وقيل: الرياش: المعاش.
وقال مجاهد: " الرياش "، المال.
وقال ابن زيد: " الرياش ": الجمال.
وقال الضحاك: " الرياش " المال. وقد (روي) عن ابن عباس ذلك.(4/2327)
وقوله: {وَلِبَاسُ التقوى}.
فقال قتادة، والسدي، وابن جريج: هو الإيمان.
وقيل: هو الحياء.
وقال ابن عباس: هو العمل الصالح.
وعن ابن عباس أيضاً: هو السَّمت الحسن في الوجه.
وكذلك روي عن عثمان، رضي الله عنهـ، أنه فسرها على المنبر كذلك.(4/2328)
وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله، ( عز وجل) .
وقال ابن زيد: هو ستر العورة.
وقيل هو: لبس الصوف، والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله، ( عز وجل) .
وقيل: هو استشعار النفوس تقوى الله ( عز وجل) في ما أمر به، ونهى(4/2329)
عنه.
وهو اختيار الطبري.
وقال يحيى بن يحيى: {وَلِبَاسُ التقوى}: الخشوع، والوقار، وحسن الَسّمْت، مع العمل بما يشبه ذلك، رواه عنه ابن حبيب.
واختار المبرد، والطبري قراءة النصب؛ لأنه كله توبيخ للمشركين في تعريهم وكشفهم سوآتهم طاعة منهم لإبليس، ليفعل بهم ما فعل بأبيهم آدم(4/2330)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
(عليه السلام)، في الجنة، وبحواء، / إذ خدعهما حتى بدت لهما سوآتهما.
ودل على ذلك ما بعده، من قوله: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} [الأعراف: 27] الآية، وما بعدها من الآيات.
وقوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله}.
أي: ذلك الذي أنزلته عليكم، من مصالحكم آية، وحجة عليكم لعلكم تذكرون نعمه وآياته.
قوله: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان}، الآية.
هذه الآية تحذير من الله ( عز وجل) لبني آدم ألا يخدعهم الشيطان كما فعل بآدم وحواء عليهم السلام.
قال ابن عباس: كان لباسهما الظفر فنزع ذلك عنهما، وتركت الأظفار تذكرة وزينة.(4/2331)
وقال عكرمة: أدركت آدمَ التوبةُ عند ظفره، وكان لباسه الظفر.
وقال مجاهد {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، التقوى.
قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ}، أي: الشيطان.
{وَقَبِيلُهُ}، جيله.
وقال ابن زيد: نسله.(4/2332)
وقيل: جنوده وأصحابه.
روي: أن الله، جل ذكره جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه [الله]، ( عز وجل) .
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
أي: نصراء للكافرين على كفرهم، يزيدونهم في غيهم عقوبة لهم على كفرهم، كما قال: {[أَلَمْ تَرَ أَنَّآ] أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ [أَزّاً]} [مريم: 83]، أي: تحملهم على المعاصي حملاً شديداً، وتزعجهم إلى الغي.(4/2333)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
وقرأ أبو عمرو (إنه يريَكم)، بالفتح.
قوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية.
الفاحشة في هذا الموضع: طوافهم عراة.
وكانت المرأة تطوف ليس عليها غير الرِّهاط، والرِّهاط جمع رَهْط، وهي: خرقة من صوف.(4/2334)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
يقولون: نطوف كما ولدتنا أمنا عراة، [وإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: نطوف كما ولدتنا أمنا] وعلى ذلك وجدنا آباءنا والله أمرنا بها.
ثم قال تعالى: {قُلْ} يا محمد،: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء}، أي: لا يأمر خلقه بقبائح الأمور: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
{بالفحشآء} وقف.
{بِهَا} وقف.
قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} الآية.
المعنى: قل، يا محمد لهم: {أَمَرَ رَبِّي بالقسط}، أي: بالعدل.
{وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.(4/2335)
أي: وجهوا وجوهكم عند كل مسجد إلى الكعبة، وحيثما صليتم إليها.
وقيل معناه: اجعلوا سجودكم لله ( عز وجل) .
وقيل: المعنى إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد، فصل فيه، ولا تقل: أُؤْخر حتى آتي مسجد قومي.
وهذا عطف محمول على المعنى؛ لأن معنى {أَمَرَ رَبِّي بالقسط}،: يقول لكم [ربي] أقسطوا وأقيموا وجوهكم، [فعطف أقيموا وجوهكم]، على أقسطوا، الذي في المعنى لا في اللفظ.(4/2336)
{وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}.
أي: الطاعة.
ثم قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}.
هذا احتجاج عليهم إذ أنكروا قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، وهو متصل به ومعناه: ليس بعثكم أشد من ابتدائكم.
ومعنى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، أي: كما بدأكم أشقياء وسعداء، كذلك تبعثون يوم القيامة، كما قال: {[هُوَ الذي] خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وقال بعده: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة}، وهو قول مجاهد،(4/2337)
قال: من بدأه سعيداً بعثه يوم القيامة سعيداً، ومن بدأه شقياً بعثه يوم/ القيامة شقياً.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: كما خلقكم تكونون كفاراً ومؤمنين.
وعن ابن عباس نحوه.
فلا تقف على هذا القول إلا على: {الضلالة}، لا تقف على: {تَعُودُونَ}؛ لأن {فَرِيقاً}، {وَفَرِيقاً} حالان.(4/2338)
وقيل: المعنى: كما خلقكم، ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون بعد الفناء، أي: كما خلقكم، كذلك يبعثكم بعد موتكم، وهو قول الحسن وقتادة. فتقف على هذا على {تَعُودُونَ}.
ثم قال: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}، أي: على هدى.(4/2339)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
وقال الأخفش وأبو حاتم: {كَمَا بَدَأَكُمْ} تمام.
وقيل: {تَعُودُونَ} التمام.
ومن قال معنى الآية: كما خلقكم أشقياء وسعداء {تَعُودُونَ}، لم يقف إلا على: {الضلالة}، وهو قول الكسائي.
قوله: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية.
هذا خطاب لهؤلاء القوم الذين كانوا يتعرون في الطواف، فأمروا بالكسوة(4/2340)
{عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
قال السدي: " الزينة "، ما يواري العورة، قال: وكانوا يحرمون الودك ما أقاموا بالموسم، فقال لهم الله ( عز وجل) : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا}، أي: في التحريم.
وقال ابن زيد: {[وَ] لاَ تسرفوا}: لا تأكلوا حراماً.
[و] قال علي رضي الله عنهـ: ليس في الطعام سرف.(4/2341)
قال ابن عيينة: ليس في الحلال سرف؛ إنما السرف في ارتكاب المعاصي.
(والإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله مما حرم الله، عز وجل، أن يؤكل منه شيء، أو تأكل مما أحل لك فوق القصد ومقدار الحاجة، فأعلم الله، عز وجل، أنه لا يحب من أسرف، ومن لم يحببه الله، عز وجل، فهو في النار، نعوذ بالله من النار).
وروى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، " قال في قوله [تعالى]: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قال: صلوا في النعال ".
فستر العورة فرض بهذه الآية على أبصار جميع الناظرين، إلا الأزواج، أو ما ملكت الأيمان.(4/2342)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وقيل معنى: {وَلاَ تسرفوا}، [أي]: لا تحرموا الحلال، كما حرم أهل الجاهلية البحيرة، والسائبة، وغير ذلك.
قوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} الآية.
والمعنى: {قُلْ} يا محمد، لهؤلاء الذين يتعرون في الطواف، ويحرمون ما لم يحرم الله من طيبات رزقه: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله}، أي: اللباس الذي يزين الإنسان بأن يستر عورته، ومن حرم {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق}، المباحة.(4/2343)
وقيل: عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرمه من السوائب والبحائر. قاله قتادة.
وقال ابن عباس كانت الجاهلية تحرم على أنفسها أشياء أحلها الله (سبحانه) من الرزق، وهو قول الله ( عز وجل) : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} [يونس: 59] الآية.
ثم قال تعالى: {قُلْ}، (لهم) يا محمد {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً (يَوْمَ القيامة)}.
المعنى، قل لهؤلاء: هذه الطيبات للذين آمنوا في الحياة الدنيا، مثل ما هي للكفار خالصة يوم القيامة للمؤمنين، لا يَشْرَكُهم فيها كافر.(4/2344)
قاله السدي، وغيره.
ووقع الجواب في هذا على المعنى، / كأنهم قالوا: [هي لنا، ما حرمها أحد، فقل لهم: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} الآية.
وقيل المعنى: [قل]: هي {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} لمن آمن بي في الحياة الدنيا. وذلك(4/2345)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم، ثم جعلها الله (تعالى) خالصة للمؤمنين في الآخرة. قاله قتادة، وابن عباس، وغيرهما.
قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} الآية.
المعنى {قُلْ} لهم، يا محمد: إن ربي لم يحرم عليكم ما حرمتم على أنفسكم، إنما حرم عليكم الفواحش، الظاهر منا والباطن، والشرك بالله (سبحانه) ما ليس معكم به حجة، وقولكم على الله ما لا تعملون، وحرم عليكم الإثم والبغَي بغير الحق.
والفواحش: القبائح.
قال مجاهد: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: نكاح الأمهات، {وَمَا بَطَنَ}: الزنا.
وقيل: {مَا ظَهَرَ}: الطواف عرياناً، {وَمَا بَطَنَ} الزنا.(4/2346)
{والإثم}: المعصية.
{والبغي}: الاستطالة على الناس.
قال السدي: {البغي}، أن يبغي على الناس بغير الحق.
وأصل البغي: التجاوز في الظلم.
وقد قيل: إن {الإثم}، الخمر، وهو قول غير معروف، لكن هذه الآية تدل(4/2347)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
على نص تحريم الخمر؛ لأن الله (تعالى) قد أخبرنا، أن في الخمر إثماً، فقال: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]، وحرم الله اكتساب الإثم في هذه الآية.
قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} الآية.
[الأمة]: الجماعة.(4/2348)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
والمعنى: ولكل جماعة اجتمعت على تكذيب رسل الله، [سبحانه]، وقت لحلول العقاب بها، فإذا جاء الوقت، {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
قوله: {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ} الآية.
آدم مشتق من أَدَمَة الأرض، وهو وجهها.
قال وهب بن مُنَبِّه في التوراة: إني خلقت آدم، ركبت جسده من أربعة أشياء ثم جعلها وارثهُ في ولده، تنمى في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة، رطب(4/2349)
ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من تراب وماء وجعلت فيه نفساً وروحاً، فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم خلقت (في) الجسد بعد الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق أخرى، وهي مِلاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهذا، ولا تقوم واحدة إلا بأخرى: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم، والبلغم. ثم أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، جعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء، فأيما بدن اعتدلت به هذا اللفظ الأربع، وكانت كل واحدة منهن فيه ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته، فإن زادت واحدة منهن عليهن قهرتهن، ومالت بهن، دخل على أخواتها السقم من ناحيتها بقدر ما زادت، وإن كانت ناقصة ملن بها وعلونها، وأدخلن عليها السقم من نواحيهن. قال وهب: وجعل عقله في دماغه، وتمييزه في(4/2350)
كليتيه، وغضبه في كبده، ومدامته في قلبه، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلاث مائة وستين مفصلاً.
ومعنى الآية: أنها تعريف من الله، تعالى، ما لمن آمن بالرسل وأطاع، وما لمن كفر وعصى، فقال: {يابنيءَادَمَ/ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}، أي: من أنفسكم، {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}، أي: يتلون، {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ}، أي: آمن، وأصلح أعماله، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، يوم القيامة، ولا حزن يلحقهم على ما(4/2351)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
فاتهم من دنياهم، التي تركوها.
قال: {والذين كَذَّبُواْ}، أي: بالرسل، وكذبوهم فيما جاؤا به، {أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}، أي: ماكثون، لا يخرجون منها أبداً.
**************قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية.
المعنى: فمن أخطأ فعلاً، {مِمَّنِ افترى}، [أي]: اختلف على الله الكذب، فقال إذا فعل فاحشة: الله أمرنا بها. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}، أي: بعلاماته الدالة على وحدانيته، ونبوة أنبيائه. {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، أي: حظهم مما كتب لهم من العذاب وغيره في اللوح المحفوظ.
قال السدي: هو ما كتب لهم من العذاب.(4/2352)
وكذلك قال الحسن، وغيره.
وقال ابن جبير: ما هو سبق لهم من الشقوة والسعادة.
وكذلك قال مجاهد، وقال ابن عباس.
[وعن ابن عباس]. أيضاً: إن المعنى ينالهم نصيبهم مما كتب عليهم من أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.(4/2353)
وقال قتادة المعنى: ينالهم في الآخرة نصيهم من أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
وقيل المعنى: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} الذي كتبه الله عز وجل، على من افتى عليه.
وعن ابن عباس أنه قال: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم}، هو ما قد كتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.
وقال القرظي المعنى إن: {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} هو رزقه، وعمله، وعمره.(4/2354)
وكذلك قال الربيع بن أنس.
وكذلك قال ابن زيد.
وقيل: المعنى: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، هو ما كتب عليهم من سواد الوجوه، وزرقة الأعين، قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60].
وقيل: (المعنى)، هو ما ينالهم في الدنيا من العذاب، دون عذاب الآخرة، من قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى [دُونَ العذاب الأكبر]} [السجدة: 21]، الآية.(4/2355)
وكان الطبري يختار أن يكون المعنى: إنه ما كتب لهم في الدنيا، من خير وشر، ورزق وعمل وأجل، قال: ألا ترى أنه تعالى أتبع ذلك بقوله: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، فأخبر بآخر أمرهم بعدما نالهم من: {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، وهو الرزق، والعمر، والأجل، والخير والشر.
وقيل: المعنى، إنه قوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} [الليل: 14]، وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 17] هذا {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، وهو ينالهم في الآخرة، ومثله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} [غافر: 71]، ومثله: {فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145]، هذا وشبهه من: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، الذي ينالهم في الآخرة.
وقوله: {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}.
قال الحسن: هذه وفاة إلى النار.
فيقول لهم الرسل: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}، هذا/ كله في الآخرة، فيشهدون على أنفسهم بالكفر حينئذ.
وقيل المعنى: إن هؤلاء المفترين ينالهم ما كتب لهم في الدنيا إلى أن يأتيهم(4/2356)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
{رُسُلُنَا}، يعني: ملك الموت وجنوده {يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، أي: يستوفون عددهم من الدنيا إلى الآخرة، {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ}، أي: قالت الرسل للكفار: أين الذين كنتم تدعونهم من دون الله وتعبدونهم يدفعون عنكم الآن ما جاءكم من أمر الله ( عز وجل) ؟
{ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا}، أي: جاروا، وأخذوا غير طريقنا وتركونا عند حاجتنا إليهم.
ثم قال الله (تعالى): {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}، أي: عند الموت.
قوله: {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} الآية.
قرأ الأعمش: " (حَتَّى) إشَّا تَدَارَكُواْ (فِيهَا) "، على الأصل، على تفاعلوا.(4/2357)
وقرأ مجاهد: أدَّرَكوا، أي: أدرك بعضهم بعضاً، وأصله: افتعلوا.
والمعنى: إنها خبر من الله (تعالى)، عما يقول لهؤلاء المفترين المكذبين بالقرآن يقول لهم: {ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ}، أي في الجماعة من أجناسكم، {قَدْ خَلَتْ} في النار، {مِّن الجن والإنس}.
وقيل: معنى {في أُمَمٍ}، أي: مع أمم.
وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}.
أي: كلما دخلت جماعة النار شتمت الجماعة الأخرى التي من أهل ملتها.
وعني بـ " الأخت " هنا: الأخوة في الدين والملة.(4/2358)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قال السدي: يلعن المشركون [المشركين]، واليهود اليهود، والنصارى النصارى. وكذلك أهل كل ملة تلعن الجماعة، من أهل دينها التي دخلت النار قبلها.
وقوله: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا}.
أي: أدرك الآخر الأول في النار، واجتمعوا، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ}، أي: الجماعة الآخرة {لأُولاَهُمْ} للجماعة الأولى من أهل دينها، الذين أضلوا من كان بعدهم؛ لأن الأول أضل الآخر {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار}.
قال السدي: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ}، الذين كانوا في آخر الزمان، {لأُولاَهُمْ}، للذين شرعوا لهم الدين.
ثم أخبرنا الله (تعالى)، عما هو قائل لهم، بأن قال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، أي:(4/2359)
للأولى والآخرة {ضِعْفٌ} من النار، أي: يكون عليكم العذاب، {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ}، أي: ولكنكم لا تعلمون قدر ما أعد الله لكم من العذاب، فلذلك تسألون الضعف. وهذا على المخاطبة لهم.
ومن قرأ " بالياء "، فعلى الإخبار عنهم أنهم لا يعلمون قدر العذاب.
[وقيل: إن معنى قراءة " التاء "، ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ما هم فيه من العذاب].
وقيل: معنى قراءة " الياء ": ولكن لا يعلم كل فريق منهم مقدار عذاب الآخرة.
ومعنى " التاء ": ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من(4/2360)
العذاب.
ثم أخبر الله، عن قول الأولى للآخرة فقال: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ}، أي: أولى كل أمة، {لأُخْرَاهُمْ}، أي: من بعدهم [وزمان]، آخر فسلكوا سبيلهم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}، أي: قد علمتم أنا كفرنا وكفرتم بهما جاءنا وإياكم به الرسل والنذر، فنحن وإياكم سواء، قد أضللناكم وأضللتم.
[وقال مجاهد: {مِن فَضْلٍ}، من التخفيف من العذاب، فهو كقوله: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}].
ثم قال الله (تعالى) لجميعهم: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ} في الدنيا، {تَكْسِبُونَ}(4/2361)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
، من الآثام والمعاصي.
{فِي النار}، تمام.
قوله: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا واستكبروا عَنْهَا}، الآية.
المعنى: إن الذين كذبوا بآيات الله وتكبروا عن الإيمان بها، {لاَ تُفَتَّحُ}، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم، {أَبْوَابُ السمآء}، ولا يصعد لهم في حياتهم [إلى الله] قول ولا عمل، قاله ابن عباس.
