ـ[الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه]ـ
المؤلف: أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي (المتوفى: 437هـ)
المحقق: مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة، بإشراف أ. د: الشاهد البوشيخي
الناشر: مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة
الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م
عدد الأجزاء: 13 (12، ومجلد للفهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير](/)
أصل هذا الكتاب: مجموعة رسائل جامعية للأساتذة الباحثين التالية أسماؤهم [تكفل كل باحث بتحقيق خمسة أحزاب]
زارة صالح - محمد علي بنصر
الحسن بوقيسي - الحسين عاصم
محمد عبد الحق حنشي - مولاي عمر بن حماد
أصبان إبراهيم - عز الدين جوليد
عبد العزيز اليعكوبي - مصطفى رياح
مصطفى الصمدي - فوضيل مصطفى
تحت إشراف
أ. د. الشاهد البوشيخي(/)
[من مقدمة التحقيق] (*)
[ترجمة المؤلف]
حياته (1)
اسمه ونسبه:
هو أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش (2) بن محمد بن مختار القيسي القيرواني القرطبي (3).
مولده وأسرته ونشأته:
ولد سنة 355 هـ بالقيروان ونشأ بها مثل أترابه على تلقي القرآن الكريم في الكتّاب، واختلف إلى حلقات العلم في المساجد لتلقي علوم العربية والعلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه على علماء عصره، ولا نعرف الكثير عن أسرته وإن كانت
ذات مكانة اجتماعية دفعت بولدها لتلقي العلم والرحلة من أجله، ولا نعرف شيئاً عن أبويه ولا عن إخوته، ولا عن أسرته الخاصة إلا ولده محمد الذي ولد سنة 414 هـ وقد بلغ أبوه 59 سنة، وسار الولد على نهج أبيه فتتلمذ عليه، وهذا يعني أن ظروف حياة مكي الأولى في أسرته كانت تعين على الدرس والتأليف والتعليم.
__________
(1) راجع ترجمته في: جذوة المقتبس ص 561، الصلة ص 632، بغية الملتمس ص 469، معجم الأدباء19/ 167، ترتيب المدارك 8/ 13، إنباه الرواة 3/ 313، العبر 2/ 273، سير أعلام النبلاء 17/ 59، معرفة القراء الكبار 1/ 394، وفيات الأعيان 5/ 274، الديباج المذهب 2/ 342، غاية النهاية 2/ 9 " 3، النجوم الزاهرة 5/ 41، شجرة النور الزكية ص 107، بغية الوعاة 2/ 298، طبقات المفسرين 2/ 337، شذرات الذهب 3/ 260، مفتاح السعادة 2/ 74.
(2) تصغير محمد عند المغاربة.
(3) القيسي نسبة إلى قيس عيلان من وائل كانت تقيم في اليمن، وانتشروا في بلاد إفريقيا، والقيرواني لمكان مولده، والقرطبي حيث عاش شطر عمره فيها.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نسخت هذا الجزء من مقدمة التحقيق لفائدته(1/10)
رحلاته ووفاته:
تلقى علومه الأولى عن شيوخ وعلماء القيروان، ورحل إلى مصر سنة 368 هـ وعمره 13 سنة ودرس علوم الحساب والآداب مدة ست سنوات، ثم رجع إلى
القيروان سنة 374 هـ واستكمل علوم القرآن والقراءة، ثم عاد إلى مصر ثانية سنة 377 هـ، وحج إلى بيت الله الحرام وابتدأ بعلم القراءات سنة 378 هـ إلى سنة 379 هـ، ثم رجع إلى القيروان وحفظ القرآن ورحل إلى مصر ثالثة سنة 382، ثم عاد سنة 383 هـ وأقام مقرئاً ومدرسا وعمره 28 سنة، ثم رجع إلى مكة سنة 387 هـ مقيماَّ إلى سنة 395 هـ سمع خلالها من أكابر علماء مكة، وحج أربع مرات متوالية، ثم عاد إلى بلده القيروان سنة 392 هـ مروراً بمصر.
وكانت رحلته إلى الأندلس سنة 399 هـ حيث جلس بمجلس النخيلة إلى أن نقله المظفر عبد الملك إلى جامع الزاهرة، ثم نقله محمد بن هشام إلى المسجد الجامع بقرطبة، أقام في قرطبة شطر حياته إلى أن وافته منيته سنة 437 هـ ودفن بالربض.
وهكذا نخلص إلى أن مكياً قضى 11 سنة بالقيروان بعد أول سفرة إلى مصر، و 10 سنوات بمصر، و 4 سنوات في الحجاز، وبقية عمره وهي 44 سنة في قرطبة.
صفاته وأخلاقه (1) وعقيدته وفقهه
أجمعت كتب التراجم على وصفه بالتواضع والزهد والصلاح وإجابة الدعوة، قال عنه صاحبه أبو عمرو أحمد المقرئ: "كان رحمه الله حسن الفهم والخلق جيد الدين والعقل (2) يقول عنه الذهبي: "كان مع ذلك ديّناَ فَاضلاً تقيا صواما متواضعاً عالماً
__________
(1) راجع ترتيب المدارك 4/ 738، الديباج ص 346.
(2) الصلة 2/ 597، بغية الوعاة 2/ 298.(1/11)
قواما مجاب الدعوة، وكانت تحفظ له كرامات وإجابة دعوات (1) ومن الأخلاق التي دعا إليها في حامل القرآن: "الابتعاد عن الرياء والإخلاص لله والتوكل عليه والاستعانة به والرغبة إليه و. . " (2).
ويمكن معرفة عقيدته السلفية من تفسيره لآيات الصفات، فهو يجريها على ظواهرها مع اعتقاد حقيقتها دون تعطيل أو تمثيل أو تشبيه بين الله ومخلوقاته فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (3) يقول: وأحسن الأقوال في هذه "علا"
والذي يعتقده أهل السنة ويقولونه في هذا أن الله- جل ذكره- فوق سمواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، وله- تعالى ذكره- كرسي وسع السموات والأرض. ومثل ذلك في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (4)، يقول: "ويجب أن نعتقد أن صفات الله جل ذكره بخلاف صفات المخلوقين، فلا نعتقد إلا أن الإتيان والمجيء من الله تبارك وتعالى صفة وصف بها نفسه لا إتيان انتقال وتغير حال تعالى الله عن ذلك" (5)
أما مذهبه الفقهي فقد كان مالكياً آخذاً ذلك عن شيخه أبي الحسن القابسي في القيروان وعدّه ابن فرحون من أعيان المذهب المالكي من الطبقة الثامنة (6)، وترجم له القاضي عياض باعتباره من أعلام المذهب المالكي (7)، وفي مؤلفاته كتب ورسائل في
الفقه المالكي، لكنه لم يكن فيها ولا في تفسيره الهداية متعصباً لمذهبه.
__________
(1) معرفة القراء1/ 316.
(2) الرعاية لتجويد القراءة. ص 84.
(3) الرحمن آية 4، وراجع تفسيره الآية في سورة الحديد: (ثم استوى على العرش).
(4) البقرة آية 208.
(5) تفسير الهداية للآية، وراجع تفسير آية الكرسي 254 من البقرة.
(6) الديباج المذهب 2/ 342.
(7) راجع ترتيب المدارك 3/ 737.(1/12)
مكانته العلمية:
تسنم الإمام مكي مكانة رفيعة بين علماء عصره، وكانت له الدرجة الرفيعة في التفسير والقراءات حتى عرف بصاحب التفسير: "وغلب عليه علم القرآن وكان من الراسخين فيه" (1)، ويصفه الحميدي بالإمامة في القراءات (2)، وذكره ابن جزي الكلبي
في مقدمة تفسيره بالمقرئ (3) ويقول القاضي عياض: "كان مع رسوخه في علم القراءات وتفننه فيه نحويا لغوياً فقيها راوية ... ومقرئا أديبا" (4)، وعدّه مع القاضي عياض اليافعي والسيوطي من رجال اللغة والنحو، ووصفه ابن الأنباري بالشهرة في
النحو (5)، وهو عند الحموي والسيوطي: نحوي لغوي مقرئ (6)، ويراه الذهبي شيخ الأندلس ومقرئها وخطيبها ممن رحل إلى مصر وروى القراءات ودخل بها إلى الأندلس (7).
وفضلاً عن ذلك فله نشاط في الفقه إذ ألف الهداية في الفقه وله في الحج والفرائض (8)، وله نشاط في علم الكلام والرؤيا (9)، وله حظ في الأدب، ووصل شيء من شعره في الرد على الصوفية (10).
__________
(1) راجع طبقات المفسرين 2/ 231.
(2) راجع جذوة المقتبس ص 329.
(3) راجع التسهيل 1/ 10.
(4) ترتيب الندارك 4/ 737.
(5) نزهة الألباء ص 254.
(6) معجم الأدباء 19/ 167، بغية الوعاة 2/ 298.
(7) العبر 3/ 187
(8) راجع إنباه الرواة 3/ 317، معجم الأدباء19/ 168.
(9) راجع وفيات الأعيان 5/ 276، هدية العارفين 2/ 471.
(10) راجع طبقات المفسرين 2/ 231، وأورد قصيدته القفطي في إنباه الرواة 3/ 319.(1/13)
شيوخه:
درس على عدد كبير من العلماء في موطنه القيروان، ثم في مصر ومكة وقرطبة.
من شيوخه في القيروان (1):
1 - أبو الحسن علي بن محمد القابسي، ت 453 هـ، وعنه أخذ الفقه المالكي.
2 - أبو عبد الله محمد بن جعفر القزاز، ت 412 هـ.
3 - أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني الفقيه، ت 386 هـ.
ومن شيوخه في مصر (2):
1 - أبو بكر محمد بن علي الأدفوي المصري المقرئ، ت 388 هـ.
2 - عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي المقرئ، ت 389 هـ.
3 - عبد العزيز بن علي بن محمد أبو عدي المصري، ت 381 هـ.
4 - أبو الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون، ت 399 هـ.
ومن شيوخه بمكة المكرمة (3):
أ- أبو بكر أحمد بن إبراهيم الروزي.
2 - أحمد بن فراس العبقسي، ت 456 هـ.
3 - أبو الطاهر محمد بن محمد العجيفي.
4 - أبو القاسم عبيد الله السقطي.
5 - أبو الحسن بن زريق البغدادي.
__________
(1) راجع وفيات العيان 3/ 320، بغية الوعاة 1/ 71، الصلة 632.
(2) راجع طبقات القراء2/ 198، 1/ 470، 394، 399.
(3) راجع الصلة ص 631 - 632، ترتيب المدارك 8/ 13، غاية النهاية 1/ 115.(1/14)
6 - أبو العباس السوي.
7 - أحمد بن محمد بن زكريا البسري.
ومن شيوخه بقرطبة (1)،
1 - عبد الرحمن بن عثمان بن عفان القشيري، ت 395 هـ.
2 - سعيد بن رشق الزاهد ت 415 هـ.
3 - يونس بن عبد الله بن مغيث قائد الجماعة، ت 420 هـ.
تلاميذه (2):
اجتمع حول الإمام مكي بقرطبة في مسجد النخيلة والزهراء والمسجد الجامع طلاب العلم وحفت المجالس به فانتفع به عدد كبير من الطلاب في فروع العلم المختلفة، وخاصة القراءات والتفسير، وهذه أسماء من ذكروا في كتب التراجم والطبقات، وأهمها كتاب الصلة لابن بشكوال:
1 - إبراهيم بن محمد الأسدي المقرئ، ت 462 هـ.
2 - أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الحق الخزرجي المقرئ، ت 511 هـ.
3 - أحمد بن محمد بن خالد الكلاعي المقرئ، ت 432 هـ.
4 - أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني، ت نحو 558 هـ.
5 - أيمن بن خالد بن أيمن الأنصاري، ت 432 هـ.
__________
(1) راجع الصلة ص 305، 215، 684.
(2) راجع في أسماء تلامذته بحسب ورودهم: الصلة ص 96، 74، 48، 73، 113، 116، 115، 172، 179، 129، 200 271، 281، 263، 285، 286، 290.540، 343، 368، 360، 363، 445، 423، 421، 438، 463، 548، 538، 546، 541، 564، 554، 555، 552، 614، 580. 670.(1/15)
6 - بقي بن قاسم بن عبد الرؤوف.
7 - بكر بن عيسى بن سعيد الكندي الزاهد، ت 454 هـ.
8 - جعفر بن محمد بن مكي بن أبي طالب، وهو حفيد مكي، ت 535 هـ.
9 - حازم بن محمد بن حازم المخزومي، ت 496 هـ.
10 - خلف بن عمر بن خلف التجيبي ابن أخي القاضي أبي الوليد الباجي، أبو القاسم، ت 485 هـ،
11 - سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الباجي المالكي الحافظ، أبو الوليد، ت 474 هـ.
12 - عاصم بن أيوب الأديب، ت 494 هـ.
13 - عبد الله بن سعيد بن حكم الزاهد، ت 552 هـ.
14 - عبد الله بن سهل بن يوسف الأنصاري، ت 485 هـ.
15 - عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي ابن العسال، ت 487 هـ.
16 - عبد الله بن محمد بن سليمان ابن الحاج، ت 419 هـ.
17 - عبد الله بن محمد بن عباس ابن الدباغ، ت 463 هـ.
18 - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن القيسي، ت 436 هـ.
19 - عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الصنهاجي ابن اللبان، ت 480 هـ.
20 - عبد العزيز بن أحمد اليحصبي، ت 450 هـ.
21 - عبد الملك بن زيادة الله بن علي، ت 455 هـ.
22 - عبد الملك بن سراج، ت 489 هـ.
23 - العلاء بن أبي المغيرة الفارسي، ت 454 هـ.
24 - علي بن أحمد بن أبي الفرج الأموي.(1/16)
25 - علي بن عبد الله الجذامي المقرئ، ت 483 هـ.
26 - عيسى بن خيرة أبو الإصبغ، ت 487 هـ،
27 - عيسى بن سهل الأسدي، أصله من جيان، محدث فقيه قاض، ت 486 هـ.
28 - فرج بن عبد الملك الأنصاري، من جيان، ت 478 هـ.
29 - محمد بن أحمد المعارفي المقرئ، ت 469 هـ.
35 - محمد بن أحمد بن مطرف الكناني المقرئ، ت 454 هـ.
31 - محمد بن جوهر بن محمد بن جوهر، ت 462 هـ.
32 - محمد بن الحبيب بن طاهر الغافقي، ت 459 هـ.
33 - محمد بن شريح الرعيني، من إشبيلية، ت 476 هـ.
34 - محمد بن عيسى بن فرج التجيبي المقرئ، ت 485 هـ.
35 - محمد بن فرج مولى محمد بن يحى البكري، ت 497 هـ.
36 - محمد بن محمد أصبغ الأسدي، ت 477 هـ.
37 - محمد بن محمد بشير المعافري، ت 481 هـ.
38 - محمد بن مكي بن أبي طالب (ابنه)، ت 474 هـ.
39 - معاوية بن محمد بن أحمد العقيلي، ت 469 هـ.
45 - موسى بن سليمان اللخمي، ت 494 هـ.
41 - يحيى بن إبراهيم المقرئ، ت 496 هـ.
وهناك عدد آخر ورد ذكرهم في مصادر أخرى (1) وهم:
__________
(1) راجع طبقات القراء 1/ 175، ترتيب المدارك 4/ 738، الصلة ص 171، 377، 335،(1/17)
الأكري، وحاتم بن محمد الطرابلسي، ت 469 هـ، وخلف بن رزق أبو القاسم الأموي، ت 485 هـ، وعبد الرحمن بن خلف أبو المطرف القرطبي، ت 454 هـ، وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، ت 472 هـ، وعبد الرحمن بن محمد بن عتاب،
ت 525 هـ، وعبد الله بن سعيد ابن الحكم الأنصاري، ت 485 هـ، وعبد الله بن يوسف الرهوني، ت 435 هـ، ومحمد بن عتاب أبو عبد الله القرطبي، ت 462 هـ، ومحمد بن المفرج بن إبراهيم ت 494 هـ.
آثاره ومؤلفاته:
كان واسع المعرفة كثير التأليف في العلوم المختلفة لكنه كان متميزاً في التفسير والقراءات في المقام الأول، وقد ذكر عنه ذلك من ترجموا له، فهو المفسر والمقرئ، وله حظ كبير في العلوم الإسلامية الأخرى، وهذه قائمة مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة:
المطبوعة: وهي في علوم القرآن القراءات والتفسير:
1 - الإبانة عن معاني القراءات. تحقيق د. محيي الدين رمضان سنة 1979 م.
2 - اختصار الوقف على "كلا وبلى ونعم". تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات سنة 1978 م.
3 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه. تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 974 ام.
4 - التبصرة في القراءات. تحقيق د. محيي الدين رمضان سنة 1985 م.
5 - تفسير المشكل من غريب القرآن العظيم. تحقيق د. محيي الدين
__________
= فهرس ابن خير الإشبيلي ص 44، الصلة ص 290، 270، ترتيب المدارك 4/ 810، طبقات القراء 2/ 265.(1/18)
رمضان سنة 1985 م.
6 - تمكين المد في "أتى" و "آمن" و "آدم". تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1984.
7 - الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة. تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1973 م.
8 - شرح "كلا وبلى ونعم" والوقف على كل واحدة منهن في كتاب الله عز وجل. تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1976 م
9 - الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها. تحقيق د. محيي الدين رمضان سنة 1981 م.
10 - مشكل إعراب القرآن. تحقيق د. حاتم صالح الضامن سنة 1973.
11 - الوقف على "كلا وبلى، ونعم". تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1978 م.
غير المطبوعة في علوم القرآن والتفسير (1):
12 - اتفاق القرّاء جزء.
13 - اختصار أحكام القرآن. أربعة أجزاء.
14 - اختصار الإدغام الكبير على ألف، باء، تاء، ثاء، جزء.
15 - اختصار الألفات. جزء.
__________
(1)
وردت في المصادر التي ترجمت له ومنها: الصلة 1/ 523، إنباه الرواة 3/ 315 - 318،
ترتيب المدارك 4/ 738، طبقات القراء 2/ 310، معجم الأدباء 19/ 169، وفيات الأعيان
5/ 276، نزهة الألباء ص 255، فهرسمة ابن خير ص 41، كشف الظنون 1/ 174، 404،
هدية العارفين 2/ 471.(1/19)
16 - الاختلاف القراء في ياءات الإضافة وفي الزوائد. جزء.
17 - الاختلاف بين أبي عمرو وحمزة. جزء.
18 - الاختلاف بين قالون وابن عامر. جزء.
19 - الاختلاف بين قالون وابن كثير. جزء.
20 - الاختلاف بين قالون وأبي عمرو. جزء.
21 - الاختلاف بين قالون وحمزة. جزء.
22 - الاختلاف بين قالون وعاصم. جزء.
23 - الاختلاف بين قالون والكسائي. جزء.
24 - الاختلاف في الرسم من "هؤلاء" والحجة لكل فريق. جزء.
25 - الاختلاف في عدد الأعشار. جزء.
26 - لاختلاف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) جزء
27 - الإدغام الكبير. جزء.
28 - الاستيفاء في قوله: (خالدين فيها ما دامت. . . إلا ما شاء ربك)، جزء.
29 - إصلاح ما أغفله ابن مسرة في قراءات شاذة. جزء.
30 - الإمالة. جزء.
31 - انتخاب نظم القرآن للجرجاني. أربعة أجزاء.
32 - الانتصاف في الرد على أيي بكر الأدفوي فيما زعم من تغليطه في كتاب " الإمالة" ج 1 - 3
33 - الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه. جزء.(1/20)
34 - البيان عن وجوه القراءات في كتاب التبصرة. ألفه سنة 424 هـ.
35 - بيان إعجاز القرآن. جزء.
36 - التبيان في اختلاف قالون وورش. جزء.
37 - التذكرة في اختلاف القراء السبعهّ. جزء.
38 - تسمية الأحزاب.
39 - التنبيه على أصول قراءة نافع وذكر الاختلاف عنه. جزآن.
49 - دعاء خاتمة القرآن.
41 - شرح اختلاف العلماء في الوقوف على قوله تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه)
42 - شرح الاختلاف في قوله: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة)
43 - شرح اختلاف العلماء في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون. . .)
44 - شرح الإدغام الكبير في المخارج. جزء.
45 - شرح الوقف التام. أربعة أجزاء.
46 - شرح رواية الأعشى عن أبي بكر عن عاصم. جزء.
47 - شرح الراءات على قراءة ورش وغيره. جزء.
48 - شرح الفرق لحمزة وهشام. جزء.
49 - شرح قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ. . . فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ. . . ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا. . .) جزء.(1/21)
50 - شرح قوله تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، جزء.
51 - شرح قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ. . . وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ. . .) جزء.
52 - شرح قوله تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ. . .)، جزء.
53 - شرح قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. . .)
54 - شرح معنى الوقف على قوله تعالى (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ. . .)، جزء.
55 - شرح وجوه كشف اللبس التي لبس بها الأنطاكي في المد لورش. ثلاثة أجزاء.
56 - علل هجاء المصاحف. جزء.
57 - فرش الحروف المدغمة. جزآن.
58 - الكافي في القراءات.
59 - المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره. عشرة أجزاء.
60 - مشكل غريب القرآن. ثلاثة أجزاء. وقد ألفه بمكة سنة 389 هـ.
61 - مشكل المعاني والتفسير 15 جزءا.
62 - المنتخب في اختصار الحجة للفارسي. 30 جزءا.
63 - منع الوقف على قوله تعالى (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ. . .)، جزء.(1/22)
64 - الموجز في القراءات. جزءان، ألفه بقرطبة سنة 394 هـ.
65 - الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره. 70 جزءاً، وهو هذا التفسير.
66 - الهداية في الوقف على كلا.
67 - الياءات المشددة في القرآن الكريم. جزء.
في علوم اللغة والأدب:
68 - التذكرة لأصول اللغة العربية ومعرفة العوامل. جزء.
69 - دخول حروف الجر بعضها مكان بعض. جزء
75 - الرياض مجموع. خمسة أجزاء.
71 - اللمع في الإعراب. أربعة أجزاء.
72 - شرح حاجة وحوائج وأصلها. جزء.
73 - شرح العارية والعرية. جزء.
74 - مسائل الأخبار بالذي وبالألف واللام. أربعة أجزاء.
75 - معاني السنين القحطية والأيام. جزء.
76 - منتخب كتاب الإخوان لابن وكيع. جزءان.
77 - المنتقى في الأخبار. أربعة أجزاء.
78 - الوصول إلى تذكرة كتاب الأصول، لابن السراج في النحو. جزء.
في العقيدة والفقه وعلم الكلام والوعظ:
79 - اختلاف العلماء في النفس والروح. جزء.
80 - إسلام الصحابة. جزء.(1/23)
81 - بيان الصغائر والكبائر. جزء.
82 - بيان العمل في الحج من أول الإحرام إلى الزيارة لقبر النبي- صلى الله عليه وسلم -. جزء.
83 - تحميد القراَن وتهليله وتسبيحه.
84 - الترغيب في الصيام. جزء.
85 - الترغيب في النوافل. جزء.
86 - تعدلة التجزئة بين الأئمة في شهر رمضان في قراءة القرآن في الإشفاع. جزء.
87 - تنزيه الملائكة من الذنوب وفضلهم على بني آدم.
88 - التهجد في القرآن. أربعة أجزاء.
89 - الرد على الأئمة فيما يقع في الصلاة من خطأ واللحن في شهر رمضان وغيره. جزء.
90 - شرح إيجاب الجزاء على قاتل الصيد في الحرم خطأ على مذهب مالك والحجة في ذلك. جزء.
91 - فرض الحج على من استطاع إليه سبيلاً. جزء.
92 - ما أغفله القاضي منذر ووهم فيه في كتاب "الأحكام". جزءان.
93 - المبالغة في الذكر. جزء.
94 - المدخل إلى علم الفرائض. جزء.
95 - مسألة الذبيح. جزء.
96 - مناسك الحج. جزء.
97 - منتقى الجوهر في الدعاء. جزء.
98 - الممتع في تعبير الرؤيا.(1/24)
99 - الموعظة المنبهة. جزء.
100 - الهداية في الفقه. جزء.
101 - برنامجه الذي جمع فيه مؤلفاته ومروياته يقول: "سمعت على أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز كتاب "الظاء" من تأليفه من ثلاثة أجزاء وسمعت عليه أكثر "الحروف في النحو" من تأليفه ".
102 - فهرسته: وهي جامعة لرحلته، مشتملة على مروياته وتراجم شيوخه وأسماء تآليفه.
توثيق نسبة التفسير:
يؤكد صحة نسبة التفسير (الهداية) لمكي أمور:
1 - إجماع الصادر التي ترجمت له على نسبة كتاب الهداية إلى مكي، وإن اختلفوا قليلاَ في ذكر عنوان الكتاب إيجازا وتفصيلا، فاقتصر القاضي عياض والسيوطي والداودي وابن مخلوف (1) على اسم (الهداية)، وسماه ابن حزم وياقوت (2): الهداية إلى بلوغ النهاية، وورد مفصلا باسم: (الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأنواع علومه) في المصادر الأخرى
عند ابن خير والقفطي واليافعي وابن خلكان وابن العماد وحاجي خليفة (3)، ويرد أحيانا منسوباً لمؤلفه (تفسير مكي) (4).
2 - إحالة مكي نفسه في تفسيره على كتبه الأخرى مثل: الكشف عن وجوه
__________
(1) راجع مصادرهم توالياً: ترتيب المدارك 4/ 738، طبقات الداودي 2/ 331، بغية الوعاة 2/ 298، شجرة النور الزكية ص 107.
(2) معجم الأدباء19/ 169.
(3) راجع مصادرهم توالياً: فهرسة ما رواه ابن خير ص 49، إنباه الرواة 3/ 315، مرآة الجنان 3/ 58، وفيات الأعيان 5/ 275، شذرات الذهب 3/ 261، كشف الظنون 2/ 2041.
(4) كشف الظنون 1/ 459.(1/25)
القراءات في تفسيره لقوله تعالى: (مالك يوم الدين) حيث يشير إلى أنه بيّن وجوه القراءات فيها "فأغناه ذلك عن الكلام فيها في هذا الكتاب" (1)، وكتابه مشكل إعراب القرآن في إعرابه كلمة (غَيْرِ) من سورة الفاتحة قائلا: "وقد شرحت هذا في كتاب مشكل الإعراب بأشبع من هذا" (2)، وكتابه الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه عند بيانه لمعنى النسخ في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) (3).
والعكس في إحالته في كتبه الأخرى على تفسيره الهداية حيث يشير في كتابه مشكل إعراب القرآن (4) في سياق إعرابه لقوله تعالى: (علمها عند ربي) (5) إلى تفصيل ذلك في تفسيره، ومثل ذلك إحالته في كتابه الكشف عن وجوه
القراءات إلى تفسيره الهداية لقوله تعالى: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) (6).
3 - نَقْلُ كتب التفسير المتأخرة عنه ومنها: المحرر الوجيز لابن عطية والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7)، وخاصة في آرائه واجتهاداته وتوجيهاته.
4 - اتفاق أسلوبه في تفسيره الهداية مع أسلوبه في كتبه الأخرى مثل الكشف والمشكل في عرض الآراء ومناقشتها واختيار الراجح منها.
__________
(1) الكشف 1/ 25، وأحال عليه في إعراب كلمة (غَير المغضوب. .) من الفاتحة.
(2) مشكل الإعراب 1/ 72.
(3) راجع الإيضاح في ناسخ القرآن ص 43، 47.
(4) راجع مشكل الإعراب ص 464.
(5) راجع تفسيره الهداية للآية 52 من سورة طه.
(6) الكشف 1/ 384، والآية 19 من سورة النساء.
(7) راجع المحرر الوجيز 1/ 66، 362، ومواضع أخرى، والجامع لأحكام القرآن 1/ 151، 292، ومواضع أخرى.(1/26)
تاريخ تأليف الهداية:
لا نجد تاريخاً محدداً وسنهَ بعينها موعدا لتأليف الكتاب، ولكن يستفاد من مقدمته للهداية أنه جمعه في مرحلة شبيبته بين سنة 367 هـ وسنة 392 هـ، يقول في مقدمته: "فما أخرجت هذا الكتاب. . . عملته في صدر العمر وجمام الفهم. ." (1)
والأرجح أنه عكف عليه بالتنقيح والتصحيح وأخرجه للناس بعد تحريره في أواخر عمره بعد سنة 424 هـ وذلك بالاعتماد على الإشارة التي وردت في كتابه الكشف الذي ألّفه سنة 424 هـ كما يشير إلى ذلك في مقدمته حيث يقول: "ثم تطاولت الأيام
وترادفت الأشغال عن تأليفه وتبيينه ونظمه إلى سنة 424 هـ (2) ... " فإذا كان قد أحال في تفسيره لسورة الفاتحة على كتابه الكشف الذي ألفه سنة 424 هـ فهذا يعني أن كتاب الهداية انتهى من تأليفه بعد هذا التاريخ.
__________
(1) راجع مقدمة الهداية صفحة 75.
(2) راجع الكشف 1/ 4.(1/27)
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على [محمد وعلى آله وسلم تسليماً]
قال أبو محمد مكي بن أبي طالب [القيسي المقرئ]:
نحمد الله جل ذكره بجميع محامده، ونثني عليه بتواتر آلائه ونعمه ونشكره على ما خوَّل وفهَّم من المعرفة به، ونرغب إليه في المزيد من مننه مع حسن التوفيق المؤدي إلى رضوانه، ونستهديه طريق الصواب في القول والعمل بمننه ونسأله العصمة من الخطأ، والعفو عن الزلل بفضله. ونصلي على خير خلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى أهله. ونقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل.(1/71)
قال أبو محمد: هذا كتاب جمعته فيما وصل إلي من علوم كتاب الله [جل ذكره]، واجتهدت في تلخيصه وبيانه واختياره، واختصاره، وتقصيت ذكر ما وصل إلي من مشهور تأويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في التفسير دون الشاذ على حسب مقدرتي، وما تذكرته في وقت تأليفي له. وذكرت المأثور من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وجدت إليه سبيلاً من روايتي أو ما صح عندي من رواية غيري، وأضربت عن الأسانيد ليخف حفظه على من أراده.
جمعت فيه علوماً كثيرة، وفوائد عظيمة؛ من تفسير مأثور أو معنى مفسر، أو حكم مبين، أو ناسخ، أو منسوخ، أو شرح مشكل، أو بيان غريب، أو إظهار معنى خفي، مع غير ذلك من فنون علوم كتاب الله جل ذكره؛ من قراءة غريبة، أوإعراب غامض، أو اشتقاق مشكل، أو تصريف خفي، أو تعليل نادر، أو تصرف فعل مسموع مع ما يتعلق بذلك من أنواع علوم يكثر تعدادها ويطول ذكرها. جعلته: هداية إلى بلوغ النهاية في كشف علم ما بلغ إلي من علم كتاب الله تعالى ذكره مما وقفت على فهمه ووصل إلي علمه من ألفاظ العلماء، ومذاكرات الفقهاء ومجالس القراء، ورواية الثقات من أهل النقل والروايات، ومباحثات أهل النظر والدراية.(1/72)
قدمت في أوله نبذاً من علل النحو وغامضاً من الإعراب، ثم خففت ذكر ذلك فيما بعد لئلا يطول الكتاب، ولأنني قد أفردت كتاباً مختصراً في شرح مشكل الإعراب خاصة، ولأن غرضي في هذا الكتاب إنما هو تفسير التلاوة، وبيان القصص والأخبار، وكشف مشكل المعاني، وذكر الاختلاف في ذلك، وتبيين الناسخ والمنسوخ وشرح وذكر الأسباب التي نزلت فيها الآي إن وجدت إلى ذكر ذلك سبيلاً من روايتي، أو ما صح عندي من رواية غيري. وترجمت عن معنى ما أشكل لفظه من أقاويل المتقدمين بلفظي ليقرب ذلك إلى فهم دارسيه، وربما ذكرت ألفاظهم بعينها ما لم يشكل/. وسميت هذا الكتاب: "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه". أعني بقولي: بلوغ النهاية: أي إلى ما وصل إلي من ذلك لأن علم كتاب الله لا يقدر أحد أن يبلغ إلى نهايته إذ فوق كل ذي علم عليم.(1/73)
جمعت أكثر هذا الكتاب من كتاب شيخنا أبي بكر الأدفوي رحمه الله وهو الكتاب المسمى بكتاب (الاستغناء) المشتمل على نحو ثلاثمائة جزء في علوم القرآن.
اقتضيت في هذا الكتاب نوادره وغرائبه ومكنون علومه مع ما أضفت إلى ذلك من الكتاب الجامع في تفسير القرآن، تأليف أبي جعفر الطبري وما تخيرته من كتب أبي جعفر النحاس، وكتاب أبي إسحاق الزجاج، وتفسير ابن عباس، وابن/ سلام.(1/74)
ومن كتاب الفراء، ومن غير ذلك من الكتب في علوم القرآن والتفسير والمعاني والغرائب والمشكل. انتخبته من نحو ألف جزء أو أكثر مؤلفة من علوم القرآن مشهورة مروية.
أسأل الله ذا الفضل والمن ألا يحرمنا أجره، وأن يبارك لنا في ذكره، وأن ينفع به، إنه ولي ذلك والقادر عليه لا إله إلا هو.
فواجب على كل ذي دين ومروءة كَتَب كتابنا هذا أو قرأه أن يغمض عن زلل كاتب أو وهم ناسخ إن وجده فيه، ويشكر الله على ما يستفيده منه ويسمح في وهم أو غلط إن وقع منا فيه، فالعصمة لا يدعيها أحد بعد الأنبياء صلوات الله عليهم.
أسأل الله التوفيق لما يُزلف لديه ويقرب منه، وأرغب إليه جل ذكره أن يجعله [لوجهه خالصا] (7)، وأن يغفر لمن ترحم علينا ودعا لنا بالمغفرة.
فما أخرجت/ هذا الكتاب وبذلته للناس بعد أن كنت عملته في صدر العمر وجمام الفهم لنفسي خاصة ولمذاكرتي مفرداً، إلا طمعاً أن يترحم علينا مع طول الزمان مترحم، أو يستغفر لنا من أجله مستغفر، أو يذكرنا بالخير عليه ذاكر، مع ما(1/75)
[نرجو من ثواب الله]، عليه في انتفاع دارسيه واكتفائهم به عن سائر كتب المفسرين، وأهل المعاني، وسائر أكثر علوم كتاب الله تعالى.(1/76)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفاتحة
تفسير سورة الحمد
سورة الحمد مكية في قول ابن عباس.
وقيل: بل هي مدنية. وهو قول مجاهد.
واستدل من قال: إنها مكية، أن بمكة فرضت الصلوات بإجماع، ومحال أن تفرض الصلوات، ولا ينزل ما هو تمامها وبه قوامها. وهي سورة الحمد، لقول النبي [- عليه السلام -] من الخبر الثابت: "كُل صَلاةٍ لا يُقرَأُ فِيهَا بِأُمّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ".
قالها ثلاثاً. والخَدْج النقص.(1/77)
فغير جائز أن تفرض علينا الصلوات، ولا ينزل ما يزيل عنها النقص. ويدل على ذلك أيضاً ما ذكر أهل التاريخ في حديث طويل لخديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ورقة بن نوفل أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما خاطبه بالوحي: "قل: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال له: قل: الحمد لله رب العالمين، حتى انتهى إلى آخرها، ثم قال له: قل آمين. فقالها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا يدل على نزولها بمكة. وهو قول سعيد بن جبير أيضاً وعطاء.(1/78)
وقال مجاهد: "نزلت الحمد بالمدينة"، وقال: "لما نزلت رن إبليس اللعين".
يريد رن من عظيم ثوابها وجلالة قدر ما خص الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من إنزالها على نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختلف عن ابن/ عبالس في نزولها؛ فروي عنه بالمدينة، وروي عنه بمكة.
وحديث ورقة يدل على أنها أول ما نزل من القرآن.
وأكثر المفسرين على أن أول ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى قوله تعالى: (مَا لَمْ يَعْلَمْ).
وقيل: أول ما نزل المدثر، والله أعلم بأي ذلك كان.
وسورة الحمد تسمى فاتحة الكتاب لأن بها تستفتح الصلاة، وتستفتح المصاحف، وبها يستفتح المبتدئ بعد ختمه القرآن.
وتسمى أيضاً أم القرآن لأنها ابتداء القرآن، وأم كل شيء ابتداؤه وأصله.(1/79)
ولذلك قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها.
وقيل: إنما سميت الحمد أم القرآن لتضمنها معاني القرآن مجملاً، لأن فيها الثناء على الله جل ذكر، والإقرار له بالربوبية وذكر يوم القيامة، والإقرار له بالعبادة، وأن المعونة من عنده، والقدرة له. وفيها الدعاء والرغبة إليه في الهداية إلى الإسلام والثبات عليه. وفيها ذكر النبيين الذين أنعم الله عليهم بالهداية والإسلام. وفيها ذكر من غضب الله عليهم -وهم اليهود-، وذكر من ضل عن الدين وهم النصارى، وفيها من مفهوم الإشارة إلى أمور/ الديانة والقدرة والتذلل والخضوع لله والتسليم لأمره، والرجوع إليه ما يكثر ذكره ويطول شرحه.
وكتاب الله كله إنما نزل، في هذه المعاني التي ذكرنا أنها موجودة في الحمد.
لكن ذلك في الحمد مشار إليه مجمل يفهمه من وفقه الله وشرح له / صدره، وهو كله مشروح مبين مكرر مبسوط في سائر القرآن، فالحمد لله أصل مجمل وباقي القرآن مفسر لما أجمل في الحمد، فهي على هذا المعنى أم القرآن، أي أصله.
/ وتسمى الحمد السبع المثاني، وهو مروي عن النبي [- عليه السلام -].(1/80)
ومعناه السبع الآيات من المثاني أي من القرآن.
والمثاني هو القرآن؛ يسمى بذلك، لأن القصص تثنى فيه وتكرر للإفهام وتسمى الحمد أيضاً السبع المثاني؛ سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، أي تعاد.
وقال ابن جبير عن ابن عباس: "إنما سميت الحمد السبع المثاني [لأن الله] استثناها لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يعطها أحد قبل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
وقد قيل: إن "مِنْ" زائدة، في القول الأول فيكون معناه كمعنى هذا القول.
وعن النبي [- عليه السلام -] أنه قال لأُبَيِّ بن كعب: إنَّها السَّبْعُ المَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ". فهي على هذا الحديث السبع المثاني وهي القرآن العظيم، أي هي أصله على ما ذكرنا.(1/81)
وروي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قسموا فصول القرآن إلى خمسة فصول: الأول: السبع الطوال. والثاني: المئين. والثالث: المثاني. والرابع: آل حميم. والخامس: المفصل.
وتفسير ذلك أن السبع الطوال من البقرة إلى براءة، كانوا يرون براءة والأنفال سورة [واحدة، لأنهما نزلتا في مغازي] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لم يفصل بينهما في المصاحف بـ "بسم الله الرحمن الرحيم".
والسور التي تقرب من الطوال تسمى المئين؛ وهي من يونس فما بعدها مما هو مائة آية فأكثر، وما يقرب من المائة. والذي يلي المئين من السور/ يسمى المثاني، سميت بذلك لأنها ثانية للمئين.
فكان المئين مبادئ وما يليها مثاني.(1/82)
وقولهم: "آل حاميم": يروى أن: حاميم اسم من أسماء الله جل ذكره أضيفت [إليه هذه السور]، فكأنه في المعنى سور لله تعالى ذكره وهي ديباج القرآن.
وسمي ما بعد ذلك مفصلاً لكثرة فصوله بـ "بسم الله الرحمان الرحيم". وليست "بسم الله الرحمن الرحيم" بآية من الحمد عند أهل المدينة، وأهل العراق.
ويدل على ذلك من الخبر الثابت الذي لا مدفع لأحد فيه أن أنساً قال:(1/83)
"صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وخلف عمر، فكلهم يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين".
ومن الخبر الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأنساً قالا: "كان النبي [- عليه السلام -] يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين".
وزاد فيه أنس: - "وأبو بكر وعمر وعثمان"، يعني في خلافتهم.
وقال جبير عن أنس: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فما(1/84)
سمعت أحداً منهم يقرأ في صلاته (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ".
وجاء من الخبر الثابت الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأيي بن كعب: "لأعلِمَنَّك سُورَةً [ما أُنْزِلَ] فِي التَّوْرَاةِ ولا فِي الإنْجِيلِ وَلاَفي الزَبُورِ مثْلُهَا. فلمَّا دَنَا النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الخْروجِ مِنَ المَسْجِدِ: قالَ لَهُ أبَيٌّ: يَا رَسُولَ الله [السُّورَةُ] (3) التي تُعَلِمُنِي؟. قالَ: كَيْفَ تَقْرأ أمَّ الكتابِ؟ قلتُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتِّى خَتَمْتُها، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: هيَ هَذه، وَهيَ السَّبع المَثَاني وَالْقرْآنُ الْعَظيمُ الَّذِي أوتيتُ".
ويدل على ذلك أيضاً ما لا مدفع في حد فيه أن أهل المدينة بأسرهم/ نقلوا عن آبائهم التابعين عن الصحابة المرضيين استفتاح الصلاة بالحمد رب العالمين دون تسمية؛ نقل كافة عن كافة لا يجوز عليهم الخطأ فيما نقلوه ولا التواطؤ على الكذب فيما رووه واستعملوه.
ويدل على ذلك أيضاً من الخبر الصحيح ما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/85)
قال:
"يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بيْنِي وَبَينَ عَبْدِي شَطرَيْنِ ولعَبْدِي مَا سَأَل".
فَإذا قالَ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .. الحديث" فلو كانت (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية من الحمد لابتدأ بها. وفي قوله: "قَسَمْتُ" وعَدُّه لآياتها ولم يذكرها دليل واضح على أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ليست منها.
ويدل على ذلك أيضاً من طريق النظر الذي لا مدفع لأحد فيه أن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد، إنما يثبت بالإجماع، أو ربما يقطع على مغيبه من أخبار التواتر.
ولا إجماع نعلمه ولا تواتر نعقله في أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية من الحمد، وإذا لم يصح/ إجماع ولا ثبت تواتر في أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية من الحمد لم(1/86)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
ذلك، إذ فيما ذكرناه كفاية لمن أنصف.
قال أبو محمد: نذكر في هذا الموضع جملة من علل النحويين في {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ}، ونستقصي إن شاء الله ذلك في سورة النمل إذ هي بعض آية هناك بإجماع.
فمن ذلك أن في كسر الباء قولين:
- أحدهما: إنها كسرت لتكون حركتها مشبهة لعملها.
القول الثاني: إنها كسرت ليفرق بين ما لا يكون إلا " [حرفاً وبين ما] قد يكون اسماً نحو الكاف، وكذلك لام الجر.
وأصل الحروف التي تدخل للمعاني أن تكون مفتوحة لخفة الفتحة نحو حروف العطف وألف الاستفهام وشبهه.
ولكن خرجت الباء واللام عن الأصل للعلة التي ذكرنا.(1/87)
وقيل: إنما كسرت لام الجر للفرق بينها، وبين لام التأكيد في قولك: " إن هذا لزيد " إذا أردت أن المشار إليه هو زيد، وإذا أردت أن المشار إليه في ملك زيد كسرت اللام.
ويدل على أن أصلها الفتح أنها تفتح مع المضمر إذ قد أمن اللبس لأن علامة المجرور خلاف علامة المرفوع. تقول: " هذا له وهذا لك "، وأيضاً فإن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها. هذا أصل مجمع عليه في كلام العرب، وسترى منه أشياء فيما بعد إن شاء الله.
ومن ذلك أن " اسما " فيه أربع لغات: " اسم " بكسر الألف وبضمها، و " سِم " بضم السين وبكسرها. فَمن ضَم الألف في الابتداء جعله من " سما يسمو " إذ ارتفع " كدعا يدعو ". ومَن كسرها جعله من [سَميَ يَسْمَى] " كرَضِيَ يَرْضَى ".(1/88)
قال ابن كيسان: " يقال: " سموت وسميت كعلوت وعليت، وأصله سُمْوٌ أو سِمْوٌ على [وزن] فُعْلٌ أو فِعْلٌ، ثم حذفت الواو استخفافاً لكثرة الاستعمال.
فلما تغير آخره غير أوله بالسكون، فاحتيج إلى ألف وصل ليوصل بها إلى النطق بالساكن وهو السين المغيرة إلى السكون ".
واختلف في كسرة الألف المجتلبة. فقيل: اجتلبت ساكنة وبعدها ساكن فكسرت لالتقاء الساكنين.
وقيل: بل اجتلبت مكسورة، وإنما ضمت إذا كان الثالث من الفعل مضموماً لاستثقال الخروج من كسر إلى ضم /، وضمت الألف إذا كان الثالث من الفعل مضموماً ليخرج الناطق من ضم إلى ضم، نحو: " أُقْتل، أُخْرج "، فذلك أسهل من الخروج من كسر إلى ضم.(1/89)
وقيل: بل أصلها السكون لكن لا بد من حركتها إذ لا يبدأ بساكن فأتبعت ثالث الفعل، فكسرت إذا كان الثالث مكسوراً نحو " إضرب ". وضمت إذا كان الثالث مضموماً نحو " أُقْتُل ". ولم تفتح إذا كان الثالث مفتوحاً لئلا تشبه ألف المتكلم فكسرت، وكان الكسر أولى بها / والثالث مفتوح لأن الخفض والنصب أخوان، وذلك نحو: " اصنع ".
و" اسم " عند البصريين مشتق من السمو؛ يدل على ذلك قولهم في التصغير " سمي ". فرجعت اللام المحذوفة إلى أصلها، ورجعت السين إلى حركتها لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها.
وقال الكوفيون: " هو مشتق من السمة وهي العلامة لأن صاحبه يعرف به، وليس يسمو به، كما ذكر البصريون أن اشتقاقه من السمو وهو العلو ".
قال أبو محمد: وقول الكوفيين قول يساعده المعنى ويبطله التصريف(1/90)
لأنهم يلزمهم أن يقولوا في التصغير " وُسَيْمٌ "، لأن فاء الفعل واو محذوفة فيجب ردها في التصغير، وذلك لا يقوله أحد. وقد شرحنا هذه المسألة بأشبع من هذا في غير هذا الكتاب.
والباء من {بِسمِ الله} متعلقة بمحذوف. ذلك المحذوف خبر ابتداء مضمر قامت الباء وما اتصل بها مقامه، فهي وما بعدها في موضع رفع إذ سدت مسد الخبر للابتداء المحذوف، تقديره: " ابتدائي ثابت بسم الله " أو " مستقر بسم الله "، ثم حذف الخبر وقامت الباء وما بعدها مقامه، وهذا مذهب البصريين.
وقال الكوفيون: " الباء متعلقة بفعل محذوف، وهي ما بعدها في موضع نصب بذلك الفعل "، تقديره عندهم: " ابتدأت بسم الله ".
والاسم هو المسمى عند أهل السنة. قال أبو عبيدة: " معنى باسم الله:(1/91)
بالله ".
وقال: " اسم الشيء هو الشيء ".
ودل على ذلك قوله: " {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [الأعلى: 1] أي سبح ربك، أي نزه ربك.
واختلف النحويون في علة حذف الألف من الخط في {بِسمِ الله}؛ فقال الكسائي والفراء: " حذفت لكثرة الاستعمال ".
وقال الأخفش " حذفت لعدمها من اللفظ. ويلزمه ذلك في كل ألف وصل لأنها معدومة أبداً في اللفظ في الوصل، لكنه قال: " مع كثرة الاستعمال بجعل حذفها لاجتماع العلتين ".(1/92)
وقيل [بل] حذفت لأن الباء دخلت على سين مكسورة أو مضمومة.
حكى ابن زيد أنه يقال: " سِمٌ " و " سُمٌ "، ثم أسكنت السين إذ ليس في الكلام فعل على مذهب من ضم السين وأسكنت على مذهب مَن كسر السين استخفافاً.
وقيل: حذفت الألف للزوم الباء هذا الاسم في الابتداء، فإن كتبت " بسم الرحمن " أو " بسم الخالق " و {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1]، فالأخفش والكسائي يكتبان هذا وما أشبهه بغير ألف " كبسم الله ". والفراء يكتبه بألف إذ لم يكثر استعماله، ككثرة استعمال " بسم الله ". ولا يحسن الحذف للألف من الخط عند جميعهم إلا مع الباء.
لو قلت: " لاسم الله حلاوة " أو قلت: " ليس اسم كاسم الله "، لم يجز حذف الألف مع غير الباء من حروف الجر،(1/93)
إلا على قول مَن قال: " سِمٌ " أو " سُمٌ " فأما مَن قال " اسم " بألف في الابتداء بكسر الألف أو بضمها فلا يجوز حذف الألف من الخط مع غير الباء عند أحد من النحويين إذ لم يكثر استعماله.
والحمد لله معناه الثناء الكامل. والشكر الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة، والحمد أعم من الشكر وأمدح. ورفعه بالابتداء، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره: " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله ". فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه.
والنصب جائز في الحمد في الكلام على المصدر، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه: " أحمد الله حمداً "، فإنما هو حمد منك لله لا غير. فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله، فهو أعم وأكمل، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ {الحمد للَّهِ}، إذ لم يكن قبله عامل فإذا كان " الحمد " مبتدأ، و " لله " خبر، وهو في اللفظ بمنزلة قولك: " المال لزيد " في حكم الإعراب، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت: " الحمد لله " أخبرت بهذا، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله(1/94)
متقرباً بذلك إلى الله، متعرضاً لعفوه مظهراً ما في قلبك بلسانك، شاهداً بذلك لله. ولست تخبر أحداً بشيء يجهله، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك، وليس ذلك العلم عند غيرك. وإذا قلت: " المال لزيد "، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك. فاعرف الفرق بينهما.
فأما علة حذف الألف الثانية من " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف.
قال قطرب: " حذف استخفافاً إذ كان طرحها من الخط لا يلبس.
وقيل: إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال: " الله بغير مد، كقول الشاعر:
أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله. ... وقيل: حذفت الثانية لأن الأولى تكتفي عنها، وتدل عليها.
وقيل: إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه بالهاء.(1/95)
فأما حذف ألف {الرحمن} من الخط فلكثرة الاستعمال والاستخفاف، ولأن المعنى لا يشكل بغيره.
وقدم {الرحمن} على {الرَّحِيمِ} لأن " الرحمن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك.
وقيل: الرحيم، ولم يقل: الراحم، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمن، فقرن بالرحمن دون الراحم إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة في عمره، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة.
وقيل: إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه " باسمك اللهم " حتى نزل: {بِسْمِ الله مجراها} [هود: 41] فكتب {بِسمِ الله}، حتى نزل: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110]، فكتب {بِسمِ الله}، فسبق نزول الرحمن. ثم نزل: {وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30]. فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.(1/96)
وقال ابن مسعود " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت: {أَوِ ادعوا الرحمن}، فكتبنا " بسم الله الرحمن " فلما نزلت " التي في النمل كتبناها ".
ومعنى {الرحمن}: الرفيق بخلقه، ومعنى: {الرَّحِيمِ} العاطف على خلقه بالرزق وغيره.
وقيل: إنما جيء بالرحيم ليعلم الخلق أن {الرحمن الرَّحِيمِ} على اجتماعهما لم يتسم بهما غير الله جل ذكره، لأن الرحمن على انفراده قد تسمى به مسيلمة الكذاب لعنه الله، و {الرَّحِيمِ} على انفراده قد يوصف به المخلوق. فكرر الرحيم بعد الرحمن، وهما صفتان لله أو اسمان، ليعلم الخلق ما انفرد به الله تعالى ذكره من(1/97)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
اجتماعهما له، وما ادعى بعضه بعض خلقه.
وهذا القول هو معنى قول عطاء لأنه قال: " لما اختُزِلَ الرحمن من أسمائه - أي تسمى به غيره -، صار لله الرحمن الرحيم ".
والألف واللام في {الرَّحِيمِ} للتعريف، وإنما اختيرا للتعريف، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد.
في وصل {الرَّحِيمِ} بـ {الحمد}، عند النحويين ثلاثة أوجه:
- أحدهما: أن تقول " الرَّحِيْمِ. الحَمْدُ لله " فتكسر الميم وتقف عليها وتقطع ألف الحمد. وهذا مستعمل عند القراء حسن، وهو مروي عن النبي(1/98)
صلى الله عليه وسلم روته أم سلمة.
- والثاني: أن تقول: " الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لله "، فَتَصِل الألف وتعرب الرحيم بحقه من الإعراب فتكون الكسرة خفضاً، وإن شئت قدرت أنك وقفت على الرحيم بالإسكان، ثم وصلت فكسرت الميم لسكونها وسكون لام الحمد بعدها، ولا يعتد بألف الوصل لسقوطها في درج الكلام.
وهذان الوجهان حسنان مستعملان في القراءة.
- والوجه الثالث: حكاه الكسائي سماعاً من العرب، أن تقول: " الرَّحِيمَِ الحَمْدُ " فتح الميم ووصل الألف وذلك أنك تقدر أنك أسكنت الميم للوقف عليها وقطعت ألف الحمد للابتداء بها، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفتها فانفتحت الميم. ولا يقرأ بهذا.
وقد ذكر الفراء هذا التقدير في قوله تعالى: {الم * الله} [آل عمران: 1 - 2] وذكره غيره.(1/99)
وستراه إن شاء الله ومثله قياس وصل " نَسْتَعِينُ " بِ " اهْدِنَا ".
والألف الأول من اسم " الله " تحذف من الخط مع اللام، تقول: " لله الحجة، ولله الأمر "، فإن قلت: " بالله أتق "، و " ليس كالله أحد "؛ لم يجز حذف الألف من الخط، وعلة حذفها من الخط مع اللام، دون سائر حروف الجر، أنَّ اللام مع الألف يصيران حرفاً واحداً في رأي العين. والألف مع اللام الثانية بمنزلة " قَدْ " لأنهما زيدا معاً للتعريف لا يفترقان. فلو أثبتت الألف مع اللام الأولى، كنت قد فصلتها مع اللام الأولى من اللام الثانية.
وقيل: إنما حذفت الألف من الخط مع اللام، لئلا تصير " لا " فتشبه النفي. فإن كانت الألف مقطوعة لم تحذف الألف مع اللام، ولا مع غيرها من حروف الجر في الخط نحو قولك: " لألواحك حُسْنٌ، ولألواحِك بياض "، وإنما ذلك، لأن الألف في هذا ليست مع اللام للتعريف إذ اللام أصلية فجاز انفصالها من اللام الثانية مع اللام الأولى.(1/100)
قوله: {رَبِّ العالمين}.
الرب المالك. فمعناه: مالك العالمين.
وقيل: الرب السيد.
وقيل: المصلح، يقال: " رَبَّه يَرُبُّه رَبّاً " إذا أصلحه. ويقال على التكثير: رَبَّتَهُ وِرَِبَّاهُ ورَبَّبَهُ.
فالذين يقولون: " رَبَّتَه " بالتاء، أصله عندهم رَبَّبَهُ ثم أبدلوا من الباء الثالثة " ياء "، كما يقال، تقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ " ثم أبدلوا من الياء تاء. كما أبدلوا من الواو تاء في " تُراتٍ "، و " تُجاهٍ " و " تولج " وأصله " وولج " على " فوعل، من " ولجت ". وبدل التاء من الياء قليل شاذ، وهو في الواو كثير.
و {العالمين} جمع عالم. والعالم هو جميع الخلق الموجود في كل زمان. وروى(1/101)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه في قول الله:
{الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}. قال: " العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي الأرض الأربع، في كل ناحية أربعة آلاف ملك وخمسمائة ملك مع كل ملك منهم عدد الجن والإنس، فبهم يدفع الله العذاب عن أهل الأرض ".
قد تقدم الكلام عليه في التسمية. وإنما كرر، وقد تقدم ذكره في التسمية، لأن الأول ليس بآية من الحمد، وهذا آية، فلذلك وقع التكرير في آيتين متجاورتين. وهذا مما يدل على أن {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} ليس بآية من الحمد، إذ لو كانت آية كما يقول المخالف لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين متكررتين بمعنى، وهذا لا يوجد في كتاب الله جل ذكره إلا بفصول تفصل بين الأولى والثانية، أو بكلام يعترض بين الأولى والثانية.
- فإن قيل: قد فصل في هذا بـ {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}.
- فالجواب إن " الرحمن الرحيم " في الحمد مؤخر يراد به التقديم، وإنما تقديره: "(1/102)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين "، فلا فاصل بين " الرحمن الرحيم " الأول والثاني. فإن كان ذلك كذلك، دل على أن التسمية ليست بآية من الحمد إذ لا نظير لها في كتاب الله جل ذكره، وإنما حكمنا على أن المراد " " بالرحمن الرحيم " في " الحمد " التقديم، لأن قوله: {مالك يَوْمِ الدين} مثل قوله: {رَبِّ العالمين} في المعنى، لأن معناه أنه إخبار من الله أنه يملك يوم الدين، و {رَبِّ العالمين} هو إخبار من الله أنه يملك العالمين فاتصال الملك بالملك أولى في الحكمة ومجاورة صفته بالرحمة صفته بالحمد والثناء أولى. فكل واحد مرتبط إلى نظيره في المعنى فدل على أن {الرحمن الرحيم} في " الحمد لله " متصل به، يراد به التقديم. و {مالك يَوْمِ الدين} متصل بِ {رَبِّ العالمين} إذ هو نظيره في المعنى، وذلك أبلغ في الحكمة. والتقديم والتأخير كثير في القرآن.
الدين الجزاء في هذا الموضع.
وقد يكون الدين التوحيد، نحو قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19].
ويكون الدين الحكم، نحو قوله: {رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2] أي في حكمه. ويكون(1/103)
الدين الإسلام نحو قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33]، و {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19].
وقال مجاهد، " الدين الحساب "، كما قال: {غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86]. أي غير محاسبين.
ويكون الدين العادة، ولم يقع في القرآن.
وقد روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (مالك) بألف. وأبو بكر، وعمر، وعثمان، كذلك قرأوها وبذلك قرأ علي، وابن مسعود، وأُبي، ومعاذ بن جبل وطلحة، والزبير.(1/104)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
وبذلك قرأ عاصم والكسائي.
وقد بَيَّنا كشف وجوه القراءات في كتاب: " الكشف عن وجوه القراءات "، فأغنانا ذلك عن الكلام فيها في هذا الكتاب.
فأما من قرأ، {مالك يَوْمِ الدين}، فهم الأكثر من القراء وشاهده إجماعهم على {مَلِكِ الناس} [الناس: 2] بغير ألف.
اختلف النحويون في " إياك وإياه وإياي "؛ فللبصريين فيها قولان:
- أحدهما: أن " إيا " اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف. ولا يعرف في كلام العرب اسم مضمر مضاف إلى ما بعده غير هذا.
وحكى الخليل عن العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ". فأضاف " إيا " إلى الشواب للبيان.(1/105)
- والقول الثاني: مروي عن المبرد قال: " إن " إيا " اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، ولا يعرف في كلام العرب اسم مبهم أضيف إلى ما بعده غير هذا ".
وللكوفيين في هذا أيضاً ثلاثة أقوال.
- حكى ابن كيسان وغيره. عنهم أن " إياك " بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، فتقول: " إياه وإياك وإياي ".
- والقول الثاني: إن الكاف والهاء والياء، هن الاسم المضمر في " إياك وإياه وإياي "، لكنه اسم لا يقوم بنفسه ولا ينفرد ولا يكون إلا متصلاً بما قبله من الأفعال، فلما تقدم على الفعل لم يقم بنفسه فجعل " إيا " عماداً له ليتصل به، ولو أخرت لا تصل المضمر بالفعل واستغنيت عن " إيا " فقلت: " نعبده "(1/106)
و " نعبدك ". وهو اختيار ابن كيسان.
- والقول الثالث: حكاه أيضاً ابن كيسان؛ وهو أن " إيا " اسم مبهم يكنى به عن المنصوب وزيدت إليه الكاف والهاء والياء في: إياك وإياه وإياي ". " ليعلم المخاطب من الغائب من المُخْبِر عن نفسه ولا موضع للكاف والهاء والياء من الإعراب، فهي كالكاف في " ذلك " وأرأيتك زيداً ما صنع ". ذكر معنى جميع ذلك ابن كيسان في كتابه في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه.
والعبادة في اللغة التذلل بالطاعة والخضوع.
فمعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: نذل لك ونخضع بالعبادة لك ونستعين بك على ذلك.
وإنما قدم {نَعْبُدُ} على {نَسْتَعِينُ} وقد علم أن الاستعانة قبل العبادة، والعمل لا يقوم إلا بعون الله، لأن العبادة لا سبيل إليها إلا بالمعونة، والمعان على العبادة لا يكون إلا عابداً. فكل واحد مرتبط بالآخر: لا عمل إلا بمعونة ولا معونة إلا تتبعها عبادة، فلم يكن أحدهما أولى بالتقديم من الآخر، وأيضاً فإن الواو لا توجب ترتيباً عند أكثر النحويين.
وأما علة تكرير {إِيَّاكَ} فمن أجل اختلاف الفعلين إذ أحدهما عبادة والآخر(1/107)
استعانة.
وقيل: كرر للتأكيد كما تقول: " المال بين زيد وعمرو، بين زيد وبين عمرو "، فتعيد " بين " للتأكيد.
قوله: {نَسْتَعِينُ}.
أصله " نَسْتَعْوِنُ " على وزن " نَسْتَفْعِلُ " من العون. والمصدر منه استعانة، وأصله استعواناً، فقلبت حركة الواو على العين، فلما انفتح ما قبل الواو - وهي في نية حركة - انقلبت ألفاً، فالتقى ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. فقيل: المحذوفة الثانية لأنها زائدة، والأولى أصلية. وقيل: بل المحذوفة الأولى لأن الثانية تدل على معنى ولزمته الهاء عوضاً من الألف المحذوفة.
والنون الأولى في {نَسْتَعِينُ} يجوز فيها الكسر لغة مشهورة وكذلك التاء والهمزة في قولك: " أنْتَ تَسْتَعِين وأنا أسْتَعينُ ". وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو مما يأتي من الثلاثي على " فَعِلَ، يَفْعَلُ " بفتح العين في المستقبل،(1/108)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
وكسرها في الماضي نحو: " أنت تعلم وأنا أعلم ".
معناه ثبتنا، لأنهم كانوا مهتدين، وإنما هو رغبة إلى الله أن يثبتنا على ذلك حتى يأتي الموت ونحن عليه.
وقيل: معناه ألهمنا الثبات على الصراط المستقيم، وهو دين الإسلام، وهو مروي عن ابن عباس.
و" هَدَى " يكون بمعنى: " أَرْشَد "، نحو قوله: {واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} [ص: 22]، أي أرشدنا.
ويكون بمعنى " بَيَّنَ " كقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]، أي بينّا لهم الصواب من الخطأ، فاستحبوا الخطأ.
ويكون بمعنى " أَلْهَمَ " كقوله: {ثُمَّ هدى} [طه: 50]، أي ألهم الذَّكَر من الحيوان إلى إتيان الأنثى.(1/109)
وقيل: معناه ألهم المصلحة ويكون هدى بمعنى " وَفَّقَ " كما قال " {لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] أي لا يوفقهم.
والصراط المستقيم كتاب الله. وهو مروي عن النبي [عليه السلام].
وقال ابن عباس: " هو الطريق إلى الله عز وجل ".
وعن جماعة من الصحابة أنه الإسلام.
وقال جابر بن عبد الله: " هو الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض ".
وعن أبي العالية أنه: " رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه ابو بكر(1/110)
وعمر ".
وهو قول الحسن.
وأصله الطريق الواضح.
وقال ابن الحنفية: " هو دين الله تعالى ".
وسمي مستقيماً لأنه لا عوج فيه ولا خطأ.
وقيل: سمي بذلك لاستقامته بأهله إلى الجنة.
وأصل {المستقيم}: " الْمُسْتَقْوِم "، فألقيت حركة الواو على القاف وبقيت الواو ساكنة فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. كما قالوا ميزان، وهو من الوزن. وأصله " مِوْزَان "، ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وكذلك يقلبون الياء واواً(1/111)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
إذا انضم ما قبلها نحو " مُوقِنٍ " و " موسِرٍ " لأنه من اليقين واليسار.
قوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
صراط بدل من الأول.
والذين أنعم عليهم هم الأنبياء صلوات الله عليهم والصدِّيقون والصالحون بدلالة قوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69].
وقيل: هم أصحاب النبي [عليه السلام]، قاله الحسن.
وقيل: هم المؤمنون من بني إسرائيل الذين لم يغيروا ولا بدلوا، بدليل قوله: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]. فلذلك قال هنا: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
وقيل: هم المسلمون.
وقال أبو العالية: " هم محمد [عليه السلام] وأبو بكر وعمر ".(1/112)
وقال قتادة: " هم الأنبياء خاصة ".
وقال ابن عباس: " هم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا ".
وهذا دعاء أمر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يدعوا به وألا يكونوا مثل المغضوب عليهم - وهم اليهود -، ولا مثل الضالين - وهم النصارى -، ولا على صراطهم.
ودخلت " لا " في قوله: {وَلاَ الضآلين} لئلا يتوهم أن {الضآلين} عطف على {الذين} في قوله: {صِرَاطَ الذين}. فبدخول " لا " امتنع أن يتوهم متوهم ذلك إذ لا تقع " لا " إلا بعد نفي أو ما هو في معنى النفي.
وقيل: " لا " زائدة.
وقيل: هي تأكيد بمعنى: " غير ".(1/113)
ولم يجمع {المغضوب}، لأنه في معنى الذين غضب عليهم / فلا ضمير فيه إذ لا يتعدى إلا بحرف جر. فلو قدرت فيه ضميراً، كنت قد عديته إلى مفعولين أحدهما بحرف جر / وهذا ليس يحسن فيه. إنما تقول: " غضبت على زيد " و " غضب على زيد ". فالمخفوض يقوم مقام الفاعل. وكذلك {عَلَيْهِم} في موضع رفع يقوم مقام المفعول الذي لم يسم فاعله. والهاء والميم يعودان على الألف واللام.
والغضب من الله البعد من رحمته. والضلال الحيرة.
" و {غَيْرِ المغضوب} " خفض على النعت " للذين " من قوله {صِرَاطَ الذين}، وحَسَنٌ ذلك لأنه شائع لا يراد به جمع بعينه فصار كالنكرة، فجاز نعته " بغير "، و " غير " نكرة وإن أضيفت إلى معرفة. ويجوز أن تخفض " غير " على البدل من [الذين. وقد قرئ] بالنصب على الحال أو على الاستثناء، وقد شرحت هذا في كتاب: " مشكل الإعراب " بأشبع من هذا.
ويقول المأموم إذا سمع {وَلاَ الضآلين}: آمين. ويقولها وحده. واختلف في قول الإمام إياها عن مالك.(1/114)
و (آمين)، قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى.
وقيل: هو دعاء بمعنى: " اللَّهم استجب ".
وقال ابن عباس والحسن: " معنى " آمين ": كذلك يكون ".
وهي تمد وتقصر لغتان.
والمؤمن داع. فقد قال الله لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. وموسى كان هو الداعي، وهارون يؤمن، والمؤمن إذا قال: " اللهم استجب " فهو داع بالإجابة، وهو مبني لوقوعه موقع الدعاء / وبني على حركة لالتقاء الساكنين وكان / الفتح أولى به لأن قبل آخره ياء.
وروى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام] قال: " إِذَا قَالَ الإمَامُ {غَيْرِ(1/115)
المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين}، فَقُولُوا: آمينَ، فإنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "، أي من وافقه في الإجابة.(1/116)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرة مدنية
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُعْطيتُ البَقَرَةَ مِنَ الذِكْرِ الأَوَّلِ وأعْطِيْتُ طَهَ
وَالطَوَاسِينَ من ألْوَاحِ مُوسى. وأعْطِيْتُ فَاتِحَةَ الكِتَاب وَخَواتيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وأُعْطِيْتُ المُفَصَّلَ نَافِلَةً ".
وروي عنه أنه قال: "تَجيءُ الْبقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنهما غَمَامَتَانِ أوْ غَيَايَتَانِ ". والغياية والغمامة واحد.
فبهذا الحديث وأمثاله، استجاز الناس أن يقولوا: سورة البقرة وسورة كذا
وسورة كذا.
وهذا إضافة لفظ، لا إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وهو بمنزلة
قولك. "باب الدار وسرج الدابة" ومثله قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).
فأضاف القول إليه لأنه هو ينزل به، وهو جبريل - عليه السلام -. وهذا من اتساع لغة العرب.(1/117)
وروى أبو هريرة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لِكُل شَيْءٍ سَنام، وسَنَامُ الْقرآنِ سُورةُ الْبقَرَةِ، فيهَا آية سَيِّدَةٌ آي القُرْآنِ/ لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فيهِ شَيْطَان إِلا خَرَجَ مِنْهُ وهي آيَةُ الكُرْسِي ".
ومعنى سيدة آي القُرآن، عظيمة آي القرآن. وكل آي القرآن عظيم جليل، لا يفضل بعضه بعضاً لكن يعطي الله من الأجر والثواب على بعض ما لا يعطي على بعض، يفعل ما يشاء.
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلا: "مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ فَقالَ: سُوْرَةُ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: وأَي الخَيْرِ أَبْقَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ؟ "
وقال الحسن: قال رسول الله [- عليه السلام -]: أيُّ الْقُرآنِ أعْظَمُ؟ قَالُوا: اللهُ ورَسولُهُ اعْلَمُ/ قَالَ: سُورَةُ البَقَرةِ. قَالَ فَأَيُّهَا أعْظَمُ؟، قَالُوا: اللهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: آيةُ الْكُرْسي ".(1/118)
الم (1)
واختلف العلماء في معاني أوائل السور: فعن ابن عباس أقوال، منها: أنه قال: " الاما؛ أنا الله أعلم، الارا؛ أنا الله أرى ".
فالألف: يؤدي عن " أنا "، واللام: يؤدي عن اسم الله. والميم: تؤدي عن " أعلم "، والراء: يؤدي عن " أرى ".
وعنه [أن] أوائل السور مأخوذة من أسماء الله. فيقول في {كهيعص} [مريم: 1]: " إن الكاف: من كاف، والهاء: من هاد ".
وعنه أيضاً " أنها أقسام، أقسم الله بها، وهي من أسماء الله جل ذكره ".
وقد قال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من العلماء.
وروى عنه عطاء أنه قال في {الم}: " الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم "
[ وكذلك] روى الضحاك عنه.(1/119)
وقال قتادة: " الم، اسم من أسماء القرآن ". وروي مثله عن مجاهد.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: " هي فواتح السور ".
وقال أبو عبيدة والأخفش: " هي افتتاح كلام ".
وقال زيد بن أسلم: " هي أسماء السور ".
وروى ابن جبير عن ابن عباس: " {كهيعص} [مريم: 1]: كبير، هاد، عزيز، صادق ".
وقال محمد بن كعب: {حم* عسق}: الحاء والميم: من الرحمان، والعين: من العليم، والسين: من القدوس، والقاف: من القهار ".
/ وقال في {المص}: " الألف واللام: الله، والصاد: من الصمد ".
وقال بعض أهل النظر: " هي تنبيه ".(1/120)
وقال قطرب في معناها: " كان المشركون ينفرون عند قراءة القرآن. فلما سمعوا " {الم} و {المص} وقفوا ليفهموا ما هو وأنصتوا، فاتصلت تلاوة القرآن بها / فسمعوه، وثبتت عليهم الحجة، وجحدوا بعد سماع ما هو حجة عليهم. وهذه حكمة بالغة من الله، والله أعلم بذلك ".
وعن قطرب أيضاً أنه قال: " هي حروف ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة ".
وقال أبو العالية: " هي الحروف من التسعة وعشرين حرفاً دارت بها الألسن كلها، ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه ونعمائه، وليس منها (حرف) إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. الألف: مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح / اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد. الألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: مجده. الألف: سنة، واللام: ثلاثون سنة، والميم: أربعون سنة ".(1/121)
وقال جماعة: " هي مما لا يعلمه إلا الله، ولله في [كل كتاب] سر، وهذه الحروف سره في كتابه ".
وقيل: هي اسم الله الأعظم. رواه السدي عن ابن عباس.
ويروى أن اليهود لما سمعت / {الم}، قالوا: " الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، وهي مدة ملك محمد. أفتدخلون في دين، إنما مدة ملكه إحدى وسبعون سنة. فلما سمعوا {المص} [الأعراف: 1] قالوا: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون والصاد ستون فذلك إحدى وثلاثون ومائة سنة، فلما سمعوا {الر} [يونس: 1] و {المر} [الرعد: 1] و {حم* عسق} [الشورى: 1 - 2]، قالوا: قد لبس علينا الأمر، فما(1/122)
ندري ما يقيم ملكه. فأنزل الله عز وجل: { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
فهذا الذي اشتبه عليهم في هذا التأويل والله أعلم.
وهذه الحروف تسمى حروف المعجم، وإنما سميت بذلك لأنها مبينة للكلام فاشتق لها هذا الاسم من قولهم: " أعجَمْتُ الِكتَابَ " إذا بَيَّنْتَهُ.
وقيل: إنما اشتق لها هذا من قولهم: " عَجَمْتُ الْعُودَ " إذا عَضَضْتَهُ لِتَخْتَبِرَهُ.
فيكون " المعجم " من هذا أتى على توهم زيادة الهمزة، كما أتى " لواقع " على توهم حذف الهمزة من " ألْقَحْتُ "، وكان الأصل " ملاقح ". كذلك كان الأصل " المعجوم "، إذا جعلته من " عَجَمْت ". وقد قالوا: / " مسعود "، على تقدير حذف الهمزة من " أسعده الله "، وقرئ: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} [هود: 108]- بضم السين - على ذلك التقدير. فكذلك المعجم من " عجمت " على تقدير حذف الهمزة من " أعجمت "، فيكون معناه حروف الاختبار، وهي موقوفة مبنية على السكون أبداً، إلا أن تخبر عن شيء منها، أو تعطف بعضها على بعض، فتعربها، تقول: هذه جاء وياء ". وهي تؤنث وتذكر.(1/123)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
قوله عز وجل: { ذَلِكَ الكتاب}.
أكثر أهل التفسير على أن " ذلك " بمعنى " هذا ".
كما تقول للرجل وهو يحدثك: " ذلك، والله الحق "، أي هذا والله الحق.
قال الله جل ذكره: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. أي هذا ما كنت منه تحيد. وقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، أي هذه عشرة كاملة. وقال: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196]. أي هذا الحكم لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
وقال: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] أي إن هذا وهو كثير في كلام العرب والقرآن.
وقيل: إن {ذلك} / على بابها للإشارة إلى شيء / معلوم. واختلف في ذلك المشار إليه. ما هو؟
فقيل: إن {ذلك} إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل سورة البقرة.(1/124)
وقال الكسائي: " {ذلك} إشارة إلى الرسالة والقرآن وعمّا في السماء ".
وقيل: إشارة إلى اللوح المحفوظ.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: " {ذلك}: إشارة إلى التوراة والإنجيل ". وقيل: {ذلك}: إشارة إلى ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه سينزل عليه كتاب فوقعت الإشارة على ما تقدم من الوعد.
وجيء باللام في {ذلك} للتأكيد في بعد الإشارة.
وقال الكسائي: " جيء بها لئلا يتوهم أن {ذلك} مضاف إلى الكاف ".
وقيل: جيء بها عوضاً عن المحذوف من " ذا "، لأن أصل " ذا " أن يكون على ثلاثة أحرف، لأن أقل الأسماء ما يأتي على ثلاثة أحرف.
وقال علي بن سليمان: " جيء باللام لتدل على شدة التراخي، وكسرت لئلا تشبه لام الملك.
وقيل: كسرت لأنها بدل من همزة مكسورة لأن أصل " ذا " " ذاء " على ثلاثة(1/125)
أحرف بهمزة مكسورة، ومن العرب من يقول في " ذلك " " ذاءك " بالهمز حكاه الفراء وغيره، قال: " وإنما أبدلوا من الهمزة لاماً لأن " ذاء " خرج عن لفظ المضاف، وليس بمضاف، واللام من أدوات المضاف، فأبدلوا من الهمزة لاماً وكسرت لأن الهمزة كانت مكسورة لالتقاء الساكنين ".