وقال أبو موسى/ الأشعري في قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} إن روح المؤمن تخرج وريحها أطيب من ريح المسك فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتتلقاهم ملائكة آخرون دون سماء الدنيا فيقولون: من هذا؟ فيقولون: هذا فلان كان يعمل كيت كيت، وتذكر محاسن عمله: فيقولون مرحباً بكم وبه فيقبضونه،(4/2362)
ويصعدون به من بابه الذي كان يعصد منه عمله، فيشرق في السموات حتى ينتهي إلى العرش، وله برهان كبرهان الشمس، ويخرج روح الكافر أنتن من الجيفة، فتصعد به الملائكة الذين يتوفونه فتتلقاهم ملائكة آخرون من دون السماء فيقولون: من هذا؟ [فيقولون: هذا] فلان بن فلان، كان يعمل كيت وكيت، تذكر مساوئ عمله، فيقولون: لا مرحباً به ردوه، قال فيرد إلى واد يقال له برهوت، أسفل الثرى، من الأرضين السبع.
وعن ابن عباس نحوه.
وروى البراء بن عازب: " أن النبي، عليه السلام، ذكر عذاب القبر في حديث طويل، فقال فيه: إن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، أتاه ملك الموت فينزع نفسه، كما ينزع الصوف المبلول من السُّفُود، فتأخذها الملائكة فيصعدون بها، فتستفح لها أبواب السماء فلا تفتح لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه (وسلم)،:(4/2363)
{لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء}، الآية. فيقول لهِم (الله)، الآية. فيقول لهِم (الله)، تبارك وتعالى،: اكتبوا كتابه في سجين، وأعيدوه إلى الأرض. قال: فيطرح روحه طرحاً [قال:] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء}، الآية ".
وقال السدي: إن الكافر إذا أُخذ روحه، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط إلى أسفل الأرضين. وإذا كان مؤمناً رفع روحه، وفتحت له أبواب السماء فلا يمر بملك إلا حياه وسلم عليه، حتى ينتهي إلى الله، فيعطيه حاجته، ثم يقول: ردوا روح عبدي فيه إلى الأرض، فإني قضيت من التراب خلقته، وإلى الترب يعود، ومنه يخرج.
وقال ابن جبير، معناه: لا يرفع لهم عمل ولا دعاء.
وأكثرهم على أن المعنى: {لاَ تُفَتَّحُ} أي: لأرواحهم ولا لأعمالهم.(4/2364)
وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب الجنة؛ لأن الجنة في السماء، ودل على ذلك قوله: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة}. بعقبة.
وقوله: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط}.
أي: لا يدخل هؤلاء المكذبون الجنة حتى يدخل {الجمل}: زوج الناقة، في ثقب الإبرة، وهو لا يدخلها أبداً، وكذلك هؤلاء لا يدخلون الجنة أبداً.
وكل ثقب في عين أو أنف أو أذن أو غير ذلك. فالعرب تسميه " سَمّاً " و " سُمّاً "، بفتح السين وضمها، وجمعه " سُمُوم " وجمع السم القاتل " سِمَامٌ ".
وقرأ ابن سيرين " في سُمِ الْخِيَاطِ " بضم السين.(4/2365)
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وابن جبير: " الجُمَّل " بضم " الجِيم " وتشديد " الميم "، وهو حبل السفينة الغليظ.
وقيل: هو الحبل الذي يصعد به في النخل.
[وعن سعيد بن جبير] أنه قرأ " الجُمَل " بضم [الجيم] والتخفيف جعله جمع " جُمْلةٍ " من الحبال، ك " ظُلْمَةٍ " و " ظُلَمٍ ".
ومن شدَّد فهو اسم واحد، وهو الحبل الغليظ.(4/2366)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
وقرأ أحمد بن يحيى " الجُمَّل "، وهو جمع " جملة "، وهي الحبال المجموعة.
فالمعنى: لا يدخلون الجنة حتى يدخل هذا الحبل الغليظ في ثقب الإبرة، فكما (أنه) لا يدخل في ثقب الإبرة، (كذلك هؤلاء لا يدخلون الجنة) أبداً.
ثم قال تعالى: {وكذلك نَجْزِي المجرمين}، / نثيبهم بما اكتسبوا في الدنيا.
ثم قال: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ}. . . أي: لهم ما يقعد ويضطجع عليه كالفراش والبساط.
{وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}.(4/2367)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وهي اللحف تتغشاهم من فوقهم وهي جمع " غاشية "، ومعنى الكلام: لهم من نار جهنم مهاد {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}، فهم بين ذلك.
{وكذلك نَجْزِي الظالمين}.
أي: نثيب من ظلم نفسه، وأكسبها من عذاب الله ما لا قبل لها به.
{فِي سَمِّ الخياط}، وفق.
و {غَوَاشٍ}، وقف.
قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، الآية.
المعنى: والذين صدقوا بئايت الله ورسله، {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً}، من الأعمال إلا طاقتها، {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وفي الكلام تقديم وتأخير مفهوم.
وقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}، الآية.
روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل، قد نزعه(4/2368)
الله عز وجل، من قلوب المؤمنين ".
والمعنى: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين تقدمت صفتهم، ما في صدورهم من حقد وعداوة، كانت من بعضهم لبعض في الدنيا، وأُدخلوا الجنة {إخوانا على سُرُرٍ متقابلين} [الحجر: 47]، لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء.
قال قتادة: قال علي: إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير، من الذين قال الله [فيهم] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.
قال السدي: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو " الشراب الطهور " الذي ذكره الله في قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21]. واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبداً.(4/2369)
قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ}.
أي: قالوا ذلك حين رأوا ما أكرمهم الله به من جنته، وما صرف عنهم من نقمته.
روى [أبو سعيد] الخدري ع النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " كل أهل النار يرى منزله من الجنة، فيقول: " لو هدانا الله " فيكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقولون: " لولا أن هدانا الله "! [فهذا] شكرهم.
وقوله: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة}، (الآية).(4/2370)
اعترض بعض الملحدين بهذه الآية على حديث النبي، عليه السلام، في قوله: " لا يدخل الجنة أحد بعمله، وإنما يدخلها برحمة الله " هذا غلط منهم؛ لأن رحمة الله لا تدرك إلا بالعمل الصالح. وإذا كانت الرحمة لا تدرك إلا بالعمل الصالح فالعمل الصالح الذي يدرك الرحمة يدخل الجنة.
ويجوز أن يكون معنى: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يعني المنازل في الجنة، فيكون الدخول برحمة الله، كما قال النبي، عليه السلام،: " والمنازل بالأعمال "(4/2371)
فيصح الحديث، والآية على ظاهرها.
وقوله: {أُورِثْتُمُوهَا}، وقوله: {ونودوا}، فعلان منتظران، ولفظهما لفظ ما قد مضى، وذلك حسن في آخبار الله؛ لأنها كالكائنة لصدق المخبر بها، ونفوذ القضاء، والحتم (بها) من الله.
قال السدي: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار [ودخلوا منازلهم]، رفعت الجنة لأهل النار، فنظروا إلى منازلهم منها، فقيل لهم: " هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ".
ثم يقال: يا أهل الجنة {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يعني منازل أهل النار وَرِثُوهَا بعملهم فيقتسمونها.
وعن أبي سعيد الخدري قال: ينادي مناد: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً،(4/2372)
وأن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً.
وقيل: معنى: {[و] نودوا}: قيل لهم: وذلك حين رأوها قبل أن يدخلوها، قيل: لهم: {تِلْكُمُ الجنة}.
/ وقال علي: رضي لله عنه: يدخلون الجنة فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيغتسلون من إحداهما، فتجرى عليهم نضرة النعيم، فلا تشعث أشعارهم، ولا تغير أبشارهم، ويشربون من الأخرى، فيخرج كل أذى وقذر وبأس في بطونهم، ثم يفتح لهم باب الجنة، فيقال لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. قال: فيَستقبلهم الولدان، فيحفون بهم كما يحف الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته. ثم(4/2373)
يأتون فيبشرون أزواجهم فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. فيقلن: أنت رأيته! قال: ويستخفهن الفرح، [قال:] فيجئن حتى يقفن على أُسْكُفَّةِ الباب [قال]: فيجيئون فيدخلون، فأذا أسُّ بيوتهم جندل اللؤلؤ، وإذا سرج صفر وخضر وحمر من كل لون، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فلولا أن الله قدرها لهم لالتُمعت أبصارهم مما يرون فيها. فيعانقون الأوزاج، ويصعدون على السرر، ويقولون: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا}، أي: هدانا للإيمان، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله}، أي: الحمد لله الذي هدانا، إلى هذا وهو الإسلام.(4/2374)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
وقيل المعنى: الحمد لله الذي هدانا إلى الجنة.
{لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}.
أي: جاءتنا في الدنيا بالحق عن الله.
قوله: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار}، الآية.
المعنى: ونادى أهل الجنة أهل النار بعد الدخول: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا على ألسنة الرسل (حقاً، من الثواب، والنعيم والكرامة، فهل وجدتم ما وعدكم في الدنيا على ألسنة الرسل) من العقاب والثواب حقاً؟ فأجاب أهل النار: نعم، قد وجدنا ذلك حقاً، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ [الله] عَلَى الظالمين}.
تَمَّ الإخبار عما يكون يوم القيامة.
ثم ابتدأ بصفة من استحق هذه اللعنة، فأخبر بصفتهم في الدنيا، فقال: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، إلى {كَافِرُونَ}، فهما قصتان، إحداهما في الآخرة.(4/2375)
والأخرى في الدنيا، اتصلتا.
{الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً.
أي: حاولوا أن يغيروها، ويبدلوها عما جعلها الله (عليه) من استقامتها. {وَهُمْ بالآخرة}. أي: بالبعث. {كَافِرُونَ}. أي: جاحدون.
والعربتقول للميل في الطريق والدين " عِوَجٌ " بالكسر، وفي ميل الرجل على الشيء وهو العطف عليه: " عَاجَ إليه يَعُوج عِيَاجاً وَعَوَجاً وعِوَجاً "، بكسر العين وفتحه. وما كان خلقه في الإنسان، فإنه يقال فيه: " الَعَوج " بالفتح، يقال: " ما أبين(4/2376)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
عَوَجَ سَاقِهِ "، بفتح العين.
قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ]} (الآية).
والمعنى: وبين الجنة والنار {حِجَابٌ}، أي: حاجز، وهو السور الذي ذكره الله [ عز وجل] فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13]، وهو: الأعراف.
قال مجاهد: " الأَعْرَافُ، حجاب بين الجنة والنار.
قال السدي: الحجاب، وهو السور وهو: الأعراف.
و" الأَعْرَافُ ": جمع، واحدها: عُرْف، وكل مرتفع من الأرض فهو: عُرْفٌ.
وقيل لعرف الديك: عرف لارتفاعه.(4/2377)
وقال السدي: إنما سمي " الأَعْرَافُ " أعرافاً؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
وقال ابن عباس: هو جسر بين الجنة والنار، عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار.
وذكر الشعبي عن حذيفة: أن " أصحاب الأعراف " قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، [و] قصرت سيئاتهم عن الجنة، {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار/ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}، فبيناهم كذلك إذ اطلع عليهم ربك فقال (لهم): اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم.
وروي عنه أنه قال: يوقفون هنالك على السور حتى يقضي الله بينهم.
وعن ابن عباس: " الأَعْرَاف "، السور الذي بين الجنة والنار، و" الرجال ":(4/2378)
قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوقفوا على {الأعراف}، يعرفون أهل الجنة بسيماهم، وأهل النار بسيماهم.
وعنه أنه قال أيضاً: " الأعراف " الشيء المشرف.
وعنه أنه قال: [هو] كعرف الديك.
وعنه أنه قال: هم رجال كانت لهم ذنوب عظام وكان حسم أمورهم لله، فوقفوا على السور.
وقال ابن مسعود: من كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف " فقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا(4/2379)
نظروا إلى أهل الجنة نادوا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم (رأوا) أصحاب النار، {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}، [الأعراف: 47]، فيعتذرون بالله من منازلهم، فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نوراً فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطي كل عبد يومئذ نوراً وكرامة. فإذا أتوا على الصراط سلب الله عز وجل، نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافِقون، قالوا: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]. وأما " أصحاب الأعراف "، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع منهم، فلذلك قال: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.
وقال مجاهد، عن عبد الله بن الحارث: {أَصْحَابُ الأعراف}، يؤمر بهم إلى نهر يقال له: " الحياة " ترابه: الوَرْس والزغفران، وحافتاه: قصب الذهب مكلل باللؤلؤ، وقال: فيغتسلون [فيه اغتساله، وتبدوا في نحورهم شامة بيضاء، ثم يعودون فيغتسلون]،(4/2380)
فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادوا بياضاً، فيقال لهم [تمنوا] ما شئتم، [فيتمنون ما شاؤا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم]، وسبعون ضعفاً، [قال:] فهم مساكين أهل الجنة.
ومثل هذا روي عن ابن عباس أيضاً.
وقيل: {اأَصْحَابُ الأعراف}، قوم قتلوا في سبيل الله ( عز وجل) عصاة لآبائهم في الدنيا. قاله: شرحبيل بن سعد، قال: هم قوم خرجوا إلى الغور بغير إذن آبائهم، فيقتلون.(4/2381)
روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، " أنه سئل عن " أصحاب الأعراف "، فقال لهم: قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله ( عز وجل) من النار، ومنعهم معصيتهم آبائهم أن يدخلوا الجنة ".
وعن مجاهد، أنه قال: هم قوم صالحون فقهاء علماء.
وقال أبو مجلز: هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار.(4/2382)
وقال ابن عباس: هم رجال أنزلهم الله ( عز وجل) تلك المنزلة، يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم، ويتعوذون بالله (سبحانه) أن يجعلهم من الظالمين. وهم يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون [بالدخول إن شاء الله].
هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف الجنة، غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها.
وقال الحسن: والله ما جعل/ الله ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.
وقال ابن مسعود: أما " أصحاب الأعراف "، فإن النور كان في أيديهم، لم ينزع(4/2383)
من أيديهم، فهنالك يقوم الله ( عز وجل) { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.
قال ابن عباس: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، أي: في دخولها.
وقيل: " طَمِعَ " هنا بمعنى " عَلِمَ "، أي: لم يدخلها أصحاب الأعراف، وهم يعلمون أنهم يدخلون.
وقيل المعنى: إن " أصحاب الأعراف " يقولون لأهل الجنة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها، ولم يدخلوا بعد.
وعلى هذا تأويل قول من جعل أصحاب الأعراف ملائكة، يكون الطمع للمؤمنين الذين يمرون على أصحاب الأعراف.
وقيل: المعنى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، وإنما دخلوها) وهم غير طامعين. فيكن الوقف على هذا على {يَطْمَعُونَ}.(4/2384)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} تمام، على قول من جعل {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} للمارين من المؤمنين.
ومن جعل " الطمع " لأصحاب الأعراف لم يقف على {يَدْخُلُوهَا}.
قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ}، الآية.
المعنى: وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف نحو أصحاب النار، فنظروا إلى حالهم {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}.
وقال السدي: إذا مرت زمرة من أهل النار بأصحاب الأعراف، دعو ألا يجعلوا معهم.
وقال ابن عباس: [إن " أصحاب الأعراف "] إذا نظروا إلى أهل النار(4/2385)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
عرفوهم، واستعاذوا أن يُجْعلوا معهم.
قوله: {ونادى أَصْحَابُ الأعراف}، الآية.
المعنى: إن " أصحاب الأعراف " نادوا رجالاً يعرفونهم، من أهل النار {بِسِيمَاهُمْ}، أي: بسواد وجوههم، وزرقة أعينهم، قالوا لهم: أي شيء أغنى عنكم جمعكم في الدنيان واستكبارهم فيها، عن عبادة الله، عز وجل، والإيمان برسوله، صلى الله عليه وسلم.
قال السدي: مر بأهل " الأعراف " رجال من الجبارين يعرفونهم، فقالوا لهم ذلك.
وقوله: {أهؤلاء [الذين] أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ}.
هذا قول الله ( عز وجل) [ لأهل النار] توبيخاً لهم على ما كان من قِيلِهِمْ لأهل الأعراف في الدنيا، وذلك حين دخل [أهل] الأعراف(4/2386)
الجنة، فهو قول اتصل أصحاب الأعراف، فهو من قول الله، جل ذكره، إلى قوله: {تَحْزَنُونَ}، ففيه رجوع من مخاطبة كفار إلى مخاطبة مؤمنين متصل بعضه ببعض.
وقد قيل: إنه من قول الملائكة لأهل النار، [ويكون] {[ادخلوا] الجنة} من قول الله ( عز وجل) ، فتكون الآية [فيها] ثلاثة أقوال:
- قول أهل الأعراف إلى {تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48].
- وقول الملائكة إلى {بِرَحْمَةٍ}.
- وقول الله إلى {تَحْزَنُونَ}، متصل (كله) بعضه ببعض.
قال ابن عباس: " أصحاب الأعراف "، رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان(4/2387)
حسم أمره [الله]، يقومو على الأعراف، فإذا نظروا إلى [أهل] الجنة طمعوا فيها، وإذا نظروا [إلى] أهل النار تعوذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة، فقال الله، تبارك الله، {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ}، يا أهل النار، {لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}.
وقال حذيفة: {أَصْحَابُ الأعراف}، قوم قَصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وفصرت بهم/ سيئاتهم عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيمهم. فلما قضي بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة [فيأتون الأنبياء كلهم من الشفاعة]، ويدل على الآخر حتى يأتوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم) ، فيشفع لهم، فيذهب بهم إلى " نهر الحيوان " حافتاه قصب من ذهب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون فيه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدرِّية، وتبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: " مساكين أهل الجنة ".(4/2388)
وقال أبو مِجْلَز: [بل] هذا القول خبر من الله ( عز وجل) [ عن] قول الملائكة لأهل النار، تعييراً منهم لهم ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين قد دخلوا الجنة.
قوله: {ادخلوا الجنة}، وما بعده من كلام الله (سبحانه)، فالوقف على هذا: {بِرَحْمَةٍ}.
ومن قال إنها خبر من الله ( عز وجل) عن نفسه (جلت عظمته) وقف على: {تَحْزَنُونَ}.
وقرأ يحيى بن يَعْمَر: " أُدْخِلُوا الجَنَّة "، على ما لم يسلم فاعله بكسر الخاء.(4/2389)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وقرأ الحسن، وابن هرمز: " أَدْخِلُوا "، بفتح الهمزة وكسر الخاء، على الأمر من الله (تعالى) للملائكة أن يدخلوهم الجنة، والمفعول محذوف.
قوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة}، الآية.
ومعنى الآية: أنها خبر من الله ( عز وجل) عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نزول شدة العطش والجوع بهم.
ومعنى: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}، أي من الطعام، فأجابهم أهل الجنة:(4/2390)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين}.
قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: " (قد احترقت)، أفض علي من الماء "، فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين}.
{الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً}.
أي: سخرية ولعباً؛ لأنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزوأ به.
وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الحياوة الدنيا}.
أي: خدعتهم بعاجل ما فيها من العيش والدعة الأخذ بنصيبهم من الآخرة.
{فاليوم ننساهم}.
أي: نتركهم في العذاب جياعاً عطاشاً.(4/2391)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا}.
أي: كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، أي: بحجتنا وعلامتنا.
ولا يوقف على {يَوْمِهِمْ هذا}؛ لأن {وَمَا} معطوف على {مَا} الأولى.
قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ}، إلى {يَفْتَرُونَ}.
لام: " لقد حيث وقعت لام توكيد، متعلق بمعنى القسم، والمعنى: والله أقسم لقد كان هكذا.
و: " الكتاب " [هو]: القرآن.
و: {فَصَّلْنَاهُ}: بيناه.
{على عِلْمٍ}.
أي: على علم منا بالميز بين الحق والباطل والضلال والهدى.(4/2392)
{هُدًى وَرَحْمَةً}.
أي: ليُهْتَدَى [وَيُرْحَم] به قوم يصدقون به.
وهذه الآية مردودة على قوله: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].
قوله: {أَوْ نُرَدُّ}، معطوف على [قوله]: {مِن شُفَعَآءَ}، أي: أو هل نرد.
وقرأ ابن إبي إسحاق: " أو نُردَّ "، بالنصب، على معنى: إلا أن نرد، كما قال:(4/2393)
. أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا ... وقوله: {فَنَعْمَلَ}، جواب لقوله: {أَوْ نُرَدُّ}، أو عطف عليه، على قراءة من نصب (" نرد "). وقرأ الحسن: " أو نرد فَنَعْمَلُ "، بالرفع فيهما، على (لفظ) العطف على " نُرَدُّ ". ورفع " نرد " على الاستفهام كما ذكرنا.
وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ}.
/ أي: إلا ما وعدوا به في القرآن من العذاب.(4/2394)
و {يَنظُرُونَ}، بمعنى: ينتظرون.
قال قتادة: {تَأْوِيلَهُ}، عاقبته.
وقال مجاهد: جزاءه.
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}، أي: جزاؤه، {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ}، أي: تركوه في الدنيا، {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}.
وقال ابن زيد: {تَأْوِيلُهُ}، حقيقته، أي: حقيقة القرآن فيما أوعدهم من العقاب.
قال السدي: {الذين نَسُوهُ}، تركوه في الدنيا، لما رأوا ما أوعدهم أنبياؤهم، استيقنوا بالهلاك، وطلبوا الشفعاء والرجعة إلى الدنيا.
{قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ}.(4/2395)
أي: غَبَنوا أنفسهم حظوظها ببيعهم ما ذكر لهم من نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
أي: أولياؤهم في الدنيا.
وقال بعض أهل اللغة معناه: هل ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرهم من البعث، وعلى هذا تأولوا قول الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] أي: لا يعلم وقت البعث إلا الله، ثم قال تعالى: {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.
و" النسيان " في هذا الموضع على معنيين:
- يجوز أن يكون معناه: فلما أعرضوا عنه صاروا بمنزلة من نسي الشيء.
- والثاني: أن يكون بمعنى الترك.(4/2396)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات [والأرض]}، الآية.
احتج من خفف {يُغْشِي}، بقوله: {فَأغْشَيْنَاهُمْ} [يس: 9].
واحتج من شدد بقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 54]، وبأن التشديد يوجب التكرير، وكذلك هو فعل يتكرر ويتردد، وذلك أن كل يوم دخل ليله غير ليل اليوم الآخر، فالتغشية مكررة لمجيئها يوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة.
وقوله: {حَثِيثاً}. أي: طلباً حثيثاً.(4/2397)
والمعنى: إن سيدكم ومصلح أموركم، وهو {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.
قال مجاهد: بدأ بخلق العرش والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان جمع الخلق يوم الجمعة، فلذلك سميت الجمعمة.
وقوله: {يُغْشِي اليل النهار}.
أي: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب بضوئه، يطلبه طلباً {حَثِيثاً}، أي: سريعاً حتى يدركه.
{أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}.
{الخلق}: المخلوق.
{والأمر} هو: كلامه الذي به تكون المخلوقات، فهو غير مخلوق، وصفة من صفاته، كعلمه وقدرته، لايشبه كلام المخلوقين، ولا يقدر فيه صوت ولا حروف؛ إنما هو كلام له صفة ذاته، فكما أنه تعالى لا شيء يشبهه، كذلك صفاته لا تشبهها صفة.(4/2398)
وقال ابن عباس: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة.
وقال كعب: الدنيا ستة آلاف سنة.
[وكذلك] قال وهب.
[و] قال النبي، صلى الله عليه وسلم،: " أجلكم في أجل من ك ان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ".
وقال صلى الله عليه (وسلم) يوماً عند غروب الشمس: " (إن) مثل ما بقي من دنياكم في ما مضى، كهيئة يومكم هذا في مضى منه ".
وقال: " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه: السبابة(4/2399)
والوسطى ".
قال ابن عباس: " سألت اليهود النبي (عليه السلام) عن خلق السموات والأرض فقال: " خلق الله الأرض يوم الأحد والأثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ومنافعها، / وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة أيام، وهو قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ}، ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}. قال: وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاثة ساعات منه. وخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات من حَيِي ومن يموت، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة منه خلق آدم (عليه السلام). وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها آخر ساعة "، ثم قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: " ثم استوى على العرش " قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح، فغضب(4/2400)
النبي، صلى الله عليه وسلم، غضباً شديداً، فنزل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ".
واللغوب: الإعياء.
واليهود، عليهم اللعنة، تتأول في السبت، أنه يوم الراحة، فلذلك جعلوه لأنفسهم راحة لا يتصرفون فيه، تعالى الله عن ذلك.
قال قتادة: أوحى الله في كل سماء أمرها: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها. فَخَلْقُ الشمس والقمر كان بعد [خَلْقِ) السموات والأرض.
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم) : " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى في تلك(4/2401)
الساعة بما هو كائن ".
قال ابن عباس: ثم رفع بخار الماء فَفَتَقَ منها السموات والأرض.
وقيل: أول شيء خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود ومظلماً، وجعل النور نهاراً مبصراً.
فالسموات والأرض تحيط بهما البحار ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل الكرسي.
قال وهب: الهيكل شيء من أطراف السموات يحدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط.
وكان بين خلقه تعالى، القلم وخلقه سائر خلقه ألف عام. ولما أراد تالى أن يخلق السموات خلق أياماً ستة، فخلق واحداً فسماه الأحد، وثانياً فسماه: الاثنين،(4/2402)
وثالثاً فسماه: الثلاثاء، ورابعاً فسماه: الأربعاء، وخامسا فسماه: الخميس.
وكان ابتداء الخلق يوم السبت خلق فيه التربة.
وقيل: يوم الأحد.
وقد روي أن الله تعالى خلق البيت العتيق على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحته. قاله ابن عباس.
وكذلك روى مجاهد عن عبد الله بن عمرو.
أي: نزرا قليلاً لا فائدة فيه مع قلته، كذلك الكافر لا يقبل الهدى/ فإن قبل شيئاً فهو قليل لا فائدة فيه؛ لأنه على شك وقلة يقين. قال ذلك ابن(4/2403)
عباس وقتادة.
وقال السدي: هو مثل ضربه الله، تعالى للقلوب لما نزل عليها القرآن، كنزول المطر على الأرض، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة القابلة للماء الذي تنتفع بما تقبل من الماء.
هذا معنى قوله: {كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58]، أي: كما فعلنا فيما تقدم ذكره، مثله نصرف الآيات في هذا.
قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59 - 61]، الآيات الثلاث.
لام {لَقَدْ} لام توكيد بمعنى القسم.
وقال ابن عباس: الليل خلق قبل النهار.
وقيل: [كان] النهار قبل الليل. دليل ذلك أن الله عالى ذكره، [كان] ولا ليل، ولا نهار، ولا شيء غيره؛ وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه بعدما خلقه، حتى خلق الليل. فالضياء قبل الظلمة.(4/2404)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، إلى: {المحسنين}.
المعنى: ادعوا أيها الناس، ربكم مستكينين له، مخلصين متخشعين سراً في أنفسكم، {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين}.
ثم قال: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}. أي: لا تشركوا. والفساد هنا: الشرك.
{بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}. أي: بعد إصلاح الله (تعالى) إياها لأهل طاعته، بأن(4/2405)
بعثت إليهم نبياً، ينذرهم ويبشرهم.
{وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً}. أي: خوفاً من عقابه، وطمعاً في رحمته.
/ {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ [مِّنَ المحسنين]}. أي: ثواب الله قريب من المحسنين وإنما وصفه (بالقرب)؛ لأنه ليس بينهم وبينه إلا أن يفارقوا الدنيا.
وفي حرف: " الهاء " في {قَرِيبٌ} ستة أقوال:
أحسنها أن " الرحمة " و " الرحم " بمعنى.
وقال الفراء: (إنما أتى {قَرِيبٌ}) بغير " هاء " ليفرق بينه وبين قريب من النسب.(4/2406)
ويلزمه ألا يجوز فيه أدخال " الهاء "، وإدخالها جائز عند جميع النحويين لو كان في كلام.
وقال الزجاج: حذفت " الهاء "؛ لأنه ثأنيث غير حقيقي.
ومذهب أبي عبيدة: أن تذكير {قَرِيبٌ}، على تذكير المكان.
ويلزمه على هذا نصب {قَرِيبٌ}.
وقيل: " الرحمة " هنا: المطر، فَذُكِّر حملاً على المعنى.
وقيل: هو مذكر على النسب كما يقال: امرأة طالِقٌ وحائِضٌ.(4/2407)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
قوله: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً [بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ]}، الآية.
من قرأ {بُشْراً} فهو جمع " نشور "، كقولك: " صبور " و " صبر ".
والريح النَّشُور: التي تأتي من هنا ومن هنا.
وقيل: {بُشْراً} مصدر. ومن أسكن الشين فعلى هذا المعنى يكون، إلا أنه [أسكن] [الشين] استخفافاً.(4/2408)
ومن قرأ {بُشْراً} [بفتح النون]، فهو مصدر نشرت [الريح] السحاب وانتشرته نشراً، كما قال: " والناشرات نشرا "، فتقديره: وهو الذي يرسل الرياح ناشرة السحاب، فهو مصدر من موضع الحال.
وقيل: " النشر ": الريح الطيبة اللينة [التي] تنشىء السحاب.
ومن قرأ (بشرْاً) بالباء، فهو جمع بشير، مخفف، كرغيب ورغف.(4/2409)
وقيل هو: مصدر، أي: تبشر بالمطر.
{سُقْنَاهُ}.
" الهاء " تعود على السحاب، وهو يؤنث ويذكر، وكذلك كل شيء بينه وبين واحده " الهاء ".
ومعنى الآية: وربكم الذي خلق السموات والأرض وما ذكر، {هُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً}.
" والنَّشْرُ " من الرياح: الريح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب.
ومن قرأ {بُشْراً}، بضمتين، أي: يرسلها تهب من كل ناحية.
ومعنى الكلام: والله الذي يرسل الرياح من كل ناحية {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
والرحمة: المطر.(4/2410)
{حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً}.
أي: أقلت الرياح سحاباً، يقال: أقل البعير حمله إذا حمله واستقل به.
{سُقْنَاهُ}، أي: سقنا السحاب إلى بلد ميت، قد أجدب أهله، وعفَّت مزارعه، {فَأَخْرَجْنَا}، بالمطر من الأرض من كل الثمرات.
وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ}. " الهاء " للبلد.
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ}. أي: بالماء [أو بالبلد].
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. أي: لتكونوا على رجاء من التذكر.
وقوله: {كذلك نُخْرِجُ الموتى}. أي: كما نحيي هذا البلد الميت بالماء]، كذلك نحيي الموتى بعد موتهم.(4/2411)
قال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النخفة الأولى، مطر عليهم من ماء تحت العرش يدعى " الحيوان " أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع [بالماء). فإذا استكلمت أجسادهم نفخ فيهم الروح.
قال ابن مسعود: يرسل الله ماء من تحت العرش كمني الرجال، وليس من بني آدم خلق في الأرض إلا منه شيء (قد بقي في الأرض) فتنبت جسماً له ولحماً لهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من المطر. ثم قرأ إلى قوله: {كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ورى أبو سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه "، فقيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: " مثل حبة خردل منه تنشئون ".(4/2412)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
قوله: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ}، الآية.
هذا مثل ضربه الله لروح المؤمن، وروح الكافر، فالمؤمن يرجع روحه الطيب إلى جسده سهلاً طيباً كما خرجد إذا مات، والكافر لا يرجع روح إلى جسده إلا بالنكد كما خرج.
وقيل: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فشبه المؤمن بالبلد الطيب إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن ربه، كذلك المؤمن إذا سمع الهدى قَبِلَهُ بإذن ربه، وشبه الكافر بالأرض السَّبِخَةِ المالحة وهي التي خبثت لا تخرج النبات إلا نكداً.
والمعنى: أنه خبر من الله (عزوجل) أنه أرسل نوحاً إلى قومه: منذراً بأسة ومخوفاً من عقاب، فقال لمن كفر منهم: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}، تعبدونه إلا الله، فاعبدوه ولا تشركوا به، {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
قال عكرمة: إنما سمي نوح نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه، أي: يكثر ذلك.(4/2413)
قال ابن عباس: أرسل نوح إلى قومه بعد أربعين سنة.
قال الكلبي عنه: بعد آدم بثمان مائة سنة، أرسله الله ( عز وجل) بالشريعة، بتحريم البنات والأمهات والأخوات والعمات والخالات، وسائر الفرائض.
قال وهب: نوح أو نبي بعث بعد إدريس (عليه السلام)، فلبث في قومه أربع مائة سنة، قبل أن يبعثه الله ( عز وجل) إلى قومه.
وعنه أيضاً أنه قال: بعثه ( عز وجل) إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثلاثة قرون من قومه لا يجيبه أحد إلا قليلاً منهم، فأوحى الله ( عز وجل) إليه: " أن اصنع الفلك "، وليكن طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين(4/2414)
(ذراعاً)، وارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وليكن بابها في عرضها. وادخل الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك، ومن آمن بك، ومن كل شيء اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً، فإني منزل المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، فأُتلف كل شيء خلقته على الأرض، وأن تعمل تابوتاً فيه جسد آدم (عليه السلام)، وتجعل التابوت من خشب الشمشار، وتجعل معه زاد سِنة ففعل نوح، وأرسل الله ( عز وجل) ماء الطوفان على الأرض في سنة ألف وستمائة من عمر نوح، فأقام نوح في الماء خمسين ومائة يوم، [ثم] استقرت على الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة، وكان وقت استقلال السفينة في عشر خلون من رجب، وخرج إلى الأرض في عشر خلون من المحرم، وكان معه في السفينة ولده الثلاثة: سام، وحام، وثافث، ونساؤهم، وأربعون رجلاً، وأربعون امرأة ممن آمن (به).(4/2415)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
وعاش نوح (عليه السلام) بعد الطوفان ثلاث مائة وخمسين سنة، فلما خوفهم نوح، قال له الأشراف من قومه، وهم الملأ، وهم الجماعة منهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، فيكف نتبعك، أي في حيدة عِن الحق. فأجابهم بأن قال لهم: {لَيْسَ بِي ضلالة}، أي: ليس ما دعوتكم إليه ضلالة، وإنما أنا {ولكني رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}، إليكم.
قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ}، إلى {عَمِينَ}.
والمعنى: إن الله ( عز وجل) أخبرنا أن نوحاً (عليه السلام) قال لقومه: إني {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}، أرسلني إليكم، لأبلغكم رسالاته، {وَأَنصَحُ لَكُمْ} في تحذيري إياكم عقابه، {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، / أي: أعلم أن عقابه لا يرّد عن(4/2416)
القوم المجرمين.
وقيل المعنى: أعلم من الله أنه مهلككم ومعذبكم إن لم تؤمنوا.
ثم قال ثهم موَبِّخاً: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ}، وذلك إذ قالوا (له): {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} [هود: 27].
ومعنى: {على رَجُلٍ مِّنْكُمْ}.
أي: من رجل.
وقيل: على لسان رجل.
{لِيُنذِرَكُمْ} بأسه، والعمل بما لا يرضيه، فيرحمكم إن آمنتم وأطعتموني.(4/2417)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قال الله (تعالى) مخبراً: {(فَكَذَّبُوهُ) فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ}.
أي: من المؤمنين، من أهله، وغيرهم.
{وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ}.
أي: جحدوا بها.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}.
أي: عمين عن الحق.
وهو من عمى القلب.
قوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} إلى: {تُفْلِحُونَ}.
المعنى: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً، وهود من ولد نوح (عليه السلام)، بينه وبينه سبعة آباء. وكان أشبه خلق الله (تعالى) بآدم (عليه السلام)، خلا(4/2418)
يوسف (عليه السلام)، وكانت عاد ثلاث عشرة قبيلة، ينزلون الرمل. بلادهم أخصب بلاد، فلما سخط الله ( عز وجل) عليهم جعلها مفاوز، وكانوا بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن، ولما أهلك الله ( عز وجل) قومه لحق هود (عليه السلام) ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا، وكان هود (عليه السلام) رجلاً تاجراً. فقال لهم: {اعبدوا الله}، ليس لكم إله يجب أن تعبدوه غيره. {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
{قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ}].