كان أصل ذا / أن يكون بألفين ليكون على ثلاثة أحرف إذ هي أقل أصول الأسماء فأبدلت الألف الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون الألف قبلها. وقد قال الكسائي: " إنما أبدلوا من الهمزة لاماً لئلا تشبه المضاف "
وقيل: إنما كسرت اللام لالتقاء الساكنين لأنها اجتلبت ساكنة، وقبلها الألف من " ذا " ساكنة، وكسرت اللام لالتقاء الساكنين.
والاسم من " ذلك "، ذا وقيل: الاسم الذال، وزيدت الألف للتقوية.(1/126)
ولا موضع للكاف من الإعراب، إنما هي للخطاب، ولو كان لها موضع من الإعراب لكانت في موضع خفض بالإضافة على ظاهر اللفظ.
و" ذا " لا يضاف في شيء من كلام العرب، لأنه معرفة، ولأن اللام تفصل بينهما، ولأن المعنى على غير معنى الإضافة.
والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الخيل المجتمعة، يقال: " تَكتَّب القَوْمُ " إذا اجتمعوا. فسمي المكتوب كتاباً لاجتماع بعض الحروف إلى بعض. ومنه قول العرب: " كُتِبَتْ القِرْبَة " إذا جُمِعَتْ خُرَزاً إلى خُرَز، وكَتَبْتُ البَغلَةَ " إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَيْهَا بِحَلْقَة.
قوله عز وجل: { لاَ رَيْبَ فِيهِ}.
/ الهاء تعود على (الكتاب) /. وقيل على {ذلك}.
وقيل: على {الم} على أن تكون {الم} إسماً من أسماء القرآن.(1/127)
وقيل: هي راجعة على {هُدًى} مقدمة عليه، يراد به التقديم. أي ذلك الكتاب هدى لا ريب فيه، أي في الهدى. ورجوعها على {الكتاب} أبينها.
والكتاب القرآن هو نفي عام نفى الله جل ذكره / أن يكون فيه شك عند من وفقه الله، وقد ارتاب فيه من خذله الله ولم يوفقه، ولذلك قال: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23]. معناه: وإن كنتم على زعمكم في شك من ذلك فأتوا ببرهان على ذلك، فقد أتيناكم بما لا ريب فيه لمن وفق.
والريب مصدر " رَابَني الأَمْرُ رَيْباً ".
وحكى المبرد: " رَابَني الشيء تبينت فيه الريبة، وأَرَابَنِي إذا لم أتبينها فيه ".
وحكى غيره: " أَرَابَ الرجل في نفسه، ورَابَ غيره ".
وقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
الهدى الرشد والبيان.(1/128)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
والتقى: اسم جامع لكل خصلة محمودة العاقبة، ومن اتقى الشرك فهو من المتقين، وهو أعظم التقى، وأصله من التَّوقّي وهو التستر، فكأن التقي يستر على جميع ما يذم عليه. وقد فسرنا إعراب هذا وما شابهه في كتاب " تفسير مشكل الإعراب "، فأخلينا هذا الكتاب من بسط الإعراب لئلا يطول إلا أن يقع نادر من الإعراب فنذكره على شرطنا المتقدم. فاعلم ذلك.
وقوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} الآية.
" الذين ": اسم مبهم ناقص لا بد له من صلة وعائد، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف، ولأنه بعض اسم، فإن ثَنَّيْتَهُ أَعْربتَه، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف إذ الحروف لا تثنى.
فإن قيل: فأعربه في الجمع إذ الحروف لا تجمع.
فالجواب: إن الجمع مشبه بالواحد، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد، فجرى مجرى الواحد في البناء، والتثنية لا تختلف(1/129)
أبنيتها، ولا يقع إعرابها في آخرها، فخالفت الواحد والجمع فأعربت، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب.
ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ الحروف لا تجمع، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض. فلما دخلته الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين، وكتب " الذي " بلام واحدة، وأصلها لامان، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال.
وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة / المتقدمة الذكر، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء إلا على نظام واحد. فلما جرت على أصلها، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط. وأصل الإيمان: التصديق، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه، فالله جل ذكره مؤمن، ولا يقال: بكذا، والعبد مؤمن بكذا.
وقد قيل: إن المؤمن مأخوذ من الأمان، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب الله بإيمانه. والله مُؤَمِّن: أي: يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه.
والهمز في " يؤمن " الأصل، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن(1/130)
فصيح.
والغيب: كل ما استتر عنك. وهو في هذه الآية البعث، والحساب، والجنة، والنار، وشبهه. قاله سفيان وغيره.
وقيل: معنى {بالغيب}: بالقدر.
وقال عطاء: " {بالغيب}: بالله جل ذكره ". وقيل: بالقرآن. وقال بعض المتصوفة: " الغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لأن المنافق يؤمن بلسانه لا بقلبه ".
فالإيمان الصحيح / النافع ما اعتقده القلب.
وقال بعض العلماء: {يُؤْمِنُونَ بالغيب}، أي: يؤمنون إذا غابوا عن الناس، كما يؤمنون إذا حضروا، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة، ويكفر بالغيب.
وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصلاة}.(1/131)
معناه يديمون أداءها / بفروضها في أوقاتها.
وقال الضحاك: " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها ".
وأصل " يُقيمُونَ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
/ كما قالوا: ميزانٌ وميعادٌ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها. والعرب تسمي الشيء باسم [ما لابَسَه وقاربه].
والصلاة من الله: الرحمة لعباده، ومن الملائكة. والأنبياء: الدعاء، وكذلك هي من الناس.
وروى أبو هريرة أن النبي [ صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وإنْ كَانَ صَائِمَاً فَلْيُصَلِّ " أي: فليدع.(1/132)
وقال الأعشى لابنته لما دعت له في قولها:
. . . . . . . . . . . . ... " يا ربِّ جَنِّب أَبي الأوصَابَ والْوَجَعَا.
عليك مثل / الذي صليت فاغتمضي ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً.
أي: دعوت.
وقيل: إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف، ينحنيان في الصلاة.
/ وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها، لأن أصل الألف الواو، وأصلها صلوة. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت في اللفظ ألفاً؛ دليله قولهم في الجمع: " صَلَواتٌ ". وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا: إن أصل " ماء ": مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو، والهمزة بدل من الهاء. ودل على ذلك قولهم في الجمع: أمْوَاءٌ، فرد إلى أصله.
وقيل: إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو.(1/133)
والقول الأول والآخر، به يعلل ما كتبوه من " الزكوة " و " الحيوة " وشبهه بالواو، فأعلمه. وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم، بدلالة قوله بعد ذلك: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} يريد من آمن من اليهود والنصارى.
وقيل: [بل الأربع] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب.
وقيل: بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام. إذ لم يؤمن [أحد به] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب.
واختار الطبري القول الأول.
وقال مجاهد: " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و [ثلاث عشر] آية بعد ذلك في المنافقين ".
وقوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
معناه: يتصدقون ويزكون.(1/134)
وقيل: " هي نفقة الرجل على عياله ". قاله السدي.
وأصل " ما " في قوله: {وَممَّا} أن تكتب منفصلة، لأنها بمعنى " الذي ". والهاء محذوفة من {رَزَقْنَاهُمْ}، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه. فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم. فإن كانت " ما " بغير معنى " الذي "، وإنما هي صلة، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله:
{إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171]، {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الحج: 49] وشبهه. وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط، وهي بمعنى " الذي "، وأصلها الانفصال، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد، وذلك نحو " مما " و " عما ".
وأيضاً فإنه / لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار بالمجرور مع كثرة الاستعمال.
وقيل: إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ / لم يثبت في الخط في مواضع وثبت في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ.
واعلم أن " كل ما "، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى "، وصلتها مع " ما "، فإن(1/135)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
كانت على غير ذلك فصلتها من " كل "، تقول: " كلما جاءني زيد أكرمني. أي " إذا جاءني زيد "، فتصل " ما " " بكل ". وتقول " يسرني كل ما يسرك " فتفصل " ما " من " كل " لأنها بمعنى " الذي ". وقد كتبت " بِئْسَما " و " نِعِمّا " مَوْصُولةَ وأصلها أن تفصل " ما " مما قبلها في الخط لأن " ما " اسم، وليست بصلة / وكذلك وصلت " حينئِذٍ " و " يؤمَئِِذٍ ".
وأصل " إذا " الانفصال مما قبلها، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز.
وقوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي: بالقرآن. {وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ}. أي: بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وبجميع ما أنزله الله على أنبيائه.
وقوله: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}.
أي: بالبعث والحشر والجنة والنار يصدقون. وسميت الآخرة آخرة لأنها بعد الأولى وهي الدنيا. وقيل: سميت بذلك لتأخرها عن الناس.(1/136)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وقوله: {يُوقِنُونَ} أي: يصدقون بالبعث / والحشر والجنة والنار.
وقوله: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أي على هداية ورشد وبيان.
قال محمد بن إسحاق: " على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم ".
و" أولاء " جمع " ذا " المبهم من غير لفظه، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين. وعلة بنائه مشابهته للحروف، وإنما شابه الحروف لمخالفته لجميع الأسماء إذ لا يستقر على مسمى، فلما خالف جميع الأسماء والحروف أيضاً مخالفة لجميع الأسماء إذ لا تفيد معنى في نفسها، إنما تفيده في غيرها، والأسماء تفيد المعاني بأنفسها، فاتفقا في مخالفة الأسماء فبنيت هذه الأسماء لذلك. وحق البناء السكون، لكن اجتمع في آخر " أولاء " ألفان فأبدل من الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون ما قبلها والكاف لا موضع لها، إنما هي للمخاطب ككاف " ذلك ".
وقوله: {هُمُ المفلحون}.
{هُمُ}: مبتدأ و {المفلحون}: الخبر، والجملة: خبر عن {أولئك} ويجوز أن تكون {هُمُ}: فاصلة لا موضع لها من الإعراب وهي وأخواتها يدخلن فواصل(1/137)
بين الابتداء والخبر دخل عليه عامل أم لم يدخل، ولا تكون إلا إذا كان الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة، فإن كان الخبر نكرة أو فعلاً أو جملة لم تكن إلا مبتدأة.
فهذا أصل الفاصلة فاعرفه، وهي تكون فاصلة على أحد ثلاثة أوجه:
- إما أن تكون فصلاً بين المعرفة والنكرة، فيكون دخولها يدل على أن الخبر معرفة أو ما قرب من المعرفة.
- والثاني: أن تدخل فصلاً بين النعت والخبر، فدخولها فاصلة يدل على أن ما بعدها خبر لما قبلها، وليس بنعت لما / قبلها، فإذا قلت: " إن زيداً هو الظريف " علم بدخول " هو " أن " الظريف " خبر، وليس بنعت لزيد.
- والثالث: أن تدل بدخولها مع " كان "، على أن " كان " هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر، وليست بـ " كان " التامة التي لا تحتاج إلى خبر، ولا تكون الفاصلة إلا وهي الأولى.
في المعنى تقول: " كان زيد هو العاقل ". " فهو ": هو / زيد في المعنى، ولو قلت: " كان زيد أنت الضارب إياه "، لم تكن " أنت " فاصلة، لأنها ليست هي الأولى في المعنى، ولا تكون هنا إلا مبتدأة.(1/138)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
وأصل الفلاح البقاء في الخير، فالمعنى: وأولئك هم الباقون في النعيم المقيم، والمؤمن مفلح لبقائه في الجنة، ثم اتسع فيه، فقيل لكل من قال خيراً: مفلح.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ}.
هذه الآية نزلت في قوم سبق في علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الإنذار لا ينفعهم لما سبق لهم في علمه، وَثَمَّ كفار أُخَر نفعهم الإنذار فآمنوا لما سبق لهم في علم الله سبحانه من الإيمان به، فالآية عامة في ظاهر اللفظ يراد به الخصوص، فهي في من تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن خاصة، ومثله {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3].
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان جميع الخلق، فأعلمه الله عز وجل في هذه الآية أن من سبق له في علم الله [سبحانه الكفر والثبات عليه] إلى الموت لا يؤمن ولا ينفعه الإنذار، وأن الإنذار وتركه سواء عليه. وهذا مما يدل على ثبات(1/139)
القدر بخلاف ما تقوله المعتزلة. وقيل: نزل ذلك في قادة الأحزاب، وهم الذين نزل فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين / بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] الآية. وهم الذين قتلوا يوم بدر، قال ذلك الربيع بن أنس.
وقال ابن عباس: " نزلت في اليهود الذين جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكباراً وحسداً مع معرفتهم أنه نبي صلى الله عليه وسلم ".
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مع أصحابهما من رؤساء اليهود الذين دخلوا على النبي [عليه السلام] وسألوه عن {الم * ذَلِكَ الكتاب} ".
وقيل: هي عامة في كل كافر تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن.
وأصل الكفر التغطية. ومنه قيل لِلّيل: كافر، لأنه يستر بظلمته ما فيه.(1/140)
ويقال للزراع: كفّار، لأنهم يسترون الحب في الأرض، ومنه قوله {يُعْجِبُ الزراع} {الفتح: 29]. ومنه قولهم: " كَفّارَةُ اليمين ". لأنها تستر الإثم عن الحالف، ومنه سمي الكافر لأنه يستر الإيمان بجحوده.
ومعنى لفظ الاستفهام في / {ءَأَنذَرْتَهُمْ} للتسوية، وهو في المعنى خبر، لكن التسوية تجري في اللفظ مجرى لفظ الاستفهام، والمعنى [على الخبر]، تقول: " سواء عليَّ أقمت أم قعدت. وإنما صار لفظ التسوية مثل لفظ الاستفهام للمضارعة التي بينهما، وذلك أنك إذا قلت: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو "، فقد سويت علم المخاطب فيهما، فلا يدري أيهما في الدار، وقد اسْتَوَى علمك في ذلك، وتدري(1/141)
أحدهما في الدار ولا تدريه بعينه. فهذا تسوية. وتقول في الاستفهام: " أزيد في الدار أم عمرو؟ "، فأنت لا تدري أيهما في الدار، وقد استوى علمك في ذلك وتدري أن أحدهما في الدار، ولا تدري عينه منهما، فقد صار الاستفهام كالتسوية في عواقب الأمور، غير أن التسوية إبهام على المخاطب وعلم يقين عند المتكلم، والاستفهام إبهام على المتكلم.
ويجوز أن يكون المخاطب مثل المتكلم في ذلك، ويجوز أن يكون عنده يقين ما سئل عنه. فاعرف الفرق بينهما.
وقوله: {ءَأَنذَرْتَهُمْ}، فيه عشرة أوجه.
- الأول: تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف. وهي لغة قريش وكنانة، وهي قراءة ورش عن نافع وابن كثير.(1/142)
- والثاني تحقيق الأولى وبدل الثانية بألف، وهو مروي عن ورش وفيه ضعف.
- والثالث: تحقيق الهمزيين وهي قراءة أهل الكوفة، وابن ذكوان عن ابن عامر.
- والرابع: حذف الهمزة الأولى وتحقيق الثانية. وهو مروي عن الزهري، وهي قراءة ابن محيصن، وذلك لأن " أم " تدل على الألف المحذوفة.(1/143)
- والخامس: تحقيقهما جميعاً وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ ابن أبي إسحاق.
- والسادس: تحقيق الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف، وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ أبو عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وهشام بن عمار عن ابن عامر.(1/144)
- والسابع: ذكره أبو حاتم قال: " يجوز أن تدخل بينهما أيضاً، وتحذف الثانية "، فيصير لفظ هذا الوجه كلفظ الوجه الثاني المذكور.
- والثامن: ذكره الأخفش قال: " يجوز أن تخفف الأولى منهما وتحقق الثانية "، ولم يقرأ بهذا أحد، وهو بعيد ضعيف لأن الاستثقال لا يقع في أول الكلام، ولأن الهمزة المخففة بين بين، لا يبتدأ بها إلا أن تريد أن تصل الهمزة بما قبلها وتلقي حركتها على الميم الساكنة قبلها، فهو قياس، وليس عليه عمل.
- والتاسع: ذكره أبو حاتم أيضاً قال: " يجوز أن تخفف الهمزتين ". وهو بعيد، ولم يقرأ به أحد، وله قياس إذا وصلت كلامك، فتلقي / حركة الأولى على الميم الساكنة قبلها، وتخفف الثانية بين بين، وهو بعيد جداً.
- والعاشر: ذكره الأخفش أيضاً؛ قال: " يجوز أن تبدل من الأولى هاء، فتقول: " هانْذَرْتَهُمْ ". ولم يقرأ به أحد ومخالف للخط، وقياسه في العربية جيد. ويجوز مع(1/145)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
بدل الأولى " بهاء " أن تحقق الثانية وأن تخففها، وتدخل بين الهمزة والهاء ألفاً، وأن تحقق الثانية وتدخل بينهما ألفاً، فتبلغ الوجوه إلى أربعة عشر وجهاً.
قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ}.
معناه طبع الله عليها مجازاة لهم بكفرهم.
وقيل: معناه: حكم الله عليهم بذلك لما سبق في / علمه من أنهم لا يؤمنون.
وقيل: معناه: أنهم [لما تجاهلوا عن] قبول أمر الله عز وجل وفهمه، وَصَمُّوا عن أمر الله سبحانه، جعل الله تعالى ذلك منسوباً إليهم عن فعلهم، كما يقال: " أهلكه المال " أي هلك به.
وقيل: معناه: أن الله تعالى جعل ذلك علامة تعرفهم بها الملائكة.
وأصل الختم الطبع. والرين على القلب دون الطبع، والقفل أشد من الختم.
قال مجاهد: " القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد قبض عليه - وأشار بقبض الخنصر تمثيلاً - ثم إذا أذنب قبض عليه، ومثل بقبض البنصر هكذا حتى ضَمَّ(1/146)
أصابعه كلها. ثم يطبع عليه أي يختم ".
وقال ابن عباس: " إنما سمي القلب قلباً لأنه يتقلب ".
وروى أبو موسى الأشعري أن النبي [عليه السلام] قال: " الْقَلْبُ مِثْلُ رِيشَةٍ فِي فَلاَةٍ يُقَلّبُهَا الرّيحُ ".
وعنه في حديث آخر: " تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ بِأرضِ " فضاءِ ظَهْر البَطْنٍ ".
قوله: {على قُلُوبِهمْ}. تكتب " على " " وإلى " و " لدى " بالياء دون سائر الحروف مثلها لأنها أخف من الأفعال، وكثر استعمالها، ولأن ألفها يرجع إلى الياء مع المضمر دون سائر الحروف فكتبت مع المظهر بالياء لذلك.
وتقع " على " بمعنى الباء، تقول: " آركب على اسم الله " أي باسم الله.
وتقع بمعنى " مع " نحو قولك: " جئت على زيد " أي معه. وتقع بمعنى " من " نحو قوله: {عَلَى الناس / يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] أي من الناس. وتقع أيضاً في مواضع(1/147)
حروف أخر قد ذكرناها في كتاب مفرد للحروف.
وقوله: {وعلى سَمْعِهِمْ}.
إنما وُحِّد السمع لأنه مصدر يقع على القليل والكثير.
وقيل: وُحِّد لأنه يؤدي عن الجمع.
وقيل: التقدير: " وعلى مواضع سمعهم "، ثم حذف المضاف وإنما أعيدت " على " في قوله: " {وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم} للتأكيد في الوعيد.
وقيل: أعيدت لأجل مخالفة السمع للقلوب في أنه أتى / بلفظ التوحيد، وأتت القلوب بالجمع.
وقيل: أعيدت لأن الفعل مضمر مع الحرف تقديره: " وختم على سمعهم ". فأما إعادة الحرف في {وعلى أبصارهم}، فلِلعِلَلِ التي ذكرنا، ولأنه حرف متصل بفعل مضمر غير الأول فقويت فيه الإعادة، والتقدير: " وجعل على أبصارهم غشاوة ". وهذا، إنما هو على قراءة من نصب غشاوة، وهو مروي عن عاصم.
فأما من رفع، فإنما أعيد الحرف لأنه مخالف للأول، لأنه خبر ابتداء.(1/148)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
ومعنى الغشاوة الغطاء، ومنه: " غاشية السيف والسرج " أي غطاؤه.
وفي {غِشَاوَةٌ}، لغات قرئ بها، وهي فتح الغين؛ وبه قرأ أبو حيوة، وضم الغين؛ وبه قرأ الحسن. وقرأ الأعمش " غَشْوَة " على فعلة.
وقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الآية.
أصل نون " مِنْ " أن تكسر لالتقاء الساكنين كنون " عَنْ " إذا لقيها ساكن، لكنها فتحت استثقالاً لاجتماع كسرتين / في حرف على حرفين.
والهاءات من قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} تعود على الكفار كلهم على من سبق في علم الله منهم أنه لا يؤمن.(1/149)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
وقيل: تعود على كفار اليهود الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والسورة مدنية.
وقيل: عني بهذه الآية المنافقون؛ يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر.
قوله: {يُخَادِعُونَ الله}.
الخداع: إظهار خلاف الاعتقاد.
وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم}.
أي وباله يرجع عليهم. واختار جماعة من العلماء: (وَمَا يَخْدَعُون) - بفتح الياء وسكون الخاء - من غير ألف، وهي قراءة ابن عامر وأهل الكوفة، وإنما اختاروا ذلك لأن الله جل ذكره أخبر عنهم أولاً أنهم {يُخَادِعُونَ الله}.
ولفظ قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم}، نفي ذلك، فيصير في ظاهر اللفظ قد أوجب شيئاً ثم نفاه بعينه، فوجب أن يختاروا {وَمَا يَخْدَعُونَ}(1/150)
ليكون المنفي على معنى مخالفاً للموجب.
[فأما وجه] قراءة من قرأ الثاني " {وَمَا يَخْدَعُونَ} بألف فهو على معنى: وما يخادعون تلك المخادعة المذكورة عنهم إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم.
و" خادع " في اللغة، يجوز أي يكون معناه / معنى " خدع " من واحد. ومعنى " خدع " بلغ مراده. فلذلك أجمع القراء على {يُخَادِعُونَ} في الأول لأنه ليس بواقع، وفي الثاني {يُخَادِعُونَ} بغير ألف لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم وراجع عليهم.
وذكر القتبي أن معنى الأول: يخادعون بالله الذين آمنوا / وهو قولهم إذا لقوا المؤمنين: آمنا ".
وأصل المفاعلة أن تكون من اثنين، لكن قد أتت من واحد، قالوا: " عَاقَبْتُ اللِّصَّ "، " وَطارَقْتُ النَّعْلَ " و " جَازَيْتُ فُلاناً وَحَادَيْتُهُ وََوَادَعْتُهُ وَدارَيْتُهُ ".
والمخادعة في هذا المعنى إنما هي للنبي / صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي يخادعون نبي الله وأولياءه. و " خدع " فعل واقع، و " خادع " فعل يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع،(1/151)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
فلذلك اختار بعض العلماء، {وَمَا يَخْدَعُونَ} إلا أنفسهم لأنه فعل واقع بهم بلا شك، " فَيَخْدَعُون " أولى من " يخادعون " الذي يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع.
وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ}.
أي ليس يشعرون، أي يعلمون أن ضر مخادعتهم راجع عليهم.
وقوله: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي مؤلم.
وجمع " أليم " فيه ثلاثة أوجه:
إن شئت: " إلام " كَكَريم وكِرَامٍ، وإن شئت: أُلَماء كَظَريفٍ وَظُرَفَاء وإن شئت " أَلاْمٌ " كَشَرِيف وأَشْرافٍ.
و" فعيل " يأتي على ضربين: اسم وصفة؛ فإذا كان اسماً، فجمعه في أقل العدد على " أَفْعِلة "، وفي أكثره على " فَعُل " كَرَغِيفٍ وأَرْغِفَةٍ ورُغفٍ. وقد يأتي في الكثير على " فُعْلانٍ "، قالوا: " رُغْفَانٌ وقُضْبَانٌ وكُثْبَانٌ "، وقد أتى على " أفْعِلاَء "، نصيبٌ وأنصباءٌ، وخميسٌ وأخْمِساءٌ ".(1/152)
فإن كان " فَعيلٌ " صفة، فهو على نوعين: سالم ومعتل:
- فالسالم يجمع على " فُعَلاء " نحو " كرماء "، و " عُلَماء " وقد قالوا: كِرامٌ وشِرافٌ.
- والمعتل يجمع على أفعلاء نحو " أَوْلِياء " و " أَصْفِياءَ ".
وكذلك المضاعف نحو " أَشِدَّاء " و " أَشِحَّاء "، وقد قالوا: أَنبياءٌ يجمع على أفعلاء على تقدير لزوم تخفيف الهمزة فيصير " كَتَقي وأَتْقِياء ". ومن همز قال: نَبِئاء على " فُعلاَءَ " ويجوز على مذهب من همز أنبياء [بجعله نادراً] " كخميس وأخمساء ". وقد قالوا: [في جمع] جليل: جلّة، وهو نادر استغنوا به عن " أَجِلاّء ".
وقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. أي: شك ونفاق.(1/153)
{فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً}.
الزيادة هنا هي نزول القرآن بالفروض فلا يتبعونها، فيزدادون شكاً، ويزداد المؤمنون بعمل الفرائض إيماناً كما قال: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً} [التوبة: 124 - 125].
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. أي بتكذيبهم الرسل.
وقيل: بتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم. وهذا التفسير يدل على صحة قراءة من قرأ {يَكْذِبُونَ} بالتشديد، ويدل على قوة التشديد أن الكذب لا يوجب العذاب الأليم، إنما يوجبه التكذيب. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عنهم بالشك في أول الكلام، ومن شك في شيء فقد كذب به، فالتكذيب أولى بآخر الآية على هذا القول.
ومما استدل به من قرأه {يَكْذِبُونَ} / بالتخفيف؛ أن الله جل ذكره أخبر أنهم يقولون: {آمَنَّا} وقال: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}. فأخبر عنهم بالكذب في قولهم: {آمَنَّا}. وتوعَّدهم عليه بالعذاب الأليم، وهو من الكذب أولى من أن يكون من التكذيب إذ لم يتقدم في صدر الآية إلا الإخبار عنهم بالكذب، لا بالتكذيب.(1/154)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
والقراءتان قويتان متداخلتان حسنتان لأن المَرَض الشك ومن شك في شيء فقد كذب به.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}.
كل النحويين على أن " إذا " ظرف زمان مستقبل.
وقال المبرد: " هي في المفاجأة ظرف مكان إذا قلت: " خرجت فإذا زيد ". واستدل على ذلك بأنها قد تضمنت الجثة، وظروف الزمان لا تتضمن الجثة، لو قلت " اليوم زيد " لم يجز إلا على حذف مضاف تقديره /: اليوم حدوث زيد.
وقال أكثر النحويين: " إذا ": في المفاجأة ظرف زمان على أصلها والتقدير: " خرجت فإذا حدوث زيد وظروف الزمان تتضمن المصادر كظروف المكان.
وأصل " قيل ": " قول " فألقيت حركة الواو على القاف وانقلبت الواو ياء لسكونها / وانكسار ما قبلها. وكذلك " بِيعْ " أصله " بِيِعَ "، فألقيت حركة الياء(1/155)
على الباء، فصارت ذوات / الواو والياء بلفظ واحد، وهي اللغة المشهورة المستعملة. ولك أن تشم القاف والياء بالضم الذي هو أصلها، وقد قرئ به.
ولك في غير القرآن أن تقول: " قُوْل ": فتسكن الواو استثقالاً للكسر عليها، وتترك القاف على ضمتها، وكذلك يجوز لك فيما كان عينه ياء، نحو: " بُوع المتاع "، فيصير ذوات الواو والباء بلفظ واحد، كما صار في اللغة الأولى المستعملة بالياء فيهما.
قوله: {لاَ تُفْسِدُواْ}.
أي: لا تعبدوا إلا الله، وعبادة غير الله من أعظم الفساد.
وحكى الكسائي " اللَّرض " بتشديد اللام وعوض من الهمزة لاماً، وإدغامها في لام التعريف. وقال الفراء في هذه اللغة: " إن لام التعريف لما ألقي عليها حركة الهمزة استكره ذلك فيها إذ أصلها السكون، فزيد بعدها لام أخرى وأسكن الأولى فردها إلى أصلها وأدغمها في اللام المزيدة، فرجعت لام التعريف إلى(1/156)
أصلها وهو السكون ".
قوله: {قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
هذا قولهم على دعواهم وليسوا كذلك، لأن من أبطن الكفر وأظهر الإيمان فهو من أعظم المفسدين. وهذا كله خبر عن المنافقين.
قال مجاهد وغيره: " أربع آيات من أول سورة البقرة / نزلت في نعت المؤمنين وآيتان بعد ذلك في نعت الكافرين، [وثلاث عشرة] آية بعد ذلك في نعت المنافقين.
وقال مقاتل بن سليمان: " الآيتان الأوليان من سورة البقرة اللتان آخرهما {يُنْفِقُونَ} نزلتا في المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين. والآيتان اللتان آخرهما {المفلحون} نزلتا في المؤمنين من أهل التوراة، والآيتان اللتان بعدهما، اللتان آخرهما {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} نزلتا في الكفار. [وثلاث عشرة] آية بعدهما نزلن في(1/157)
المنافقين من أهل الكتاب ".
قوله: {نَحْنُ}.
هو اسم مضمر يقع للواحد الجليل القدر، وللاثنين وللجماعة.
وحقه البناء على السكون لأنه مضمر، والمضمرات كلها مبنية؛ وإنما بنيت لأنها مشابهة للحروف، إذ لا تخص شيئاً بعينه، ولأنها تكون على حرف واحد، وحرف واحد لا يعرب. وإنما حرك " نحن " وحقه السكون لأن قبل آخره ساكن يحرك الآخر لالتقاء الساكنين. واختير لها الضم في قول المبرد لأنها مشبهة بِ " قَبْلُ " و " بَعْدُ "، وذلك لأنها تتعلق بالإخبار عن اثنين فأكثر.
وقال هشام الكوفي: " أصل " نَحْنُ ": نَحُن، فردت حركة الحاء على النون بعدها ".(1/158)
وقال أحمد بن يحيى: " ضمت " نحن " لقوتها لأنها تضمنت التثنية [والجمع]، وقد تكون للواحد فأعطيت أقوى الحركات وهي الضم ".
وقيل: إنما ضمت لتضمنها تثنية وجمعاً، فصارت مشبهة بـ " حيث " لانها تضمنت مكائن.
وقال الزجاج: " لما كانت الواو من علامات الجماعة واحتيج إلى حركة النون من " نحن " لسكونها وسكون ما قبلها، حركت بما يشبه الواو وما هو منها، وهي الضمة. ولهذا ضموا واو الجمع إذا احتاجوا إلى حركتها في نحو قوله: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16].
وقال علي بن سليمان: " نحن " من علامات المضمر المرفوع فلما احتيج إلى(1/159)
حركته حركوه بأخت الرفع وهو الضم ".
ومعنى قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي هذا الذي تسمونه / فساداً هو صلاح عندنا.
وقيل: إن معناه: [أنهم قالوا]: نريد الإصلاح بين المؤمنين وأهل الكتاب.
وعن سلمان الفارسي أنه قال: " لم يجىء هؤلاء بعد ".
وأكثر المفسرين على أن هذا نزل في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معنى قول سلمان: " لم يجئ هؤلاء بعد " أي لا يأتون لأنهم قد انقرضوا.(1/160)
فإن قيل: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، فقد أخبر الله عنهم أنهم لا يعلمون أنهم مفسدون / فالجواب أن القوم كانوا يبطنون الفساد وهم يعلمون به، ويظهرون / الصلاح الذي ادعوا، وهم لا يشعرون أن الله يظهر ما يبطنون، فإنما معنى {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ}: أي لا يعلمون أن الله يظهر ما يبطنون من النفاق والكفر.
والهاءات من: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} إلى {يَشْعُرُونَ} يعدن على " من " في قوله: {مَن يَقُولُ آمَنَّا} وهم المنافقون. وعلى هذا أكثر الناس.
ودخلت الألف واللام في (المُفْسِدينَ)، لأنه جواب كلام سبق منهم إذ قالوا: محمد وأصحابه مفسدون في الأرض.
فأخبر الله أنهم هم المفسدون، ولو كان على غير جواب لم يدخله الألف واللام. ألا ترى لو أنك قال لك قائل: " أنت ظالم "، فأردت أن ترميه بغير الظلم لقلت: " أنت كاذب أنت فاسق "، ولا تقوله بالألف واللام، لأنه غير جواب قوله.
فإن أردت أن ترميه بمثل ما رماك به، قلت له: " أنت الظالم "، ولو أضمرت / لقلت: " أنت هو ". ولو رميته بمثل ما رماك به لم يجز الإضمار في جوابك،(1/161)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
إنما تضمر إذا رميته بمثل ما رماك به، لأنه معرفة، فالجواب معرف أبداً إذا كان رد اللفظ / الأول.
قوله: {كَمَآ آمَنَ السفهآء}.
أصل السفه قلة الحلم، فقيل للجاهل سفيه لقلة حلمه يقال: ثوب سفيه، أي بال رقيق.
قول: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء}.
ردَّ الله عليهم قولهم وأعلم المؤمنين أنهم أحق بهذا الاسم، ولا عذر لهم فيما وصفهم الله به من السفه لأنهم إنما لحقهم ذلك إذ عَابوا الحق وخالفوه، وسفهوا المؤمنين واستحقوا هذا الاسم لفعلهم، وكانوا به أولى من المؤمنين.
قوله: {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ}.
معناه [أنهم لا يعلمون] أنهم أولى بهذا الاسم وهو السفه، وأن الله يطلع المؤمنين على ما يبطنون.
قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ} الآية.(1/162)
أصل " لَقُوا ": " لقيُوا "، فألقيت حركة الياء على القاف، وحذفت الياء لسكونها وسكون الواو بعدها. [وهذه] صفة المنافقين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ}.
يعني أصحابهم، وقيل: رؤساؤهم في الكفر قال الله: {شياطين الإنس} [الأنعام: 112] فسمى أهل الفسق من الإنس شياطين.
وقيل: الشياطين هنا الكهان.
وقيل: هم الكفار والمنافقون إذا لقوهم قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} أي على دينكم.
و" إلى " بمعنى " مع "، كما قال: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي مع أموالكم.(1/163)
وقيل: إلى على بابها.
[والعرب] تقول: " خلوت به "، و " خلوت إليه ومعه "، لكن الباء يجوز أن تدل على أن معنى " خلوت به " من السخرية و " إلى " لا تدل إلا على " خلوت إليه " في أمر ما. والآية ليست / على معنى السخرية، فلذلك لم يأت بالباء لما فيها من الإشكال إذ هي تحتمل معنى " إلى "، وتحتمل السخرية. وأيضاً فإن معنى " إلى " أنه على معنى: [وإذا صرفوا] إلى شياطينهم / قالوا: إنا معكم، أي على دينكم [فالجالب لِ إلى "] الانصراف الذي دل عليه الكلام، والباء لا تدخل مع الانصراف الذي دل عليه الكلام، فلذلك أيضاً لم تدخل مع " خلوا ".
وفي اشتقاق " شيطان " قولان:
- قيل: هو فعلان من " شيط " فلا ينصرف إذا سميت به في المعرفة للتعريف(1/164)
والزيادتين كعثمان، وينصرف في النكرة، وذلك المستعمل فيه في الكلام والقرآن. أعني النكرة على أنه واحد من جنسه كَسِرْحَان اسم واحد " الذِّئَاب ".
- وقيل: هو (فَيْعَال) من الشطن وهو الحبل، فيكون معناه أنه ممتد في الشر، ومنه " بِئْر شَطُونٌ "، إذا كانت بعيدة الاستقاء. وهو عند القتبي فَيْعال " من شطن " أي بَعُدَ من الخير يقال: " شطنت داره "، أي بعدت.
فهو ينصرف على هذين القولين في المعرفة والنكرة. وتصغيره على القول الأول في المعرفة شيطان، ولا يجمع على شياطين إلا أن تجعله نكرة فيجمع على شياطين. " كسرحان، وسراحين، ووزنه فعالين على مذهب من جعله مِنْ " شَيَّطَ " ووزنه (فياعيل) على مذهب من جعله من " شطن " وتصغيره على القولين الآخرين " شييطين " في المعرفة والنكرة.
قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
أي نستهزئ بالمؤمنين في قولنا / لهم: " آمنا ". وهمزة " مستهزئون " يجوز في تخفيفها وجهان: أحدهما: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والواو(1/165)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
الساكنة، وهو قول سيبويه.
والوجه الثاني: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والياء الساكنة لأجل انكسار ما قبلها وهو قول الأخفش. وحكى بدلها بياء مضمومة وليس بقياس.
قوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}.
معناه: الله يجازيهم على قولهم. والعرب تسمي جزاء الذنب باسمه. قال الله جل ذكره: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. وقال: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
فالأول من هذا استهزاء وسيئة، وعدوان، والثاني: جزاء عليه، فسمي باسمه اتساعاً لأن المعنى قد علم.
وقيل: معنى {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}: أي يقطع عنهم نورهم يوم القيامة إذا أخلوا على الصراط [ويديم نور] المؤمنين وهو قوله: {فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13]، فهو يعطيهم يوم القيامة نوراً لا يتم لهم، ولا(1/166)
ينتفعون به / لانقطاعه عنهم.
وقال الحسن: " إن جهنم تجمد كما تجمد الإهالة في القدر، فيقال لهم: هذا طريق، فيمضون فيه فيخسف بهم إلى الدرك الأسفل من النار.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " يقال لأهل النار يوم القيامة: أخرجوا من النار. وتفتح لهم أبواب النار فإذا رأوا الأبواب قد فتحت أقبلوا إليها، يريدون الخروج منها، والمؤمنون ينظرون إليهم من الجنة - وهم على الأرائك - فإذا انتهى أهل النار إلى أبوابها يريدون الخروج منها غلقت [أبوابها دونهم]، فذلك قوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}، قال: ويضحك المؤمنون عند ذلك، وهو قوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34].
وقيل معنى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} أي يظهر لهم من أحكامه في الدنيا في حقن دمائهم وسلامة أموالهم خلاف ما يظهر لهم من عذابه يوم القيامة جزاء على إظهارهم للمؤمنين في الدنيا خلاف ما يبطنون.
وقيل: معناه: يُمْلي لهم، كما قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44].(1/167)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
/ قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
أي يطيل لهم في الأجل المكتوب لهم، وهم في طغيانهم يتحيرون. والطغيان والعتو والعلو بغير الحق، والعمه التحير.
/ وقيل: معنى {يَعْمَهُونَ} يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون رشدهم كما قال: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ} [الملك: 22] وهذا كله من صفات المنافقين عند أكثر المفسرين.
وقال الضحاك: " هو في اليهود ".
قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} الآية.
أي هؤلاء الذين تقدمت صفاتهم هم الذين باعوا الهدى بالضلالة لأنهم لَمَّا مَالُوا إلى الضلالة وتركوا الهدى، كانوا بمنزلة من باع شيئاً بشيء، فوصفوا بذلك.
وأصل الضلالة الحيرة، ويسمى الهالك التالف ضالاً نحو قوله: {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] أي هلكنا وتلفنا. ومنه قوله: {أَضَلَّ أعمالهم} [محمد: 1]، أي أتلفها(1/168)
وأهلكها وأبطلها. ومنه قوله: {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] أي لن يبطلها ويتلفها ويهلكها.
فكأن هؤلاء لما أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى كانوا بمنزلة من لم يربح في تجارته، وأضاف الربح إلى التجارة لأن المعنى مفهوم وهو من اتساع العرب ومجازه. وهو كثير في القرآن أي في كتاب الله، إذ هو من كلام العرب، والقرآن نزل بكلامهم فلا ينكر أن يأتي القرآن بما هو في كلام العرب معروف مشهور إلا من عدم حسه وفارق فطنته، ومثله قولهم: " نَهَارُكَ صَائِمٌ وَلَيْلُكَ قَائِمٌ "، / ومنه قوله: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33]. وهو كثير في الكلام والقرآن.
وحركت الواو في " اشْتَرُوا " لسكونها، وسكون لام التعريف بعدها، وكان الضم أولى بها لأنها واو جمع، ولأن الضمة عليها أخف من الكسرة، ولأن لام الفعل المحذوفة قبلها كانت مضمومة. وأصله " اشتريوا " فقلبت / الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحذفت الألف لسكونها وسكون الواو بعدها. وبقيت الفتحة تدل على الألف، ولم ترد الألف عند حركة الواو لأن حركتها عارضة ليست بلازمة.
ويجوز في الواو الكسر والفتح. ويجوز الهمز، وهو بعيد جداً.(1/169)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
أي لم يكونوا في علم الله السابق ممن يهتدي فيؤثر الهدى على الضلالة.
قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} الآية.
معناه مثل هؤلاء المنافقين في حقنهم دماءهم بما أظهروا من الإيمان وَسِتْرِهم على غير ذلك، كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنورهم. فضياء ما حولهم هو ما حقن إقرارهم من دمائهم ومنع من أموالهم في الدنيا.
وقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ}.
هو ما يجدون يوم القيامة من عدم نورهم لأنهم لا ينتفعون بما أظهروا من الإيمان إذ كان باطنهم خلاف [ما أظهروا].
وقوله: {استوقد نَاراً}. أي استوقدها من غيره.
وقيل: معناه: أوقد، أي أوقدها هو.
واستفعل في كلام العرب يأتي على وجهين:
- يكون بمعنى استدعى الفعل من غيره نحو قوله:(1/170)
{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60]. أي استدعى أن يسقوا.
- ويكون بمعنى فعل، نحو قوله: {واستغنى الله} [التغابن: 6] فلم يستدع غني من واحد، وبعده: {والله غَنِيٌّ} [التغابن: 6] يدل على ذلك.
و" ما " في قوله: {أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ} في موضع نصب بِ " أَضَاءَتْ ".
وقيل: هي زائدة / لا موضع لها من الإعراب. والمعنى: " فلما أضاءت النار، الموضع الذي بحوله. " فما " غير زائدة.
قال قتادة: " هي لا إله إلا الله، قالوها بأفواههم فَسَلِمُوا بها من القتل حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم ".
قال مجاهد: " هو إقبالهم على المؤمنين والهدى. وذهاب النور، هو إقبالهم على الكفار.
وقيل: ذهب الله بنورهم، أي أظهر المؤمنين على ما أبطنوا من الكفر والنفاق.(1/171)
فبعد أن كان لهم عند المؤمنين نور بما أظهروا من الإيمان صاروا لا نور لهم عندهم، لما أعلمهم به من سوء / ما أبطنوا.
والقول الأول عليه أكثر المفسرين؛ أن ذهاب نورهم إنما يكون يوم القيامة وهو الذي ذكره الله في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13].
والهاء والميم تعود على " الذي " لأنه بمعنى " الذين كما قال: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون} [الزمر: 33]. وفي هذا اختلاف ستراه في موضعه إن شاء الله.
ومنه قول الشاعر:
إنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلَّ الْقَوْمِ يَا وأُمَّ خَالِدِ
وقيل: تعود على المنافقين المتقدمي الذكر.
وجواب " لما " محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ذهب الله بنورهم.
قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ}.
هذا تمثيل للكفر الذي هم فيه يسيرون.(1/172)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
وقيل: هو شيء يكون في الآخرة، وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13].
فظلمات جمع ظلمة، ويجوز إسكان اللام من " ظلمات " استخفافاً، ومن العرب من يبدل من الضمة فتحة، فيقول ظُلَمَات.
وقال الكسائي: " من قال: ظُلَمَات بفتح اللام فهو جمع " ظُلَم "، و " ظُلَم " جمع " ظُلْمَة ". ولا يجوز الفتح في مثل هذا في الحرف الثاني مما لامه واو ونحو خطوات. إنما / يجوز الإسكان لا غير. فإن كان اللام ياء لم يجز فيه إلا الإسكان نحو [كُلْيَةٍ وَكُلْيَاتٍ].
قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.
أي هم صم عن الحق وسماعه، وهم بكم عن قول الإيمان وهم عمي عن النظر / إلى الآيات الدالات على الإيمان بالله ورسوله. وإنما وصفوا بذلك، ولم يكونوا صماً ولا بكماً وعمياً، لأنهم لَمَّا لم ينتفعوا بهذه الجوارح كانوا بمنزلة من عُدِمها، / فلم ينتفع بها.
وقوله: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون عن ضلالتهم.(1/173)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} الآية.
الصَّيِّب: المطر، وأصله " صَيْوِبٌ " عند البصريين من " صابَ " يَصُوبُ "، والصَّوْبُ: نزول المطر. يقال: " صَابَ المطر " إذا نزل.
وقال الكوفيون: " أصله صَوِيب على فعيلٍ كَرَغِيفٍ، ويلزمهم ألا يعلوه كما لم يعلوا " طويلاً ". واعتل عند البصريين لأن الياء إذا أسكنت وأتت بعدها واو، قلب من الواو ياء وأدغمت الأولى في الثانية " كَمَيِّتٍ " و " هَيِّنٍ ".
وقيل: الصَّيِب: السحاب الذي فيه المطر، لا المطر، روي عن ابن عباس.
ومعنى: صاب: نزل وقصد. والمعنى أن الله جل ذكره أباح للمؤمنين(1/174)
أن يمثلوا المنافقين بالذي استوقد ناراً أو بالصيب. و " أو " للإباحة. وجمع " صيب ": صيائب.
والرعد: مختلف فيه، فقال مجاهد: " هو ملك يزجر السحاب بصوته، فالمسموع صوته ".
وقال شهر بن حوشب: " الرعد ملك يتوكل بالسحاب / يسوقه كما يسوق الحادي الإبل يسبح كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه فهي الصواعق ".
وقال ابن عباس: " الرعد ريح "، قيل: إنها تختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منه ذلك الصوت.
وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: " الرعد اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره بالسحاب، اضطرم السحاب من خوفه فيحتك، فتخرج الصواعق(1/175)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
من بينه ".
ومعنى الآية عند ابن عباس أنه مثل ضربه الله في المنافقين، فالظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على ما أبطنوا.
ومعنى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} أي يكاد الحق الذي دعوا إليه فخالفوه أن يهلكهم.
وقوله: {مُحِيطٌ بالكافرين} أي جامعهم بقوة.
قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ}.
هو مثل لما أظهروا من الإيمان الذي حقن دماءهم ومنع من أموالهم. {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}: أي ثبتوا على ما أبطنوا من كفرهم.
وقال ابن مسعود: " كان رجلان من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، واشتد عليهم البرق والصواعق وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً صلى الله عليه وسلم، نضع بأيدينا في يده،(1/176)
فأصبحا فأتياه، وحسن إسلامَهُما. فضرب الله شأنهما وما نزل بهما مثلاً للمنافقين الذين كانوا بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيهم من نفي أو قتل كما فعل الرجلان خوفاً من صوت الصواعق ".
ودل على ذلك قوله تعالى: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ} [التوبة: 64].
وعن ابن مسعود أيضاً في الآية أن قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} معناه: إذا كثرت أموالهم وغنموا ودامت سلامتهم قالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق وتمادوا على إظهار الإيمان وهو قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} أي تمادَوْا على حالهم، فإذا أحربوا وهلكت أموالهم، قالوا: هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم.(1/177)
وقال الحسن: " معنى المثل الأول في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} أنه تعالى مثل المنافقين كمثل رجل يمشي في ليلة مظلمة وفي يده شعلة من نار فهو يبصر بها موضع قدميه، فبينا هو كذلك أحوج ما كان إلى الضياء طُفئت ناره / فلم يبصر كيف يمشي. وإن المنافق تكلم بـ " لا إله إلا الله " فناكح بها المسلمين وحقن دمه وأحرز ماله. فلما كان عند الموت والحاجة / إليها سلبه الله إياها إذ لم تكن حقيقة، فبقي لا شيء معه كما بقي ذلك الرجل في ظلمة لا ضوء معه ".
وقيل: هي مثل في اليهود إذ في كتابهم ذكر محمد [عليه السلام] وصفته، فرأوه وعلموه فلم ينفعهم ذلك وكفروا به على علم منهم أنه نبي حق ".
وعلى أن الأمثال ضربها الله في المنافقين أكثر أهل التفسير.
قال الربيع بن أنس: معنى ذلك مثلهم كمثل قوم صاروا في ليلة مظلمة فيها رعد ومطر وبرق على جادة ظلماء، فإذا [أبرق أبصروا] ومشوا، / وإذا أظلم(1/178)
تحيروا وشكوا في الجادة. وكذلك المنافق؛ إذا تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له الأمر، وإذا شك تحيَّر وانتكس فصار في ظلمة من أمره ".
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} الآية.
/ خص الله جل ذكره ذكر السمع والبصر [لتقدم ذكرهما] قبل ذلك، ووحَّد السمع لأنه مصدر يدل على القليل والكثير من جنسه.
وقيل: معنى الآية: " لو شاء الله لأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم وكفرهم فيستحلَّ دماءهم وأموالهم وأولادهم، وفيه تهديد ووعيد.
واختلف في البرق؛ فروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " هو مخاريق الملائكة ".
وعنه أنه قال: " يحدث من ضرب الملك السحاب بمخراق من حديد "
وقال " الرعد صوت الملك ".(1/179)
وعن ابن عباس: " أن البرق سوط من نور يزجي به الملك السحاب " يريد أن البرق نور السوط إذا ضرب به.
وقال مجاهد: " البرق مصع الملك " والمصع الضرب، والمصاع عند العرب المجالدة بالسيوف والمخاريق السياط، واحدها مخراق وهو السوط.
وروى مجاهد عن ابن عباس " أن البرق ملك يتراءى ".
وفي يَخْطَفُ " أوجه وقراءات أفصحها " يخطف " بفتح الطاء مخففاً. ولغة أخرى بكسر الطاء مخففاً، وبه قرأ علي بن الحسين وابن وثاب، فدل ذلك على أنه يقال: خَطَفَ، يَخْطَفُ، وَخَطِفَ يَخْطِف لغتان فيه.(1/180)
- ووجه ثالث: قرأ به الحسين وقتادة وعاصم الجحدري وهو كسر الخاء والطاء والتشديد، وأصله، " يَخِطِّفُ "، فأدغم التاء في الطاء بعد أن أسكنها وكسر الخاء لالتقاء الساكنين.
- ووجه رابع: وهو فتح الخاء وكسر الطاء مشدداً وأصله أيضاً " يَخْتَطِفُ "، ثم ألقى حركة التاء [على الخاء]، وأدغم التاء في الطاء، وهو مروي أيضاً / عن الحسن.
وحكى الفراء إسكان الخاء، والتشديد عن بعض أهل المدينة. كأنه أدغم التاء في الطاء، وترك الخاء على سكونها في " يختطف "، وهو بعيد، لأنه جمع بين ساكنين ليس أحدهما حرف لين.
- ووجه سادس: ذكره الأخفش والكسائي والفراء، وهو كسر الياء والخاء والتشديد، وهو كالوجه الثالث إلا أنه كسر الياء للاتباع.
- ووجه سابع: قرأ به أُبَيٌّ، وهو " يَتَخَطَّفُ " على " يَتَفَعَّلُ " مثل(1/181)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
" يَتَغَسَّلُ ".
ومعنى يخطف يأخذ بسرعة.
وفي " أضاء " لغتان: ضاء وأضاء بمعنى حكاهما الفراء.
قوله: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} الآية.
قال ابن مسعود: " كل شيء في القرآن، {يا أيها الناس} فهو مكي، وكل شيء في القرآن: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} فهو مدني ". وقاله عروة بن الزبير والضحاك.
قال أبو محمد: وهذا القول إنما هو على الأكثر وليس بعام، لأن البقرة والنساء مدنيتان وفيهما {يا أيها الناس}. وفي كثير من السور المكية {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 104] ومعنى الآية يا أيها الناس، أخلصوا العبادة لربكم الذي خلقكم، وخلق الذين كانوا من قبلكم، وإنما خاطب الله الكفار بهذا لأنهم كانوا مقرين بأن الله(1/182)
خالقهم، دليل ذلك قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. فقيل لهم: إذا كنتم مقرين بأن الله خالقكم فاعبدوه، ولا تجعلوا له شركاء، ومعنى الخلق الاختراع.
وقيل: هو التقدير، تقول: " خلقت الأديم " إذا دبرته وقدرته.
/ والخلق الذي هو الاختراع والابتداع على أربعة أوجه:
- الأول: خلق ما لم يكن كخلق الله العالم من غير شيء.
- والثاني: قلب عين إلى عين، كقلب الله النطفة علقة والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً / فالثاني غير الأول.
- والخلق الثالث: تغيير العين وهي موجودة كرد الله الصغير كبيراً، والأبيض أصفر، فالعين قائمة والصفة تغيرت.
- والرابع: تغير الحال والعين كما هو، نحو كون القائم قاعداً، والعاجز قادراً، فلم تتغير العين ولا الصفة، إنما تغيرت الحال.(1/183)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أي تتقون ما نهاكم الله عنه.
وقيل: معناه لعلكم تتقون " الذي جعل ". " فالذي " في موضع نصب بـ {تَتَّقُونَ}. و " لعل " مردودة إلى المخاطبين. والمعنى اعبدوه واتقوه على رجائكم وطمعكم.
وحكى الزجاج: أن " لعل " بمعنى " كي " في هذا الموضع، وهو بعيد.
قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فراشا}.
أي بساطاً، وإنما سميت الأرض أرضاً لارتعادها عند الزلازل. يقال: " رجل ما روض " إذا / كانت به رعدة، " وأرض ماروضة " إذا كانت كثيرة الزلازل.
وقوله: (مهاداً) هو خصوص مهد الله من الأرض ما بالناس إليه حاجة ومنفعة. وإلا ففيها السهل والوعر والجبال والأودية والهبوط والصعود.
قوله: {والسماء بِنَآءً}.
أي مرتفعة عليكم. والسماء تذكر وتؤنث.
وقال المبرد: " السماء هنا جمع [سماوة] (*) [كتمرة وتمر]، ودليله قوله:
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في الأصل [السماوات]، وفي الهامش كتب المحققون: في ح: سماوة.
قال أبو مالك العوضي: ما في المتن الخطأ والصواب ما في الهامش. . من الواضح هنا أن السماء لا يمكن أن تكون جمع السماوات، والتمثيل المذكور بعد ذلك واضح في المراد. . (ذكره في ملتقى أهل التفسير)(1/184)
{فسواهن} [البقرة: 29]. ولم يقل " فسواها ".
وتجمع السماء / إذا كانت واحدة على ستة أبنية:
- جمعان مسلمان، تقول: سماوات وسماءات.
- وجمعان مكسران لأقل العدد، تقول: سماء واسم وأسمية.
- وجمعان مكسران لأكثر العدد، تقول سماء وسمايا وسمي، وإن شئت كسرت السين في " سمي ". وقد جاء في الشعر " سَمَاءِيَا ". وفيه اتساعات ثلاثة. قال: / الشاعر:
سَمَاءُ الإلهِ فوقَ سَبْعِ سَمَاءِيَا. ... فعلى هذا يجوز أن تجمع سماء على سماء كصحار. فالشاعر شبه سماء برسالة لأن السَّمَاءَ فَعَالٌ، ورِسَالَةٌ فِعَالَةٌ، وهما أختان في عدد الحروف والحركات.
- والثالث فيها ألف بعدها كسرة، فكان يجب أن تقول " سمايا "، كما تقول: " رَسائِلٌ " و " خطايا "، فأتى به على الأصل، فقال " سمائي "، ثم لحقته ضرورة أخرى(1/185)
فأجرى المعتل مجرى السالم فقال: سمائي، وكان [حقه إذ] أتى به على الأصل أن يقول " سماء " كجوار وقاض لكنه أجراه للضرورة مجرى ما لا ينصرف من السالم ففتح، ثم أطلق الفتحة فصارت ألفاً، فقال " سماءيا ". ففيه ثلاثة اتساعات.
وفي الوقف على السماء المنصوبة خمسة أوجه:
-[أولها: أن تَقِفَ] على همزة ساكنة بعد مدة.
- والثاني: أن تروم حركة الهمزة وتمد.
- والثالث: أن تجعل الهمزة بين بين، وتروم الحركة وتمد.
- والرابع: أن تبدل من الهمزة أيضاً ثم تحذفها لسكونها وسكون الألف التي قبلها ولا تمد.
- والخامس: أن تبدل أيضاً وتحذف وتمد لتدل المدة على الأصل لأن الحذف عارض. وفي الوقف على بناء المنصوب أوجه:
- " بناء " بهمزة مفتوحة بعدها ألف، وقبلها ألف، فتمد قبل الهمزة مداً مشبعاً، وبعدها مداً ممكناً، وعليه أكثر القراء.
- والثاني: أن تجعل الهمزة بين بين، وتمد. وهو مذهب حمزة في الوقف.
- والثالث: أن تحذف الهمزة، وتحذف الألف لالتقاء ألفين، ولا تمد، فيصير بلفظ المقصور لغة للعرب، لم يقرأ به أحد.
- والرابع: أن تحذف الهمزة والألف على ما ذكرنا، وتمد لتدل على أن أصله المد.(1/186)
- والخامس: أن تبدل من الهمزة ياء، فتقول " بنايا " لغة للعرب لم يقرأ بها أحد / حكى عن العرب: " اشتريت مايا "، يريدون ماء يشبهونه بـ " خطايا ". وقد كان أصل خطاياءا، منقول من خطائي، ثم أبدلوا من الهمزة ياء.
وقد قال ابن كيسان: " لا يكتب هذا المثال إلا بألفين، وإن شئت بثلاث ألفات وهو الأصل فيها. وكتب في المصاحف بألف واحدة اختصاراً ".
وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض فراشا}.
أي مهاداً، لا حزنة كلها، ولا جبال كلها.
وقال بعض الصحابة في قوله: {والسماء بِنَآءً}، " بني السماء على الأرض / كهيئة القبة، فهي سقف على الأرض ".(1/187)
وقوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء} الآية.
في الوقف على " السماء " المخفوض و " ماء ". كالذي في الأول. " وبناء " مثل " ماء " في النصب.
وقوله: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات}.
" مِنْ " للتبعيض. و " السماء " في هذا الموضع يراد بها السحاب، لأن الماء منها ينزل كما قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14]. والمعصرات السحائب وكل ما علا فوقك فهو سماء. وسقف البيت سماؤه، وهو سماء لمن تحته.
وقوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً}.
أي أمثالاً. ونِدُّ الشيء مثله، والند خلاف الضد.
وقيل: شركاء. وقيل: أشباها. وقيل: أكفاء.
وروى ابن مسعود " أنه سأل النبي [عليه السلام] أي الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: [أنْ تجعلَ] للهِ نِداً وَهُوَ خَلَقَكَ " الحديث.(1/188)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
وقال عكرمة: " هو قولهم: لولا كلبنا لدخل علينا اللص ".
وقال أبو عبيدة: " الند الضد ".
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض.
وقيل: معناه: وأنتم تعلمون أن الله لا شبيه له في التوراة والإنجيل، فيكون الكلام مخاطبة لأهل الكتاب على هذا التأويل. وعلى القول الأول هو مخاطبة لجميع الكفار.
ومعنى العلم الذي نسبه إليهم أنه علم تقوم به عليهم الحجة، وليس بالعلم الذي هو ضد الجهل؛ دليله قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} [الزمر: 64]. فثبت جهلهم لأنهم علموا أن الله خالقهم، وجعلوا له أنداداً. فأما قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]. فهذا هو العلم الذي هو ضد الجهل.
قوله: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية.
أي إن كنتم أيها الناس في شك من القرآن أنه ليس من عند الله فأتوا بسورة(1/189)
من مثل القرآن.
وقيل: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في صدقه وأمانته. وقال ابن كيسان: " معناه أنهم زعموا أن محمداً شاعر وأنه ساحر، فقيل: إيتوا بسورة من مفترٍ أو من شاعر أو من ساحر.
وقيل: معنى: " من مثله " من مثل التوراة والإنجيل.
والاختيار / عند الطبري أن يكون معناه من مثل القرآن في بيانه، دليله قوله تعالى في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38]. ولا يحسن هنا إلا مثل القرآن. فحمل الآيتين على معنى واحد أولى. ولم يعن بقوله: {مِّن مِّثْلِهِ} إذا جعلت / الهاء للقرآن في التأليف والمعاني لأنه لا مثل للقرآن إنما عني {مِّن مِّثْلِهِ} في البيان لأن الله أنزله(1/190)
بلسان عربي مبين. فقيل لهم: كلامكم فيه البيان، وهذا القرآن فيه البيان فأتوا من كلامكم بسورة مثل القرآن في البيان، فأما التأليف والمعاني والرَّصف، فهي معان، بَايَن القرآن فيها المخلوقات، فلا مثل له في ذلك، يضاف إليه فاعلمه.
وفي اشتقاق السورة أربعة أقاويل:
- قيل: / سميت سورة لأنها يرتفع بها من منزلة إلى منزلة، ويشرف فيها / قارئها وحافظها على ما لم يكن عنده من العلم كإشرافه على سور البناء، فهي [منزلة رفعة].
كما قال:
ألَمْ تَرَ أنَّ الله أعْطَاكَ سورة.
أي منزلة في الشرف.
- والثاني: إنما قيل لها سورة: لتمامها وكَمَالِهَا. يقال للناقة التامة: السورة.
- والثالث: إنما سميت سورة لشرفها وارتفاعها في القَدْرِ، كما يقال لما ارتفع من البناء على هيئة سور.(1/191)
- والرابع: إنما سميت سورة لأنها بقية من القرآن وقطعة منه: يقال: " أَسْأَرْتُ في الإناء سُؤراً، أي أبقيت فيه بقية، " ودخل فلان في سائر الناس " أي في بقاياهم. فيكون أصله على هذا القول الرابع الهمز.
قوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم}.
أي ادعوا آلهتكم للمعونة على الإتيان بسورة من مثل القرآن.
وقيل: شهداءكم. معناه: أعوانكم على ما أنتم عليه.
وقيل: معناه: ادعوا شهداءكم إذا أتيتم بالسورة يشهدون لكم أنها مثل القرآن. ومعنى ادعوهم: استعينوا بهم.
وقيل: الشهداء / العلماء، أي استعينوا بهم على ذلك، وواحد الشهداء شهيد، وواحد الشهود شاهد، وواحد الأشهاد شهيد وشاهد أيضاً، وهو من نوادر الجموع.
فإن قيل لك: قد قال الله تعالى لهم في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} [هود: 13](1/192)
وهم قد عجزوا عن الإتيان بسورة، وإنما يطالب من عجز عن الشيء بأقل منه لا بأكثر.
- فالجواب عن ذلك أن قوله تعالى:
{فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} [هود: 13]، نزل قبل: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} لأن الأول مكي وهذا مدني، فلما عجزوا عن عشر سور، قيل لهم: فأتوا بسورة.
وقيل: إنما طولبوا في البقرة بسورة من مثله غير محدودة / في مدح و [لا] ذم ولا تعظيم ولا غيره، بل تجمع معاني كما تجمع ذلك سور القرآن، وكلفوا في العشر السور أن تكون مفتريات، ومن كلف معنى واحداً أخف ممن كلف معاني لا تحصى ولا تدرك.
فالتكليف في سورة البقرة أثقل وأضعف، وإن كانت سورة واحدة،(1/193)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
وهو في هود أخف، وإن كان بعشر سور لأنها في معنى واحد وقع بها التكليف في هود، وفي معان كثيرة وقع بها التكليف في البقرة.
قوله: {وَلَن تَفْعَلُواْ}.
أعلمهم الله أنهم لا يقدرون على ذلك، فهو رد ونفي لما كلفوا، أي إن كنتم صادقين. {وَلَن تَفْعَلُواْ} أي لن تطيقوا ذلك أبداً. فعلى هذا التأويل لا يحسن الوقف على " صادقين ".
قوله: {التي وَقُودُهَا الناس والحجارة}.
و" الوقود " بفتح الواو: الحطب، وبضم الواو: التوقد.
وحكى الأخفش عن بعض العرب أن الفتح والضم معاً بمعنى الحطب.
وقال الكسائي: " الفتح هو الحطب، والضم هو الفعل "، يعني المصدر.
فعلى هذا لا تحسن القراءة إلا بفتح الواو لأنه تعالى أخبر أن الذي تتوقد(1/194)
به النار هو الناس أعاذنا الله منها ووفقنا لما ينجينا منها، وختم لنا بخير يبعدنا منها. {والحجارة}. قيل: يعني حجارة الكبريت.
وقيل: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض.
وعن النبي [عليه السلام] أنه قال: " هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ فِي النَّارِ ".
وروى أصبغ بن الفرج " أن عيسى بن مريم عليه السلام بينما هو في سياحته إذ سمع أنيناً فمضى إليه يؤمه حتى انتهى إليه، فإذا هو حجر يبكي، فقال له عيسى: ألا أراك تبكي وأنت حجر؟ قال: نعم يا روح الله إني أسمع الله يقول:(1/195)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] / فادع [لي الله] يا روح الله ألا يجعلني منها ".
وعلى ذلك أكثر أهل اللغة أن " الوَقُود " بالفتح الحطب، وبالضم التلهب.
وقد روي عن الحسن وطلحة بن مصرف ومجاهد أنهم قرأوا بالضم فيكون ذلك على اللغة التي حكاها الأخفش أن الفتح والضم بمعنى الحطب.
قوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ}.
البشارة والبشرى في اللغة من البشرة؛ فإذا قيل: استبشر فلان، فمعناه ظهر أمر في بشرته. وسميت الجنة جنة لأنها تجن من دخلها، أي تستره أشجارها وثمارها.
والجنة عند العرب البستان ذو النخل والشجر.
وقوله: {مِن تَحْتِهَا}.(1/196)
أي من تحت شجرها ومساكنها، أي من دونها. يقال: داري / تحت دارك، أي دونها، أي بجوارها.
/ قوله: {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ}.
معناه: أنهم لما أتوا بِثِمارِ الجنة شبهوها بثمار الدنيا في المنظر، وهي مخالفة لها في الطعم والرائحة، فمعنى {مِن قَبْلُ} أي في الدنيا.
وقيل: المعنى: قالوا: هذا الذي رزقنا وعدنا به في الدنيا.
وقيل: معناه: إنهم أتوا بثمار في الجنة فأكلوا، ثم أتوا بمثلها في المنظر ومخالفاً في الطعم، فقالوا عند نظرهم إلى الثانية: هذا الذي أكلنا من قبل، أي من قبل هذا الوقت في الجنة. فيخبرون أن الطعم مختلف.
قوله: {وَأُتُواْ بِهِ متشابها}.
أي يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في الطعم والرائحة، وذلك(1/197)
أَجَلٌّ في الملك والنعيم. وهذا القول مروي عن ابن مسعود وابن عباس. وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معنى {متشابها} أي أنه خيار حسن لا رذل فيه؛ يشبه بعضه بعضاً في الطيب والحسن. وهو قول الحسن. واحتج بأن ثمار الدنيا فيها الحسن والرذل والوسط، وثمار الجنة خيار كله.
وقيل: معنى {متشابها}: أي يشبه اسمه اسم ثمار الدنيا، إلا أنه لا يشبهه في الطعم ولا في اللون ولا في الرائحة، وهو قول مروي عن عبد الرحمن بن زيد وعن ابن عباس.
قوله: {وَلَهُمْ فِيهَآ أزواج مُّطَهَّرَةٌ}.(1/198)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
أي مطهرة من أوساخ بني آدم؛ لا يحضن ولا يتمخطن ولا يتغوطن ولا يبلن، فهن سالمات من جميع الأقذار ولا يلدن.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً}.
حكى الطبري أن " يستحيي " بمعنى " يخشى "، كما وقع " يخشى " بمعنى " يستحيي " في قوله: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. أي وتستحيي من الناس.
و" تستحيي " فعل عينه ولامه حرفا علة صحت عينه واعتلت لامه، فتقول في الاسم: " هو مُسْتَحِي " بحذف لام الفعل في الرفع والخفض كقاض، وإثبات عينه. وتثبت اللام مع الغين في النصب، وتقول في التثنية: " رأيتهما مسْتَحْيِيَيْن " بثلاث ياءات فإن جمعت قلت: " هَؤُلاَءِ مُسْتَحْيُونَ "، بياء واحدة في الرفع. وفي(1/199)
النصب والخفض، " مُسْتَحْيينَ " بياءين. فالأولى عين الفعل، والثانية ياء الجمع، ولام الفعل محذوفة في الجمع المنصوب والمرفوع والمخفوض لأن العلة لحقتها، بأن استثقلت عليها الحركة وهي كسرة لأن أصلها " مُسْتَحْيُونَ ". فلما سكنت حذفت لسكونها وسكون الحاء قبلها. وبنو تميم يحذفون لام الفعل، ويعلون العين في الجمع، فيقولون: / هُمْ مُسْتَحُونَ ".
ومن العرب من يحذف إحدى الياءين في الفعل / فيقول: " يَسْتَحِي "، فيلقي حركة الياء الأولى على الحاء، فيكسرها ويحذف الياء لالتقاء الساكنين.
وقوله: {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً}.
معناه: إن الله جَلَّ ذكره لما ضرب المثل بالصيب وبالذي استوقد ناراً، قال المنافقون: " الله أعظم من أن يضرب مثلاً بهذا "، فأنزل الله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} الآية.
قال الربيع: " هو مثل ضربه الله للدنيا، وذلك أن البعوضة تَحْيَا ما جاعت، فإذا شبعت ماتت، فكذلك الكافر إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله، كما قال: {فَلَمَّا نَسُواْ(1/200)
مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44].
وقال قتادة: " معناه إن الله لا يستحيي أن يذكر شيئاً من الحق قَلَّ أوْ كَثُرَ ".
وقيل: إن هذا المثل مردود على " ما " في غير هذه السورة، وذلك أن الله جَلَّ ذكره لما ضرب المثل بالعنكبوت والذباب تكلموا وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلاً، كما حكى الله تعالى عنهم فأنزل الله {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} الآية.
واختار الطبري أن يكون مردوداً على إنكارهم للأمثال في هذه السورة دون غيرها.
وقوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}.
" ما " و " ذا " اسم واحد للاستفهام في موضع نصب بـ " أراد " تقديره: أي شيء أراد الله.
{مَثَلاً}: نصب على التفسير.
ويجوز أن [تكون " ما "] استفهاماً في موضع رفع بالابتداء.
و" ذا " بمعنى " الذي "، " وهو " الخبر وصلته ما بعده. وأراد " واقع على هاء محذوفة، أي(1/201)
أراده الله.
ومعنى {فَمَا فَوْقَهَا} أي دونها في الصغر.
وقيل: معناه: فما أكبر منها، وهو اختيار الطبري، لأن البعوضة متناهية في الصغر، وإن كان ثم ما هو أصغر منها.
قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ}.
أي يعلمون أن هذا المثل حق.
قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً}.
أي يضل بهذا المثل خلقاً كثيراً، وهذا من قول المنافقين.
وقيل: هو من قول الله جَلَّ ذكره، ودَلَّ عليه قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}، وهذا لا يكون من قول المنافقين لأنهم لا يقرون أن هذا المثل / يهدى به أحد، فهو من قول الله بلا اختلاف. وكذلك قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} هو من قول الله؛ إذ لا يجوز أن يكون من قول المنافقين، لأنهم قد ضلوا به، ولا يقرون على أنفسهم بالفسق. فكذلك يجب أن يكون الذي قبله. / ويدل على أنه كله من قول الله عز وجل / قوله في(1/202)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
موضع آخر: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [المدثر: 31] يعني المنافقين {والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ} [المدثر: 31].
فقوله: {كَذَلِكَ} يعني به مثل ما قالوا في سورة البقرة، كذلك قالوا في هذا.
وقال القتبي: " لما ضرب الله المثل بالعنكبوت والذبابة، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق بالله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} / الآية، فقالت اليهود: ماذا أراد الله بمثل ينكره الناس، فيضل به فريقاً، ويهدي به فريقاً، فقال الله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين}.
فذكر الضلال والهدى في هذا القول من قول اليهود حكاه الله لنا عنهم. وأصل الفسق الخروج عن الشيء؛ يقال: " فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ " إذا خرجت عن قشرها.
وقوله: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه}.
العهد هاهنا، هو ما أخذه الله عليهم إذ أخرجهم من ظهر آدم وبنيه(1/203)
كالذر، ودليله قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172].
/ وقيل: العهد هاهنا هو ما أخذه الله على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ودليله قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81].
قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}.
معناه: يقطعون أمر دينه لئلا يتبع فيوصل الإيمان به.
وقيل: معناه: يقطعون الرحم والقرابة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم إذا كذبوه فقد قطعوه. فَ " أَنْ " في موضع خفض على البدل من الهاء في " به " أو في موضع نصب على البدل من " ما " أو على أنه مفعول من أجله.
قوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض}.
الفساد في الأرض في هذا الموضع عبادة غير الله تعالى: [وهي أعظم الفساد].
وقوله: {أولئك هُمُ الخاسرون}.(1/204)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
أصل الخسران النقص. والخاسر الناقص نفسه حظها من رحمة الله [ عز وجل] بمعصيته كما يخسر الرجل في تجارته.
وقيل: معنى " الخاسرين " الهالكون.
قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} الآية.
أي من أين يتجه لكم الكفر بالله مع نعمه عليكم إذ كنتم أمواتاً فأحياكم. أي لم تكونوا شيئاً فأوجدكم.
وفي " كيْفَ " معنى التعجب من فعلهم وليست باستفهام، ولكنها توبيخ / وتعجب.
والعرب تسمي الشيء الممتنع ميتاً؛ يقولون: " هَذَا أَمْرٌ مَيِّتٌ " إذا كان ممتنعاً.
وقيل: معناه كنتم تراباً، يعني به آدم صلى الله عليه وسلم فجعلكم ذوي حياة.
وقيل: معناه فأحياكم يعني في القبر للمساءلة ثم يميتكم في القبر بعد(1/205)
المساءلة، ثم يحييكم يوم القيامة. ويلزم قائل هذا أن تكون الآية إنما خوطب بها أهل القبور، وذلك بعيد إلا أن يحمل على أنه [خطاب لمن حضر]. والمراد به آباؤهم وأسلافهم.
ويكون " تكفرون " بمعنى في موضع " كفرتم " وفيه بعد. و " قد " مضمرة مع " كنتم " لأنه حال مما قبله.
وقيل: المعنى أنهم كانوا أمواتاً في أصلاب الآباء ثم أحياهم في الأرحام، ثم يميتهم في الدنيا عند انقضاء آجالهم، ثم يحييهم يوم القيامة.
وقيل: المعنى أنه أحياهم إذ أخرجهم من ظهر آدم لأخذ الميثاق، وقد كانوا أمواتاً لا حياة فيهم.
وقيل: أيضاً: الموتة الأولى هي موتة النطفة في وقت خروجها من الرجل إلى الرحم لأن كل ما في الحي فهو حي حتى [يفارقه فيكون] في عداد الأموات،(1/206)
وكذلك الأعضاء إذا فارقت الحي فهي ميتة، فكل ما في الإنسان من أعضائه وما يلزم جسده حي حتى يفارقه فيكون ميتاً.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " أماته ثم أحياه في قبره - يعني لِلْمُسَاءَلَةِ - ثم أماته، ثم أحياه يوم القيامة ". وهذا قول قد تقدم نظيره.
وقال ابن مسعود: " هي مثل قوله: {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] ".
وسترى تفسير هذا في موضعه.
/ وقد قيل: إن معنى الآية: وكنتم أمواتَ الذِّكْرِ، فأحياكم حتى ذكرتم، ثم يميتكم، أي يردكم رفاتاً لا تذكرون، ثم يحييكم للحساب والجزاء فتذكرون.
وهو مروي / عن ابن عباس. وهو اختيار الطبري.
والهاء في {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تعود على الله عز وجل.
وقيل: تعود على الأحياء للخلود في الجنة، أو في النار، أي ثم إلى الأحياء(1/207)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
ترجعون. والأول أحسن.
قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء}.