أي]: قال الأشراف والجماعة من قومه، وهم الملأ من كفار قومه،(4/2419)
{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، أي: في ضلالة. وقيل: في جهل عن الحق والصواب.
{وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين}، أي: في قوله: إني {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}، كان ذلك ظناً منهم ليس على يقين، فكفروا على الشك منهم. قال (لهم): {ياقوم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}، أي: ضلالة، أي: جهل، {ولكني رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}.
وأصل السفة: رقة الحلم، والطيش. وَذُكِّرَ في قوله: {لَيْسَ}؛ لأنه مصدر، وهو بمعنى السفه، وقد فرق، أيضاً، بينه وبين الفعل.
ثم قال لهم: {أُبَلِّغُكُمْ رسالات رَبِّي}. أي: أؤدي إليكم أمر رببي ونهيه.(4/2420)
{وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.
اي: ناصح في ما آمركم به وأنهاكم عنه، أمين على وحي ربي ورسالاته. ثم قال موبخاً لهم: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ}.
أي: على لسان رجل منكم.
{لِيُنذِرَكُمْ}، أمر الله. ثم قال: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}.
أي: اذكروا نعمة الله عليكم إذ استخفلكم في الأرض، بعد قوم نوح. فاتقوا أ، يصيبكم (مثل) ما أصابهم، واذكروا نعمته إذ {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً}، أي: زاد في أجسامكم طولاً وعظماً على أجسام قوم نوح.
وقيل: على أجسام آبائكم الذين ولدوكم.(4/2421)
قال زيد بن أسلم: لقد بلغني أن ضباعاً رُئِيت رابضة وأولادها في حجاج عين رجل منهم. قال: ولقد بلغني أنه كان في الزمن الأول تمضي أربع مائة سنة، وما يسمع فيه بجنازة. ثم قال: {فاذكرواءَالآءَ الله}.
أي: نعمه عليكم.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أي: لتكونوا على رجاء من الفلاح.
قال السدي: كانت عاد باليمن، بالأْحقَاف. فكانوا قد قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها، وهي " صُدَاء "، و " صَمُود " و " اللهنا "، أسماء أصنامهم، فبعث الله ( عز وجل) / إليهم هوداً، وهو من أوسطهم(4/2422)
نسباً، فأمرهم أن يوحدوا الله (تعالى)، ولا يجعلوا مع الله إلهاً غيره، وأن يكفروا عن ظلم الناس، لم يأمرهم بغير ذلك فأبوا (تصديقه) وكذبوه وقالوا:
{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، واتبعه منهم ناس يسير مستترون بإيمانهم.
قال السدي: فبعث الله ( عز وجل) عليهم الريح العقيم، فلما نظروا إليها: قالوا: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فلما جنت منهم، نظورا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها، تبادروا البيوت، فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتمهم من البيوت، فأصابتهم في يوم نحس مستمر عليهم العذاب {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7]، أي: حسمت كل شيء مرت به. فكانوا: كأعجاز نخل منقعر، أي: انقعر من أصوله، وكأعجاز نخل خاوية، أي: خوت فسقطت، فلما أهلكهم الله ( عز وجل) أرسل عليهم طيراً سوداً، فنقلتهم إلى البحر(4/2423)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
وألقتهم [فيه، فذلك قوله:] {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، ولم يخرج ريح قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة فغلبلتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، فذلك قِوله: {فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]، أي: عتت على الخزنة.
و" الصرصر ": التي لها صوت شديد.
قوله: {قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ}، إلى: {المنتظرين}.
والمعنى: قال قومه هود له: أجئتنا متوعداً بالعقاب [لنعبد الله وحده، ونذر ما كان آباؤنا يعبدون فائتنا بالعقاب] الذي توعدنان إن كنت صادقاً.
قال لهم: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ}. أي: عقاب، من أجل ما تقولون.
و" الرجس " و " الرجز ": العذاب، وقد يكون الرجس: الشيء القذر.(4/2424)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قال ابن عباس: الرجس: السخط.
ثم قال لهم: {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ}.
أي: أتخاصمونني في الأصنام التي أحدثتموها أنتم وآباءكم لا تضر ولا تنفع.
{مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ}.
أي: من حجة تحتجون بها، في عبادتكم إياها، {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}.
أي: انتظروا حكم الله فينا وفيكم، إني منتظر ذلك معكم.
قوله: {[فَأَ] نجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ}، الآية.
معناها: فأنجينا هوداً والذين معه {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ}، أي: استأصلناكم بالهلاك.
فبما بقي منهم أحد، {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}، أي: مصدقين.
قوله: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}، الآية.(4/2425)
المعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، وسمي أخاهم؛ لأنه بشر مثلهم.
وقيل: سمي أخاهم؛ لأنه من عشيرتهم.
وثمود: قبيلة. أبوهم ثمود بن غائر بن إرم بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم: الحجر، بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى [وما حوله].
قال لهم: {يَاقَوْمِ اعبدوا (الله)}، ما لكم من يجب أن تعبدوه إلا الله، {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، أي: حجة وبرهان على صدق ما أقول لكم، {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}، أي: دليل على صدق ما جئتكم به.(4/2426)
وإضافة الناقة إلى الله، جل ذكره، على طريق إضافة الخلق إلى الخالق، وهو مثل قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]؛ لأن الروح خلق الله ( عز وجل) ، ولكن في إضافة الناقة إلى الله (سبحانه) معنى التشريف والتخصيص، والتحذير من أن يصيبوها بسوء. وهو في التخصيص كقولهم: " بيت الله "، و " عباد الرحمن "، فكله فيه معنى التشريف والتفضيل (والتخصيص)، إضافة خلق إلى خالق، كقولهم،: " خلق الله "، و " أرض الله "، و " سماء الله " وهو كثير.
وذلك أنهم سألوه آية، [أي:] حجة على صدق ما جاءهم به، حكى الله عنهم أنهم قالوا: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154].
رُوِيَ أنهم/ سألوا صالحاً ءاية، فقالوا: اخرج لنا من الجبل ناقة عُشَراءَ، وهي الحامل، فتضع فصيلاً، ثم تغدو إلى هذالاماء فتشربه، ثم تغدو علينا بمثله لبناً سائغاً عذباً طيباً، فأجاب الله (تعالى) صالحاً (عليه السلام) فيما سألوه. فقال لهم(4/2427)
صالح: اخرجوا إلى الهضبة من الأرض، فخرجوا، فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل، ثم إنها انفجرت فخرجت من وسطها الناقة، فقال لهم: {هذه نَاقَةُ [الله] لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء}، {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فلما مَلُّوها عقروها، فقال لهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، وآية العذاب أن تصبحوا غداً حُمْراً، واليوم الثاني، صُفْراً، والثالث سُوداً. فلما رأوا علامة ذلك تَحَنَّطُواْ واستعدوا.
قال السدي: كانت تأتيهم يوم شُرْبهَا فتقف لهم حتى يَحْلُبُواْ اللبن فترويهم، إنما تصب صباً وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح (عليه السلام): إنه يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر، وكان لم يولد له قط فتركه، وكان أزرق أحمر فنبت نباتاً سريعاً، فإذا مر بالتسعة قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء كانوا مثل هذا! فضغبوا على صالح؛ لأنه أمرهم بذبح أبنائهم ف: {تَقَاسَمُواْ}، أي: تحالفوا،
{لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل: 49]، وذلك أنهم قالوا: نخرج فيرى الناس أنا قد(4/2428)
خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد، أتيناه فقتلناه، ثم رجعننا إلى الغار فكنا فيه ثم رجعنا فقلنا: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}، فيصدقوننا، فخرجوا فدخلوا الغار، فلما أرادوا أن يخرجوا في الليل سقط عليهم الغار فقتلهم، وهو قوله: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]، وقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) * فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} [النمل: 50 - 51]، أي: أهلكناهمه، فكبر الغلام ابن العاشر، فجلس مع أناس يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجون شرابهم به، وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقة، فاشتد [ذلك] عليهم، وتكلموا في شأن الناقة، وقالوا: لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيراً لنا!، فقال الغلام. ابن العاشر: هل لكم في أن أَعْقِرَهَا لكم؟ قالوا: نعم فأتاها الغلام فشدَّ عليها فلما بَصُرَت به شدت عليه، فهرب منها، فلما رأى ذلك دخل خلف صخرة على طريقها، فاستتر بها، وقال: أَحِيشُوهَا عَلَيَّ! فلما جازت به، نادوه: عليك! فتناولها فعقرها، فسقطت،(4/2429)
فذلك قوله: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29] فأظهر أمرهم، وقالوا: {يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} [الأعراف: 77]، وفزع ناس إلى صالح، فأعلموه أن الناقة قد عُقِرَت، فقال: علي بالفصيل! فطلبوه فوجدوه على رابية منا الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رغا الفصيل إلى الله ( عز وجل) فأوحى الله ( عز وجل) إلى صالح (عليه السلام): " أن مُرْهُم أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام.
قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: ترضين؟ فتقول: نعم! وكلك الصبي حتى رضوا أجمعين فعقروها.(4/2430)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
وصالح النبي [عليه السلام]، هو: صالح بن عبيد بن عابر بن إِرَم بن سام بن نوح.
قال وهب: بعثه الله إلى قومه حين رَاهَقَ الحلم، وارتحل صالح بمن كان معه إلى مكة محرمين فأقاموا بها حتى ماتوا، فقبورهم بين دار الندوة والحِجْر.
روي أنه كان بين موت هود وصالح، صلوات الله عليهما، أكثر من خمس مائة سنة.
قوله: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ}، إلى: {جَاثِمِينَ}.
قرأ الحسن: " تَنْحَتُونَ "، بالفتح، للمبالغة.(4/2431)
وقرأ الأعمش " تَعِثوا "، بكسر الثاء، وهي لغة.
والمعنى: إن صالحاً، عليه السلام، ذكرهم نعم الله ( عز وجل) عليهم، وأنه استخلفهم في الأرض بعد عاد.
{وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض}. أي: جعل لكم فيها مساكن وأزواجاً.
{تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً}. أي: تبنون في السهل من الأرض قصوراً.
{وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً}. قال السدي: كانوا ينقبون في الجبال البيوت، وذلك لطول أعمارهم.
{فاذكروا آلآءَ الله}.(4/2432)
أي: نعمة الله عليكم.
{وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ}. أي: تفسدوا أشد الفساد. والعثو: أشد الفساد.
ف: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ}، أي: الأشراف الذين استكبروا عن الإيمان، {لِلَّذِينَ استضعفوا}، وهم: أهل المسكنة من تُبَّاع صالح (عليه السلام)، المؤمنين منهم، {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً}، رسول الله، {قالوا إِنَّا} بالذي أرسله الله به {مُؤْمِنُونَ}، أي: مقرون أنه من عند الله ( عز وجل) ، { قَالَ الذين استكبروا}، عن أمر الله (سبحانه)، {إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ} ما جاء به صالح، {كَافِرُونَ}(4/2433)
، أي: جاحدون.
فعقرت ثمود ناقة الله ( عز وجل) ، { وَعَتَوْاْ}، أي: تجبروا وتكبروا عن أمر ربهم.
وقال مجاهد: {عَتَوْاْ}: علو في الباطل.
وسألوه أن يأتيهم العذاب الذي أوعدهم به، {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة}، أي: الصيحة.
قال مجاهد والسدي: {الرجفة}: هي الصيحة.
يقال: رجف بفلان: إذا حرك وارتجج.(4/2434)
و " الرجفة " في اللغة: الزلزلة الشديدة.
{فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}.
أي: ساقطين على رُكَبِهِمْ. وأصل الجُثُومِ، للأرنب، والطير، وشبهه، وهو البروك على الركب.
ومعنى {دَارِهِمْ}: عند مسكنهم، وموضعهم اجتماعهم وهي القرية.
ومعنى {دِيَارِهِمْ} [هود: 67]: منازلهم.(4/2435)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قوله: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي [وَنَصَحْتُ] [لَكُمْ]}، الآية.
والمعنى: فأدبر عنهم (صالح، عليه السلام،) وخرج من بين أظهرهم حين عقروا الناقة واستعجلوه في العذاب، وأوحى الله ( عز وجل، إليه) أنه مهلكهم بعد ثلاثة أيام. ولم يهلك الله ( عز وجل) أمة ونبيها بين أظهرها.
وقال لهم عند خروجه: {ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن} لستم {تُحِبُّونَ الناصحين}، فهلكوا بأجمعهم في ديارهم، إلا رجلاً كان يحرم الله (عز جل)، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.(4/2436)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [أَتَأْتُونَ الفاحشة]}، إلى: {المجرمين}.
نصب {لُوطاً} على " وأرسلنا لوطاً "، أي على معنى: واذكروا لوطاً.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة}. أي: أتأتون الذكران.
{مَا سَبَقَكُمْ}، لفعل هذا أحد {مِّن العالمين}.
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} هذا توبيخ لهم وتقريع.
وقوله: {شَهْوَةً}: مصدر، أي تشتهون ذلك شهوة.(4/2437)
{بَلْ أَنْتُمْ/ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}. في فعلكم ذلك.
واللوطي يرجم عند مالك، أحصن أو لم يحصن. وكذلك قال أكثر العلماء.
وروي عنه أنه قال: يرجم إن كان مُحْصَناً، ويُحْبَس ويؤَدَّب إن كان غير محصن، وهو قول عطاء، والنخعي، والحسن، وابن المسيب، وقتادة.(4/2438)
قال الأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور: إذا أتى الرجل المرأة في دبرها حُدَّ حد الزاني، وهو مروي عن الشافعي.
وقال النعمان والحكم: يُعَزَّرُ عقوبة.
وهذا إنما هو في المرأة التي ليست منه بزوجة ولا ملك يمين.
ثم أخبر، تعالى، عن جواب قوم لوط له إذ وبخهم، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ} قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، أي: قال بعضهم لبعض ذلك، أخرجوا آل لوط وابنتيه، ولذلك جمع في {أَخْرِجُوهُمْ}.
وقيل المعنى: أخرجوا " لوطاً " ومن كان على دينه.(4/2439)
ومعنى: {يَتَطَهَّرُونَ}، أي: يتنزهون عن فعلنا.
وقال السدي: معناه: يتحرجون.
وقال مجاهد معناه: يتطهرون من أدبار الرجال [وأدبار] النساء.
وقيل: معنى {يَتَطَهَّرُونَ}، أي: يتنزهون عن أعمالكم.
قال الله ( عز وجل) : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}، يريد ابنتيه، {إِلاَّ امرأته}، لم تنج؛ لأنها كانت خائنة للوط كافرة، {كَانَتْ مِنَ الغابرين}، أي: من الباقين(4/2440)
في الهالكين.
وقيل المعنى: {مِنَ الغابرين}، [أي: من الغائبين] عن النجاة.
قال حذيفة: إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.
وقال [أبو] عبيدة: المعنى: {كَانَتْ مِنَ الغابرين}، أي: من المُعَمَّرِينَ أي: قد هَرِمَت.(4/2441)
قال حذيفة: رفع جبريل (عليه السلام) مدينتهم ثم قبلها، فسمعت الوَجْبَةَ امرأَتُهُ، فالتفتت، فأهلكت معهم.
ورُويَ أن جبريل، عليه السلام، اقتلع مدائنهم وهي ست فأهوى بها حتى بلغ بها السماء بجناح واحد، حتى سمع أهل السماء نُهَاق الحمير، ونُبَاح الكلاب، وصُرَاخ الديوك، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وتبعت الحجارة من كان خارج المدائن منهم.
والغابر في اللغة: من الأضداد هو الباقي، والذاهب.
وذَكَّرَ هذا الجمع؛ لأنه غَلَّبَ فيه المذكر [على المؤنث].
وقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ}.(4/2442)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
أي: أمطرت عليهم حجارة من سَجَّيلِ بعد قلب مدائنهم عاليها سافلها فأهلكت من كان خارجاً من المدينة، من مسافر وغيره، {فانظر}، يا محمد، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين}.
قوله: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، إلى: {الحاكمين}.
المعنى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً.
وكان شعيب زوج بنت لوط.
ومدين: قبيلة.
وقيل: هو اسم أرض.(4/2443)
وقال مقاتل: هو اسم رجل جعل اسماً للأمة.
وقيل هم أمة بعث إليهم، فقال لهم: {اعبدوا الله}، ليس لكم (من يحب) أن تعبدوه إلا هو.
{قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان}.
أي: أوفوا الناس حقوقهم.
{وَلاَ (تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ}}.
أي: لا تنقصوهم حقوقهم) ولا تظلموهم.(4/2444)
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}.
أي: لا تعملوا بالمعاصي في أرض الله، بعد أن أصلح الله (سبحانه) الأرض، بأن بعث فيها نبياً، يدل على الطريق المستقيم.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
أي: مصدقين، أي: هذا الذي أمرتكم به من إخلاص العبادة لله ( عز وجل) وأداء الحقوق، وترك الفساد في الأرض، خير لكم من غيره.
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}.
/ أي: في كل صراط، أي: طريق.
{تُوعِدُونَ}.(4/2445)
أي: تتهددون الناس ألا يؤمنوا، وتصدونهم عن سبيل الله، [أي: عن الإيمان].
{وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}.
أي: تبغون لها عوجاً، أي: لا تقعدوا بكل طريق، توعدون المؤمنين بالقتل.
وكانوا يقعدون على طريق من يأتي إلى شعيب ليؤمن، يتوعدونه بالقتل ويخوفونه، ويقولون: هو كذاب، وهو قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ}،(4/2446)
أي: تردون عن الإيمان من يريده، {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}، أي: تبغون للسبيل العِوَج، أي: تزيغون من أتى إليها عن الحق.
وقال السدي: هم العاشرون.
قوله: {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}. أي: كان عددكم قليلاً فكثركم.(4/2447)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
وقيل: المعنى: (كنتم) فقراء فأغناكم.
{وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين}.
الذين أُهْلِكُوا من قبلكم، بعضهم أُهْلِكَ: بالصيحة، وبعضهم: بالحجارة، وبعضهم: بالغرق.
ثم قال لهم: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ}، أي: جماعة وفرقة، {وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا}، أي: يقضي، {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}.