معناه: أقبل عليها. تقول العرب: " فلان مقبل على فلان، ثم استوى إليَّ يمشي "، أي أقبل إليّ.
وقيل: معناه / تحول أمره وفعله إلى السماء.
وقال القتبي: " استوى، عمد إليها ".
وقال ابن كيسان: " استوى قصد ".
قال غيره: " معناه قصد إلى خلقها بالإرادة لا بالانتقال ".
يقال: " لما استويت إلى موضع كذا، ظهر لي كذا "، / أي لما قصدت بإرادتي إلى أمر كذا، ظهر لي كذا.
وقيل: استوى: استولى. تقول العرب: " استوى فلان على المملكة ". أي استولى عليها واحتوى عليها.(1/208)
واختار الطبري وغيره أن يكون " استوى " بمعنى " علا " على المفهوم في لسان العرب. قال أبو محمد: وليس: " علا " في هذا المعنى أنه تعالى علا من سفل كان فيه إلى علو، ولا هو علو انتقال من مكان إلى مكان، ولا علو بحركة تعالى الله ربنا عن ذلك كله، لا يجوز أن يوصف بشيء من ذلك، لأنها صفات توجب الحدوث للموصوف بها، والله جَلَّ ذكره أول بلا نهاية / لكن نقول: إنه علو قدرة واقتدار ولم يزل تعالى قادراً له الأسماء الحسنى والصفات العلا.
فإنما دخلت " ثمَّ " في قوله: {ثُمَّ استوى} بمعنى القصد لخلق ما أراد أن يخلق على ما تقدم في علمه قبل، بلا أمد.
والهاء في {فسواهن} تعود على السماء لأنها جمع سماوة.
وقيل: السماء تدل على الجمع.
وقيل: لما كانت السماء واسعة الأقطار، يقع على كل قطر منها اسم سماء جمع على هذا المعنى. والمعنى فَسَوَّى منهن سبع سماوات.(1/209)
وقيل: سبع سماوات بدل من الهاء والنون، فلا تقدير حرف جر على هذا محذوف منه. وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهم في تفسير ذلك: " أن الله جَلَّ ذكره كان عرشه على الماء كما أخبرنا به في كتابه. قالوا: ثم أخرج من الماء دخاناً، فارتفع الدخان فوق الماء، فسما الدخان على الماء فَسَمَّاه سماء. ثم إنه تعالى بقدرته أيبس الماء، فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين وذلك في يوم الأحد ويوم الاثنين، وجعل الأرض على حوت وهو النون، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفا، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة على الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان، فهي ليست في الأرض، ولا في السماء، فتحرك الحوت واضطرب، فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال، فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]. وخلق الجبال في الأرض وجعل فيها أقوات أهلها وشجرها ومصالحها في يومين، الثلاثاء والأربعاء، ودل على ذلك قوله:
{خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10]- يعني اليومين الأولين والآخرين -، ثم قال:(1/210)
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]. فجعل / الدخان سماء واحدة، ثم فتقها سبع سماوات، وذلك في يومين الخميس والجمعة، ولذلك سمي يوم الجمعة لأنه اجتمع فيه تمام خلق السماوات والأرضين ".
وقال مجاهد: " خلق الله الأرض قبل السماء، فثار منها دخان، فخلق منه السماوات ". وقد ذكر الله خلق الأرض قبل السماء في سورة السجدة، ثم ذكر في " والنازعات " دحو الأرض بعد السماء، فقال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، فقال ابن عباس في معنى ذلك: " إنه تعالى خلق الأرض بأقواتها قبل السماء غير أنه لم يدحها، ثم خلق السماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك ".
وقال ابن سلام: " بدأ الله الخلق يوم الأحد /، فخلق الأرضين يوم الأحد(1/211)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
والاثنين، وخلق الأقوات والجبال في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة وخلق آدم صلى الله عليه وسلم في آخر ساعة من يوم الجمعة ".
قال أبو محمد: ولو شاء تعالى ذكره لخلق ذلك كله في أقل من طرف عين، يفعل ما يشاء لا إله إلا هو، لا معقب لحكمه.
قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} /.
أي عليم بكل شيء قبل خلقه له، وقبل حدوثه، لا أنه علم محدث مع حدوث المعلومات تعالى عن ذلك، قد علم المعلومات كلها قبل حدوثها وكونها.
قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة}.
معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك.
وقيل: معناه: ابتدأ خلقكم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} لأنه ذكر معنى ذلك قبل / هذا فقال: {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] أي خلقكم إذ قال ربك. ودخلت الواو في " إذ " عطفاً على ما قبلها لأنه تعالى ذكر خلقه نعمه في إحيائهم بعد الموت، وأنه [خلق لهم] ما في الأرض جميعاً، وسوى لهم السماوات وغير ذلك من نعمه فعدد على خلقه نعمه. ثم قال: واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة اسجدوا له(1/212)
تفضيلاً له وابتلاء للملائكة. وإلى هذا المعنى ذهب الطبري في هذه الواو، [وفي و " إذا "].
وقوله: {للملائكة}، اختلف في اشتقاق " ملك " وتقديره ومعناه.
فقيل: واحدها مَلَكٌ، وأصله " ملأك " على وزن " مَفْعَل "، والهمزة بعد اللام وهي عين الفعل فجمع على الأصل على مفاعل، فقيل: " مَلائِكٌ " وزيدت الهاء للمبالغة. وقيل لتأنيت الصيغة.
وقال ابن كيسان: " هو مشتق من " ملكت "، والهمزة في " مَلأْك " زائدة كزيادتها في شَمْأَلٍ، إذ هو من " شملت الريح " أي عمت ".(1/213)
وقال غيره: هو مشتق من الأُلُوكَةِ، وهي الرسالة بالهمزة بالفعل لكن قلبت همزته وهي فاء، فصارت عيناً فأخرت بعد اللام وأَصْلُها " مَأْلَكٌ " ثم نقلت الهمزة بعد اللام فصارت " مَلَكاً "، وجمع على ذلك، ولم يرد إلى أصله وكان حقه / أن يرده الجمع إلى أصله، [فخرج عن الأصل في الجمع].
وقيل: هو مشتق من المَلأَكَةِ وهي الرسالة أيضاً حكاها أبو عبيد، يقال: " لأَكَ إِليهِ يَلأَكُ مَلأَكَةً " إذا أرسل إليه رسالة.
ويقال في لغة أخرى: " أَلَكَْتُ إِلَيْهِ أَألْكُ مَأْلَكَةً " إذا أرسلت.
فعلى / القول الأول من هذين القولين يكون " مَلَكٌ " مخفف الهمزة، ألقيت حركة الهمزة على اللام وأصله " مَلأَكٌ "، وجمعه " مَلاَئِكَةٌ ". والهمزة عين الفعل ولا قلب فيه، إنما فيه في الواحد تخفيف الهمزة [بنقل(1/214)
حركتها] إلى الساكن قبلها وهو اللام.
وعلى القول الثاني يكون " مَلأَكٌ " مقلوباً وأصله: " مَأْلَكٌ "، والهمزة فاء الفعل، ثم قلبت الهمزة، فصارت بعد اللام، ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام قبلها كالأول فصار ملكاً، فجمع على قلبه، ولم يرده الجمع إلى أصله لقلة استعماله بالهمز في الواحد. ولو جمع على أصله لقال: " مَآلِكَة "، ولكن لم يسمع جمعه على الأصل.
قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}.
معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم.
وقيل: معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلفون من كان فيها ممن هلك، وذلك أن أهل التفسير ذكروا أنه روي أن الأرض كان فيها خلق من الجن فأفسدوا فيها فأهلكهم الله. والهاء في " خليفة " للمبالغة.
وقيل: دخلت لأنه بمعنى داهية في المدح والذم، بمعنى بهيمة. قاله الفراء.
وقيل: الهاء / [لتأنيث الصيغة]، وهي بمعنى فاعلة على هذا القول كرحيم بمعنى راحم. وعلى القول الأول يكون خليفة: فعيلة، بمعنى مفعولة أي مخلوقة؛(1/215)
أي يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم، فكل واحد مخلوف، لأن من يأتي من بعده يخلفه، فهو كجريح وقتيل، بمعنى مجروح ومقتول.
ومعنى " جاعل " خالق ومستخلف.
قال ابن عباس: " أخرج الله آدم صلى الله عليه وسلم من الجنة قبل أن يخلقه، وقرأ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}. يريد أنه [قدَّر ذلك وعلمه وشاءه] قبل أن يخلق آدم.
قوله: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية.
روى كثير من المفسرين أن الملائكة علمت بفساد من سكن الأرض من الجن وسفكهم للدماء، فقالوا على طريق الاسترشاد وطلب الفائدة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ}؛ أي أيكونون مثل أولئك الذين أفسدوا؟، فسألوا مسترشدين لا منكرين، إذ لا علم عندهم بما يكون من أمر الخليفة التي أعلمهم الله أنه خالقها.
وقيل: إنهم قالوا ذلك / على طريق التعجب كما تقول العرب " أتحسن إلى فلان وهو يسيء إليك! ".(1/216)
وقيل: إن الله جَلَّ ذكره أذن لهم في السؤال عن ذلك. وقيل: إن الله تعالى ذكره / أعلمهم أنه يجعل في الأرض خليفة فسألوا على طريق الاسترشاد: ما يكون ذلك الخليفة؟ فقال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا عند ذلك على طريق الاستعظام والاستثبات لا على طريق الإنكار: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية.
[قيل: قالوا] ذلك على التعجب مما أعلمهم الله به من إفساد ذرية الخليفة في الأرض وسفكهم للدماء.
والله أعلم بأي ذلك كان.
فالألف في {أَتَجْعَلُ} لفظها لفظ الاستفهام ومعناها الاسترشاد أو التعجب على قول من رأى ذلك على ما ذكرنا.
وعن ابن عباس أنه قال: " كان إبليس من / حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن وهم من الملائكة. خلق الله ذلك الحي من نار السموم، وخلق سائر الملائكة غير هذا الحي(1/217)
من نور، وخلقت الجن غير هذا الحي الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، والمارج هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وخلق الإنسان من طين. فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين في الأرض فقتلوا وطردوا حتى لحقوا بالبحار وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اعتدَّ في نفسه وقال: قد صنعت ما لم يصنع غيري، وكان من خزان الجنة.
فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة. فقالت الملائكة غير إبليس وحيه: أتجعل فيها من يفسد فيها كأولئك، على طريق الاسترشاد. أي هل يكونون مثل أولئك المفسدين أو يكونون مصلحين ".
وقيل: " قالوا ذلك على طريق التعجب، فقال الله لهم: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أي إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا أنتم عليه. فخلق آدم صلى الله عليه وسلم من طين لازب، واللازب اللزج الملتصق من الحمأ المسنون، والمسنون ذو الرائحة صار حمأ(1/218)
حمأ بعد أن كان طيناً لزجاً. فلما خلقه تعالى مكث آدم أربعين ليلة جسداً ملقى، فكان إبليس اللعين يأتيه فيضربه برجله فيصلصل ويصوت، فهو قول الله عز وجل: { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14]. ثم كان إبليس اللعين يدخل في في آدم [عليه السلام] ويخرج من دبره، ثم يقول: لشيء ما خلقت، لئن سلطت عليك لأهلكنك. فلما نفخ فيه الروح، أتت النفخة من قبل رأسه فلا تصل إلى شيء، إلا صار لحماً ودماً /. فلما انتهت النفخة إلى سرته، نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] و {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] /. فلما تمت النفخة في بدنه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام الله له. فقال له الله: يرحمك ربك يا آدم، ثم قال الله تعالى لإبليس وحيِّه من الملائكة خاصة دون غيرهم: اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس تكبراً وعزة فأبلسه الله، أي(1/219)
أيأسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة له بالمعصية، ثم عَلَّم الله آدم الأسماء كلها.
قال المفسرون: عَلَّمه اسم كل شيء حتى الضرطة. وقال الله للملائكة - جند إبليس -: أنبئوني بأسماء هؤلاء: فقالوا لا علم لنا. فقال يا آدم: أنبئهم بأسمائهم، فأنبأهم آدم بأسمائهم.
وقيل: إنما عني بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الملائكة الذين كانوا في الأرض بعد هلاك من كان فيها دون غيرهم من ملائكة السماوات. والله أعلم بأي ذلك كان، واللفظ على عمومه حتى [يأتي دليل تخصيصه].
قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
معناه: أعلم ما أسر إبليس في نفسه من الكِبَرِ والعزة. وهذا التأويل يدل على أن الخطاب الذي تقدم في قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} إنما كان من هذا / النوع من الملائكة الذين حضروا مع إبليس قتال المفسدين في الأرض دون غيرهم من الملائكة. وهو قول الطبري.(1/220)
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: " إن هذه القبيلة من الملائكة سميت الجن لأنهم كانوا من خزان الجنة ".
وهو من الاستجنان؛ وهو الاستتار. وإنما سميت الجنة جنة لأنها تَجن مَنْ دَخَلَها؛ أي تستره بشجرها وثمارها وعروشها.
وروي عنه أيضاً أنه قال: " إن إبليس كان ملك سماء الدنيا، وكان خازناً للجنة مع ذلك. فلما تمكن دخله العجب والكبر، وقال: لم أُعط هذا إلا ولي مزية على الملائكة. فاطلع الله على ما في سرِّه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، فسألت الملائكة عن الخليفة فقال: تفسد ذريته في الأرض فتعجبوا وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء}. فبعث الله جبريل ليأخذ من طين الأرض، فاستعاذت منه فرجع ولم يأخذ شيئاً إجلالاً لحق من استعاذت به، ثم بعث الله ميكائيل فاستعاذت، فرجع ولم يأخذ شيئاً. فبعث الله ملك الموت فاستعاذت منه، فاستعاذ هو منها، وأخذ ما أراد من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك بنو آدم مختلفو الألوان ".(1/221)
ثم مضى الحديث كالأول أو قريب منه، غير أن فيه: " فكان آدم جسداً من طين أربعين سنة، ففزعت منه الملائكة وكان أشدهم فزعاً إبليس / وفيه: أن آدم عليه السلام لما دخل الروح رأسه، قال: الحمد لله. فقالت له الملائكة / رحمك ربك يا آدم. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه ".
وهذه الرواية تدل على أن المخاطبين المأمورين بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم هم الملائكة كلهم، وهو ظاهر القرآن.
وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم أنه سيكون من ذرية آدم أنبياء ورسل وصالحون وعباد وأخيار وساكنو الجنة.
قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}.
معناه: نعظمك بالحمد والشكر.(1/222)
وقيل: التسبيح الصلاة.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِنَّ للهِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْع / مَلاَئِكَةً يُصَلُّونَ، وإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله: مَا صَلاتُهُمْ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: يا نَبيَّ الله: سَأَلَكَ عُمَرُ عَنْ صَلاَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ. قَالَ: نَعَمْ، فَقال لهُ: أَقْرِئْ عَلَى عُمَرَ السَّلامَ وأخْبِرْهُ أنَّ أَهْلَ السَّماءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ. وإنَّ أهْلَ السَّماءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذي العِزَّةِ وَالجَبَرُوتِ، وأَهْلِ السَّماءِ الثَّالثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ".
وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه والتبرئة له سبحانه من إضافة ما ليس من(1/223)
صفته إليه.
وقوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
أصل التقديس التطهير. ومعناه نطهر أنفسنا لك.
وقيل: التقديس الصلاة.
وروي ذلك عن قتادة. وروي عن أبي صالح: " ونقدس لك، نعظمك ونمجدك.
قوله: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. قد تقدم بيانه.
وقد قيل فيه: إن معناه إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه، إني علمت ما أضمر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم صلى الله عليه وسلم [ ومن] عداوته له ولذريته.
وقيل: معناه إني عليم من آدم المعصية ثم التوبة عليه / وإهباطه إلى(1/224)
الأرض، وما يكون من ذريته إلى يوم القيامة ومن هو سعيد، ومن هو شقي منهم.
وروي أن إبليس اللعين لما رأى صورة آدم وحسنها قال للملائكة: إني أرى صورة مخلوق يكون له نبأ. أرأيتكم إن فضل عليكم ماذا تفعلون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا، ونفعل الذي يأمرنا به. فهذا قوله: {مَا تُبْدُونَ}.
وقال إبليس في نفسه: " لئن فُضِّل علَيّ لا أطيعه، ولئن فُضِّلتُ عليه لأهلكنَّه، وهذا قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فلما نفخ الله عز وجل / في آدم صلى الله عليه وسلم الروح جلس فعطس، فقال آدم: الحمد لله رب العالمين فكان ذلك أول ما تكلم به آدم / عليه السلام فردَّ الله عليه: يرحمك الله لهذا خلقتك "، فهو قوله: {ولذلك خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، أي للرحمة خلقهم.
وقال مجاهد: " علم الله من إبليس المعصية وخلقه لها ".
تم الجزء [الأول](1/225)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قوله: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء} الآية.
اختلف في اشتقاق آدم؛ فقال فيه ابن عباس: " سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ".
وقال قطرب: " آدم أفعل من الأدمة ". وقيل هو أفعل من " أدمت بين الشيئين " أي خلطتهما.
وقال الطبري: " هو فعل ماض رباعي سمي به الشخص ".
وقال قطرب: " من قال هو من أديم الأرض، يلزمه صرفه لأنه فاعل ".
وذكر النحاس أنه أفعل من أديم الأرض وأدمتها، وهو ظاهر وجهها، ومنه سمي الإدام لأنه وجه الطعام وأعلاه والعرب تسمي الجلد الظاهر أدمة، والباطن بشرة.
وحكي عن الأصمعي أن باطنه الأدمة وظاهره البشرة، وهو أولى من(1/226)
الأُولى. ويجمع آدم إذا كان صفة كحُمْر، وأوادم إذا كان اسماً " كأحامدٍ ".
قوله: {الأسمآء}. قيل: " وعلمه أسماء كل شيء حتى القصعة والفسوة ". قاله قتادة.
وقيل: " علمه أسماء الملائكة خاصة " قاله الربيع بن خثيم.
قال مجاهد: " علمه الله اسم كل شيء: هذا جبل، هذا بحر، هذا كذا، هذا كذا، لكل الأشياء ".
قال ابن جبير: " علمه اسم كل شيء حتى البعير والبقرة والشاة ".
قال عكرمة: " علمه اسم الغراب والحمامة وكل شيء ".
وقال غيرهم: " علمه أسماء الأجناس والأنواع ".(1/227)
وقال ابن زيد: " علمه أسماء ذريته كلهم ".
واختار الطبري أن يكون علمه أسماء ذريته والملائكة لقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ولم يقل " عرضها " ولا " عرضهن " / الذي هو لما لا يعقل.
وقيل: علمه اسم كل شيء ومنفعته ولماذا يصلح.
وقال القتبي: " علمه أسماء ما خلق في الأرض ".
وفي قراءة أُبي: " ثُمَّ عَرَضَها "، " يريد عرض الأسماء ".
وقوله " عَرَضَها " ولم يقل " عرضهم " يدل على أن الاسم هو المسمى، وهو مذهب أهل السنة. وفي قراءة عبد الله " ثُمّ عَرَضَهُنَّ " على التأنيث لما لا يعقل من الموات والأجناس.
/ وقال ابن عباس: " إنما عرض الأسماء على الملائكة ".
وعن ابن مسعود: " أنه إنما عرض الخلق ".(1/228)
فعلى الأول يكون " عرضها ". وعلى الثاني يكون " عرضهم ".
قال مجاهد: " عرض أصحاب الأسماء على الملائكة ".
وقال ابن زيد: " عرض أسماء ذريته كلها، أخذهم من ظهره، ثم عرضهم على الملائكة ".
وقال ابن الأنباري: الهاء في " كلها " تعود على / الأسماء، والهاء في " عَرَضَهم " تعود على الأشخاص.
والهاء في " أنبِئهم " وفي " بأسمائهم "، وفي " أنبأهم " وفي " بأسمائهم " كلها تعود على الملائكة على قول من قال: إن الله تعالى علمه أسماء الملائكة، ويعود على الأشخاص على القول الآخر.
قوله: {إِن كُنْتُمْ صادقين}.
جوابه عند المبرد محذوف، معناه: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في(1/229)
الأرض ويسفكون الدماء فأنبئوني.
قوله: {إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات}.
هو ما غاب عن الملائكة مما سبق في علمه مما ذَكَرَهُ في كتابه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}. هو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}.
و {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: هو ما أضْمَر إبليس في نفسه من الكبر والعز. روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة والتابعين.
وقال سفيان: " {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} هو ما أسر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم [والكبر] ".
وقال قتادة: " كتمانهم هو قولهم فيما بينهم: يخلق الله ما يشاء، فلن يخلق خلقاً إلا ونحن أكرم منه ".(1/230)
وقيل: إنهم قالوا ذلك عند رؤيتهم لخلق آدم.
وعن ابن عباس " أنه عام فيما يظهرون وما يكتمون ".
وإبليس إفعيل من " أبلس " إذا يئس كأنه يئس من الرحمة، لم يصرف لقلة.
وقيل: هو أعجمي، ولذلك لم يصرف في المعرفة.
قال أبو عبيد: " لم يصرف لأنه لا نظير له في الأسماء "، وهو عنده " فِعْلِيل " أو " إِفْعِيل ".
قوله: (أَبَى): أتى مستقبله على " يفعل " على التشبيه بِ " قرأ، يقرأ "، لأن الهمزة تبدل منها الألف، وهي من حروف الحلق / مثلها.
وقالوا: " جبى، يجبي " من الجباية بالفتح، " وقلى يقلى " بالفتح على التشبيه أيضاً.
وإبليس [في قول] ابن عباس: كان من حي من أحياء يقال لهم الجن، خلقوا(1/231)
/ من نار السموم، وكان اسمه الحارث، وكان من خزان الجنة.
وروي عنه أيضاً أنه قال: " كان إبليس من الملائكة واسمه عزرائيل، وكان من سكان الأرض وكان شديد العبادة وواسع العلم، فدعاه ذلك إلى الكبر ".
وإنما سمي من الجن لأنه كان خازناً للجنة، فكأنه منسوب إليها، كما تقول: مكي وبصري وشامي.
وقيل: سمي من الجن لأنه لا يرى، كما سمى الله الملائكة جناً، فقال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158]. وأصله كله الاستتار.
وقال شهر بن حوشب: " كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض / حين أفسدوا فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء ". وهذا(1/232)
غير معروف.
وقال / سعد بن مسعود: " سما إبليس من الأرض وهو صغير، فكان مع الملائكة فتعبد، فلما أمر بالسجود لآدم امتنع فذلك قوله
{كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50].
وقال ابن زيد: " إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس ".
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله خلق خلقاً فقال: " اسجدوا لآدم فأبوا فأحرقهم، ثم [خلقَ خَلقاً] آخر فأبوا فأحرقهم ثم خلق هؤلاء فسجدوا إلا إبليس كان من أولئك الذين أبو السجود لآدم ".
والسجود الذي أمروا به إنما هو على جهة التحية، لا على جهة العبادة.
وقيل: أمروا بذلك إكراماً له.
وقيل: معناه: اسجدوا إليه كما يسجد إلى الكعبة فجعل قبلة إكراماً له.(1/233)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن آدم صلى الله عليه وسلم استوحش في الجنة قبل أن تخلق حواء بعد لعن إبليس وخروجه من الجنة، فنام نومة فاستيقظ، فوجد امرأة عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه من شقه الأيسر فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولِمَ خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. فقالت له الملائكة - ينظرون مبلغ علمه -: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولِمَ سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. فكان أصلها " حيّاء "، ثم أبدل من الياء واو ".
قوله: {رَغَداً} إلى قوله: {مِمَّا كَانَا فِيهِ}.
قوله: {رَغَداً} أي واسعاً. وقيل: هنيئاً.
وقال مجاهد: " رغداً لا حساب عليهما فيه "، وهو من السعة في المعيشة.
قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه: " الشجرة شجرة العلم، فيها أنواع(1/234)
الثمار كلها ".
وعن ابن جريج أنه قال: " هي التينة ".
وعن ابن عباس أيضاً وأبي مالك: " الشجرة السنبلة لكن الحبة منها ككلى البقر ألين من الزبد وأحلى من العسل ".
وروى عن ابن مسعود أنها الكرمة. وذكر ذلك أيضاً عن ابن عباس، وعليه أكثر المفسرين، ولذلك حرم الله الخمر في قول بعضهم.
قال / أبو هريرة: " هي العنبة نهي آدم عنها، وجعلت فتنة لولده من بعده ".(1/235)
وتزعم اليهود عليها اللعنة أنها الحنطة.
قوله: {فَأَزَلَّهُمَا}.
أي استزلهما، ومن قرأ: (فَأَزَالَهُمَا) وهو حمزة فمعناه نحّاهُما.
والهاء في " عَنْها " تعود على الشجرة، يعني حسدهما إبليس اللعين على ما كانا فيه، فاستزلهما وتكبر عن السجود لآدم صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: " بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح: حسد إبليس وتكبر على آدم، وشح آدم، فقيل له: كُلْ من شجر الجنة إلا التي نهى / عنها فشح فأكل منها ".
قال وهب بن منبه: " لما أراد إبليس من آدم عليه السلام ما أراد دخل في جوف الحية، وكان لها أربع قوائم كالبختية، فدخلت الجنة، وخرج إبليس إلى الشجرة وأخذ منها، وجاء إلى حواء فقال لها: انظري ما أطيب هذه الشجرة وأحلاها وأحسن ريحها.(1/236)
فأكلت منها ثم مضت إلى آدم صلى الله عليه وسلم فقالت له مثل ما قال إبليس، فأكل منها، فبدت له سوأته عند ذلك، وقام فدخل في جوف الشجرة. فقال الله تعالى: يا حواء أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملتيه كرهاً، ولا تضعين ما في بطنك إلا أشرفت على الموت مراراً. ثم لعن الحية لعنة تحولت قوائمها في بطنها، ولا [رزق لها] إلا التراب، وجعلها عدوة لبني آدم، تهلكهم إذا لدغت أحدهم ويقتلونها إذا ظفروا بها ".
وقال ابن عباس: " أتى إبليس اللعين ليدخل على آدم صلى الله عليه وسلم / فمنعته الخزنة فقال للحية وهي كأحسن الدواب: أدخليني في فقمك، أي في جانب فمك، حتى أدخل الجنة ففعلت ومرت بالملائكة وهم لا يعلمون ما صنعت، فخرج إلى آدم /(1/237)
فقال: {ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} [طه: 120]، كما حكى الله جل ذكره. وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها / كنت ملكاً مثل الله سبحانه أو تكون من الخالدين، وحلف لهما بالله إني لكما من الناصحين فأبى آدم عليه السلام أن يأكل، فتقدمت حواء فأكلت ثم قالت: يا آدم، كُلْ، فإني قد أكلت فلم تضرني، فلما أكل بدت لهما سوآتهما ".
وروي أنهما لما أكلا من الشجرة سقط عنهما لباسهما وهو النور الذي كان ألبسهما الله إياهما، فهرب آدم من ربه عز وجل مستتراً بورق الجنة، فناداه ربه: أفراراً مني يا آدم؟ قال: بل حياء منك يا رب. ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً، فقال له الله جل ذكره: أما خلقتك بيدي؟ أما أسجدت لك ملائكتي؟ أما نفخت فيك من روحي؟ أما أسكنتك في جواري؟ فَلِمَ عصيتني؟ أخرج من جواري، فلا يجاورني من عصاني، فقال آدم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله أنت رب، عملتُ(1/238)
سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين. سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني، إنك أرحم الراحمين. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ربي عملت سوءاً، وظلمت نفسي فتب علي / إنك أنت التواب الرحيم ". فهذه الكلمات التي ألهمها الله عز وجل.
قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ}.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " لَمْ يَحْزَنْ حُزْنَ آدَمَ أَحَدٌ قَطْ؛ بَكَى أرْبَعينَ عاماً، وسَجَدَ أرْبَعينَ عاماً تائِباً حَتَّى قَبِل اللهُ مِنْهُ ".
وقال الحسن: " بكى آدم عليه السلام على الجنة ثلاثمائة ".
وقال ابن زيد: " لو أن بكاء داود وبكاء جميع أهل الأرض عدل ببكاء آدم على الجنة ما عدله ".(1/239)
وقال ابن إسحاق: " لما دخل إليهما إبليس بكى وناح عليهما كيداً منه، فقالا له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما تموتان، وتفارقان ما أنتما فيه، فوقع ذلك في أنفسهما، ثم وسوس إليهما وحلف لهما فأكلا منها "، قال: و " ذهب آدم عليه السلام في الجنة هارباً لما أكل، فقال له [ربه: يا آدم] أمني تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياء منك. قال الله: يا آدم: إنه أوتيتَ مِن قِبل حواء. قال: أي رب. قال الله: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة، وأن أجعلها سفيهة وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً ".
وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل،(1/240)
ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل.
وقال جماعة من أهل التأويل: " لم يدخل إبليس الجنة وإنما وسوس إليه شيطانه الذي جعله الله ليبتلي به آدم وذريته ويأتي ابن آدم في يقظته ونومه، وعلى كل حال. وقد قال تعالى:
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20]، وقال: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة} [الأعراف: 27] فأخبرنا أن الذي أخرج أبانا هو الذي يوسوس في صدورنا ".
وعن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إنّ الشّيْطانَ يَجْري مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم ".
قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
يعني آدم وحواء / والحية / وإبليس. فنزل إبليس أولاً نحو الأبُلَّة في المشرق،(1/241)
ونزل آدم على جبل من جبال الهند ونزلت حواء بجَدة، ونزلت الحية بأصبهان.
وروي أنه لما خرج آدم إلى شقاء الدنيا أتاه جبريل عليه السلام فعلمه كيف يحرث فحرث، ثم زرع، ثم حصد، ثم درس، ثم خبز ثم أكل، فلما عرض له الخلاء جاء وذهب وتردد، وهو لا يدري ما حدث به ولا ما يصنع، فقعد وتعصر فخرج منه الحدَث مُنتِنا، فقال: يا رب ما هذا النتن؟ فقال: هذه ريح خطيئتك ".
قوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ}.
أي قرار إلى حين، وقيل: / القرار في القبور، وروي ذلك عن ابن عباس. قوله: {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}، أي إلى الموت.
وقيل: إلى قيام الساعة فتخرجون من القبور.
وقيل {إلى حِينٍ}: إلى أجل قد علمه تعالى.
وقال أبو موسى الأشعري: " إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، علمه صنعة كل شيء، وزوَّده من ثمار الجنة، فثمركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه(1/242)
تتغير، وتلك لا تتغير ".
قوله: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات}. أي أخذها وقبلها.
وقيل: ألهمها فانتفع بها إذا رفعت، ومَن نصب " آدم " فمعناه أن الكلمات رحمة من ربه أدركتْه قاستنقذته.
فالكلمات فيما روي عن ابن عباس [قول آدم]: أي رب: ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، ثم قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. ثم قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ / قال: بلى، ثم قال: أي رب. أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. فذلك تَلَقّيه ".
وزاد قتادة أنه قال: " وسبقت رحمتك إلي قبل غضبك، قيل له: بلى. قال: رب هل كتبت هذا علي قبل أن تخلقني؟ قيل له: نعم. قال / رب إن تبت(1/243)
وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم ".
وقال الحسن: " هو قولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} الآية ".
وقال قتادة: " هي قول آدم عليه السلام: يا رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذاً أدخلك الجنة ".
وقال عبيد بن عمير: " قال آدم: يا رب خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني؟ [أو شيء أنا ابتدعته] من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفرْهُ لي، فذلك الذي تلقى آدم ".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن معاوية: " قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فذلك(1/244)
الذي تلقى ". وروي عن مجاهد أنه قال: " هو قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ".
وروي عنه أنه قال: " هو قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} الآية ".
وروى عنه ابن جريج أنه قال: " هي قول آدم: رب أتتوب عَلَيَّ إن تبت؟ قال: نعم. فتاب عليه ربه ".
/ روي أن آدم رأى كَلِماً في الجنة مكتوب: لا إله إلا الله محمد عبدي ورسولي، فعلم آدم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق عليه، فقال حين أخطأ: اللهم بحق(1/245)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
محمد اغفر لي خطيئتي، فغفر الله له ".
وكانت كنيته أبا محمد، وقيل: أبا البشر. فذلك قوله: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات}.
قال ابن عباس: / " تاب الله على آدم يوم عاشوراء ".
قوله: {قُلْنَا اهبطوا}.
يريد آدم وإبليس وذرية آدم.
وقيل: آدم وإبليس وحواء والحية.
وقيل: آدم وحواء فقط، وجمعا كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع لشرفه.
قال مجاهد: " أهبط آدم بأرض الهند فحج البيت على قدميه أربعين حجة، فقيل له: ولم تكن معه دابة تحمله؟ فقال: وأي دابة تطيقه؟ كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام، وموضع قدميه كالقرية ".
روى ابن وهب عن مالك أنه قال: " إن آدم لما أهبط إلى الأرض بالسند والهند، قال: يا رب أهذه أحب الأرض إليك أن نعبدك فيها؟ فقال: بل مكة، فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيْت، ويعبدون الله،(1/246)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
فقالوا: مرحَباً بآدم، أبي البشر، إنا منتظروك هنا منذ ألفي عام ".
قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}.
أي رسل وأنبياء مخاطبة لذرية آدم.
وقيل: هُدى بيان من أمري.
وقيل: الهدى محمد صلى الله عليه وسلم.
{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أي من أطاعه وآمن به فلا خوف عليه في الآخرة.
وبنو إسرائيل هم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم. و " إسرا ": بمعنى عبد. و " إيل ": هو الله [ عز وجل] بالعبرانية، وهو مخاطبة لبني قريظة والنضير ثم عام في جميع بني إسرائيل.
قوله: {نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}.
" هو أن جعلت منكم الرسل / والأنبياء، وأنزلت عليكم الكتاب ". قال ذلك أبو العالية.(1/247)
وقال مجاهد: " النعمة تفجر الحجر وإنزال المن والسلوى عليهم، وإنجاؤهم من آل فرعون ".
وقال ابن زيد: " نعمته الإسلام، ولا نعمة أعظم منها، وما سِواها تبع لها ".
قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}.
العهد هنا عن قتادة قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12]. من كل سبط شاهد على سبطه، إلى قوله: {الأنهار} [المائدة: 12].
وعن ابن عباس: " هو ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع أمره ".
{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: الجنة والتجاوز عن الصغائر.
/ واختيار الطبري أن يكون هو ما أخذ عليهم في التوراة من أن(1/248)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
يبينوا للناس أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]. أي أمْر محمد صلى الله عليه وسلم وقال: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]. فالمعنى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وانصُروه كما عهدت إليكم في التوراة؛ أوف لكم بما عهدت لكم من دخولكم الجنة.
وروي أن في التوراة: " هو أحمد الضحوك القتول يركب البعير ويلبس الشمْلة ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه ".
ومعنى {فارهبون} أي خافون واخشوني أن أنزل بكم ما أنزلت بمن / كان قبلكم من النقمات.
قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ}.
أي هذا القرآن يصدق التوراة والإنجيل لأن فيها الأمر باتباع / محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك في القرآن. فمن لم يتبعه فقد كفر بالجميع؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وكذلك حكى الله عنهم، فإذا جحدوا به فقد جحدوا ما هو مكتوب عندهم، ومَن جحَد حرفاً واحداً من كتاب الله فهو جاحد للجميع.
قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}.
أي أول من كفر. وقيل: أول فريق كافر.(1/249)
وقيل: معناه: لا تسبوا الكفر وأنتم علماء فيُقتدى بكم.
وقيل: معناه: [ولا تكونوا] أول من كفر به من أهل الكتاب؛ يريد قريظة والنضير خاصة، لأنه قد كفر به المشركون قبل ذلك / بمكة، وليس نهيه أن تكونوا أول كافر يبيح لهم أن يكونوا ثانياً أو ثالثاً فما بعده، لأن النهي عن الشيء لا يكون دليلاً على إباحة أضداده. وذلك في الأمر جائز، يكون الأمر بالشيء دليلاً عن النهي عن أضداده.
والهاء في " به " تعود على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: على كتابهم لأنهم إذا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد كفروا بكتابهم.
وقيل: الهاء تعود على القرآن لأنه جرى ذكره في أول الآية، ولم يجر ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ولا التوراة والإنجيل باللفظ، ولكن جرى ذلك بالمعنى في قوله: {لِّمَا مَعَكُمْ}.(1/250)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
وقيل: إن هذا خطاب لقريظة والنضير لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليهم فعصوه فكانوا أول من كفر به من اليهود.
قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً}.
كان لأشراف اليهود مأكلة يأكلونها من أموال الناس كل عام على الدين فخشوا أن يؤمنوا فتذهب مأكلتهم.
قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل}.
أي: [لا تخلطوا الحق بالباطل، وهو إظهار] المنافق الإيمان بلسانه وجحوده بقلبه. وقيل: هو قول بعض اليهود: " محمد نبي مرسل مبعوث إلا أنه لم يبعث إلينا "، / فيقرون ثم يجحدون.
وقال مجاهد: " لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ".
وقال ابن زيد: " الحق التوراة، والباطل [ما كتبوه وغيروه] بأيديهم ".(1/251)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي تكتمون أمر محمد وأنتم تعلمون أنه نبي مبعوث صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة، تجدونه مكتوباً عندكم كذلك في التوراة والإنجيل.
قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}.
إنما أمروا بهذا لأنهم كانوا يأمرون الناس به ولا يفعلونه، دل عليه قوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون أنفسكم ".
والزكاة النماء والزيادة. سميت بذلك لأنها تنمي المال وتثمره.
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رجالاً تُقْرضُ شِفاهُهُمْ بِمَقَاريضَ مِنْ نارٍ، فَقُلْتُ: يا جِبْريلَ مَنْ هَؤُلاءِ؟ فقالَ: هؤلاءِ خُطَباءٌ يأْمرونَ النّاسَ بالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ".
وقيل: كانوا ينهون الناس عن الكفر بشيء من التوراة والإنجيل ويقولون: تمسكوا بما فيهما، وهم يكفرون بما يجدونه فيهما من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وينقضون ما(1/252)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
عهد إليهم في ذلك.
وقيل: إنهم كانوا يخبرون الأنصار بصفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرونهم بالإيمان به، وهم يؤمنون به قبل مبعثه، فلما بعث آمنت به الأنصار، وكفرت به اليهود.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
أي أفلا تعقلون / أن وبال ذلك راجع عليكم.
وأصل العقل المنع. يقال: " عَقَلْتُ نَفْسي عَنْ كَذا " أي مَنَعْتُها، " وَعَقَلْتُ البَعيرَ " إذا ربَطْتَهُ "، وعَقَلْتُ عَنِ الرّجُلِ " إذا لَزِمَتْهُ دِيَّةً فَأَعْطَيْتَها عَنْهُ. فهذا فرق بين عَقَلْتُهُ و " عَقَلْتُ عَنْهُ ".
قوله: {بالصبر والصلاة}.
الصبر الصيام. وأصل الصيام الحبس.
وقيل: معناه اصبروا على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل.
وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: " معناه بالصبر على أداء الفرائض،(1/253)
وبالصلاة على تمحيص الذنوب ".
وقال مقاتل: " معناه استعينوا بهما على طلب الآخرة ".
وقال مجاهد وغيره: " الصبر الصوم ".
وقيل: معناه: أصبروا أنفسكم عن المعاصي، أي أحبسوها.
وذكر الصلاة ها هنا لما فيها من الذكر والخشوع. وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] " إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَزَعَ إِلى الصَّلاةِ " وقال الله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] فهي مما / يستعان بها على / ترك المعاصي وفعل الخير / كله.
وكان ابن عباس إذا أصيب بمصيبة توضأ، وصلى ركعتين ثم قال: " اللهم قد فعلنا ما أمرتَنا فأنجز لنا ما وعدتَنا ".
وقال أبو العالية: " معناه واستعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، فإنهما من(1/254)
طاعته ".
قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}.
إنما وُحِّد، وأتى بضمير الصلاة لأن المعنى قد عرف، وكانت الصلاة أولى لقربها و " لجمعها الخير "، ولأنها أقرب إلى الضمير.
وقيل: المعنى: وإن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم لكبيرة، فالهاء تعود على إجابته / لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ويأمر به.
ومعنى " كبيرة " ثقيلة شديدة، إلا على الخاشعين وإلا على الذين هدى الله.
والخاشع الخائف من الله. وأصله التواضع، والتذلل، والاستكانة.
وقيل: الهاء في " إنها " تعود على تولية الكعبة.
وقيل: تعود على الاستعانة ودل عليه " استعينوا ".
قوله: {عَلَى العالمين}.(1/255)
أي على عالم [أهل ذلك الزمان] وذلك أنه فضلهم بالرسل والكتب.
قوله: {يَظُنُّونَ}. معناه: يوقنون.
والهاء في " إليه " تعود على اللقاء.
وقيل: على الله جل ذكره.
قوله: {لاَّ تَجْزِي}.
أي لا تقضي، " جزى عني الشيء "، قضى، و " أجزأني، كفاني، مهموز.
وقيل: هما بمعنى واحد. وأصل الجزاء القضاء والتعويض.
قوله: {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ}.
أي لا تقضي ولا تغني. وهي خاصة لقول النبي [عليه السلام]: " شَفاعَتي لأَهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتِي ".
ولقوله: " لَيْسَ مِنْ نَبِيّ، إلاّ وقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وإِنّي اخْتَبأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً(1/256)
لأِمَّتِي وَهِيَ نائِلَة مِنْهُم مَنْ لا يُشْرِكُ بِالله شَيْئاً ".
فألفاظ الآية عامة، ومعناها الخصوص، هي في الكفار خاصة، وفي هذه الآية رد على اليهود لأنهم زعموا أنهم لا يعذبون يوم القيامة لأنهم أبناء الأنبياء، وأن آباءهم يشفعون لهم عند الله، فرد الله ذلك عليهم في هذه الآية.
قوله: {مِنْهَا عَدْلٌ}.
أي: فداء.
وعن ابن عباس: " عدل: بدل ".
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " العَدْلُ: الفِدْيَةُ ".
وقولهم: " لا يقبل منه، صرف ولا عدل ".
وقيل: العدل: الفدية، والصرف: الحيلة. قاله ابن السكيت.
وقال المازني: " العدل: الفريضة، والصرف: النافلة ".(1/257)
وقيل: للفدية: عدل، لأنها مثل الشيء، وأصل " عدل الشيء " مثله. والعِدل - بكسر العين - ما حُمل على الظهر. يقال: " عِنْدي غلامٌ عِدْلُ غُلامِكَ، وَشاةٌ عِدْلُ شاتِكَ "، بِكسر العين، إذا كان أحدهما يعدل الآخر. وكذلك يفعل في كل شيء يماثل الشيء من جنسه فإن أردت أن عندك / قيمته من غير جنسه فتحت العين فقلت: " عِنْدي عَدْلُ غُلاَمِكَ وَعَدْلُ شاتِكَ ". أي قيمتها بفتح العين.
وروي في " العدل " الذي بمعنى الفدية كسر العين لغة.
والضمير في " ولاَّهُمْ " يعود على الكفار لأن النَّفْسَين [المذكورتين تدلان] على ذلك.
وقيل: تعود على النفسين لأنهما بمعنى الجمع لم يقصد بهما قصد نفسين بأعيانهما ولأن التثنية أول الجمع، فهي جمع.(1/258)
قوله: {وآلِ فِرْعَوْنَ}.
أصله: أهله، وترجع الهاء في التصغير. وجمعه آلون.
وجمع " آل " الذي هو السراب " أَأْوالٌ " كمالٍ وأمْوالٍ.
و" آل " المختار فيه ألا يضاف إلا إلى الأسماء المشهورة نحو آل هشام وآل محمد صلى الله عليه وسلم فإن أضفته إلى البلدان والأرضين لم يجز عند جماعة من أهل العربية واللغة / لا يقال: آل المدينة ولا آل مصر، وإنما يقال بالهاء، حكاها الكسائي.
وسمع الأخفش آل المدينة وآل مكة نادران لا يقاس عليهما.
واسم فرعون الوليد بن مصعب.
وقيل: مصعب بن الريان، وهو اسم كانت ملوك العمالقة تتسمى به. وكانت ملوك الروم تتسمى قيصراً وهِرقلاً، وملوك فارس تتسمى كسرى،(1/259)
وملوك اليمن تُبَّع ".
قال مجاهد: " فرعون موسى فارسي من أهل اصطخر قدم مصر فكان بها ".
قوله: {يَسُومُونَكُمْ} أي: يوردونكم. وقيل: يذيقونكم.
وقيل: يولونكم. وقيل: يصرفونكم في العذاب مرة كذا، مرة كذا.
والعذاب هنا هو استخدام القبط الرجال من بني إسرائيل وقتل الأبناء؛ روي عن ابن عباس أنه قال: " ذكر فرعون ما وعد الله خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه يجعل من ذريته / أنبياء ملوكاً، فأجمع رأيه مع أصحابه على أن يذبح / كل مولود ولد في بني إسرائيل ففعل ثم رأى أن الكبار يموتون بآجالهم والصغار يذبحون فخاف أن يضطر إلى أن يتولى الخدمة بنفسه ويغني الناس فأمر أن يقتل الصغار سنة ويدعوهم سنة، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا ذبح فيه، فولدته علانية، [وحملت] في العام المقبل بموسى صلى الله عليه وسلم.(1/260)
وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: " قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة وعلى كل عشرةٍ رجلاً، وأمرهم بذبح الذكور إذا وضعن.
وقال السدي: " كان ذلك من فرعون لرؤيا رآها، فعُبِّرت له أن يكون من بيت المقدس مولود يكون خراب مصر على يديه. فأمر بذبح الغلمان / واستخدام الآباء تحت أيدي القبط، فأسرع الموت في مشيخة / بني إسرائيل، فدخل كبراء القبط على فرعون فقالوا له: إن هؤلاء القوم يسرع فيهم الموت فيوشك أن تبقى بغير خدمة، فأمر بذبح الذكور سنة وبتركهم سنة ".
قوله: {بلاء مِّن رَّبِّكُمْ}.
أي نعمة إذ نجاكم مما كنتم فيه.
وقيل: معناه اختبار لكم من ربكم.(1/261)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر}.
أي جعلناه اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط. ولما أتى موسى صلى الله عليه وسلم البحر كناه أبا خالد وضربه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل العظيم.
{وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}. قيل: إنهم كانوا ينظرون إلى آل فرعون يغرقون وهم ينجون.
وقيل: أخرجوا لهم حتى رأوهم.
وقيل: كانوا ينظرون انفلاق البحر لهم.
وقال الفراء: " تنظرون: تعلمون "، واستبعد أن ينظروا إليهم في ذلك الوقت لأنهم كانوا في شغل عن ذلك.
وكان فرعون قد خرج في طلب موسى صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفاً من دُهْم الخيل خاصة، وموسى صلى الله عليه وسلم بين يديه حتى قابله البحر، فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]. قال(1/262)
موسى صلى الله عليه وسلم: كلا إن معي ربي سهديني للنجاة قد وَعَدني ذلك، وهو لا يخلف الميعاد. وكان قد أوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن أضرب بعصاك البحر، وأمر البحر أن ينفلق إذا ضربه موسى صلى الله عليه وسلم فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقاً من الله تعالى، فضربه موسى صلى الله عليه وسلم بالعصا فانفلق، فسلك موسى صلى الله عليه وسلم / ببني إسرائيل وأتبعه فرعون وجنوده. ولما أتى فرعون في أثر موسى صلى الله عليه وسلم وهو على حصان فأراد الدخول فهرب الحصان من البحر فعرض له جبريل على فرس أنثى فقربها منه فشمها ثم تقدم معها [الحصان عليه فرعون حتى دخل، ثم دخل آل فرعون في أثره، وجبريل صلى الله عليه وسلم أمامه]، وميكائيل من وراء القوم على فرس يستحثهم حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس قدامه أحد. وبقي ميكائيل من الناحية الأخرى ليس خلفه أحد طبق عليهم البحر. فلما رأى فرعون ما رأى نادى: {لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] وكان ذلك يوم عاشوراء.
وروي عن ابن عباس أن موسى صلى الله عليه وسلم سرى ليلاً كما قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً}(1/263)
[الدخان: 23]، فأتبعه فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى صلى الله عليه وسلم في ستمائة ألف فاحتقرهم فرعون، وقال حين اطلع عليهم: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] [الثلاث الآيات]، ولما دخلوا البحر وتفرق كل سبط على طريق، قال السبط الذين مع موسى صلى الله عليه وسلم لموسى: أين أصحابنا؟ قال: سيروا / فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم. قال موسى صلى الله عليه وسلم: اللهم أعِنِّي على أخلاقهم السيئة. فأوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن يزيد عصاه على البحر في الحيطان فصار فيه كوى ينظر بعضهم إلى بعض.
وموسى اسم أعجمي، أصله فيما ذكر السدي: ماء وشجر، فهو ماء. وسمي بذلك لأن أمه / حين ألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون فوجده جواري آسية امرأة فرعون، فسمي باسم ذلك المكان الذي(1/264)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
أصيب فيه.
فأما موسى فمؤنثة عربية، مشتقة من أسوت إذا أصلحت، ويكون أصله الهمز.
وقيل: هي من " أَوْسَوْتُ " إذا حلقت. وهذا أشبه بها، وكلاهما قريب من الآخر. و [الأصل] للواو في الهمز على هذا.
قوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. أي: تمام أربعين ليلة. وقيل: معناه أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون داخلة في الميعاد.
قوله: {اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ}.
أي إلهاً، والأصل، اتَّخَذَ، يَتَّخِذُ، وهو " افْتَعَل " من الأخذ، وكثر في كلامهم فجعلوه بمنزلة ذوات الواو والياء التي تكون في موضع الفاء من الفعل. وهي تكون تاء في " افتعل " وما تصرف منه، وتدغم في تاء " افتعل ". فأصل التاء الأولى همزة(1/265)
/ وقد قيل: أصلها تاء من " تخذت ".
وقال الأخفش: " أصلها همزة حملت على ذوات الواو. لأن الهمزة قد تدخل على الواو فيبدل كل واحدة من الأخرى ".
وقد قيل في لغة: " أخَذْتُهُ وأَخَذَهُ الله بذلك، وَوَاخَذَهُ ". فصارت " اتخذ " مثل " اتعد ".
قال ابن عباس: " لما امتنع فرس فرعون أن يدخل به البحر، تمثل له جبريل عليه السلام على فرس أنثى فتقحم خلفها ودخل بفرعون، وكان السامري قد عرف جبريل لأن أمه خافت عليه الذبح، فخلَّفته في غار فانطبقت عليه الغار. فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغدوه بأصابعه، فيجد في إحدى أصابعه لبناً وفي الأخرى / عسلاً وفي الأخرى سمناً. فلم يزل يغدوه حتى نشأ، فلما رأى جبريل عليه السلام عرفه، / فأخذ من أثر فرسه قبضة من تراب، ورفعها عنده، وكان موسى صلى الله عليه وسلم إذ أمر بني إسرائيل(1/266)
أن يخرجوا من أرض. مصر، أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط ويخرجوا به معهم. فلما تجاوز البحر وغرق آل فرعون استخلف موسى هارون على بني إسرائيل، ومضى لوَعْدِ ربه عز وجل، فقال لهم هارون: اجمعوا الحلي وادفنوه حتى يأتي موسى، فإن أحلَّها لكم أخذتموها. فجمعوا الحلي في حفرة، وألقي [في روع] السامري / أنه لا يلقي تلك القبضة على شيء فيقول: كن كذا إلا كان، فقذفها في الحفرة وقال: كن عجْلاً جسداً له خوار، فصار الحلي كذلك، تدخل الريح من دبره وتخرج من فيه، يُسمع لها صوت، فقال لهم السامري: {هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} [طه: 88]؛ أي نسي موسى صلى الله عليه وسلم إلهه عندكم، ومضى يطلبه كأنه قد نسي. فعكفوا على العجل يعبدونه فنهاهم هارون صلى الله عليه وسلم وقال: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني} [طه: 90]. فأبوا حتى يرجع موسى [ صلى الله عليه وسلم] ".
وقيل: إنه كان يمشي ويخور.(1/267)
واسم السامري: موسى بن ظفر، واعتزل هارون بمن معه ممن لم يعبد العجل فلذلك قال له موسى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ} [طه: 94].
قال ابن عباس: " إن موسى صلى الله عليه وسلم لما قطع البحر وأغرق الله آل فرعون، قالت بنو إسرائيل لموسى: إئتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر. فاختار موسى سبعين رجلاً لينطلقوا معه، فلما تجهزوا، قال الله لموسى: أخبِر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين تمت بعشر، وهي عشر من ذي الحجة مع ذي القعدة.
والهاء [في] من " بعده " تعود على موسى صلى الله عليه وسلم. وقيل: تعود على انطلاق موسى إلى الجبل.(1/268)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قوله: {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}.
" ذلك " إشارة إلى اتخاذهم العجل إلهاً.
قيل: إنهم عبدوا العجل، فلذلك قال: اتخذتم العجل يعني إلهاً. وعن قتادة: " إن السامري هو الذي اتخذ العجل إلهاً، ورضي بذلك بنو إسرائيل، فلذلك نسبه إليهم ".
قوله: {الكتاب والفرقان}.
الكتاب: التوراة، والفرقان: انفراق البحر، قاله ابن زيد. و " يوم الفرقان: يوم التقى الجمعان " هو يوم بدر فرق الله بين الأمرين بين الحق والباطل.
وقيل: الفرقان: الفرق بين الحق والباطل / من الكتاب.
وقيل: الفرقان القرآن، والتقدير على هذا: وآتينا محمداً الفرقان. قاله الفراء وقطرب، وهو بعيد في العربية، لا يجوز مثل هذا الإضمار، وقد ردَّه جماعة.
وقال الزجاج: " الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره بغير لفظه للتأكيد، وسمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل ".(1/269)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
وقيل: الفرقان هو التفريق بينهم وبين قوم فرعون؛ غرق قوم فرعون ونجا قوم موسى.
قوله: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} الآية.
قال السدي: " لما رجع موسى صلى الله عليه وسلم إلى قومه قال: {ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه: 86] إلى قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} [طه: 87]، ثم أخذ العجل فحرقه [فأبرده] بالمبرد فذراه في اليم، ثم أمرهم موسى صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من اليم فشربوا. فمن كان في قلبه محبة من العجل خرج على / شاربه الذهب، وهو قوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]. فلما / علموا أنهم قد ضلوا ندموا، فلم يقبل الله توبتهم إلا أن يقتل بعضهم بعضاً، فذلك قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} إلى {التواب الرحيم}. فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف والخناجر، فكان من قتل شهيداً.
قال علي بن أبي طالب: " كان الرجل يقتل أباه وأخاه حتى قتل منهم سبعون(1/270)
ألفاً، فأوحى الله إليه: (مرهم فليرفعوا) القتل فقد رحمتُ من قتل وتبت على من بقي ".
وروي أنهم قالوا لموسى صلى الله عليه وسلم: كيف يَقْتُلُ الرجل أخاه وقريبه؟ فقال موسى: إن الله [تعالى يأمر الذين عبدوا] العجل أن يجثوا، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل السيوف. وقال الله جل ذكره لموسى عليه السلام: إني سأنزل سحابة سوداء حتى لا يبصر بعضهم بعضاً، ثم أمر الذين لم يعبدوا العجل أن يضربوا بالسيوف ففعلوا فقتلوهم أجمعين /. فلما ارتفعت السحابة اشتد على موسى وعليهم ما صنعوا، فقال الله جل ذكره: يا موسى أما يرضيك أني أدخلت القاتل والمقتول الجنة؟ قال: بلى يا رب ".
وقال ابن شهاب: " لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف والخناجر، وموسى صلى الله عليه وسلم رافع يديه يدعو، حتى إذا فتر أتاه بعضهم فقال: با نبي الله: ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى قبل الله توبتهم وقبض أيديهم / فألقوا السلاح. وأحزن(1/271)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
موسى صلى الله عليه وسلم و [بني إسرائيل الذي] كان من القتل منهم، فأوحى الله جل ذكره إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل، فحَيّ عندي يُرزَق، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسُرّ بذلك موسى صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل.
قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} الآية.
قوله: {جَهْرَةً}: يجوز أن يكون حالاً من قولهم، على معنى: أرنا الله علانية. ويجوز أن يكون حالاً منهم؛ أي قالوا ذلك مجاهرين به أي: معلنين.
والصاعقة الموت. وقيل: الفزع.
وقيل: [العذاب الذي] يموتون منه.
وأصل الصاعقة كل شيء هائل من عذاب أو زلزلة أو رجفة؛ قال الله تعالى: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143]، أي مغشياً عليه ولم يمت. والرجفة التي أخذت من معه كانت موتاً وأنتم تنظرون إلى الصاعقة.(1/272)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
قوله: {ثُمَّ بعثناكم}.
أي: أحييناكم. وأصل البعث إثارة الشيء من محله؛ تقول العرب: " بَعَثْتُ ناقتي " أثرتها. " وبَعَثْتُ فلانا في كذا "، أي: أثرتُه للتوجه فيه. ويوم القيامة يوم البعث لأنه [يثار فيه الناس] للحساب. ومعنى ذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم لما أحرق العجل وذراه في اليم اختار من قومه سبعين / رجلاً وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، وتوبوا إليه مما صنعتم وتطهروا وطهروا ثيابكم، وكان ذلك عن أمر الله له، فخرجوا معه فقالوا لموسى: اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلامه فقال: أفعل. فلما دنا موسى صلى الله عليه وسلم من الجبل وقع عليه عمود من نور حتى تغشى الجبل كله فدخل فيه. وقال للقوم: ادنوا وكان موسى صلى الله عليه وسلم إذا كلمه ربه عز وجل وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم حتى إذا(1/273)
دخلوا / في الغمام، وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى / صلى الله عليه وسلم يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة عند ذلك فماتوا أجمعون. فقال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ يريد موسى صلى الله عليه وسلم أن مُضِيِي إلى بني إسرائيل بغير من اخترت منهم [هلاك لهم] لأنهم بعد ذلك لا يأمنوني على أمر ولا يصدقوني. فلم يزل موسى - يطلب إلى ربه - صلى الله عليه وسلم حتى رد عليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لهم من عبادتهم العجل، فقال الله تعالى: لا. إلا أن يقتلوا أنفسهم. ذكر جميع ذلك عن السدي، قال: " فالذين أخذتهم الصاعقة هم السبعون الذين اختارهم موسى صلى الله عليه وسلم للميقات ". قال قتادة: " بعثهم الله عز وجل إلى بقية آجالهم ليستوفوها،(1/274)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
ولو تمت آجال القوم ما بعثوا ".
وقال ابن زيد: " لما أتاهم موسى صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل، وقال لهم: خذوه، قالوا: لا نأخذه حتى نرى الله جهرة، فيقول: خذوه. فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقوا أجمعين، ثم أحياهم الله بعد موتهم. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله عز وجل فأبوا أن يأخذوه. فرفع فوقهم الجبل فأخذوا الكتاب، وأخذ موسى عليهم الميثاق، وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 83] الآية.
قوله: {[وَ] ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام}.
قيل: الغمام سحاب.
وقال مجاهد: " هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة وليس بسحاب ". وروي ذلك عن ابن عباس، وهو الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر،(1/275)
وذلك أنهم كانوا في التيه، [فشكوا حر] الشمس، فظلّل الله عليهم الغمام وهو أبرد من السحاب وأطيب.
وسمي الغمام غماماً لأنه يَعُمّ ما حل به، أي يستره، وسمي السحاب غماماً، لأنه يغم السماء، أي يسترها.
وقيل / للسحاب سحاب لأنه ينسحب بمسيره.
والمن عن مجاهد: " صمغة ".
وقال قتادة: " كان ينزل، عليهم مثل الثلج ".
/ وقال الربيع. بن أنس: " المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ".
وقال ابن زيد: " المن عسل كان ينزل عليهم من السماء ". ورواه ابن وهب عنه.(1/276)
وقال وهب: " المن خبز رقاق الذرة أو مثل النقي ".
وقال السدي: " المن الزنجبيل ".
وقيل: " هو الترنجبين ".
وعن ابن عباس: " المن هو الذي " يسقط من الشجر، فيأكله الناس ".
وقال قتادة: " كان يسقط عليهم في مجلسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كسقوط الثلج فيؤخذ منه بقدر ما يكفي ذلك اليوم / فإن تعدى إلى أكثر فسد، إلا يوم الجمعة فإنه يؤخذ ما يكفي فيه للجمعة وللسبت، لأن يوم السبت عندهم(1/277)
يوم عبادة ". وقيل: " المن: الترنجبين ". وقيل: " المن أصمغة ".
وقال النبي [عليه السلام]: " الكَمْأَةُ مِنَ المَنّ وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ " قال أهل المعاني: " معنى: " مِنَ المَنّ " أي مما منَّ الله به على خلقه بلا زرع ولا تكلف سقي ".
والسلوى: طائر يشبه السُّمانَى كانت الجنوب تحشره عليهم.
والسلوى والسمانى واحِدُه وجمعه بلفظ واحد. والمن: جمع لا واحد له مثل الخير والشر. / وكان من قصة المن والسلوى أن الله عز وجل أمر(1/278)
موسى إلى بيت المقدس فيسكنها ويجاهد فيها من الجبارين، فأبوا القتال معه وقالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا، فغضب موسى صلى الله عليه وسلم لذلك فدعا عليهم وقال: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} [المائدة: 25]، فقال الله عز وجل: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} [المائدة: 26]. فندم موسى عليه السلام على دعائه عليهم فأوحى الله عز وجل إليه: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} [المائدة: 26] أي لا تحزن. فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بالطعام؟ فأنزل الله عز وجل عليهم المن والسلوى. فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن وجده سميناً ذبحه، وإلا تركه، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر الله عز وجل موسى صلى الله عليه وسلم أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط عين. فقالوا: فأين الظل؟ فظللهم الله بالغمام فقالوا: فأين اللباس؟ [فجعل الله] ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب ولا يتوسخ.
قوله: {مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
أي من مشتهيات رزقنا وقيل: من حلاله.(1/279)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
قوله: {وادخلوا الباب سُجَّداً}.
أي ركعاً. والباب باب حطة، معروف في بيت المقدس.
ومعنى حطة عند الحسن وقتادة وأكثر المفسرين: " احطط عنا ذنوبنا / وحط عنا خطايانا ".
وعن ابن عباس وعكرمة قالا: " حطة: لا إله إلا الله. وسميت بذلك لأنها تحط الذنوب ".
وقيل: كلمة أمروا بما تحط بها عنهم ذنوبهم.
وقيل معناه: قولوا قولاً تحط به عنكم ذنوبكم.
وقيل: حطة بمعنى الاستغفار. وهو مثل الأول.
قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ}.(1/280)
روى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام] أنه [قال]: " قال الله تعالى لبني إسرائيلَ: ادْخُلوا البَابَ سجَّداً، وقُولُوا حِطَّةٌ يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، فَبَدَّلُوا ودَخَلُوا البَابَ يَزْحُفُون على أسْتاهِهِم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعِيرة ".
وقال ابن عباس عن النبي [عليه السلام] إنهم قالوا: " حنطة في شعير ".
وقيل: إنهم تكلموا بكلام بالنبطية على جهة الاستهزاء والخلاف. وقال ابن مسعود: " قالوا حنطة حمراء فيها شعير ".
وعن ابن عباس أنه قال: " إنهم دخلوا الباب من قِبلِ أستاههم، وكان باباً صغيراً ويقولون حنطة ".
قال الفراء: " قال ابن عباس: " أمروا أن [يستغفروا الله فخالفوا] الكلام بالنبطية.(1/281)
والزجر العذاب، والرجس النتن.
وقال أبو العالية: " الرجز الغضب ".
وذلك أنهم لما بدلوا نعمة الله، نزل عليهم الطاعون فلم يبق أحداً، فهو الرجز. قاله ابن زيد.
وقال الأخفش: " الرجز هو الرجس ". كأن الزاي عنده بدل من السين كما يقال: " السَّرْعُ والزَّرْعُ، والزِّرَاطُ والصِّرَاطُ، وليس مثله في القياس.
والرُّجْزُ - بالضم - صَنَم كانوا يعبدونه.
وذكر يحيى أن الرجز: الطاعون، نزل بهم حين بدلوا، فمات منهم سبعون ألفاً، وقال قوم منهم: لا إله إلا الله، فهم المحسنون الذين ذكرهم الله في(1/282)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قوله: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} [البقرة: 58]، فقوم منهم بدلوا وقوم لم يبدلوا.
وروي أن الذين بدلوا إنما قالوا بالعبرانية: " حبة سمراء "، يعنون الحبة.
وقال ابن عباس: " لما بدلوا، نزل بهم طاعون فمات منهم أربعة وعشرون ألفاً ".
قال مقاتل: " هلك منهم / بفعلهم سبعون ألفاً ".
قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ}.
أي لا يشتد فسادكم وهو أشد الفساد. يقال: عَثَا يَعْثُو عُثُوّاً. وعَثِيَ يَعْثَى عَثّاً. وعَاثَ يَعِيثُ عيثاً وعِياثاً. ولغة القرآن عَثِيَ يَِعْثَى.
قوله: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر}.
لما اشتكوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الظمأ في التيه، / وكانوا يحفرون الآبار حيثما نزلوا، فشق ذلك عليهم، فأتى موسى [بحجر مربع] من الطور، وأمر موسى صلى الله عليه وسلم أن يضربه بعصاه، فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه / موسى صلى الله عليه وسلم فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً من كل ناحية [ثلاث عيون]، لكل سبط عين(1/283)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
معلومة.
قال ابن زيد: " سقوا من حجر مثل رأس الشاة يلقونه في جانب [الجَوالق/ إذ] ارتحلوا بعد أن يستمسك ماؤه عند رحلتهم فإذا نزلوا قرعه موسى بعصَاه، فعادت العيون بحسبها ".
قال مقاتل والكلبي: " انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً على عدد الأسباط، وكانوا إذا أخذوا حاجتهم زالت العيون وانسدت مواضعها. فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت العيون ".
قوله: {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} الآية.(1/284)
لما فقدوا أطعماتهم التي كانوا يأكلون بمصر، ولزموا شيئاً واحداً [ملّوا وقالوا] ذلك.
ومن قال إن المن [خُبْز الحُوّارَى]، كان قوله: " أدنى " بمعنى أقرب. وقال عطاء ومجاهد: " الفوم: الخبز ".
وقال قتادة والحسن: " الفوم: الحب الذي يختبز الناس ".
وعن ابن عباس قال: " الفوم: الحنطة والخبز ".
وروي عن مجاهد قال: " هو الثوم ". وهو اختيار ابن قتيبة، وهو في مصحف ابن مسعود: " وثُومِهَا " بالثاء. فهذا يدل على أنها الثوم. وذكر ابن قتيبة: " أن الفوم: الحبوب ".
والعرب تبدل الثاء [من الفاء] يقولون: جَدَفٌ وجَدَثٌ، ومَغَافِيرٌ(1/285)
وَمَغَاثِيرٌ. [فهذا] يدل على أنه الثوم.
وروي أن الفوم: القمح والعدس وسائر الحبوب؛ وذلك أنهم لما سلكوا التيه مع موسى شكوا الحر، فظلل الله عليهم الغمام يقيهم الحر، وجعل لهم عموداً من نار بالليل يضيء لهم مكان القمر، وأنزل الله عليهم المن والسلوى، فيأخذون منه قوتهم للغذاء والعشاء، فمن زاد على ذلك فسدت عليه الزيادة. وكانوا يأخذون يوم الجمعة للجمعة والسبت إذ لا يأتيهم يوم السبت، وكانوا يخبزون المن قرصاً، فيأكلون طعاماً مثل الشهد المعجون بالسمن.
وروي أنهم نزل عليهم المن أولاً، فملوه لحلاوته، وسألوا لحماً فأنزل الله عليهم طيراً تجلبه عليهم ريح الجنوب، وأمر ألا يدخروا من لحمه فخالفوا فادخروا، فخنز عليهم وفسد.
فيروى أنه لولا ذنوب بني إسرائيل ما فسد الطعام المدخر.
وقيل: كانت السلوى تقع في مجالسهم كهيئة السماني، فملوا ذلك وسألوا القمح(1/286)
والحبوب والبصل، فأمروا أن يهبطوا مصر وهي الشام، لأنهم من مصر خرجوا، فهبطوا إلى الشام بعد انقضاء الأربعين عاماً التي عوقبوا بها في التيه لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم لموسى صلى الله عليه وسلم: { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. ولم يدخل الشام أحد ممن أمر بقتال الجبارين، بل كلهم مات في التيه، وإنما دخلها أبناؤهم.
قوله: / {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ}.
هو من قول موسى صلى الله عليه وسلم. و " أدنى " بمعنى أقرب أي أقل قيمة.
وقال علي / بن سليمان: " أدنى من ذوات الهمز من قولهم: " دَنِيءٌ بَيِّنُ الدَّنَاءَةِ "، أبدل من الهمزة ألفاً ".
وقيل: معنى " أدنى ": أقرب لكم في الدنيا مما هو لكم في الآخرة، فيكون(1/287)
من " دنا يدنو ". وقد قرئ بالهمز.
وقال مجاهد: " أدنى بمعنى: " أَرْدَأَ ".
وقيل: أصله " أدون " من الدون [ثم قلبت] اللام في موضع العين، وانقلب الواو ألفا لتطرفها.
قوله: {اهبطوا مِصْراً}.
قال مجاهد وقتادة وغيرهما: " مصراً من الأمصار ".
وقال أبو العالية: " مصر هي التي كان بها فرعون ". وقاله الكسائي، وفي قراءة أُبَيّ وابن مسعود: " اهْبِطُوا مصر " بغير صرف معرفة. وقيل: هي الشام.(1/288)
وروى أشهب عن مالك أنه قال له: " هي مصر قريتك في رأيي؛ هي بلاد فرعون ".
قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة}.
أي فرضت ووضعت من قولهم: " ضَرَبْتُ عَلَى عَبْدِي الخَرَاجَ، وَضَرَبَ عَلَيَّ الأَمِيرُ الخَرَاجَ " أي [فَرَضَهُ وَوَضَعَهُ] عَلَيَّ. وَضَرْبُ الذلةِ عليهم هو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون.
والمسكنة الخشوع والذلة. وقيل: الحاجة.
وقيل: الفاقة والفقر. فلست ترى يهودياً إلا وعليه الذلة والمسكنة، وإن كان معه قناطير الذهب والفضة.
قوله: {وَبَآءُو بِغَضَبٍ}. أي: رجعوا به.(1/289)
وقال الضحاك: " استحقوا غضباً ".
قال أبو عبيدة: " يقال بُؤْتُ بالذنب أي: احتملته ولزمني، وتَبَوَّأتُ الدار لزمتها، وبُؤْتُ بالشي اعترفت به، وبَوَّأْتُ القوم منزلاً إذا أنزلتهم إلى سند جبل أو عند نهر. فالاسم المباءة ".
قوله: {بِآيَاتِ الله}.
الآية طائفة من القرآن وجماعة /، يقال: " جئنا بآيتِنَا " أي: بجماعتنا.
وقيل: سميت آية لأنها علامة الانفصال مما قبلها.
ووزن آية عند الخليل / وسيبويه: " فَعْلَةٌ "، وأصلها " أيِيَةٌ، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وهو نادر، لأن أصله أن تعتل اللام وتسلم العين، فاعتلت العين وسلمت اللام.
وقال الكسائي فيما حكى أبو بكر: " أصلها " آيِيَةٌ " مثل " مَاضِيَة "، فكان يلزم(1/290)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
الياءين الإدغام فتصير " آيَّة " مثل " دَابَّة "، فتثقل، فحذفوا الياء الأولى ".
وقال الفراء: " أصلها فعلة، وأصلها " آيَّة " استثقلوا التضعيف فأبدلوا الياء ألفاً كما أبدلوا في التضعيف من " دِوَّانِ " و " قِرَّاطٍ " ياءً ومثله دِنَّار ".
وقد حكى غير أبي بكر عن بعض الكوفيين أن أصلها فعلة فاستثقل التضعيف فأعلت الأولى لانكسارها، وتحرك ما قبلها فقلبت ألفاً.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية.
قال سفيان: " الذين آمنوا / هنا هم المنافقون الذين آمنوا في الظاهر، يدل على ذلك قوله: {مَنْ آمَنَ / مِنْهُمْ بالله}؛ أي مَن صدق منهم بقلبه ووافق ظاهره باطنه ".
وقال غيره: " بل هم المؤمنون، وإنما أراد " بمن آمن "، من ثبت على الإيمان كما قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ [آمَنُواْ]} [النساء: 135] أي اثبتوا على تصديقكم.(1/291)
وقيل: المراد بهم: من كان يؤمن بموسى صلى الله عليه وسلم، وعيسى صلى الله عليه وسلم، والنصارى على هذا القول من خالف عيسى منهم، واليهود من خالف موسى، والصابئون قوم بين اليهود والنصارى، فيهم اختلاف قد ذكرناه.
قوله: {مَنْ آمَنَ بالله}.
أي جمع مع إيمانه المتقدم إيمانه / بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. روي ذلك عن السدي.
وقال السدي: " نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي ". وذكر قصة طويلة معناها أن سلمان كان قد تنسك مع قوم من الرهبان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنه سيبعث نبي، فإذا لحقته فصدق به. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأتى المدينة أتاه سلمان فنظر إلى الخاتم الذي هو علامة النبوة، وقد كانوا قالوا له: علامته خاتم بين كتفيه وهو لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية. فلما رأى سلمان الخاتم مضى واشترى لحماً وخبزاً، وشوى اللحم وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما هذا؟ فقال له: صدقة. قال: لا آخذه، أعطه للمسلمين. ثم مضى [فاشترى شيئاً آخر فأتى] به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال(1/292)
له: ما هذا؟ قال له: هدية. فقال له: اجلس فكل، فأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فسأله سلمان عن أولئك الرهبان ما حالهم في الآخرة وقد كانوا يقولون: لو لحقناك لآمنا بك، فأنزل الله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} الآية. أي من مات على دين موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم فله أجره عند ربه.
وروي عن ابن عباس، وسعيد بن عبد العزيز أنها منسوخة نسختها: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. أي من لحق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم فليس يقبل منه غير الإيمان.
وسميت اليهود يهوداً لقولهم: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي تبنا ورجعنا.(1/293)
وقيل: سميت بذلك لانتسابهم إلى يهودا.
والنصارى: جمع نصران ونصرانة. وقيل: سموا نصارى لأنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة.
وقيل: سموا نصارى لقوله تعالى: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52].
وقيل: سموا نصارى، لأن قرية عيسى [عليه السلام] كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصرين، وكان يقال لعيسى صلى الله عليه وسلم الناصري.
وقيل: سموا بذلك لأنهم نزلوا موضعاً يسمى ناصرة.
والصابئين: قوم خرجوا من دين إلى دين. وقيل: هم قوم لا دين لهم.
وقيل: الصابئين: قوم بين المجوس واليهود.(1/294)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
وقال الحسن: " هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلّون للقبلة، ويقرأون الزبور ".
ومعنى: {وَعَمِلَ صَالِحاً}. أي آمن بمحمد [عليه السلام].
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} الآية.
/ وقال ابن زيد: " لما رجع موسى صلى الله عليه وسلم من عند ربه بالألواح، أمرهم باتباع ما فيها وقبوله والعمل به. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت، لا والله حتى نرى الله جهرة وحتى يطلع علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه. قال: فجاءته غضبة من الله فصعقوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله من بعد ذلك. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: خذوا كتاب الله قالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أُمتنا ثم حُيينا. فقال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم فهو تأويل. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} فلما صار فوقهم، قيل لهم: خذوا، وإلا طرح عليكم. فأخذوه بالميثاق /،(1/295)
فهو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] إلى {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]. ولو أخذوه أول مرة لأخذوه بغير ميثاق، ولكن عسروا فشدد الله عليهم ". والطور: الجبل.
وقيل: هو اسم جبل بعينه معروف كلم الله سبحانه عليه / موسى صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو ما أنبت دون ما لم ينبت من الجبال.
وقال السدي: " لما نظروا إلى الجبل فوقهم خروا سجّداً على شق، ونظروا إليه [بالشق الآخر فرحمهم] الله وكشف عنهم فهم يسجدون لذلك على شق ".
/ فقوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171] وقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} واحد.(1/296)
ومعنى: {بِقُوَّةٍ} أي: بجد وعزيمة ورغبة وعمل، وهو التوراة.
وروي أنهم قالوا: لا نقبل التوراة، فرفع الله فوقهم الطور كأنه ظلة، فأيقنوا أنه واقع عليهم، وبعث الله ناراً من قِبلِ وجوههم، وأتاهم بالبحر من خلفهم، فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: " إن أنتم لم تقبلوا التوراة بما فيها أحرقكم الله بهذه النار، وغرقكم في هذا البحر، وأطبق عليكم هذا الجبل ". فأخذوها كارهين، وعاهدوا الله ليعملن بما فيها وسجدوا لله وهم ينظرون إلى الجبل بعين واحد مخافة أن يقع عليهم فصارت سنة فيهم لا يُصَلّون إلا هكذا. ثم عصوا بعد ذلك وخالفوا العهد، فهو قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لعاجلهم بالعقوبة، فيخسرون دنياهم وآخراهم.
قوله: {واذكروا مَا فِيهِ}.
أي أتلوه. وقيل: معناه: اذكروا ما فيه من أمر الآخرة وهو الثواب والعقاب لعلكم تتقون ما تعاقبون عليه.(1/297)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت}.
قال ابن عباس: " لم يبعث الله قط نبياً إلا عرفه فضل الجمعة وعظمها في السماوات وأن الساعة / تقوم فيها، وتشريف الملائكة لها. وبلغت الرسل أممها ذلك، فسمع أكثرهم وأطاع وعرف فضلها. فلما كان موسى أخبر بني إسرائيل بفضلها على الأيام فقالوا: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام، والسبت أفضل لأن كل شيء سبت لله مطيعاً يوم السبت، وخلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة. ويوم السبت كمل الأمر؟ وقالت النصارى لعيسى صلى الله عليه وسلم إذ أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والله واحد، والواحد الأول، والأحد أول؟ فأوحى الله عز وجل إلى عيسى صلى الله عليه وسلم أن دَعْهُم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا فلم يفعلوا. وقال لموسى صلى الله عليه وسلم كذلك في السبت. وأمرهم أن لا يصيدوا فيه سمكاً ولا غيره، ولا يعملوا فيه عملاً. فكان يوم السبت تظهر فيه الحيتان على وجه الماء فهو قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] ثم إنهم تناولوها في السبت فلم ينكر بعضهم على بعض، ثم كفوا فلما رأوا العقوبة لا تنزل بهم عادوا وأخذوا. وكان موسى قد حذرهم(1/298)
العقوبة إن تعدوا في السبت، فلما رأوا لا تنزل عليهم عقوبة ظنوا ما قال لهم موسى صلى الله عليه وسلم باطلاً، فمسخوا قردة وحيوا ثلاثة أيام وماتوا ".
قال ابن عباس: " لم يعش مسخ قط أكثر من ثلاثة أيام ولا يأكل ولا يشرب ولا ينسل. وكان الله تعالى قد خلق القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة [الأيام التي ذكر، فمسخ أولئك في صور] القردة ".
قال الحسن: " كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت / فتبطح بأفنيتهم كأنها المخاض ثم تذهب فلا ترى ".
قال ابن عباس: " لما طال عليهم أمر الحيتان وإتيانها يوم السبت ولا تأتي في غيره، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً يوم السبت فحزمه بخيط وأرسله في الماء وتّدَ له وتداً في الساحل فأوثقه، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله، فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك، فوجد الناس ريح الحيتان، ثم علموا بما فعل ذلك الرجل ففعلوا مثل(1/299)
ما [فعل وأكلوا زمناً طويلاً، ولم] يعجل الله عليهم بالعقوبة حتى صادوا علانية وباعوها في الأسواق. فقالت طائفة من أهل التقوى: " ويحكم اتقوا الله " ونهوهم عما يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم يصنعوا مثل ما صنع أولئك: / {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}
[الأعراف: 164]، فنجى الله الذين ينهون عن السوء ومسخ الفاعلين ".
واختلف في الذين / لم يعملوا ولم ينهوا وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ} الآية.
قيل: إنهم نجوا مع الناجين. وقيل: مُسِخُوا مع مَن مسخ. [والسبت أصله] الراحة والهدوء. والسبت ضرب من السير. والسبت [الحلق؛ / يقال سَبَتَ رَأسَهُ] حَلَقَهُ. والسبت القطع. وجمعه: " أَسْبُتٌ " و " سَبَتَاتٌ " بالتحريك لأنه اسم. وفي الكثير السبوت والسبات.
وقال السدي: / " كان الرجل منهم من شهوة الحوت يحفر الحفرة ويجعل نهراً إلى البحر، فيدخله الماء يوم السبت بالحوت، ثم لا يقدر الحوت أن يرجع إلى(1/300)
البحر لقلة الماء، فيصبح يوم [الأحد ويأخذه]. فنهوهم علماؤهم عن ذلك فلم ينتهوا ".
وروي عن مجاهد أنه قال: " مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفاراً ".
وجميع أهل التفسير على خلاف ذلك لأنهم مسخوا قردة حقيقة.
وقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً}.
هو أمر، وتأويله الخبر. أي: فكوناهم قردة، وهذا هو الأمر الذي يكون به الخلق، فحولهم من خلقة إلى خلقة أخرى، فهو مثل قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. {خَاسِئِينَ}. أي: مبعدين، أي مطرودين. هذا قول أهل اللغة.
وقال مجاهد وقتادة: " خاسئين: صاغرين ".(1/301)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
وقال الربيع: " أذلة صاغرين ".
وروي عن ابن عباس: " خاسئاً ذليلاً ".
قوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً}.
أي: فجعلنا العقوبة نكالاً وهي المسخة، وعليه أكثر أهل التفسير. وقيل: الهاء للقردة.
وقيل: للأمة الذين اعتدوا.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {جَعَلْنَاهَا} [الحج: 36]. أي: جعلنا الحيتان نَكَالاً لأن العقوبة من أجلها كانت. فدل الكلام عليها نكالاً لا عقوبة " عن ابن عباس.
ومعنى " نَكَّلْتُ به " عند أهل اللغة: فعلت به ما ينكل غيره أن يفعل مثله فيصيبه مثل ما أصابه.
قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي: من بعدهم ليحذر ويتقي.(1/302)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{وَمَا خَلْفَهَا} لمن بقي منهم عبرة. قاله ابن عباس.
وقال الربيع: " لما خلا من ذنوبهم: أي عوقبوا [من أجل ما] خلا من ذنوبهم، {وَمَا خَلْفَهَا}: أي: عبرة لمن بقي من الناس ".
وروى عكرمة عن ابن عباس: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}: من / القرى ".
وقال قتادة: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا}: مِن ذنوبها التي مضت، {وَمَا خَلْفَهَا}: تعديهم في السبت وأخذهم الحيتان ". وكذلك قال / مجاهد.
وقال السدي: " {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} ما سلف من ذنوبها، {وَمَا خَلْفَهَا}: للأمم التي بعدها ألا يعصوا فيصنع بهم مثل ذلك ".
قوله: {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لا ينتهكوا ما حرم الله عليهم فيصيبهم مثل ذلك.
قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}.
قالوا: إنما جاء الجواب بغير فاء لأنه تعالى إنما أذكرهم هذا الذي كان، فجعل(1/303)
" قالوا " كالجواب لقوله على انقطاع الكلام وتمامه. فهو حكاية كانت من كلامين: أحدهما جواب للآخر، وليس أحدها محمولاً على الآخر. ولو أتى بالفاء لحسن. ولو قلت: " قُمْتُ قامَ زيْدٌ "، لم يجز إلا بالفاء، لأنه كلام واحد، الثاني محمول على الأول، فلم يتصلا إلا بحرف فاء أو واو، وليس مثل الآية فافهمه.
قوله: {قَالَ أَعُوذُ بالله}.
ذكر السدي أنه كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال وله ابنة، وله ابن أخ فقير من المال، فخطب إليه، فأبى أن يزوجه، فعمل على قتله، وقال: والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته. فلما قتله ليلاً جعله في بعض السكك وأصبح يطلب عمه، فوجد أهل ذلك الموضع قياماً عليه فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا ديته وجعل يبكي [فرفعهم إلى موسى صلى الله عليه وسلم] فقضى عليهم بالدية، فقالوا: يا نبي الله ادع لنا ربك يبين لنا مَن صاحبه. فقال: اذبحوا بقرة. فقالوا: نحن نسألك عن القتيل، وأنت تأمرنا بذبح البقرة أتهزأ بنا؟ فقال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ".(1/304)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قال ابن عباس: " فلو اعترضوا بقرة ما، فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ".
وقيل: [إنه أخو المقتول كان].
وقيل: كانوا جماعة ورثة استبطوا موته ليرثوه فقتلوه.
وقال مقاتل: " كان القاتلان اثنين قتلا ابن عم لهما وطرحاه بين قريتين، فطولب أهل القريتين بالدية فحلفوا أنهم ما قتلوه ".
قوله: {لاَّ فَارِضٌ}: أي: لا هرمة.
{وَلاَ بِكْرٌ}: أي: لا صغيرة.
{عَوَانٌ بَيْنَ ذلك}: أي: هي بين الصغيرة والكبيرة.
{فَاقِعٌ لَّوْنُهَا}: أي: صاف تعجب من ينظر إليها.
و" ذلك " موحد يراد به بين ذلك الوصف الذي / ذكرنا.(1/305)
والصفراء السوداء عند أبي عبيدة، ومثله: {جمالت صُفْرٌ} [المرسلات: 33] أي: سود. وقال الحسن: " صفر الظِلف والقرن ".
وقال ابن زيد: " هي صفراء كلها ".
وقال / القتبي: " لا يقال صفراء بمعنى سوداء في البقر. إنما يقال ذلك في نعوت الإبل ".
قوله: {فَاقِعٌ} يدل على أنها غير سوداء لأنه لا يقال أسود فاقع ويقال أصفر فاقع.
وقيل: كانت صفراء كلها حتى الظلف والقرن ".(1/306)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
وقرأ يحيى بن وثاب: " إن الباقر " بألف. " يشَّابه " بالياء والرفع والتشديد؛ جعله فعلاً مستقبلاً.
قال الأصمعي: " الباقر جمع باقرة "، قال: " ويجمع بقر على باقورة ". وقيل: كانت صفراء كلها حتى / القرن والظلف.
{لاَّ ذَلُولٌ} لم يذللها العمل فتثير الأرض، ولا تعمل في الحرث.
{مُسَلَّمَةٌ}: أي: من العيوب.
{لاَّ شِيَةَ فِيهَا}: أي: لا بياض.
ولولا قولهم: {إِن شَآءَ الله} ما اهتدوا إليها أبداً، فوجدوا البقرة عند عجوز عندها يتامى فأضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى صلى الله عليه وسلم فأخبروه. فقال لهم: أعطوها / رضاها، ففعلوا وذبحوها. وأمرهم موسى صلى الله عليه وسلم بعضو منها يضربوا به القتيل ففعلوا. فرجع إليه روحه وسمَّى قاتله ومات فقُتل قاتله، وهو الذي أتى إلى موسى صلى الله عليه وسلم يشتكي ويطلب الدية.
وروي أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ابن صغير وله عجلة فأتى(1/307)
بالعجلة إلى غَيْضةٍ وقال " اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر. فشبت العجلة في الغيضة. وكانت ترعى فيها فلا يقدر عليها أحد؛ تثب على من رامها [فيهرب منها]. فأتى ابن الرجل الصالح بعد موت أبيه ومعه حبل إليها، فخوفه الناس منها، فأقبلت البقرة إليه مذعنة فساقها إلى أمه وكان براً بها. فلم يجد بنو إسرائيل صفة البقرة التي أمروا بذبحها إلا تلك البقرة فاشتروها منه بملء جلدها دنانير.
وعن ابن عباس قال: {لاَّ شِيَةَ فِيهَا}: لا بياض فيها ولا سواد، ولا حمرة " أي: لونها واحد لا لمعة فيها تخالف لونها وهو الصفرة. قيل: كانت صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران.
قال: " وطلبوها فلم يقدروا عليها، وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وأن رجلاً مر به ومعه لؤلؤ. يبيعه، وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح. فقال الرجل المار للولد البار: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً؟ قال له الفتى: كما أنت، حتى يستيقظ والدي، وأنا آخذه بثمانين ألفاً.(1/308)
قال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً. وزاد الحدث على أن يصبر حتى يستيقظ أبوه حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه حلف ألا يشتريه منه وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله عز وجل من ذلك اللؤلؤ أن جعل تلك البقرة عنده. فسألوه بيعها فأبى فرفع في سومها فمضوا به إلى موسى، فقالوا: قد أعطيناه ثمنها وأبى أن يبيع. فقال: يا نبي الله: أنا أحق بمالي؟ قال له: نعم أنصفوه، واشتروا منه. فاشتروها منه بوزنها عشر مرات ذهباً ".
وقيل: ضرب بفخذ البقرة الأيمن.
وقيل: ضرب بعظم من عظامها.
وقيل: بذنبها.(1/309)
وقيل: بلسانها.
وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى}.
في الكلام حذف واختصار، والتقدير: فضربوه فحيي فقيل لهم: كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته فاعتبروا.
واستدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على تصحيح الحكم بالقسامة [بهذا القتيل المذكور / ضربوه] ببعضها فحيي وقال: " فلان قتلني "، فَقُتِلَ، بقوله.
قال مالك: " فهذا مما يبين القسامة وأن يقبل قول الميت فيقسم عليه ".(1/310)
وروي أنه قال: " ابن أخي قتلني " ومات، فَقُتِلَ به ولم يرث عمه. قال عبيدة السلماني: " فسقط ميراث القاتل عمداً ممن قتل [من حينئذ] ".
وهذه الآية عند مالك تدل على القسامة وعلى قبول قول المقتول: " فلان قتلني "، ويقسم على قوله الأولياء.
قوله: {الآن جِئْتَ بالحق}: أي: بينت لنا.
وقيل: إنهم عرفوا عند من البقرة لما وصفها، وعلموا أنه ليس يجدون ما وصف لهم إلا في موضع بعينه، فقالوا: الآن جئت بالحق. ولم يريدوا أنك لم تأت بالحق من أول كلامك إلا الساعة، إنما معناه: الآن جئتنا بغاية البيان، لأنهم كانوا مذعنين للذبح ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.(1/311)
قوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}.
أي: كادوا أن يضيعوا فرض الله عز وجل لغلائها وكثرة قيمتها.
وقيل: أرادوا / أن لا يفعلوا خوف الفضيحة وهم قاتلوا المقتول على قول من قال: كانوا ورثة.
وقيل: لعزة وجودها على تلك الصفة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: " مكثوا في طلب البقرة أربعين سنة " وقال طلحة بن مصرف: " لم تخلق تلك البقرة من نتاج، إنما نزلت من السماء ".
قوله: {فادارأتم فِيهَا}. أي: اختلفتم وتدافعتم في الحكومة.
وقيل: في النفس. وقيل: في القتلة. ورجوعها على النفس أولى لتقدم(1/312)
ذكرها.
/ قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك}.
روي عن ابن عباس أنه قال: " لما أخبر / المقتول بمن قتله مات، فأنكروا أنهم فعلوا بعد إخباره عنهم، فكذبوا ما رأوا. فذلك قساوة قلوبهم ".
قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
" أَوْ " [للتخيير أي: شبهوهم بقساوة] الحجارة / أو بأشد منها، لأنهم جحدوا بعدما عاينوا، فأنتم مخيّرون في تشبيههم.
وقيل: معنى {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، أي: هو أقسى من الحجارة لأن الحجارة ليس لها ثواب ولا عليها عقاب، وهي تخاف الله عز وجل.
روي أن عيسى ابن مريم مر بجبل فسمع منه أنيناً فقال: " يا رب ائذن لهذا الجبل حتى يكلمني ". فأذن الله للجبل فكلمه، فسأله عيسى [ صلى الله عليه وسلم] عن أنينه فقال: سمعت الله يقول: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] فخفت أن(1/313)
أكون من تلك الحجارة ".
وقيل: معناه: فقلوبهم مثل الحجارة أو أشد أي: منها ما هو مثل الحجارة، ومنها ما هو أشد كأنها لا تخرج من هذين القسمين.
وقيل: " أو " بمعنى الواو. وقيل: بمعنى: " بل ".
قوله: {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار}.
هو حجر موسى صلى الله عليه وسلم الذي [انفجرت منه] [اثنتا عشرة] عيناً.
قوله: {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله}.
هو الجبل الذي جعله الله دكاً إذ تجلى إليه، خرَّ لَهُ.
قوله: {لَمَا يَشَّقَّقُ}.
هو العيون التي تخرج من سائر الجبال.
قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}.
يعني ما أراهم من إحياء الميت ومن العصا والحجر والغمام والمن والسلوى(1/314)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
والبحر والطور وغير ذلك. فلم يكونوا قط أعمى قلوباً، ولا أشد قسوة وتكذيباً لنبيهم منهم في ذلك الوقت.
قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ}.
يخاطب المؤمنين بمحمد. والذين لا يؤمنون هم اليهود أعداء [الله. وهو استفهام فيه معنى الإنكار فأيأسهم من إيمان] اليهود ثم أخبر عن أسلافهم وما كانوا يفعلون كأنه يقول تعالى: إن كفر هؤلاء فلهم سابقة في ذلك؛ وهو أن فريقاً منهم كانوا {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} الآية. يريد به أسلافهم وما فعلوا على عهد موسى صلى الله عليه وسلم.
قال السدي: " هي التوراة حرفوها فيجعلون الحلال حراماً، والحرام حلالاً برشوة ".
وقال الربيع: " كانوا يسمعون من الوحي ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ".
وروى محمد بن إسحاق أنهم خرجوا مع موسى صلى الله عليه وسلم يسمعون كلام الله، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى صلى الله عليه وسلم بالسجود فسجدوا، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم وعقلوا ما سمعوا، فلما رجعوا حرف فريق منهم ما سمع ".(1/315)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: يعلمون أنهم مبطلون فيه تحريفه.
وقال مقاتل: " هم السبعون الذين اختارهم موسى صلى الله عليه وسلم.
/ قوله: {قالوا آمَنَّا}.
أي: بأن صاحبكم نبي إليكم خاصة.
وروي عن ابن عباس: " أي: إذا لقوا محمداً. قالوا: آمنا، وإذا خلوا كفروا، وهم المنافقون من اليهود ".
قوله: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ}.
كانوا يستفتحون بمحمد / صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا تقروا بأنه نبي، وقد كنتم تستفتحون به، أي: تنظرون إذ سألتم الله به نصركم على عدوكم فقد علمتم أنه نبي، فإذا أقررتم لهم بنبوته حاجوكم بذلك عند ربكم.
وقال أبو العالية: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} يعني ما أنزل عليكم في التوراة من ذكر(1/316)
محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: " بما مَنّ الله عليكم في التوراة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم بذلك ".
" وروي أن النبي [عليه السلام قال لهم: يا إخْوَةَ القِرَدَةِ] والخَنَازِيرِ، فقالوا: مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا مُحَمَّداً؟ مَا جَرَى هَذَا إلاّ مِنْكُمْ. أَفَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ؟ ".
وقال السدي: " كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين بما مر على أسلافهم من العذاب، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به. أي: يقولون لكم: نحن أحب إلى الله منكم وأكرم منكم؟ ".
وعن ابن زيد قال: " كانوا إذا قيل لهم: أتعلمون أن في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: نعم. فيقول لهم رؤساؤهم: لا تخبروهم بالذي أنزل عليكم، فيحاجوكم به عند(1/317)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
ربكم. وقال النبي [عليه السلام]: " لا يَدْخُلُ عَلَيْنَا قَصَبَةَ المَدينَةِ إِلاّ مُؤْمنٌ ". فقال رؤساؤهم: اذهبوا فقولوا: آمنا وادخلوا. فإذا رجعتم اكفروا، وهو قوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} [آل عمران: 72] الآية. فكانوا يؤمنون بالبكرة ويكفرون بالعشي ".
قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}.
أي: ومن هؤلاء أميون. فهم أبعد من الإيمان من غيرهم.
وقال ابن عباس: " هم قوم لم يصدقوا رسولاً ولا آمنوا بكتاب، فكتبوا كتاباً وقالوا للعوام: هذا من عند الله ".
وإنما سماهم أميين لجحودهم الكتاب إذ صاروا بمنزلة من لا يحسن شيئاً.(1/318)
وقيل: الأمي هنا الذي لا يكتب كأنه نسب إلى أمه كأنه على طبعها وجبلتها لا يحسن كما لا تحسن.
وقيل: / الأميون / في هذا الموضع نصارى العرب. قاله عكرمة والضحاك.
وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب أحدثوها فصاروا أميين [لا كتاب] لهم.
وهم المجوس فيما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وقيل: هم طائفة من اليهود.
/ قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب}.
أي: التوراة أي هم مثل البهائم.
قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ}.(1/319)
قال قتادة: " يتمنون على الله ما ليس لهم ".
وعن ابن عباس: " إلاَّ أمَانِيَّ: إلا أحاديث].
وقال مجاهد: " هم ناس كانوا لا يعلمون شيئاً، يقولون على التوراة ما ليس فيها، كأنهم يتمنون أن يكون ما قالوا فيها ". وقال ابن زيد: " يقولون نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم تمنياً " وقال الفراء وأبو عبيدة: [إلا أماني]: إلا تلاوة ". ومنه قوله: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى في تلاوته. فهم لا يعلمون منه إلا التلاوة ولا يفهمونه ولا يعملون به.
وقال جماعة: [إلاّ أمَانِيَّ]: إلاَّ كذباً ". ومنه قول عثمان رضي الله عنهـ: " ما تمنيت منذ أسلمت " أي: ما كذبت.(1/320)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}.
أي: يجحدون نبوتك، وما جئتم به ظناً لا يقيناً.
وقيل: معناه: لا يعلمون الكتاب إلا تخرصاً وإن هم إلا يشكون فيه.
قوله: {فَوَيْلٌ}.
قال سفيان وأبو عياض: " ويل ماء يسيل من صديد في أسفل جهنم ".
وروى عثمان بن عفان " عن النبي [عليه السلام أنه قال /: الوَيْلُ] جَبَلٌ في النَّار ".
وروى عنه عليه السلام أبو سعيد الخدري أنه قال: " ويلٌ وَاد في جهنَّمَ يَهْوِي فِيهِ(1/321)
الكَافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ ".
ومعنى " ويل " عند أهل اللغة: قبوح. وويح ترحم، وويس تصغير.
وهذه مصادر لا أفعال لها. والاختيار فيها الرفع على كل حال بالابتداء. ويجوز فيها النصب على معنى: ألزمه الله ويلاً. فإن كانت مضافة [حسن فيها] النصب، قال الله تعالى: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ} [طه: 61].
فأما ما كان من المصادر جارياً على الفعل، فالاختيار / فيه الرفع إذا كان معرفة على الابتداء نحو: الحمد. ويجوز النصب على المصدر. فإن كان نكرة، فالاختيار في النصب على المصدر ويجوز الرفع على الابتداء، أو على معنى ثبت ذلك له. فإن كان مضافاً لم يجز إلا النصب كالأول.
قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ}.
هم اليهود الذين غيروا التوراة وبدلوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم فيها وصفته لئلا يؤمن به(1/322)
العوام، وأخذوا على ذلك الرشا. وقيل: هم قوم من اليهود كتبوا كتباً من عند أنفسهم وقالوا: هذا من عند الله ليعطوا عليها الأجر.
وقال ابن عباس: " بل فعل ذلك قوم أميون لم يصدقوا رسولاً، ولا آمنوا بكتاب فكتبوا بأيديهم للجهال كتاباً ليشتروا به ثمناً قليلاً ".
قال ابن اسحاق: " كانت صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة أسمر ربعة فبدلوا وكتبوا آدم طويلاً ".
/ وقوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ}.
تأكيد ليعلم أنهم تولوا ذلك بأيديهم ولم يأمروا به غيرهم. ففي الإتيان بلفظ " الأيدي " زوال الاحتمال، إذ لو قال: " يكتبون الكتاب " لجاز أن يأمروا بكتابته وأن يتولوا ذلك بأنفسهم لأن العرب تقول: " كَتَبْتُ إلى فلان "، وإنما أمر من كتبه له " وكتب السلطانُ كتاباً إلى عامله " ولم يكتبه بيده، وإنما أمر من كتبه له.(1/323)
ففي ذكر " الأيدي رفع الاحتمال وبيان أنهم تولوا ذلك بأيديهم عن تعمد منهم.
وقال ابن عباس: " هذا، كما تقول: حملتُ إلى بلد كذا قمحاً، وإنما أمرت من حمله ".
وقال تعالى في التابوت: {تَحْمِلُهُ الملائكة} [البقرة: 248] وإنما حمل بأمر الملائكة، ولم تحمله الملائكة [بأنفسها ولا ظهرت] للقوم في ذلك الوقت. ومن هذا قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167]. إنما أكد بذكر الأفواه لأن القول قد يترجم به عن الإشارة وعن الكتاب. تقول العرب: " قال الأمير كذا " للفظ سمعه من كتاب أمر بكتابته الأمير. وقريب منه قوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} [الصافات: 93] لأن اليمين تدل في كلام العرب على الشدة والقوة والبطش، فدل بذكر اليمين على شدة الضرب. ولو لم يذكر اليمين لجاز أن يكون ضرباً شديداً أو غير شديد فذكر اليمين يرفع الاحتمال ويدل على الشدة.(1/324)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
ومن ذلك قوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ومنه: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46].
وقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.
أي قالوا: " لن نعذب إلا الأربعين ليلة التي عبدنا فيها العجل ثم لا نعذب ". قاله قتادة.
وقال السدي: " قالوا: نمكث في النار أربعين ليلة حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقينا، نادى / مناد: أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، ولذلك أمرنا أن نختتن ".
وقال أبو العالية: " قالت اليهود: أقسم ربنا ليعذبنا أربعين ليلة ثم يخرجنا، فأكذبهم الله ".
وقال ابن عباس: " قالت اليهود: وجدنا في التوراة أن ما بين طرفي جهنم مسيرة(1/325)
أربعين سنة إلى أن ينتهوا / إلى شجرة الزقوم، فإنما نعذب حتى ننتهي إليها ".
وروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس " أن اليهود قالت: إنما عُمْر الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس يوم القيامة سبعة أيام، لكل ألف سنة يوم ". ولم يُحَدِّدْ / الله تعالى الأيام لأنها عندهم معلومة على قولهم، فترك ذكر عددها وبيانه لما تقدم عندهم.
قوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً}.
أي: هل تقدم لكم عند الله ميثاق وعهد / بهذا التحديد الذي قد حددتم، فإن الله لا يخلف وعده، فأتوا بما تدعون، أم قلتم ما قلتم تخرصاً وكذباً. هذا تأويل أكثر الناس.
وروى الضحاك عن ابن عباس: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً}. أي: هل قلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا ولم تبدلوا ولم تغيروا، فيكون ذلك ذخراً لكم عند(1/326)
الله ولا يخلف الله وعده لمن يفعل ذلك. أو قلتم ذلك تخرصاً وإفكاً، ولم يتقدم لكم إيمان تدخرونه عند الله فيوفي لكم به ".
وروى ابن أبي فروة " أن النبي [ صلى الله عليه وسلم] قال [لناس من اليهود]: مَن أصْحَابُ النَّارِ غَداً؟ قالوا: نَحْنُ، سَبْعَةُ أيَّامٍ، ثُمَّ تَخْلِفُونَنَا فِيهَا، فَنَزَلَ: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} إلى {خَالِدُونَ} "، من حديث ابن وهب.
وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ}.
وزنه " افتعلتم " فيجوز / أن يكون من " تخذ يتخذ "، ويجوز أن يكون من "(1/327)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
أخذ "، وأصله " ايتخذتم " ثم أبدل من الياء تاء وأدغمت في الأخرى، وإنما فعل ذلك لاستثقال الياء بعد كسرة الهمزة.
وقيل: فعل ذلك لما يلزم من تغيير الياء وكونها ألفاً في المستقبل في " يأتخذ " وكونها واواً في المفتعل تقول: " موتخذ " فأبدلوا من الياء حرفاً جلداً لا يتغير في جميع الأحوال، وكانت التاء أولى بذلك، لأنها قد تبدل من الواو، فالواو أخت التاء.
وقيل: كانت أولى لأن بعدها تاء فأبدلت للتجانس وليصح الإدغام، والمدغم أخف من المظهر.
قوله: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} الآية.
أي: من عمل بمثل ما عملتم، وكفر بمثل ما كفرتم وقال ما قلتم، {فأولئك أَصْحَابُ النار} قاله ابن عباس.
وقال مجاهد وقتادة: " السيئة هنا الشرك ". وهو قول ابن جريج وعطاء(1/328)
والربيع.
وقد قال الله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90]. وهي الشرك بلا اختلاف في ذلك.
وقال الربيع بن خثيم: (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ): مات على كفره ".
وعنه: " مات على معصيته ".
وقال السدي: " هي الذنوب ". أي الكبائر.
والأول أولى لأن الله لم يتوعد في النار بالتخليد إلا أهل الشرك.
وقال النبي [عليه السلام]: " أهْلُ الإيمَانِ لاَ يُخَلَّدُونَ في النَّارِ، وَيُخَلَّدُ الكُفَّارُ ".
و" خَطِيئاتُهُ ": الذنوب، أي مات ولم يتب منها ولا أسلم.(1/329)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
وقال ابن عباس: " أحاطت الخطيئة هو أن يحبط ما له من حسنة بكفره ".
وقال قتادة: " الخطيئة هنا الكبيرة الموجبة للنار ".
وقال عطاء: " الخطيئة الشرك ".
وهذا القول يدل على أن السيئة الذنوب، فيصح أن يتوعد الله مَن أذنب الكبائر أو الصغائر ثم أضاف إلى ذلك الشركِ /، وهي الخطيئة بالتخليد في النار. ومن قرأ {خطيائته} بالجمع فهي الكبائر بلا اختلاف، والسيئة الشرك. وهذا الخطاب لليهود / مرتبط بما قبله.
قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
أي: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعملوا بما جاء به، فهي عامة في جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله ابن عباس وغيره.
وقال ابن زيد: هي خاصة في محمد عليه السلام وأصحابه.(1/330)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}.
مَن قرأه بالضم، فمعناه عند الزجاج قولاً ذا حسن.
وقال الأخفش: " الضم والفتح بمعنى واحد بمنزلة البُخْلُ والبَخَلُ والسُّقْمُ والسَّقَمُ ".
وقيل: إن مَن قرأ بالفتح فهو نعت لمصدر محذوف. واستقبح المبرد: " مَرَرْتُ بِحَسَنٍ " على إقامة الصفة مقام الموصوف. وقد جاء هذا في القرآن بإجماع، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} [فصلت: 10]، ولم يقل جِبَالاً رَوَاسِيَ. وقال {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11]، ولم يقل: " دُرُوعاً سَابِغاتٍ ".
واختار بعض المتعقبين الضم لأن " الحُسْنَ " الاسم الذي يحوي ما تحته ويعمه، و " الحَسَنُ " إنما هو الشيء الحَسَنُ لا يعم غير ما هو نعت له، والعموم أكمل في المعنى هنا، لأنها وصية بالخير. فَفِعلُه كله، والأمر به أولى مِن فِعل بعضه،(1/331)
والأمر ببعضه دون بعض.
وحكى / الأخفش: " حُسْنَى "، بغير تنوين. وهو لحن لا يجوز لأنه لا يقال إلا بالألف واللام.
وقوله: {وبالوالدين}.
معطوف على المعنى لأن المعنى: " بأن لا تعبدون " ثم حذفت " أن " مع الحرف، ودل على ذلك إعادة الباء فيما بعده. وهذا الميثاق هو الذي أخذ عليهم إذ أخرجهم كالذر.
واليُتْم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم، قاله الأصمعي.
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ}: معطوف على المعنى في {لاَ تَعْبُدُونَ}، فلذلك أتى بلفظ الأمر لأن صدر الكلام مبني على النهي.
ومعنى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}: " مروهم بقول لا إله إلا الله ". رواه الضحاك عن ابن عباس.(1/332)
وقال ابن جريج: " معناه: قولوا صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال سفيان الثوري: " مرورهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ".
وقال قتادة وغيره: " قولوا لهم حسناً من القول ".
وقال أبو عبيدة: " قولوا حسناً من القول للمسلم والكافر ".
وقال قتادة: " هي منسوخة بآية السيف ".
ولا يجوز أن تكون منسوخة إلا على قول مَن قال: إن المعنى: قولوا للجميع حُسْناً من القول. وباقي الأقوال لا يمكن أن تكون فيه منسوخة لأن الأمر بالمعروف لا ينسخ /، والأمر بإظهار / الصدق في النبي عليه السلام لا ينسخ.
قوله: {وَآتُواْ الزكاة}.
هي زكاة كانت عليهم تأكلها نار من السماءِ ومن لم تأكل النار زكاته فهو غير مقبول.
قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ}.(1/333)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
قال ابن عباس: " أعرضوا عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الفروض إلا قليلاً منهم ". وهو خطاب لمن بحضرة رسول الله [عليه السلام].
وقيل: هو إخبار عن أسلافهم، فمعناه: ثم تولى أسلافكم إلا قليلاً منهم، وأنتم الآن معرضون خطاب لمن بالحضرة أي: وأنتم مثل أولئك الذين تولوا من أسلافكم. ودل على هذا التاويل ما بعده من ذكر سفك الدماء أنه إخبار عن أسلافهم ومخاطبة لمن بالحضرة، ولم يسفك من بالحضرة الدماء، ولا أخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، إنما ذلك فعل أسلافهم، فكون الكلام كله على سياق واحد أولى وأحسن.
ومعنى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} / الآية أي يقتل بعضكم بعضاً، ويخرج بعضكم بعضاً.
{مِّن دِيَارِهِمْ} يريد به أسلافهم.
وقيل: المعنى: لا تقتلوا فيجب عليكم القصاص فتُقتلوا فتكونوا سبباً لقتل أنفسكم. ولا تفسدوا فيجب عليكم النفي فتكونوا سبباً لإخراجكم من دياركم.
قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}.
أي: اعترفتم أن هذا قد أخذ عليكم.
ومعناه: أقَرَّ أوائلُكم بذلك. وأنتم يا هؤلاء تشهدون على إقرارهم لأن في(1/334)
[كتابكم أخذي للميثاق] عليهم فأنتم شهود.
وقيل: الخطاب من أوله لهم وهم المقرون، وذلك من بالحضرة من اليهود.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}.
لأوائلهم، وأوائلكم يشهدون بأخذي للميثاق عليهم ودل على ذلك قوله {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء}، فَوَبَّخَ من بالحضرة، وأشار إليهم بهاء التشبيه بعد أن مضى ذكر أسلافهم، ورجع إلى ذكرهم. ومخاطبتهم بقوله لهم: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} هو أنهم كانوا قد افترقوا فرقتين: فرقة مع الأوس وفرقة مع الخَزْرَجِ. فإذا جرى بين الأوس والخزرج قِتَال أعانت كل فرقة منهم أصحابهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويجلي بعضهم بعضاً في الحمية وهم في أيديهم التوراة يعرفون ما عليهم، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك لا كتاب لهم يعبدون الأوثان، فإذا وضعت الحرب فَدَوْا أسراهم تصديقاً لما(1/335)
في التوراة، كل ذلك مظاهرة لأهل الشرك، فذلك قوله:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، يستحلون دماء بعضهم بعضاً، فذلك كفرهم. ويتحَرجون أن يبقى الأسرى في أيديهم فيتفادوا؛ فذلك البعض الذي يؤمنون به، وكان فرض عليهم أن لا يستعبدوا أحداً من بني إسرائيل / وفرض عليهم ألا يقتلوا أحداً، ولا يخرجوا أحداً من ديارهم، فحللوا القتل والإخراج، ولم يحلوا ترك الفداء والإخراج من الديار، ويؤمنون بالفداء وترك الاستعباد. يعني بذلك كله بني [قينقاع وأعدائهم قريظة وبني] النضير وكانت الخزرج حلفاء بني قينقاع، والأوس حلفاء قريظة والنضير. وكان بين الأوس والخزرج عداوات وحروب، وهم مشركون، وبين بني قينقاع وقريظة والنضير عداوات وحروب، فيعاون كل قوم حلفاءهم إذا تحاربوا.
قوله: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى}.
في موضع الحال، والأكثر أن يكون على " أَسْرى " كقراءة حمزة، كقتيل(1/336)
وقتلى، وجريح وجرحى.
ومن قال: {أسارى} شبهه بـ " سكارى "، كما قالوا " سكرى " على التشبيه " بأسرى "، فكل واحد مشبه بالآخر في بابه، ولم يُجِز أبو حاتم " أسارى ".
وإنما يقال " فَعْلاَن " فيما كان آفة تدخل على العقل كما قال سيبويه.
والفتح في " سُكَارَى " الأصل، والضم داخل عليه كأنه لغة، ويقال أُسَرَاءُ كَظُرفَاءَ. وَفَرَّقَ أبو عمرو / بين أَسْرَى وأُسَارَى:
فقال: " ما صار في أيديهم فهو أسارى كأنه آفة دخلت عليهم " كسَكْرَانَ "، وما أتى مستأسراً فهم الأسرى.
وواحد " الأسرى " و " الأسارى " أسير؛ بمعنى مأسور، كجريح وقتيل. / قوله: {مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ}.
هو راجع إلى الإخراج، دل عليه: " تَخْرُجونَ ".(1/337)
وقيل: هو مجهول كناية عن الأمر أو الشأن.
وقال بعض الكوفيين: " هو فاصلة "، وذلك لا يجوز لأن حذفها يخل بالكلام، والفاصلة يجوز / حذفها.
قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}.
كفرهم هو قتل بعضهم بعضاً ومعاونة الأوس والخزرج لهم، وهم يعلمون أن ذلك محرم عليهم. وإيمانهم هو أنهم افترض عليهم ألا يستعبدوا أحداً من بني إسرائيل وأن يفدوهم. وكانوا إذا فرغوا من الحرب فدوا من أسر منهم بعضهم [من بعض].
قوله: {إِلاَّ خِزْيٌ}.
هو أخذ الجزية عن يد.
وقيل: هو أخذ القاتل بمن قتل.(1/338)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
وقيل: هو إجلاء رسول الله [عليه السلام] بني النضير عن ديارهم لأول الحشر إلى الشام.
وقيل: هو قتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم.
وأصل الخزي الذل والصغار.
وروي أن بني قينقاع من اليهود كانوا أعداء قريظة والنضير من اليهود، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء قريظة والنضير. وقريظة / والنضير كانا أخوين من أهل الكتاب، والأوس والخزرج أخوان افترقا، وافترق أيضاً قريظة والنضير. فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس، فإذا اقتتل الأوس والخزرج [أعانت النضير الخزرج / وقريظة الأوس]، فقتل بعضهم بعضاً فعيرهم الله بذلك.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب}.
لام (لَقَدْ) حيث وقعت لام تأكيد، وقد تقع جواباً للقسم، وعيسى لا(1/339)
ينصرف لأنه أعجمي معرفة.
وقيل: هو عربي من " عَاسَهُ يَعُوسُهُ " إذا ساسه وقام عليه ولا ينصرف على هذا للتعريف والتأنيث.
(القُدُسُ) أصله الطهر. وفيه لغة نادرة وهي فتح القاف والدال. والكتاب هو التوراة.
{وَقَفَّيْنَا}: أردفنا وأتبعنا بعضهم بعضاً على منهاج واحد، وشريعة واحدة، لأن كل من بعث بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى صلى الله عليه وسلم فإنما يأمر بني إسرائل بلزوم التوراة والعمل بما فيها، فلذلك قال: {مِن بَعْدِهِ بالرسل}. أي: على منهاجه وطريقته.
ثم قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات}.
ابتداء كلام آخر.
وأصل " قَفَوْت " من القَفَا " يقال: " قَفَوْتُ فُلاناً " إذا صرت خلف قفاه. " ودَبَرْتُهُ " إذا صرت خلف دبره.
والبينات التي أوتيها عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه وخلق(1/340)
الطير. وغيره من الحجج والبينات.
{وَأَيَّدْنَاهُ}: قويناه وأعناه ونصرناه [والأيد والأد] القوة.
وقرأ ابن محيصن: " وأيدناه " بالمد.
و" روح القدس ": جبريل. قاله قتادة والسدي والضحاك والربيع بن أنس. وروي ذلك عن النبي [عليه السلام]. وقاله ابن عباس.
وقال ابن زيد: " هو الإنجيل سمي روحاً كما سمي القرآن روحاً، فقال تعالى: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
ويرد هذا القولَ قولُه تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} [المائدة: 110]، ثم قال تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} {المائدة: 110]. فدل هذا [على] أن روح القدس غير الإنجيل /. فإن حُمل على أنه أعيد للتأكيد كما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقال:(1/341)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98]، فهو وجه.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: " روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى صلى الله عليه وسلم الموتى ".
وقال مجاهد: " القدس: الله جل ذكره، وسمي جبريل روحاً لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة كما سمي عيسى صلى الله عليه وسلم / روحاً، فقال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171].
وقال السدي: " القدس هنا البركة ".
وقال الربيع: القدس هو الله، ويدل عليه قوله: {الملك القدوس} [الحشر: 23]. والقدوس والقدس واحد ". ورواه ابن وهب عن مجاهد أيضاً.
قوله: {أَفَكُلَّمَا}.
معناه: التقرير والخبر، ولفظه لفظ الاستفهام.
قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.(1/342)
هو جمع أغلف كأنها في غلاف وغطاء. يقال: " سيف أغْلَفُ إذا كان في غلافه ".
وقال قتادة: " معناه قلوبنا لا تفقه ".
وقال ابن عباس وغيره: " معناه: قلوبنا في غطاء وغلاف فليس نفهم ما تقول كما قال: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا} [فصلت: 5].
ويجوز أن يكون " غُلْفٌ " جمع " غلاف "، لكن أسكن تخفيفاً. ومعناه: قلوبنا أوعية للعلم لا تحتاج إلى / علم محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذلك قراءة من قرأ بِضَمِّ اللام، وهي قراءة الأعرجِ / وابن محيصن ورويت عن أبي عمرو وابن عباس.
قوله: {بَل لَّعَنَهُمُ الله}.
أي أبعدهم الله وطردهم وأخزاهم. وأصل اللعن الطرد والإبعاد والإقصاء.(1/343)
{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} نصبه على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف محذوف.
وقيل: هو منصوب بـ " يؤمِنُونَ "، و " ما " زائدة.
ومعناه أنهم يقرون بالله ويوحدونه، ويكفرون بالنبي [عليه السلام] كما قال {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم يؤمنوا البتة، تقول العرب " قَلّ الشَّيء " إذا لم يوجد.
ويُقال: " قَلَّما رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا " أي: ما رأيت مثله.
وحكى الكسائي عن العرب: " مَرَرْتُ بِبِلاَدٍ قَلَّ مَا تُنْبِتُ إلاَّ الكُرَّاثَ والبَصَلَ " أي: ما تنبت سواهما.
وحكى سيبويه: " قلّ رجلٌ يقُولُ ذَلكَ إلاّ زَيْداً ".
وقال أهل التفسير: " معناه: فقليلاً منهم من يؤمن، لأن الذين آمنوا من(1/344)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
المشركين أكثر كثيراً ممن آمن من اليهود ". وهذا مروي عن قتادة ويلزم منه رفع " قليل ".
وقيل: المعنى: ليس يؤمنون مما في أيديهم إلا بقليل ".
والاختيار عند أكثرهم قول من قال: " إنهم قليلوا الإيمان بما أنزل على النبي [عليه السلام].
قوله: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله} الآية.
جواب " لما " محذوف، كأنه قال: كفروا، أو نحوه، كما قال: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ} [الإسراء: 7]. أي: خليناكم وإياهم، فحذف، ومثله قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} [يس: 45] أي: أعرضوا، ثم حذف جميعه لعلم السامع، وهو كثير في القرآن.
والكتاب هنا؛ القرآن، أي: يصدق التوراة والإنجيل.(1/345)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
قوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} الآية.
قال ابن عباس: " كانت العرب في الجاهلية يمرون على اليهود / فيؤذونهم، واليهود يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فيسألون الله أن يعجل ببعثه فينصروا به على العرب لِما وصل إليهم من أذى العرب /. فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قد عرفوه وسألوا الله في بعثه كفروا به ".
وقال مجاهد: " كانوا يقولون: " اللهم ابعث لنا هذا النبي يفصل بيننا وبين الناس، فلما بعث كفروا به ".
وقيل: إنهم كانوا يرغبون إلى الله في النصر عند حروبهم / بمحمد [عليه السلام] ويستشفعون به فينصرون فلما جاءهم بنفسه كفروا به حسداً وبغياً وهم يعلمون أنه رسول. وبمثل هذا القول قال السدي وعطاء وأبو العالية.
وهذا من أدل ما يكون [على أنهم جحدوا نبوة] محمد صلى الله عليه وسلم على علم به وصحة أنه نبي مبعوث إلى الخلق حسداً وبغياً.
قوله: {بِئْسَمَا اشتروا}.(1/346)
أي: باعوا أنفسهم بالكفر من أجل ما أنزل الله على عبده محمد [صلى الله عليه سلم] حسداً وبغياً إذ لم يكن من بني إسرائيل.
والعرب تقول: " شَرَيْتُ " و " اشْتَرَيْتُ " بمعنى بعت. والأكثر " شريت " بمعنى " بعت "، و " اشتريت " بمعنى " ابتعت ". وربما استعمل كل واحد في موضع صاحبه.
قوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ}.
أي: لجحودهم بما قد تيقنوا أمره، وعلموا صحة نبوته فحسدوه وبغوه إذ لم يكن من ولد إسرائيل، وكان من ولد إسماعيل.
{على غَضَبٍ} متقدم، وهو بعبادتهم العجل [وكفرهم بعيسى عليه السلام].
وقال ابن عباس: " الغضب الأول [لتضييعهم لما] في التوراة، والثاني بجحودهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ".(1/347)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وقال عكرمة: " الأول بكفرهم بعيسى، والثاني بكفرهم بمحمد [ صلى الله عليه وسلم] ".
وقال مجاهد: " الأول بكفرهم بعيسى [ صلى الله عليه وسلم] والإنجيل. والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ".
قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
أي وللجاحدين بمحمد صلى الله عليه وسلم عذاب مهين. وسُمي مهيناً لأنه يذل الكافر فلا يخرج من ذلته أبداً.
فأما العذاب الذي يعذب به أهل الكبائر فليس بمهين لأنه يتخلص منه برحمة الله وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ووصف الله العذاب بالمهين يدل على أن ثم عذاباً غير مهين، وهو ما ذكرنا.
قوله: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ}.(1/348)
معناه أنهم إذا قيل / لهم: آمنوا بالقرآن، قالوا: نؤمن بالتوراة، ويكفرون بغيرها من جميع الكتب.
[" ووراء " هنا بمعنى: " سِوَى "]. وقيل: هي بمعنى " بعد ".
{وَهُوَ الحق}. أي والذي بعد التوراة الحق مصدقاً للتوراة، وهو القرآن [لأن] كُتُب الله يصدق بعضها بعضاً، وفي كل واحد منها الأمر / بالتصديق بغيره من الكتب.
قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله}.
أي: إن كنتم تؤمنون بالتوراة كما زعمتم، فَلِمَ قتلتم الأنبياء؟.
قال كعب: " كانت بنو إسرائيل يقتلون سبعين نبياً في يومهم، وتقوم(1/349)
سوق بقلهم في آخر النهار ".
فقال: فلم تقتلون أنبياء الله، وهو محرم عليكم في التوراة إن كنتم في / ادعائكم أنكم تؤمنون بالتوراة صادقين.
والمراد بهذا آباؤهم، كل ذلك تكذيب لهم وتعيير.
" وتَقْتُلُونَ " بمعنى " قتلتم "، أي: فلم قتل أسلافكم ودل على ذلك قوله: {مِن قَبْلُ} [البقرة: 25].
وقال في موضع آخر: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ / إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183]. فأتى بلفظ الماضي على معنى: فلم قتلتم أسلافكم إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله كما زعمتم.
وقيل: إنَّ " إنْ " بمعنى " ما " والمعنى ما كنتم مؤمنين إذ فعلكم هذا ورضاكم به مُتماد. وإنما جاز أن يخاطبوا بذلك وهم لم يفعلوا لأنهم(1/350)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
مقيمون على ما كان عليه أسلافهم من سفك الدماء وتغيير التوراة، فخوطبوا بما يخاطب به الفاعل لأنهم مثلهم وإن لم يفعلوا، إذ كان اعتقادهم لا يختلف فهم مشاركون لهم في الفعل راضون بما صنع أسلافهم. فألزموا ما لزم أسلافهم من التقريع والمخاطبة.
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات} أي بالآيات الواضحات.
{ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ} أي إلها.
والهاء في {مِن بَعْدِهِ} تعود على موسى صلى الله عليه وسلم. وقيل على المجيء.
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} الآية.
أخذ الله ميثاق بني إسرائيل بأن يعملوا بما في التوراة بقوة أي: بجد وعزم ونشاط وكان ذلك إذ رفع فوقهم الطور.(1/351)
قوله {واسمعوا}: أي: استمعوا ما أمرتم به، وتقبلوه بالطاعة.
{قَالُواْ سَمِعْنَا}: أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك.
وخرج في هذا من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة كما قال: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]. وقد يخرج من الغيبة إلى الخطاب كما قال تعالى: {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 2]، ثم قال بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5].
قوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ}. أي: حب العجل من أجل كفرهم.
وقيل: المعنى إنهم سقوا من الماء الذي ذري فيه براية العجل.
وقال السدي: " إنهم شربوا من الماء الذي ذري فيه سحالة العجل بأمر موسى صلى الله عليه وسلم / لهم. فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك قوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل}.
وأولى هذه الأقوال قول من قال: حب العجل. لأن الماء لا يقال فيه: أشربته بمعنى " سقيته ".
وروي أنهم قالوا لموسى صلى الله عليه وسلم: " إن عبادة العجل أسهل علينا من عبادة الرحمن، لأن العجل إن عصيناه لم يعذبنا، والرحمن إن عصيناه / عذبنا ". فأنزل الله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}.(1/352)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
قوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}.
معناه أي: قل يا محمد: بئس الإيمان إيمان يأمركم بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة تنهى عن الجحود بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتنهى عن القتل وعن تبديل ما أنزل الله وأنتم على ذلك مصرون.
{إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}: أي: في قولكم إن كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم.
وقيل: معناه: ما كنتم مؤمنين.
قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت}.
معناه: إن كانت لكم الجنة على قولكم وأنتم إليها صائرون، فتمنوا الموت فإن ذلك لا يضركم. ففضحهم الله تعالى في كذبهم ودعواهم، وَعَلِم الناس أن تأخرهم عن التمني يدل على كذبهم، وكذلك امتنع النصارى إذ دعاهم النبي [عليه السلام] إلى المباهلة في عيسى صلى الله عليه وسلم فافتضحوا، وعلم أنهم كاذبون في دعواهم.(1/353)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
قال النبي [عليه السلام] " لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا وَلَرَأَوْأ مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ لَرَجَعُوا / لاَ يَجِدُونَ أهْلاً وَلا مَالاً "، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما دعوا إلى تمني الموت لأنهم كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. ويقولون: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111]. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم صادقين / فيما تقولون، فتمنوا الموت فلم يفعلوا فَبَانَ كذبهم.
قال ابن عباس: " [قيل لهم]: ادعوا بالموت على أي: الفريقين أكذب فأبوا ".
وقوله: {مِّن دُونِ الناس}.
أي: من دون جميع الناس. وقيل: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً}.
أي: لا يتمنونه لما يعلمون من ظلمهم وكذبهم وإنكارهم [لنبوة محمد] عليه السلام.(1/354)
وهو عندهم في التوراة [فلو يتمنوا الموت] لهلكوا، فهم لا يفعلون ذلك أبداً.
قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}.
أي: من تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم [ وتبديلهم للتوراة وعبادتهم للعجل] وغير ذلك مما سلف لهم، فأضيفت الجناية إلى اليد، وإن كانت تكون بغير اليد من لسان واعتقاد لأن معظم الجنايات باليد تكون، فجرت الإضافة في كلام العرب إلى اليد في جميع ذلك من أجل أن بها يكون أعظم الجنايات.
قوله: {عَلِيمٌ بالظالمين}.
أي: عليم بمجازاتهم / على ما فعلوا.
تم الجزء [الثاني](1/355)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ}.
أي لتعلمنّهم يا محمد حريصين على الحياة لما يعلمون ما لهم في الآخرة من الخزي، لأنهم يعلمون أنك نبي ويجحدون ذلك.
قوله: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} الآية.
أي: وأحرص من الذين / أشركوا وهم المجوس.
وقيل: هم قوم يعبدون النور والظلمة.
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}: إخبار عن أحد الذين أشركوا لو يعمّر ألف سنة، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تَحِيَّتَهُمْ: " عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ "، حرصاً على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون أن لهم الجنة خالصة، هم أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء الذين أدّاهم [حرصهم على الحياة أن جعلوا تحيتهم]: عِشْ ألف سنة " وذلك لما قد علموا من سوء ما قدموا لأنفسهم.
وقيل: " إن [معنى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}: أي: أحد اليهود] الذين قيل لهم تمنوا الموت.(1/356)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
والأول أشبه بالآية.
قال قتادة: " حببت إليهم الخطيئة طول العمر ".
قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} الآية.
أي: وما أحدهم بمباعده. ومنجيه من العذاب التعمير.
وقيل: المعنى وما التعمير بمباعده من العذاب (وَأَنْ يُعَمَّرَ)، بدل من التعمير.
وقيل: " التقدير: وما الحديث، أو ما الأمر بمزحزحه من العذاب أن يعمر ". وهو مذهب الكوفيين من النحويين. ولا يجيزه البصريون، لأن الباء لا تدخل على الجملة التي تفسر المجهول وهو الأمر أو الحديث أو الخبر ونحوه.
قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} الآية.
قال ابن عباس: " جبرائيل وميكائيل مثل عبد الله وعبد الرحمان ".(1/357)
قال عكرمة: " جبر " و " ميك " و " إسراف " [عبد و " إيل ": الله عز وجل] .
ومعنى الآية فيما قال ابن عباس: " إن عصابة من اليهود سألوا النبي [عليه السلام] عن مسائل، منها أن قالوا: أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه، وعن ماء الرجل وماء المرأة، وعن الذكر والأنثى، وقالوا أخبرنا من هذا النبي الأمي في التوراة؟ ومن وليُّه من الملائكة؟ فأخذ [عليهم النبي عليه السلام عهوداً] أنهم يؤمنون إن أخبرهم وناشدهم الله على ذلك فأخبرهم أن إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً فَنَذَرَ إِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحُومَ الإِبِلِ، وأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمّ اشْهَدْ، ثُمَّ نَاشَدَهُمْ اللهَ وَقالَ: " هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُل أَبْيَضٌ غَلِيظٌ، وَمَاءُ المَرْأَةِ أَصْفَرٌ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ / الله عز وجل، وَإذَا عَلاَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ / الوَلَدُ ذَكَراً، وَإِِنْ عَلاَ مَاءُ المَرْأَةِ / كَانَ أُنْثَى؟ قَالُوا: اللُّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ نَاشَدَهُمْ اللهَ، وَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ [هَذَا النَّبِيَّ الأُمِّيَّ(1/358)
تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ؟] قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ: [قَالُوا: وَأَنْتَ] الآنَ، فَحَدِثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ وَنُجَامِعُكَ. / فَقَالَ: إِنَّ وَليِّي جِبْرِيل وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيّاً قَطْ إِلاَّ وَهُوَ وَلِيُّهُ. قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ؛ لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ تَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} إلى {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ".
وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب جرت بينه وبين اليهود مناظرة طويلة، فأقسم عليهم: هل تعلمون أن محمداً نبي فأقروا به. فقال: ولمَ أهلكتم أنفسكم، وأنتم تعلمون أنه نبي؟ فقالوا: إنه قَرَن بنبوته عدونا من الملائكة وهو(1/359)
جبريل، ولو قرن بها ميكائيل لآمنا به. فسألهم عمر عن هذه العدواة فقالوا: إن جبريل ينزل بالعذاب والسخط والشدائد والغلظة، وإن ميكائيل ينزل بالرأفة والرحمة والتخفيف. فقال لهم عمر: وما منزلتهما عند الله؟ قالوا: أحدهما على يمينه، والآخر على يساره. فقال عمر: فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما - والذي بينهما - لَعَدُوٌّ لمن عاداهما، وسِلْمٌ لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل. ثم انصرف [عمر عنهم، فوجد النبي [عليه السلام] خارجاً من خوخة [لبني فلان، فقال لعمر]: ألا أقرئك آيات نزلت قبل؟ فقرأ عليه: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} إلى {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
فقال عمر: وَالذي بعثك بالحق، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، فأسمع اللطيف الخبير سبقني إليك بالخبر ".(1/360)
وروي عن عمر هذه القصة بغير هذه الألفاظ إلا أن المعنى يؤول إلى شيء واحد.
ومعنى ما في هذا الحديث من ذكر اليمين واليسار، إنما يراد به القرب في المنزلة من الله عز وجل على التمثيل فلا يحل لأحد أن يتمثل في هذا، وفيما شابهه جارحة إذ ليس كمثله شيء.
قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} الآية.
أي: نزل الفرقان من عند الله على قلب محمد، ولو قال قلبي لكان جيداً، والعرب / تقول: " قل يا زيد للقوم عندي الخبر " " وقل لهم عندك الخبر ". كل ذلك حسن جيد. ولا يقرأ إلا بما في المصحف.(1/361)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما سلف من الكتب والرسل.
ثم قال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته} الآية.
روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: " لقي يهودياً عمر رضي الله عنهـ فقال له اليهودي: إن الذي يذكره صاحبك هو عدو لنا. فقال له عمر: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} الآية، قال: ونزلت على لسان عمر. وكُرّر ذكر جبريل وميكائيل على معنى التأكيد.
وقيل: لمعنى التفضيل والتخصيص.
وقيل: كرر لأن من أجلهما نزلت الآيات، فكرر ذكرهما للإفهام، ولئلا يقولوا: إنهما غير داخلين في الملائكة المذكورين.
وكرر إظهار اسم " الله " لما في الإضمار من الاحتمال إذ لو قال: (فإنه عدوٌ للكافرين) لجاز لكافر أن يقول: إن المعنى الذي يعادي هؤلاء عدو(1/362)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
للكافرين / فينقلب المعنى. ويجوز أن يُقال: إن الهاء تعود على أحد المذكورين جبريل أو ميكائيل فيشكل ذلك وظهر الاسم لارتفاع الاحتمال.
وميكائل بالسريانية، وهو بالعربية عبيد الله، وإسرافيل بالسريانية واسمه بالعربية عبد الرحمن، وجبريل بالسريانية واسمه بالعربية عبد الله. هكذا وقع في كثير من التفاسير، والله أعلم بذلك.
قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}.
روي عن ابن عباس " ان رجلاً من اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله عز وجل: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: علامات واضحات، {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون}.(1/363)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
ثم قال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً} الآية.
عهدهم هاهنا ما عقدوا على أنفسهم من اتباع التوراة، والعمل بما فيها، وإظهار أمر محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به. ثم نقض ذلك فريق منهم، وهم الأكثر بدلالة قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
وفي قراءة عبد الله: " نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ".
قوله: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله} الآية.
معناه: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة / وتصدقه.
{نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله}.
نبذوا التوراة إذ جحدوا ما فيها من صفة النبي والأمر باتباعه، لأن من جحد آية من كتاب الله فقد جحد الجميع.
وقيل: إنهم نبذوه مرة واحدة، واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر.
{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
أي: لا يعلمون أنه نبي صادق في قوله، فهم / يعلمون ذلك، ولكنهم جحدوا به عن علم وكفروا بذلك عن قصد.(1/364)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قوله: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} الآية.
قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}.
يجو أن تكون " ما " نافية فيحسن الابتداء بها. وأن تكون بمعنى " الذي " أي: واتبعوا الذي أنزل على الملكين، فلا يبتدأ بها.
وقيل: " ما " في موضع نصب بـ " يعلمونَ "، أي: ويعلمون ما أنزل على الملكين فيتعلمون أي فهم يتعلمون.
وقال الفراء: هو معطوف على {يُعَلِّمُونَ الناس / السحر} {فَيَتَعَلَّمُونَ} وأجاز أن يكون مردوداً على قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} على إضمار تقديره. " فيأتون فيتعلمون ". ويجوز أن يكون مردوداً على {فَلاَ تَكْفُرْ} لأن معناه: " فلا تتعلم السحر ". فيكون تقديره: " فلا تتعلم فيأتون فيتعلمون ".
قوله: {على مُلْكِ سليمان}.
أي: في حين ملكه، " فعلى " بمعنى " في " كما وقعت " في " بمعنى " على " في قوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي على: جذوع النخل.(1/365)
ومعنى " تَتْلُو " تقرأ، وقيل: تروي.
قوله: {لَمَنِ اشتراه}.
" من " بمعنى " الذي "، وأجاز الفراء أن تكون للشرط ولا يجوز ذلك عند البصريين. والضمير في {واتبعوا} يعود على اليهود الذين وصفهم الله قبل، بنبذ الكتاب والكفر والجحود وغير ذلك، وهم اليهود الذين هم بحضرة رسول الله [عليه السلام] لأنهم تركوا كتابهم واتبعوا السحر.
{على مُلْكِ سليمان}: أي: على عهده.
قال السدي: " كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتسمع ما أُخْبِرَ به الملائكة مما يحدث في الأرض / من موت أو جدب أو غير ذلك فيخبرون به الكهنة، فتحدث الكهنة الناس ويزيدون فيه مع كل كلمة سبعين كلمة من الكذب. فاكتتب الناس ذلك في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فجمع سليمان تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين(1/366)
يدنو من كرسيه إلا احترق. وانتهى الناس عن إضافة الغيب إلى الشياطين. فلما مات سليمان صلى الله عليه وسلم وانقرض العلماء، تمثل الشيطان في صورة الإنسان، وأتى نفراً من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال: إن سليمان إنما كان يملك الجن والإنس والطير بهذا السحر. ثم ذهب عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، فطلب بنو إسرائيل السحر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خاصموه / بها، فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ} ".
وقال الربيع في خبر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن السحر فقال لهم النبي [عليه السلام]: إِنِّما عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ إِلَى السِّحْرِ وَالكَهَانَةِ فَوَضَعَتْهُ فِي كُتُبٍ وَدَفَنَتْه تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجُوا الكُتُبَ وَخَدَعُوا بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعوهَا ".(1/367)
وقال ابن جريج: " عني بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان ".
وقال ابن إسحاق: " إنما كتبت الشياطين ما كتبت حين علمت بموت سليمان صلى الله عليه وسلم؛ / كتبت: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا. فكتبوا أصنافاً وختموا عليه وعنونوا: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصِّديق للملك سليمان بن داود. ثم دفنوه تحت الكرسي. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل واتبعته، / وقالوا: ما ملك سليمان إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس، فليس السحر في أحد أكثر منه في اليهود. وقد سحروا النبي صلى الله عليه وسلم ".
وبابل: موضع يقال الملكان فيه في سرب من الأرض معلقين في ضوء كضوء النهار.
وقيل: إنما سمي بابلاً لأن الألسنة فيه تبلبلت، وافترقت الأمم من ذلك المكان في الآفاق لاختلاف ألسنتها.(1/368)
وقيل: إن ذلك إنما كان على عهد فرعون إذ جمع الناس لبنيان الصرح، ومن ذلك الوقت لا تدع الريح بنياناً يبلغ ذراعاً إلا دمرته.
وقال ابن عباس: " إن سليمان لما ذهب ملكه ارتد فئام من الناس من الجن والإنس وأحدثوا سحراً، واتبعوا الشهوات. فلما رجع سليمان إلى ملكه، أخذ تلك الكتب ودفنها. فلما مات ظهرت الإنس والجن على تلك الكتب، وقالوا: هذا كتاب من عند الله أخفاه عنا سليمان فجعلوه ديناً ".
ومعنى {تَتْلُواْ}: تحدث وتروي وتتكلم.
وقيل: معناه تتبع.
قوله: {على مُلْكِ سليمان}.
أي: في ملكه وعهده.
قال ابن عباس: " كان سبب محنة سليمان صلى الله عليه وسلم أن أهل امرأة له يقال لها جرادة اختصموا إليه مع خصماء لهم / فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً. وكان سليمان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يقضي حاجة أعطى خاتمه لجرادة، فلما أراد الله منه ما أراد جاء الشيطان يوماً في(1/369)
صورة سليمان إلى جرادة فقال: هاتي الخاتم. فأخذه فلبسه فدانت له الشياطين والجن والإنس. فلما جاءها سليمان يطلب الخاتم، قالت له: كذبت لست سليمان فعرف سليمان أنه ابتلي، فعند ذلك كتبت الشياطين سحراً ودفنوه تحت الكرسي، وأخرجوه بعد موته، فضل الناس به، وتبرأ كثير منهم من سليمان صلى الله عليه وسلم.
قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}.
" ما " في موضع نصب عطفاً على " ما " في قوله: {واتبعوا مَا}.
وإن شئت عطفاً على السحر أي: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}.
وقيل: ما جحد قاله ابن عباس /. أي لم ينزل على الملكين السحر.
ومعنى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي يخبرانه بالسحر ليتجنبه ولئلا يقع فيه وهو لا يدري فيقولان: " السحر هو كذا وكذا، فاجتنبه فإنه كفر ".(1/370)
وتقدير قول من جعل " ما ". [نفيا أن يكون في] الكلام تقديم وتأخير على ترتيب: " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمان الناس السحر ببابل هاروت وماروت ".
وقيل: يعني بالملكين هنا: جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود تزعم أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله بذلك وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأن تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذي يعلمه رجلان اسمهما هاروت وماروت. فهو رد على الشياطين.
وقيل: الذي يتعلمه من الناس هاروت وماروت. فهو رد على الناس.
وقال قتادة والزهري عن عبد الله: " كانا ملكين أهبطا إلى الأرض للحكم(1/371)
بين الناس فحاكمت إليهما امرأة فحافا، فأتيا ينهضان إلى السماء فلم [يقدرا، وخُيّرا] بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحداً حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}.
وذكر ابن الأعرابي في " الياقوتة " أن معنى " يُعَلِّمَان ": " يُعْلِمانِ " مخففاً. قال: والعرب تقول: " تعلم مني " أي: اعلم. قال: ومعناه: أن الساحر يأتي الملكين فيقول: أخبراني عما نهى الله عنه [فننتهي عنه]، فيقولان: نهى عن الزنا، فيقول: وما الزنا؟ فيصفانه له. ويقولان: نهى عن اللواط ويصفانه. ونهى عن السحر ويصفانه له / لينتهي عنه، فينصرف ويخالف ويكفر.(1/372)
فالمعنى: وما يعلمان من أحد حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ [فَلاَ تَكْفُرْ]} " أي: اختبار من الله فلا تكفر، فتعمل بما ينهاك عن العمل به.
وروي عن ابن عباس في قصة الملكين: " أن الله تعالى أطلع الملائكة على أعمال بني آدم، فقالوا: يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، و [أسجدت له] ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء يعملون بالخطايا. فقال الرب لهم: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك، ما كان ينبغي لنا. قال: فأمروا أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأحل لهما كل شيء إلا الشرك والسرقة والزنا وشرب الخمر، وقتل النفس. قال: فما أشهرا حتى عرض لهما بامرأة، قد قسم لها / بنصف الحسن، فلما أبصراها تعرضا لها، قالت: لا، إلا أن تشركا بالله شيئاً /، وتشربا الخمر وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم.
قالا: ما كنا لنشرك بالله شيئاً. فقال(1/373)
أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا، إلا أن تشربا الخمر، فشربا حتى ثملا، ودخل عليهما سائل فقتلاه. فلما وقعا فيما وقعا من الشر، أفرج الله لملائكة السماء لينظروا إليهما فقالوا: سبحانك أنت أعلم. فأوحى الله تعالى [إلى سليمان] بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا ".
وروي عن ابن عباس أنه قال: " نزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكانت الملائكة من قبل يستغفرون للذين آمنوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] فلما وقع الملكان في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض ".
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس، فلما أراداها قالت: لا، إلا أن تعلماني الكلام الذي إذا تكلم به عرج إلى السماء. فعلماها فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً ".(1/374)
قال كعب: " والله ما أمسيا في الأرض من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا فعل جميع ما نهيا عنه ".
وقال السدي /: " إن هاروت وماروت طعنا في بني آدم وأحكامهم. فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات فيها يعصون. فقالا: لو أعطينا تلك الشهوات ونزلنا لحكمنا بالعدل. فأعطيا ذلك، ونزلا ببابل. فكانا يحكمان إلى المساء، ثم يصعدان، فإذا أصبحا نزلا. فأتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها [فكلماها في نفسها]، فقالت: لا، حتى تقضيا لي على زوجي، فحكما لها عليه، ووعدتهما قرية خربة فأتياها. فلما أرادا منها الحاجة، قالت: لا، حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان، فأخبراها، [فتكلمت فصعدت وأنساها الله] الاسم الذي تنزل(1/375)
به، فبقيت مكانها وجعلها الله تعالى كوكباً وهي الزهرة. فخُيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا ".
وكان ابن عمر يلعن الزهرة. رواه نافع عنه.
وكل هذه الأخبار تدل على أن " ما " في قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين} ليست بنفي.
وروى ابن وهب أن خالد بن أبي عمران ذُكر عنده هاروت وماروت أنهما يعلمان السحر، فقال: " ننزههما عن هذا ". فقرأ بعض القوم {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}(1/376)
فقال خالد: لم ينزل / عليهما. وقرأ الحسن " المَلِكَيْنِ " بكسر اللام، وقال: " هاروت وماروت علجان من أهل بابل، وكذلك قرأه عبد الرحمن بن أبزى، لكنه قال: " هما داود وسليمان ".
قال السدي: " إذا أتى الملكين أَحَدٌ يتعلم السحر يقولان له: " لا تكفر إنما نحن فتنة ". فإذا أبى قالا له: " إئت هذا الرماد فبل فيه.
فإذا بال عليه خرج منه نور ساطع فيسطع حتى يدخل السماء، فذلك الإيمان. ثم أقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بما رأى وبما / فعل علماه ".
/ ومعنى {إِنَّمَا نَحْنُ [فِتْنَةٌ]}: أي اختبار وابتلاء.
وروي أن الله جل ذكره أخذ على هاروت وماروت الميثاق ألا [يعلما(1/377)
أحداً] السحر حتى يقولا له: " إنما نحن فتنة فلا تكفر بفعل السحر ".
وهذا يدل على قتل الساحر إذا سحر وظفر به من غير استتابة، لأنه شيء يخفيه فلا يُعلم بصحة توبته منه لو تاب.
ويقال: إنهم كانا يعلمان من السحر ما يفرق به بين الزوجين خاصة كما ذكر الله.
وقوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}.
أي: بعلمه وقضائه لا بأمره لأن الله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، فلا تقع الفحشاء من فاعلها، إلا بعلم الله وقضائه وقدره. هذا مذهب أهل السنة والجماعة. وتعليمهم السحر هو فتنة أختبر بها الخلق.
وقيل: هو تعليم إنذار منه وتحذير منه، لا تعليم دعاء له ورغبة في العمل به.(1/378)
قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}.
أي: بقضائه المتقدم أنهم يفعلونه ويضرون به.
وقيل: معناه بعلم الله.
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ}.
قوله: {لَمَنِ اشتراه}.
أي: لمن استحبه وقبله وعمل به، ما له في الآخرة من خلاق.
/ أي: علمت يهود في التوراة أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق.
أي: من نصيب وحظ.
وقيل: من دين.
وقيل: من قوام.
وقيل: إن (علموا) يراد به الشياطين لأنه لو رد إلى اليهود لكان قوله:(1/379)
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} نفى عنهم العلم، وقد أخبر أنهم علموا.
وقيل: علموا هو للمَلَكَين لأنهم يقولون: لا تكفر، فقد علموا أنه لا خلاق لمن اشتراه في الآخرة، وثُني كما يقال: " الزَّيدان قاموا ".
وقال الزجاج: " علموا ": هم علماء اليهود ".
وقوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
قيل لهم ذلك لأنهم صاروا في محل من لا علم عنده إذ لم ينتفعوا بعلمهم، فصاروا بمنزلة الجاهل بهذا الأمر، فنفى عنهم العلم بعد أن أخبر أنهم علموا من أجل ذلك. وهذا مشابه لقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] لأنهم لما لم ينتفعوا بهذه الأعضاء كانوا بمنزلة من عَدِمَها، فوصفوا بذلك وهم غير صم ولا بكم ولا عمي.
{وَشَرَوْاْ} هنا بمعنى باعوا. وتقدير الكلام عند الطبري: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "، أي: يَعْلَمون أنه يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم. يريد به الذين(1/380)
يتعلمون السحر للتفريق بين المرء وزوجه.
ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه}.
يريد به علماء اليهود. فإيجاب العلم لعلماء اليهود ونفيه هو عن الذين يتعلمونه للتفريق.
وقتل الساحر عند مالك واجب بهذه الآية إذا سحر بنفسه لأنه كفر لقوله تعالى: {فَلاَ تَكْفُرْ}. والكافر إذا ستر كفره [قتل إلا أن] يأتي قبل أن يُعرف به، فيخبر بما كان سَتَر، فإن توبته تقبل. ومثله الزنديق عند مالك يقتل إذا قدر عليه ولا يستتاب. فإن أَظْهَره قبل أن يُظهر عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل. وهو والزنديق سواء.
/ والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويُسِر الكفر، فلا تقبل توبته لأنا لا ندري ما في ضميره، وقد قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. فلا تنفع الساحر، [و] الزنديق توبتهما إذا ظفر بهما، وتنفعهما إذا أتيا قبل أن يُقدر عليهما، كما كان هؤلاء تنفعهم توبتهم قبل / إتيان العذاب، ولا ينفعهم ذلك عند رؤية العذاب. وهو قول عثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة، وجماعة من الصحابة(1/381)
والتابعين.
ولا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك، ولكن يعاقب إلا أن يقتل بسحره فيقتل أو يُحدِث حَدثاً فيؤخذ منه بقدر ذلك.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: " لا يقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضرراً لم يعاهد عليه على مسلم ".
وكذلك روى ابن القاسم: قال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها. قال: " ينكل بها ولا تقتل ".
وقال الشافعي: " لا يقتل الساحر ولكن يسأل عن سحره، فإن كان كفراً / استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله فيئاً ".(1/382)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا}.
أي: لو أن الذين [يتعلمون السحر آمنوا أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله، {واتقوا}] أي اتقوا الكفر وعمل السحر - لوجب لهم عند الله الثواب على ذلك. فهو خير لهم لو كانوا يعلمون قدر ذلك.
وقيل: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}: أي لو علموا مبلغ ثواب الله / ورضاه ومقدار ذلك.
وقيل: معنى: {لَمَثُوبَةٌ}: لرجعة إلى الله خير.
وقيل معنى {لَمَثُوبَةٌ}: أي: لأثيبوا على ذلك، فَاسْتُغْنِيَ بالمثوبة عن الثواب، لأن المثوبة مصدر يشتمل على الماضي وغيره. " ولو " تحتاج إلى جواب يكون ماضياً، ودلت المثوبة على الماضي.
وقال ابن إسحاق: " معنى {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}، أي: يعملون بعلمهم.(1/383)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
وقيل: يعلمون حقيقة الفضل في ذلك.