قوله: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب}، إلى: {الفاتحين}.(4/2448)
المعنى: قال الملأ الذين استكبروا [عن الإيمان] من قومه: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب}، ومن آمن معك، {مِن قَرْيَتِنَآ}، أو لترجعن إلى ديننا. قال شعيب لهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}، أي: تخرجوننا، ونحن كارهون لذلك.
وقوله: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}.
أي: قال شعيب لقومه إذْ دعوه إلى ملتهم، وَتَوَعَّدوه بالطرد: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً}، أي: أختلقنا على الله كذباً، وتَخَرَّصْنَا ذلك عليه، إن نحن {عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}، أي: دينكم، بعد أن أنقذنا منها. وهذا من قول من آمن به وقد كان كافراً. فأما شعيب فلم يكن على ملتهم قط.(4/2449)
ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ}،: في ملتكم فندين الله بها {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا}، أي: إلا بمشيئة الله (سبحانه)، أي إلا أن يشاء ربنا أن يَتَعَبَّدَنَا بشيء مما أنتم عليه.
وقيل المعنى: إلا أن يشاء الله أن نعود، وهو لا يشاء ذلك أبداً بمنزلة قوله: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40]. وقيل: هو استثناء من الأول.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}. أي: أحاط به، فلا يخفى عليه شيء [كان، ولا شيء هو كائن]، فإن سبق في علمه أنا نعود في شيء منها؛ فلا بد أن يكون.(4/2450)
والله لا يشاء الكفر، أي: لا يُحِبُّه ولا يرضاه، وهو يشاؤه بمعنى: يُقَدِّره ويقضيه على من علمه منه. وقيل: المعنى: ملأ ربنا كل شيء علماً.
ثم قال: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا}. أي: عليه نعتمد في أمورنا.
{رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق}. أي: احكم بيننا وبينهم.(4/2451)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين}. أي: الحاكمين.
قوله: {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً}، إلى قوله: {كافرين}.
المعنى: قال بعض من كفر بشعيب لبعض: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}، أي لمغبونون في فعلكم.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة}. أي: فأخذت الكفار منهم الزلزلة.
{فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. أي: باركين على ركبهم. وقيل: خامدون.
وكان قوم شعيب أصحاب " لَيكَة "، وهي: الغَيْضَة من الشجر. وكانوا مع(4/2452)
كفرهم/ يبخسون الناس في الوزن والكيل، فدعاهم إلى الله ( عز وجل) ، فكذبوه، وسألوه العذاب، ففتح (الله) عليهم باباً من أبواب جهنم، فأهلكهم الحَرُّ منه، ولم ينفعهم ظل ولا ماء. ثم بعث الله سحابة فيها ريح طيبة، فوجدوا (فيها) بَرْدَ الريح، فتنادوا: " الظُّلَّة، عَلَيْكُمْ بها "،! فلما اجتمعوا تحت السحابة، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو {عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء:: 189].
ونجى الله شعيباً والذين آمنا معه، فسكنوا مكة حتى ماتوا (بها).
وقوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا}.(4/2453)
أي: لم ينزلوا فيها، ولم يقيموا. و " المغَانِي ": المنازل؛ لأنها يقام بها. وقال المفسرون: كأن لم يعيشوا بها.
{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين}. أي: الهالكين.
{فتولى عَنْهُمْ}.(4/2454)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
أي: أدبر وخرج عنهم، وقال: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي}، فلم تؤمنوا بها، {وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، فلم تقبلوا، {فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين}، أي: كيف أَحْزَنُ عليهم وقد كفروا بآيات الله.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف، ويحيى بن وَثَّاب، والأعمش: (إِيسى "، بكسر الهمزة، (وهي لغة تميم).
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ} إلى: {يَشْعُرُونَ}.
هذه الآية تحذير لقريش، ومن كفر بالنبي ( صلى الله عليه وسلم) ، وإعلام من الله(4/2455)
لنبيه ( صلى الله عليه وسلم) ، سُنَّتَهُ فيمن خَلاَ من الأمم الكافرة.
و {بالبأسآء}. البؤس وضيق العيش.
{الضرآء}، النصر.
{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، أي: فعل ذلك بهم، ليتضرعوا إلى الله ( عز وجل) ويخشعوا، وينيبوا عن الكفر.
قال السدي، {بالبأسآء والضرآء}: الفقر والجوع.
وقال ابن مسعود: {بالبأسآء}، الفقر، و {والضرآء}، المرض.
وقيل: {بالبأسآء}، المصائب في المال، و {والضرآء}، المصائب في البدن.(4/2456)
وقوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة [حتى عَفَوْاْ]}.
سمي [الضرر والفقر سيئة، لأنه يسوء صاحبه.
و {الحسنة}: الرخاء والصحة. سمي] ذلك حسنة، لأنها تحسن عند من حلت به، فبدل الله ( عز وجل) لهم مكان الضرر والفقر، الرخاء والصحة، {حتى عَفَوْاْ} أي: تضاعف أعدادهم بالتناسل، وهو من الأضداد، يقال: " عفا ": كثر، و " عفا ": درس.
ومن الكثرة قوله عليه السلام: " أَخْفُوا الشَّوَارِبَ واعْفُوا اللِّحَى "، أي: وفروا [اللحى] حتى يكثر شعرها.(4/2457)
فمعنى {عَفَوْاْ} على هذا، أي: كثروا.
قال ابن زيد: معناه، بدلنا مكان ما كَرِهُوا ما أحَبُّوا.
وعن مجاهد: {عَفَوْاْ}، كثرت أموالهم وأولادهم.
وقال قتادة: {عَفَوْاْ}، سُرُّوا.
أي: سُرُّوا بكثرتهم، وذلك استدراج منه لهم؛ لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا فلم يفعلوا. ثم أخذهم بالرخاء لعلهم يشكرون، استدراجاً لهم، ف: {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء}، وهو الضيق في المعاش، {والسرآء}: السرور والسعة، فنحن(4/2458)
مثلهم، يصيبنا مثل ما أصابهم، {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}، أي: أخذناهم بالهلاك فجأة على غرة، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: لا يدرون بذلك.
وقد كرر الله، عز وجل، قصص الأنبياء وأممها، في سور كثيرة بألفاظ مختلفة، ومعان متقاربة. ونحن نذكر علة تكرار ذلك في القرآن، بما حضرنا من أقوال العلماء، إن شاء الله.(4/2459)
ذكر العلة
في تكرار الأنبياء والقصص
في القرآن
علة ذلك أن القرآن نزل شيئاً بعد شيء نُجُوماً، في ثلاث وعشرين سنة، فكانت العرب ترد على النبي صلى الله عليه وسلم، / من كل أُفُق فيقرئهم المسلمون السورة من القرآن، فيذهبون بها إلى قومهم.
وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة، بالسور المختلفة، فيبلغ إلى هؤلاء من القصص ما لم يبلغ إلى هؤلاء، فثنى الله القصص وكررها ليكون يبلغ إلى هؤلاء ما يبلغ إلى(4/2460)
هؤلاء إشهاراً منه لهذه القصص ليتعظ بها من بلغته، ويعلم أنها دلالة على نبوة من أتى بها، ويعيها كل قلب، ويزداد الحاضرون السامعون لتكرارها تَفَهُّماً.
ولو نزل القرآن جملة واحدة لسبق حدوث الأسباب التي أنزله الله ( عز وجل) بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول في الدين ولفسد معنى النَّسْخ، فإنما نزل فَرْضاً بَعْدَ فَرْضٍ، تدريجياً للعباد وتيسيراً عليهم إلى أن يكمل دين الله ( عز وجل) .
كل ذلك تثبيتاً لهم على الإسلام، قال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، وهذا جوابهم إذا قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، فإنما نزل متفرقاً ليثبتهم على الإسلام، إذ لو نزلت الفرائض مرة واحدة، لكان ذلك داعية إلى النقار(4/2461)
والصعوبة عليهم.
فإن قيل: هلا كررت الفرائض كما كررت القصص؟
قيل: إن الفرائض كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يبعث بها إلى كل قوم ليعلمهم بها فرض الله عليهم، من الصلاة والزكاة، فكل المؤمنين يصل إليه ذلك ببعث رسول الله (عليه السلام) إذ ذلك وجب عليه، وهو من تمام التبليغ.
والقصص ليست كذلك، إنما نزلت على طريق الاعتبار، فليس يقتص بها كل من آمن، فكررت لتشتهر عند المؤمنين.
فإن قيل: فلم كرر {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13، 77]، و: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي(4/2462)
وَنُذُرِ} [القمر: 16، 18، 21، 30]، و {قُلْ يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وشبهه؟
فالجواب أن مذهب العرب: التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذابهم: الاختصار للتخفيف، فيقولون: " عجل عجل "، و " الزم الزم "، فكررون للتأكيد، ويقولون: " الهلال والله ". [أي: هذا الهلال]، فيختصرون للتخفيف.
وربما استوحشوا من الإعادة فغيروا اللفظة الثانية فيقولون: (هو) " عَطْشان نَطْشان " "، و " حَسَنٌ بَسَنٌ "، و " شَيْطَان [لَيْطان] "، أبدلوا الثاني وغيروه لئلا يعيدوه بلفظه إذ لم يكن (لهم) بد من التأكيد.(4/2463)
وأما التكرير في {قُلْ يا أيها الكافرون}، فإن المشركين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم) : اعبد بعض آلهتنا، ونؤمن بإلهك، فأنزل الله ( عز وجل) : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 2 - 3] ثم أقاما مرة وقولوا (له): اعبد آلهتنا وقتاً من الزمان، ونعبد إلهك مثله، فأنزل الله ( عز وجل) : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 4 - 5].
ومن العلة في التكرار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، أن الله تبارك وتعالى، عَدَّدَ في " الرحمن " ألاءه ونعمه، ونبههم على ما أعد للمؤمنين من نعمة، فأتبع كل نعمة ذكرها الاستفهام بمعنى: التوبيخ، والسؤال لهم بأي نعمة يكذبون، لتكون فاصلة بين [كل نعمة] ذكرها وبين ما بعدها من نعمة أخرى، ليفهموا كل نعمة على(4/2464)
انفصالها. وهذا كقول العرب للرجل: ألم أطعمك وأنت جائع؟ أفتنكر هذا؟ [ألم أكسك وأنت عريان؟ أفتنكر هذا؟، ألم أغنك وأنت فقير؟ أفتنكر هذا؟] وشبهه.
ومثل: هذا تكراره: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15، 17، 22، 32، 40، 51] في سورة: " اقترتب "؛ لأنه يذكر/ لهم آياته، وَعِبَر ما يعتبرون به، ثم نبههم على الاعتبار والادكار بذلك، فإذا ذكر آية وعِبَراً نبههم على الاعتبار بها، وكرر ذلك عليهم، ليكون أَفْهَم لهم.
وقد يأتي تكرار المعنى بلفظين مختلفين، وذلك للاتساع في المعنى واللفظ، نحو قولك: " آمرك بالوفاء، وأنهاك عن الغدر "، والأمر بالوفاء هو النهي عن الغدر.
ومثله: " آمرك بالتواصل، وأنهاك عن التقاطع ".
وكقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، والنخل والرمان من الفاكهة، فَأُفْرِدَا عن(4/2465)
الجملة، لفضلهما.
ومثله قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]، وهي منها، فأفردها بالذكر ترغيباً فيها، كما تقول العرب: " إيتني كل يوم (ويوم) الجمعة.
ومنه قوله: {لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} [الزخرف: 80]، والنجوى هو السر.
وقد يكون " السر ": ما أسروا في أنفسهم، و " النجوى ": ما تَسَارَوُا به سِرّاً، وهذا كما قال ذو الرُّمة:
لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لعَسُ ... وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَب(4/2466)
واللَّعسُ: حُوَّة.
وقريب من هذا: الزيادة للتأكيد، كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]؛ لأن الرجل قد يقول بالمجاز: كتاباً ورسالة، وعلى لسان غيره.
ومنه قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]؛ لأن الرجل قد يضاف إليه الكتاب، والكاتب غيره. يقول الأمي: كتبت إليك، وإنما كُتِبَ له، وكتب الأمير كتاباً، وإنما أمر بِكِتُبَتَهِ، فَبَيَّنَ بقوله: {بِأَيْدِيهِمْ}، أنهم بأنفسهم كتبوه على الحقيقة.(4/2467)
وقد قال ابن عباس في قوله: {تَحْمِلُهُ الملائكة} [البقرة: 248]، وإنما أُمِرَتْ بحمله، كقولك: " حملت إلى بلد كذا بُرّاً وقمحاً "، وإنما [تريد] أمرت بحمله.
وقال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} [الصافات: 93]، فذكر اليمين؛ لأن فيها القوة وشدة البطش، فأخبر بذلك عن شدة الضرب.
ومثله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، فأكد بذلك، كما تقول: رَأْيُ عَيْنِي وسَمْعُ أُُذنيِ].(4/2468)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
ومنه قوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46]، هذا مثل قولهم: نفسي التي بَيْنَ جَنَبيّ.
ومثله قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرىءَامَنُواْ (واتقوا)}، إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}.
المعنى: ولو أن أهل القرى الذين أرسل إليهم الرسل آمنوا، لنزل مطر السماء عليهم. وأنبتت الأرض، فذلك " البركات ".(4/2469)
وأصل " البركة ": المواظبة على الشيء. يقال: بارك فلان على فلان، أي: واظب عليه.
فمعنى: {بركات مِّنَ السمآء}. أي: ما يتتابع من [خير] السماء والأرض.
{ولكن كَذَّبُواْ}، بالرسل. {فأخذناهم}. أي: عجلناهم العقوبة. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. أي: بعملهم الرديء.
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى}، [أي] المكذبون، {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا}، أي: عقوبتنا، {بياتا}، أي: ليلاً، {وَهُمْ نَآئِمُونَ}، أو يأتيهم {ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}. يقال لكل من عمل(4/2470)
عملاً لا يجدي عليه نفعاً، إنما أنت لاعب.
{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ/ الله}.
أي: أستدراج الله إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم من الصحة والرخاء، فليس بأمن استدراج الله {إِلاَّ القوم الخاسرون}، أي: الهالكون.
وقيل: هو توعد لمن كذب بمحمد، (عليه السلام).
وقيل: {مَكْرَ الله} ( عز وجل) : عذابه.(4/2471)
وحقيقة " المكر ": (الكيد)، والكيد من الله (سبحانه) عقوبة للعبد من حيث لا يعلم.
قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ}، المعنى: أو لم يهد الهدى، أي: يبين لهم الهدى.
وقيل معنه: أولم يهد الله، أي: يبين لهم الله، أنه لو شاء أصابهم بذنوبهمه، كما فعل بمن كان قبلهم، الذين ورث هؤلاء الأرض عنهم.
{وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ}. أي: نختم عليها، فلا ينتفعون بموعظة.(4/2472)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قال ابن عباس: {أَوَلَمْ يَهْدِ}، أو لم يستبن لهم.
وقال ابن زيد: أو لم يتبين لهم.
وأكثرهم على أن المعنى: أو لم يَبِنْ لهم؛ لأن أصل الهدى: البيان.
قوله: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا}، إلى قوله: {لَفَاسِقِينَ}.
والمعنى: تلك القرى، يا محمد، نقص عليك من أخبارها، وهو ما تقدم ذكره: من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب، لتعلم أنا ننصر رسلنا.
ثم قال (الله) تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}.
أي: ولقد جاءت أهل القرى رسلهم، بالحجج [البينات].
وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ}.(4/2473)
أي: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم، {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، أي: بما كذبوا يوم أخذ عليهم الميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم، (عليه السلام).
قال مجاهد: المعنى: ليس يؤمنوا، {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، أي: من قبل هلاكهم، أي: لو رُدُّوا إلى الدُّنيا بعد هلاكهم لم يؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم، مثل: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقال الربيع بن أنس: كان في علمه ( عز وجل) يوم أقروا بالميثاق أنهم لا يؤمنون.(4/2474)
وقال السدي: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهاً، فلم يكونوا ليؤمنوا الآن حقيقة.
وقوله: {كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين}.
أي: كما طبعنا على قلوب هؤلاء الذين أهلكوا ولم يؤمنوا، كذلك نطبع على قلوب المعتدين من أمتك يا محمد، أي: نختم عليها فلا يؤمنوا لما تقدم في عمله منهم. وهذا إخبار [من] الله (تعالى) لنبيه (عليه السلام) عن قوم من أمته [أنهم] لا يؤمنون أبداً، كما قال لنوح (عليه السلام): {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وكما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم،: { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].
ثم قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ}.
أي: ما وجدنا لهؤلاء المهلكين " عهداً "، أي: وفاء بما وصيناهم به، وما(4/2475)
وجدنا أكثرهم فاسقين.
مذهب الفراء: أنَّ {إِنْ} بمعنى: " ما "، و " اللام " بمعنى إلا.
ومذهب سيبويه أنها " إنْ " المخففة [من الثقيلة)، ودخلت " اللام " لئلا تشتبه " إِنْ " التي بمعنى: ما.
وقال بعض البصريين: دخلت " إنْ " و " اللام " على معنى التأكيد واليمين. وتدخل " إِنْ " هذه على الأفعال أيضاً، [تقول]: إِنْ ظَنَنْتُ زيداً لقائماً.
ومعنى {لَفَاسِقِينَ}،: خارجين عن طاعة الله.(4/2476)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
وقيل: العهد الذي لم يَفُوْا به، هو ما أخذ عليهم إِذْ أُخرجوا من ظهر آدم.
قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا}، إلى قوله: {لِلنَّاظِرِينَ}.
والمعنى: ثم بعثنا (من) بعد هؤلاء الذين ذكرنا من الأنبياء. ط
وقيل: من/ بعد الأمم المذكورة، موسى.
{بآياتنآ}. أي: بحجتنا. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا}. أي: فجحدوا وكفروا بها.
ومات هارون (عليه السلام)، وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة، وعاش(4/2477)
موسى (عليه السلام) بعد ثلاث سنين، صار عمره بها مثل عمر هارون؛ لأن هارون كان أكبر من موسى بثلاث سنين، فصار عمر موسى وهارون سواء، مائة وسبع عشرة لكل واحد.
وكان في وجه هارون شامة، وفي أَرْنَبَة موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، وهي العقدة التي حلها الله ( عز وجل) ، له.
قوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين}.
أي: فانظر، يا محمد، بعين قلبك، {كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين}، يعني فرعون وملأه، إذ غرقوا في البحر جميعاً.
وموسى، هو: ابن عمران بن ناهب بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن(4/2478)
إبراهيم عليه السلام.
وفرعون موسى هو فرعون يوسف، عَمِر أكثر من أربع مائة عام. وامسه: الوليد بن مصعب.
(وقوله): {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ عَلَى}.
أي: خليق وجدير قول الحق على الله، ( عز وجل) .
وقيل المعنى: {حَقِيقٌ عَلَى} ترك القول على الله (سبحانه) إلا بالحق.
فمن أضاف {عَلَى} فمعناه: واجب عليَّ قول الحق على الله (سبحانه).(4/2479)
ومن لم يضعف فمعناه.
حريص على قول الحق علىَّ الله (جلت عظمته).
(وقيل) معناه: مَحْقوُقٌ عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق، وهو فعيل بمعنى مفعول، كقتيل. هذا في قراءة من لم يضف.
قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. أي بحجة.
{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ}.
وكان بنو إسرائيل يؤدون الجزية إلى فرعون وقومه، فسأله موسى (عليه السلام)، أن يتركهم معه قال له فرعون: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ}، فألفى موسى عصاه فإذا هي حية ظاهرة لمن يراها فَاغِرَة فَاهَا، فاستَغَاثَ فرعون بموسى، حين رآها قصدته، فَكَفَّها موسى (عليه السلام)، عنه.(4/2480)
وقال الكلبي: بلغنا أن موسى (عليه السلام)، قال يا فرعون، ما هذه بيدي؟ قال: هي عصا. فألقاها موسى، فإذا هي ثعبان مبين، قد ملأت الدار من عِظَمِها، ثم أهوت إلى فرعون لتبتلعه، فنادى: يا موسى! (يا موسى)! فأخذ موسى بذنبها فإذا هي عصا بيده. قال فرعون: يا موسى، هل من آية غير هذه؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ فأخرج موسى يده، فقال: ما هذه يا فرعون؟ قال: يدك. فأدخلها موسى (عليه السلام)، في جيبه ثم أخرجها، {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ}، تغشى البصر من بياضها.
قال وهب بن مُنَّبِه: أمر فرعون بموسى، فقال: خذوه! فبادره موسى (عليه السلام)، فألقى عصاه، فصارت ثعباناً، فحملت على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، قتل بعضهم بعضاً، وقام فرعون منهزماً حتى دخل البيت.
وكان ما بين لَحْيَيْ الحية أربعون ذراعاً.(4/2481)
قال ابن عباس: وضعت فُقْماً أسفل قبة فرعون، وفُقْماً فوقها، فاستغاث بموسى فَأَجَارَهُ، وَكَفَّهَا.
وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ}.
أي: أخرجها (من جيب قميصه)، (بيضاء تلوح، (تدل) على صدقه فيما يقول، بياضاً من غير/ برص. ثم أعادها إلى موضعها، فرجعت كما كانت، وكان قد أخرجها من جيبه، فأخرجها بيضاء تلوح للناظرين.
قال السدي: وضعت لَحْيَهَا الأسفل في الأرض، والآخر على أعلى سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فَذُعِرَ منها، (ووثب) وأَحْدَثَ، ولم يكن(4/2482)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
يحدث (قبل ذلك)، إلا إلى مدة طويلة، فصاح: يا موسى! خذها، ونؤم بك.
قوله: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ (عَلِيمٌ)} الآيات الأربع.
من قرأ {أَرْجِهْ}، بغير همز، احتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون على البدل للهمز، ثم حذف الياء؛ لأنه أَمْرٌ، كما أجازوا " أقرَ " يا هذا، بغير ألف ولا همز.
والوجه الثاني: أن [يكون] على لغة من قال: " أَرْجَيْتُ "، وهي لغة: أسد،(4/2483)
وتميم وعامة قيس.
والوجه الثالث: قاله المبرد، قال: هو من: رجا يرجو، أي: اتركه يرجو وأَطْمِعْهُ.
وقد أنكر جماعة النحويين: الإسكان في الهاء. وقد ثبت ذلك عن الأئمة من القراء.(4/2484)
ووجه ذلك: أن " الهاء " هي الاسم، و " الياء " والواو إنما هي صلة " للهاء " وليسا من الاسم؛ وإنما زيدت عند الخليل؛ لأن [الهاء] خفية، فقويت بحرف جلد تباعد منها وهو " الواو "، لا يأتي بها فمن أسكن هذه " الهاء " أسكنها على أصلها، وردها إليه.
وفيها علة أخرى، وذلك أن هذه " الهاء " صارت في موضع اللام. وكان من حق اللام لو كان من حروف السلامة أن يسكن. والهاء من حروف السلامة فسكنت، إذ حلت محل اللام، فصارت بمنزلة ميم " أكرم ".
وفيها علة أخرى، وهي أن " الواو " جائز حذفها بعد " الهاء " فصارت بمنزلة(4/2485)
الواو في " عليهمو "، [في جواز حذفها، فلما كانت " الميم " من عليهم] تسكن إذا حذفت الواو ويحسن سكونها، كان (مثل) ذلك في الهاء، إلا أن الميم أحسن من الهاء في السكون لخفاء الهاء.
وفيها علة رابعهة، وذلك أنهم قد شبهوا هاء السكت بهاء الإضمار، فأثبتوها في الوقف. وبعضهم وصلها بياء كهاء الإضمار، فلما شبهت بهاء، جاز تشبيه هاء الإضمار بهاء السكت في السكون؛ لأن من حق هاء السكت السكون فشبهت بها، فجاز إسكانها.
ومعنى الآية: قال أشراف قوم فرعون من القبط: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، أي عليهم بالسحر، {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ}، أي: أرض مصر، {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، أي: أي شيء تأمرون أن يفعل في أمره؟.(4/2486)
وقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، من كلام فرعون لا من كلام الملأ. فأشار عليه الملأ أن: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، أي: أحسبه وأخاه. و " الإرجاء ": التأخير. {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ}.(4/2487)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
أي: مدائن مصر، من يجمع لك السحرة العلماء.
قوله: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً} الآيات الثلاث.
في هذا الكلام اختصار وحذف. والمعنى: فأرسل فرعون {فِي المدآئن حَاشِرِينَ}، فحشروهم، فجاء السحرة فرعون.
ومعنى الآية: قال ابن عباس: قال فرعون: لا نغالبه، يعني موسى، إلا بمن هو مثله، فأعد غلماناً من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية، يقال لها: " الفَرَمَاء "، يعلمونهم السحر، كما يعلم الصبيان في الكتاب، فعلموا سحراً كثيراً.
وواعد موسى فرعون موعداً، فلما كان في ذلك/ الموعد، بعث فرعون فجاء بهم، وجاء بمعلميهم معهم فقال لهم ماذا صنعتم، قالوا قد علمناهم سحراً لا يطيقه سحر أهل الأرض، إلا أن يكون أمر من السماء، فإنهم لا طاقة لهم به، فلما جاء السحرة(4/2488)
قالوا لفرعون: {لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين}، أي: لكم الأثرة والقرب مع ذلك.
رُوِي: أن السحرة كانوا سبعين ألفاً. وقيل: خمسة عشر ألفاً. وقال ابن المُنْكَدِرُ: كانوا ثمانين ألفاً. وقال كعب: أثنى عشر ألفاً.(4/2489)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
وقوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}.
إذا كان في الكلام مع " إما " معنى الأمر، فلا بد من دخول " أَنْ " بعدها، وتقديره: اختر أن تلقى، كقولك للرجل: " إِمّا أَنْ تمضي وإِمَّا أَنْ تقعد ". فإِنْ كان الكلام خبراً ليس فيه معنى الأمر، لم يجز دخول " أَنْ " البتة، كقوله تعالى:
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 6]، وكذلك ما كان في معنى الجزاء، وهي مكسورة في كل ذلك.
و" أَنْ " عند الكسائي في موضع نصب.
قوله: {قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا [أَعْيُنَ الناس]}، الآية.
والمعنى: قال لهم موسى: ألقوا فلما ألقوا (سحرهم) سحروا أعين الناس،(4/2490)
بسحرهم وخدعهم، فاسترهبوهم الناس، {وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، أي: بتخييل عظيم.
ق السدي: كانوا بضعة ومائتي ألف، ليس منهم رجل إلا [معه] حبل وعصا.
قال ابن إسحاق: صَفَّ فرعون خمسة عشر ألف ساحر، مع كل واحد حباله وعصيه. وخرج موسى (عليه السلام)، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع فألقوا ما في أيديهم فإذا هي حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها(4/2491)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
بعضاً، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67]، أي: أحس خوفاً.
قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، [الآية].
قال ابن عباس: فألقى موسى عصاه فإذا هي حية فجعلت تلقف ما يأفكون لا تمر بشيء من حبالهم وخُشُبِهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء، وأنه ليس بسحر فَخَرَّوا سُجَّداً، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
وقيل: إنهم ما رفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.
ومعنى: {مَا يَأْفِكُونَ}، ما يكذبون.(4/2492)
وقيل: إنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم، خيل إلى موسى (عليه السلام) أنها حيات، فألقى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم. ثم رقوا فازدادت حبالهم وعصيهم عِظَماً في أعين الناس، وجعلت عصا موسى (عليه السلام)، تعظم، فكلما رَقَوْا ازدادت حبالهم وعصيهم عِظَماً، وتزداد عصا موسى عِظَماً، حتى نفدت رَقَاهُم وسحرهم، وصارت عصا موسى (عليه السلام)، قد سدت الأُفُق. ثم فتحت فاها فابتلعت ما ألقوا، ثم أخذ موسى عصاه بيده، فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت.
قال الكلبي: فقال السحرة بعضهم لبعض: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا. فَخَرُّوا عند ذلك ساجدين.(4/2493)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
قوله: {فَوَقَعَ الحق (وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)}، إلى قوله: {موسى وَهَارُونَ}.
المعنى: وظهر الحق لمن شهد. وبطل سحرهم.
{وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ}، عند معرفتهم أن (ذلك) الذي أتى به موسى (عليه السلام)، ليس إلا من السماء، {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}، أي صدقنا بما جاء به موسى وبربه وربِّ هارون.
قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ}، إلى {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
المعنى: قال فرعون لهؤلاء الذين آمنوا: {آمَنتُمْ بِهِ}، أي صدقتموه.
قيل: " الهاء " لله. وقيل: لموسى، عليه السلام.(4/2494)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
وفي موضع آخر: {آمَنتُمْ لَهُ} [طه: 71، الشعراء: 49]، أي: فعلتم الذي أراد، {قَبْلَ/ أَن آذَنَ} بذلك، {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ}، أي: تصديقكم إياه {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة}، أي: خدعة خدعتم بها من في مدينتنا، {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، أي: تعلمون ما اصنع بكم.
قل ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما، من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم: التقى موسى وأمير السحر، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك تؤمن بي، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غاداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأؤمنن بك، ولأشهدن أنك نبي حق! وفرعون ينظر إليهما، فذلك قول فرعون: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة}، إذ التقيتما لتتظاهرا فتخرجا منها أهلها.
قوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [مِّنْ خِلاَفٍ]}، إلى: {مُنقَلِبُونَ}.(4/2495)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
معنى: {مِّنْ خِلاَفٍ}: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
وقال ابن عباس: أَوَّلُ من صلب، وأَوَّلُ من قطع من خلاف فرعون.
قالت السحرة لفرعون إذا توعدهم بالقطع والصلب: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أي: صائرون وراجعون.
قوله: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ [إِلاَّ أَنْ آمَنَّا]}، إلى: {قَاهِرُونَ}.
المعنى: وما تنكر منا إلا إيماننا بربنا، إذ رأينا الآيات والحجج. ثم قالوا: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}، أي: أنزل علينا صبراً يشملنا فلا تُخْرِج عن الإيمان إلى الكفر بعذاب فرعون لنا، {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، أي: أقبلنا إليك(4/2496)
على الإسلام.
قال السدي: فقتلهم وقطعهم.
قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء.
وقاله قتادة، وابن جريج.
ثم قال تعالى مخبراً عنهم: {[وَ] قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ}، أي: قال جماعة من أشراف قومه،: {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ}، أي: أتدع يا فرعون، موسى وقومه من بني إسرائيل، {لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض} أي: كي يفسدوا عليك خدمك وعبيدك في أرضك من مصر، {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، أي: ويدع خدمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك.(4/2497)
والنصب في {وَيَذَرَكَ} على الصرف، إن جعلت معنى الكلام: ليفسدوا في الأرض، وقد تركك وترك عبادة آلهتك.
وإن جعلت المعنى {لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} على التوبيخ لفرعون عن تركه موسى (عليه السلام)، فنصبه على العطف على {لِيُفْسِدُواْ}.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد: " وَيَذَرَكَ وإلاَهَتَكَ ". أي عبادتك.(4/2498)
وكان فرعون إذا رأى بقرة سمينة أمرهم أن يعبدوها.
وقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]، يدل على أنهم كانوا يعبدون غيره، ممن هو دونه عندهم، فهذا يدل على صحة قراءة الجماعة: {وَآلِهَتَكَ}.
قال ابن عباس حجة لقراءته (" وإِلاَهَتَكَ "): كان يعبد ولا يعبد.
وبذلك قرأ مجاهد على معنى: وعبادتك.
وبه قرأ الضحاك.(4/2499)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
ومن قرأ: " وَإِلاَهَتَكَ "، تَأَوّلَه أن فرعون لم يكن يَعْبُدُ شيئاً، إنما كان يُعْبَد من دون الله، (سبحانه وتعالى).
وقيل: إن قوم فرعون لهم أصنام يعبدونها، تقربهم إليه فما ترون.
فأجابهم فرعون فقال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، أي: عالون عليهم بالملك والسلطان.
{وَآلِهَتَكَ}، وقف.
قوله: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله}، الآية.
والمعنى: أن موسى (عليه السلام)، قال لقومه لما قال فرعون لقومه: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ}: {استعينوا بالله}، على فرعون وقومه، {واصبروا} على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم. وكان قد اتبع موسى، (عليه السلام) من بني(4/2500)
إسرائييل ست مائة ألف، غير السحرة.
ثم/ قال لهم موسى، (عليه السلام): {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ}، أي: لعلكم إن صبرتم، ترثون أرضه، فإن الأرض لله، {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}، أي: العاقبة المحمودة لمن اتقى الله وراقبه.
{مِنْ عِبَادِهِ}، [وقف].
وهذا يدل على أن ابن أدم غير مستطيع لشيء إلا بعون الله، (تعالى، له). وهو مذهب أهل السنة. ومثله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وله [في] القرآن نظائر كثيرة، تدل على أن الإنسان غير مستطيع لفعل شيء إلا بعون الله (جلت عظمته) له(4/2501)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
عليه. وعونه (سبحانه) إمَّا أن يكون توفيقاً لمؤمن، أو خذلاناً لكافر.
قوله: {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا}. الآية.
المعنى: قال موسى (عليه السلام)، لموسى (صلوات الله عليه)، حين قال لهم: {استعينوا بالله واصبروا}: {أُوذِينَا} يقتل أبنائنا، {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} (برسالة الله عز وجل) ، { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، بما توعدنا به من القتل لأبنائنا.
وقيل معنى: {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، أي: بدركنا فرعون فيقتلنا، وذلك حين تراءى الجمعان.
قال ابن عباس: أَسْرى موسى (عليه السلام)، يبني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم بَرهَجِ دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا}، أي: بذبح أبنائنا، وإحياء نسائنا، {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، هذا البحر أمامنا، وهذا(4/2502)
فرعون قد رهقنا بمن معه؛ {قَالَ عسى (رَبُّكُمْ) أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، من بعدهم فيجازيكم على ما وقع منكم وقد علم كيف تعلمون.
و: " الأرض "، أرض الدنيا. وقيل: أرض الجنة. و: " الثانية " أرض الدنيا لا غير.
و {عسى}: تَرَجِ، وهي واجبة من الله، ( عز وجل) .(4/2503)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، وقف.
قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين}، إلى: {لاَ يَعْلَمُونَ}.
لام {وَلَقَدْ}، لام توكيد تؤكد الكلام بمعنى القسم.
والمعنى: ولقد ابتلينا تُبَّاعَ فرعون: {بالسنين}، أي: بالجدوب سنة بعد سنة، {وَنَقْصٍ مِّن الثمرات}، اختبرناهم بذلك، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون}، بتوبة أو رجوع، فيعتبرون.
قيل: إِنَّ ثمارهم نقصت حتى كانت النخلة تحمل تمرة واحدة.(4/2504)
وقوله: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة}.
أي: (إذا) جاءهم الخصب والعافية وكثرة الثمار، {قَالُواْ لَنَا هذه}، ونحن أولى بها، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، أي: قحط ومرض، {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ}، أي: تشاءموا بهم، فقالوا: هذا بشؤم موسى ومن معه.
قرأ طلحة، وعيسى بن عمر: " تَطَيَّروا "، على أنه ماض.(4/2505)
وقرأ الحسن: " أَلاَ إنَّما طَيْرُهُمْ عِنْدَ الله "، بغير ألف.
قال الله ( عز وجل) : { ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله}.
أي: ألا إنما نصيبهم من الرخاء والجدب، وغير ذلك عند الله، عز وجل.
قال ابن عباس، المعنى: ألا إن الأمر من قِبَلِ الله، ( عز وجل) .
وقال مجاهد، المعنى: ألا إنما الشؤم فيما يلحقهم يوم القيامة مما وُعِدُوا به من الشر.(4/2506)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
أي: لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط وشدة، أنه من عند الله ( عز وجل) ، بذنوبهم.
{لَنَا هذه}، وقف.
{وَمَن مَّعَهُ}، وقف.
قوله: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ}، إلى: {مُّجْرِمِينَ}.
{مَهْمَا} عند الخليل: أصلها " ما " للشرط، زيدت عليها " مَا " للتوكيد، وأبدل من ألف " مَا " الأولى " هاء ".(4/2507)
وقال غيره: الأصل: " مَهْ " بمعنى: أكفُفْ، و " مَا " للشرط بعد ذلك.
وحكى الكوفيون: " مهما " بمعنى: " مهما ".