قوله: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}. أي: خلافاً.
وقيل: معناه أرعنا سمعك، أي: اسمع منا ونسمع منك.
قال الضحاك: " كان الرجل من المشركين يقول: " أرعني سمعك " ".
قال قتادة: " هي كلمة كانت اليهود تقولها على الاستهزاء، فنهى الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم ".
وقيل: إنها لغة كانت في الأنصار فنهوا عن قولها تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتبجيلاً له، لأن معناها: " أرعنا نرعك "، فكأنهم لا يرعونه حتى يرعاهم، بل يرعى صلى الله عليه وسلم على كل حال. ولا يعرف أهل اللغة: " راعيت " بمعنى " خالفت " كما روى مجاهد.
وقرأ الحسن " راعنا " من " الرعونة " منوناً ونصبها على المصدر: كأنه قال:(1/384)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
رُعُونة. وقيل: بالقول انتصبت.
وقرأ الأعمش: " أنظِرنا - بقطع الألف وكسر الظاء - أي: أخرنا، وذلك بعيد لأنهم لم يؤمروا بالتأخير /، إنما أمروا بالقرب منه والتلطف في الخطاب.
وقيل: معنى قراءة الأعمش: أمهلنا.
وقوله: {واسمعوا} أي: واستمعوا ما يقال لكم، وَعُوه.
ثم قال: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية.
يعني بها اليهود والنصارى أنهم لا يحبون أن ينزل على المؤمنين خير من الله.
{والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}.
أي: بنبوته ورسالته فيرسلها إلى من يشاء، ويهدي من يشاء.
قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ}.
أي: من حكم آية، قرأ ابن عامر: ما نُنسِخْ - بضم النون الأولى وكسر السين، بمعنى: " ننسخك ".(1/385)
قال أبو غانم: " يقال: نسخته وأنسخته مثل قبرته وأقبرته، [فقبرته دفنته، وأقبرته جعلت له] قبراً ".
قوله: {أَوْ نُنسِهَا}.
من ضم / النون الأولى وَكَسَر السين، فمعناه: نتركها لا نبدلها. وهو مروي عن ابن عباس على معنى: نأمرك بتركها.
ويلزم على هذا المعنى فتح النون ليصح معنى الترك إذ هو غير معروف في اللغة: أَنْسَيْتُ الشيء تركته، إنما يقال: " نسيت "، كما قال {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، أي: تركوه فتركهم. / وهذا إنما يصح على قراءة من قرأ " نَنْسِهَا " بالفتح.(1/386)
والصواب في معنى: " نُنْسِها " بضم النون أن يكون من النسيان على معنى: " ننسكها " يا محمد فتذهب من حفظك ".
وعن ابن عباس أن في الآية: [تقديماً وتأخيراً]، والتقدير: ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها أي بأنفع منها لكم أو مثلها.
ثم قال: {أَوْ نُنسِهَا} أي نؤخرها فلا ننسخها ولا نبدلها.
وقيل: معناه: نأمرك بتركها كأنه: " أو ننسكها "، أي: نجعلك تتركها.
وقيل: معناه: ننسكها من النسيان أي: نزيل ذكرها من قلبك فلا تذكرها.(1/387)
والفرق بين إباحة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم النسخ، وبين إباحته الترك، أن النسخ أن تنسخ آية / بآية أخرى كنسخ قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] لقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. والترك هو ترك الآية من غير آية تنسخها كإباحة الله / للمؤمنين ترك امتحان من أتاهم بعد أن قال: {فامتحنوهن} [الممتحنة: 10].
فأما قراءة من قرأ " نَنْسَأَهَا " بالهمز، فمعناه أو نؤخرها فلا ننزلها البتة.
وقيل: معناه نؤخرها بعد إنزالها وتلاوتها فلا تتلى.
وقيل: معناه نؤخر العمل بها [وننسخه ويبقى لفظه متلواً غير معمول] به. ولكل واحد من هذه المعاني أمثلة في كتاب الله عز وجل قد بيناها في كتاب:(1/388)
" الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ".
فالنسخ يكون فيما نزل، والنَّسْءُ فيما لم ينزل فيؤخر. يقال: " نسَّأَ الله في أجلك وأَنسأَ " أي: أخر فيه.
وقيل: معنى هذا القول: ما ننسخ من آية من اللوح المحفوظ فننزلها على محمد صلى الله عليه وسلم " أو ننسأها " أي نؤخرها في اللوح فلا ننزلها، فالمنسوخ جميع القرآن، والمنسوء ما أخر، فلم ينزل هذا على هذا التأويل.
وفيها قول ثان: وهو أن يكون معناه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي: نرفعها، " أو ننسأها ": أي نؤخرها فلا نرفعها.
وفيها قول ثالث: وهو أن يكون " ننسأها " [معناه نؤخرها عن] التلاوة ويبقى الحكم بها نحو آية الرجم.
وفيها قول رابع: وهو أن يكون " ننسأها " معناه نؤخره إلى وقت ما، نحو ما(1/389)
روي في قوله، {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105].
وقرأ الضحاك بن مزاحم " أو تُنْسَها " - بالتاء مضمومة وفتح السين - على ما لم يُسَمَّ فاعله، أي: " ينسكها الله أو الشيطان " بدلالة قوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} [الأنعام: 68].
/ وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا}.
معناه عند أبي إسحاق وقطرب: / " نأت منها بخير " وهو غلط عند النحويين. لأن من حقها أن تكون بعد " أفعل " لا قبله " وخير " أفعل فإن جعلت " خيرا " فعلاً الذي هو ضد الشر، ولم تجعله أفعل، جاز ذلك.
وقيل: المعنى: نأت بخير منها لكم، إما في تخفيف وإما في زيادة أجر في الآخرة.
وقيل: معنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي: بأنفع لكم منها في زيادة الأجر إذا صح من الأصل إذا [عملتم بها].
وقوله: {أَوْ مِثْلِهَا}.
أي: مثلها في الآخرة، لكنها أحب إليكم من المنسوخة نحو نسخ القبلة إلى بيت المقدس، نسخت بالتوجه إلى الكعبة فهي مثلها، وهو أحب إليهم من بيت المقدس(1/390)
فلذلك قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]. فنسخت القبلة بمثلها، والناسحة أحب إليهم من المنسوخة.
وقيل: المعنى نأت بأنفع لكم منها في الوقت الثاني، وأصلح لِحَالِكُم في النفع وصلاح الحال.
وقال السدي وغيره: " {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي: من التي نسخنا، {أَوْ مِثْلِهَا}: أي: مثل التي تركنا فلم ننزلها ".
وقيل: بخير من هذه أو هذه.
ولا يجوز لذي علم ودين أن يتأول بهذا النص تفضيل بعض القرآن على بعض لأن القرآن كلام الله جل ذكره / ليس بمخلوق وإنما يقع التفضيل بين المخلوقات فاعلمه.
قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
معناه أن النبي [عليه السلام] قد كان عالماً بذلك فضلاً من الله عليه، فخرج هذا الكلام مخرج التقرير على عادة العرب. تقول العرب للرجل: " ألم أكرمك، ألم أفضل عليك " يخبره بذلك، وينبهه عليه، وهو عالم به. ومعناه: قد علمت ذلك، فكذلك هذا.(1/391)
ومعناه: قد علمت يا محمد أن الله على كل شيء قدير وعلمت أن الله له ملك السماوات والأرض.
وقال الطبري: " حرف الاستفهام في هذا داخل لمعنى الاستثبات والتنبيه لأصحاب النبي [عليه السلام] الذين قيل لهم: لا تقولوا راعنا. ويدل على صحة ذلك قوله بعد ذلك: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله}، فأتى بلفظ / الجماعة. وقد قال تعالى:
{يا أيها النبي} [الطلاق: 1]، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1]. وقال: {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1]. ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1].
ومعنى ذلك: " أَلَمْ تعلموا أن الله قادر على تعويض ما ينسخ من أحكامه وفرائضه للتخفيف عليكم أو لزيادة أجر لكم ". وهذا كله إنما هو تنبيه لليهود على أن أحكام التوراة جائز أن [تُنسخ على يدي] نبي، أو بكتاب آخر لأنهم أنكروا ما(1/392)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
أتى به صلى الله عليه وسلم مما ليس في التوراة، فنبهوا على أن التوراة يجوز نسخها على لسان نبي / غير موسى كما كانت التوراة ناسخة لما تقدمها من الكتب. ومعنى " يَنسخ بعض كتب الله بعضاً ": أنه إنما ينسخ بعضها بعضاً في الشرائع لا غير، كما قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. فالدين في الكتب كلها واحد وهو التوحيد، وهو دين الإسلام. والشرائع / مختلفة يتعبد / الله جل ذكره أهل كل كتاب بما شاء وبما أراد لا معقب لحكمه لا إله إلا هو.
قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ}.
" أم " تقع منقطعة بعد الخبر والاستفهام تقول: " جاءني زيد " ثم تقول: " أم جاءني عمرو "، وتقول: " هل عندك زيد أم [عندك عمرو]، " و - أزيد عندك أم لا؟ " كأنه في هذا كله أدركه الشك، بعد أن مضى صدر الكلام فاستدرك بـ " أم ".(1/393)
وتكون " أم " عاطفة بعد الاستفهام خاصة، تدل على ثبوت أحد الشيئين غير معين وعن عينه يسأل بها. فهي بمنزلة أيهما عندك " فتسأل عن العين بعد أن يستقر عندك أن ثمّ شخصاً ولا تدري من هو، ولا يكون الجواب إلا بالعين. يقول المجيب: " قلان أو فلان " ولا يجوز أن يقول: " لا، ولا نعم. وإنما لا ونعم جواب. أو إذا قلت: " أذا عندك أو ذا؟ ". وتقول " سواء علي أقمت أم قعدت "، فبالتسوية أجريته مجرى الاستفهام لأنك سويت الأمرين في علمك، كما استوى علمك في قولك: " أزيد عندك أم عمرو؟ ".
فالتسوية تُجري هذا على حروف الاستفهام، كما أجرى الاختصاص ما ليس بمنادى على حروف النداء.
قال بعض النحويين في {أَمْ تُرِيدُونَ}: " معناه: أتريدون ".
وقيل: هي منقطعة مما قبلها بمنزلة قول العرب: " إنها لإبل أم شاء ". وهذا القول بعيد لأنه لا يصح في أكثر كلام العرب إلا على حدوث شك دخل المتكلم، وذلك لا يليق بالقرآن.(1/394)
وقيل: إنها مردودة على الاستفهام الذي قبلها وهو {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأنه بمعنى: " ألم تعلموا "، ثم قال: {أَمْ تُرِيدُونَ}.
قوله: {كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ}.
قال ابن عباس: " [أتى رجلان من] اليهود إلى النبي [عليه السلام] فقالا له: إئتنا بكتاب نقرأه، وفَجِّر لنا أنهاراً نتبعك. فأنزل الله عز وجل: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} الآية.
ومعنى {سُئِلَ موسى}، هو قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}.
وقال مجاهد: " سألت قريش [النبي عليه السلام] أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: نعم، هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل. فأبوا ورجعوا، فأنزل الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} الآية ".
وقال أبو العالية: " جاء رجل إلى النبي / [عليه السلام] فقال: لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل. فقال النبي [عليه السلام لا نبغيها]: مَا أَعْطَاكُمُ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى(1/395)
بَنِي إِسْرائِيلَ؛ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ الْخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفّارَتَها، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْياً في الدُّنْيا. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، كَانَتْ لَهُ خِزْياً فِي الآخِرَةِ. فَقَدْ أَعْطَاكُمُ الله خَيْراً مِمّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قال: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} و " الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ كَفَّارَات لِمَا بَيْنَهُنْ ". و " مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ [لَهُ حَسَنَةٌ، فَإنْ] عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عشْر أَمْثَالِهَا " ثم أنزل الله بعقب ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ} / الآية.
قوله: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان}.
/ قال أبو العالية: " الشدة بالرخاء ".
وقيل: الجحود بالإيمان، وهو أولى.
قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل}.
أي: ذهب عنه وزاغ.(1/396)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
والسواء هنا قصده ومنهجه. وأصل السواء الوسط.
قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.
قيل: " كثير " هنا واحد، وهو كعب بن الأشرف /. قاله الزهري.
وقيل: هما ابنا أخطب. قاله ابن عباس.
وقيل: هو عام في أكثرهم.
وفي الآية تقديم وتأخير، معناها: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً ".
ومعنى: {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي: لم يؤمروا به، ولا وجدوه في كتاب إنما اخترقوه واخترعوه من قبل أنفسهم.
{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} أي: من بعد ما ظهر لهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة(1/397)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
[وصفته وعلاماته] فكفروا به وأحبوا أن تكفروا معهم به بعد إيمانكم حسداً وبغياً.
ثم قال: {فاعفوا واصفحوا}.
أمر الله عز وجل المؤمنين بالعفو عنهم إلى وقت يأتي فيه أمر الله تعالى بترك العفو. فالآية منسوخة بالأمر بقتالهم وقتلهم وهو قوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وقوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآيتان.
وقوله: {واقتلوهم} [البقرة: 191].
وقوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}.
إقامة الصلاة هو أداؤها بفروضها لوقتها وهي الخمس الصلوات المفروضة.
قال أنس بن مالك: " فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً تخفيفاً من الله، ثم نودي يا مُحَمَّدُ: إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ القَْولُ لَدَيَّ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذَه الخَمْسِ خَمْسِين ".(1/398)
ويجمع أوقاتها قوله: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} / [الروم: 17]. يريد المغرب والعشاء الآخر / {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] يريد الصبح. {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]. يريد الظهر {وَعَشِيّاً} [الروم: 18]. العصر. فأما قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78]. فقال علي بن أبي طالب " دلوكها غروبها ". وهو قول ابن مسعود.
وروي عن ابن عباس: " دلوكها زوالها ". وقاله ابن عمر وأبو هريرة. {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] صلاة الصبح.
وقال قتادة: " {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130]: هي صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] صلاة العصر. {وَمِنْ آنَآءِ الليل} [طه: 130] صلاة المغرب والعشاء الآخرة.
وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر الزوال.(1/399)
وقال مالك: " آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الزوال ".
وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور.
وقال عطاء: " لا تفريط في الظهر حتى تصفرّ الشمس ".
وقال طاوس: " لا تفوت حتى الليل ".
وقال النعمان: " آخر وقتها ما لم يصر الظل قامتين " وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ". هذا قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وأبي / ثور.
وقال النعمان: " أول وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال، ولا تجزئ الصلاة قبل ذلك ".(1/400)
وآخر وقتها أن يصير ظلك مثليه.
وقال أحمد وأبو ثور: " آخر وقتها ما لم تصفرّ الشمس على وجه الأرض ".
وقال إسحاق: " آخر وقتها أن يصلي منها ركعة قبل غروب الشمس لقول النبي عليه السلام " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ العَصْرِ رَكْعَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا ".
وهذا عند الشافعي وغيره إنما هو لأهل العذر.
وروي عن ابن عباس: " أن آخر وقتها غروب الشمس ". " ووقت المغرب غروب الشمس وقتاً واحداً "، وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي.
وقال الثوري وأحمد وإسحاق: " وقتها إلى أن يغيب الشفق ".
ووقت العشاء مغيب الشفق. وهو الحُمرة في قول ابن عمر وابن عباس ومالك وسفيان وابن أبي ليلى والشافعي.(1/401)
وروي عن أبي هريرة " أنه البياض "، وهو قول زفر. وآخر وقتها عند النخعي ربع الليل.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ وأبي هريرة، وعمر بن عبد العزيز " إلى ثلث الليل " وهو قول مالك. وقال الثوري وابن المبارك وإسحاق " إلى نصف الليل ". وروي ذلك عن عمر أيضاً. ووقت صلاة الصبح انصداع الفجر إلى طلوع الشمس، ووقت الجمعة بعد الزوال، ومن صلى الجمعة قبل الزوال لم تجزه عند الجميع إلا أحمد بن حنبل فإنه أجازه قبل الزوال.
ومعنى قولهم في التشهد: " التحيات "، قال أبو عبيد " التحيات الملك،(1/402)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
والصلوات هي الصلوات الخمس لله، والطيبات هي الأعمال الزكيات لله ".
قوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى}.
معناه / قالت اليهود ذلك، وقالت النصارى ذلك، فأخبرنا الله أن ذلك هما يتمنون، فقيل لهم: هاتوا برهانكم على ذلك، أي حجتكم وبيّنتكم إن كنتم صادقين. وقد [أكذب الله تمنيهم وقولهم] ذلك بقوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94]، إي إن كنتم من أهل الجنة كما زعمتم، فتمنوا الموت لأنكم تنتقلون إلى ما هو خير لكم. فلما / لم يفعلوا عُلم أن قولهم / ذلك شيء لا حقيقة له وكذب وبهتان.
ثم قال: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ}. أي: أخلص عمله ونيته بالطاعة والإيمان. وخص الوجه بالذكر دون سائر الأعضاء لأنه أشرف أعضاء بني آدم وأعظمها حُرمة. فإذا خَضَّع وجهه الذي هو أكرم الأعضاء كان ما سواه أحرى أن يخضع.
قوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ}. نزلت في قوم من أهل الكتابين تخاصموا عند النبي [عليه السلام] فكفر بعضهم بعضاً، فأخبرنا الله أنه قد فعل هذا من كان قبلهم ممن لا يعلم، وأنهم فعلوا ذلك وهم يجدون في كتبهم كذبهم فيما يقولون لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً، فلذلك قال تعالى:(1/403)
{وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب}. فهؤلاء قالوه وهم يعلمون أنهم كاذبون لأن في كتاب كل واحد منهم الأمر بالإيمان بالآخر وبمن جاء به. و {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أمم كانت قبلهم.
وقيل: عني بذلك الجاهلية في العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.
وقيل: قالوا: ليست اليهود على شيء ولا النصارى على شيء.
وقيل: إنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فالذين من قبلهم قالوه وهم غير عالمين، وهؤلاء / قالوا عن علم لأن ما قالوا كذب.
ومعنى قولهم: {لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ}، {لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ}: إنما أرادوا أنهم ليسوا على شيء [مذ دانوا]، ولم يريدوا ليسوا على شيء الساعة لأنهم لو أرادوا ذلك لكانوا صادقين في قولهم، إذ كل فريق منهم قد جحد / نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه نبي ويجده في كتابه، فهو في ذلك الوقت ليس على شيء لأن(1/404)
من جحد آية من كتاب الله فقد جحده كله. فإنما أراد: قال كل فريق منهم: ليس هؤلاء على شيء منذ دانوا، ومنذ أنزل عليهم الكتاب [لا أنهم] أرادوا في الوقت الذي وقع فيه التنازع خاصة لأن ذلك لو كان لكانوا صادقين فيما قالوا، ولأنهم لو أرادوا ذلك لكفر كل واحد نفسه على لسانه، لأن جميعهم جاحد لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قال فريق: ليس هؤلاء على شيء، واعتقادهم / واحد في محمد صلى الله عليه وسلم. فكأنه قال: ليس نحن على شيء. إلى هذا يؤول الكلام لو حمل على أنهم أرادوا الوقت الذي تخاصموا فيه، وإنما أرادوا من تقدم قبل محمد [ صلى الله عليه وسلم] فأكذبهم الله عز وجل لأن أوائلهم قد كانوا على شيء. ولو أرادوا الزمان الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم لم يكذبهم الله في ذلك لأنهم كانوا على غير شيء إذ جحدوا ما عرفوا وبدلوا وغيروا وأنكروا ما في كتابهم، وجعل الله تعالى هذه الآية تحذيراً لئلا يُختلف في القرآن، لأن اختلافهم أخرجهم إلى الكفر، فحُذِّر المسلمون من ذلك.
قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}: أي: يفصل.(1/405)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
وقيل: معناه يريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً.
وسميت الآخرة القيامة لأن فيها يقوم الخلق كلهم من قبورهم.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} الآية.
عني بذلك النصارى منعوا الناس من بيت المقدس وكانوا يطرحون فيه الأوساخ قاله ابن عباس وغيره.
وقال قتادة: " حمل بُغض النصارى لليهود أن أعانوا عدو الله بُخْتُنصر المجوسي البابلي على تخريب بيت المقدس ".
وقال السدي: " أعانت الروم بختنصر على خراب بيت المقدس عداوة منهم لليهود إذ قتلوا يحيى بن زكريا ".(1/406)
وقال ابن زيد " عني بذلك مشركي العرب إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام يوم الحديبية حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم. وكانوا قد قالوا له: لا تدخل علينا وقد قتلت أباءنا يوم بدر، [ومنا طارف يطرف] وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده عن البيت فَصُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت ".
وقوله: {أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ}.
قال قتادة: " هم اليوم لا يوجد أحد منهم في بيت المقدس إلا عوقب ".
وقال السدي: " لا يدخل رومي بيت المقدس إلا خائف أن تضرب عنقه مع أنهم / أخيفوا بأداء الجزية ".
وقال ابن زيد: " معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى: أَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، فخاف المشركون وانْتَهَوُا ".(1/407)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
ومعنى {وسعى فِي خَرَابِهَآ} أي: في هدمها ونقضها.
وقيل: هو خلاؤها أي: المنع من ذكر الله فيها من الصلاة وذكر الله فيها.
وقال / ابن زيد: " هو منع المشركين المسلمين من الحج والعمرة ".
والخزي أخذ الجزية منهم وهم صاغرون، أي: من اليهود والنصارى.
وقال السدي: " الخزي هو قتل الروم عند قيام المهدي وفتح القسطنطينية ورومية ".
قوله: {وَللَّهِ المشرق والمغرب}.
معناه: إنَّ له / ما بين مشرقها / كل يوم، ومغربها كل يوم، وإنما خص الله تعالى ذكره ذا أنه له وإن كان كل الأشياء له لأنه نزل في أمر معين، وذلك أن اليهود كانت تصلي نحو بيت المقدس، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم معهم إليها ستة عشر شهراً، ثم رجع إلى الكعبة. فاستعظم اليهود ذلك، وقالوا: ما ولاّهم عن قبلتهم(1/408)
التي كانوا عليها؟ فقال الله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لله المشرق والمغرب يصرف من يشاء إلى أين يشاء، فحيثما تولوا فثمّ وجه الله. فهذا أول ناسخ في القرآن لأنه نسخ التوجه إلى بيت المقدس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى، وكان يحب قبلة إبراهيم [عليه السلام]، وكان يدعو أو ينظر إلى السماء فأنزل الله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] فارتابت اليهود من ذلك فأنزل الله عز وجل: { وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية.
وقال قتادة: " هذا منسوخ، وذلك أن الله تعالى أباح لهم أولاً التوجه حيث شاءوا، وأخبرهم أنه أينما تولوا وجوهكم فثمَّ وجه الله، لأن له المشارق والمغارب، ثُمَّ نسخ ذلك بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}.
وقال ابن زيد: " لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم { وَللَّهِ المشرق والمغرب} وأباح له التوجه أين(1/409)
شاء. قال: هؤلاء يهود يستقبلون بيتاً من بيوت الله، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم معهم فبلغه أنهم قالوا: ما درى محمد ولا أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. فكره ذلك النبي / صلى الله عليه وسلم ورفع وجهه إلى السماء فأنزل الله {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} الآية، فاستقبل الكعبة ".
وقال ابن عمر: " الآية نزلت في التطوع، وكان يصلي حيثما توجهت به الراحلة ويقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ".
وقيل: " نزلت في قوم عميت عليهم القبلة، فصلوا إلى جهات مختلفة، فأعلموا أن صلاتهم ماضية ".
وروى عامر بن ربيعة عن أبيه أنه قال: " كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] في سفر فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة. قال: فصلينا وعَلِمْنَا، فلما طلعت(1/410)
الشمس، إذا نحن صلينا لغير القبلة، وذكرنا ذلك لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم] ، فأنزل الله هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ".
وقيل: إنها نزلت في أمر النجاشي؛ قال قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِي قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ. فَقَالُوا: نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. فَأَنْزَلَ الله عز وجل: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ}. فقالوا: وإنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله {وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية "
/. وقد أفردنا كتاباً للناسخ والمنسوخ مبسوطاً / بأشبع من هذا.
ومعنى: {وَجْهُ الله}. أي جهته التي أمرتم باستقبالها.
وقيل: معناه فثمَّ قبلة الله.(1/411)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
وقيل: معناه: فثمَّ الله جلَّ ذكره.
وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ}. أي: تستقبلوا بوجوهكم.
وقيل: معناه: تستدبروا من " وَلَّيْتُ عَنْهُ ". وهو قول غريب.
وقوله: {وَاسِعٌ} أي واسع الرحمة، {عَلِيمٌ} بكم / وبما في قلب النجاشي من الإيمان.
ثم قال: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً}.
أي: وقال الذين منعوا الذكر في مساجد الله وسعوا في خرابها: اتخذ الله ولداً.
{سبحانه}: أي: براءة له من ذلك وتنزيهاً له.
قال أبو إسحاق: " يريد به النصارى واليهود والمشركين من العرب، لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله ".
وروي عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قَال اللهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ(1/412)
آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. أَمّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَيَزْعُمُ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ. وَأَمّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، [فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ] وَلَداً ".
قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}. أي: مطيعون.
وقيل: مطيعون يوم القيامة.
وقيل: مقرون بالعبودية.
وقال الفراء: " هو خصوص يراد به أهل الطاعة ".
وأصل القنوت في اللغة الطاعة، والقنوت القيام الطويل.
وقال الحسن: " يعني اليهود والنصارى ومشركي العرب؛ كل [له قائم] بالشهادة بأنه عبد له ".(1/413)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قال يحيى: " إنما خص الحسنُ اليهود والنصارى ومشركي العرب، لأنهم هم الذين كانوا بحضرة النبي [عليه السلام] يومئذ ".
وقال في آية أخرى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. من تفسير ابن سلام. قوله: {بَدِيعُ السماوات والأرض} [البقرة: 117]. {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101].
أي: كيف يكون له ولد وهو خلق السماوات والأرض بمن فيهما وابتدعهما من غير مثال.
والمبدع المخترع للشيء، وبديع /: بمعنى مبدع.
ثم قال: {وَإِذَا قضى أَمْراً}.
أي: إذا حتم أمراً، أو أحكم أمراً. ومنه قيل للقاضي: حاكم، لأن أصل كل قضاء الإحكام له، والفراغ منه.(1/414)
قوله: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
زعم [قوم أن] هذا مخصوص في إحياء الميت ومسخ الكافر ونحوه لأن الأمر لا يكون إلا لموجود ولا يكون لمعدوم. وهذا قول مرغوب عنه.
ومعنى الآية: أنه تعالى عالم بالأشياء التي ستكون وكانت فقوله لها: " كن " إنما هو قول لموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا.
وقد قيل: إن المعنى: فإنما يقول من أجله كن. ف " لَهُ " بمعنى من أجله. وهذا أيضاً قول لا يمتنع وهو عام، لا يقتضي الأمر لموجود، لأن القول من أجله وقع لا له.
وقال الطبري: " أمره للشيء " يكن "، لا يتقدم الموجود ولا يتأخر عن الموجود، بل هو في حال يكون ذلك، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر. ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ".
قال: " ونظير ذلك قيام الأموات من قبورهم لا يتقدم / دعاء الله عز وجل ولا يتأخر عنه، وقد قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. فمعنى الآية أن الله(1/415)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
مبدع الأشياء ومالكها، قد ابتدع المسيح صلى الله عليه وسلم وأنشأه إذ أراد خلقه من غير ذكر ".
والهاء في " له " تعود على الأمر، و " له " بمعنى من أجله.
وقيل: تعود على القضاء الذي دل عليه " قضى ".
/ وقيل تعود على المراد الذي عليه الكلام.
قوله: {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} الآية.
قال مجاهد: " عني بذلك النصارى ".
/ وعن ابن عباس قال: " قال رافع [بن حريملة] من اليهود لرسول الله صلى الله عليه سلم: إن كنت رسولاً من عند الله، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله}، أي: هلا يكلمنا.
وقال السدي والربيع وقتادة: " هم مشركو العرب، قالوا ذلك ".
قال مجاهد: " الذين من قبلهم هم اليهود لأنهم سألوا موسى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك من كلام الله ورؤيته سبحانه، فدل على أنهم النصارى ".(1/416)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وهو اختيار الطبري أن يكون الذين عنوا بالآية هم النصارى.
وقال قتادة: " الذين من قبلهم اليهود والنصارى ".
فعلى هذا يكون الذين عنوا بالآية مشركي العرب، وعلى هذا الاختيار يقع الاختلاف في {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}.
قيل: هم اليهود والنصارى.
وقيل: هم العرب واليهود والنصارى.
وقيل: {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} و {الذين مِن قَبْلِهِمْ}: هم قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وجميع الأمم الماضية المكذبة الكافرة.
قوله: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم}.
معناه التعظيم لما هم فيه كما تقول: " لا تسال عن فلان " أي قد بلغ فوق ما تظن.
وقيل: هو نهي نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما روي أن النبي [ صلى الله عليه وسلم] . قال: " لَيْتَ شِعْري مَا فَعَلَ أَبَوَايَ "، فأنزل الله عز وجل، { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} / فما سأل(1/417)
عنهم [ صلى الله عليه وسلم] حتى مات.
ومن قرأ بالرفع، فهو في موضع الحال، تقديره: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً} وغير مسؤول عن أصحاب الجحيم ".
وقيل: هو نفي، ولا " بمعنى " ليس كأنه قال: " ولست تسأل " كأنه أخبره أنه لا يسْأَلُ عن ذلك.
واختار جماعة الرفع لأن الكلام المتقدم يدل عليه، لأنه تعالى قال بعد الذكر اليهود والنصارى وما صنعوا:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً}.
أي: بشيراً لمن اتبعك، ونذيراً لمن كفر بك، " غير مسؤول عمن كفر بك. ولم يجر ما يوجب النهي. فجري الكلام على أوله أولى من جريه على خبر آحاد يقطعه(1/418)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
مما قبله لأن أوله قد ثبت نصه وصحته، وخبر الآحاد لا يحكم على / صحة مغيبه. فرده على ما يقطع على صحته في الغيب أولى. ومع ذلك فقراءة أُبي وعبد الله تشهدان للرفع، لأن قراءة أبي، " وما تُسْأل "، وقراءة عبد الله: " ولن تُسْأل " وذلك يشهد أن الرفع بمعنى النفي.
وقال المحتج للجزم: إن الجزم إذا حمل على التعظيم لأمر من تقدم كان مردوداً على ما قبله فيصير مثل الرفع، ويزيد الجزم مزية، وهو أن يحمل على الخبر. فالجزم محتمل لمعنى الرفع وزيادة.
قوله: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى} الآية.
دعت كل فرقة منهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه فأخبر الله تعالى أنهم لا يرضون عنه إلا أن يتبع ملتهم.
ثم قال له: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ}.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يراد به أمته.(1/419)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
وقيل: / إنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة. وطمعوه أن يتبعوه / إن هادنهم وأمهلهم، فأنزل الله عز وجل: { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} الآية.
قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ}.
قال ابن مسعود: " ومعنى {حَقَّ تِلاَوَتِهِ}، أي: يحل حلاله ويحرم حرامه، ويضعه على مواضعه. فمن قرأ منه شيئاً كان له بكل حرف عشر حسنات ".
وعني بذلك من آمن بالنبي [عليه السلام]، فيكون " يتلون " الخبر. وإن شئت " أولئك " الخبر، و " يتلون " حال.
وقيل: عني بذلك من آمن بالنبي [عليه السلام] من بني إسرائيل والنصارى، فيكون " يتلون " الخبر، وهو اختيار الطبري. فيكون مردوداً على ما قبله(1/420)
من ذكرهم ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذكر فيرد إليهم، ولآلهم ذكر بعدها، فتجعل الآية مبتدأة فيهم، ولا جاء أثر بأن ذلك فيهم. فردها إلى ما قبلها أولى وهو ذكر بني إسرائيل والنصارى.
وأجاز ابن كيسان أن يكون: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} خبراً عن " الذين " على أن يكون " الذين " يراد بهم المرسلون والأنبياء صلوات الله عليهم. وأجاز أن يراد " بالذين " العاملون بالكتاب خاصة منهم؛ فيكون " يتلون " الخبر أيضاً. ويجوز وجوه أخرى أيضاً.
وروي أنها مخصصة نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران بعضهم، ومن الحبشة بعضهم، ومن الروم منهم ثمانية؛ وهم الملاحون أصحاب السفينة الذين أقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع جعفر بن أبي طالب أثنى الله تعالى عليهم إذ آمنوا بكتابهم(1/421)
وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى الله عز وجل عليهم في غير موضع من كتابه، فيكون " يتلون " خبراً عنهم. . وإن جعلته عاماً كان " يتلون " حالاً لا غير، لأنك إن جعلته خبراً أوجبت أن كل منْ أوتي الكتاب من النصارى ومن بني إسرائيل يتلونه حق تلاوته، وليسوا كذلك.
قوله: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا تلوا / التوراة حق تلاوتها وجدوه مكتوباً فيها. فهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ضرورة / إذا أنصفوا في التلاوة.
ومعنى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي: يتبعونه حق اتباعه. كذلك رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. أي: يتبعون ما فيه حق اتباعه. وقيل: معناه: يقرأونه حق قراءته.
وقد قيل: إن الهاء في " به " عائدة على الكتاب كالهاء في " يتلونه " والهاء في " ومن يكفر به ".(1/422)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قال ابن زيد: " تعود على محمد صلى الله عليه وسلم ". وقيل تعود على الكتاب.
قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين}. أي: على عالم زمانكم، وقد تقدم / ذكر النعم وما فضلوا به، ومن أجَلّ نعمة أنعم بها عليهم أن موسى [عليه السلام] أخبرهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم باتباعهما، فلم يحتاجوا إلى آية لو كانوا موفقين لأنهم قد سبق عندهم خبر / الصادق بذلك، ففضلوا على سائر الخلق بما عندهم من العلم في أمر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ولم يتبعوهما، واتبعهما من لم يكن عنده مقدمة ولا خبر عنهما. كل ذلك بخذلان الله تعالى لهم وتوفيقه لغيرهم.
قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}.
قيل: فاعل " أتمهن ": الله عز وجل، أي أكملهن الله له.
وقيل: الفاعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم أخبره الله عز وجل بما سبق في علمه فيه ليكون الامتحان موجوداً معقولاً فتقع عليه المجازاة والثواب، إذ لا يقع جزاء على ما في علم الله تعالى(1/423)
دون ظهوره من العبد. أخبر الله عز وجل أنه أتمهن هنا، وقال في غير هذا الموضع: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37].
واختلف في الكلمات؛ فقال ابن عباس: " هي ثلاثون سهماً، عشر منها في براءة {التائبون العابدون} [التوبة: 112]. وعشر في الأحزاب. {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35]. في (المؤمنين) إلى قوله: {يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] وعشر في {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1] إلى {حَافِظُونَ} [المعارج: 29]. أيضاً. وقيل: هي عشر خمس في الرأس، وخمس في البدن، فالتي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الشعر.
وروي في موضع الفرق: إعفاء اللحية.
وفي الجسد تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، وغسل المخرجين بالماء، والختان.
وعن ابن عباس أيضاً قال: " هي عشرة: ستة في الإنسان وهي: حلق العانة،(1/424)
والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربع في المشاعر وهي: الطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة ".
وعن مجاهد قال: " هي أن الله تعالى قال لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. إني مبتليك بأمر، فما هو؟ قال: / تجعلني للناس إماماً؟، قال الله: نعم. قال إبراهيم: ومن ذريتي؟ قال الله [ عز وجل] /: لا ينال عهدي الظالمين. قال إبراهيم: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وأمنا؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: [تجعلنا مسلمين لك] ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وترينا مناسكنا وتتوب علينا؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال الله: نعم ".(1/425)
وقال جماعة: " تلك الكلمات مناسك الحج خاصة ".
وقال الحسن: " الكلمات هي الخلال الست التي ابتلي بها، وهي: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، ابتلي بهن فصبر عليهن ولم يزغ ".
وقيل: من ذلك الذبح.
وقال السدي: " الكلمات: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}، {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً}.
وروي عن النبي [ صلى الله عليه وسلم] أنه قال: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] " عَمَلُ يَوْمِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ ".
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أَلاَ أُخْبِرُكُم لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ {الذي وفى} الآية. قال: كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ، وَكُلَّمَا أَمْسَى:(1/426)
{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ".
وروي أن الله جلَّ ذكره أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أوحى الله / إليه أن تطهر فاستنشق. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فاستاك. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فأخذ شاربه. ثم أوحى الله إليه أن تطهر ففرق شعره، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فاستنجى. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فحلق عانته، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فنتف إبطه، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فأقبل بوجهه على جسده ينظر ما يصنع، فردد البصر، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة، فأوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماماً؛ أي: يقتدي بك(1/427)
الصالحون من بعدك. فأعجب ذلك إبراهيم صلى الله عليه سلم فقال: ومن ذريتي، أي: اجعل يا رب منهم أئمة، فقال له الله: لا ينال عهدي الظالمين، أي: من كان من ولدك ظالماً فلا يكون إماماً.
/ قوله: {لِلنَّاسِ إِمَاماً}.
أي يقتدي بك من في عصرك ومن يأتي بعدك.
قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}.
قال ابن عباس: " عهدي. نبوتي ".
وقال مجاهد: " العهد هنا: الإمامة، / لا يستحق الظالم الإمامة ".
وقيل: " معناه. لا عهد لظالم عليك أن تطيعه في ظلم، وإن عاهدته فانقضه ".
وقيل: " العهد الأمان. أي: لا أُؤَمِّنُ الظالم من الانتقام منه "، قاله قتادة.
/ قال: " ذلك يوم القيامة، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم ".(1/428)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وقيل: عهد الله هنا دينه. أي: لا ينال ديني الظالمين.
وقيل: العهد هنا الطاعة. أي: لا ينال طاعتي ظالم.
والظالم هنا المشرك عن مجاهد. وقد أخبر الله عز وجل بذلك فقال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] يريد إبراهيم وإسحاق.
وقال الضحاك: " معناه: طاعتي لا ينالها [عدو لي] ولا أَنْحَلُهَا إلا وَلِيّاً لي يطيعني ".
وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت}.
" إذ " في موضع نصب عطف على " إذ " في قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ}. و " إذ " في: {وَإِذِ ابتلى} معطوفة على النعمة في قوله {اذكروا نِعْمَتِيَ} أي واذكروا إذ ابتلى، واذكروا إذ جعلنا.
والهاء في " مثابة " دخلت للمبالغة عند الأخفش مثل نسَّابة وعلاَّمة.(1/429)
وقال الكوفيون: " أُنِّثَ " لأنه أريد به البقعة التي يثاب إليها، أي: يرجع إليها، كما قالوا: المقامة على تأنيث البقعة، والمقام على تذكير المكان.
ومعنى: {مَثَابَةً}: " لا يقضون منه وطراً ". قاله مجاهد:
وقال السدي: " إذا أتاه مرة لا يدعه حتى يعود إليه ".
وقيل: معناه: لا ينصرف عنه منصرف إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً.
قوله: {وَأَمْناً}. هذا كان في الجاهلية لأنهم كانوا إذا لقي أحدهم قاتل أبيه وأخيه في الحرم لم يؤذه حتى يخرج منه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
ويروىَ أن عمر قال: " قلت يا رسول الله، لو اتّخذت المقام مصلى، فأنزل الله(1/430)
عز وجل: { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. فهذا على قراءة من كَسَر الخاء، كأنه أمر من الله عز وجل بذلك.
فأما مَن فتح فهو خبر معطوف على النعمة عند الأخفش كأنه قال: اُذكروا نعمتي، واذكروا إذ اتخذوا ".
وقال غيره: " هو معطوف على {جَعَلْنَا} ".
والمقام هو الذي يصلى إليه اليوم. وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ارتفع بناؤه / وضعف عن حمل الحجارة، فكان إسماعيل صلى الله عليه وسلم يُناوِله الحجارة ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}. قاله ابن / عباس.
وروي عن ابن عباس أيضاً أن المقام هو الحج كله. وكذلك قال مجاهد وعلماء.
وقيل: هو عرفة والمزدلفة، والجمار. روي ذلك عن عطاء.(1/431)
وقيل: مقامه عرفة.
وعن مجاهد أنّ " مقامه الحرمُ كله ".
وقال الربيع بن أنس: " المقام هو الحجر الذي وضعت زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحَجَر، فوضعته تحت الشق الآخر / فغابت رجله أيضاً فيه ".
وقال عمر بن الخطاب: " وافقني ربي في ثلاثة، قلت يا رسول الله، لو اُتخذت [مقام] إبراهيم مصلى. فأنزل الله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} وأشرت على النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فأنزل الله سبحانه آية الحجاب، ووعظت نساء النبي فقلت لهن: لئن لم تنتهين ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله عز وجل:
{ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5].(1/432)
ومعنى {مُصَلًّى}: " مدعى يدعون عنده ". قاله مجاهد.
وقال قتادة: " مصلى يصلون إليه ".
قوله: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ}.
أي: من الشرك والأوثان.
وقيل له بيت ولم يكن ثَمَّ بيت، لأنه كان بيتاً في عهد نوح صلى الله عليه وسلم فأمره أن يطهره قبل بنيانه من الأوساخ؛ من الأصنام وغيرها.
وقيل: معناه أنهما أمرا ببنيانه مطهراً من الشرك. و {لِلطَّائِفِينَ} هم الغرباء.
وقيل: هم كل من يطوف حوله، وهو أبين.
و {والعاكفين}؛ قال عطاء: " هم الجالسون من غير طواف ".(1/433)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وقال مجاهد: " العاكفون المقيمون به، المجاورون له من الغرباء ".
وقال سعيد بن جبير: " العاكفون هم أهل البلد ".
وقال ابن عباس: " العاكفون المصلون ".
وقوله: {والركع السجود} يمنع من هذا القول.
والاختيار عند جماعة أن يكون العاكف المجاور للبيت بغير / صلاة ولا طواف. وهو قول عطاء وغيره.
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً}.
قيل: إِنّ إِبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يحرم مكة فحرمها، واحتج من قال ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدُ اللهِ وَخَلِيلُهُ وإني عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا ".(1/434)
وقال قائلون: " لَمْ تُحَرَّم بسؤال إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بل كانت حراماً، [واحتجوا بقول النبي عليه السلام] يوم افتتح مكة /: " هَذِهِ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ: لَمْ تَحِلّ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي. . أُحِلَّتْ لِي سَاعَةَ مِنْ نَهَارٍ " واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37].
وكان الطبري يجمع بين الخبرين، ويقول: " إن الله عز وجل حرّم مكة وقضى ذلك، ولم يتعبد الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم / أن يتعبد الخلق بذلك فأجابه. فإبراهيم كان سبب تعبد الخلق بتحريمها والتعبد بذلك، والله تعالى قد حرّمها يوم خلق السماوات والأرض ".
وقوله: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37]. معناه الذي حرمته عندك، ولم تتعبد الخلق به. وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم / لما دعا فقال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} أجاب الله عز وجل دعاءه: فبعث جبريل عليه السلام إلى الشام، فاقتلع منها الطائف من موضع الأردن ثم(1/435)
طاف بها حول الكعبة أسبوعاً، ولذلك سميت الطائف. ثم أنزلها تهامة ولم يكن يومئذ بمكة غير إسماعيل صلى الله عليه وسلم، ثم نزلت جرهم مع إسماعيل صلى الله عليه وسلم بمكة، فلم يزالوا على الإسلام حتى نشأ عمرو بن [لحي الجرهمي فَغَيَّرَ] دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعَبَدَ الأصنام، وسَيَّبَ السوائب، وبَحَّرَ البحيرة وحَمَى الحامي، وَوَصَلَ الوصيلة، وغلب مكة، وقهر أهلها. وهم ولد إسماعيل صلى الله عليه وسلم - وهو [الذي قال فيه النبي عليه السلام]: " رَأَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ يَجرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ " أي: أمعاءه.
قوله: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}.
ذلك إخبار من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم قاله أبي بن كعب. أي: أنا أرزق البر والفاجر فأمتع الفاجر قليلاً.
وقال ابن عباس: " هو من قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يرزق من كفر فيمتعه قليلاً ".(1/436)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
ويجب على هذا التأويل وصل ألف " أَضْطَرُّهُ "، وفتح ألفَ أُمتِّعُهُ ". ويجب أيضاً بناء الفعلين / على السكون لأن طلب كالأمر، ولأنه؟ سؤال من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لله عز وجل. وإن كان الخبر من عند الله سبحانه كانت الألف في " أمتعه " ألف المتكلم، وكذلك هي في " أضطره "، ويرتفع الفعلان لأنهما إخبار عن الله جل ذكره.
ومعنى: {أَضْطَرُّهُ} أكرهه وألجئه إلى ذلك.
قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت}.
القواعد أساس البيت.
قال عطاء: هي قواعد آدم صلى الله عليه وسلم كانت قد اندرست وخفي أثرها فبوأها الله [إبراهيم. قال عطاء: قال آدم] حين أهبط: ربي إني لأسمع أصوات الملائكة. قال: بخطيئتك، ولكن اُهبط إلى الأرض فابْنِ لي بيتاً، ثم احفُف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فبناه من خمسة أجبل، من حراء، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وأبي قبيس ".
وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " أهبط الله مع آدم صلى الله عليه وسلم من السماء إلى الأرض بيتاً يطاف به كما يطاف بعرشه في السماء. ثم رفعه أيام الطوفان، فرفع إبراهيم(1/437)
صلى الله عليه وسلم قواعد ذلك البيت. فكانت الأنبياء عليهم السلام يحجونه ولا يعلمونه حتى بوأه الله إبراهيم فأعلمه مكانه ".
وقال عطاء: لمَّا أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض، وأهبط طوله أي: نقص، شكا أنه استوحش لِفَقْدِ أصوات الملائكة، فَوُجه إلى مكة / فكان موضع قدمه قَرْية، وما بين / القدمين مفازة، فأنزل الله عز وجل عليه ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت في موضع البيت. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الطوفان، فرفعت إلى أن بعث الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم فبناه ".
/ وقال مجاهد: " لما أراد الله خلق الأرض علا الماءَ زبدةٌ حمراء أو بيضاء كهيئة القبة، ثم دحا الأرض من تحتها، وبقيت تلك الزبدة ربوة حتى بوأها الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم فبناه على أساسه، وأساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة ".
وقال ابن عباس: " وضع البيت على أركان الماء؛ أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ".(1/438)
وفي حرف ابن مسعود: " وإسماعيل يَقُولاَنِ: رَبَّنَا " فدل على أنهما جميعا دَعَوا. وقيل: القائل هو إسماعيل صلى الله عليه وسلم وحده. والمعنى إذ يقول إسماعيل " ربنا ".
قال ابن عباس، " كان إبراهيم يبني، وإسماعيل ينقل الحجارة، فلما انتهى إلى موضع الحجر قال لإسماعيل: جئني بحجر حسن يكون عَلَماً للناس. فذهب إسماعيل فأتى بحجر فقال له: جئني بأحسن من هذا. فمضى إسماعيل صلى الله عليه وسلم يطلب فنادى أبو قبيس: " يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فَخُذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان قد نزل به آدم عليه السلام من الجنة ".
وروي أن أبا قبيس جبل هاجر من خراسان إلى مكة. وقال النبي [عليه السلام]
" الحَجَرَ يَاقُوتَةٌ / مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ [بَيْضَاءٌ، وَلَولاَ مَا لاَمَسَهُ] مِنْ أَجْنَاسِ المُشْرِكينَ وَأَرْجَاسِهِمْ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلاَّ شَفَاهُ اللهُ عز وجل ".(1/439)
وقال عليه السلام: " الحَجَرُ يَمينُ اللهِ يُصَافِحُ بِهِ عِبَادَهُ وَلَيَأْتِيَنِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالمَقَامُ، وَلَهُمَا لِسَانَانِ وَشَفَتَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ وَافَاهُمَا بِالوَفَاءِ ".
وذكر السدي أن إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لما أرادا البناء لم يدريا أين البيت. فبعث الله عز وجل ريحاً يقال لها الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، فوضعا المعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26]، فلما بلغا في البناء إلى الركن قال إبراهيم لإسماعيل: اطلب لي حجراً حسناً أضعه هنا. قال: يا أبت. إني كسلان تعب. قال: على ذلك. فانطلق يطلب [حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا، فانطلق [يطلب حجراً] وجاء(1/440)
جبريل [عليه السلام] بالحجر الأسود / وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة وكان آدم صلى الله عليه وسلم هبط به من الجنة فاسودّ من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل صلى الله عليه وسلم بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: جاء به من هو أنشط منك فبنياه ".
وقال عبيد بن عمير الليثي: أتى إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام / يَبْرَى نبلاً قريباً من زمزم، فلما رآه [قام إليه]، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله [جل وعز] أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني / هاهنا بيتاً - وأشار إلى الكعبة مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت،(1/441)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
فكان إسماعيل صلى الله على محمد [و] عليه وسلم يأتي بالحجارة وإبراهيم صلى الله عليه وسلم يبني، حتى ارتفع البناء، فجاء بهذا الحجر يعني المقام، فقام [عليه إبراهيم] يبني، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}.
فمعنى الآية: أنها خبر من الله عز وجل عن إبراهيم وإسماعيل صلى الله على محمد و [عليهما وسلم] وما كانا يفعلان في بناء البيت، وما كانا يقولان وهما يبنيان.
وقوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}.
أي: خاضعين لأمرك، مستسلمين لك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً، فالمسلم الذي قد استسلم لأمر الله [ عز وجل] . والمؤمن هو الذي أظهر القبول لأمر الله سبحانه فأضمر مثل ذلك.
فأما قوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فمعناه ولكن(1/442)
قولوا: خضعنا وأظهرنا الإسلام. فالمسلم على ضربين: مسلم أظهر مثل ما أضمر / فهذا مؤمن مسلم، ومسلم يظهر غير ما يبطن، فهذا غير مؤمن. إنما هو مستسلم في الظاهر ولذلك قال لهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي: إنما أظهرتم الإسلام خشية القتل، ولم يدخل في قلوبكم منه شيء.
وقوله في الدعاء: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}.
دخول " مِنْ " يدل على التخصيص لبعض الذرية، لأن الله تعالى قد أعلم إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن من ذريته من لا يناله عهده لظلمه وفجوره. فخص إبراهيم عليه السلام بدعوته، ولم يعم لما تقدم عنده من الخبر عن الله تعالى.
والأمة هنا عني بها الجماعة.
وتكون الأمة الإمام كقوله في إبراهيم صلى الله عليه وسلم { كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، أي: إماما يقتدى به.
وتكون الأمة السنين كقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ} [هود: 8]، أي: إلى سنين.
وتكون الأمة الملة كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. أي: على ملة ودين.(1/443)
وقيل: الأمة هنا محمد وأمته صلى الله عليه وسلم.
[ قوله] / {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}.
يعني [محمداً عليه السلام].
وقول إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} يدل على أن الإسلام والإيمان سواء، إذ لم يسألا إلا أعلى الرتب وأشرف المنازل، وهو الإيمان الذي هو الإسلام.
[قال] مالك: " لما وقف إبراهيم على المقام أوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك وهو قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ} إلى قوله: {لَمِنَ الصالحين}. معناه أظهر لأعيننا مكان المناسك ان جعلته من رؤية العين.
وقيل: معناه عَلِّمناها وعَرِّفناها.
والمناسك: مناسك الحج ومعالمه.
وقال قتادة: " فأراهما / الله مناسكهما بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات، ومن جمع، ورمي الجمار حتى أكمل لهما الدين ".(1/444)
/ قال السدي: " لما فرغ إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى محمد من بنيان البيت، أمره الله [أن] ينادي، فقال: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} [الحج: 27]، فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل شيء سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك، لبيك - أجابوه بالتلبية -: لبيك اللهم لبيك، فأتاه من أتاه.
وأمره الله عز وجل أن يخرج إلى عرفات، ونعتها الله له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار اللعين فوقع على الجمرة الثانية [أيضاً فصده]، فرماه وكبّر فطار اللعين فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر. فلما رأى أنه لا يطيقه(1/445)
انطلق حتى أتى ذا المجاز، ولم يدر إبراهيم صلى الله عليه وسلم أين يذهب فلما أتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ذا المجاز لم يعرفه فجازه، فسمي ذا المجاز. ثم انطلق، حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها إبراهيم صلى الله عليه وسلم عرف النعت، فقال: قد عرفت، فسمى ذلك المكان عرفات. فوقف إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعرفات حتى إذا أمسى ازدلف بجمع، فسميت المزدلفة. فوقف بجمع ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أولاً فرماه بسبع حصيات، سبع حصيات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج ".
وقيل: المناسك المذابح. فالمعنى على هذا: وأرنا كيف ننسك لك يا رب نسائكنا، فنذبحها لك.
قال عطاء: " مناسكنا ذبحنا ". وعنه: " مذابحنا ". وكذلك قال مجاهد.
وقيل: مناسكنا متعبداتنا. ومنه قيل للعابد ناسك.
/ قال ابن عباس: " لما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " { رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، أتاه [جبريل صلى الله عليه وسلم](1/446)
وعلى محمد بهذا الحجر من الجنة الذي يقال له المقام - وهو ياقوتة بيضاء - فأقامه عليه. ثم رفعه إلى السماء حتى أشرف به على البلاد كلها. فأراه أعلام الحرم وجميع مناسك الحج كلها / عرفات، والمزدلفة، ومنى، وجميع المناسك. ثم قال له: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج}.
وواحد المناسك منسك مثل " مسجد ".
/ وقيل: منسك وكان يجب أن يكون على " مَنْسُك " بالضم لأنه من " فَعَلَ يَفْعُلُ " إلا أنه ليس في الكلام " مَفْعُلُ ".
وقيل: المنسك الموضع الذي ينسك فيه لله عز وجل، ويتقرب فيه إليه سبحانه بما يرضيه من الأعمال الصالحة.
وأصله الموضع الذي يعتاده الإنسان يفعل فيه الخير، ولذلك [قيل: مناسك الحج لأنها مواضع] قد اعتادها الناس لفعل الخير.
ثم قال: {وَتُبْ عَلَيْنَآ}.
التوبة الرجوع من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد / إلى ربه رجوعه مما هو عليه من المكروه بالندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ترك العمود فيه.(1/447)
وتوبة الرب سبحانه على عبده عوده عليه بالعفو عنه عن جرمه وذنبه.
- فإن قيل: وهل كانت لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟.
- فالجواب: أنه ليس أحد من خلق الله عز وجل إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه عز وجل ما يجب عليه الإنابة [منه والتوبة، فخصا] الموضع الذي كانا فيه بالدعاء ليستجاب لهما على طريق التبرك به، وليكون دعاؤهما في ذلك المكان سُنة لمن بعدهما، وليتخذ الناس بعدهما تلك البقعة موضع تنصل من الذنوب ورجوع عن المكروه.
وقيل: عَنَيا بقولهما: {وَتُبْ عَلَيْنَآ}: وتب على الظلمة من ذريتنا الذين أعلمتنا أن منهم ظالماً.
وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم}.
معناه إنك أنت العائد في الفضل على عبادك، المتفضل بالغفران لذنوبهم، الرحيم بهم.
ثم قال: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ}.(1/448)
هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي [عليه السلام يقول]: " أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْراهيمَ وَبُشْرَى عِيسَى ".
قال قتادة: " [فأجاب] الله دعوتهما، فبعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو محمد صلى الله عليه وسلم " قال الربيع: / " فقيل لإبراهيم: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان ".
وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك}.
من نعت الرسول. أي: يقرأ عليهم كتابك، وكذلك {وَيُعَلِّمُهُمُ} {وَيُزَكِّيهِمْ}، كله من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم.
والكتاب القرآن.
قال قتادة: " الحكمة: السنة ".(1/449)
وقال ابن وهب: " قلت لمالك: ما الحكمة؟ فقال: المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له ".
وقال ابن زيد: " الحكمة. العقل في الدين ".
ومعنى {وَيُزَكِّيهِمْ}: ويطهرهم من الشرك بك ويكثرهم بطاعتهم لك.
ثم قال: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}.
أي: أنت القوي الذي لا يعجزه شيء المنيع الغالب. وأصل العزة المنع والغلبة، والعرب / تقول: " مَنْ [عزّ بَزّ] "، أي: من غلب استلب.
وقولهم: " أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ "، أي: غلبتك وظفرك.
والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال الطبري: " الحكيم ذو الحكمة ".
وقيل: " الحكيم الحاكم ".(1/450)
وقيل: " الحكيم: معناه المحكم، أي المحكم ما خلق ".
وقال ابن عباس: " العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ".
ثم قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}.
أي: ومن يزهد في دين إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه ورغب عن ملته. واتخاذ اليهودية والنصرانية بدعة ليست من عند الله، هذا معنى قول قتادة والربيع.
وقيل: المعنى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها.
قال ابن زيد: " {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}: معناه من أخطأ حظّه ".(1/451)
ومذهب الفراء أن " نفسه " منصوب على التفسير مثل " ضِقْتُ بهِ ذَرْعاً ".
قال: وهو من المعرفة كالنكرة، ولا يجوز أن يكون التمييز / معرفة عند البصريين ومثلها عنده: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]. ولا يجوز عند الفراء التقديم.
وقال الكسائي وهو أحد قولي الأخفش - / المعنى: إلا من سفه في نفسه، فلما حذف الحرف نصب. ويُجيزان التقديم.
ومذهب أهل التأويل أن معناه: سفه نفسه. فهو مفعول به.(1/452)
وقال يونس: " أراها لغة ".
وقال أبو عبيدة: " معناه: [أهلك نفسه ".
ومذهب] البصريين أنه مثل: " ضرب فلان الظهر والبطن " أي: في الظهر [والبطن] فلا حذف في نصبه. كذلك معناه: سفه في نفسه، ثم نصب لما حذف " في ".
" وقال الزجاج ": معناه: جهل نفسه ". فهو مفعول به عنده بجهل " أي: لم يفكر في نفسه. فالسفه والجهل سواء.(1/453)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
وقيل: التقدير إلا من جهل رأي نفسه وقول نفسه، ثم حذف، مثل: / {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقيل: التقدير، إلا من جهل قولُه نفسه، ثم حذف المؤكد وأقام التوكيد مقامه.
ثم قال {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا}.
أي اخترناه للخلة والإمامة.
[ثم قال]. {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}.
أي: وإن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لمن المؤدين حقوق الله. وتقدير تعلق حرف الجر: " وإنه صالح، في الآخرة، لمن الصالحين "، ثم حذف.
وقيل: إنه متعلق بالصالحين، والألف واللام ليستا بمعنى " الذي "، ولكنه اسم على حدته كالرجل والغلام.
قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} إلى قوله {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.(1/454)
أي واذكروا إذ قال له ربه أسلم، أي أخلص لي العبادة والطاعة.
{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين}: أي قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم [ و] على محمد مجيباً لربه عز وجل: خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لِمالِك جميع الخلق. ومدبرهم.
ويجوز أن يكون العامل في: {وَلَقَدِ اصطفيناه} أي ولقد اخترناه في الدنيا إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت، وهذا كان منه حين قال: {ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً} [الأنعام: 78 - 79].
قال الطبري: " وذلك في الوقت الذي قال له ربه فيه: أسلم، من بعد ما امتحنه بالكوكب والقمر والشمس ".
ثم قال تعالى: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}.
أي: وأوصى بقوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} إبراهيم - صلى الله عليه وسلم [ و] على محمد - بنيه، وأوصى بها يعقوب صلى الله عليه وسلم [ و] على محمد [بنيه].(1/455)
والهاء في " بها " تعود على كلمة الإسلام وهي قوله: {أَسْلَمْتُ}.
وقيل: تعود على الملة، وكلمة الإسلام أقرب إليها.
[وقيل: بل] أوصاهم باتباع الملة، ف " يعقوب " على هذا معطوف على " إبراهيم ".
وقيل: إن يعقوب مرفوع بإضمار فعل. والتقدير " وقال يعقوب: يا بني إن الله ".
والمعنى في " أَوْصَى " عهد إليهم بذلك، وأمرهم به.
قال ابن عباس: " وصّاهم بالإسلام ".
وفي التشديد في " وصَّى " معنى تكرير الوصية.
وقوله: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين}.
معناه: اختاره لكم. ودخلت الألف واللام في " الدين " لتقدم علمهم به(1/456)
وتكرير الوصية عليهم.
ثم قال: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ}.
أي: فاتقوا الله أن تموتوا إلا على الإسلام.
والمعنى: لا تفارقن هذا الدين أيام حياتكم لأن أحداً لا يدري متى تأتيه منيته، فلذلك قال لهم: لا تموتن إلا وأنتم مسلمون، لأنكم لا تدرون متى يأتيكم الموت، ولم ينههم عن الموت / لأن ذلك ليس إليهم.
وقيل: المعنى: الزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين.
وعرف المعنى كما عرف في قول العرب / " لا أَرَيَنَّكَ هَا هُنَا ". فالنهي في اللفظ للمتكلم، وفي المعنى للمتكلم أي: لا تكن ها هنا، فإنه من يكن ها هنا أراه.
قال الأخفش: " {بَنِيهِ}، قطع، ثم يبتدئ: {وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ}، أي: وقال يعقوب: يا بني ".
وقال أبو حاتم وغيره: " الوقف {وَيَعْقُوبُ}، ثم يبتدئ {يَابَنِيَّ} ". أي:(1/457)
وقال كل واحد منهما: {يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين}.
ثم قال: " عز وجل { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت}.
{أَمْ} بمعنى الألف، أي: أكنتم حاضرين يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم / إذ نزل بيعقوب الموت حين قال لبنيه: ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وهو جده - وإسماعيل - وهو عمه - وإسحاق - وهو أبوه - صلوات الله عليهم [و] على محمد.
وقدم إسماعيل لأنه أكبر من إسحاق.
{إلها وَاحِداً}؛ أي: معبوداً واحداً، لا نشرك به شيئاً.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: أي: خاضعون متذللون بالعبادة له.
وروي أنه لم يقبض الله نبياً قط حتى يخيّره بين الموت والحياة، فلما(1/458)
خيّر يعقوب عليه السلام قال: أنظرني / حتى أسأل ولدي، وأوصيهم ففعل الله ذلك. فجمع يعقوب ولده وهم إثنا عشر - وهم الأسباط -، وجمع أولادهم فقال لهم: إنه قد حضرتْ وفاتي، وأنا أريد أن أسألكم وأوصيكم: فما تعبدون من بعدي؟ فأجابوه بما حكى الله تعالى عنهم، فدعا لهم ثم قبضه الله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين وعلى محمد.
فمعنى الكلام: إنكم يا أهل الكتابين لم تحضروا ذلك - ولا شاهدتموه فكفرتم بغير علم ولا يقين فادَّعَيْتُمْ على أنبياء الله الأباطيل ونحلتموهم إلى اليهودية والنصرانية، وإنما بعثهم الله [بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصّوا بنيهم] فلو حضرتم ذلك وسمعتموه لعلمتم أنهم على غير ما تنحلونهم من الدين.
وهذه الآيات نزلت تكذيباً من الله لليهود والنصارى في دعواهم إبراهيم / ويعقوب أنهما كانا على ملتهم.(1/459)
وقرأ يحيى بن يعمر والحسن وأبو رجاء والجحذري " وإله أبيك " بلفظ التوحيد. فيحتمل أن يكون جمعاً مسلماً، فيكون كالقراءة التي عليها الجماعة. ويحتمل أن يكون موحداً وإبراهيم بدل منه وإسماعيل وإسحاق عطف على الأب وهما في القول الأول بدل الجمع الذي قبلهما.
وجمع " إبراهيم " وإسماعيل " عند سيبويه والخليل: " بَرَاهيمُ " و " سَمَاعِيلُ ".
وحكى الكوفيون " بَرَاهِمَةٌ " و " سَمَاعِلَةٌ "، فالهاء بدل من الياء كزنادقة وزناديق.
وجمعهما عند المبرد: " أَبَارِهٌ " و " أَسَامِعٌ " و " أَبَارِيهٌ " و " أَسَامِيعٌ ". قال: لأن الهمزة ليس هذا موضوع زيادتها.(1/460)
وأجاز أحمد بن يحيى: " بِرَاهٌ " / كما يجوز في التصغير " بُرَيْهٌ ".
وجمع إسحاق أَسَاحِيقٌ. وحكى الكوفيون أَسَاحِقَةٌ وأَسَاحِيقٌ وَيَعْقُوبٌ وَيَعَاقِيبٌ، وَيَعَاقِبَةٌ وَيَعَاقِبٌ ".
ولا يجوز عند أحد حذف الهمزة من " إسرائيل "، ويقال في جمعه: " أساريل ".
وحكى الكوفيون " أَسَارِلَةٌ " و " أَسَارِلٌ "، وجمعه كله مسلماً أحسن.
وقوله: {إلها وَاحِداً}.
نصب على الحال أو على البدل من " إله " الأول.
فإذا كان حالاً كان تقديره: نعبد إلهك في حال انفراده ووحدانيته.
وأجاز يعقوب الوقف على {آبَائِكَ} ويبتدئ: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}، ينصب(1/461)
ذلك على إضمار فعل.
ومن قرأ (أَبِيكَ) بالتوحيد وقف على (إِسْحَاقَ).
ثم قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}.
أي: قد مضت، أي: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم وعلى محمد، وولدهم / قد مضوا، فَدَعُوا ذكرهم والكذب عليهم يا معشر اليهود والنصارى، ولا تنحلوهم الكفر واليهودية والنصرانية. والأمة الجماعة هاهنا.
وإنما قيل لمن مضى وانقرض: " قد خلا " لتخليه من الدنيا وانفراده من الإنس والبشر. وأصله: من " خَلاَ الرَّجُلُ " إذا صار بالمكان الذي لا أنيس به.
ثم قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي: عملت.
{وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
أي: لا تؤاخذون بذنوبهم ولا يؤاخذون بذنوبكم، فدعوا ما تنحلونهم من الأديان.(1/462)
قال الأخفش: " {قَدْ خَلَتْ} وقف التمام ".
وقال أبو حاتم: " {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذا الوقف الكافي الحسن ".
ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ}.
أي: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا.
وقال بعض العلماء: " أو " هذه [يقال لها المصنفة] ليست التي للتخيير ولا للإباحة ولا للشك ".
والمعنى: " وقال صنف: كونوا هوداً، وقال صنف: كونوا نصارى. وروي أن ابن صوريا الأعور قال لرسول الله [عليه السلام] ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتّبِعنا يا محمد تهتدي. وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل هذه الآية، ثم قال(1/463)
لرسوله عليه السلام: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}، أي: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً لأن معنى {كُونُواْ هُوداً}: اتّبعوا دين اليهودية]. والتقدير: بل نتبع أهل ملة إبراهيم.
وقال أبو عبيدة: " هو نصب على الإغراء، و {حَنِيفاً} نصب على الحال ".
وقيل: على " أعني "، لأن الحال لا يكون من المضاف إليه.
وقوله: {هُوداً} جمع هائد كحالٍ وحُولٍ.
وقيل: هو مصدر يؤدي عن الجمع كقولك: " قوم صُومٌ "، و " قوم عدلٌ "، فيكون / المعنى ذوي هود.
وقيل: الأصل يهود ثم حذفت الياء.
ومعنى {حَنِيفاً} / مائلاً عن الكفر إلى الإيمان.
وقيل: الحنيف الحاج.
وقيل: الحنيف المخلص.
ثم قال: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.(1/464)
أي: لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان.
قال ابن / مسعود: " سميت اليهود يهوداً لقول موسى صلى الله عليه وسلم { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156].
وسميت النصارى نصارى لقول عيسى صلى الله عليه وسلم: { مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52].
تم الجزء [الثالث](1/465)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قوله {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إلى قوله {عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} معناه: قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا: " آمنا بالله "، أي: صدقنا به، وصدقنا بما أنزل إلينا وهو القرآن، وبما أنزل إلى إبراهيم وإلى إسماعيل وإلى إسحاق وإلى يعقوب وإلى الأسباط، وهم اثنا عشر ولداً ليعقوب أنبياء كلهم، ولد كل واحد منهم أمة من الناس فسموا الأسباط.
والسبط في اللغة الشجرة. أي: هم في الكثرة مثل الشجر.
قال ابن عباس: " كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح ولوط وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وعيسى صلى الله عليهم / أجمعين ".
ثم قال: {وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى}.
أي: وصدقنا بما أوتي موسى وعيسى، يعني: التوراة والإنجيل، وصدقنا بما أوتي النبيون من ربهم يعني: من [الكتب، كل ذلك حق] {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} أي: لا نفرق بين أحد من النبيين فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن(1/466)
بالكل وبما جاء به الكل.
وقال ابن عباس ووهب بن منبه: " الأنبياء كلهم مائة وأربعة وعشرون ألف / نبي كلهم من بني إسرائيل إلا عشرين نبياً. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم أجمعين. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم من بني يعقوب إلا عشرين رسولاً ".
وقال غير ابن عباس مثل قوله وزاد، فقال: " عدد الأنبياء صلوات الله عليهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، ذكر الله منهم في القرآن ستة وعشرين وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون والأسباط واليسع وإلياس ويونس / وأيوب وداود وسليمان وزكرياء وعزير ويحيى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. ومنهم خمسة لم تذكر أسماؤهم وذكروا بغير أسمائهم وهم:
الذي مرّ على القرية قيل هو أرميا، وصاحب موسى وهو الخضر، وقيل(1/467)
إنه ليس بنبي، وثلاثة ذكرهم الله في سورة " يس " ولم يذكر أسماؤهم، فأما ذو القرنين، فأكثر الناس على أنه ليس بنبي. وكذلك اختلف في ذي الكفل.
ثم قال {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
أي: خاضعون بالطاعة لله.
وروى ابن عباس أن النبي [عليه السلام] سأله نفر من اليهود: بمن تؤمن من الرسل؟ فقرأ عليهم الآية. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن بعيسى، فأنزل الله جل ذكره: {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله}
[المائدة: 59] إلى {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
[ثم قال]: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا}.
إي: إن صدقوا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب التي أنزلها الله كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الحق، يعني به اليهود والنصارى.
{وَّإِن تَوَلَّوْاْ}: أي: إن لم يؤمنوا بذلك وأعرضوا، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}: أي: في مشاقة ومباعدة من الحق وفراق له ومحاربة له.(1/468)
وقيل: المعنى: قد صاروا في شق غير شق المسلمين.
والمماثلة في الآية إنما وقعت بين التصديقين، أي: إن صدقوا بمثل تصديقكم وأقروا بمثل إقراركم. ولم يقع التمثيل بين المؤمن به وهو الله عز وجل وسبحانه وتعالى؛ هذا كفر لا يجوز.
فإن قيل: وهل للإيمان مثل، هو غير الإيمان فتصح المماثلة به؟
فالجواب: أنه محمول على المعنى، والتقدير: فإن أتوا بتصديق مثل تصديقكم فقد اهتدوا: أي: صاروا مسلمين. وهذا من كلام العرب، يقول الرجل لمن يتلقاه: " بشر استقبل مثلي بهذا ". وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وتقول: " ليس كربنا شيء "، " وليس كمثل ربنا شيء ". والمعنى سواء. هذا قول أبي حاتم وغيره.
ثم قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} /.
أي: فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء المخالفين لك من اليهود والنصارى إما بقتل وإما بجلاء عن جوارك.(1/469)
{وَهُوَ السميع العليم}: أي يسمع ما يقولون بألسنتهم ويعلم ما يبطنون لك ولأصحابك من البغضاء والحسد. فأنجز الله لرسوله وعده في اليهود وفي غيرهم وكفاه إياهم وسلَّطه عليهم وخذلهم، فقتل بعضاً، وأجلى بعضاً، وأذل بعضاً بالجزية.
ثم قال تعالى: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله}. " صبغة " منصوب على البدل من {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} / فيكون المعنى: " بل صبغة الله "، وذلك / أن النصارى إذا أرادت / أن تنصر أطفالها جعلتهم في ماء لهم يزعمون أن ذلك تقديس " لهم بمنزلة الختانة لأهل الإسلام، ويقولون: إن ذلك صبغة لهم في النصرانية. فلما قالوا للمسلمين: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ وهي الحنيفية المسلمة، لا ما تغمسون فيه أبناءكم.
وأجاز الكسائي نصبه على الإغراء والتقدير: الزموا تطهير الله بالإسلام لا ما تفعله اليهود والنصارى.
وقيل: هو محمول على المعنى لأن معنى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ونحن متبعون صبغة الله.(1/470)
وقال قتادة: {صِبْغَةَ الله}: " دين الله ". وكذا قال ابن عباس وغيره.
قال قتادة: " إن اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام / ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً والأنبياء بعده صلوات الله عليهم ".
وقال مجاهد: " صبغة الله: فطرة الله؛ وهي فطرة الإسلام التي فطر الناس عليها ". والفطرة ابتداء ما خلق عليه الخلق وهو الإسلام، ثم غيّروا دين أنبيائهم بدين آخر.
وأصل الصبغ حدوث شيء فكأنهم أحدثوا ديناً غير ما خلقوا عليه. وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}، أي: خاضعون في اتباع أمره وتصديق كتبه ورسله.
ثم قال تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}، أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتخاصموننا في دين الله وهو معبودنا ومعبودكم وإلهنا وإلهكم واحد،(1/471)
ونحن له مخلصون العبادة والطاعة، وأنتم قد عبدتم معه غيره، عبدت اليهود العجل، وعبدت النصارى المسيح. فكيف تخاصموننا وتزعمون أنكم أولى به منا وقد عبدتم غيره ونحن أخلصنا العبادة له.
ثم قال: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} إلى قوله: {أَوْ نصارى}.
أي: أتقول اليهود: إن هؤلاء الأنبياء كانوا هوداً؟ أو أتقول النصارى: إن هؤلاء الأنبياء كانوا نصارى؟ قل لهم يا محمد: أنتم أعلم أم الله؟ فإن الله قد أعلمنا أنهم على الملة الحنيفية المسلمة. ومن قرأ بالتاء، جعله خطاباً لهم. ومن قرأه بالياء أجراه على الإخبار عنهم.
ثم قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله}.
أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة / عنده من الله. أي: لا أحد أظلم منه.(1/472)
وقيل: عني بذلك كتمانهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. قاله قتادة وغيره.
وقيل: إنما كتموا ما في كتبهم من اتباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن ذُكِرَ معه، وقد علموا أنهم كانوا حنفاء مسلمين فكتموا ذلك. وادّعت اليهود أنهم كانوا يهوداً، وادّعت النصارى أنهم كانوا نصارى، وهم مع ذلك قد علموا أن اليهودية والنصرانية إنما حدثت بعد موت [هؤلاء] الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
والهاء في {عِندَهُ} تعود على الظالم ودل عليه {أَظْلَمُ}.
والأسباط من ولد يعقوب كالقبائل من ولد إسماعيل صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر سبطاً من اثني عشر ولداً ليعقوب عليه السلام.
ثم قال تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
أي: ليس الله بغافل عن فعلكم وكتمانكم / ما قد علمتموه، بل يحصيه عليكم ويجازيكم به.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}.(1/473)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
أي: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء صلوات الله عليهم أمة قد مضت بعملها. لها ما عملت، ولكم ما عملتم.
{وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: أي: لا يسأل أحد عن ذنب أحد.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} إلى قوله: {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
أي: سيقول الجهّال / من الناس وهم اليهود والمنافقون: ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ما حملهم على [ترك التوجه إلى بيت المقدس وما صرفهم] عن ذلك، وذلك حين ترك النبي عليه السلام التوجه نحو بيت المقدس وتوجه إلى الكعبة.
وقيل: هم كفار أهل مكة أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ما هم قائلون عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وأعلمه ما يقول لهم وما يجاوبهم به، فقال: قل يا محمد [إذا قالوا ذلك]: {للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وكان يتمنى أن يصرف إلى الكعبة ثم أراد الله(1/474)
جل ذكره صرف قبلته إلى نحو المسجد الحرام فأخبره عما سيقول المنافقون واليهود وأخبره [ما الذي] ينبغي أن يرد عليهم من الجواب. فلما رده الله تعالى إليها، أتاه نفر من اليهود فقالوا: " يا محمد، ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك / على ملّة إبراهيم ودينه، ارجع إلى قبلتك ونصدقك " يريدون فتنته عن دينه.
وقيل: إنه صلّى إلى بيت / المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة قبل بدر بشهرين. قاله ابن المسيب.
وكان أول صلاة صرف فيها إلى الكعبة العصر، فلما صلاها إلى الكعبة خرج من عنده رجل، فمرّ بقوم يصلون فقال: أشهد، لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت.
وروى أنس بن مالك " أن النبي [عليه السلام] صلّى نحو بيت المقدس تسعة أشهر وعشرة أيام بعد هجرته. قال: فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى(1/475)
ركعتين نحو بيت المقدس، اُنصرف بوجهه إلى الكعبة فقال السفهاء: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}.
وقال معاذ بن جبل: " صلّى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهراً ".
وروي / عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: " صلّى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته نحو بيت المقدس اختياراً منه من غير أن يفرض ذلك عليه طمعاً من أن يستميل اليهود إذ هي قبلتهم، فأنزل الله عز وجل: { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115].
وقال أبو العالية: " ان [نبي الله عليه السلام] خُيِّر أن يُوجِّه وجهه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتابيين [وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء، ثم وجّهه الله عز وجل إلى البيت] الحرام ".
وروي أنه صرف في رجب بعد مقدمه المدينة لسبعة عشر شهراً وكان بمكة والمدينة يصلي نحو بيت المقدس.
فلما رجع سأله اليهود أن يرجع إلى قبلتهم يريدون فتنته، وقال كفار مكة: قد برد / أمر محمد وهو راجع إلى دينكم عاجلاً. فأنزل الله في(1/476)
الجميع: {سَيَقُولُ السفهآء}، الآيات إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وروي " أن الأنصار صلّت قبل قدوم النبي عليه السلام إلى المدينة نحو بيت المقدس حولين. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلّى معهم نحو بيت المقدس بضعة عشر شهراً، ثم نقله الله عز وجل إلى الكعبة.
وقال ابن عباس: " لما هاجر [النبي عليه السلام إلى المدينة وكان أكثر أهلها] اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهراً. وكان صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله جلّ ذكره: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} الآية. ورجع النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة فارتاب [من ذلك اليهود]. وقالوا: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}، فأنزل الله عز وجل: { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ} الآية.
وقال ابن جريج: / كان النبي عليه السلام يصلي إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس، وصلّت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث سنين، وصلّى(1/477)
بعد قدومه ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة.
ثم قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}. أي: عدلاً.
أي: كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءكم به من الحق وفضلناكم بذلك، كذلك خصصناكم فجعلناكم أمة عدلاً خياراً. والأمة القرن من الناس.
{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}.
أي: تشهدون / للأنبياء الذين أخبر الله بخبرهم محمداً صلى الله عليه وسلم. فهو عام معناه الخصوص، إذ لم يطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على [جميع النبيين وأخبارهم] بدلالة قوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] فإنما تشهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم الذين أخبر الله نبيه بهم وبكفرهم وجحودهم دون من لم يطلع الله نبيه على خبرهم من أمم الأنبياء صلوات الله عليهم الذين لم يطلع الله نبيه عنهم، ولا أخبره(1/478)
بهم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد للأنبياء الذين أخبر الله بهم النبي صلى الله عليه وسلم على أممها أنها قد بلَّغت ما أرسلت به إلى الأمم.
{وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
بإيمانكم وبما جاءكم به من عند الله.
وقيل: " عليكم " بمعنى " لكم " مثل قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] أي: للنصب.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يُدْعَى بِنُوحٍ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} ".
وفي حديث آخر رواه أبو هريرة: " فَيَقولُ قَوْمُ نُوحٍ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَوَّلُ الأُمَمِ وَهُمْ آخِرُ الأُمَمِ؟ فَيَقولونَ: نَشْهَدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولاً وَأَنْزَلَ عَلَينَا كِتَاباً وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا خَبَرَكُمْ ".(1/479)
وهذا المعنى: أيضاً / مروي عن زيد بن أسلم.
وروي أن أمة محمد [عليه السلام] تقول لهم: " كان فيما أنزل علينا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ / المرسلين} [الشعراء: 105] إلى قوله: {العالمين} [الشعراء: 109]، فكذلك نشهد أنكم كذبتم الرسل. فتشهد للرسل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتبليغ.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِذَا جَمَعَ اللهُ عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَانَ أَوّلُ مَنْ يُدْعَى إسْرَافِيلُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا فَعَلْتَ فِي عَهْدِي؟، هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبّ، قَدْ بَلَّغْتُ جِبْرِيلُ، فَيُدْعَى / جِبْريلُ فَيَقُولُ: قَدْ بَلَّغْتُ الرَّسُلَ. فَتُدْعَى الرُّسلُ، فَيَقُولونَ: قَدْ بَلَّغْنَا الأُمَمَ، فَتُدْعَى الأُمَمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ، فَيَشْهَدُ لِلّرُّسُلِ أمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم / بِالتَّبْلِيغ ".
وروى أشهب عن مالك أنه قال: " ينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله عز وجل. فإن عُصِيَ كان شهيداً على من عصاه ".
قال الله عز وجل: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
وروى أبو عامر " أن أول مَنْ يسأل يوم القيامة من الرسل عن البلاغ(1/480)
نوح صلى الله عليه وسلم، فيقال له: هل بلغت قومك الرسالة؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلّغكم نوح الرسالة؟ فيجحدون؛ فيقولون: لم يبلغنا الرسالة. فيتنحى نوح من بين يدي الله عز وجل. فيكون بفناء العرش كئيباً حزيناً، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم غرّ محجلون من أثر الوضوء، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: ما لك يا شيخ، من أنت؟ فيقول: أنا نوح. فيقولون: ما لَكَ كئيباً حزيناً؟ فيقول: كذبني قومي، فيقولون له: ارجع إلى ربك فنحن نشهد لك بأنك قد بلّغت الرسالة، فيقول لهم: ومن أنتم؟ فيقولون: نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فيقول: كيف تشهدون لي وأنتم آخر الأمم؟ فيقولون: إن نبيّنا أتانا بذلك فيقرأون عليه: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] إلى آخرها، فيرجع نوح إلى الله، فيقول: رب، إن أمة محمد يشهدون لي بالبلاغ. ثم يسأل نبياً نبياً فتجحده أمته فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، فماذا سئل محمد عن البلاغ شهدوا بأن محمداً قد بلّغ الرسالة ".
ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ}.(1/481)
قال ابن عباس: " إلا ليتميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة ". والتقدير: وما جعلنا صرفك عن بيت المقدس إلى الكعبة إلاّ لنعلم علم عيان تجب عليه المجازاة، من يتّبع الرسول على قبلته ممن يرجع عن إيمانه فيخالف الرسول.
وقيل: المعنى: إلا لنُعْلِم / رسولي وأوليائي ذلك.
ومن شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس وحزبه إليه، يقولون: " جبى الأمير الخراج وهزم العدو، وإنما فعله حزبه وأنصاره.
ومثله في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: " مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي " يريد به عباده.
وقيل: " علم " هنا بمعنى " رأى "، فالمعنى: إلا لنرى من يتبع.
وقيل: إنهم خوطبوا على ما كانوا يسرون؛ كان اليهود والمنافقون والكفار ينكرون أن يعلم الله عز وجل الشيء قبل كونه، فيكون المعنى /: إلا لنبين لكم أنّا نعلم(1/482)
الأشياء قبل كونها.
وقيل: إنما قال: " لنعلم " على طريق الرفق بعباده، واستمالتهم إلى الطاعة كما قال: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى} [سبأ: 24]. وقد علم أن محمداً صلى الله عليه وسلم على هدى /، وأن الكفار على ضلال.
فالمعنى: إلا لتعلموا أنتم إذ أنتم جهال به، فأضاف الفعل إلى نفسه، والمراد خلافه رفقاً به.
وقال الضحاك: " قالت اليهود للنبي [عليه السلام]: إن كنت نبياً كما تزعم، فإن الأنبياء والرسل كانت قبلتهم نحو بيت المقدس، فإن صلّيت إلى بيت المقدس، اتبعناك، فابتلاهم الله بذلك. وأمره أن يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه سبعة عشر شهراً، فلم يتّبعوه، ثم صرفه الله عز وجل إلى البيت الحرام فذلك قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} يعني بيت المقدس. {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول}: إلى أي ناحية شاء. {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ}: أي: لنعلم من يؤمن بالرسول من اليهود ومن لا يؤمن.
وقيل: المعنى: وما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن، وهي الكعبة، إلا لنعلم من يتبع الرسول عليها. فكُنْتَ " بمعنى " أنت "، مثل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] أي: أنتم خير(1/483)
أمة. فروي أنه لما استقبل الكعبة أظهر المنافقون نفاقهم [و] قالوا: ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى ها هنا ومرة إلى ها هنا، وقال المسلمون في أنفسهم وفيمن مضى من إخوانهم المسلمين: بَطَل أعمالنا وأعمالهم، / فأنزل الله تعالى ذكره: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم نحو بيت المقدس. وقالت اليهود: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}، وكذلك قال المنافقون، فأنزل الله عز وجل، { قُل للَّهِ المشرق والمغرب} الآية.
وقيل: إن اليهود قالت للنبي [عليه السلام: إن كنت في القبلة] على هدى، فقد حوّلت عنه، وإن كنت على ضلالة، فقد مات أصحابك على ذلك.
فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاة من مات منكم وهو يصلي إلى بيت المقدس. وقال المشركون من أهل مكة؛ تحيّر محمد في دينه. فكان ذلك فتنة للناس واختباراً وتمحيصاً للمؤمنين.
قال قتادة: " صلّت الأنصار حولين نحو بيت المقدس قبل هجرة النبي عليه السلام، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فصلّى نحوها ستة عشر شهراً. ثم وجّهه الله / نحو الكعبة، فقال قائلون من الناس: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}، وقالوا: لقد اشتاق الرجل إلى(1/484)
مولده. فابتلى الله عز وجل عباده بما شاء من أمره فأنزل الله تعالى في اليهود والمنافقين /: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} إلى قوله: {مُّسْتَقِيمٍ}، وأنزل في المؤمنين: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} إلى {رَّحِيمٌ}.
قال ابن جريج: " بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا عن الإسلام حين استقبل النبي الكعبة، وقالوا مرة ها هنا ومرة ها هنا. فأظهر الله لخلقه من يرتد فينافق ويخالف الرسول في القبلة ممن اتبعه وآمن بما جاء به "
ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي وإن كانت التولية لكبيرة.
وقيل: المعنى: وإن كانت القبلة لكبيرة: وإن كانت التحويلة لكبيرة.
وقيل: المعنى: وإن كانت الصلاة إلى بيت المقدس لكبيرة، أي: لعظيمة في صدور الناس حين قالوا: ما لهم صلّوا إلى هاهنا ستة عشر / شهراً ثم انحرفوا،(1/485)
فعظم على قوم ذلك حتى نافقوا وارتدوا وحتى أظهر أهل النفاق نفاقهم.
وقوله: {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله}.
أي الذين وفق الله إلى الحق، فإنهم ثبتوا على إيمانهم، وقبلوا ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
قال ابن عباس: " لما توجّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نحو بيت المقدس؛ فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وهذا معنى قول قتادة وغيره.
وإنما أتى الجواب على الخطاب لهم دون الأموات، لأن الأموات غُيَّبٌ والسائلون عن ذلك مخاطبون. والعرب تغلب المخاطب على الغائب، فلذلك قال: {لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. ولم يقل إيمانهم.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنه قال في قول الله عز وجل: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}: " هي الصلاة إلى بيت المقدس قبل أن تصرف القبلة إلى(1/486)
الكعبة ".
ثم قال: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
أي: إن الله بجميع عباده لذو رأفة ورحمة، فكيف يضيع أعمالهم التي عملوها فلا يثيبهم عليها وكيف يؤاخذهم على ما لم يفترض عليهم.
والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة. وتسمية الله [جل ذكره الصلاة إيماناً في هذه الآية] ردّ على المرجئة الذين يقولون إن الصلاة ليست من الإيمان.
وقال أشهب: " وإني لأذكر بهذه الآية الرد على المرجئة وعلى أن الإيمان في هذه الآية يراد به الصلاة نحو بيت المقدس ". وقاله البراء بن عازب، رفعه إلى(1/487)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن المسيب وزيد بن أسلم / ومالك وغيرهم.
/ قوله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء}.
إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
أي: قد نرى يا محمد تصرف نظرك نحو السماء.
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله الأمر بالتحويل إلى الكعبة.
قال قتادة: " كان النبي [ صلى الله عليه وسلم] يقلّب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله تعالى إلى الكعبة حتى صرفه الله عز وجل إليها ".
وهذا يدل على أنه لم يصلِّ إلى بيت المقدس إلا بوحي، فكان ينتظر متى يؤمر(1/488)
بترك ما أمر به. ولو كان إنما صلّى إلى بيت المقدس باختياره لم ينتظر الأمر فيه، ولرجع إلى الكعبة باختياره أيضاً. وقد قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]. فكيف يأمرهم بالصلاة إلى بيت المقدس من عند نفسه. هذا بعيد.
وقال بعض العلماء: " إنما أحب النبي [عليه السلام] أن يُرَدَّ إلى الكعبة لأن اليهود كانوا يقولون: يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا! / فلما ردّه الله إلى الكعبة انقطع قول اليهود ".
وقال ابن زيد: " قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} فقال النبي [عليه السلام] " هَؤُلاَءِ قَوْمٌ يَهُودٌ يَسْتَقبلُونَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِ الله عز وجل، فَلَوْ أَنَّا اسْتَقْبَلْنَاهَا " فَاسْتَقْبَلَ النبي [عليه السلام] معهم بيت المقدس ستة عشر شهراً، فبلغه أن اليهود تقول: والله / ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء. فأنزل الله عليه {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} الآية ".(1/489)
فهذا يدل على أنه استقبل بيت المقدس من غير أمر أتاه من عند الله، وأنه إنما أتاه من الله الإباحة باستقبال أي موضع شاء. ثم نسخ الله فعله لأنه كان صلى الله عليه وسلم يتبع آثار الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فلذلك صلّى نحو بيت المقدس / مع ما طمع به من استمالة اليهود أن يؤمنوا به.
وقال ابن عباس: " كان النبي عليه السلام لما هاجر إلى المدينة - وكان أكثر أهلها اليهود - أمره الله [جلَّ وعزَّ] أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} إلى {صراط مُّسْتَقِيمٍ}. فهذا يدل على أن الله سبحانه أمره باستقبال بيت المقدس ثم نسخها بالكعبة.
" وروي أن النبي [عليه السلام] كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس مع استقباله(1/490)
الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة صلى نحو بيت المقدس أيضاً / سبعة عشر شهراً، ووقع في نفسه الصلاة نحو الكعبة، فأقبل يقلّب وجهه إلى السماء كيف يستقبل الكعبة. فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لَوَدِدْتُ يَا جِبْريلُ أَنَّ اللهَ صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ إِلَى غَيْرِهَا "، فقال له جبريل عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على الله، فادعه وسله، ثم ارتفع جبريل، وجعل النبي يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل، فأنزل الله جل ذكره: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} الآية ".
وقال إبراهيم بن اسحاق: " أول أَمْر الصلاة أنها فرضت ركعتين بمكة في أول النهار، وركعتين في آخره. فلما كانت ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، أسري به صلى الله عليه وسلم وفرض عليه خمسون صلاة، ثم نقصت إلى خمس صلوات، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم فأمَّهُ عند البيت، فأول ما صلّى به الظهر نحو بيت المقدس مع استقبال الكعبة. ثم قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فصلى إلى بيت(1/491)
المقدس تمام سنة إحدى عشرة وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر ثم حوّلت القبلة في رجب.
وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى.
وقال الواقدي: " في النصف من شعبان صرفت ". فوقع الاختلاف على مقدار اختلافهم في عدة الأشهر التي صلى في المدينة إلى بيت المقدس.
وقيل: إنما نسخ الله باستقبال الكعبة قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]. فأباح له أن يستقبل إلى أي ناحية شاء. ثم نسخ ذلك بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}.(1/492)
وقال ابن عباس: " أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة ".
قال الله عز وجل لنبيه: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}. فصلى نبيه عليه السلام نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} /.
ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: " بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم / إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
وحدث مالك عن ابن المسيب أنه كان يقول: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم(1/493)
المدينة / ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس، ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين ".
وذكر البراء في ذلك كله نحوه.
وقال أنس: " مرّ بهم رجل وهم ركوع نحو بيت المقدس، فنادى: " ألا إن القبلة قد صرفت إلى الكعبة ". فمالوا كما هم ركوعاً ".
قال الواقدي: " صرفت / يوم الثلاثاء للنصف من شعبان سنة اثنتين ".
وقال ابن شعبان: " صرفت إلى الكعبة في رجب ".
وقال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142].
يعنون بيت المقدس، فأنزل الله: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إن الصلاة أول ما فرضت، إنما فرضت ركعتين، ثم أتمّ الله صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاة(1/494)
السفر على حالها ". قال ابن شهاب: فقلت لعروة: فما حمل عائشة على أن تصلي في السفر أربع ركعات؟ فقال عروة: تأولت عائشة في ذلك ما تأول عثمان [بن عفان] في إتمام الصلاة بمنى ".
قال أبو عبيد: تأول عثمان في إتمام الصلاة بمعنى ثلاثة أوجه: فيقال: إنه اتخذ أهلاً بمكة. ويقال: إنه تأول: إني الخليفة فحيثما كنت فهو عملي. والوجه الثالث: أنه بلغه أن أعرابياً صلّى معه ركعتين فظن أن الفريضة ركعتان فانصرف إلى منزله فلم يزل يصلي ركعتين السنة كلها، فلما بلغه ذلك أتم الصلاة. / وأما عائشة رضي الله عنها. فتأولت أنها أم المؤمنين فحيثما كانت فكأنها مع ولدها مقيمة ".
" وروي أن أول من صلى إلى الكعبة من المسلمين بالمدينة البراء بن(1/495)
معرور من بني سلمة، وذلك أنه كان قد بايع النبي [عليه السلام] على العقبة وكان نقيباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي رَمَقْتُكَ فَأُحِبُّ أَنْ تَعُودَ إِليَّ حَتَّى تُهَاجِرَ مَعِي فَتَكُونَ لَكَ مَعَ النَّصْرَةِ هِجْرَةٌ ". فلما توجه إلى المدينة مع السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار على العقبة، مرض بالمدينة فكان يصلي إلى الكعبة لموعدة النبي صلى الله عليه سلم. فلما حضرته الوفاة، قال: اجعلوا مالي ثلاثة أثلاث: ثلثاً لله وثلثاً لرسوله وثلثاً لوليي، وإذا مت فحوّلوا وجهي نحو محمد صلى الله عليه وسلم لموعدي معه. فكان أول من صلى إلى الكعبة، وأول من دفن نحوها، وأول من أوصى بثلثه. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أخبر بوفاته وبالوصية،(1/496)
فقال: " أَمَّا ثُلُثِي فَرَدٌّ عَلَى وَلَدِهِ، وَأَمَّا / [ثُلُثُ الله] فَأُنْفِقُهُ فِي سَبيلِ اللهِ عز وجل ". وكان له ابن صالح من خيار النقباء اسمه بشر بن البراء، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلَمَةَ "
وهو الذي أكل من الشاة التي سمّت للنبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك مات يوم خيبر.
/ وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}: أي: فلنصرفنك إلى قبلة ترضاها وهي الكعبة. ومعنى ترضاها: تهواها وتحبها.
ثم قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}.
أي: نحوه وقصده وتلقاءه.
قال عبد الله بن عمر: " صرفت قبلته حيال ميزاب الكعبة ". وكان يجلس في المسجد الحرام حيال الميزاب، فإذا سئل عن ذلك تلا هذه الآية.
وقال ابن عباس: ولّى وجهه نحن [البيت] كله "، وهو قول أكثر(1/497)
العلماء. وقد قال أسامة بن زيد: " رأيت النبي [عليه السلام] حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال: " هَذِهِ القِبْلَةُ هَذِهِ القِبْلَةُ ".
" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين مستقبلاً باب الكعبة وقال: " هَذِهِ القِبْلَةُ "، مرتين. "
ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}.
أي: وأينما كنتم أيها المؤمنون فولّوا وجوهكم بصلاتكم نحو المسجد الحرام.
فالهاء في " شَطْرِهِ " عائدة على المسجد الحرام.
فأوجب الله بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث ما كانوا من الأرض.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ}.
أي: وإن أحبار اليهود وعلماء النصارى ليعلمون أن التوجه نحو المسجد(1/498)
الحرام الحق الذي فرض الله على إبراهيم [عليه السلام] وذريته وسائر عباده بعده، فرض ذلك عليهم.
قال قتادة والضحاك: " يعرفون أن القبلة هي الكعبة ".
قال الضحاك: " كمعرفتهم أبناءهم ".
والهاء في " أنه " تعود على التولية إلى الكعبة، ودل على التولية قوله: {فَوَلِّ}.
وعن الكسائي أنه قال: " الهاء تعود على الشطر ".
ثم قال: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
من قرأ بالتاء رده على الخطاب في قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}. ومن قرأه بالياء رده على الإخبار / عن الذين أوتوا الكتاب لتقدم ذكرهم.
ثم قال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ}.(1/499)
أي: ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة بأن الحق ما جئتهم به من فرض التحول إلى المسجد الحرام، ما صدقوا به ولا اتبعوه مع قيام الحجة عليهم.
وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}.
أي: ما لك من سبيل يا محمد إلى / اتباع قبلتهم لأن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، والنصارى تستقبل / المشرق. فمن أين يكون لك يا محمد السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها، فالزم ما أمرت به من استقبال المسجد الحرام.
ثم قال: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}.
أي: وما اليهود بتابعين قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعين قبلة اليهود. قاله السدي وغيره.
وقيل: معناه: وما الذين اتبعوك من اليهود بتابعين قبلة من لم يتبعك، ولا الذين لم يتبعوك بتابعين قبلة من اتبعك منهم. وقال السدي: " أنزل الله تعالى هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حوّل إلى الكعبة قالت اليهود: إن محمداً اشتاق إلى قبلة إبراهيم ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو / صاحبنا الذي ننتظره، فأنزل الله عز وجل: { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} إلى قوله: {لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.(1/500)
وهو قول ابن زيد.
ثم قال: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}.
أي: ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: {كَانَ / هُوداً أَوْ نصارى}، فاتبعت قبلتهم من بعد ما جاءك من العلم أنهم على باطل وعلى عناد للحق، وأنهم يعرفون أن الحق ما أنت عليه إنك إذاً لمن الظالمين لنفسك.
وهذا خطاب للنبي [عليه السلام] ولسائر أمته.
وقيل: المراد به أمته.
ثم قال: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب}. يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى.
{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} أي: يعرفون أن البيت الحرام هو قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومَن قبله مِن الأنبياء كما يعرفون أبناءهم.
هذا قول قتادة وهو قول ابن عباس والربيع والسدي وابن زيد وابن جريج.
وعن قتادة أيضاً: {يَعْرِفُونَهُ} أي: يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم أنه نبي كما يعرفون(1/501)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
أبناءهم. وهو قول الزجاج.
والهاء في {يَعْرِفُونَهُ} على القول الأول تعود على الشطر أو على التولية. وعلى القول الثاني تعود على محمد صلى الله عليه وسلم ويكون التأويل: " يعرفونك يا محمد ". لكن صرف الكلام من المخاطبة إلى الغيبة على مذهب العرب.
وقال مقاتل: " الهاء في (يَعْرِفُونَهُ) تعود على البيت الحرام ".
ثم قال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
أي وإن / طائفة من اليهود والنصارى ليكتمون أن القبلة هي المسجد الحرام وهم يعلمون أنها حق.
وقال قتادة وغيره: " يكتمون أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه حق يجدونه في التوراة والإنجيل ".
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} إلى قوله: {وأولئك هُمُ المهتدون}.
أي: هذا الحق من ربك.
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي: لا تكونن من الشاكين أن القبلة التي وجهت إليها هي الحق وهي قبلة إبراهيم والأنبياء غيره صلوات الله عليهم.(1/502)
وهذا خطاب للنبي [عليه السلام] والمراد به أمته.
ثم قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}.
" هو " يرجع إلى " كُلٍّ ". والهاء في " مُوَلِّيها " ترجع إلى القبلة. وقيل: " هُوَ " يرجع إلى الله جل ذكره.
فأما من قرأ " هو مُوَلاَّها "، فهو يرجع إلى " كُلٍّ " لا غير.
قال مجاهد: " معناه: ولكل صاحب ملة قبلة ". يعني لليهود قبلة وللنصارى قبلة.
قال ابن عباس: " يعني بذلك أهل الأديان؛ لكل أهل دين قبلة يرضونها. ووجهة الله عز وجل حيث توجه المؤمنون ".(1/503)
وقال الضحاك: " معناه ولكل صاحب ملة قبلة، وصاحب القبلة يولِّيها وجهه ".
وقال السدي: " المعنى ولكل قوم قبلة قد ولّوها ".
والمعنى عند أهل العربية، هو موليها نفسه / أو وجهه.
فأما من قرأ: " مُوَلاَّهَا " فالضمير على هذه القراءة لواحد، أي: ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها، أي: مصروف إليها.
وقال الأخفش: " المعنى: موليها الله إياه على ما يزعمون " / يريد على قراءة موليها.
وقال علي بن سليمان: " المعنى هو متوليها، والوجهة والجهة والوجه واحد ".
وعن قتادة في قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا}، قال: " هي صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة ".(1/504)
فيكون التقدير على هذا: ولكل ناحية وَجَّهَكَ إليها ربُّك يا محمد قبلةُ الله مولِّيها عباده ". وهو قول الأخفش الذي تقدم.
ومعنى " مولِّيها " مول وجهه إليها ومستقبلها.
وقال الطبري: " التولية في الآية للكل، ووُجدت للفظ " كل "، قال: " فمعنى الكلام: ولكل أهل ملة وجهة، الكل موليها وجوههم. قال: وأما قراءة ابن عامر فمعناه: هو موجَّه نحوها، ويكون الكل حينئذ غير مسمى فاعله، ولو سمي فاعله لكان الكلام: ولكل ذي ملة وجهة، الله موليها إياه بمعنى موجهه إليها.
ورويت قراءة شاذة بإضافة " كل " إلى " وجهة "، وهي قراءة / لا تجوز لأنه لا فائدة في الكلام إذا لم يتم الخبر ".
ولو ثَنيتَ على قراءة الجماعة لقلت: " هُمَا مُوَلِّياهَا "، وفي الجمع [هُمْ مَوَلُّوهَا](1/505)
وعلى قراءة ابن عباس / في التثنية " هُمَا مُوَلَّياهَا ".
وفي الجمع [هُمْ مُوَلَّوْهَا]. فإن جئت بالمفعول الثاني في قراءة الجماعة، قلت في التثنية: " هُمَا [مُوَلِّياهَا هُمَا] وفي الجمع: " هُمْ مُوَلُّوهَا هُمْ ".
ثم قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}.
أي: بادروا إلى عمل الصالحات واستقبال ما أمركم الله عز وجل باستقباله وهو المسجد الحرام.
ثم قال: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً}.
أي: في أي مكان تكونون بعد موتكم يأت بكم الله جميعاً يوم القيامة.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: على جمعكم بعد مماتكم وغير ذلك قدير.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} الآية.
وقد تقدم شرحه ووقع التكرير للإفهام، ولئلا يصل ذلك إلى بعض دون بعض فكرر الله التأكيد ليصل إلى الجميع.
ثم قال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.
الناس هنا: مشركو العرب. والمعنى: عرفناكم أن لكل وجهة موليها لئلا(1/506)
يكون لمشركي العرب حجة أي: خصومة / ودعوى باطل [إلا لمشركي] قريش فإن [لهم عليكم] دعوى باطلة وخصومة بغير حق لقولهم لكم: رجع [محمد إلى] قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا. هذا معنى قول مجاهد.
وقال قتادة: " هم مشركوا العرب، قالوا لمشركي قريش حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم ".
قال الله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني}.
وعن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب النبي [عليه السلام] أنه لما صرفت القبلة نحو الكعبة قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلاً، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله فيهم: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني}.
وهو قول عطاء والسدي وغيرهما. فهو على هذا التاويل استثناء صحيح،(1/507)
وهو مذهب الطبري، قال: " نفى الله جل ذكره أن يكون لأحد من الناس حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقباله الكعبة إلا مشركي قريش فإن لهم قِبَلَكُم خصومةً باطلة بأن يقولوا: إنما توجهتم إلى قبلتنا لأنا كنا أهدى منكم سبيلاً وأنكم كنتم على ضلالة في استقبالكم بيت المقدس ".
وقال بعض النحويين: " هو استثناء ليس من الأول، / و " إلا " بمعنى " لكن ".
قال أبو عبيدة: / " " إلا " بمعنى الواو ".
وهو قول بعيد من الصواب لأنه يفسد المعاني ويغير ما بني عليه الكلام. و " إلا " إذا كانت بمعنى " لكن "، فإنما هي إيجاب لشيء بعدما تؤكده.
وقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني}.
أي: لا تخشوا هؤلاء الذين سفهوا عليكم بالحجج الباطلة، واخشوا عقابي(1/508)
إن خالفتم أمري. وهذا تحضيض من الله تعالى للمؤمنين على لزوم الصلاة إلى الكعبة وترك التوجه إلى غيرها.
وقال السدي: " معناه: فلا تخشوا أن أردكم إلى دينهم ".
ثم قال: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}.
قال الأخفش: " هو معطوف على {لِئَلاَّ يَكُونَ} أي: لئلا يكون، ولأتم نعمتي عليكم. فالمعنى: / ولّوا وجوهكم حيث كنتم من الأرض إلى نحو المسجد الحرام كي لا يكون لأحد من الناس عليكم حجة سوى مشركي قريش، فإن لهم حجة باطلة، وكي أتم نعمتي عليكم بإتمام شرائح الملة الحنيفية.
وقال ابن جبير: " {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}: " أي: ولأدخلكم الجنة ". قال: " ولن تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة ".
وقال الزجاج: " اللام متعلقة بمحذوف والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتكم، وأنه لا حجة لأحد عليكم إلا الذين ظلموا فإنهم [سيحتجون(1/509)
عليكم] بالباطل ".
وقيل: التقدير: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير. وهو قول الأخفش المتقدم الذكر.
ثم قال تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ}.
تقديره: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا إليكم رسولاً منكم تالياً عليكم الكتاب ومطهراً لكم من الذنوب ومعلماً لكم ما لم تكونوا تعلمون.
فكل ما بعد " رسول " نعوت له مكررة.
وقال الزجاج: " الكاف متعلقة بما بعدها، أي: فاذكروني كما أرسلت فيكم رسولاً منكم ".
وهذا قول مردود لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه؛ تقول: " كما أحسنتُ إليك فأكرمني ". فتكون الكاف من " كما " متعلقة بـ " أكرمني " إذ لا جواب له. فإن قلت: " كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك "، لم تتعلق الكاف من " كما " بـ " أكرمني " بأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر أو(1/510)
بمضمر. فكذلك قوله: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} / هو أمر له جواب، فلا [تتعلق " كما " به ولا] يحوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، نحو قولك: " إذا أتاك فلان فأته ترضه "، فتكون " كما " و " أذكركم " جوابين [للأمر. والأول أفصح] وأشهر.
وقيل: هي متعلقة بقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} أي: " ولأتم نعمتي عليكم إتماماً كما أرسلنا ".
وقيل: الكاف في موضع / نصب على الحال، أي: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال.
وقيل: المعنى: ولأتم نعمتي عليكم بإتمام شرائع دين الحنيفية ملة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم تالياً عليكم آياتي، ومطهراً لكم ومعلماً لكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون. وكل ذلك بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم [ في قوله]: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] وقوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة/ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}
[البقرة: 129].(1/511)
فدل هذا المعنى على ان الكاف متعلقة بقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فتلخيص المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم.
ومعنى " يزكيكم " / يطهركم من دنس الذنوب.
{وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب} أي: القرآن، والحكمة والسنن والفقه في الدين. {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}.
أي أخبار الأنبياء والأمم قبلكم، وما هو كائن من الأمور.
ومعنى {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ}.
قال ابن عباس: " إذا ذكر الله العبدُ وهو على طاعته ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو على معصيته ذكره بلعنته ".
وقال عكرمة: " يقول الرب: يا ابن آدم اذكرني بعد صلاة الصبح ساعة وبعد صلاة العصر ساعة، وأنا أكفيك ما بينهما ".
وقال ابن جبير: " اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة ".
وقال الربيع في الآية: " إن الله ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره ".(1/512)
وكان بعضهم يتأوله من الذكر والثناء والمدح.
وقيل: المعنى: اذكروني واذكروا نعمتي عليكم شكراً لها، أذكركم برحمتي والزيادة من النعمة.
وقال السدي: " ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله جل وعز، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب ". والذكر فيما روي عن عمر رضي الله عنهـ ذكران. أحدهما أفضل من الآخر وهما: / ذكر الله عند أوامره ونواهيه، وذكر الله بلسانه بالثناء عليه. فالأول أفضل، وكلاهما فيه فضل وأجر وثواب، إلا أن ذِكْر الله عند أمره ونهيه - فيفعل ما أمر به وينتهي عما نهى عنه - أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه. والفضل كله والشرف والأجر والثواب في اجتماعهما من الإنسان. وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره فيأتمر، وعند نهيه فينتهي، ولا ينساه من ذكره بلسانه.
وكذلك الصبر صبران. وهما: الصبر على الطاعة وعن المعصية، / والصبر على المصيبة. والأول أفضل.(1/513)
وقوله: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}.
أي اشكروه على نعمة الإسلام والهدى ولا تجحدوا إحسانه إليكم ونعمه عندكم.
والشكر معناه الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة.
ومعنى الكفر التغطية للشي.
ثم قال: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة}.
هذه الآية حض من الله تعالى للمؤمنين على طاعته، واحتمال المكروه في الله عز وجل. فالمعنى: استعينوا على طاعة الله بالصبر والتسليم لأمره في جميع ما يأمركم به، واستعينوا على ذلك أيضاً بالصلاة لأن بها تتقربون إلى الله سبحانه، فيجيب دعاءكم ويقضي حوائجكم.
قال قتادة: " احتجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في انصرافه إلى الكعبة: [وقالوا: سيرجع محمد] إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا بالصبر(1/514)
والصلاة ".
وقيل: الصبر هنا الصوم، لأنه يقطع عن اللذات.
وقيل: الصبر هنا الصبر عن المعاصي.
{إِنَّ الله مَعَ الصابرين}: أي: ناصرهم وراض بفعلهم يظهر دينه على سائر الأديان لأن من كان الله معه فهو الغالب.
ثم قال / تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}.
هذا يدل على أنه لا يقال للشهيد ميت، إنما يقال: شهيد وقتيل. فالمعنى: هم أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. قاله مجاهد.
قال قتادة: " كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارَف في طير [خضر تأكل من ثمار] الجنة، وأن مساكنهم السدرة، وأن للمجاهد في سبيل الله عز وجل ثلاث خصلات: من قتل في سبيل الله عز وجل منهم صار حياً مرزوقاً، ومن غلب آتاه الله أجراً(1/515)
عظيماً، / ومن مات رزقه الله رزقاً حسناً ".
قال الربيع: " هم أحياء في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا. منها يأكلون، من حيث شاءوا ".
وقال عكرمة: " أرواح الشهداء في طير بيض في الجنة ".
وروى ابن عباس عن النبي [ صلى الله عليه وسلم] أنه قال: " الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ".
ويُرْوى أنهم بباب الجنة في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً. [فنهى الله المسلمين أن يسموهم] أمواتاً وأمرهم أن يسموهم شهداء.(1/516)
وعن النبي [ صلى الله عليه وسلم] أنه قال / في شهداء أحد: " هَؤُلاءِ الشُّهَدَاءُ، وَأَنَا عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ في طَيْرٍ خضرٍ تَرْتَعُ فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ ".
وقيل: المعنى: لا تقولوا: " هم أموات في دينهم، بل هم أحياء في دينهم ". والقول الأول عليه أهل العلم.
ثم قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات}.
أي: لنختبرنكم ولنمتحننكم بشدائد الأمور فيظهر من هو في الصبر والاحتساب على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم باقٍ، ممن ينقلب على عقبيه كما ابْتَلَيْتُكُمْ بتحويل القبلة. وقد عدهم الله بذلك الامتحان في آية أخرى فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين / خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214] الآية إلى {قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. قال ابن عباس: " أخبر الله عز وجل المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشّرهم، فقال: {وَبَشِّرِ الصابرين}. وأخبر في الآية الأخرى أنه هكذا فعل بأوليائه قبلهم لتطيب أنفسهم فقال: {مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ} [البقرة: 214].(1/517)
وقوله: {بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف}. يعني خوف العدو.
{والجوع}: يعني القحط.
ثم قال: {وَبَشِّرِ الصابرين}: أي: الصابرين على الامتحان، ثم بيّنهم فقال:
{الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
أي نحن وأموالنا له، ونحن إليه راجعون.
وقيل: معناه: ونحن مقرون بأن نبعث ونعطى الثواب على تصديقنا والصبر على ما ابتلينا به.
ثم قال: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}.
أي: مغفرة من ربهم.
وقيل: ترحم من ربهم ورحمة. {وأولئك هُمُ المهتدون}.
قال الليث في قوله: {إِنَّا للَّهِ} الآية " معناها: نحن والذي أصبنا به لله ونحن وإياه إلى الله راجعون ".(1/518)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
/ قال ابن جبير: " لم يعط هذه الآية أحد من الأمم قبلنا ولا نبي قبل نبينا. ولو علمها يعقوب عليه السلام لم يقل: {يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84].
وقال عكرمة: " انطفأ مصباح / النبي [عليه السلام] ليلة فقال: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. فَقِيلَ: يَا نَبِيَّ اللهِ: أَمُصِيبَةٌ هَذِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُلُّ شَيْءٍ آذَى المُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ، / وَلَهُ فِيهِ أَجْرُ المُصِيبَةِ ".
وروي أن النبي [ صلى الله عليه وسلم] قال: " مَا مِنْ أَحَدٍ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَاسْتَرْجَعَ إِلاَّ اسْتَوْجَبَ مِنَ الله ثَلاثَ خِصَالٍ؛ كُلُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".
قَال أبو عبيد: يعني قوله: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون}.
قوله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله}.(1/519)
إلى قوله: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
الصفا والمروة جبلان متحاذيان بمكة معروفان، ولذلك دخلت الألف واللام فيهما للتعريف.
وجمع الصَّفَا أَصْفَاء كَرَحَا وأَرْحَاء. ويجوز في جمعه: صُفِيٌّ وصِفِيٌّ، كَعَصَا وَعُصِيُّ وعِصِيٌّ.
وجمع مَرْوَة مَرْو [كَتَمْرَةٍ وَثَمْرٍ]، وإن شئت مَرَوَاتٍ كَتَمَراتٍ.
والصفا في اللغة الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً.
والمروة الحصاة الصغيرة.
وقوله: {مِن شَعَآئِرِ الله}.
أي: من معالم الله التي جعلها لعباده مشعراً يعبدونه عندها إما بالدعاء وإما بالصلاة، وإما بأداء ما افترض عليهم من العمل عندهما.
وقيل: شعائر الله من أعلام الله التي تدل على طاعته من موقف ومشعر ومذبح، والواحدة شعيرة من " شَعَرْتُ بِهِ ".(1/520)
وكان مجاهد يرى أن الشعائر جمع شعيرة من إشعار الله تعالى عباده ما يجب عليهم من طاعته، قال: " أَشْعَرْتُهُ بِكَذَا "، أي: أعلمته به. وقال الطبري: " إنما أعلم الله عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنّها الله تعالى لهم، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ سأله أن يريه مناسك الحج، وهو [خبر يراد به] الأمر لأن الله سبحانه قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين باتباع ملة إبراهيم.
ثم قال: {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.
هذه الآية نزلت في سبب أقوام من المؤمنين قالوا في سبب أصنام كانوا يطوفون بها في الجاهلية قبل الإسلام تعظيماً لها: كيف [نطوف بها، وقد] علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كانوا يعبدون من دون الله عز وجل / شرك بالله سبحانه؟ فلا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله عز وجل. فأنزل الله تعالى في ذلك {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} من أول الآية.(1/521)
والجناح الإثم، مأخوذ من قولهم: " جَنَحَ عَلَيْه " إذا مال، و " جَنَحَ عَنِ الحَقّ " إذا مال عنه. ومنه سمي جناح الطائر لأنه مائل في ناحية، وقوله {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]: معناه يدك لأنها في موضع الجناح. والهاء في (عَلَيْهِ) تعود على (مَنْ). و " من " تصلح للحاج أو المعتمر.
قال السدي: " ليس عليه إثم، ولكن له أجر ".
قال الشعبي: " كان على الصفا في الجاهلية صَنَم يسمى " إِسافٌ "، وعلى المروة وثن يسمى " نَائِلَةٌ "، فكانوا في الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوَثَنيْن. فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام امتنع المسلمون من الطواف بالصفا / والمروة لأجل الصنمين، فأنزل الله عز وجل { إِنَّ الصفا والمروة} الآية.
وذُكر الصفا لأن الصنم / الذي كان عليه مذكر - يعني إسافاً - وأُنِثَ المروة(1/522)
لأن الوثن التي كانت عليه مؤنثة - يعني نائلة -.
وقال أنس بن مالك: " كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت هذه الآية ".
وقال عروة: " قلت لعائشة رضي الله عنها - وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله عز وجل: { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما ". قالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " إنما نزلت هذه الآية في الأنصار؛ كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا [رسول الله] صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله [جل ذكره]: {إِنَّ الصفا والمروة} الآية. وهو قول مجاهد وابن زيد.(1/523)
وعن ابن عباس أنه قال: " كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة. فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله: لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شرك / كنا نضعه في الجاهلية، فأنزل الله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.
وقال قتادة: " كان حي تهامة في الجاهلية لا يسعون بين الصفا والمروة، فأخبرهم الله عز وجل أن الصفا والمروة من شعائر الله ".
والحج في اللغة القصد. يقال: " حججت إليه " بمعنى قصدت / إليه. وقيل: الحج التكرر في الإتيان مرة بعد مرة. فمن أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج. فعلى هذا إنما قيل للحجاج حاج لإنه يتكرر إلى البيت وقت الدخول ووقت الإفاضة وفي غير ذلك.
وقيل للمعتمر متعمر، لأنه إذا طاف انصرف بعد زيارته. فمعنى الاعتمار الزيارة، وكل من زار إنساناً فهو له معتمر، يقال: " اعْتَمرْتُ فُلاَناً "، أي: قصدته.
والطواف بين الصفا والمروة عند مالك والشافعي فرض، فمن نسي ذلك رجع(1/524)
وسعى، وإن بَعُد، فإن كان قد أصاب النساء، فعليه عمرة وهدي مع تمام سعيه إذا رجع. ومذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف أن يجزيه دم إن نسي السعي بينهما، ولا عودة عليه إلا أن يشاء ذلك.
وقال عطاء: " هو تطوع ولا شيء عليه إذا نسي ذلك ". واحتج بأن في قراءة ابن عباس: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وكذلك هي في مصحف ابن مسعود.
وكذلك روي عن أنس بن مالك أنه قال: " هو تطوع ". وروي ذلك عن مجاهد.(1/525)
والعمل على القول الأول لإجماع المصاحف المعمول عليها، المجتمع على ما فيها من إسقاط " لا " منها كلها.
وإيجابها عن ابن عباس أشهر وأوضح. والإسناد عن أنس ضعيف.
وجميع من قرأ على مجاهد من الأئمة المشهورين لم ينقل عنه إلا بغير " لا ". وقد روى جابر عن النبي [ صلى الله عليه وسلم] أنه: " لَمّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ قَالَ: " إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ "، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ ".
ثم قال: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. أي: شاكر له على تطوعه، عليم بما تطوع.
وقال ابن زيد: " معناه: فمن تطوع خيراً فاعتمر، فإن الله شاكر عليم، والعمرة / تطوع، والحج فرض ".
ثم قال: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى}.(1/526)
يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وتركوا اتباعه مع كونه مذكوراً عندهم في التوراة والإنجيل موصوفاً.
وذكر عن ابن عباس أن معاذ بن جبل سأل بعض أحبار اليهود عن ما في التوراة من ذكر النبي عليه السلام فكتموه إياه، فأنزل الله صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ}. إلى: {اللاعنون}. وهو قول مجاهد.
وقال قتادة: " هم أهل الكتاب كتموا الإسلام، وهو دين الله سبحانه وكتموا محمداً وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ".
/ وقوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب}.
يعني بالكتاب هنا: التوراة والإنجيل. وهذه الآية وإن كانت خاصة لبعض الناس فإنها عامة لكل من سئل عن علم يعلمه فكتمه.
وقال النبي [ صلى الله عليه وسلم] " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجَامٍ(1/527)
مِنَ النَّارِ ".
ثم قال: {أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}.
أي: أولئك الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم يلعنهم الله عز وجل بكتمانهم، أي: يبعدهم الله من رحمته ويطردهم.
وقوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}.
قيل: معناه: ويسأل ربَّهم اللاعنون أن يلعنهم لأن كل لاعن إنما يقول: " اللهم العن هذا ".
وقيل: اللاعنون البهائم؛ إذا أسْنَتَتِ السَّنَةُ، قالت البهائم: " هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم ".
وقال عكرمة: " يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب / يقولون: منعنا(1/528)
القطر بذنوب بني آدم ".
وإنما جُمِعَ جَمْعَ السلامة على هذا القول، وهو ما لا يعقل لأنه لما أخبر عنهم بمثل ما يخبر عن بني آدم جمعهم كما يجمع بني آدم.
وقال قتادة: " اللاعنون هنا: " الملائكة والمؤمنون ". وقاله الربيع.
قال مقاتل " اللاعنون كل ما على وجه الأرض إلا الثقلين: الجن والإنس، وذلك أن الكافر إذا أدخل قبره ضربته / الملائكة بمقمعة حين تقول له: من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيصيح صيحة يسمعها كل ما على وجه الأرض من غير الجن والإنس، فلا تَقِر تلك الصيحة في سمع شيء إلا لعنه ".
قال مجاهد: " اللاعنون البهائم ".
ولما وصفت باللعنة: جاز جمعها بالواو والنون، وإن كانت لا تعقل. وله نظائر كثيرة.
وقيل: / اللاعنون الملائكة الذين يسوقون أهل الكفر إلى النار. والهاء في {خَالِدِينَ فِيهَا} تعود على اللعنة.(1/529)
واللعن أصله الطرد والبعد من الرحمة.
قال مقاتل: " اللعنة النار ". وحسن ذلك عنده لما كانت عاقبة اللعنة المصير إلى النار.
وقال السدي: " اللاعنون ما عدا بني آدم والجن ".
وروي عن البراء بن عازب: " أن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته إلا الثقلين: الجن والإنس ". / وهو قول الضحاك.
ويروى عن ابن مسعود أنه قال: " اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا ألحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود ".
وقيل: هذه اللعنة إنما تكون يوم / القيامة كما قال تعالى:(1/530)
{وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25].
ثم قال تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ}.
أي تابوا من الكفر وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين الله عز وجل، وبيّنوا للناس أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو عندهم في كتابهم موصوف.
وقيل: المعنى: وبيّنوا التوبة بإخلاص العمل.
ثم قال: {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}: أي: أقبل توبتهم. {وَأَنَا التَّوَّابُ}: أي على من تاب.
{الرَّحِيمُ} أي رحيم بالخلق أن أعذبهم بعد توبتهم من كفرهم.
ثم قال: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله}.
أي: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته.
{والملائكة}: أي ولعنة الملائكة.(1/531)
{والناس}: يعني قول الناس: {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله}. وعني بالناس أجمعين هنا المؤمنون خاصة. قاله قتادة والربيع.
وعن أبي العالية أن ذلك يكون يوم القيامة، قال: " إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون ". وهو اختيار الطبري واحتج بقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18].
وقال السدي في قوله: {والناس أَجْمَعِينَ}: " أنه لا يتلاعن إثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: " لعن الله الظالم " إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنه ظالم، فكل واحد من الخلق يلعنه ".
ثم قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}.
أي: خالدين في جهنم باللعنة، لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ولا هم ينظرون لمعتذرة يعتذرون بها كما قال:
{هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36].(1/532)
قاله أبو العالية.
[و] إنما جاء لفظ {والناس أَجْمَعِينَ} بلفظ العموم، وقد علم أن أهل دينهم لا يلعنونهم لأنهم وإن كانوا لا يقصدون باللعنة أهل دينهم فلا بد لهم أن يقولوا: " لعن الله الظالم " أو " الظالمين " فيدخل في ذلك كل كافر كائناً من كان.
ثم قال: {وإلهكم إله وَاحِدٌ}. أي: معبودكم أيها الناس واحد، لا معبود غيره يستحق العبادة.
{الرحمن الرحيم} / أي: الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بأوليائه.
ومعنى " واحد " في صفته ونعته وأنه لا شبيه له ولا نظير. وليس معناه واحداً في العدد لأن كل مفرد من المخلوقات واحد في العدد، فالمعنى أنه من فرد واحد في الألوهية والقدرة والصفات [لا ثاني] له.
ثم قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} الآية.
هذه الآية فيها تنبيه من الله عز وجل لخلقه على قدرته ونعمه. والآية دالة على(1/533)
توحيده المقدم ذكره في الآية الأولى.
والمعنى: إن في رتبة هذه الأشياء وحدوثها وإحكام صنعتها لعلامات بينة، ودلالة واضحة على توحيد خالقها وإيجاب العبادة له دون غيره لقوم يعقلون.
وروي أن قوله: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} الآية، لما نزلت، قال المشركون: " ما البرهان على ذلك ونحن ننكر ذلك، ونزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية، احتجاجاً عليهم فيما ادّعوا. هذا قول عطاء.
والمعنى بهذه القدرة والآيات تعلمون أن الإله إله واحد لا تجب العبادة إلا له.
وقال أبو الضحى: " لما نزلت: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} الآية، قال المشركون: إن كان هذه هكذا، فليأتنا بآية. فأنزل الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية.
وروى ابن جبير " أن قريشاً سألت / اليهود عما جاءهم به موسى / من الآيات(1/534)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
/ فحدثوهم بالعصا وبيده بيضاء، وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى صلى الله عليه وسلم من الآيات، فحدثوهم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: " ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزداد يقيناً ونتقوى به على / عدونا ". فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربّه، فأوحى الله عز وجل إليه: " إني أعطيهم أن أجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كذبوا بعد، عذبتهم عذاباً لم أعذبه أحداً من العالمين ". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دَعْنِي وَقَوْمِي فَأَدْعُوهُم يَوْماً بِيَوْمٍ فَأَنْزَلَ الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} " الآية. أي: إن في ذلك لآية لهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم آية. وقاله السدي وغيره.
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً} إلى قوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
أي: ومن الناس من يعبد آلهة / وأصناماً من دون الله، يحبون الأصنام كحبهم لله. أي يُسوّون بين الله وبين الأصنام في المحبة، والمؤمنون أشد حباً لله من الكفار لآلهتهم.
وجاءت الهاء والميم للأصنام وهي لا تعقل لأنها كانت عندهم ممن يعقل ويفهم، فخوطبوا على ما كان في ظنهم فأجريت مجرى من يعقل بالهاء والميم.(1/535)
قال ابن مسعود: " قال رسول الله [عليه السلام]: " مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لله نِداً، أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ "، وأنا أقول: " من مات لا يجعل لله نداً، أدخله الله الجنة ".
وقيل: المعنى: يحبون الأصنام كحبكم أنتم الله، وأنتم أشد حباً لله من الكفار لآلهتهم.
وقيل: جاء ضمير الأصنام بالهاء والميم، وهي لا تعقل لأنهم لما عبدوها أنزلوها منزلة من يعقل.
وقال السدي: " الأنداد هنا ساداتهم الذين كانوا يطيعونهم كما يطيعون الله.
ثم قال: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب}.
أي: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وظلموا أنفسهم حين يرون عذاب الله لرأيت أمراً عظيماً، ولعلمت أن القوة لله جميعاً.(1/536)
فجواب " لو " محذوف، وفتح " أن " على تقدير فعل محذوف وهو جواب " لو ".
وقيل: إن " أنْ " فتحت بـ " تَرَى ". وهو قول المبرد والأخفش.
و" ترى " بمعنى تعلم، التقدير: " ولو يعلم الذين ظلموا جميعاً لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة دون الله ". وهذا إنما يكون على قراءة من قرأ بالياء.
وقيل: معنى: " ترى " تنظر، وأن التقدير: ولو تنظر يا محمد الذين ظلموا حين يرون العذاب لأقروا أن القوة لله.
وقيل: فتحت " إن " على تقدير اللام أي: لأن القوة لله، والجواب أيضاً محذوف تقديره: لعلموا مبلغ عذاب الله ونحوه.
ومن كسر " إِنّ " كسرها على الابتداء، وجواب " لو " محذوف أيضاً.(1/537)
وقيل: إنَّ كسرَها على إضمار القول أي: " يَقولونَ: إِنَّ القُوَّةَ للهِ ".
ثم قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا}.
والمعنى: وإِن الله شديد العذاب حين تبرأ الذين اتُّبعوا - وهم سادات الكفار وأهل الرأي منهم الجبابرة - من الذين اتَّبعوا - وهم أتباع السادات.
{وَرَأَوُاْ العذاب}: أي: ورأى الجميع / عذاب الله وذلك كله في القيامة.
{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب}.
يعني القرابات التي كانت بينهم في الدنيا والصداقات فلم ينتفعوا. هذا قول قتادة وعطاء والربيع.
والهاء في " بِهِمْ " ترجع على التابعين والمتبوعين.
وكذلك الهاء في " يُرِيهِمْ " و " أعْمالِهمْ ".
وقال السدي: " الذين اتبعوا هم / الشياطين تبرأُوا في القيامة ممن اتبعهم من الإنس ".
وقيل: الآية عامة في كل من اتبع على شرك تبرأوا في الآخرة ممن اتبعهم.
قال مجاهد: " الأسباب: الوصايل والمودة ". وقاله ابن عباس.(1/538)
قال قتادة: " صارت مواصلتهم في الدنيا عداوة يوم القيامة ".
قال تعالى ذكره: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25].
وقال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
وعن ابن عباس أيضاً: " أن الأسباب هي المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا ". وعنه أيضاً: " الأسباب: الأرحام ".
وقال السدي: " الأسباب الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا ". وقاله ابن زيد.
{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب}: أعمال أهل التقوى.
وقيل: أعطوا [أسباب أعمالهم السيئة، وتقطعت بهم أسباب] أعمال أهل التقوى. وأصل " السبب " الحبل يتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا(1/539)
بالتعلق، ثم يقال لكل ما هو سبب إلى حاجة: سبب وإن لم يكن حبلاً.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}.
أي: وقال الأتباع: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنبرأ من هؤلاء القادة الجبابرة الذين اتبعناهم في الدنيا على الشرك كما تبرأوا منا الآن.
ثم قال {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} /.
أي: كما أراهم الله العذاب وتبرأ بعضهم من بعض كذلك يريهم / أعمالهم حسرات عليهم: أي ندامات.
والمعنى: كذلك يريهم الله عذاب أعمالهم السيئة ليتحسروا على عملها. قاله الربيع وابن زيد. وهو اختيار الطبري.
وقيل: المعنى: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم التي افترضها الله عليهم في / الدنيا فضيعوها، ولم يعملوا بها ليتحسروا على تركها.
قال السدي: " يرفع الله لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فيريهم الله(1/540)
ذلك، فذلك حين يندمون ". وقال ابن مسعود: " ليس من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة؛ فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة فيقال لهم: لو عملتم، فتأخذهم الحسرة. ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال لهم: لولا أن الله مَنَّ عليكم ".
فالمعنى على هذا: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم التي كانت / تلزمهم في الدنيا فتركوها وضيعوها حسرات عليهم.
والحسرة في اللغة: أشد الندامة.
ثم قال: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}.
أي: ليسوا يخرجون من النار أبداً، يعني به القوم الذين تقدمت صفتهم وتبرأ بعضهم من بعض، وتمنى بعضهم الرجعة إلى الدنيا.
وهذه الآية تدل على فساد قول من زعم أن عذاب الله عز وجل للكفار له نهاية.
وقوله: {يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً}.
أي: كلوا مما أحل الله لكم من الأطعمة على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.(1/541)
قوله: / {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}.
قال ابن عباس: " خطواته: عمله ".
وقال مجاهد: " خطاياه ". وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد. أي: خطاياه التي يأمر بها ويدعو إليها.
وقال السدي: " خطوات الشيطان: طاعته ".
وقال أبو مجلز: " هي النذور في المعاصي ".
قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
أي: ظاهر العداوة، فالمعنى: النهي عن اتباع ما يدعو إليه الشيطان مما هو خلاف لطاعة الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسوء}.
أي بما يسوؤكم، ولا تسركم عاقبته.
{والفحشآء}: أي: ما فحش ذكره مثل الزنا والكفر.(1/542)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قال السدي: " السوء: المعصية، والفحشاء: الزنا ".
ثم قال تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. أي ويأمركم أن تقولوا ذلك، وهو تحريم البحائر والسوائب والوصائل والحوام التي كانت أهل الجاهلية تحرمه، ولم يأمر الله بذلك.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله}.
إلى قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
الهاء والميم في " لهُمُ " تعودان على " من " في قوله {مَن يَتَّخِذُ}. وقيل: تعودان على " الناس " من قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ}. وهو اختيار الطبري.
وذكر ابن عباس أن النبي [عليه السلام] دعا نفراً من اليهود إلى الإسلام، ورغبهم وحذرهم عذاب الله. فقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} أي: وجدنا.(1/543)
فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا} الآية.
والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتبعوا ما أنزل الله؛ أي: اتبعوا ما حرم الله عليكم فحرموه وما [أحل الله] لكم فحللوه، ولا تحدثوا تحريم ما أحل الله لكم مثل البحائر والوصايل والسوائب والحوام التي قد حرمتم من عند أنفسكم، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأبوا إلا الكفر واتباع الكفر.
قال الله تعالى: / {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
أي: لا يعقلون شيئاً من الدين، ولا يهتدون إلى شيء من الخير تتبعونهم. فالمعنى: كيف تتركون ما أمركم به الله عز وجل وتتبعون طريق من لا يهتدي للحق ولا يعقل الخير.
ثم قال: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ}.
أي: مثل الكافر في قلة فهمه لما يتلى عليه من عند الله عز وجل وما يدعى إليه ويوعظ به، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها، ولا تعقل ما يقال لها.
قال عكرمة: " معناه: مثلهم كمثل البعير أو الحمار تدعوه فيسمع الصوت، ولا(1/544)
يفقه ما تقول له ".
قال ابن عباس: " معناه: مثل الكافر كمثل البعير أو الحمار أو الشاة، إذا قلت لبعضها: كُلْ، لم تعلم ما تقول، غير أنها تسمع الصوت. كذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك ".
قال مجاهد: " هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر يسمع / ما يقال له، ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النهيق ولا تعقل ".
وعلى هذا المعنى فسره كل المفسرين.
وقوله: / {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً}.
أي: لا تعقل البهيمة ما يقال لها، إنما تسمع دعاء ونداء، كذلك الكافر. والذي ينعق هو الراعي للغنم، فكما أن الغنم تسمع صوت الراعي إذا دعا بها ولا تفقهه، كذلك الكفار يسمعون ما يقول / لهم محمد صلى الله عليه وسلم وما(1/545)
يدعوهم إليه ولا يفهمونه ولذلك قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.
أي: حالهم حال الأصم الأبكم الأعمى، إذ لا ينتفعون بذلك فيما يدعون إليه.
فالمعنى: صم عن سماع الحق [بكم عن قول الحق، عمي عن النظر إلى الحق]. وإنما قدم " صُمّ " في هذا الموضع وفي أول السورة على ما بعده لأنه أشد بلاء مما بعده لأنه يذهب به السمع والعقل. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] فذكر ذهاب السمع [مع الصّمّ]، وذكر بعده ذهاب البصر مع العمي لا غير.
وعن ابن عباس أن التقدير: " مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم، كمثل الناعق بالغنم، والمنعوق بهم ".
فأضيف المثل إلى الذين كفروا، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام عليه. وقيل: التقدير: ومثل الذين كفروا في تخلف فهمهم عن الله عز وجل ورسوله / كمثل / المنعوق بهم من البهائم.(1/546)
وقال ابن زيد: " معنى الآية: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع ويجيبه بما لا نفع فيه ولا حقيقة ".
وقيل: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وهي لا تفهم عنهم، كمثل الناعق بالغنم ينعق بما لا يفهم عنه قوله. فكما لا ينتفع الناعق بالغنم بأن تفهم عنه، كذلك الكافر مع آلهته.
قال سيبويه: " تقديره: " مثلكم ومثل [الذين] كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. قال: فلم يشبهوا بما ينعق، إنما شبهوا بالمنعوق به ". وكذا قال أبو عبيدة.
وقال قطرب: " معناها: مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يعقل ولا يسمع، كمثل الراعي إذا [نعق بغنمه، وهو أن يصوت] بها، وهو لا يدري أين هي ".
وهذه الآية عند الطبري نزلت في اليهود. وهو قول عطاء. ومعنى(1/547)
ينعق: يصوت.
ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
أي من حلال الرزق الذي أحله الله لكم، وذروا ما حرم عليكم. {واشكروا للَّهِ}. أي: اثنوا عليه بما هو أهله على نعمه عندكم.
{إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: أي: إن كنتم منقادين لأمره سامعين له مطيعين.
ثم قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله}.
أي: لم يحرم عليكم شيئاً مما حرمتموه على أنفسكم من البحائر والوصائل والسوائب والحوام التي حرمتموها على أنفسكم، إنما حرم عليكم أكل لحم الميتة ولحم الخنزير وأكل الدم وأكل ما ذبح لغير الله مثل ما يذبح للأصنام والأوثان، وما ترك ذكر اسم الله عليه متعمداً، فإنْ تَرَكَه ناسياً فلا شيء عليه.
وهذا المحرم لفظه عام وفيه تخصيص لأن الميتة من الجراد وصيد البحر والدم المخالط للحم الذي هو غير جار وما نسي عليه التسمية كله حلال أكله.(1/548)
ومعنى: {وَمَآ أُهِلَّ}: ما ذبح لغير الله، يعني للأصنام.
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
ف " ما " للأصنام. . . وقيل: هي للذبائح، للأصنام.
وقيل: للصياح؛ النداءُ الذي ينادى به لغير الله على الذبائح. وأصل الإهلال رفع الصوت.
وقيل: المعنى ما ذكر عليه غير اسم الله.
ثم قال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}.
أي / فمن لحقته ضرورة من جوع وجهد وخوف على نفسه من الهلاك، {غَيْرَ بَاغٍ} على المسلمين، ولا متعمد للأكل، {وَلاَ عَادٍ}، أي متعد على الناس.
وقيل: {وَلاَ عَادٍ} معناه: ولا عائد لأكْلة أخرى لغير ضرورة فيكون / من المقلوب، أخرت الياء فصار كقاض.
قوله: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. أي: لا حرج عليه في أكل ما يرد به روحه.(1/549)
وقيل: " معناه: من أكره على أكل شيء من هذا المحرم فلا إثم عليه إنْ أكَله مكرهاً ". قاله مجاهد.
وقال ابن عباس: " من أكل شيئاً من هذا وهو مضطر فلا حرج عليه، ومن أكله غير مضطر فقد بغى واعتدى ".
قال ابن جبير في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}، قال: " هو أن يقطع الطريق فلا رخصة له إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشرب الخمر ".
وهو قول قتادة وعكرمة.
وقال ابن زيد: " لا يأكل ذلك بغياً ولا تعدياً من الحلال إلى الحرام ". وقال النخعي: " غير باغ على المسلمين ".
/ قال مجاهد: {وَلاَ عَادٍ}: ولا متعد عليهم: من خرج يقطع السبل ويقطع الرحم فلا يحل له شيء من ذلك وإن اضطر ".
فذهب إلى أن الباغي قاطع الطريق. والعادي قاطع الرحم.(1/550)
قال الحسن: " غير باغ فيها، ولا متعد فيها يأكلها، وهو عنها غني ".
وقيل: المعنى: غير باغ ما حرم الله، ولا عاد. وله في تركها وجه.
وأجاز بكر القاضي لقاطع الطريق أن يأكل منها إذا اضطر، لأن قتله لنفسه معصية أخرى / فلا يأمره بها.
قال مسروق: " ومن اضطر إلى الميتة فأبى أن يأكل حتى مات، دخل النار ".
وقال مالك: " من اضطُر، أَكَل شِبَعه منها ".(1/551)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
وقال غيره: " إنما يأكل منها ما يقيم به الرمق ".
وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ}: غير خارج على المسلمين بسيفه باغياً عليهم ولا عادياً عليهم بحرب ظلماً.
{فلا إِثْمَ} أي: فلا حرج، إن الله غفور رحيم.
قوله: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب}. [إلى قوله: {المتقون}.
هذه الآية عند قتادة وغيره نزلت في أهل الكتاب. كتموا ما أنزل الله عز وجل في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: " هم اليهود كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وأخذوا عليه طمعاً قليلاً ". وهو قول السدي والربيع.
وقال عكرمة في هذه الآية وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77]: نزلت جميعاً في يهود ".(1/552)
قال ابن مسعود: / " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْطَعُ بِها مالاً لَقِيَ اللهَ، وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانٌ " وتصديقه في كتاب الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}.
ومعنى {يَشْتَرُونَ} يبتاعون به.
والهاء في: " به " تعود على الكتمان، أي: وابتاعوا بكتمانهم ما أنزل الله عز وجل في كتابهم / من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم.
{ ثَمَناً قَلِيلاً}: أي: أخذوا عليه طمعاً قليلاً، أي: أخذوا الرشوة وكتموا ما أنزل الله عز وجل وبدلوه وحرفوه.
ثم قال تعالى: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار}.
أي: ما يأكلون في بطونهم من الرشا إلا ما يؤديهم إلى النار، ومثله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] أي: ما يوردهم النار. فاستغنى في الآيتين بذكر(1/553)
النار لفهم السامعين المعنى لأنه لما كان ما يأكلون من الطيبات بالرشا يوردهم النار كانوا كأنهم يأكلون النار. وإنما قال {فِي بُطُونِهِمْ}، وقد علم أن الأكل لا يكون إلا في البطن لأن العرب تقول: " جُعْتُ فِي غَيْرِ بَطْنِي " و " شَبِعْتُ في غَيْرِ بَطْنِي ". فقيل في الآية: {فِي بُطُونِهِمْ} / للفرق والتأكيد.
وقوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة}.
أي: لا يكلمهم بما يحبون ولا بما يشتهون، ويكلمهم بما يكرهون لأنه قد أخبر بأنه يقول لهم {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وقيل: معنى {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ}: يغضب عليهم. يقال: " فُلانٌ لا يُكَلِّمُ فُلاناً " إذا غضب عليه.
وقيل: المعنى: لا يسمعهم كلامه لأن الأبرار يسمعون كلامه.
وقيل: معناه: لا يرسل لهم الملائكة بالتحية.
وقوله: {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ}: أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي موجع.
ثم قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}.(1/554)
أي: أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يوجب لهم عفوه. فاستغنى بذكر العذاب والمغفرة عن ذكر السبب الذي يوجبهما لفهم سامعي ذلك.
ثم قال تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}.
قال ابن عباس: " معناه: ما الذي صبرهم على النار ".
وقال أبو عبيدة: " معناه: ما الذي أصبرهم على النار، ودعاهم إليها، وليس بتعجب ". وهو قول السدي.
فَ " ما " استفهام في القولين جميعاً.
وقال مجاهد والحسن وقتادة: " هو تعجب ".
ومعنى التعجب في هذا أن الله جل ذكره يعجب خلقه منهم، ومن جرأتهم على عمل يوردهم النار.
وقال مجاهد: " معناه: / ما أعملهم بأعمال أهل النار ". أي: ما أشد جرأتهم(1/555)
على عمل يوجب لهم النار.
وقيل: معناه: ما أبقاهم في عذاب الله.
وقيل: معناه: ما أصبرهم على الأعمال التي توجب لهم النار.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق}.
أي: بالواجب. وحيثما ذكر الحق فمعناه الواجب. أي: ذلك فعلهم، لأن الله نزل الكتاب بالحق.
وقيل: المعنى: ذلك العذاب المذكور لهم، لأن الله نزل الكتاب بالحق. فَ " ذلك " في موضع رفع في القولين.
وقيل: المعنى: فعلنا ذلك لأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به، فَ " ذَلِكَ " في موضع نصب في هذا القول.
ثم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.
يعني به اليهود والنصارى؛ اختلفوا في الكتاب فكفرت اليهود بما قص الله فيه من قصص عيسى صلى الله عليه وسلم وأمه، وصدقت النصارى ببعض ذلك. [و] كفروا جميعاً بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق / محمد صلى الله عليه وسلم.(1/556)
/ والمعنى: [وإنهم لفي] منازعة ومباعدة للحق، بعيدة مِنَ الصواب والرشد.
قال السدي: " {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: لفي عداوة بعيدة ".
ثم قال تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب}.
أي: ليس البر الصلاة وحدها، ولكن البر الجمع لفعل هذه الخلال المذكورة بعده.
قال ابن عباس: " هذا حين نزلت الفرائض وحدت الحدود ". وقاله الضحاك وغيره. وهو اختيار الطبري، وهو قول الربيع بن أنس.
وقال قتادة: " كانت اليهود / تصلي قبل المغرب، والنصارى تصلي قبل المشرق، فأعلموا أن البر ليس هو كله ما يصنعون، ولكن البر عمل هذه الخصال التي بيَّنها بعد ".
وقد قيل: إن هذه الآية خصوص في الأنبياء وحدهم صلوات الله عليهم، لأن هذه الأشياء التي وصفت في الآية لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا(1/557)
الأنبياء صلوات الله عليهم، ولكن الله قد أمر جميع الخلق بالعمل بجميع ما فيها.
وقوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ}.
أي: على محبته إياه وشحه عليه.
فالهاء في " حبه " تعود على المؤمن، أي: على حبه إياه، يعني المال. وقيل: هي راجعة على المال، أي: على حب الرجل المال. فأضيف الحب إلى المال فهو المفعول به.
كما تقول: " أَعجبني أكلُ الخبز وشربُ الماء "، أي: أكلُ الرجلِ الخبزَ وشربُ الرجلِ الماءَ.
وقيل: الهاء ترجع على الإيتاء، ودل عليه: " وَآتَى "، والتقدير: على حب الإيتاء أي: على حب الرجل الإيتاء.
وقيل: / الهاء تعود على المؤمن، وتنصب " ذَوِي الْقُرْبَى " في هذا الوجه بالحب، أي: على حب المؤمن ذوي القربى. وتنصب " ذَوِي " في الوجوه المتقدمة بـ " آتَى ".(1/558)
وقيل: الهاء ترجع على الله جل ذكره؛ أي: على حُبِّ / الله "، وتنصب ذوي بـ " آتَى ".
قال ابن مسعود: " هُوَ أنْ يُؤْتِيَهُ وَهُوَ صَحيحٌ شَحِيحٌ يَأْمَلُ العَيْشَ وَيَخَافُ الْفَقْرَ ". ورواه ابن مسعود عن النبي [عليه السلام].
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فِي المالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكاةِ " وتلا هذه الآية.
قوله تعالى: {ذَوِي القربى}: أي ذوي الأرحام.
وسئل النبي [عليه السلام] عن أفضل الصدقة فقال: " جُهْدُ المُقِلِّ عَلَى ذِي القَرَابَةِ الكاشِحِ ".(1/559)
وقوله: {وابن السبيل}. قال قتادة: " هو الضيف ".
وقيل: " هو المسلم يمر عليك من بلد إلى بلد ". قاله مجاهد وقتادة.
وقيل للمسافر: " ابن السبيل "، لملازمته السبيل وهي الطريق، كما يقال لطير الماء: ابن الماء لملازمته الماء. ويقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: هو ابن الأيام والليالي.
وعلى هذا يُتأول حديث النبي [عليه السلام] في قوله: " لا يَدْخُلْ الجَنَّةَ وَلَدُ زِنا "، معناه اللازم للزنا، جعل ابن زنا لملازمته له، كما قيل: ابن السبيل، وابن ماء، وابن الأيام.
وقوله: {والسآئلين}. يعني به المعترضين الطالبين للصدقة.
وقوله: {وَفِي الرقاب}.(1/560)
يعني: يعان به المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودية.
وقوله: {وَأَقَامَ الصلاة}. أي: أدام العمل بها بحدودها في أوقاتها.
قوله: {وَآتَى الزكاة}. أي أعطاها على ما فرضها الله تعالى عليه.
وقوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ}.
رفعت {والموفون} على العطف على " مَنْ " في قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ}، أي: " ولكن البارُّ من آمن " على قراءة من خفف أو شدد.
وبعده: {والصابرين} هو نصب على المدح.
وقيل: {والموفون} رفع على إضمار مبتدأ " وهم الموفون "، تجعله مدحاً للمضمرين داخلاً في صلة " من ".
وتنصب " الصابرينَ " على العطف على {ذَوِي القربى} أو على " أعني ". وأجاز الكسائي رفع {والموفون} / على العطف على " مَنْ " في قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ}(1/561)
على ما تقدم.
وتنصب {والصابرين} على العطف على {ذَوِي القربى}. وهو خطأ لأنه يفرق بين الصلة والموصول، فيعطف على الموصول، ثم / يعطف بعده على ما في الصلة، فيفرق بين الصلة وهي: {والصابرين} والموصول وهو: " مَنْ "، بِ " المُوفُونَ ": وليس بداخل في الصلة.
إنما هو معطوف على الموصول.
وقيل: إن " المُوفُونَ " عطف على المضمر في " آمَنَ "، و " الصَّابِرِينَ " عطف على " ذَوِي القُرْبَى " أو على " أَعْنِي " على المدح.
وقيل: إن " الصَّابِرِينَ " عطف على " السَّائِلِينَ "، ومعنى الكلام: والذين لا ينقضون عهد [الله] بعد المعاهدة، ولكن يوفون به.(1/562)
وقوله: {والصابرين فِي البأسآء والضرآء}.
أصل الصبر الحبس عن الشيء.
فالمعنى: والحابسين أنفسهم عن ما يكرهه الله عز وجل في البأساء وفي الفقر، والضراء وهي السقم. قاله ابن مسعود.
وعنه: " أن البأساء: الجوع، والضراء: المرض ". وعنه: " البأساء: الحاجة ". وقال قتادة: " كنا نحدث أن البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم " / وهو قول الربيع.
وقال قتادة أيضاً: " البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد ".
قال الضحاك: " البأساء: الفقر، والضراء: المرض ".
وقوله: {وَحِينَ البأس}.(1/563)
قال ابن مسعود: " وحين القتال ".
والضُّراء - بالضم - في اللغة الزمانة والمرض. والضَّراء بالفتح ضد النفع. و " البأْساءُ " و " الضَّرَّاءُ " جاءا على " فَعْلاءَ " وليس لهما " أفْعَلُ " لأنه اسم وليس بصفة، كما جاء " أَفْعَلُ " في الكلام وليس له " فَعْلاءُ " نحو " أَحْمَدَ ". وقد قالوا في الصفة: " أَفعَلَ "، ولم يأت منه " فَعْلاءُ "؛ قالوا: " أنْتَ مِنْ ذَلِكَ أوْجَلُ "، ولم يقولوا: " وَجْلاءَ ".
وقد قيل: البأساء والضراء اسمان للفعل بمعنى المصدر، فهما بمعنى البؤس والضر، يقعان " لمؤنث ولمذكر ".