والمعنى: وقال (آل) فرعون لموسى: ما {تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا}، فنؤمن (ربك)، وندع دين فرعون، {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.(4/2508)
قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم}.
" فالطوفان ": الماء. قاله الضحاك، / وأبو مالك.
قال ابن عباس: هو الغرق.
قال مجاهد: هو الموت.
قال قتادة: سال عليهم [الماء] حتى قاموا [فيه قياماً]، فسألوا موسى، (عليه السلام)، أن(4/2509)
يسأل الله ( عز وجل) ، ليكشف عنهم ففعل.
قال الضحاك: جاءهم من المطر شيء كثير، فسألوا موسى (عليه السلام)، أن يدعو الله ( عز وجل) ليكشفه عنهم، ويرسلوا معه بني إسرائيل، فدعا الله، فكشف عنهم وأخصبت البلاد، فعادوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فصب الله على زُرُوعهم الجراد فأكله، فسألوا موسى فدعا، فكشف عنهم. ثم عادوا إلى كفرهم.
وروت عائشة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال " {الطوفان}: الموت ".
وعن ابن عباس قال: هو أَمْرٌ من (أمر) الله ( عز وجل) ، طاف (بهم)، وقرأ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} [القلم: 19].
و: {الطوفان}: مصدر كالنقصان، لا يجمع.(4/2510)
وقال الأخفش: هو جمع، واحدة: طوفانة.
وقوله: {والجراد والقمل}.
أرسل الله عليهم الجراد والقمل، وهو: الدَّبَى، فأكل زرعهم وثمارهم. ثم أكل الشجر والأبواب وسقوف البيوت. وابتلي الجراد بالجوع، فجعل لا يشبع.
قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: إن ذلك " الجراد "، كان يأكل المسامير، فَعَجُّوا إلى موسى، (عليه السلام)، وصاحوا وقالوا: يا موسى، هذه المرة!
ف: {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز}، وهو العذاب، {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ} [الأعراف: 134]، فدعا لهم، فكشف عنهم بعدما(4/2511)
أقام سبعة أيام، فأقاموا شهراً، ثم عادوا لتكذيبه، ولأعمالهم السيئة.
وقيل: {والقمل}: السوس الذي يخرج من الحِنْطَة. قاله ابن عباس، وابن جبير.
وقال السدي، وعكرمة، وغيرهما: هو الدَّبَى الذي لا جناح له.
وقال ابن زيد: هي البراغيث.
وقال الحسن: هي دَوابٌ صَغَارٌ سُودٌ.
وقال أبو عبيدة: {والقمل}: الحَمْنَانُ، وهو ضرب من القِرَاد،(4/2512)
واحدتها: حَمْنَانَةٌ.
و {والقمل}: جمع واحدته: " قَمْلَةٌ ".
قال سعيد بن جبير: لما أتى موسى (عليه السلام)، فرعون، قال له: أرسل معي بني إسرائيل! فأبى عليه فأرسل الله ( عز وجل) ، عليهم مطراً خافوا أن يكون عقاباً، فقالوا (لموسى): ادع لنا ربك يكشف عنا المطر، فنؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه ( عز وجل) ؛ فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم ذلك المطر تلك السنة شيئاً لم ينبت لهم قبل ذلك من الزرع والثمر والكلإ.
فقالوا: هذا ما كانا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجِراد فسقط على الكلإ، فلما رأوا أثره في الكلإ عرفوا أنه لا يبقى الزرع. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنَّا الجراد(4/2513)
فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيلّ! فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل! فدارسوا زرعهم وأحرزوا في البيوت، فأرسل الله ( عز وجل) ، عليهم القُمّلَ، وهو السوس الذي يخرج منه، فكان الرجل (يخرج) بعشرة أَجْرِبَةٍ [إِلى] الرَّحَى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا القُمَّل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فينما هو جَالِسٌ مع فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال موسى (عليه السلام) ما تلقى أنت وقومك من هذه! فقال: وما عسى أن يكون مثل هذا! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى رقبته في الضفادع، ويهم أن(4/2514)
يتكلم فَيَثِبَ الضفدع في فيه، فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا ونؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا فكشفه عنهم فلم يؤمنوا ولا أرسلوا معه بني إسرائيل فأرسل (الله) عليهم الدم، فكان ما استقوا من الأنهار والآبار وصار في أوعيتهم وجدوه دَماً عَبِيطاً، فشكوا إلى فرعون/ وقالوا: ليس لنا شراب! قد ابتلينا بالدم، قال: إنه سحركم! قالوا: ومن أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً؟ فأتوا موسى (عليه السلام)، وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فكشف عنهم ولم يفعلواما قالوا.
قال السدي: وكان الإسرائيليُّ في كل هذا مُعَافىً من هذا كله. كان القبطيُّ(4/2515)
والإسرائيلي يستقيان من ماء واحد، يرفع القبطي دماً، والإسرائيل مَاءً.
وعلى نحوة هذا الخبر روى أبو قتادة، وكذلك ذكر ابن عباس وغيرهما. حتى أنه رُوِيَ أن فرعون جمع (رجلين)، إسرائيلياً وقبطياً على إِناءٍ واحدٍ، فكان الذي يلي الإسرائيلي ماء، والذي يلي القطبي دماً.
قال السدي: كان أحدهم يبني الأسطوانة، يرفع فقوها الطعام، فإذا صعد ليأكله وجده، (قد) ملئ دماً.
قال ابن جبير: كان فرعون يجمع بين الرجلين على الإناء، القبطي والإسرائيلي، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دماً.
وكان الرجل الإسرئيلي يركب السفينة مع القبطي فَيَغْرِفُ الإسرائيلي ماء،(4/2516)
ويَغْرِفُ القبطي دماً.
وكانت المرأة القبطية، تأتي المرأة من بني إسرائيل، فتقول لها: اسقني من مائك من العطش، فتغرف لها من جَرَّتِها وتصب لها في قِرْبَتها، فيعود الماء دماً، حتى كانت تقول لها: اجعليه في فيك، ثم مُجِّيه في فِيَّ، فتأخذذ الإسرائيلية في فيها [ماء]، فإذا مُجَّتْهُ بِفِي القبطية، صار دماً، فمكثوا على ذلك سبعة أيام.
قال ابن جبير، والحسن: كان إلى جنبهم كثيب أَعْفَرُ بقرية تدعى: " عَيْن شَمْس ": فمشى موسى، (عليه السلام)، إلى ذلك الكثيب، فيضربه بعصاه ضربة صار قُمَّلاً تدب إليه، وهي دواب سُودٌ صِغَار. فدبت إليهمن فأخذت أَشْعَارهم وأَبْشَارهم وأَشْفَار عيونهم، ولزمت جلودهم كالجُدَري، فاستغاثوا بموسى (عليه السلام). قالا:(4/2517)
وكان الرجل يضطجع فتركبه الضفادع رُكاماً حتى لا يستطيع أن ينصرف على شقه الآخر، ولا يعجن عجيناً إلا سقط فيه منه، ولا يطبخ قِدْراً إلا سقط فيه، فاستغاثوا.
أرسل الله عليهم ذلك {آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ}، شيئاً، (بعد شيء) كان بين الآية والآية ثمانية أيام.
ثم أخبر الله عنهم أنهم بعد هذه الآيات: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}، أي: تَعَظَّموا وتَجَبَّروا وعتوا عن أمر الله، ( عز وجل) .(4/2518)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز [قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ]}، الآية.
قرأ ابن جبير، ومجاهد: " الرُّجْزُ "، بضم الراء.
قال ابن جبير: لما ابتلي قوم فرعون بالآيات الخمس، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، قال موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل: لِيَذْبَحْ كُلُّ رجل منكم كبشاً، ثم يُخَصِّب كفه من دمه، ثم يضرب به على بابه! ففعلوا، فقالت القبط لبني إسرائيل: لِمَ تجعلونن هذا الدم على أبوابكم؟ فقالوا: إن الله يرسل عليكم عذاباً، فنسلم وتهلكون وهكذا أمرنا نبينا، (عليه السلام)، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفاً، فأمسوا وهم لا يتدافنون. فقال فرعون ذلك لموسى (عليه السلام)،:(4/2519)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ}، الآية، فالرجز: الطاعون. فدعا موسى (عليه السلام)، فكشف عنهم فوفى فرعون لموسى، وقال له: اذهب ببني إسرائيل حيث شئت، فكان أوفاهم كلهم.
وقال مجاهد، وقتادة: {الرجز} /: هو العذاب الذي أرسل عليهم من الجراد والقمل وغيره، وهم في كل ذلك يعهدون إليه ثم ينكثون.
ومعنى: {إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ}.
أي: كشف الله عنهم العذاب في الدنيا إلى أجل هلاكهم وانقضاء أجلهم، فيغرقهم في البحر عند ذلك ويعاودهم العذاب.
قوله: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ}، الآية.
المعنى: فلما نكثوا انتقمنا منهم، {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم}.(4/2520)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
و " الْيَمُّ ": البحر.
ومعنى {وَكَانُواْ} عن آياتنا {غَافِلِينَ}، أي: لا يعتبرون صحتها، ويعرضون عنها.
قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ [مَشَارِقَ الأرض]}، الآية.
قوله: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا}، مفعول " بأورث ".
وقال الفراء، والكسائي: هو ظرف. وتقدير الكلام عندهم:(4/2521)
{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} في {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} الأرض {التي بَارَكْنَا فِيهَا}، في مشارق الارض ومغاربها. ف (التي): مفعول ل: (أوْرَثْنَا).
والمعنى: أورثنا بني إسرائيل، الذين كان فعرون يستخدمهم استضعافاً لهم، {مَشَارِقَ الأرض}، أي: أرض الشام، في قول الحسن، وهو ما يلي المشرق، {وَمَغَارِبَهَا} ما يلي المغرب، {التي بَارَكْنَا فِيهَا}، أي: التي جعلنا الخير فيها ثابتاً دائماً.
وقال الليث: {الأرض}، هنا أرض مصر، وإِنَّ مصر هي التي بارك الله فيها.
قال الليث: مصر مباركة في كتاب الله، جل ذكره، لقوله تعالى: {التي بَارَكْنَا فِيهَا}، قال: هي مصر، وهي مباركة. ومصر مشتقة من قولهم: مَصَرَ الشَّاةَ(4/2522)
يَمْصُرُهَا مَصْراً: إذا حلب كل شيء في ضرعها، فسميت: مِصْراً لاجتماع الخير فيها.
وروي عن ابن عمر أنه قال. نيل مصرَ سَيّدُ الأنهار، وسخر الله، عز وجل له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلَّلَه له، فِإذا أراد الله، جل ذكره، أن يجري نيل مصر، أمر كل نهر أن يمده، فمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأنهار عيوناً، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله، سبحانه، أوحى الله، عز وجل، إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وقال ابن عمر، وغيره في قوله، تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *(4/2523)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25 - 26]، قال: كانت الجنات بِحَافَتَيْ هذا النِّيل، من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً، ما بين: " أَسْوَان إلى: رَشِيد، وكان له سبعة خُلُج: خليج الإسكندرية، وخليج دِمْيَاط، وخليج سَرْدُوس، وخليج مَنْف، وخليج الفَيُّوم، وخليج المَنْهَى. وقيل: السابع، خليج سَخَا، كانت متصلة لا ينقطع(4/2524)
منها شيء عن شيء.
وقوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، يعني المنابر. كان بها ألف منبر.
وقوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا}، قل الطبري: لا يجوز أن تكون: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} نصباً على الظرف؛ لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم (أحداً) يؤمئذ إلا فرعون بمصر، فغير جائر أن يقال: {يُسْتَضْعَفُونَ} في مشارق الأرض وفي مغاربها.
وقد غَلِطَ الطبري على الفراء؛ لأن الفراء لم يرد أنه ظرف: {يُسْتَضْعَفُونَ}، إنما(4/2525)
جعله ظرفاً مقدماً للأرض التي بورك فيها.
فتقدير الكلام: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} الأرض التي باكرنا (فيها) في مشارق/ الأرض ومغاربها. وهذا أحسن في المعنى، وإن كان النصب بـ: {وَأَوْرَثْنَا} على أنه مفعول به أحسن.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}.
أي: تَممَّ الله ( عز وجل) لهم ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض ونصرهم على فرعون عدوهم، بِصَبْرِهم على عذاب فرعون لهم.
وهذا يدل على أن الصبر عند البلاء أحمد من مقابلته بمثله؛ لأن البلاء إذا قوبل بمثله وُكِلَ فاعله إليه، وإذا قوبل بالصبر وانتظار الفرج من الله، جل ذكره، أتاهم الله، ( عز وجل) ، بالفرج الذي أملوه واننتظروه من الله، (سبحانه).(4/2526)
وقال مجاهد: هو ظهور قوم موسى على فرعون.
و" الكلمة " هنا: قول موسى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض} [الأعراف: 129].
وقيل: هو قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5]، إلى {يَحْذَرُونَ} [القصص: 6].
وقوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ}. أي: أهلكنا ما عَمَّروْا وَزَرَعُوا.(4/2527)
{وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}. أي: (وأهلكنا) ما كانوا يبنون، أي: خَرَّبنا ذلك.
والضم والكسر في " راء ": {يَعْرِشُونَ}، لغتان.(4/2528)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
قوله: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر}، إلى قوله: {(بلاء) مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
والمعنى: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعدما رَأَوا من الآيات والعِبر فلم يَتَّعِظوا بذلك ويزدجروا، حتى قالوا، إذ مَرُّوا بقوم مقيمين على أصنام لهم يعبدونها: {ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.
و: {يَعْكُفُونَ}. يقيمون ويواظبون ويلازمون. والضم والكسر في " الكاف " لغتان.(4/2529)
فقال لهم موسى: (عليه السلام): {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
أي: تجهلون نعمة الله ( عز وجل) ، عليكم وحقه، وتجهلون أنه لا تجوز العبادة إلا لله، (سبحانه).
قال ابن جريج {على أَصْنَامٍ لَّهُمْ}، تماثيل بقر. ومن أجل ذلك شبه عليهم السامري بالعجل.
يريد أنه من تلك البقر التي ريأتموها تعبد. فعبدوه أربعين يوماً.
وهؤلاء القوم الذين مروا بهم عاكفون على عبادة الأصنام، قيل: هم من لخَمْ. قاله قتادة.(4/2530)
وقيل: بل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى (عليه السلام)، بقتالهم.
قوله: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ (وَبَاطِلٌ)}.
هذا خبر من الله ( عز وجل) ، عن قول موسى (عليه السلام)، لقومه.
و {مُتَبَّرٌ}: مُهْلَكٌ، وباطل عملهم.
وقال ابن عباس {مُتَبَّرٌ}: خُسْران.
ومعنى {مُتَبَّرٌ}، عند أهل اللغة: مُهْلَكٌ ومُدَمَّر.(4/2531)
ثم قال لهم موسى: {أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها}.
أي: أسوى أطلب لكم مَعْبُوداً، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين}، أي: عالم عصركم.
ثم قال تعالى مخاطباً اليهود الذين بين ظَهْرَانيَ النبي، يقرعهم بما فعل بآبائهم: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ}، أي: واذكروا مع ما قلتم لموسى، (عليه السلام)، بعدما رأيتم من الآيات والعبر، {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب}، أي: يحملونكم على أقبح العذاب.
وقيل معناه: يولونكم.
ثم بينهما هو، فقال: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ(4/2532)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
[عَظِيمٌ]}، (أي): اختبار من الله لكم.
وقيل: معناه: نعمة عظيمة، يعني: في إنجائه لهم.
ف: " الَبَلاَء " ها هنا يصلح أن يكون النِّعْمَة على إنجائهم. ويصلح أن يكون الاختيار فيما تولى منهم فرعون.
قوله: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً}، الآية.
قال الكلبي: لما قطع موسى (عليه السلام)، البحر ببني إسرائيل وغَرَّق الله (سبحانه)، فرعون، قالت بنو إسرائيل (لموسى) /: يا موسى، ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر، فاختار موسى (عليه السلام) قومه سبعين(4/2533)
رجلاً لينطلقوا معه، فلما تجهزا قال الله (تعالى) لموسى: أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بشعر. فلما خرج موسى (عليه السلام) بالسبعين، أمرهم أن يتنظروه في أسفل الجبل وصعد موسى الجبل، فكلمه الله أربعين [يوماً وأربعين] ليلة، وكتب له فيها الألواح. ثم إن بني إسرائيل عدّوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فقالوا: قد أخلفنا موسى الوعد. وجعل لهم السامري العجل فعبدوه.
وقال ابن جريج: لما نَجَّى الله موسى، (عليه السلام)، وأغرق فرعون وقومه، أمره ربه، ( عز وجل) ، أن يلقاه، فلما أراد أن يلقاه استخلف هارون على قومه، ووعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثن ليلة، ميعاداً من قِبَلِهِ، فلما تمت [ثلاثين] ليلة قال إبليس للسامري: ليس يأتيكم موسى؛ وما يصلحكم إلا إله تعبدونه! فناشدهم هارون ألا يفعلوا. وأحدث الله، تعالى، لموسى (عليه السلام) بعد الثلاثين أجلاً آخر إلى عشر ليال.(4/2534)
وقيل: إن السامري قال لهارون: يا نبي الله، إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حَلْيً كثيراً، وإن الجند الذين معك قد أسرعوا في الحَلْيِ يبيعونه، وإنما كان عاريةً من آل فرعون، وقد ماتوا، ولعل أخاك موسى إذا أتى يكون له فيه رأي، فإما أن يقربها قرباناً تأكلها النار، وإما أن يجعلها للفقراء دون الأغنياء! فقال له هارون: نعم ما قلت! فأمر بجمعها، وقال: يا سامري، أنت أحق من كانت عنده هذه الخزانة! فقبضها السامي، وكان صَائِغاً فصاغ منها عِجْلاً جَسَداً، ثم قذف في جوفه تُرْبَةً من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل (عليه السلام)، فجعل يخور، وقال لبني إسرائيل: إنما تخلف موسى بعد الثلاثين يلتمس هذا: {هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} [طه: 88]، يقول: إنَّ موسى نسي ربه.
وقيل: إنه أمره الله أن يصوم ثلاثون يوماً، ويعمل فيها بما يقربه إليه، ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها.(4/2535)
وقيل: لما صام [موسى] ثلاثين يوماً ذكر خَلُوف فيه فاستاك بعود خَرُّوبٍ، فقالت [له] الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك، وزيدت عليه العشر ليال.