ثم قال: {أولئك الذين صَدَقُواْ}.
أي: صدقوا الله في إيمانهم به وحققوا قولهم بفعلهم، لا مَن ولى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف أمره ويكتم وحيه ويُكذِّب رسله.(1/564)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
ثم قال: {وأولئك هُمُ المتقون}. أي هم الذين اتقوا عقاب الله، فتجنبوا معاصيه، ولم يتعدوا حدوده.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى}. إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
معناه: فرض عليكم القصاص في قتلاكم.
ف " كتب " بمعنى " فرض "، ومنه قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} [النساء: 77] أي: فرضته.
وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
ويكون " كَتَبَ " بمعنى " قَضَى ". من قوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51]. / أي: قضى علينا.
ويكون " كتب " بمعنى جعل كقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22].
وكقوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53]. و {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156].
ويكون " كَتَبَ " بمعنى " أَمَرَ " كقوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21].
والمعنى: فرض عليكم أن تقتصوا ممن قتل أولياءكم إن شئتم ذلك، وليس(1/565)
القصاص بفرض عليهم، إنما هو مباح لهم، وإن شاء الولي عفا وإن شاء أخذ الدية.
قال ابن عباس: " كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، ثم بين تعالى كيف القصاص، فقال: {الحر / بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}، أي: يقتل هذا بهذا.
ولا يقتل حر في عبد عند مالك والشافعي.
وهذه الآية عند ابن عباس / منسوخة بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المادة: 45]، لأن آية البقرة توجب ألا تقتل امرأة قتلت رجلاً، ولا رجل قتل امرأة، ولا عبد قتل حراً، وآية المائدة توجب قتل النفس بالنفس، فيلزم منها يقتل الحر بالعبد. لكن فيها تخصيص.
قال ابن عباس: " كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فأنزل الله {النفس بالنفس} فجعل الله الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد، - رجالَهم ونساءَهم - في النفس وفيما دون النفس ".(1/566)
وتأول أبو عبيد على ابن عباس أن مذهبه: أن آية المائدة ليست بناسخة لآية البقرة، وكأن آية المائدة مفسرة لآية البقرة، فبينت آية المائدة أن أنفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكوراً كانوا أو إناثاً، وأن أنفس المماليك متساوية أيضاً فيما بينهم وأنه لا قصاص للمماليك على الأحرار، فالآيتان محكمتان عنده إحداهما مبينة للأخرى مفسرة لها.
وقال الشعبي: " نزلت آية البقرة في قوم اقتتلوا فقتل بينهم خلق كثير، فقالت الغالبة العزيزة من القبيلتين المتقاتلتين: " لا نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم ولا بالأنثى منا إلا الذكر منهم " فأنزل الله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}. وقال السدي: " نزلت في فريقين وقعت بينهما قتلى، فأمر النبي [عليه السلام] أن يقاص بينهما، ديات النساء بديات النساء، والرجال بالرجال ".
فالآية على هذا محكمة مخصوصة.
/ وقال الحسن: " الآية على التراجع: إذا قتل رجل امرأة، كان أولياء المرأة(1/567)
بالخيار، إن شاؤا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا نصف الدية.
وإذا قتلت امرأة رجلاً؛ فإن شاء أولياء الرجل قتلوا المرأة وأخذوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا الدية كاملة. وإذا قتل حر عبداً؛ فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية الدية بعد قيمة العبد.
وإذا قتل عبد رجلاً حراً، فإن شاء أولياء الرجل قتلوا العبد، ويأخذون بقية الدية ".
وقال مالك: " أحسن ما سمعت في هذه الآية يراد بها الجنس: الذكر والأنثى(1/568)
فيه سواء "، يعني الأحرار وأعاد ذكر الأنثى إنكاراً لما كان في الجاهلية.
ولا يقتل الحر بالعبد عنده، ولكن عليه قيمته.
ولا يقتل المسلم بالذمي، وعليه الدية في العمد والخطأ. وبذلك قال عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة وابن دينار والشافعي. ودليل ذلك إجماعهم أنه لا يقتص للعبد من الحر / فيما دون النفس، فكانت النفس كذلك.
/ فأما قوله: {النفس بالنفس} فإنما هو إخبار عما فَرَضهُ الله على بني إسرائيل. وقد أجمع على القصاص بين الأحرار، فدخل في ذلك قتل الأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى من الأحرار.
وقد قال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي: " يقتل الحر بالعبد بدليل قوله: {أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45]، ولقول النبي [عليه السلام]: " المُؤْمِنونُ تَتَكافَأُ دِماءُهُمْ وَلِيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْناهُمْ "، والعبد المؤمن كالحر، وقالوا: لما لم يكن قوله: (الأُنْثَى بالأُنْثَى) بمانع من قتل الأنثى بالذكر والذكر(1/569)
بالأنثى، كذلك لا يمنع قوله: (العَبْدُ بالعَبْدِ) مِن قتل الحر بالعبد. وهذا باب واسع يستقصى إن شاء الله في كتاب الأحكام.
ثم قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}.
أي فمن ترك له ولي المقتول من الدية شيئاً.
{فاتباع بالمعروف} أي فليتبع العافي القاتل بالمعروف.
وقوله: {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}.
أي: وليؤد القاتل إلى الولي ما قَبِله من الدية بإحسان. وهذا قول مروي عن ابن عباس.
[فَالهاءُ في " لَهُ " تعود على هذا القول] للقاتل.
والهاء في " أخيه " للقاتل أيضاً.
والهاء في " إِلَيْهِ " لولي المقتول العافي.
و" مَنْ " اسم القاتل، و " الأخ " ولي الدم.
/ قال ابن عباس: " كان القصاص في بني إسرائيل، ولم تكن الدية، فأباح الله(1/570)
لهذه الأمة أخذ الدية تخفيفاً ".
وقيل: المعنى: " فمن قبل منه ولي المقتول في العمد الدية فلْيَتْبعْ الولي أخذَ الدية بمعروف، وليؤد القاتل إلى الولي الدية بإحسان إذا قبلها منه في العمد، ولم يُطالبه بالقصاص ".
وهو أيضاً مروي عن ابن عباس، وعن جابر بن زيد، وهو أبين في نص الآية، والهاءات على حالها.
قال مجاهد: " هو أن يعفو الولي عن الدم ويأخذ الدية ". وهو القول الذي قبله.
وقال الحسن: " على هذا الطالب أن يطلب بمعروف، وعلى المطلوب أن يؤدي بإحسان ". وهو قول الشعبي وقتادة وعطاء وغيرهم، وقالوا كلهم: " العفو أن يأخذ الدية في العمد ".(1/571)
/ وقيل: المعنى: فمن عفي له من الواجب له على أخيه من قصاص وَليِّه شيء، فاتباع من الولي بمعروف وأداء من القاتل إلى الولي بإحسان. وهو قول مالك.
فالهاء في " لَهُ " على هذا القول تعود على ولي المقتول، والهاء في " أَخيهِ " للولي. و " مَن " اسم ولي الدم، و " الأخ " اسم القاتل.
وفي هذه الآية نظر يطول تقصيه. وجملة الاختلاف فيها أن المعفو له عند مالك وغيره ولي الدم، والعافي القاتل، وعفى عنده بمعنى يسر، والمعفو له [عند غير مالك القاتل، والعافي ولي] الدم. وعفا بمعنى ترك.
هذا اختصار معنى الاختلاف في الآية فافهمه.
و" الأخ " عند مالك القاتل، وهو عند غيره ولي الدم.
و" مَنْ " على قول مالك اسم ولي الدم. وعند غيره اسم القاتل.(1/572)
قال أبو محمد: انظر كيف سمّى القاتل عمداً أخا الولي، ولم يُخرجه بالقتل عن أخوة الإسلام.
ثم قال تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}.
أي: ذلك الذي حكمنا به في هذه الآية من إباحتي الدية في العمد ولم أبح ذلك لغيركم من الأمم تخفيفٌ من ربكم عليكم، خصصتُكم به دون غيركم من الأمم، ورحمة من ربكم لكم.
وذكر ابن بكير أن العافي هو القاتل، وأن أولياء المقتول مخيرون في قبول الدية أو القتل. قال: " ألا تراه قال: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة}.
وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير دية.
ثم قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أي: مَن قتل بعد أخذ الدِّية فله / عذاب مؤلم في الآخرة، وحكمه أن يقتل(1/573)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
ولا تقبل منه الدية.
وقيل: العذاب الأليم هنا القتل.
/ وقيل: هو شيء إلى السلطان يعاقبه بما شاء.
وقال الحسن: " تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يقتل ".
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " نُقْسِمُ أَلاّ يُعْفَى عَنْ رَجُلٍ عَفَا عَنِ الدَّمِ، وأَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَدَا فَقَتَلَ ".
وقيل: أمره إلى الإمام يفعل به ما رأى.
ثم قال: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة يا أولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أي إذا عَلِم من يريد أن يقتل أنه يقاصَص فيُقتل، أَمْسَك عن القتل فصارت معرفته بالقصاص فيها حياته، وحياة من أراد قتله.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. أي: تتقون القتل فلا تتعدون إليه لعلمكم بالقصاص.
قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} إلى قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.(1/574)
معناه: فرض/ علكيم الوصية إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً - أي: مالاً -/ للوالدين والأقربين، كان الله عز وجل قد فرض علينا أن نوصي عند الموت للوالدين والأقربين، ثم نسخ ذلك بآيات الميراث في النساء.
وقيل: هي محكمة واجبة لمن لا يرث من الوالدين والأقربين. وهو اختيار الطبري.
وروي عن الضحاك أنه قال: " من مات ولم [يوص لذي] قرابته فقد ختم عمله بمعصية ".
وقال الحسن: " إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثلث الثلث وباقي الثلث لقرابته ". وقاله طاوس.(1/575)
وكونها منسوخة قول ابن عباس وقتادة.
وعن قتادة والحسن أنه " إنما نسخ منها الوالدان، وبقي الأقربون الذين لا يرثون بالوصية لهم فرض ".
وقال ابن زيد: " نسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض ". وهو قول ابن عمر وعكرمة ومجاهد والسدي.
واختلفوا في نسخها فقال أكثرهم: " نسختها آيات النساء في المواريث.
وقال بعضهم: " نسخها قول النبي [عليه السلام]: " لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".
وجواب الشرط عند الأخفش فاء محذوفة، والتقدير: " فالوصية ". فعلى هذا(1/576)
يبتدأ بها لأنها مرفوعة بالابتداء. ويجوز أن تجعل {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} جواب الشرط، وتقدر به التقديم لأن الشرط إذا كان فعلاً ماضياً جاز تقدم الجواب عليه، فيكون التقدير: " الوصية لِلوالدين والأقربين إن ترك خيراً، فيحسن رفع الوصية / أيضاً بالابتداء، ويحسن رفعها على ما لم يسم فاعله.
وكلهم على أن {خَيْراً} في الآية: المال.
قال قتادة: " الخير: ألف دينار فما فوقه ".
وروى هشام بن عروة عن عروة، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ دخل على ابن عم له يعوده فقال: إني أريد أن أوصي، فقال: لا توص، فإنك لم تترك خيراً فتوصي. قال: فكان ما ترك من السبعمائة إلى التسعمائة ".(1/577)
وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل معه أربع مائة دينار وله ولد كثير: " لا توص ".
وقال النخعي: " هو ما بين الخمسمائة درهم إلى الألف ".
وقال الزهري: " الوصية حق مما قل أو كثُر ". وهو اختيار الطبري.
ويروى عن علي أنه قال: " أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ".
ومعنى {بالمعروف}: أي لا يضار الورثة مما يوصي فيما يوصي، فيوصي بأكثر من الثلث.
وقوله: {حَقّاً عَلَى المتقين}: أي: على من اتقى الله فاتبع ما أمره.
ثم قال تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}.
أي: فمن بدل الإيصاء ولمن أوصى به بعدما سمعه من الميت فإنما إثمه / على [من بدله].
{إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.(1/578)
أي: يسمع ما يوصي به الموصي / ولمن يوصي وغير ذلك.
عليم بما تعملون وما تبدلُون وغير ذلك.
" والهاء " في " بدَّلَهُ " تعود على الإيصاء والموصى له، وإن لم يجر له ذكر. لكن الكلام الأول يدل عليه ويتضمنه لأن الوصية تدل على الإيصاء والإيصاء يتضمن موصياً وموصى له.
والوصية عند أكثر أهل العلم غير واجبة، إنما هي مندوب إليها إلا الزهري فإنه قال: " هي واجبة على من ترك خيراً ". وكلهم أجمعوا على أن مَنْ قِبَلُه أماناتٌ وودائعٌ وديون ونحو ذلك الوصية فرض.
ثم قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ}.
أي: فمن حضر مريضاً يوصي بوصية لا تجوز له في الدين، فلا حرج عليه أن يصلح بينه وبين ورثته ويأمره بالعدل في وصيته، وينهاه عن منعه مما أذن الله له فيه(1/579)
وأباحه له.
وقيل: المعنى: فمن خاف جنفاً من الموصي فأصلح بين الورثة والموصى لهم فرد الوصية إلى العدل والحق فلا حرج عليه.
قال ابن عباس: " إذا أخطأ الميت في وصيته وخاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب ". وهو معنى قول قتادة والنخعي.
وقال عطاء: " معناها: من خاف من موص جنفاً في عطيته عند موته بعض ورثته / دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين الورثة ".
وقيل: معناه: من خاف من موص جنفاً في وصيته لمن لا يرثه بما يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه.
وهو معنى قول طاوس، قال: " جنفه توليجه بوصيته لبني ابنه ليكون(1/580)
المال إلى أبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها، فيصلح بينهم الوصي والأمير، ويوعظ هو في حياته ".
وقال السدي: " نزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين ".
فمعناها: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض فأصلح بين الآباء والأقربين، فلا إثم عليه.
واختيار الطبري أن يكون معناها: من خاف من موص جنفاً أن يحيف في وصيته / فيوصي بأكثر مما يجب له في وصيته، فلا حرج على الذي حضر أن يصلح بين الموصي والورثة بأن يأمر الميت / بالمعروف والحق.
والضمير في " بَيْنَهُمْ " يعود على الورثة والموصى لهم. أو على الورثة والموصى على الاختلاف المتقدم.(1/581)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
وجاز إضمارهم، ولم يجر لهم ذكر، لأن معناهم في الخطاب وفحوى الكلام مفهوم، لأن الميت وذِكرَه يدل على الورثة، والوصية تدل على الموصى له والموصى والموصي إليه.
قال ابن عباس: " جنفاً: خطأ ". وقال عطاء: " ميلاً ".
وقال الضحاك: " الجنف: الخطأ، والإثم: العمد " وهو قول النخعي.
ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أي: " غفور " للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والإثم العمد إذا ترك ذلك ورجع إلى الحق، " رحيم " بالمصلح.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} إلى قوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي: فرض عليكم أن تصوموا أياماً معدودات كما كتب على الذين من قبلكم الصيام، يعني / النصارى.(1/582)
وقال الشعبي: " فرض على النصارى شهر رمضان كما فرض علينا، فحوَّلوه إلى الفصل، وذلك أنهم ربما صاموه في القيظ فعدّوا ثلاثين يوماً، ثم أتى قوم من بعدهم، فأخذوا بالشقة لأنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً. ثم لم يزل الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله ويزيد يوماً أولاً ويوماً آخر. حتى صار إلى الخمسين يوماً، وقال: لو صمت السنة كلها لأفْطَرْتُ اليوم الذي يشك فيه، فيقال من شعبان، ويقال من رمضان ".
وقال السدي: " {الذين مِن قَبْلِكُمْ} هم النصارى كتب عليهم رمضان وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء في شهر رمضان، فاشتد عليهم شهر رمضان وجعل يصعب / عليهم في الصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا على صيام في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: " نزيد عشرين يوماً. نكفر بِهَا ما صنعنا ". فجعلوا صيامهم خمسين يوماً، فلم يزل(1/583)
المسلمون يتركون الأكل بعد النوم وقرب النساء في ليل رمضان حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ما كان، فأحل الله عز وجل لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر ".
وقال قتادة: " كان قد كتب الله عز وجل على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر ثم فرض شهر رمضان ".
وقال جابر بن سمرة: " نسخ صوم رمضان صوم يوم عاشوراء، لأن النبي [عليه السلام] كان أمر بصومه قبل أن يفرض رمضان. فمن شاء الآن صامه ومن شاء أفطره. ".
وروى [أبو] قتادة أن النبي [عليه السلام] قال: " صَوْمُ يَوْمِ عاشوراءَ يُكَفِّرُ سَنَةٌ(1/584)
مُسْتَقَبَلَةً ".
قالت عائشة رضي الله عنها: " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية. وكان رسول الله يصومه. . فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه فنزل صوم رمضان /، فكان رمضان هو الفريضة فمن شاء صام عاشوراء، ومن شاء ترك ".
وقال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} قال: " كان كتب عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ".
والآية ناسخة لصيام ثلاثة أيام من كل شهر على هذا القول.
وقال أبو العالية والسدي: " هذه الآية منسوخة لأن الله تعالى كتب على من كان قبلنا إذا نام بعد المغرب لم يأكل ولم يقرب النساء، ثم كتب علينا ذلك في هذه الآية " فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} ثم نسخه بقوله:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] الآية ".(1/585)
وذكر الحسن عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " كانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ شَهْر، فَمَرِضَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقال لَئِنِ اللهُ شَفاهُ ليَزيدَنَّ عَشْراً، ثُمَّ كانَ آخرُ فَأَكَلَ لَحْماً فَأَوْجَعَ فاهُ، فقالَ: لَئِنِ اللهُ شَفاهُ لَيَزيدَنَّ سَبْعاً، ثُمَّ كانَ مَلِكٌ آخَرٌ فَقالَ: " لَتَتِمَّنَ هَذِهِ السَّبْعَةُ عَشْراً، وَلأَجْعَلَنَّ صَوْمَنا في الرّبيعِ "، قالَ: فصارَ خمْسينَ يوْماً " يعني: بِ " الرجال ": ملوكاً سنوا سنناً وزادوا وبدلوا الأوقات.
واختار الطبري قول من قال: " فرض على من كان قبلنا من أهل الكتاب صوم شهر رمضان ففرضه علينا ". وقال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ}. واستدل على ذلك أن مَنْ بعدَ إبراهيم - عليه السلام - من الأنبياء / كانوا مأمورين بالاتباع له؛ وذلك أنَّ الله تعالى جعله [إماماً للناس] وأخبرنا أن دينه كان [الحنيفة المسلمة]، وأمر نبينا عليه السلام باتباعه فدل على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن كان بعده من الأنبياء صلوات الله عليهم فرض / عليهم صوم شهر / رمضان كما فرضه / الله تعالى علينا الآن، فوقع التشبيه على الوقت.(1/586)
وقيل: إنما فرض الله علينا شهراً، كما فرضه على من كان قبلنا شهراً، وفرض علينا ترك الأكل والوطء بعد النوم، ثم أباحه لنا إلى الفجر.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أي تتقون أكل الطعام وشرب الشراب، وجماع النساء فيه. وهو معنى قول السدي وغيره.
وقيل: معناه: إن الصيام وصلة إلى التقى. فكأنه " صوموا ليقوى رجاؤكم في التقوى ".
ثم قال تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ}.
قال عطاء: " كان على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض الله على المسلمين صوم شهر رمضان ".
فهذا القول يدل على أن أياماً منصوبة بـ " كُتِبَ "، وهو قول الفراء. قال ابن عباس: " كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخه الله بصوم شهر(1/587)
رمضان ". وهو قول قتادة.
وقيل: [الأيام المعدودات] هي أيام رمضان بعينها. فيكون نصبٌ: " أيام " بالصيام على هذا القول، وهو قول الأخفش، فتكون ظرفاً. ولا يكون نصبها على المفعول لأنك تفرق بين الصلة والموصول بالنعت وهو الكاف. وحسن ذلك في الظرف لأن الظرف تعمل فيها المعاني إلا أن تجعل الكاف مفعولاً للصيام، فيحسن أن تنصب " الأيام " على أنها مفعول بها.
والكاف من " كما يجوز أن تكون نعتاً لمصدر محذوف أي: [كَتْباً كَمَا]، ويجوز أن يكون " صَوْماً كَمَا "، فلا يدخل في الصلة على القول الأول، ويدخل على القول الثاني.
ويجوز أن تكون الكاف نصباً على الحال من الصيام، أي: مشبهاً لصيام من(1/588)
كان قبلكم.
ويجوز أن يكون في موضع رفع نعتاً للصيام.
ثم قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. أي: فمن لم يقدر على الصوم لمرض به أو لسفر فليفطر، وعليه أن يصوم مثل ما أفطر من أيام أخر.
فمن الفقهاء من يرى أن الصوم في رمضان في السفر أفضل، ومنهم من يرى الإفطار.
وكان أنس بن مالك يرى الصوم في السفر في رمضان، فقيل له: أين هذه الآية: {أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فقال: " إنها نزلت يوم نزلت، ونحن نرتحل جياعاً، وننزل على غير شبع، واليوم نرتحل شباعاً، وننزل على شبع ".(1/589)
و " أُخَرَ " لا تنصرف لأنها معدولة عن الألف واللام عند سيبويه، وذلك أن " فُعَلَ " سبيله أن يأتي بالألف واللام نحو " الكُبَر " و " الفُضَل ". وقال الكسائي: " هي معدولة عن " أُخْرَاء " كما تقول " حُمْرَاءَ " و " حُمَرَ " / فامتنعت من الصرف لذلك ".
وقيل: منع من الصرف لأنه على وزن " جُمَع "، والعرب لا تقول " يوم أُخْرَى "، إنما تقول: " يوم أُخَر "، وإنما جاء " أَيَّامٍ أُخَر " لأن نعت " الأيام " مؤنث، فلذلك نعت بأخرى.
وقيل: " أُخَر " جمع " أُخْرَى "، كأنه قال " أيام أُخْرَى "، ثم كثرت الأيام فجمع " أُخْرَى " على " أُخَرَ ".
ثم قال تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قال معاذ بن جبل:(1/590)
" قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إن الله فرض شهر رمضان وقال: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام على الكبير إذا أفطر ولم يستطع الصوم، فأنزل الله عز وجل: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} الآية. / وهو قول عكرمة / والحسن.
وقال علقمة: " نسخها: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} ".
وكذلك روى نافع عن ابن عمر. وهذه الآية في رواية ابن وهب عن مالك محكمة.
قال ابن وهب: " قال لي مالك: " إنما ذلك في الرجل يمرض فيفطر ثم يبرأ فلا يقضي ما أفطر حتى يدركه رمضان آخر من قابل، فعليه أن يبدأ برمضان الذي(1/591)
أدركه فيصومه، ثم يقضي الذي كان أفطر من رمضان الأول، ويطعم عن كل يوم مسكيناً / مداً من حنطة.
ولو اتصل به المرض إلى أن دخل عليه رمضان آخر، فليس عليه إطعام إذ لم يفرط ".
فالمعنى على هذا القول: وعلى الذين يطيقونه القضاء لما عليهم فلا يقضون حتى يأتي رمضان آخر فدية طعام مساكين مع القضاء. يعني يطعم مداً لمسكين عن كل يوم فرط في قضائه.
وقال ابن أبي ليلى: " دخلت على عطاء وهو يأكل في رمضان فقال: إني شيخ كبير، وإن الصوم نزل فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً حتى نزلت هذه الآية: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} الآية، قال: فوجب الصوم على كل أحد إلا مريضاً أو مسافراً أو شيخاً كبيراً مثلي يفتدي ". وهو قول ابن شهاب.
[وقال ابن عباس]: " جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مساكين، فمن شاء [من مسافر أو مقيم أن يفطر ويطعم مسكيناً] كان ذلك رخصة لهم، ثم أنزل الله في(1/592)
الصوم الأخير: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولم تدخل فيها الفدية، وثبت الصوم الآخر ".
وروى / ابن سيرين عن عبيدة أنه قال في قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قال: " نسختها التي تليها: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} الآية ".
وقال الضحاك: " فرض الله الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة؛ [وإذا صلى الرجل العتمة، حرم عليه] الطعام والشراب والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخر بإحلال الطعام والشراب والجماع في الليل كله، وهو قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} الآية، وأحل الجماع بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} الآية. وكان في الصوم الأول فدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكيناً(1/593)
عن كل يوم ويفطر فعل ذلك. ولم يذكر الله عز وجل في الصوم الآخر الفدية لكن قال: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فنسخ هذا الصوم الآخر الفدية ".
وقال ابن جبير: " كانت الفدية للشيخ الكبير والعجوز إذا أفطر وهما يطيقان الصوم ثم نسختها الآية التي بعدها قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ}، فنسخت الإطعام عن الكبيرَيْن إذا كانا يطيقان الصوم وأوجب عليهما الصوم، وثبت للشيخ والعجوز الفدية إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا. وكذلك قال عكرمة والربيع.
وقال السدي: " الآية محكمة ومعناها: " وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم في صحتهم إذا مرضوا أو كبروا أو عرض لهم مانع من المقدرة على الصوم كالحامل والمرضع، الفدية إطعام مسكين لكل يوم، وإن تكلف الصيام على ضره فصام / فهو خير له ". قال ابن عباس: " إذا خافت الحامل والمرضع [أفطرتا(1/594)
وأطعمتا] ولا تقضيان صوماً ".
وقرأ ابن جبير وعطاء وعكرمة: " يُطَوَّقُونَهُ " بواو مشددة، أي: يكلفون صومه ولا يقدرون. يعني الشيخ والعجوز والحامل.
وهي قراءة تروى عن عائشة. وكان إسماعيل القاضي يضعف هذه القراءة ويقول: كيف [يقرأ: " يُطَوَّقُونَهُ " على معنى " يُكَلَّفُونَهُ "]، وهم لا يقدرون على صومه وبعده: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وكيف يقال لمن لا يقدر على الصوم: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}؟ هذا معنى كلامه. وقد قرأ مجاهد به، أعني بالتشديد للواو. وروي أيضاً عن عكرمة: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} بالتشديد في الياء والطاء على معنى:(1/595)
" يَتَطَيَّقُونَهُ ".
وعن ابن عباس أنه قرأ: " يُطَيَّقُونَهُ " بضم الياء الأولى وتشديد الثانية.
قال ابن [الأنباري: في هاتين القراءتين] لحن، لأن الفعل من الواو مأخوذ من الطوق، فلا معنى لقلب الواو ياء بغير علة / ولا أصل ". وروي أيضاَ عن مجاهد: " يَطَوَّقُونَهُ " بفتح الياء وتشديد الطاء والواو بمعنى " يَتَكَلَّفُونَهُ ". يعني الشيخ الكبير والعجوز لا يقدران على ذلك، فتكون الآية على هاتين القراءتين محكمة في الشيخ والعجوز والحامل ومن لا يقدر على الصوم لعذر يعرض له، وتكون الآية الثانية لجميع الأصحاء، فهما محكمتان.
قال مالك: " إذا خافت الحامل على نفسها أفطرت ولا إطعام عليها لأنه مرض،(1/596)
وعليها القضاء إذا صحت وقويت ".
وروي عنه أنه قال: " تفطر وتطعم لكل يوم مداً بمد النبي عليه السلام. وذكره عن ابن عمر.
وتفطر المرضع إذا خافت على ولدها ولم تجد من يرضعه لها وتطعم وتقضي.
فمالك يفرق بين الحامل والمرضع، فيلزم المرضع الإطعام ولا يلزمه الحامل، لأنها مريضة.
وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما. وقيل: بل يفطران ويقضيان، [ولا إطعام] عليهما، وهو قول الحسن وعطاء / والضحاك والزهري وربيعة والأوزاعي وأهل العراق. وقيل: بل يفطران / ويطعمان(1/597)
ويقضيان. وهو قول مجاهد والشافعي وأحمد بن حنبل.
وأجمع أهل العلم على أن الشيخ الكبير والعجوز يفطران إذا لم يقدرا على الصوم. ولا إطعام عليهما عند مالك. وهو قول ربيعة ومكحول وأبي ثور.
وقال ابن جبير وطاوس والأوزاعي والشافعي وأهل الرأي: " يطعم كل واحد منهما عن كل يوم أفطره مسكيناً واحداً ".
والهاء في " يُطِيقُونَهُ " تعود على الصيام.
وقال بعضهم: " تعود على الإطعام "، وليس بشيء.
ثم قال تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}.
أي: فمن زاد فأطعم عن كل يوم أكثر من مسكين فهو خير وأجر(1/598)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
مُدَّخَرٌ له. قاله ابن عباس وغيره.
وعن مجاهد أن معناه: " فمن أطعم المسكين أكثر من مد، فهو أجر مدخر له، إنما عليه مد ".
وقال ابن شهاب: " معناه من صام مع الفدية فهو خير له في أخراه ".
ثم قال: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: والصيام خير لكم من أن تفطروا وتفتدوا.
قال السدي: " معناه: من تكلف الصيام فصام، فهو خير له من الفدية والإفطار ".
وقال من جعل الآية الأولى غير منسوخة: هذا للشيخ الكبير / والعجوز: اعلموا أن التكلف في الصيام خير لهم من الإفطار والفدية ".
ثم قال: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أي: إن علمتم أنكم تقدرون / على الصوم، فالصوم خير لكم.
وقيل: معناه: إن كنتم تعلمون أيها المؤمنون خير الأمرين.
قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.(1/599)
أي: المفترض عليكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا وذلك ليلة أنزل الله جل ذكره القرآن من اللوح المحفوظ جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك نجوماً على ما شاء الله. كذلك أتت الرواية عن النبي [عليه السلام].
قال ابن عباس: " أنزل الله القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان فجعل في بيت العزة ".
وروى واثلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَنَزَلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ. [وَنَزَلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاَثِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ. وَنَزَلَ الزَّبُورْ لِثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَنَزَلَ القُرْآنُ لأَرْبَعٍ(1/600)
وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ]. وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ وآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً ".
وقيل: معناه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن بفرضه على الناس. فأما إعرابه على هذا المعنى، فيكون فيه معدّى إليه الفعل بحرف جر، لا ظرفاً. وعلى القول الأول، يكون فيه ظرفاً للنزول.
وروى جابر بن عبد الله أن النبي [عليه السلام] قال: " أَنْزَلَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُحُفَ [إبْرَاهِيمَ، وأنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَى مُوسَى] لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الزَّبورَ عَلَى داوُدَ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الإنْجِيلَ عَلى عِيسَى لِثمَانِي عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِنْ رَمَضانَ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين(1/601)
[ليلة خلت من رمضان ".
/ وأكثر الناس على أن القرآن أنزل] ليلة القدر من رمضان، والله أعلم أي ليلة كانت، وذلك كله إلى سماء الدنيا، ثم نزل متفرقاً على ما ذكرنا.
فأما إعراب {شَهْرُ رَمَضَانَ}؛ فيجوز أن يكون " شَهْرُ " رفع بالابتداء، و (الَّذِي أُنْزِلَ) الخبر.
ويجوز أن يكون التقدير: الأيام التي تصام شهر رمضان وشبهه.
وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب: " شَهْرَ. " بالنصب. ورويت عن عاصم ونصبه عند البصريين على الإغراء، وعند الكوفيين بالصيام، وهو قبيح للتفرقة بين الصلة والموصول.
وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته ودخوله وخروجه، ومنه " شَهَرَ فُلانٌ سَيْفَهُ "(1/602)
إذا أخرجه من غمده.
فمن قال: " شَهْرُ رمضان " قال في التثنية " شهرَا رمضان " / وفي الجمع " أَشْهُرَ رمضان "، و " شَهْرَات رمضان ".
ومن قال: " رمضان " بغير شهر قال في الجميع " رَمَضَاناتٍ ". وحكى الكوفيون " رماضين "، وحكوا " أَرْمِضَة "، وحكي " رُمَاضٌ ". ولم ينصرف لأن فيه ألفا ونوناً زائدتان، وهو معرفة.
قال قطرب: " سمي رمضان رمضان لأنهم كانوا يصومونه في الحر.
فهو مشتق من الرمضاء، والرمضاء الرمل الحامي من الشمس ".
وكره مجاهد أن يقال رمضان للشهر، ولا يقال إلا " شهر رمضان "، كما قال الله. وقال: " لعل رمضان اسم من أسماء الله ". / وقاله عطاء. / وقد أتت الآثار عن النبي عليه السلام بذكر رمضان من غير لفظ شهر.(1/603)
روى مالك أن ابن عباس قال: " إن رسول الله ذكر رمضان، فقال: " لا تَصُومُوا حَتَى تَرَوُا الهِلالَ ".
وقال أنس بن مالك: " سافرنا مع رسول الله [عليه السلام] في رمضان كثيراً ".
وإنما سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور الكثيرة من قولهم: " قَرَاْتُ الماءَ في الإناءِ "، أي جمعته وضممته.
وقيل: إنما سمي بذلك لأنهم يقولون: " قَرَأَتِ المَرْأَةُ "، و " قرأت " إذا حاضت وإذا ولدت، فكأنها / تظهر شيئاً كان مستوراً. والقارئ إذا أظهر شيئاً وبيَّنه، فهو من إظهار الشي وتبيينه.
وقوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ}. أي رشاد للناس إلى طريق النجاة.
وقوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان}.(1/604)
أي: والقرآن أيضاً آيات واضحات من الرشاد، والفرق بين الحق والباطل.
ثم قال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ}.
أي فمن شهد منكم الشهر في المصر وهو صحيح فليصمه. و " شَهِدَ " بمعنى " حضر ". ومن كان مريضاً في المصر أو على سفر، فليفطر إن شاء، وعليه عدة من أيام أخر.
وقيل: المعنى: فمن دخل عليه الشهر وهو مقيم في المصر لزمه الصوم [سافر بعد ذلك أو أقام]. رواه الضحاك عن ابن عباس قال: " إذا شهدت أوله في المصر فصم وإن سافرت ".
وكذلك قال السدي. ورواه أيضاً قتادة عن علي رضي الله عنهـ، وقاله عبيدة. وروي أيضاً / عن عائشة رضي الله عنها.
وعلى القول الأول كل العلماء: إن للمسافر الإفطار، وإن أخذه أول الشهر في المصر، ولا يجزي صيام إلا بتبييت قبل الفجر.
ومذهب [مالك أنه إذا بيت الصيام] في أول الشهر أجزأه عن أن يبيته في(1/605)
كل ليلة من بقية الشهر.
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: " لا بد من تبييت الصوم في كل ليلة " وثبت عن / حفصة أنها قالت: " لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِع الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ " وأسندته إلى النبي [عليه السلام].
ثم قال تعالى: {[وَمَن كَانَ] مَرِيضاً}.
أي مريضاً بمرض يشق عليه الصوم ويشتد عليه أفطر، وكذلك المسافر، لهما أن يفطرا ويقضيا جميعاً، ولا إطعام عليهما.
ومن أكل أو شرب ناسياً في رمضان فعليه القضاء ولا كفارة عليه. وهو قول مالك وربيعة بن عبد الرحمن وأهل المدينة.
وعن علي وأبي هريرة وابن عمر أنه: " لا قضاء عليه ".(1/606)
و [به] قال عطاء وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي وابن أبي ذيب والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأصحاب الرأي.
ومن وطىء نهاراً في رمضان ناسياً فعليه القضاء عند مالك ولا كفارة عليه، وهو قول عطاء والليث بن سعد والأوزاعي.
وقال مجاهد والحسن والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي: " لا قضاء عليه ولا كفارة ".
وقال أحمد بن حنبل: " عليه القضاء والكفارة ".
وأجمعوا على أن من أكل ناسياً فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامداً أن عليه القضاء ولا كفارة عليه.
ومن أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة كالمجامع عامداً.(1/607)
وهو قول مالك والزهري، وبه قال الحسن وعطاء. وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وأصحاب الرأي.
وقال ابن المسيب: " عليه صوم شهر ".
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: " عليه صوم اثني عشر يوماً على عدة الشهور ".
وعن عطاء أنه " لا قضاء عليه، وعليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة، أو بقرة، أو عشرون صاعاً طعاماً للمساكين ".
وعن النخعي أن " عليه ثلاثة آلاف يوم ".
وعن ابن عباس / أن " عليه عتق رقبة، أو صوم شهر، أو إطعام ثلاثين مسكيناً ".
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " مَن أفطر يوماً في رمضان متعمداً لم يقضه أبداً طول الدهر ". وروي ذلك عن ابن مسعود.
وعن الزهري أيضاً أنه قال: " إن كان فعل ذلك ابتداعاً لدين غير الإسلام، ضربت عنقه، وإن كان فعل ذلك فسقاً جلد ".(1/608)
ومن استقاء فقاء، فعليه القضاء ولا كفارة عليه.
وهو قول علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم، وابن عمر وعلقمة، وهو قول الزهري ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي.
وقال عطاء وأبو ثور: " عليه الكفارة مع القضاء ". فإن دَرعه القيء فقاء فلا شيء عليه عند الجميع.
ثم قال: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}.
أي يرخص الله عليكم إرادة التيسير، ولا يريد بكم العسر في دينكم.
ثم قال: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة}: أي تكملوا عدة ما أفطرتم / فتقضوه في أيام أخر.
ثم قال: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ}.(1/609)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قال ابن عباس: " حق على المسلمين أن يكبروا إذا نظروا إلى هلال شوال ".
وقيل: هو التكبير في العيد عند الغدو إلى المصلى. قاله علي بن أبي طالب، وزيد بن أسلم.
وكذلك كان النبي [عليه السلام] يفعل إذا خرج إلى المصلى. فهو سنة عند الزهري وغيره. يقول الرجل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
ثم قال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي [تشكرون على تسهيله عليكم وهدايته] لكم.
قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قال الحسن: " هذه الآية نزلت في سائل سأل النبي [عليه السلام] فقال: أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} الآية ".(1/610)
وروي أن / سائلاً سأل [النبي عليه السلام] فقال: يا محمد: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله [جل ذكره]: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. الآية.
وروي أن المشركين قالوا: كيف يكون الله قريباً وبيننا وبينه سبع سماوات غلاظ، كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين كذلك؟ فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. الآية.
وقال عطاء: " لما نزلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، قالوا: يا رسول الله، في أي ساعة؟ قال: فنزلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. الآية.
قال السدي: " ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به رَزقه في الدنيا، وإن لم يكن له رزقاً في الدنيا، ادُّخِر له إلى يوم القيامة أو دفع [به عنه] مكروه. وكذلك قال ابن عباس.
وعن النبي عليه السلام: أنه قال: " ما أُعْطِيَ أَحَدٌ الدُّعاءَ فَمُنِعَ الإِجَابَةَ لأنَّ اللهَ يقُولُ: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ".(1/611)
والمعنى عند الطبري: " فإني قريب في كل / وقت أجيب دعوة الداعي إذا دعان ".
وقال مجاهد: " لما نزلت: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]. ".
وقال قتادة: " لما نزلت: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، قال قوم: كيف ندعو يا رسول الله؟ فنزلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ} " الآية.
وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ}.
فمعناه: إذا شئت كما قال: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} [الأنعام: 41].
وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}.
أي فليستجيبوا إلى طاعتي، يقال: " استَجبْتُ لَهُ واسْتجَبْتُهُ " بمعنى أجبته.
وقال أبو عبيدة: " معناه: فليجيبوني ".(1/612)
وتحقيق اللفظ عند / أهل العلم: فليستدعوا الإجابة، / كما يقال: " استنصر "، إذا استدعى النصر.
وعن أبي رجاء الخراساني أنه قال: " {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} فليدعوني ". وقيل: هو التلبية.
وقوله: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}: أي وليصدقوا بي إذا هم استجابوا لي بالطاعة أني لهم من وراء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزال الكرامة عليها.
وقال أبو رجاء: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}: معناه: و " ليصدقوا بي " أني أستجيب لهم.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. معناه: لعلهم يهتدون. و " لعل " من الله واجبة.
وقيل: معنى الإجابة هنا، هو الإجابة بالثواب على الأعمال [والطاعات]، فمعنى الدعاء هنا مسألة العبد ربه، إتمام ما وعده إياه من الجزاء على الطاعة.
وروي عن النبي [عليه السلام]. أنه قال: " " الدُّعَاءُ هُوَ العبادَةُ " ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] ".(1/613)
وقيل: معناه: أجيب دعوة الداعي إن شئت.
وقال الحسن في قوله تعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}: " اعملوا وأَبشروا فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ".
وقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}. وقْف عند يعقوب. وقال نصير: الوقف " دعانِ " و " يَرْشُدُونَ ".
والفعل من " يرْشُدونَ ": رَِشَدَ يَرْشُدُ رُشْداً، ويقال: رَشَدَ يَرْشَدُ رَشَداً، فيقال: الرُّشْدُ وَالرَّشَدُ، كما يقال: البُخْلُ والبَخَلُ، والشُغْلُ والشَّغَلُ، وَالسُّقْمُ وَالسَّقَمُ، وَالعُدْمُ والعَدَمُ، وَالحُزْنُ وَالحَزَنُ، وَالسُّخْطُ وَالسَّخَطُ، وَالخُبْرُ وَالخَبَرُ، وَالعُرْبُ وَالعَرَبُ، وَالْعُجْمُ والعَجَمُ.
ثم قال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ}.
أي أبيح لكم أيها المؤمنون أن تجامعوا نساءكم في ليالي الصيام قبل النوم وبعد(1/614)
النوم ما لم / يطلع الفجر. وحَدُّ [الليل من مغيب الشمس] إلى طلوع الفجر الثاني. وَحَد النهار من طلوع الفجر الثاني إلى مغيب الشمس.
والرفث هنا كناية عن الجماع.
قال ابن عباس: " الرفث الجماع ولكن الله كريم يكني ". وهو قول جميع المفسرين.
وقال الزجاج: " الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من امرأته ".
والرفث في غير هذا الموضع الإفحاش في المنطق، ومنه قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197].
قوله: {فالآن باشروهن}.
المباشرة في هذا الموضع الجماع بدليل قوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}، يريد الولد(1/615)
بإجماع من المفسرين.
وقد تكون المباشرة في غير هذا الموضع غير الجماع، وذلك المماسة / ويدل [أيضاً على ذلك] أن الرفث عند جميع المفسرين كناية عن الجماع.
ثم قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}.
سمَّى كلَّ واحد لباساً لصاحبه لتجردهما عند النوم وتضامهما واجتماعهما في ثوب واحد، حتى يصير كل واحد منهما في التصاقه إلى الآخر بمنزلة الثوب الذي يلبسه الإنسان.
وقال الربيع: " معناه: هن لحاف لكم، وأنتم لحاف لهن ".
وقد [سُمي الفرش] لباساً والخاتم لباساً، وتقلد السيف لباساً. وهذا يدل على تحريم استعمال الحرير في الوطئ لتحريم النبي [عليه السلام] لباس الحرير.
وقيل: إنما / جعل كل واحد منهما لصاحبه لباساً لأنه يسكن إليه، كما قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ / اليل لِبَاساً} [الفرقان: 47]، أي سكناً تسكنون فيه، فكذلك زوجة(1/616)
الرجل سكنه [يسكن إليها كما قال] {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. فيكون كل واحد منهما لباساً لصاحبه لسكونه إليه. وهو معنى قول مجاهد.
والعرب تقول لما يستر الشيء ويواريه عن أبصار الناظرين: " هو لباسه وغشاؤه " فيكون قد قيل لكل [واحد] من الزوجين لباس للآخر لأنه يستر له فيما يكون بينهم من الجماع عن أبصار الناظرين.
قال مجاهد وقتادة: " معناه: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن ". وقال ابن عباس أيضاً.
وقوله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}.
أي علم الله أيها المؤمنون أنكم كنتم تريدون أن تجامعوا النساء بعد النوم وتأكلوا وتشربوا بعد النوم، وذلك محرم عليكم فتاب مما [أضمرتم من مواقعة] الذنب / وعفا عنكم. وذلك أن الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] يعني أهل الكتاب. وكانوا لا يجامعون في ليالي الصيام ولا يأكلون ولا يشربون بعد النوم، فصعب ذلك على المسلمين؛ حتى إن عمر بن الخطاب(1/617)
رضي الله عنهـ جاء يريد امرأته فقالت له: قد كنتُ نمتُ. فظن أنها تعتل، فوقع بها، وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالت له امرأته: نسخن لك شيئاً. فغلبته عينه فنام، فلما انتبه امتنع من الطعام لنومه فجعل يُغشى عليه، فنزلت هذه الآية ناسخة لذلك، فأبيح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام ما لم يطلع الفجر.
وقال معاذ بن جبل: " كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يحل لهم شيء من / ذلك. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صرمة يعمل في أرض له، فلما كان عند فطره نام فأصبح صائماً قد جهد، فلما رآه النبي [ صلى الله عليه وسلم] قال: ما لي أرى بك جهداً؟. فأخبره بما كان من أمره. واختان رجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} الآية.(1/618)
وقال ابن عباس في الآية: " كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرم عليهم الطعام والنساء إلى مثلها من القابلة. ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا الطعام [والنساء] في رمضان بعد النوم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية.
وقال كعب بن مالك: " كان الناس في رمضان إذا صام الرجل منهم فأمسى فنام، / حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. وإن عمر بن الخطاب رجع من عند النبي [عليه السلام] ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها، فقالت: [إني قد نمت، فقال: ما] نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله عز وجل: { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية.(1/619)
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: " كان الناس أول ما أسلموا يصوم أحدهم يومه، حتى إذا أمسى طعم من الطعام، وجامع فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صُليت العتمة حرم ذلك عليهم إلى الليلة القابلة وإن عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ليقضي حاجته، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيت من الملامة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أعتذر إلى الله وإليك مع نفسي هذه الخاطئة؛ فإنها زيَّنت لي فواقعت أهلي.
هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ [قال: لم تكن حقيقاً] بذلك يا عمر، فلما بلغ بيته أرسل إليه [فأنبأه الله بعذره] في آية من القرآن، وأمره الله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة وهي قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} الآية ".
وبهذه المعاني فسرها مجاهد وعكرمة وقتادة.(1/620)
وقال قتادة: " [كان بدء الصيام أنهم] أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتين غدوة، وركعتين عشية، ثم افترض عليهم رمضان وخمس صلوات، وكان الأكل والشرب والجماع [لهم مباحاً] ما لم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم ذلك عليهم / إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم يأكلون ويشربون ويغشون نساءهم بعد النوم، ثم أباح الله عز وجل ذلك لهم إلى طلوع الفجر ".
وقال السدي: " كتب الله على النصارى صوم شهر رمضان، وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا النساء بعد النوم. وكتب على المؤمنين مثل ذلك، فوقع قوم من المؤمنين في الأكل والشرب والجماع بعد النوم فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنسخ الله عز وجل ذلك عنهم فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} الآية.
قال أبو العالية وعطاء: " هذه ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقوله: {فالآن باشروهن}.
أي جامعوهن في ليل / الصيام ما لم يطلع الفجر إذا شئتم. فباشروهن كناية عن الجماع.(1/621)
وقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}. هذا لفظه لفظ أمر، ومعناه التأديب والندب.
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}: هو الولد ". وقاله أنس بن مالك. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " وابتغوا ما كتب الله لكم من ليلة القدر ".
وقال قتادة: " معناه: وابتغوا ما رخص الله لكم وأحل لكم، يعني الجماع ".
وقيل معناه: " ابتغوا الذي كتب الله لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح / لكم وهو الوطء بعد النوم في ليالي الصيام. والولد هو [مما كتبه الله في اللوح] المحفوظ أيضاً.
وقوله: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر}.(1/622)
أي بياض النهار من سواد الليل بطلوع الفجر.
وقال الحسن: " معناه: حتى يتبين لكم النهار من الليل ".
وقاله ابن عباس أيضاً. وهو مروي عن النبي [عليه السلام].
ويروى " أن عدي بن حاتم أخذ / خيطين أسود وأبيض فنظر فيهما عند الفجر فرآهما سواء، فأتى النبي [عليه السلام] فقال له: يا رسول الله: فتلت خيطين من أسود وأبيض فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى نواجذه، ثم قال له: " ألَمْ أَقَُلْ لَكَ مِنَ الفَجْرِ، إنّما هُوَ ضوءُ النَّهارِ مِنْ ظُلْمَةِ الليلْ ".
وقال سهل بن سعد. " نزلت هذه الآية: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود}،(1/623)
ولم ينزل {مِنَ الفجر}. قال: فكان رجال إذا أراد أحدهم الصوم ربط في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له أحدهما من الآخر، / فأنزل الله عز وجل بعد ذلك (من الفجر) فعلموا أنه إنما عني بذلك من الليل والنهار ".
وفي الكلام حذف وتقديم وتأخير / والتقدير: " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل ".
وفي هذا دليل بالنص على أن الصائم إذا أصبح جنباً لا يضر ذلك صيامه. لأن له الوطء ما كان له الأكل والشرب، فإذا وطىء إلى الفجر أصبح جنباً ضرورة لا شك فيه، وصيامه تام بهذا النص من القرآن والسنة.
والفجر فجران: فجر [أول وهو الضوء] الساطع في السماء، يقال له الصبح الكاذب، فلا يمنع ذلك أكلاً ولا جماعاً. والفجر الثاني هو المنتشر الذي يملأ ببياضه وضوئه الطرق، فذلك يمنع الأكل والجماع، يسمى الفجر الصادق.(1/624)
والفجر الأول يذهب في السماء طولاً كأنه ذنب السرحان مستدق صاعد في غير اعتراض.
والثاني يضرب إلى حمرة، وينتشر ضوؤه على الجبال، يقال له: المستطير أو المنتشر في الأفق وهو معترض. وكل شيء انتشر فقط استطار، ومنه قوله تعالى: {يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7]: أي منتشراً فاشياً.
والفجر في اللغة مصدر، " فجر الماء، يفجر فَجْراً " إذا بعثه وأجراه فكأنه اسم للمصدر، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: " فَجْرٌ "، لانبعاث ضوئه ونوره عليهم. والخيط في اللغة: اللون.
وقوله: {مِنَ الفجر} معناه الذي هو من الفجر، وليس هو جميع الفجر. وقال التيمي: " هو ضوء الشمس من سواد الليل ".(1/625)
وحكي عن حذيفة أنه كان يتسحر بعد طلوع الفجر.
وحكى سالم مولى أبي حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ أنه كان يتسحر بعد طلوع الفجر. وكذلك ذكره البراء عن ابن مسعود قال: " تسحرت أنا وابن مسعود ثم خرجنا والناس في صلاة الصبح ".
وليس العمل عند جميع الفقهاء على شيء من هذه الأقوال.
وعن التيمي أنه قال: " الوتر بالليل والسحور بالنهار ".
وعنه: " السحور بالليل والوتر بالليل ".
وبهذا العمل عند فقهاء الأمصار.(1/626)
وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل}.
إلى النهاية وليس بحد وإذا كانت نهاية، انتهى العمل إلى ما بعدها، ولا يدخل ما بعدها فيما قبلها، ولا صوم في شيء من الليل. والذي عليه / أهل النظر أن " إلى " إذا كان الذي بعدها من صنف ما قبلها، دخل في حكم ما قبلها كقوله: {إِلَى المرافق} [المائدة: 6] و {إِلَى الكعبين} [المائدة: 6]. والمرفقان والكعبان داخلان في الغسل. وإذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، لم يدخل في حكم ما قبلها نحو: {إِلَى الليل}. وقد بينا هذا / في المائدة بأشرح من هذا.
وقوله: {وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد}.
أي لا تجامعوا أو تلامسوا وأنتم معتكفون. فهذا يدل على جواز الاعتكاف. وفيه دليل عند قوم على أنَّ الاعتكاف جائز في كل مسجد تقام فيه الصلاة وفي كل وقت، مفطراً كان أو صائماً، لأن الخطاب خرج مطلقاً.
ولا يعتكف عند مالك وغيره إلا صائم، ولا يعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة.(1/627)
ثم قال: {تِلْكَ حُدُودُ / الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا}. أي لا تقربوا ما نهاكم عنه من حدوده.
ثم قال: {كذلك يُبَيِّنُ الله ءاياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. أي يبين لهم ما حرم عليهم مما أحل لهم لعلهم يتقون حدوده ويخافون عذابه.
ثم قال: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل}، أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل.
{وَتُدْلُواْ بِهَا} أي: وتخاصموا بالأموال إلى الحكام.
{لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس} أي: من طائفة من أموالهم.
{بالإثم} أي: بالحرام.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون أنكم ظالمون وأنه حرام عليكم.
قال ابن عباس: " هذا في الرجل يكون عليه مال، ولا بينة عليه فيجحد المال ويخاصم صاحبه وهو يعلم أنه إثم ".
ويقال: من مشى مع خصمه وهو ظالم فهو آثم / حتى يرجع إلى الحق. وقال عكرمة: " هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معه دراهم ".
يقال: أدلى فلان إلى فلان بمال: خاصم. كأنه جعله كالرسالة.(1/628)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
ويقال: " أدلى فلان بحجته " إذا بيَّنها كأنه يرسلها إرسالاً. وأصله من إرسال الرجل الدلو في حبل؛ يقال: " أدليت الدلو " إذا أرسلتها، و " دَلَوْتُها " إذا رفعتها وأخرجتها.
قوله: {يَسْأَلُونَكَ / عَنِ الأهلة}.
الهلال مشتق من استهلال الصبي إذا بكى، فقيل له: هلال لأن الناس حين يرونه يرفعون أصواتهم بذكره.
ويقال: أهَلَّ الهِلالُ واسْتَهَلّ. وسمي هلالاً لليلتين. وقيل: إلى الليلة السابعة. ومعنى الآية أنها سؤال من المشركين للنبي [ صلى الله عليه وسلم] سألوه عن نقصان القمر وزيادته ما هو، فقيل له: قل يا محمد: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}.
معناه عند الطبري: يسألونك يا محمد عن الأهلة واختلافها وتغيرها في(1/629)
محاقها وسرارها وتمامها واستوائها واستسرارها، وما المعنى الذي خالف له حالها حال الشمس التي لا تغير ولا تنتقل من حال إلى حال.
فقيل يا محمد: فعل الله ذلك تعالى لتعلم عدة الآجال لمن استوجر وتصرم عدة النساء ووقت الصوم والإفطار وحلول ديونكم وأشباه / هذا.
فهذا معنى قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}.
ومعنى: " والحج " أي وهي مواقيت للحج تعرفون بها وقت حجكم ونسككم وإحرامكم وغير ذلك. فمن أجل هذا خالف الله بين القمر والشمس. وكان ذلك لسؤال سائل سأل النبي [عليه السلام] عن الأهلة. قال ابن جريج:(1/630)
" سأل الناس: لم خُلقت هذه الأهلة، فأجيبوا بذلك ". وكذلك / قال ابن عباس وقتادة.
وقوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا}.
قال البراء: " كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار، فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية إنذاراً لهم أن الدخول من ظهر البيت ليس من البر. فانتهوا عن ذلك ".
وقال إبراهيم النخعي: " هم ناس من أهل الحجاز كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب البيوت، فنهوا عن ذلك ".
وقال مجاهد: " كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة في ظهر بيته وجعل سلماً، ولم يدخل إلا من الكوة فنهوا في الإسلام عن ذلك ".
وقال الزهري: " كان الناس من الأنصار إذا أحرموا لم يحل بينهم وبين السماء(1/631)
شيء، يتحرجون. وكان الرجل تبدو له الحاجة بعد خروجه فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقيفة الباب أن تحول بينه وبين السماء، فيفتح في الجدار من وراء الحجرة ثم يدخل من ذلك الفتح. وكان الحمس لا يفعلون ذلك، فدخل النبي [عليه السلام من الباب وهو محرم، ودخل في إثره أنصاري]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحْمَسٌ، فقال [الأنصاري: وأنا] أحمس أي على دينك. فأنزل الله الآية ".
وقال السدي: " كان أولئك الذين يفعلون هذا يسمون الحمس ".
وقال قوم من أهل اللغة: كان قوم من قريش وجماعة من العرب إذا توجه الرجل في حاجة فلم يقضها ولا تيسرت له، تطير بذلك ورجع، فلم يدخل من باب بيته، فنهوا عن ذلك.
وقال جماعة من أهل التفسير: " الحمس هم قريش وبنو عامر بن صعصعة وثقيف، وكان أحدهم إذا [أحرم لم يسأل السمن] ولم يبع الوبر ولم يدخل من باب بيته. وسموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا ".(1/632)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
والحملة الشدة في الغضب وغيره. فأعلمهم الله أن ذلك ليس من البر، وأن البر التقوى.
وذكر ابن الأنباري أن بعض الناس فسر البيوت بإتيان النساء في الأدبار مُنعوا من ذلك، وقيل لهم: إئتوا البيوت من أبوابها، أي ائتوا المرأة من الباب / المحل لكم الذي منه يكون الولد، ولا تأتوها من غير هذا الباب فتجوروا وتعصوا. وهو قول شاذ.
وقال أبو عبيدة: " {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا}: اطلبوا الخير من بابه ومن أهله ولا تطلبوه من الجهال المشركين ".
وأكثر الناس على القول الأول.
وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ}.
هذه أول آية نزلت في القتال أمروا أن يقاتلوا من/ يقاتلهم(1/633)
{وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين}.
أي لا تقاتلوا من لم يقاتلكم. وقد ن سخ الله ذلك في براءة بقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36]، وبقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] و {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً}. قال ابن زيد.
وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز/ وغيرهم: " الآية محكمة غير منسوخة ".
وقوله: {وَلاَ تعتدوا} أي: لا تقتلوا الشيخ/ الكبير والنساء والذرية، ولا من ألقى إليكم السلام، فإن فعلتم اعتديتم.
ومعنى {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} على قولهم: أي الذين فيهم مقدرة على قتالكم ومَن عادتُهم القتال. ولا تقاتلوا من ليس ذلك من شأنه كالرهبان [ومن أدى] / الجزية، ولهذا نهى عن قتل الرهبان.(1/634)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
وقد قال بعض الفقهاء: ولا تؤخذ من الرهبان الجية، وكذلك لا يحل قتل من أدى الجزية.
قوله: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} أي: في أي مكان تمكنتم بهم. ومعنى " الثقافة بالأمر ": الحذق به والبصر. ومعنى " التَّثْقيفِ ": التقويم.
ثم قال: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.
هذا خطاب للمهاجرين أُمروا أن يُخرجوا الكفار من مكة، وهو الموضع الذي هاجروا - هم - منه، وأُخرجوا.
{والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل}.
أي الشرك الكفر. هذا قول قتادة؛ أي أن يُقتل أحب إليه من أن يكفر. وأصل الفتنة الاختبار والابتلاء. فمعناه الاختبار الذي يؤذي إلى الكفر أشد من القتل.(1/635)
قوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} الآية.
وجه قراءة حمزة والكسائي: " وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ " بغير ألف، من القتل حتى [يقتلوكم مثله، فإن قتلوكم] مثله، أنهم أمروا ألا يقتلوا أحداً عند المسجد الحرام حتى يُقتلَ بعضهم فقال: [ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم] أي يقتلوا بعضكم. والعرب تقول: " قد قُتل بنو فلان " ولم يُقتل إلا الأقل منهم. " ومات الناس " ولم يمت إلا الأقل منهم. فأمام عنى قراءة الجماعة بالألف في الثلاثة من القتال، فهو أمروا ألا يبدأوا بالقتال في المسجد الحرام حتى يبدأوهم، فإن بدأوهم به، قاتلوهم وقتلوهم.
وقال قتادة: " أمروا ألا يقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى(1/636)
يبدأوهم/ ثم نسخ ذلك قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ} {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لا يكون شرك {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} أي يقال: " لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
وروي عن قتادة أيضاً أنها منسوخة بقوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، [التوبة: 5]. فأمروا بالقتال، {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] عند [انسلاخ الأشهر في الحل و] الحرم حتى يشهدوا [أن لا إلا الله وأن] محمداً رسول الله ".
وقال مجاهد: " الآية غير منسوخة، ولا يحل لأحد أن يقاتل في الحرم أحداً إلا أن يبدأه بذلك فيقاتله "، واحتَجَّ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ لَمْ تَحِل لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدي ".
وأكثر الناس على أنها منسوخة، وأن المشركين يُقاتلون في كل موضع بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} - وبراءة نزلت بعد البقرة - وبقوله:(1/637)
{وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36]، والحجة بما ثبت نصه وتلاوته أولى من غيره.
قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: شرك. الدين العبادة والطاعة.
قوله: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي: لا يُجازى إلا هم.
وسيمت مجازاتهم عدواناً لأنها جزاء للاعتداء، وهو مذهب العرب. ومنه: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
ومنه: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، ومنه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، ومنه: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79].
ومعنى: {فَلاَ عُدْوَانَ}، أي لا يُقاتَل إلا من قاتل.
قال الأخفش: " المعنى: فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الذي لم ينته، وهو الظالم منهم ".(1/638)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله: {الشهر الحرام بالشهر الحرام}.
هو ذو القعدة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صده المشركون عام الحديبية في ذي القعدة وهو محرم بعمرة، وذلك ي سنة ست/ من هجرته، فرجع من الحديبية ونحر - ثَم - هديه وحلقوا وقصر واثَم، وصالحهم في تلك السنة على أن يعود من الام المقبل، وهو سنة سبع من هجرته. فخرج النبي معتمراً في العام المقبل، وأخلى له المشركون مشكة، فأتم عمرته، وأقام ثلاثة أيام، فقال الله له وللمسلمين: هذا الشهر الحرام الذي قضيتم فيه عمرتكم عِوَضٌ عن ذلك الشهر الذي صدكم فيه المشركون.
{والحرمات قِصَاصٌ}: بعضها قصاص لبعض؛ شهر حرام بشهر حرام.
وإنما جمع في قوله: {والحرمات} وليس ثم الأشهر بدل من شهر لأنه أراد الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الحرم، فصارت حرمات/ قضاء الوقوف بها/ في عام سبع عوض من حرمات، صدوا عنها في عام ست.
وقال ابن عباس: " معناه: أن الله أطلق للمسلمين أن يقتصوا ممن اعتدى عليهم ".
فتقديره: والحرمات منكم - إذا تعدي عليكم فيها - قصاص.
وكان الإنسان حراماً ضربُه وشتمه وجَرحُه وغير ذلك، فأبيح لهم القصاص.(1/639)
قال: ثُمَّ نسخ ذلك، وصير الحكم إلى السلطان، فليس لأحد أن يقتص دون أن يرفع إلى السطان ".
قوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ}.
قال ابن عباس: " أمروا/ في/ أول الإسلام أن ينتقموا ممن آذاهم مثل ما صنع بهم، ثم نسخ ذلك، فرد الأمر إلى السلطان ".
وقال أكثر أهل التفسير: " الآية في القتال: أي: فمن قاتلكم في الشهر الحرام فقاتلوه بدلالة ما قبله من الأمر بالقتال، والنهي عنه في المسجد الحرام، وهو نظير قوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ}. والآية منسوخة بالأمر بالقتال في الحرم وإن لم يبدأوا، بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، وبقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}.
وبهذه الآية ونظيرها أجاز الشافعي أن يأخذ الرجل من مال من خانه بقدر ما خانه من غير رأيه. وقاله أصحاب الرأي. ولم يجزه مالك.(1/640)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قوله: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ}.
قال النبي [عليه السلام]: " مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً في سَبِيلِ الله كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِمائة ضِعْفٍ ".
و" إِلَى " متعلقة بـ {تُلْقُواْ}. والباء متعلقة بالمصدر عند المبرد، وهي زائدة عند الأخفش.
والتهلكة: الهلاك. حضّ الله المسلمين على النفقة في سبيله والجهاد لئلا يقوى العدو، فتصير عاقبة أمرهم إلى الهلاك.
والتهلكة عند سفيان: ترك النفقة في سبيل الله عز وجل.
وقال ابن عباس: " التهلكة الإمساك عن النفقة في سبيل الله تعالى " وقال ابن زيد وغيره: " معناه: لا تخرجوا إلى الغزو بغير نفقة، أمروا أن ينفقوا في سبيل الله وأن لا يخرجوا بغير نفقة، فيهلكوا أنفسهم ".(1/641)
وقال زيد بن أسلم: " كان رجال يخرجون إلى البعوث بغير نفقة، فإما أن يقطع بهم، وإما أن يكونوا عالة على الناس، فأمروا ألا يخرجوا على تلك الحال ".
وقال البراء بن عازب: " {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}: هو الرجل يصيب الذَّنْبَ فيلقي بيده إلى التهكلة، يقول: " لا توبة لي ". فأمروا ألا ييأسوا من رحمة الله عزو جل ".
وقال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنوب، فيقول: " لا توبة لي "، فينهمك في المعاصي، [فأمر/ ألا ييأس] من رحمة الله سبحانه ". وقال أبو أيوب الأنصاري:(1/642)
" فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا/ معشر الأنصار لما أعز الله دينه قلنا سراً: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها نصلحها ". فأنزل الله عز وجل يرد علينا ما قد هممنا به من التخلف عن الجهاد ".
فمعناه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} أي: لا تتأخروا عما هو أنفع لكم وهو الغزو. والعرب تقول: " ألْقَى فلان بيديه " إذا استسلم.
قوله: {وأحسنوا}.
قيل: معناه: أحسنوا الظن بالله عز وجل في المغفرة لمن تاب. هذا على قول من قال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}. معناه في الذنوب، وألا ييأس من رحمة الله عز وجل.
وقيل معناه: أحسنوا الإنفاق.
وقيل: معناه: أداء الفرائض.(1/643)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
وقيل: معناه: أحسنوا الظن بالله تعالى أنه يضاعف الحسنات ويخلف النفقة.
قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}.
" ما " ي موضع رفع، أي: فعليه ذلك.
وقيل: فوجب عليه ما استيسر. ولمعنى واحد.
وقيل: هي في موضع نصب تقديره: " فَليُهدِ ما استيسر من الهدي.
قال أبو عمرو: " الهدي جمع. واحده: هَدْيَةٌ، كَتَمْرَةٍ وتَمْرٍ ".
وقيل: هو مصدر لا واحد له كرجال صَومٍ. فهو يقع للواحد والجمع والتأنيث كأنه مصدر " هدى إلى البيت هدياً " وبنو تميم يُثقلون ياء الهدي.(1/644)
وقال الفراء: " لا واحد له ".
قوله: {فَفِدْيَةٌ} أي فعلهي فدية.
ويجوز النصب على معنى: فليُفد فديةً، وفليأت فدية.
قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}. الثاني يجوز فيه ما جاز في الأول.
قوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ} أي ذلك الفرض على من هذه حالته.
قوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة}.
أي: أتموا الحج إلى أقصى مناسكه، والعمرة إلى البيت، وفي قراءة عبد الله: " وأَتِمُوا الحَجّ والعُمْرَةَ إلَى البَيْتِ لله عز وجل ".
وقرأ الشعبي: " والعُمْرَةُ لله " بالرفع/ وكأنه تأول أن النصب يوجب فرض العمرة، وليس كذلك عند أكثر العلماء، وإنما معنى النصب هو الفرض بإتمام ما قد دخل فيه الرجل. فالعمرة ليست بفرض، وإتمامها إذا دخل فيها الداخل فرض.
فالقراءة بالرفع تخرج وجوب إتمام العمرة عند الدخول فيها أن يكون فرضاً بالآية.(1/645)
ومعنى النصب: " أتموا الفرض والتطوع. والفرض قد بُيِن بقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97].
قال ابن عباس: " مَن أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما ".
وقال مجاهد: " إتمامهما ان يقضي مناسكهما ".
وقال علي بن أبي طالب: إتمامها أنتحرم من دويرة أهلك ".
ويرد هذا فعل النبي [عليه السلام] إذا لم يحرم إلا من الميقات.
وقال طاوس: " إتمامها أن تفرد/ ولا تقرن ".
وقال قتادة: " إتمام العمرة/ أن يحرم بها في غير أشهر الحج ".
وإتمام الحج: أن تأتي بمناسكه حتى لا يلزمك دم القِران ولا متعة لأن(1/646)
من أحرم من غيرها بعمرة في أشهر الحج، ثم حج عامة فهو متمتع وعليه دم.
وقال سفيان: " إتمامها أن تخرج من بيتك لا تريد غيرهما، وتهل من الميقات. ليس أن تخرج لتجارة أو لحاجة/ حتى إذا صرت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت ".
وروي عن عثمان أنه قال: " إتمامها ترك الفسخ وأن تكون النفقة حلالاً. وليست/ العمرة بواجبة عند مالك وأبي حنيفة، وهي واجبة عند الشافعي.
وقال عطاء وطاوس ومجاهد: " العمرة فرض كالحج ".
وهو قول ابن جبير وعلي بن الحسين. وروي ذلك عن ابن عباس وعن ابن عمر.
وروى جابر أن النبي [ صلى الله عليه وسلم] سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ فقال: " لا، وأنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك ".
وعنه أنه قال: " الحجُّ جِهادٌ، وَالْعُمْرَةوُ تَطَوُّعٌ ".
وهو قول نافع، والقاسم بن محمد.
وقال ابن مسعود: " الحج فريضة، والعمرة تطوع ".(1/647)
وليس في هذا دليل على فرض الحج، ولا العمرة، إنما افترض في قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97]. إنما في هذه الآية فرض إتمام ما دخل فيه من حج أو عمرة. وهو داخل تحت قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} {المائدة: 1]. فمن عقد عقداً من حج أو عمرة أو غير ذلك من الطاعات فعليه إتمامه فرضاً من الله بآية العقود.
فبان من هذا أن العمرة غير فرض إذ لم تأت بذلك آية، كما أتت في الحج. ومعنى " اعتمر ": قصد، كأنه افتعلمن " عَمَرَ ". والحج القصد.
وقيل: اعتمر، معناه: زار.(1/648)
والإحصار عند مجاهد الحبس بمرض. وهو عند عطاء الحبس من كل شيء مرض أو خوف أو غيره.
وقال ابن عباس: " هو منع العدو لا غير ".
وإنما أنزل الله الآية في إحصار العدو لرسول الله [عليه السلام] ومنعهم إياه أن يتم عمرته حين رجع، و [أحل في موضعه وعاد] في العام المقابل.
وأكثر الناس على أن العلل العارضة المانعة من الحج غير داخلة في الإحصار، وحكمها حكم من فاته الحج، وليس حكم من منعه العدو حكم من فاته الحج.
قوله: فَمَا استيسر مِنَ الهدي}.
" هو شاة " قال ذلك علي وابن عباس.
وقال قتادة: " أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة ".(1/649)
وقال ابن عمر: " هو البقرة دون البقرة في السن، والبعير دون البعير ". وهو قول ابن الزبير وعائشة.
فمعنى ذلك أن حبسه شيء عن إتمام حجة أو عمرته، فعليه إذا أراد أن يحل شاة/ أو بقرة أو بعير على مذكرنا من الاختلاف.
ومذهب مالك أن الشاة تجزي. ولا هدي عند مالك على من أحصر بعدو، ولا قضاء لحجه ولا لعمرته إلا أن يكون ضرورة فعليه الحج. فإن كان الإحصار بمرض ونحوه فلا يحله إلا البيت، وعليه الهدي، إذا فاته الحج ويفسخ حجه في عمرة، وعليه حج قابل يكون معه الهدي الذي لزمه لفوات الحج.
قوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ}.
أي من أراد أن يحل، فلا [يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي] محله لأن حلقه إحلال.(1/650)
وبلوغ الهدي محله هو نحره أو ذبحه في أي موضع كان، إذا أحصر بخوف أو عدو، لأن النبي [عليه السلام] حل بالحديبية ونحر بها حين صد، وحلقوا رؤوسهم.
والحديبية ليست من الحرم. فالنحر مقدم على حلق الرأس بهذه الآية.
قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي بمرض أو نحوه، فمحله بعد الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا/ والمروة. وليس على من أحصر بعدو أو خوف قضاء ولا هدي، ويحل في موضعه، [وينحر في مضعه من حل] أو حرم إذا فاته الحج بحصر العدو بخلاف حصر المرض ونحوه الذي يلزم/ فيه القضاء ولا يحله إلا البيت، ويلزمه الهدي عند قضاء ما فاته من حج أو عمرة؛ هذا مذهب مالك. إنما القضاء على من فاته الحج من غير إحصار عدو بمرض أو فوات. فإن كان الذي أحصر لم(1/651)
يحج فعليه الحج لازم، وإن كان الذين أحصر بمرض لا يقدر على الوصول، ويخاف على الهدي أن يعطب، أرسله يُنحر بمكة، ويبقى هو على إحرامه حتى يطوف ويسعى وإن أقام سنين.
قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ}. أي شقيقة أو وجع أو كثرة قلم.
" وهذه الآية نزلت في كعب بن عَجُرَة إذ شكا إلى النبي [عليه السلام] كثرة قمله وذلك عام الحديبية، فأمره النبي [ صلى الله عليه وسلم] بحلقه، وأمره بالهدي، فقال: لا أجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صُمْ ثلاثَةَ أيامٍ أوْ [أطْعِمْ سَتَّةَ مَساكينَ]. لكل مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ "، ففي ذلك نزلت الآية ".
وقال الحسن: " عليه صوم عشرة أيام، أو إطعام عشرة مساكين ". وقاله(1/652)
عكرمة قياساً على المتمتع.
قوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج}.
ومعنى التمتع عند الفقهاء المدنيين والكوفيين أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج ثُمّ يجج من عامة ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه/ بين الحج والعمرة. فمن حصل له ذلك فهومتمتع، وعليه شاة. وقيل: بقرة، وقيل: / بدنة.
فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، وهو معنى قوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} أي هذا الحكم يجب على الغرباء إذا حلوا من عمرتهم في أشهر الحج ثم حجوا من عامهم. يعني من ليس بقاطن من الغرباء بمكة/ يلزمه ذلك، خاصة على ما فسرنا.
قال ابن عباس: " الثلاثة الأيام ما بين إحرامه إلى عرفة ".(1/653)
وعن ابن عمر: " هن [يوم قبل] التروية، ويوم التروية ويوم عرفة ". وروي ذلك عن علي.
وروي عن علي أنه قال: " أخرها انقضاء أيام منى ".
وقالت عائشة رضي الله عنها: " يصوم أيام منى ".
وقال مالك: " يصوم ثلاثة أيام قبل النحر، فإن لم يصم صام أيام التشريق و [هي ثلاثة أيام] بعد يوم النحر، فإن لم يصبها صام بعد ذلك ".
ولا اختلاف بين الفقهاء أن يوم النحر ويوم الفطر لا يجوز صومهما لأحد.
وقال ابن عباس: " إذا فاته الصوم في العشر، فعليه دم ". وهو قول سعيدي بن جبير. وهو قول أصحاب الرأي.(1/654)
وقال ابن عباس: " صيامه الثلاثة الأيم ما بين إحرامه إلى يوم عرفة وليس له صوم، قبل إحرامه.
وقال مالك: " يصومهن إذا أهلّ متى ما أهل ".
وقال مجاهد وطاوس: " له صومهن في أشهر الحج متى صام، وإذا دخل في الصوم ثُم وجد هدياً، وتمادى على الصوم أجزأ ".
واستحب مالك أن يهدي إذا وجد قبل أن يتم قبل الصوم، إن كان صام يوماً أو يومين. فإذا صام أكثر من ذلك استحب أن يهدي. فإن لم يفعل فلا شيء عليه.
وروي عنه إيجاب الهدي إذا وجده، وقد صام يوماً أو يومين، ويصوم السبعة متى شاء؛ إن شاء أخرها حتى يعود إلى مصره، وإن شاء عجل صيامها.
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
إما قال تعالى: " عَشَرَةٌ " لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة فبيّن إيجاب العددين بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.(1/655)
وقال المبرد: " إنما قيل: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} / لأنه يجوز أن يظن السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبعة، فأزال اللبس ".
فأما قوله: {كَامِلَةٌ}، فقال الحسن: " معناه: كاملة من الهدي ". أي قد كملت في المعنى الذي جعلت بدلاً منه.
وقيل: معناه الأمر، كأن معناه: " تلك عشرة فأكملوا صومها ولا تقصروا فيها.