يقال: خلف الله عليكم بخير: إذا مات لهم من لا يُعْتَاضُ منه، مثل الوالدين. وأَخْلَفَ الله عليكم بخير: إذا مات من يُعْتَاض منه، كالزوجة وشبهها.
قوله: {وَأَصْلِحْ}. أي: لا تدع العجل يعبد.(4/2536)
وقيل المعنى: أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله، ( عز وجل) .
{ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين}. أي: لا تسلك طريقهم.
قال مجاهد الثلاثون ليلة: والقعدة، والعشر: عشر من ذي الحجة.
وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، دل (به) على أن " العشر ": ليال، (وأنها ليست) بساعات.(4/2537)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
وقيل: توكيد.
وقيل: هو بمنزلة قولك إذا جملت الأعداد: فذلك كذا وكذا، أي: ليس بعد ذلك عدد.
وقيل: إنما أعاد ذكر الأربعين لرفع اللَّبس؛ لأن العشر يحتمل أن تكون لغير المواعدة، فلما أعاد ذكر الأربعين مع لفظ المواعدة دل على أنها داخلة مع الثلاثين في المواعدة، وأن زمن المواعدة أربعون ليلة، ولو لم يعد ذكر الأربعين/ مع المواعدة لجاز أن يكون زمن المواعدة ثلاثين ليلة، والعشر لغير المواعدة، فبين ذلك بإعادة الأربعين.
قوله: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، الآية.
(ومعنى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ})، أي: أفهمه ما شاء من كلامه الذي ليس ككلام المخلوقين الي [هو] حركات اللسان وظهور الأصوات، فكلامه، عز وجل، ليس(4/2538)
ككلام الآدميين، إذ ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، وعلينا أن نقف حيث انتهى بنا العلم، ولا نُكَيّفُ وَنَحُدُّ، ونسلم الأمر لله، ( عز وجل) ، ونقول كما قال، ولا نشبه؛ لأنه، تعالى، قد نفى التشبيه [كله] بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ومن لم يمد {دَكّاً}، جعله مصدر دَكَكْتَهُ: إذا كسَّرته وفتته. ومعناه: جعله مُفَتَتاً كالتراب والمَدَر. وشاهده قوله: {[إِذَا] دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} [الفجر: 21] ٍ،
وقوله: {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14]، فتقديره: جعله مدكوكاً، ثم أقام المصدر مقام اسم المفعول.(4/2539)
وقيل: إن قوله: {جَعَلَهُ دَكّاً}، مثل: دُكَّه دُكَاً، فهو مصدر قد عمل فيه فعل من غير لفظه، فهو محمول على المعنى.
ومن مد {دَكّاً}، فمعناه: جعله: " مِثْل دَكَّاء "، ثم حذف مثل، (وأجراه مُجْرى): {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وهو قول الأخفش.
وقال قطرب المعنى: جعله أرضاً دكاء، ثم أقام الصفة مُقام الموصوف مثل: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83].(4/2540)
وقال الفراء: {دَكّاً} و {دَكّاً} مثل: " البَأْس " [والبَأْسَاء]، كأنه جعله بمعنى واحد.
ومعنى الآية: قال الربيع في قوله، تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52]، حدثني بعض من لقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قُرَّبه الرب، تعالى، إليه حتى سَمِعَ صَرِيفَ القَلَمِ، فقال عند ذلك من الشوق: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي}.
قال السدي: لما كلمه، أحب أن ينظر إليه، فقال له: {لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، فَحَفَّ الله حول الجبل ملائكته، وحَفَّ حول الملائكة بنار، وحَفَّ حول النار بملائكة، وحَفَّ حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل.
وقال أبو بكر الهذلي: تخلف موسى بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله، سبحانه، اشتاق إلى النظر إليه فقال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي}،(4/2541)
(أي): ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا؛ فإن نم نظر إليّ مات، قال: إلهي، سمعت كلامك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأَن أنظر إليك ثم أموت، أحبّ إلي من أن أعيش ولا أراك: قال: فانظر {إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}.
قال مجاهد: يعني أنه أكبر منك، وأشد خلقاً، فنظر موسى، (عليه السلام)، إلى الجبل لا يتمالك [و] أقبل يَنْدَكُّ على أوله. فلما رأى موسى (عليه السلام) ما يصنع الجبل، خَرَّ صَعِقاً.
وقال الحسن: لما كلمه ربه دخل قَلْبَ موسى، صلى الله عليه وسلم، من السرور من كلام الله ( صلى الله عليه وسلم) ، ما لم يصل إلى قلبه مثله قط.
فدعت موسى (عليه السلام)، نفسه(4/2542)
[إلى] أن يسأل ربه ( عز وجل) ، أن يريه نفسه، تبارك وتعالى، ولو كان عَهِدَ إليه قبل ذلك أنه لا يرى، ما سأله ذلك.
ويروي: أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه ربه عز وجل أربعين ليلة لا يراه [أحد] إلا مات من نور رب العزة.
قال وهب: كلم الله (سبحانه)، موسى في ألف مقام، فكان إذا كلمه الله، (سبحانه) رئي النور على وجهه ثلاثاً، وما قرب موسى، عليه السلام النساء مذ كلمه [الله]، جل وعز.
قوله: {فَلَمَّا تجلى/ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}.(4/2543)
أي: اطلع (إلى) الجبل، {جَعَلَهُ دَكّاً}، أي مستوياً بالأرض {وَخَرَّ موسى صَعِقاً}، أي: مغشياً عليه لم يمت.
قال ابن عباس: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر، {جَعَلَهُ دَكّاً}، أي: تراباً.
وقال قتادة: {صَعِقاً}، [أي]: ميتاً.
وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر.
وقال أبو بكر الهذلي: انقعر الجبل فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.(4/2544)
وروى سفيان الثوري عن الكلبي [أنه] قال: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر الذي تحت الأرضين السَّبْع، فهو يهوي إلى يوم القيامة.
وقال القُتْبي: {دَكّاً} ألصقه بالأرض.
يقال: " نَاقَةٌ دَكَّاء ": إذا لم يكن لها سَنَامٌ.
وقيل معنى دَكَكْتُ: دَقَقْتُ. أبدل من القافين كافان لقرب مخرجيهما.
وكان الطبري يختار قراءة: (دكاء) بالمد؛ لأنه قد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه (قال): " ساخ الجبل "، ولم يقل: " تفتت "، ولا " تحول تراباً ". وإذا ساخ(4/2545)
وذهب ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة (الناقة) التي ذهب سنامها.
قوله: {فَلَمَّآ أَفَاقَ}.
أي: من غشيته، {قَالَ سُبْحَانَكَ}، أي: تنزيهاً لك، يا رب، أن يراك أَحَدٌ في الدنيا، ثم يعيش، {تُبْتُ إِلَيْكَ}، عن مسألتي إياك الرؤية في الدنيا، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين}، أي: أولهم أنَّكَ لاَ تُرَى فِي الدُّنْيا.
قال ابن عباس: مرت الملائكة بموسى وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحُيَّض، لقد سألت ربك شيئاً عظيماً! فقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ}، من سؤالي الرؤية في الدنيا، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي أول من يؤمن، أي: يصدق بأنه لاَ يَرَاكَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ فِي الدُّنْيا.
قال ابن عباس: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين}، أي: أول من آمن بك من بني إسرائيل.
وقال مجاهد: وأنا أول قومي إيماناً.(4/2546)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قوله: {قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس}، الآية.
والمعنى: اخترتك على الناس، {بِرِسَالاَتِي} التي أرسلتك بها إليهم {وَبِكَلاَمِي}، الذي ناجيتك به دون غيرك من خلقي، {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ}، أي: (خذ) ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به، واعمل به، {وَكُنْ مِّنَ الشاكرين}، على ما فضلتك به.
قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ}، إلى قوله: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
المعنى: وكتبنا لموسى في ألواحه {مِن كُلِّ شَيْءٍ}، من التذكير والتنبيه على نعم الله، (تعالى)، وعظمته وسلطانه ومن المواعظ لقومه ومن الأمر بالعمل بما فيها، {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي: تبييناً لكل شيء من أمر الله (سبحانه)، في الحلال والحرام.(4/2547)
ومعنى: {مِن كُلِّ شَيْءٍ}، (أي): من كل شيء يحتاج إليه من أمر الدين.
قال ابن عباس: إن موسى (عليه السلام)، لما كَرَبَهُ المَوْتُ، قال: هذا من أجل آدم! أنزلنا هاهنا! قال الله: يا موسى، أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله، جل وعز، آدم عليه السلام، سأله موسى، (عليه السلام)، فقال أبونا آدم (عليه السلام)،: يا موسى، سألت الله أن يبعثني إليك! قال موسى لولا أنت لم تكن ها هنا! قال له آدم (عليه السلام): [أليس] قد أتاك الله من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء أفلست تعلم أن {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كتاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22]، قال موسى: نعم، فخصمه (آدم عليه السلام).(4/2548)
قوله: {بِقُوَّةٍ}.
أي: بِجِدَّ.
وقيل: بالطاعة.
ف: " الهاء " في " خُذْها " و " أَحْسَنها "، تعود على {الألواح}.
وقيل: على " التوراة ".
{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا}.
أي: بأحسن ما يجدون فيها، وذلك أن يعملوا بما أمرهم ولا يعلموا بما نهاهم/ عنه.
فمعنى {بِأَحْسَنِهَا}: ليس أنهم يتركون شيئاً من الحسن، إنما يعملون بالمعروف(4/2549)
ولا يعملون بالمنكر.
وقيل: المعنى: {بِأَحْسَنِهَا} لهم، وهو العمل بما أمروا به، والانتهاء عما نُهُوْا.
وقيل: ليس أفعل للتفضيل، إنما هو [بمعنى] اسم الفاعل، كما قيل: " الله أَكْبَرُ " بمعنى: كبير. فالمعنى: يأخذوا بالحسن من ناحيتها وجنسها وما يدخل تحتها (به).
وقيل: إن المعنى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} يعملون بأحسن ما هو لهم مطلق مثل: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41]. ثم قال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]. فالانتقام جائز، (والعفو جائز)، والعفو أحسن، فكذلك أمروا أن يعملوا بأحسن ما أُبِيحَ لهم فعله.
وقيل المعنى: إن التوراة كلها حسنة لكن فيها: أقاصيص الإحسان، والإساءة والطاعة، والمعصية، والفعو، والنقمة، فأمروا أن يأخذوا بأحسن هذه الأفعال التي نُصَّتْ عليهم. ومنه قوله: {يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. فإن قيل: إن فيها حكاية الكفر، والشرك، " وأفعل " يوجب التفضيل، فهل في هذا حسن دون(4/2550)
غيره، فذلك جائز كما قال: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221].
وقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين}.
(هو) تهديد وتوعد لمن لم يأخذ بأحسنها وخالف ما فيها، والكلام، دَلَّ على ذلك.
و {دَارَ الفاسقين}: النّار. وهو قول مجاهد، والحسن.
وقال قتادة {دَارَ الفاسقين}: منازل الكافرين الذين سكنوا قبلهم من الجبابرة والعمالقة، وهي الشام.
وقيل المعنى: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ [الفاسقين]}، فرعون وقومه، وهي مصر.(4/2551)
قال ابن جبير: رفعت لموسى، (عليه السلام)، (حتى) نظر إليها.
قال قتادة: {دَارَ الفاسقين}، منازلهم التي كانوا يكسنونها تحت يدي فرعون.
وقيل: المعنى: {سَأُوْرِيكُمْ} مصير الفاسقين في الآخرة، وما أعد لهم من أليم العذاب.
وقوله: {سَأَصْرِفُ [عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض]}، [الآية].
أي: أحرمهم فهم القرآن، أي سأنزع منهم فهم الكتاب.
قاله سفيان بن عُيَيْنَة.(4/2552)
وقال ابن جريج: سأصرفهم عن أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وأن يعتبروا بها.
وقيل معناه: سأمنع قلوبهم من الفكرة في أمري.
وقال أبو إسحاق المعنى: سأجعل جزاءهم، في الدنيا على كفرهم، الإضلال عن هدايتي.
وقال الحسن المعنى: سأصرفهم عنها، حتى لا يؤمنوا بها.
ومعنى {يَتَكَبَّرُونَ}، أي: يحقرون الناس، ويروا أن لهم فضلاً عليهم،(4/2553)
ويتكبرون عن الإيمان بالقرآن والنبي، ( صلى الله عليه وسلم) .
{ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}.
أي: وإن يروا كل حجة لا يصدقوا بها، ويقولون: هي سِحْرٌ وَكَذِبٌ.
{وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}.
أي: وإن يروا طريق الهدى لا يتخذوه طريقاً لأنفسهم.
و {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}.
أي: وإن (يروا) طريق الهلاك والعطب يتخذوه لأنفسهم.
ثم قال تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} آية.
أي: فعلنا بهم أن صرفناهم عن آياتنا، من أجل أنهم {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ(4/2554)
عَنْهَا غَافِلِينَ}، أي: لا يتفكرون فيها، لا هين عنها.
و (الرُّشْدُ) و (الرَّشَدُ): لغتان.
وحُكِيَ عن ابن عمرو [بن العلاء] أنه قال: (الرُّشْدُ): الصلاح، والرَّشَد) في الدّينِ.
ثم قال تعالى/: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة}، الآية.
المعنى: وكل مكذب بالقرآن، والأدلة على توحيد الله، ( عز وجل) ، وينكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم) ، والبعث، {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، أي: بطلت.(4/2555)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
(أعمالهم) وذهبت {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، أي: إلا ثواب عملهم في الآخرة.
قوله: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ (عِجْلاً)} إلى قوله: {مِنَ الخاسرين}.
قوله: {حُلِيِّهِمْ}، واحده: حَلْيٌ، مثل: فَعْلٌ. وباب " فَعْلٌ " أن يجمع في أكثر العدد على: فَعُول، فأصله: حُلُويٌّ، ك " قَلْب وقُلُوب "، ثم أدغمت الواو في الياء لسكونها قبلها، فصارت " حُلُيُّ " فاجتمع ضمان، بعدهما ياء شديدة، فاستثقل ذلك، فكسرت " اللام "، وبقيت " الحاء " على ضمتها لتدل على أنه جمع، [و] على أن الأصل في " اللام " الضم، إذ ليس في الكلام " فِعَيل ".(4/2556)
ومن كسر " الحاء "، أتبعها كسرة " اللام " ليعمل اللسان من حَيِّزٍ وَاحِدٍ.
والمعنى: إن بني إسرائيل اتخذوا العجل الذي صاغ لهم السامريّ إلها، بعدمضي موسى (عليه السلام)، إلى ميقات ربه، ( عز وجل) ، وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى قد نسيه عندكم، ومضي يطلبه، وكان قد صاغه لهم من حَلْي بني إسرائيل الذي استعاروه من القِبْط، إذ خرجوا مع موسى، (صلى الله لعيه وسلم)، وروي أن موسى أمرهم بذلك.
ومعنى: {جَسَداً}، لا رأس له. قيل: كان جثة لا رأس له. وقيل: معنى: {جَسَداً}، أي جثة لا يعقل ولا يميز.(4/2557)
{لَّهُ خُوَارٌ}.
أي: صوت البقر، فَضَلَّ هؤلاء بما لا يجوز أن يَضِلَّ به أهل العقول.
{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}.
أي: لا يرشدهم طريقاً ولا بكلمهم، وليس هذا من صفات الرب الذي له العبادة، بل صفته أنه يكلم أنبياءه، ويرشدهم إلى طريق الخير.
ثم قال تعالى: {اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ}.
أي: اتخذوا العجل إلها، {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} في ذلك، أي: واضعين الشيء في غير موضعه.
{جَسَداً}، وقف عند نافع. والحسن أن يوقف على: {لَّهُ خُوَارٌ}؛ لأنه من صفته.(4/2558)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ}.
أي: ندموا على عبادته، {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ}، أي: علموا أنهم ضالون في عبادة العجل جائزون عن قصد السبيل، إذ عاينوه وقد حرق بالمِبْرَجِ ونسف في البحر، وهو لا يمنع ولا يدفع، {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا}، أي: يتعطف علينا بالتوبة. {وَيَغْفِرْ لَنَا}، أي: ما جنيناه من عبادة العجل، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}، فأبى الله، تعالى، أن يقبل توبتهم إلا أن يقتلوا أنفسهم، على ما ذُكِرَ في سورة البقرة.(4/2559)
وفي حرف أُبَيٍ: " قالوا رَبَّنَا لَئِنْ لمْ تَرْحَمْنَا وَتَغَفِرْ لَنَ "، وهو شاهد لمن قرأ بـ: " التاء "، ونصب: {رَبُّنَا}. وله وجه آخر، وهو أن الدعاء يتضمن الخبر، ففيه معنيان، والخبر لا يتضمن الدعاء إنما فيه معنى واحد، فالنداء أبلغ.
وقرئ: "ولما سقط ", بفتح السين: بمعنى: سقط الندم (فى ايديهم).(4/2560)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان}، الآية.
كان هارون أخا موسى (عليه السلام)، شقيقه، وإنما قال له: {ابن أُمَّ}، لى طريق الاستعطاف بالرحم.
فمن قرأ ي {ابن أُمَّ}، بالفتح، فالتقدير عند الكسائي، والفراء، وأبي عبيد: يا ابن أماه، ثم حذف.
وهو عند البصريين يبنى ك " خَمْسَةَ عَشَرَ ".(4/2561)
ومن كسر " الميم "، فقال أبو حاتم، والأخفش: حذف الياء لدلالة الكسرة عليها، وهي لغة لبعض العرب، يقولون: يا غُلاَمَ غُلاَمِ أَقْبِل.
وحكى الأخفش: هذا غُلاَمِ يا هذا، بغير ياء في غُلاَمِي.
وأحسن منه عند أهل النظر: أن يكون بناء الاسمين اسماً واحداً، ثم أضافه بعد ذلك.
وشبه أبو عمرو الفتح بقولهم: هُوَ جَارِي بَيْتَ بَيْتَ، ولقيته كِفَّةَ كِفَّةَ يا فتى.(4/2562)