وقيل: معنى " كاملة " التوكيد، كما تقول: " سمعته بأذني، ورأيته بعيني "، وكما قال: / {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. وقيل: معناه: تلك عشرة وافية للهدي.
وقيل: إنه قد كان جائزاً أن يقول: " وعليكم عشرة من قابل ونحوها " فلما قال: {كَامِلَةٌ}، علم أنه لا فرض بعد ذلك، كما تقول في آخر الحساب: " فذلك كذا وكذا " لتدل على أنه لم يبق شيء.
وقيل: لما كانت العشرة/ تتركب من عددين عَيَّنَ الثلاثة والسبعة، ولو صامها أحد على غير [ثلاثة وسبعة] لم يكن يمكن بمكمل لما أراد الله عز وجل من الترتيب، فقال: {كَامِلَةٌ}، أي إذا صامها أحدهم على هذا الترتيب كانت كاملة. وإن لم يفعل،(1/656)
فليست بكاملة في الفرض، وهي كاملة في العدد.
ف " كاملةٌ " ليس بتأكيد للعشرة، وإنما هو تأكيد للكيفية في صومها وترتيبها.
وقيل: لما كانت الواو قد تقع بمعنى " أو "، فتكون مخيرة في صيام سبعة أو ثلاثة. أتى بـ {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ليبين أن الواو ليست بمعنى " أو "، وأن السبعة والثلاثة يلزم صيامها، فبين بِ " عشرة " ذلك، وأزال اللبس والاحتمال.
وهذا مبني على مذهب الكوفيين في إجازتهم لوقوع الواو بمعنى " أو "، وليس هو مذهب البصريين، لا تقع عندهم الواو بمعنى " أو " لاختلاف مَعْنيهما وحكميهما.
قوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام}.
قيل: اللام بمعنى " على " أي ذلك الحكم على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما قال: {لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] أي [و] عليهم. ومنه قول النبي [عليه السلام لعائشة]: " اشتَرِطِي لَهُمْ الوَلاءَ " أي عليهم.
وقيل: اللام على بابها، وأن المعنى: أن التمتع لم هو من غير أهل مكة(1/657)
ليس بقاطن بها، لأنهم تمتعوا بأحد السفرين إذا اعتمروا وحجوا في سفر واحد وانتقال واحد في أشهر الحج.
وقيلأ: يراد بذلك أهل الحرم كلهم، لا متعة عليهم.
وقال مالك: " هم أهل مكة وأهل ذي طوى لا متعة عليهم، وليس أهل منى منهم، بلا يكونون متمتعين كغيرهم من غير أهل مكة والحرم ".
وقيل: هم مَن منزلُه دون الميقات في حرم أو غيره. رواه ابن جريح عن عطاء.
وقال الزهري: " هو الذي بينه وبين مكة اليوم واليومان لا متعة عليه ". وكان الطبري يقول: " هو الذي ليس بينه/ وبين مكة ما تقصر فيه الصلاة ".
وقيل: التمتع لبس الثياب وأخذ الطيب فيما بين العمرة والحج. وفعله، فعليه ما استيسر من الهدي، وذلك إذا كانت عمرته في أشهر الحج، فتمتع؛ فلبس الثياب وأخذ الطيب، ثم حج/ من عامة، فهو متمتع إذا كان من غير أهل مكة. وهو خلاف(1/658)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
قول أهل المدينة.
قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}.
فرق أبو عمرو بين الجدال والرفث والفسوق فجعل " لا " مع الجدال للتبرئة، وفتح وجعلها مع الرفث والفسوق، بمعنى " ليس " / فرفع/ وذلك لأن الجدال أتى على غير معنى ما قبله، لأن معنى الأول النفي الذي ليس بعام إذ قد يقع فيه الرفث والفسوق من أهل الخطايا، فجعلت " لا " بمعنى " ليس ".
ومعنى الثاني أنه نفي عام إذ قد استقرت معالم الحج وثبت فرضه واستقام أداؤه، فلا جدال في إيجابه لأحد من الناس، ففتحه على ذلك.
وقيل: المعنى: ولا جدال في كون الحج في ذي الحجة لأنهم كانوا يقدموا فيحجون في غير أشهر الحج ويؤخرون مثل ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: " الجدال أن تماري صاحبك ".
فهذا التفسير يوجب أن تجري الثلاثة مجرى واحداً.
ويجوز في الكلام النصب في الثاني والثالث والتنوين، [تعطفه على موضع لفظ(1/659)
لا]، وما عملت فيه. ويجوز فتح الأول ورفع الثاني والثالث والتنوين؛ تعطفه على موضع " رفث " قبل دخول " لا ". وقرأ أبو جعفر يزيد برفع الثلاثة والتنوين، أجراها مجرا واحداً.
قوله: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}.
معناه: أشهر الحج أشهر معلومات ثم حذف، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وقيل: ذو الحجة كامل. وهما مرويان عن مالك.
قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} أي من أوجبه.
وقيل: من أحرم فيهن.
والرفث هو الإفحاش للمرأة بالكلام في الجماع.
وقال ابن عمر: " الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال(1/660)
والنساء ". وهو مروي عن ابن عباس.
وقال مالك: " الرفث إصابة النساء "، قال: " والفسوق: الذبح للأصنام، والجدال هو تخاصم في المواقف ".
قوله: {وَلاَ فُسُوقَ}.
لا معاصي فيما نهى عنه من قتل صيد أو أخذ شعر أو تقليم ظفر، ونحوه.
وروى مجاهد عن ابن عمر: " {وَلاَ فُسُوقَ}: لا سباب ". وكذلك روى عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: {وَلاَ فُسُوقَ} لا ذبح للأصنام، وقرأ: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله} [الأنعام: 145].
وقوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}: أي لا يماري المحرم أحداً.
وقيل: لا مراء فيه، أنه في ذي الحجة.(1/661)
وقيل: معناه: لا يقال: / حجي أتم من حجك.
وقيل: نهو أن يختلفوا في اليوم الذي يكون فيه الحج.
وقيل: إنهم نهوا أن يتماروا في المناسك، فيقول هؤلاء: هذا موقف [إبراهيم ويقول الآخرون]: بل هذا.
وقيل: بل ذلك إخبار من الله أن الحج/ قد استقامت أوقاته لا تتقدم ولا تتأخر وأن [النسيء باطل لا نسئ] فيه، قد استقام وثبتت أوقاته.
فهذا على قراءة أبي عمرو حسن لأنه مخالف لما قبله في المعنى فخالف بين إعرابه. والأقاويل الأول تجري على قراءة فتحها كلها. أو من نوَّنها كلها، لأنها منهاج واحد.
قوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}.(1/662)
نزلت هذه الآية في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بضعهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد، فأمروا بالزاد.
قال ابن جبر: " هو الكعك والسويق ".
وقال الشعبي: " هو التمر والسويق ".
وقال ابن جبير: " هو الكعك والزبيب ".
وقال سفيان: " حجوا فسألوا في الطريق، فنهوا عن ذلك وأمروا بالزاد ".
وقال ابن عباس: " كان ناس يخرجون ولا يتزودون، ويقولون: نحج ولا يطعمنا الله كأنهم يمتحنون الأمر، فأمروا بالزاد ".
وقيل: هم قوم كانوا يخرجون بلا زاد، يقولون: نتوكل. فأمروا بالزاد ".
قوله: {يا أولي/ الألباب}. أي أولي العقول.
[يقال: " لَبَبْتُ] أَلُبُّ، وليس في كلام العرب فعل يفعل في المضاعف غير هذا الحرف.(1/663)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}. أي لا حرج ولا ضيف في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. ونزلت هذه الآية في القوم كانوا لا يتجرون إذا أحرموا، يرونه من البر، فأعلمهم الله أنه لا حرج فيه وليس من البر.
وقيل: إن قوماً كانوا يزعمون أنه ليس لتاجر ولا جَمَّال ولا أجير حج، فأعلمهم الله أن ذلك مباح.
قوله: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عرفات}: أي اندفعتم.
وسميت عرفات بهذا الاسم، لأن نعتها كان عند إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فلما رآها عرفها، فقال: " قد عرفت " فسميت " عرفات ".
وق السدي: " لما أذَّن [إبراهيم في الناس بالحج] أجابوه بالتلبية، فأمره الله عز وجل أن يخرج إلى عرفات، ونعتها له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله(1/664)
الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات/ يكبر مع كل حصاة فطار، فوع على الجمرة الثانية وهي [عقبة الثنية] فصدوه فرماه وكبر، فطار، فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر، فلما رأى أنه لا يطيقه ذهب، فلم يدر إبراهيم أين يذهب حتى أتى ذا الجاز رآه. فلما انظر إليه، لم يعرفه وهو مكان، فسمي ذلك " المجاز ". ثم انطلق حتى وقف بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، فقال: قد عرفت فسمي " عرفات "، فوقف بها حتى إذا أمسى ازدلف إلى " جمع "، فسمي " المزدلفة " / فوقف " بِمَجمع ".
وقال ابن عباس: " كان جبريل يُعَلِّمُ إبراهيم المناسك، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم يقول: قد عرفت، فلذلك سميت عرفات. وسمي الموسم موسماً لأن الناس يسم فيه بعضهم بعضاً أي يعرف ".
والمشعر هو ما بين جبلي المزدلفة من حد منتهى مأزمي عرفة إلى محسر، وليس مأزماً عرفة من المشعر.
وموضع المصلى اليوم في بطن عرفة، فإذا خرج الإنسان عرفة فإذا خرج الإنسان منه صار بعرفة.(1/665)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين}.
معناه: وما كنتم من قبل الهدى إلا من الضالين، " فَإنْ " بمعنى " ما " واللام بمعنى " إلا ".
وقد قيل: إنَّ " إنْ " بمعنى " قد " ذكره الطبري، وليس بجيد في اللغة.
قوله: / {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}.
أمر الحمس وهم قريش أن يفيضوا من حيث أفاض جميع الناس لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة افتخاراً وتعالياً، ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه إلى عرفات. فأمروا أن يقفوا مع الناس. ويفيضوا من حيث أفاض الناس أي من عرفة.
قالت عائشة رضي الله عنها: " كانت قريش ومَن دانها يفقون بالمزدلفة، ويقف الناس بعرفة فأمروا أن يقفوا مع الناس ". وقال الضحاك: " معنى الآية: أن الله تعالى أمر جميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس قبلهم ".(1/666)
والناس هم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن كان معه وذلك/ من جمع.
وتقدير {ثُمَّ أَفِيضُواْ}: ثم أمرهم بذلك على معنى التأكيد لما أمر الله به أوّلاً، لأنه تعالى قد ذكر المعشر والإفاضة من عرفات قبل ذلك ثم قال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. فإن كان/ عرفات فليس الإفاضة من عرفات بعد الذكر في المشعر الحرام، فالمعنى هو التأكيد لا أنه اتباع حكم لحكم تقدم.
وروي أن قريشاً كانت قد اتبدعت أشياء منها أنهم امتنعوا أن يَقِفُوا بعرفات لأجل أنها في الحل، فقالوا: لا ينبغي لنا أن نعظم إلا الحُرُم، فكانوا وحلفاؤهم يقفون يوم عرفة بمزدلفة، ويقف سائر العرب بعرفات وسما أنفسهم ومَن وَالاَهم على ذلك الحمس، وابتدعوا ألا يأتقطوا الأقِط ولا يسألوا السمن وهم محرمون، ولا يدخلوا بيتاً من شعر وهم حرم، ولا يستظلوا وهم حرم إلا في بيوت الأُدْم، ولا يأكلوا وهم حرم من طعام جيء به في من الحل، وابتدعوا ألا [يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب] الحمس، فإن لم يجد ذلك طاف عرياناً. فإذا تم طوافه أخذ ثيابه، فإن(1/667)
طاف أَحَدٌ بثيابه ألقاها إذا فرغ/ من طوافه، فلا يأخذها أبداً هو ولا غيره. وكانت العرب تسمي لك الثياب اللُّقى، وسمحوا للمرأة أن تدع عليها درعها. فلم يزل الأمر ذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. يعني قريشاً إذ كانت تفيض من مزدلفة.
وقيل: يعني سائر العرب، إذ كانوا يفيضون من عرفات، فيكون في الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، وفي ذلك أنزل: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا} [الأعراف: 31] فأباح لهم ما حرموا على أنفسهم من لبس الثياب، والطعام والشراب. وقد قيل: إن " ثُمَّ " بمعنى الواو في هذا.
فأما المعنى على قول الضحاك: فثم على بابها، لأنه يقول: أمرهم أن يفيضوا من جمع، والإفاضة من جمع لا شك أنها بعد الوقوف بمزدلفة وبعد الإفاضة من عرفات.
وقد قال الطبري: " إن من قال: إنه عرفات، ففي الكلام تقديرم وتأخير، وتقدير. ومعناه: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}، {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}، قال: " ولولا الإجماع من أهل التأويل على أن المراد بقوله {ثُمَّ أَفِيضُواْ} من عرفات، لكان قول الضحاك هو لوجه(1/668)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
البين؛ إن المراد به " جمع " لأنه على ترتيب الكلام وسياقه ولا تقديم فيه ولا تأخير ".
ويدل على أن المراد به " جمع " قوله: {واستغفروا الله} وذلك أن النبي [عليه السلام] قال: " دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لأُمَّتِي ذُنُوبَهَا، فأجَابَنِي: أَنِّي قَدْ غَفَْتُ إِلاَّ ذُنُوبَهَا/ فيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَلْقِي، فَأعْدَتُ الدُّعَاءَ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ أُجَبْ شَيْئاً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ المُزْدَلِفَةِ قُلْتُ: يَا رَبّ، إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُعَوِّضَ هَذَا الْمَظْلُوم مِنْ ظَلامَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمَ، فأَجَابَنِي أَنِي قَدْ غَفَرْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَحِكْتُ مِنْ عَدُوِّ اللهِ إِبْلِيسَ لَمَّا سَمِعَ مَا سَمِعَ، أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَىَ رَأْسِهِ ".
فأمر/ المسلمون أن يستغفروا في ذلك الموضع الذي غفر الله [لهم فيه] التبعات فيما بينهم وهي أعظم من التبعات فيما بينهم وبين الله.
ومعنى: {واستغفروا الله}. استدعوا المغفرة.
قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ}. أي أهراقة الدماء. قاله مجاهد.
وقيل: متعبداتكم التي أمر بها في الحج/ وكان القوم في الجاهلية إذ فرغوا(1/669)
من حجهم وقفوا فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمروا أن يكون ذلك الثناء على الله أو أشد منه، والخلاق: النصيب.
وقال عطاء: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ}، هو قول الصبيان: " أبا، أبا " يلهج بذكر أبيه ".
قوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا}.
قال مجاهد غيره: " كانوا يسألون الله لأمر دنياهم والظفر على عدوهم، ولا يسألونه إلى الآخرة شيئاً ".
قوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ}.
أي عافية في الدنيا، وعافية في الآخرة. قاله قتادة.(1/670)
وقيل: " الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة. وفي الآخرة: الجنة ". قاله الحسن وسفيان.
وقال ابن زيد: " الحسنة في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة "، وقاله السدي.
ومعنى: {سَرِيعُ الحساب}.
أي يحصي ما يحصيه بغير كلفة ولا تكلف، وليس مثل ما يتكلف له بنو آدم من العقد/ وغيره.
وقيل: معناه: يحاسبه بغير تذكر ولا كتاب.
وقيل: معناه: مجاز للفريقين على أعمالهم.
وقيل: معنى: " السرعة ": أنه يغفر السيئات ويضعف الحسنات بلا حساب على من فعل به ذلك ولا كلفة.
قوله: {واذكروا الله/ في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.(1/671)
هذه الآيام هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وهي أيام منى عند مالك.
وقال زيد بن أسلم: " المعلومات: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، والمعدودات: أيام التشريق ".
وعن مجاهد وابن عباس: " المعلومات: " العشر. والمعدودات: " أيام التشريق ".
وإنما سميت أيام التشريق لأن الناس يشرحون فيها للحم ويقددونه، فالتشريق التشريح. فكأنها سميت أيام التشريح، فأمروا بالذكر فيها عند رمي الجمار وغيرها.
وقال النبي [عليه السلام] في أيام منى - وهي أيام التشريق -: " هِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ ".
والأيام المعلومات هي: يوم النحر، ويومان، بعده. فيوم النحر معلوم، ويومان(1/672)
بعده معلومان معدودات، واليوم الثالث بعد يوم النحر معدود. قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}.
أرخص الله تعالى أن ينفر الناس اليوم الثاني من الأيام المعدودات وأعلمهم أن من تأخر إلى اليوم الثالث أنه لا إثم عليه، أي لا حرج ولا ضيق في تركه الرخصة، ومن تعجّل فلا إثم عليه في تركه الاتمام إلى اليوم الثالث.
وروي عن ابن مسعود وابن عمر: " لا إثم عليه: أي قد غفر له، ومن تأخر قد غُفر له ".
وقل/ ابن عباس: " لا إثم عليه: أي رجع مغفوراً له "، وقال: " إن العمرة لتكفر ما معها من الذنوب، فكيف بالحج ".
واستبعد جماعة تأويل من قال: " لا حرج عليه "، لأن من جلس إلى الثالث(1/673)
فقد أتى بالغاية، فليس يقال لمن أدى فرضه: " لا حرج عليك فيما صنعت ".
وقيل: معناه: لا حرج عليك في تركك الرخصة.
ومن قال: " غفر له " معناه. فهو أبين وأحسن/ وعليه [أكثر] الناس. وقال مجاهد: " معناه: لا إثم عليه إلى الحج القابل ".
{وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
أي لا حرج عليه إلى الحج القابل، أي مغفور له إلى ذلك الوقت. وقال أبو العالية: " معناه: غفر له ما تقدم "، وفي مصحف عبد الله: " لمن اتقى الله ".
قال ابن عباس: " معناه: لا حرج عليه لمن اتّقى المعاصي فيما يستقبل، أي(1/674)
غفر له ".
وقيل: معنى {لِمَنِ اتقى} أي: اتقى قتال الصيد في الحرم.
وقال ابن مسعود أيضاً: " {إِثْمَ} أي: مغفور له إن اتّقى ما حرم عليه في الحج ".
وروى أبو حازم عن أبي هريرة أن النبي [عليه السلام] قال: " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهِ ".
وروي أن عمر قال لما سمع الآية: " خرج القوم من ذنوبهم، وربّ الكعبة ".
وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ/ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ. والعُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا " ومعنى اللام في {لِمَنِ اتقى}: أي: هذا لمن اتّقى.
وقيل: المعنى: قلنا فلا إثم عليه لمن اتّقى. واللام متعلقة بالقول. وقال(1/675)
الأخفض: " ذلك لمن اتّقى ".
وقيل: معنى: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: لا يقل المتعجل للمتأخر: أنت آثم، ولا المتأخر للمتعجل: أنت آثم.
تم الجزء الرابع(1/676)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياوة الدنيا} الآية.
نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، واسم الأخنس أبي، وأمه ضبيعة عمة عثمان رضي الله عنهـ، كان حليفاً لبني زهرة، وكان قد أتى مع قومه بني زهرة إلى بدر مع المشركين يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا الجحفة، أشار على بني زهرة بترك القتال فأطاعوه، فأخنس بهم من المشركين، ورجع فسمي الأخنس فلما بلغ النبي [عليه السلام] قوله وما أشار به على بني زهرة عجب من ذلك، ففيه نزلت: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} الآية. ثم إنه قعد ذلك قدم على النبي [عليه السلام] فأظهر المحبة للإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، وأنه صادق في قوله، فأعجب النبي [عليه السلام] منه ذلك وكان يبطن الغش والنفاق، فلما خرج أفسد زَرْعَ/ الناس بالنار وأهلك مواشيهم، فذلك قوله: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث} أي: بالنار والنسل. وري أنه(1/677)
عقر حمراً، وفيه نزلت: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ/ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]. وفيه نزلت: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] إلى {الخرطوم} [القلم: 16]، لأنه حلف أنه ماقدم إلا رغبة في الإسلام وأنه صادق في يمينه، فقال الله عز وجل: { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} أي أنه صادق فيه قوله.
وقوله: {أَلَدُّ الخصام}. أي شديد الخصومة.
وقيل: معناه أنه كاذب في قوله.
والخصام مصدر " خاصم ".
وقال الزجاج والقتبي: " هو جمع خصم. يقال: خصم، وخصوم، وخصام ".
وعن ابن عباس أنه قال: " نزلت في السرية التي أصيبت للنبي عليه السلام تكلم قوم من المنافقين فيها، فأخبر الله عن اختلاف سريرتهم وعلانيتهم ".
وقيل: إن الآية عامة في كل منافق أخبر الله أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه. وقد(1/678)
قال في موضع آخر، {وَإِذَا/ لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} [البقرة: 14]، وقال: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119]. فأخبر الله أنه يشهد على ما في قلبه. يريد أنه يقول ما يقول، ويستشهد بالله أنه صادق في قوله؛ يقول: الله يشهد أني صادق فيما أقول وهو كاذب. فأخبرنا الله تعالى أنه شديد الخصومة، وأنه إذا تولى سعى في الأرض بالفساد الذي هو سبب هلاك زرع الناس لأنه إذا أفسد اشتغل بالحرب والقتال عن الزرع، وإذا لم يكن زرع لم تجد البهائم ما تأكل، فيذهب النسل/ وقوله: {وَيُشْهِدُ الله}. أي يقول: اللهم إنك تشهد أني صادق: " وهو كاذب ". وقرأ ابن محيصن: " ويَشْهَدُ اللهُ " بفتح الياء، ورفع الاسم على معنى: [والله] يشهد أنه كاذب في قوله.
وقيل: معنى، {وَإِذَا تولى} إذا غضب، فعل ذلك.(1/679)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
وقال مجاهد: " إنه إذا أفسد وتعدى، كان ذلك سبب إمساك الله القطر، وإمساكه هلاك الحرب والبهائم، وقرأ مجاهد: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} [الروم: 41].
وقرأ الحسن وقتادة: {وَيُهْلِكَ} بالرفع عطفاه على يُعْجِبُكَ.
وقال أبو حاتم: " عطف على {سعى}، أي يسعى ويهلك، وقال الزجاج: " معناه: وهو يهلك ".
وعن ابن كثير أنه قرأ: " ويهلك " بتح الياء والنصب، الحرب والنسيل بالرفع. ومثل الجماعة أشهر عنه.
قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية.
أي يبيع نفسه من أجل مرضاة الله، ونزلت في المهاجرين والأنصار(1/680)
المجاهدين منهم.
وقال عكرمة: " نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر الغفاري وهو جندب ابن السكن خرجوا/ مهاجرين وطلبهم أهلوهم، فأما أبو ذر فانفلت منهم، وأما صهيب فأخذوه أهله، وافتدى بأهله وماله من مولاه وكان مملوكاً لزيد بن جدعان. وروي أنه كان يعرف بالرومي وأصله من العرب، وإنما سمي بذلك لأنه سبي وهو صغير، فسار إلى الشام، فتغير لسانه ثم صار مملوكاً لزيد بن جدعان، فلما أمر النبي [عليه السلام] بالهجرة آمن وافتدى من مولاه بماله كله، وخلى سبيله/، فخرجت بنو تميم في طلبه، فلما أدركوه أخذ(1/681)
قوسه وخوفهم من قبله، وتواعدهم، فخافوا رميه ونبله وكان رامياً مجوداً فرجعوا وتركوه، فلما وصل المدينة قال له عمر: " ربح بيعك لا تقيل ولا تقال ". وشهد بدراً، ففيه نزلت {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء} الآية. فيشري على هذا القول بمعنى يشتري، وعلى القول الأول بمعنى " يبيع ".
وقال الربيع: " نزلت في رجل منع الخروج إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم] فافتدى منهم بداره وماله، وخلوه فخرج إلى النبي عليه السلام فلقيه عمر في رجال فقال: ربح بيعك، قال: وبيعك، فلا خَسِر، فما ذاك؟ قال له: أنزل فيهك كذا وكذا ".
وقيل: نزلت الآية في رجل مسلم حمل على المشركين، بسيفه غضباً لله إذ(1/682)
سمع الكفر به من رجل من المشركين، فقاتل حتى قتل.
فيشري على هذا بمعنى/ يبيع.
وقيل: نزلت في رجل مسلم قال لمشرك: قل: لا إلا الله. فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشربن نفسي من الله ". أي لأَبِيعَنَّهَا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله.
وقال ابن المسيب: " أقبل صهيب مهاجراً فاتَّبعه نفر من المشركين. فنزل عن راحلته وانتشر ما في كنانته، وقال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وأَيْمُ الله، لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فعادهوه على أن يدلهم على بيته ماله بمكة ويدعوه(1/683)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
ففعل، وقدم على النبي [عليه السلام] فقال له: أبا يحيى، رح البيع، فأنزل الله {وَمِنَ الناس} الآية.
وقيل: إنه عني بها كل من باع نفسه من الله، روي ذلك عن عمر وغيره. وهو أولى بظاهر الآية عند الطبري وغيره.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم}.
/ قال ابن عباس: " السِّلْمُ - بالكسر - الإسلام " وهو قول أبي عمرو.(1/684)
وَالسَّلْمُ - بالفتح - المسالمة والصلح. فعلى هذا يكون الكسر هنا أقوى وأحسن لأن الخطاب للمؤمنين، فليس للصلح وجه. وأهل اللغة يسوون بينهما، / قاله الكسائي وغيره، ومعنى أمره إياهم بالدخول في الإسلام وهم مؤمنون على قول الضحاك، إنه إنما خاطب من آمن بالأنبياء أن يؤمنوا بمحمد [عليه السلام].
وقال عكرمة: " نزلت في ابن سلام وابني كعب: أسد وأسيد، قالوا بعد إسلامهم لرسول الله [عليه السلام]: إن السبت كان مفروضاً فأذن لنا أن نسبت وإن التوراة كتاب الله، فأذن لنا أن نحكم بها فأنزل الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم}، أي في الإسلام.
{كَآفَّةً}: أي في جميعه، فيكون " {كَآفَّةً} " على هذا القول حالاً من السلم.(1/685)
وقيل: هي مخاطبة لجميع من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومعناها: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام وحدوده.
وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام كان يقيم شرائع التوراة وشرائع القرى،، فأنكر ذلك [عليه المسملون]، فقال: أنا أقوى على هذا، فنزلت الآية فترك ما كان عليه ورجع إلى شرائع الإسلام وما في القرآن.
واختار الطبري قراءة الكسر في السلم.
ويختار أن يكون مخاطبة للمؤمنين بمحمد [عليه السلام] وأن الصلح لا معنى له على هذا، واختار {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] لأنهم دعوه إلى الصلح، وليس في القرآن موضع أمر الله فيه المؤمنين بأن يبتدئوا بالصلح، إنما أمرهم بذلك إذا بدأهم به المشركون ورغبوا فيه، فلذلك يختار الكسر في البقرة لأنا لو فتحنا لأوجبنا أن الله أمر المؤمنين أن يبدأوا(1/686)
المشركين بالصلح، ويختار الفتح في " الأنفال " لأنه قلا: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] / أي ابتدأوا وطلبوا ذلك منك، فافعل ما سألوا وتوكل على الله.
وإذا كان التأويل أن المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أمروا بذلك أو بضعهم، فيكون {كَآفَّةً} حالا من السلم على معنى: " ادخلوا في الشرائع كافة "، أي في جميعها. وإذا كان التأويل أن المؤمنين بالأنبياء - صلوا الله عليهم - الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بالإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيكون " كافة " حالاً من المأمورين، أي ادخلوا جميعاً.
وقال ابن عباس: " هم أهل الكتاب أمروا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بالدخول في شرائعه ".
ومعنى " كافة " الإحاطة والعموم، من " كَفَفْتُ فلاناً عن/ كذا "، منعته، ومنه " رجل مَكْفٌوفٌ " أي ممنوع من النظر، ومنه " كَفَّهُ الميزان لأنها تَكُفُّ الأخرى، أي تمنعها من أن تميل بها. ومنه سمي الْكَفُّ لأنه يمتنع بها.
فمعناه على هذا إذا جعلت حالاً من الضمير: لا يمتنع منكم أحد أن يكف بعضهم بعضاً من الامتناع.(1/687)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
وجعله حالاص من " السلم "، فمعناه: تمنعكم هذه الشرائع من اتباع غيرها.
قوله/: {خُطُوَاتِ الشيطان}. أي آثاره.
وقال الضحاك: " هي الخطايا التي يأمر بها ".
قوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ}. أي أخطأتم. وقيل: ضللتم.
وقال ابن عباس: " هو الشرك ".
والبينات محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقوله: {عَزِيزٌ} أي ذو عز لا يمنعه من الانتقام منكم مانع {حَكِيمٌ} فيما يفعله بكم من العقوبة على زللكم بعد إقامة الحجة وظهور البراهين.
قوله: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة}.
مَن خَفَضَ " الملائكة " عَطَفَ على " {ظُلَلٍ} ".(1/688)
وقال أبو إسحاق: " هي عطف على الْغَمَامِ "، وهي قراءة أبي جعفر، وقراءة الجماعة [الرفع على العطف] على الاسم المرفوع بعد " يَأتِيَهُمْ ".
وقرأ أبو جعفر " في ظُلالٍ وَقَضَاءِ الأَمْرِ " بالمد والخفض.
وفي قراءة أبي: " إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ وَالْغَمَامُ فِي ظلل مِنَ المَلاَئِكَةِ ".
وهذا الإتيان عند أكثرهم يوم القيامة يكون.
وقال قتادة: " ذلك عند الموت ". وهو قول شاذ.
وقيل: معنى {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام}، " بظلل "، ففي بمعنى " الباء ". وهذا قول حسن بَيِّن.(1/689)
قال عكرمة: {ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} " طاقات منه والملائكة حوله ".
وأكثر أهل التفسير على أن في الكلام تدقديماً وتأخيراً في قراءة من رفع الملائكة، والمعنى: إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام. قالوا: والرب يأتي كيف شاء، و {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} من حال الملائكة. وجماعة منهم على أنه تعالى يأتي في ظلل من الغمام، وتأتي الملائكة/ كيف شاء. وهذا اختيار الطبري.
وروى ابن عباس عن الن بي [عليه السلام] أنه قال: " إن الغمامة [طاقات يأتي الله جل وعز] فيها محفوفاً ".
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: [ويجب] أن تعتقد أن صفات الله جل ذكره بخلاف صفات المخلوقين، فلا تعتقد إلا أن الإتيان والمجيء من الله تبارك وتعالى صفة وصف بها نفسه لا إتيان انتقال وتغير حال، تعالى الله عن ذلك.(1/690)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
وقد قدره قوم على حذف كأنه " إلا أن يأتيهم أمر الله ".
وقيل: معناه: ثواب الله وعقابه.
وهذا كله توعد لمن تقدم ذكره من التاركين للدخول في الإسلام ولسعيهم بالفساد في الأرض.
ومعنى: {وَقُضِيَ الأمر}: فرغ منه.
قوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.
أعلمنا تعالى برد الحساب والعقاب إليه والأمور الآن وفي كل وقت إليه مصيرها، وبيده تصرفها، وعن مراده كونها. وإنما خص ذلك الوقت بالذكر لأنه وقت لا يدعي فيه أحد أمراً ولا نهياً ولا ملكاً ولا مقدرة، والدنيا يها الجبارون والكافرون يدعون ذلك لأنفسهم، والآخرة لا يدعي فيها أحداً شيئاً، فلذلك خص الله رد الأمور إليه/ في الآخرة مع كونها مردودة إليه في الدنيا.
قوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} الآية.(1/691)
كتبوا في المصحف {نِعْمَةَ الله} هاهنا بالهاء، وكذلك في سائر القرآن إلا أحد عشر موضعاً كتبت بالتاء:
في البقرة: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} [الآية: 231].
وفي آل عمران {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ} [الآية: 103].
وفي المائدة: {اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ} [الآية: 11].
وفي إبراهيم: {نِعْمَةَ الله كُفْراً} [الآية: 28].
وفيها: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
وفي النحل: {وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} [الآية: 72].
/ وفيها: {نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل: 83].
وفيها {واشكروا نِعْمَتَ الله} [النحل: 114].
وفي لقمان: {تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله} [الآية: 31].
وفي فاطر: {نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ} [الآية: 3].
وفي: والطور: {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الآية: 29].
والأصل في جميعها التاء، ولكن من موقف بالهاء فإنما ذلك للفرق بين الأفعال(1/692)
والأسماء نحو " قامت " و " شجرة ".
[وقال] سيبويه: فعل ذلك للفرق بين التاء الأصلية والملحقة والزائدة في " العنت " و " ألفت "، و " عفريت "، و " ملكوت " و " شجرة ". وهذه هي التاء الزائدة. ولغة طيء الوقف بالتاء.
وقال الفراء: " من وقف بالتاء، أراد الوصل، ومن قف بالهاء أراد الوقف الصحيح ". وأنكر ذلك ابن كيسان وغيره.
[وكل ما] كتب منه بالتاء، فمذهب المدنيين الوقف بالتاء على ما في المصحف. ومذهب أبي عمرو والكسائي وخلف وابن كيسان الوقف بالهاء على الأصل المشهور وقد قال ابن كيسان: " من وقف بالتاء فإنما نوى أصلها لأن أصلها التاء ".
وقوله: {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}.
يعني العصا وانفجار الحجر وانفلاق البحر ونحوه، ثم كفروا بعد ذلك وبدلوا هذه النعم، فأمر الله نبيه عليه السلام/ بالصبر وأخبره بفعل من قبله في سالف الدهر، وقال(1/693)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
له: سلهم كم أعطوا من الآيات ثم لم ينفعهم ذلك.
ومعنى {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} أي: من يغير ما عاهد الله عليه من قبول/ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الإسلام فيكفر، فإن الله يعاقبه.
قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ}.
أخبرنا الله تعالى أنه زين لهم حب الدنيا واتباعها، وأنهم يسخرون ممن اتبع الآخرة، وذلك أ، هم قالوا: " لو كان محمد نبياً لا تبعه أشرافنا، وما نرى اتبعه إلا أهل الحاجة ".
وقال الزجاج: " معنى {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي زينها لهم إبليس لأن الله تعالى قد زهد فيها ".
وقيل: معناه خلق الأشياء الحسنة المعجبة، فنظر إليها الكفار بأكثر من مقدارها، ومثله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ/ حُبُّ الشهوات} [آل عمران: 14].
قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}.(1/694)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قال قطرب: " معناه يعطي العدد، لا من عدد أكثر منه، فيوجب بذلك بقاء الكثير ".
وقيل: معناه أن ثمة أشياء لا يحاسب بها ويغفرها.
وقيل: معناه: ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، والكافر على قدر كفره، أي ليس يرزق في الدنيا على قدر العمل.
وقيل: معناه: نحو محاسبة أي ما يخاف أحداً/، يحاسبه عليه.
وقيل: معناه: بغير حساب للمعطي. أي يعطيه من حيث لا يحتسب.
قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة}.
الآمة هنا قول ابن عباس وعكرمة: من كان بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، وكانوا على دين من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال ذلك ابن عباس وغيره. وول من بعث الله نوحاً عليه السلام.(1/695)
والأمة هنا معنها الأمم، ودل الواحد على الجماعة. وأصل الأمة الجماعة [تجتمع على دين] واحد قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] أي على دين واحد.
وقيل: معناه: كان آدم وحواء عليهما السلام أمة واحدة في الطاعة. وسيما بالجماعة لأنهما أصل لها.
وقال ابي بن كعب: " معناه كان جميع الخلق أمة واحدة إذا استخرجهم من [صلب آدم] وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]. فأقروا كلهم فكانوا كلهم أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا/ إذ ظهروا إلى الدنيا فبعث الله النبيين مبشرين من أقام على عهده بالجنة. ومنذرين من خالف ما عهدَهُ إليه بالنار ".(1/696)
وقال ابن زيد عن أبيه " لم يكن الناس أمة واحدة قط، إلا حين أخرجهم الله من ظهر آدم صلى الله عليه وسلم ".
وقيل: الناس هنا: نوح ومن كان معه في السفينة.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: " كانوا على الكفر فبعث الله النبيين ".
قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ}.
أي لم يختلف في التوراة إلا الذين نزلت عليهم.
{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} الآية.
أي الحجج أنه من عند الله، فكان خلافهم تعمداً للبغي بينهم لحب الدنيا وملكها والتنافس فيها فبغى بعضهم على بعض، وقتل بعضهم بعضاً على ذلك.
وقال زيد بن أسلم: " اختلفوا في يوم الجمعة؛ فاتخذ اليهود السبت، / والنصارى الأحد فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق،(1/697)
واليهود بيت المقدس، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه [وسلم] للقبلة. واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنه من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ويتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى صلى الله عليه وسلم؛ فكفرت به اليهود، وقالوا في أُمِّهِ بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الليه عليه وسلم للحق من ذلك ".(1/698)
والبغي: الاعتداء والطغيان، يقال للبحر إذا فاض وكثر ماؤه: " بَغَى الْبَحْرُ " أي طغى. وتقدير الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغياً بينهم من بعد ما جاءتهم البينات.
وقد أنكر هذا قوم لأن المصدر لا يتقدم عليه ما تعلق به، وهذا الا عتراض لا يلزم لأن " من " متعلقة " بأُوتُوهُ " لا " بالبغي ".
ومعنى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أي الكتب.
قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس}.
وقرأ الجحدري. " لِنَحْكُمَ " بالنون.
وقالوا أبو إسحاقَ: " معنى {وَمَا/ اختلف فِيهِ}. أي في النبي محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ}، أي أعطوا علم نبوته، فعلوا ذلك للبغي.
قوله: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ}.(1/699)
أي هداهم الله لمعرفة ما اختلفوا فيه من الحق إذ هداهم للإيمان بما اختلف فيه الأولون من الحق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُون/ يَوْم الْقِيَامَةِ؛ نَحْنُ أَوَّلُ/ النَّاسِ دُخُولاً الجَنَّة بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُو الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وأُتينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَدَانَا اللهُ لِمَا/ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإِذْنِهِ " فَهَذا اليّوْم الذِي هَدَانتَا اللهُ لَهُ وَالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، غداً لليهود، وبعد غَدٍ لِلنَّصَارى ".
وهذا الاختلاف الذي هدى الله المؤمنين إليه، ووفقهم لإصابته وهي الجمعة ضلوا عنها، وقد فرضت عليهم كما فرضت علينا فجعلوها السبت، وجعلها النصارى الأحد.
وقال ابن زيد: " اختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى بيت المقدس، فهدانا إلى الكعبة. واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من/ يصوم بعض ليلة، فهدانا الله له. واختلفوا في الجمعة؛ فأخذ اليهود السبت،(1/700)
وأخذ النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً، فهدانا الله إلى إنه كان حنيفاً مسلماً، وكذلك اختلفوا في عيسى صلى الله عليه وسلم؛ فهدانا الله لجميع ذلك على الحق بمحمد صلى الله عليه وسلم ".
وهذا عند أكثر أهل العلم فيه قلب، والمعنى: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، كما قال:
كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ ... فالهداية إنما هي للحق ولم يهدهم للاختلاف.
وظاهر الآية يعطي الهداية للاختلاف لأنه قال: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق}. ولكن الكلام فيه قلب أتى على لغة العرب وعادتها في كلامها. وهذا قول الطبري واختياره.(1/701)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
وقد قيل: إن المعنى: إن الله هداهم للاختلاف أنه باطل، فآمنوا بما كفر به غيرهم.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة}.
" أم " للخروج من حديث إلى حديث.
وقال الطبري: " أم " للاستفهام، ومعنى اللام " أحسبتم ". قال: وإنما تكون " أم " للاستفهام إذا تقدمها كلام، فإن لم يتقدمها كلام لم تقع كذلك ".
قوله: {حتى يَقُولَ الرسول}.
النصب فيه على الغاية كأنك قلت: " وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ". فيكون الفعلان قد مضيا. ويجوز النصب في غير القرآن على أن تجعل الثاني من أجله وقع الأول،(1/702)
كأنك قلت: " كي يقول "، فالأول حدث كي يكون الثاني، ولا يحسن هذا في الآية.
والرفع في الآية على أن يكون ما بعدها جملة لا تعمل " حتى " فيه، أي " زلزلوا، فقال الرسول "، ويكون الفعلان أيضاً مضيا أي حتى هذه حال الرسول، ويجوز الرفع في الكلام على أن يكون الأول قد مضى، والثاني في الحال؛ تقول: " سرت حتى أدخلها " أي حتى أنا الآن أدخلها، فالسير مضى، والدخول الآن، ولا يجوز هذا في الآية.
وقال أبو عمرو: " لما اختلف الفعلان في الآية، كان الوجه في الثاني النصب ".
قوله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ}.
يجوز في " قريب " النصب على أنه نعت لظرف محذوف. ولا يثنى قريب(1/703)
ولا يجمع ولا يؤنث إلا أن يكون للنسب والقرابة، فيجوز ذلك فيه.
ومعنى الآية: أحسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم من اتباع الأنبياء من الشدائد والخوف حتى قال الرسول والذين معه: {متى نَصْرُ الله}، كأنهم استبطأوا النصر فأخبرهم الله تعالى أن/ نصر الله قريب.
وقيل: إن في الآية تقديماً وتأخيراً وحذفاً للاختصار والتقدير: وزلزلوا حتى يقولوا؟ {متى نَصْرُ الله}، ويقول لهم/ الرسول: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} اسبتطأوا النصر وزاد عليهم الخوف، فقالوا: متى نصر الله؟ فقال لهم الرسول: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ}.
فقوله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} من قول الرسول، وقوله: {متى نَصْرُ الله} من قول المؤمنين من أمة الرسول.
وهذه الآية في قول السدي وقتادة نزلت يوم الخندق حين اشتد على المؤمنين أمر الأحزاب وآذاهم البرد وضيق العيش، وفيه نزل: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا(1/704)
نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9 إلى {قَدِيراً} [الأحزاب: 27].
قال السدي: [اشتد على/المؤمنين الأمر] حتى قال قائلهم: {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب: 12]. يريد قاله بعض المنافقين.
{والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [الأنفال: 49]. أي شك. قالوا ذلك أيضاً/ كذلك حكى الله عنهم في سورة الأحزاب. وقيل: " إنها نزلت في المهاجرين إذ تركوا أموالهم ودورهم بمكة، فحكم فيها المشركون، فضاقت بهم الحال في المدينة فَآخَى النبي [عليه السلام] بينهم وبين الأنصار فَوَاسَوْهُمْ فنزلت الآية تعزية لهم وتصبيراً.
وذكر وهب بن منبه: " أن سبيعن نبياً دفنوا في مسجد الخيف، كلهم ماتوا(1/705)
من الجوع والقمل
وقال النبي [ صلى الله عليه وسلم] : " سأل نبي من الأنبياء سعة الرزق فأوحى الله إليه: (أَمَا يَكْفِيكَ أَنِّي عَصَمْتُكَ مِنَ الْكُفْرِ) ".
فلو رضيَ اللهُ الدنيا لأحد من أوليائه ما نال منها الكافر جرعة ماء، ولكن الله لم يجعلها ثوباً لمؤمن ولا عقاباً لكافر.
قوله: {البأسآء والضرآء} الفقر والمرض.
وقيل: القتل والفقر.
وقال القتبي: " البأساء: الشدة والضراء: البلاءً ".
ومعنى {وَزُلْزِلُواْ} خوفوا وحركوا.
وأصله من " زال الشيء من مكانه ". ومعنى " زلزلته " كررت زلزلته.(1/706)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}.
سأل/ أصحاب النبي [عليه السلام] على من ينبغي أن يفضلوا، فأنزل الله الآية، وهذا قبل أن تفرض الزكاة.
وقيل: هي منسوخة بالزكاة.
وقيل: هي محكمة فيها صفة أين يوضع التطوع، والزكاة مفروضة على بابها.
وهذه الآية تدل على أن النفقة على الوالدين من الصدقة.
قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال}.
أكثر العلماء على أن الجهاد فرض يحمله الإمام ومن معه عن الناس، وليس على كل رجل ذلك فرض.
ومعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} فرض عليكم، وهو كالصلاة على الموتى ودفنهم، دليله قوله: {فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95]. فأخبر أن الكل له الحسنى وهي الجنة، وأن المجاهدين أفضل له.
وقال ابن جبير: " هو فرض على جميع المسلمين ".(1/707)
وقد قيل: هي ناسخة واجبة لما أمروا به من العفو والصفح بمكة.
وقيل: هي منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122].
وقيل: هي على الندب لا على الوجوب.
وقد قال عطاء: " هي فرض على الصحابة خاصة ". وهو قول مطعون فيه.
قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}.
الكره بضم الكاف ما كان من نفسك، وبالفتح ما أُكْرِهْتَ عليه فيه.
وقال معاذ بن مسلم: " الكُره المشقة، والكَره الإجبار ".
وقيل: هما لغتان: كالضُّعف والضَّعف.(1/708)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
وقيل: الكره بالضم الاسم، وبالفتح المصدر.
قوله: {وعسى أَن/ تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
معناه: إن كرهتم القتال فهو خير لكم، لأن فيه الظفر والغنيمة والشهادة. {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}.
أي إنكم إن تحبوا القعود عن الجهاد فهو شر لكم لأنكم تحرمون الظفر والغنيمة و [الأجر. أو] الشهادة.
{والله يَعْلَمُ}: أي يعلم ما هو خير ممّا هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتب عليكم من جهاد عدوكم فإنكم لا تعلمون.
قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ}.
قال السدي: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية في سبعة نفر فبينما هم سائرون إذا بنفر من المشركين ببطن نخلة فاقتتلوا، فأسر المسلمون منهم وقتلوا وغنموا،(1/709)
وكانت أول غنيمة غنمها أصحاب النبي [عليه السلام. وكان] ذلك في الشهر الحرام فتكلم الناس في القتل في الشهر الحرام.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: " ما أمرتكم أَن تَقْتُلُوا فِي الْشَهْرِ الْحَرَامِ " فسقط في أيدي القوم [وأخذوهم الناس باللائمة]، فأنزل الله عز وجل: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ [كَبِيرٌ]} " فأخبرهم أنه منكر عظيم.
ثم ق ل: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله}.
أي وصدكم أيها المشركون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكفركم بالله تعالى وأخراجكم أهل المسجد الحرام منه. يريد الله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذلك كله من فعلكم أكبر عند الله من القتل، أي الشرك الذي أنتم عليه أكبر من القتل في الشهر الحرام. / وكذلك قال ابن عباس.
وقال الضحاك: " لما قتل عمرو بن الحضرمي في سرية بعثها رسول(1/710)
الله [عليه السلام] إلى بطن نخلة وأمر عليها عبد الله بن جحش، عَيَّرَ المشركون المسلمين بالقتل في الشهر الحرام فأنزل الله الآية فأخبرهم/ أن ذلك كبير، وأن صد المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن سبيل الله عز وجل وعن المسجد الحرام والكفر بالله تعالى أكبر عند الله سبحانه من القتل الذي أنكروه. والآية عند أكثر العلماء والصحابة منسوخة لأنه تعالى قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي عظيم فأخبر أنه شيء عظيم منكر في الشهر الحرام وأنه محظور ثم نسخته آية/ السيف في براءة: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فأبيح ذلك في الحرام وغيره، ونسخه أيضا قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36].
والأشهر الحرم المذكورة في براءة ليست المعلومة، إنما هي أشهر كان فيها عَهْدٌ بينهم وبين النبي [عليه السلام] فأمر بقتلهم حيث وجدوا إذا انسلخت تلك الأشهر وهي أربعة أشهر بعد يوم النحر لمن كان له عهد، ومن لم يكن له عهد فإلى انسلاخ(1/711)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
الحرم عهده.
وقال عطاء: " الآية محكمة، والقتال محظور في الأشهر الحرم ".
ورويى ابن وهب أن النبي [ صلى الله عليه وسلم] رد الغنيمة والأسى وودى القتيل.
قوله: {يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله}.
كتبت " رحمت " بالتاء وذلك في سبعة مواضع؛ هذا، وفي الأعراف: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ} [الآيه: 56]، وفي هود: {رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ} [الآية: 73]، وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [الآية: 1]، وفي الروم: {إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله} [الآية: 50]. وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الآية: 32]. وفيها {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [الزخرف: 32] وما عداها كتبت بالهاء.(1/712)
/ قوله: {إِنَّ الذينءَامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا} الآية.
نزلت هذه الآية حين قتلت السرية عمرو بن الحضرمي وأنكر عليهم القتل في الشهر الحارم الحرام، وقال بعض المسلمين في السرية، قد أصابوا وزراً، فأعلم الله أن من هاجر وجاهد فهو يرجو رحمة الله، وأنه غفور لما وقع منهم من القتل في الشهر الحرام ورحيم بهم.
وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه قالوا: يا رسول الله، أنطمع أن يكون خروجنا [غزوة نعطى] فيها أجر المجاهد، فأنزل الله: / {إِنَّ الذينءَامَنُواْ(1/713)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
والذين هَاجَرُواْ}، الآية.
قوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ}.
من قرأ بالثاء فقراءته مختارة، لأن الكثرة تشتمل على العظم واكبر، والكبر والعظم لا يشتمل على الكثرة فبالثاء أعم وأولى. وكل ما كثر فقد عظم وليس كل ما عظم بكثير، فوصف الإثم بالكثرة أبلغ من وصفه بالعظم، وقد قال تعالى: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] وأيضاً فإن الإثم الأول بمعنى الأثام لقوله: " ومنافع " ولم يقرأ " ومنفعة ". والآثام فالبكثرة توصف أولى من العِظم. وأما الثاني فهو إجماع بالباء لأنه يراد به التوحيد لا الجمع.
ومن قرأ بالباء فحجته إجماعهم على {أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} بالباء، أي(1/714)
أعظم. وقوله: {حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2]، وقول العرب: " إِثْمٌ صَغِيرٌ "، يدل على جواز " كبير " وحُسْنِه وترك استعمالهم " الإثم قليل "، يدل على بعد " كثير ". وأجماع المسلمين على قولهم: " صغائر وكبائر "، يدل على حسن " كبير ". ونزلت الآية جواباً لمن سأل النبي [عليه السلام] عن الخمر والميسر.
/ والخمر: ما خامر العقل أي ستره، فكل شراب ستر العقل وأحاله فهو خمر، يقال: " دخل فِي خِمَارِ النَّاسِ " أي هو مستتر في الناس، ويقال للضبع: " خَامِرِي أُمِّ عَامِر "، أي استتري. وخمار المرأة قناعها لأنه يسترها. وقوله: " اخْتَمَرَ الْعَجِينُ "، أي غطى فطورته الاختمار.
والميسر القمار سمي بذلك لما كانوا ييسرون من الجزور وغيرها للقمار عليها.
وقال مجاهد: " كل القمار من الميسر حتى لغب الصبيان بالجوز ".
وقال عطاء: " حتى لعب الصبيان بالكعاب ".(1/715)
وقال القاسم: " كل ما أنهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر ".
قال ابن عباس: " كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قامر صاحبه ذهب بأهل الآخر وماله ".
وأشعار العرب: تدل على أن الميسر كان قماراً بينهم في الجزور خاصة.
وقيل: سمي ميسراً لأنهم كانوا يجزرون الجزور. وكل/ شيء جرزته فقد يسرته والياسر الجازر. وفقيل للضاربين بالقداح: ياسرون، لأنه سبب لتجزئة الجزور.
ويقال للضارب بالقداح " يَسَرٌ وأَيْسَارٌ ".
وقيل: إن " يَسْراً " جمع " لِيَاسِرٍ "، ثم يجمع " يَسَرٌ " على " أَيْسَارٍ " وكانت العرب أهل المقدرة منهم يقامرون على الإبل في الشدائد، ويجعلون لحومها للفقراء/ منهم لتعدل(1/716)
أحوال الناس، ولذلك قال: {ومنافع لِلنَّاسِ} ".
والقداح التي كانوا يقامرون بها عشرة: منها سبعة ذوات خطوط، على كل واحد علامة يعرف بها، وهي: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى. ومنها ثلاثة لا خطوط فيها، يقال لها: " الأغفال/ والغفل من الدواب الذي لا سمة له؛ وهي: السفيح والمنيح، والوغد وليس لها سهام.
والسبعة الأول للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمبسل ستة، وللمعلى سبعة، وعلى كل واحد من العلامة على قدر ما له من الأنصباء.
وقوله: {ومنافع لِلنَّاسِ}.
هي أثمانها وما كانوا يصيبون من الجزور.
{وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}.
أي الإثم فيهما بعد التحريم أكبر من النفع قبل التحريم. قال سعيد بن(1/717)
جبير " لما نزلت: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنافع وهو الفرح الذي فيها حتى نزلت {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43]، فتركوها عند الصلاة حتى نزلت/ {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فحرمت ".
فهذا يدل على أنها منسوخة بما في " المائدة ".
وروي أن عمر رضي الله عنهـ كان يقول: " اللهم بيّن لنا في الخمر "، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} الآية، فقرئت ع ليه، فقال: [اللهم بين لنا في ال خمر بياناً شافياً، فإنها تذهب العقل والمال]، فنزلت {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى}، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت: {إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية التي في المائدة فقال عمر: انتهينا، انتهينا ".
فالخمر محرمة بنص القرآن لأن الله جل ذكره أخبرنا في هذه(1/718)
السورة أن فيها إثماً كبيراً، وحرم تعالى اكتساب الإثم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم} [الأعراف: 33] أي واكتساب الإثم. فهذا النص ظاهر في التحريم مع قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]. فهذا تهدد ووعيد؛ وذلك لا يكون إلا في المحرمات مع قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43]، فتحريم المسكر منصوص بَيِّنٌ في كتاب الله [جل وعز]، وكل ما أسكر فهو خمر، لأن كل مسكر يخامر العقل، وكل ما خامر العقل فهو خمر وهو مسكر.
وإنما سميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه.
وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر، أي تغطي من الخمار الذي تغطى به.
وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر العقل، أي تستره من الخمار الذي يغطى به الرأس.(1/719)
قوله: {قُلِ العفو}. أي تتصدق بما فضل عن أهلك.
قال السدي: " كانوا يعملون كل يوم فيما فيه، فإن فضل في ذلك اليوم فضْلٌ عن العيال قدموه ".
وقال ابن عباس: " العفو ما لا يتبين/ خروجه من المال ".
وقال طاوس: " العفو اليسير من كل شيء ".
وقال اليزيدي: العفو هو ما أطلقته من غير أن تجهد فيه نفسك ".
وقيل: ما فضل عن أهلك.
وروي أن هذه الآية {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} نزل في رجل أتى إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم] فقال: " إن لي ديناراً "، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ. فقال: إن لي دينارين. فقال: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أهْلِكَ، فقال: إن لي ثلاثة، قال أَنْفِقْهَا عَلَى(1/720)
خَادِمَكَ. [قال: إن] لي أربعة، قال: أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ، قال: إن لي خمسة. قال: أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قال: إن لي ستة، قال أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ".
يريد لي بالدينار غير الدينار، ولي اثنان غير الاثنين// وثلاثة غير الثلاثة، وكذلك ما بعده.
وقيل: العفو ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً. قاله عطاء والحسن وقال مجاهد: " العفو الصدقة عن ظهر غنى ".
وروي عن ابن عباس في حد العفو: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم [ أن يأخذ] ما أتوا به من قليل أو كثير.
وقال الربيع: " العفو/ ما طاب من المال ".
/ وقال قتادة: " العفو أفضل المال، وأطيبه أفضله ".(1/721)
قال ابن عباس: " هي منسوخة بالزكاة ".
وقيل: إنما هي الزكاة، وليست منسوخة.
وقيل: إنما في التطوع، سألوا عنه فأجيبوا، فهي محكمة وليست بغرض.
قوله {كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدنيا والآخرة}.
معناه: مثل ما بيك لكم الخمر والميسر وما فيهما يبين لكم الآيات لعلكم تتفكرون في نفاذ الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ونعيمها فتعملون للباقية منهما.
وقيل: معناه: لعلكم تتفكرون في فضل ما بينهما.
وقيل: / في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: " يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة "، أي في أمرهما لعلكم تتفكرون.
قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}.(1/722)
كان سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10]، انطلق من كان معه يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فكان يفضل الشيء من طعام اليتيم فيحبس له حتى يفسد فاشتد عليهم ذلك، فذكروا ذلك للنبي [عليه السلام]، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. قاله ابن عباس وغيره.
وقيل: إنه لما نزل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، اجتنب الناس مخالطتهم فنزلت {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، فخالطوهم.
{والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح}. أي يعلم حين تخلط مالك إلى مالك بماله، أتريد بذلك إصلاح ماله أو إفساده يريد الجنسين.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ}. أي: لحرم عليكم مخالطتهم(1/723)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
فتتبعون ويشق ذلك عليكم.
وقيل: معناه: لأَوْيقَكُمْ فأهلككم بما قد أصبتم من أموالهم.
قال أبو إسحاق: " معناه: لكلفكم ما يشتد عليكم، فتعنتون ".
وأصله من: " عَنِتَ البَعِيرُ " إذا حدث في رجله كسر بعد جبر.
قوله: {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209].
أي: عزيز في سلطانه، حكيم في فعله وأحكامه وتدبيره.
قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ}.
قال ابن عباس: " عَمَّ تحريمُ كل مشركة ثم استثنى منهن أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5].
وقال عكرمة والحسن: " نسخ من ذلك نساء أهل الكتاب ".(1/724)
وكذلك قال مالك: " هي منسوخة "، وهو قول سفيان.
وقال ابن جبير: " الآية عامة محكمة مخصومة في مشركات العرب، لم يع ن بها/ غيرهن ".
وقد قيل: هي ناسخة للتي في النساء والمائدة روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعن عمر رضي الله عنهـ. والإجماع على خلاف ذلك، وطرق الأسانيد عنهم فيها ضعف.
وروي أن عمر فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية، وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية، وأراد أن يبطش بهما على نكاحهما.
وقال/ ابن عمر: " حرم الله المشركات في كتابه على المؤمنين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى ". وقد سمى الله اليهود والنصارى مشركين في كتابه في " براءة " وغيرها؛ قال: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31]. فهذا هو الشرك بعينه.(1/725)
وأكثر الصحابة والفقهاء على جواز نكاح الكتابيات وهو نص القرآن، ولم يختلف الفقهاء في منع نكاح المسلم إماء أهل الكتاب إلا أبا حنيفة فإنه أجازه.
وأصل النكاح في اللغة الوطء. تقول العرب: " أَنْكَحْتُ الأَرْضَ الْبُرَّ " إذا بذرته فيها، ومن هاهنا ثبت أن قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] يراد به الوطء دون العقد، وبذلك أتت السنة، وقد كثر حتى استعمل اسماً للعقد إذ هو سبب الوطء.
وجاز أن تقول: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ}، والمشرك لا خير فيه، كما تقول العرب: " الآباء أحق بالميراث من الخال ". ولا حق للخال في الميراث.
وحكى نفطويه في كتاب " التوبة " له أن العرب تأتي بأفعال على ضربين: أحدهما تفضيل أحدهما على الآخر وفي الآخر فضل. / والثاني أن يكون إيجاباً(1/726)
للأول ونفياً عن الثاني كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] فهو نفي عن أن يكون في النار خير.
وقيل: / المعنى: وَلإِنْكَاحُ عبد مؤمن خير من إنكاح حر مشرك.
وهذه الآية نزلت في رجل نكح أمة فعذل عن ذلك وكان الذين [عذلوه يريدون] تزويج نساء أهل الشرك لحسبهن ومالهن وجمالهن، فأخبر الله تعالى أن " أمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجتكم "، أي ولو أعجبكم حسنها وحسبها.
ثم أخبرنا بمنع نكاح المشرك المسلمة من أهل الكتاب كان أو من غيرهم، فأعلمنا أن عبداً مؤمناً خير من مشرك.
وبهذا يحتج من جعل الأول عاماً في الكتابية وغيرها.(1/727)
ثم قال تعالى: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار}. أي يعملون بأعمالهم. {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ}.
أي بإعلامه الطريق [التي بها يتوصل] إلى الجنة والمغفرة كل من عنده.
وروي أن هذه الآية نزل في كناز بين الحصين/ [الغنوي أبي] مرثد بعثه/ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من أصحابه أسر، وكان له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها: عناق. فقل لها: إن الإسلام قد حرم ما كان في الجاهلية. فقالت له: تزوجني. فقالظ: لا، حتى آتي رسول الله فسأله. فلما قدم بالأسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله هل يحل له تزويج تلك المرأة، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} الآية، فهي في غير أهل الكتاب مخصوصة على هذا التأويل.
قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض}.(1/728)
كان أصحاب النبي [عليه السلام] في بدء الإسلام لا يساكنون النساء في المحيض ولا يواكلونهن، فسألوا النبي [عليه السلام] عن ذلك، فعرفتهم الله تعالى في الآية أن [الذي يجتنب] من الحائض هو جماعها حتى تطهر، وأن ما سواء ذلك حلال.
ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}.
أي: في الفرج خاصة. فهذا يدل على منع إتيانهن في الأدبار.
وقيل: معنى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} طهراً غير حيض.
ومعنى: {قُلْ هُوَ أَذًى}.
قال السدي: " قل يا محمد: قل هو قذر/ "، وكذلك قال قتادة.
وقال مجاهد: " {قُلْ هُوَ أَذًى} قل هو دم ".(1/729)
والآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من شريعتهم لأنهم كانوا لا يجتمعون مع الحائض فبي بيت ولا يواكلونها، فنسخت الآية ذلك. فقالت اليهود عند نزولها: " ما يدعمحمد شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه ".
فللرجل أن يستمتع [من الحائض] بما دون الفرج غير الدبر. وهو قل عائشة وأم سلمة وابن عباس والحسن وعطاء والشعبي والنخعي والثوري وغيرهم. وهو قول الشافعي الصحيح.
ويروى عن ميمونة وسعيد بن المسيب أنها تعتزل فيما بين السرة والركبة، ويستمتع بها فيما دون ذلك، وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وقال عكرمة والشعبي: " لا بأس بإتيانها دون الفرج " [يريدان الفخذ].(1/730)
وقال الثوري: " لا بأس أن يباشرها إذا اتقى موضع الدم ".
فإن أتاها وهي حائض؛ فقال ابن عباس: " يتصدق بدينار أو بنصف ".
وقيل: إن كان في فور الدم وقوته يتصدَّق بدينار، وإن كان في آخره وضعفه تصدق بنصف. قاله النخعي وغيره.
وقال الأوزاعي: " إن كان وطئها في الدم تصدق بدينار، وإن وطئها بعد انقطاع الدم وقبل الطهر بالماء، تصدق بنصف دينارً ".
وقال سعيد بن جبير: " عليه عتق رقبة ".
وقال الحسن: " عليه مثل الذي على من وطئ في رمضان ". وجماعة/ الفقهاء التابعين يقولون: لا شيء عليه ويستغفر الله من ذلك ولا يعد، وقد أخطأ.
قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وهو قول الشعبي والزهري وربيعة وأبي الزناد والليث بن سعد الثوري.(1/731)
وقال مالك والشافعي وابن حنبل وغيرهم: " لا يطأها حتى تغتسل بالماء، فإن فعل قبل ذلك، وقد انقطع الدمع، لم يكن عليه شيء، وقد أخطأ ويستغفر الله ".
وهو قول سالم/ بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والثوري.
وقال عطاء وطاوس ومجاهد: " إذا احتاج إلى وطئها قبل أن تغتسل، أمرها أن تتوضأ، ثم أصاب منها ما شاء ".
وهو معنى قراءة من قرأ: " حتى يَطْهُرْنَ " مخففاً، أي ينقطع عنهن الدم.
وفي مصحف أبي وابن مسعود: " حتى يتطهرن " بالتاء أي بالماء(1/732)
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن. هذا قول الجماعة.
وقال مجاهد وطاوس: " إذا تطهرن للصلاة ".
فليس يجب للقارئ أن يقف على " يطهرن " في قراءة من خففه لئلا يبيح وطء الحائض إذا انقطع عنها الدم ولم تتطهر بالماء. فأما من قرأه بالتشديد، فالوقف عليه حسن لأن معناه: " يتطهرن بالماء " وقربها بعد التطهر بالماء إجماع.
قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}. أي: من الوجه الذي نهيتهم عنه وهو الفرج.
وقال مجاهد: " {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أمروا أن يأتوهن من حيث نهو عنه ". يعني ياتونهن بعد التطهر في الموضع الذي أمروا أن يتعتزلوه في الحيض وهو الفرج.(1/733)
فهذا نص من الله على إتيان النساء في طهورهن في/ الفرج دون غيره. وقيل: معناه: من قبل طهرهن، لا من قبل حيضهن.
وقيل: معناه إيتوهن من قبل النكاح الذي أمرتم بهن وحل لكم لا من قبل الزنا الذي نهيتم عنه، وحرم عليكم.
قوله: {يُحِبُّ التوابين}.
أي الراجعين/ عن الذنوب، والمتطهرين بالماء للصلاة. وهو/ ظاهر اللفظ، وعليه أكثر أهل التأويل.
وقال مجاهد: " {وَيُحِبُّ المتطهرين}: أي الذي لا يأتون النساء في أدبارهن ".
وقيل: معناه: ويحب المتطهرين من الذنوب أن يعودا بعد التوبة. و {المتطهرين} يعني به النساء والرجال، غلب المذكر على المؤنث، ولم يقل المتطهرات، لأنه يخص النساء خاصة إذ لا يغلب المؤنث على المذكر.(1/734)
وقيل: عني بالمتطهرين اللواتي يتطهرن من الحيضة بالماء، وهذا يدل على أن الحائض لا توطأ إلا بعد التطهر بالماء/ لأن من وطئها قبل التطهر بالماء، فقد وطئ من لا يحبه الله، وذلك ممنوع.
ومن وطئ بعد التطهر بالماء، فقد وطئ من يحب الله. وذلك حسن لأن الله إنما أحبهن على فعلهن وهو التطهر بالماء، ولم يحبهن على غير فعلهن، وهو انقطاع دم الحيض، فشكر الله لهن تطهرهن بالماء.
وأتى " المتطهرين " بلفظ التذكير لأنه يكون من الرجال والنساء، فغلب المذكر.
وقوله: {أنى شِئْتُمْ}. أي مقبلة ومدبرة في الفرج.
ومعنى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}.
أي هُنَّ مزدرع للولد، بمنزلة الأرض هي مزدرع للحب فتقديره: " نساؤكم موضع حرِث لكم ".(1/735)
وأكثر أهل التفسير على أن الآية نزلت لما كان اليهود يجتنبون، وذلك أنهم يقولون، من أتى امرأته في فرجها من دبرها، خرج ولدها أحول، فأنزل الله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}. أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرج. ورواه مالك عن ابن المنكدر عن جابر.
[وروى] ابن وهب عن ابن المسيب أنه قال في قوله: {أنى شِئْتُمْ}: هو العزل، إن شئت عزلتم وإن شئت لم تعزل، وإن شئت سقيته، وإن شئت أظميته ".
وروي عن ابن عباس أنه قال: " كانت قريش تتلذذ بالنساء مقبلات ومدبرات في الفرج، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فامتنعن عليهم من ذلك، وقلن: [لا نعرف] هذا، فبلغ ذلك النبي [عليه السلام]. فأنزل الله الآية وأصح الوجوه في(1/736)
العربية أن يكون {أنى شِئْتُمْ} بمعنى من أي وجه شئتم.
قال أبو محمد مكي: يجب لأهل المروءة والدين والفضل ألا يتعلقوا في جواز إتيان النساء في أدبارهن بشيء من الروايات، فكلها مطعون فيه ضع يف. وإنما ذكرناها لأن غيرنا من أهل العلم ذكرها، وواجب على أهل الدين أن ينزهوا أنفسهم عن فعل ذلك، ويأخذوا في دينهم بالأحوط فإني أخاف من العقوبة على فعله، ولا أخاف من العقوبة على تركه، وقد روي في ذلك أخبلار كثيرة، وأضيف جوازه إلى مالك وروي عنه وليس ذلك بخبر صحيح ولا مختار عند أهل الدين والفضل. وقد أضر بنا عما روي فيه لئلا يتعلق به متعلق، وأسقطنا ذكر ما روي فيه من كتابنا لئلا يستن به جاهل أو يميل إليه غافل وأسأل الله التوفيق في القول والعمل بمنه.
وقد قال مسروق: " قلت لعائشة رضي الله عنها: " ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً فقالت: كل شيء إلا/ الجماع ".
ويدل على منعه قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ/ أنى شِئْتُمْ} والحرث للولد يكون لأنه كالبذر للزرع، والولد لا يكون/ إلا جهة الفرج والإباحة إنما هي في الفرج لا غير، لذكره الحرب الذي به يكون الولد. فهذا نص ظاهر.(1/737)
وقد روى يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أنه قال: " سألت مالك بن أنس فقلت: إنهم قد ذكروا عنك أنك ترى إتيان النساء في أدبارهن. فقال: معاذ الله، أليس أنتم [قوماً عرباً]. فقلت: بلى فقال: قال الله عز وجل: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}، وهل يكون الحرب إلا في موضع الزرع أو في موضع المنبت ".
وكذلك روى الدارقطني عن رجاله عن إسرائيل بن روح أنه قال: سألت مالكاً، فقلت: يا أباع عبد الكله ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: أما أنتم قوم عرب؟ هل يكون الحرب إلا في موضع الزرع؟.
أتسمعون الله يقول: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} قائمة فقاعدة وعلى(1/738)
جنبيها لا تتعدى الفرج. قلت يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول بذلك، فقال: " يكذبون علي، يكذبون علي، يكذبون علي ".
قال أبو أحمد مكي: " [وهذا] الأشبه بورع مالك، وتحفظه بدينه ".
وروى الدارقطني أيضاً عن رجاله عن محمد بن عثمان أنه قال: حضرت/ مالكاً، وعلي بن زياد يسأله، فقال: عندنا يا أبا عبد الله قوم بمصر يتحدثون عنك أنك تجيز الوطء في الدبر. فقال مالك: " كذبوا علي، عافاك الله ".
وقد روي في منعه آثار كثيرة؛ فمنه ما روي عن عكرمة أنه قال: " أنى شئتم من قبل الفرج ". قاله ابن جبير ومجاهد.
وعن/ ابن عباس أن النبي عليه السلام قال في حديث له طويل: " يَأْتِي الرّجُلُ امْرَأتَهُ(1/739)
مُقْبلَةً وَمُدْبرَةً إذَا كَنَ ذَلكَ فِي الْفَرْجِ ".
وروى عمارة بن خزامة بن ثابت عن أبيه أن البي [عليه السلام] قال: " إنّ الله لاَ يَسْتِحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَلاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ ".
وقال أبي بن كعب: " من أتى امرأته في دبرها فليس من التوابين ولا من المتطهرين ".
وقال ابن مسعود: " محاش النساء عليكم حرام ".
وروى عبد الله بن أبي الدرداء عن أبيه أنه قال: " الذي يطأ امرأته في دبرها هو أعظم الفواحش ".(1/740)
قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}.
يدل على منع الإتيان في الدبر لأن الله لا يأمر بالفحشاء وقد سمى الله الإتيان في الدبر فاحشة بقوله: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} [الأعراف: 80]، فكيف يبيح الفاحشة؟ / وإنما معناه في الفرج الذي أبيح لطلب الولد.
وفي قول الله تعالى لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165 - 166] دلالة على المباح الإتيان في الفرج دون الدبر وفي الآية دليل على منع الإتيان في الدبر من الرجال والنساء لأن قوله:
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} يراد به الفرج، لأن " ما " بمعنى " الذي ". " والذي " لا يقع إلا على معهود مشار إليه، وهو الفرج الذي خلقه في النساء. ولو قال: " من خلق لكم، لكان المراد النساء لأن " من " لمن يعقل فلما جاءت " ما " وهي تقع لما لا يعقل علم أنه شيء في: النساء خاص/خلق الأزواج وهو الفرج.
وقد قال ابن عباس في قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} " معناه: من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن ".(1/741)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
وقد كثرت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك. وقوله: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ}.
قال ابن عباس: " اذكروا الله عند الجماع ".
وقيل: معناه طلب الولد.
وقيل: معناه أنهم أمروا بتقديم الأعمال الصالحة.
وهو الخير هو المفعول الثاني " لقدموا ". فهو مردود على ماقبله من قوله، {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215] الآية.
قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}.
معناه: أن يقول الرجل إ ذا سئل في خير أو صلاح: عَليَّ يمين أن لا أفعل. فيجعل اليمين علة لترك فعل الخير. فأمرهم الله بأن يبروا أيمانهم ويتقوه في فعل الخير ويصلحوا بين الناس، قاله ط طاوس وغيره.(1/742)
وقال ابن عباس: " هو الرجل يحلف ألا يكلم قرابته، ولا يتصدق عليهم، أو يكون بينه وبين رجل مغاضبة فيحلف ألا يصلح بينه وبين خصمه، فأمر أن يُكفِّر ويفعل ما حلف عليه ".
وقال الضحاك: " هو الرجل يُحَرِّمُ ما أحل الله له على نفسه ويحلف، فأمره الله أن يُكفِّر ويأتي الحلال ".
وقال السدي: " {عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}: هو أن يعرض بينك وبين الرجل أمر فتحلف ألا تكلمه/ ولا تصله ".
وقال مالك: " بلغني أنه حيلف بالله في كل شيء.
قال ابن عباس: " معناه لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن لا تصنعوا الخير، ولكن كفِّروا إيمانكم واصنعوا الخير ".
وقوله: {أَن تَبَرُّواْ} هو الرجل يحلف ألا يبر رحمه.
ثم قال: {وَتُصْلِحُواْ} هو الرجل يحلف ألا يصلح بين اثنين/ إذا عصياه، غضباً عليهما في مخالفته، فأمر أن يكفر ويأتي ما حلف عليه.
وجامع القول في هذا ما روي عن ابن عباس أنه قال: " هو الرجل يحلف على(1/743)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
شيء من الخير والبر ألا يفعله، فأمر أن يفعل ويكفّر ".
وقالت عائشة رضي الله عنها: " لا تحلفوا بالله وإن بررتم ".
وقال ابن جريح: " نزلت الآية في أمر أبي بكر حيث حلف ألا يتصدق على مسطح ولا يعطيه شيئاً ".
والعرضة في كلام العرب القوة والشدة؛ يقال: " هذا الأمر عرضة لك " أي قوة لك على أسبابك. فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم في ترك فعل الخير.
وقال السدي: " نزلت هذه الآية قبل نزول الكفارات ".
وقال غيره: " نزلت بعد نزولها ".
قوله: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}.
قال ابن عباس: " هو ما سبق به اللسان على عجلة كقولك: " لا والله، بل(1/744)
والله ". وكذلك قالت عائشة رضي الله عنهـ.
وقال مجاهد: " هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا. ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا وكذا، فهو اللغو ".
وقال أبو هريرة: " لغو اليمين أن يحلف الرجل على الشيء يظن أنه هو يقين منه، ثم يظهر له خلاف ظنه ". وهذا القول أحسن الأقوال في لغو اليمين المعفو/ عنها. وروي مثله عن ابن عباس.
وروي عنه أيضاً أنه قال: " هو الرجل يحلف على الشيء فيرى الذي هو خير منه فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويفعله/، وأعلمه أنه لا يؤخذه على ذلك ". فهذه ثلاثة أقوال عن ابن عباس.(1/745)
وقال عطاء بن يسار: " هو الخطأ في اليمين ".
وقال الحسن وغيره: " هو الرجل يحلف على الشيء، وهو يظن أنه صادق، ثم يظهر له خلاف ذلك، فلا كفاركة عليه ولا إثم "، وهو قول أبي هريرة المختار.
وقال طاوس: " هو الرجل يحلف في الغضب، فلا كفارة عليه ولا إثم "، وذكر قول النبي [عليه السلام]: " لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ ".
وقال: ابن جبير: " هو الرجل يحلف أن يعفعل ما نهى الله عنه أو يترك ما أمر الله به، فيمينه لغو، ولا كفارة عليه ".
وقد قال ابن المسيب وابن الزبير: " لا كفارة في معصية ". وكذلك قال ابن عباس.
وقال الشعبي: " كفارة من حلف على المعصية أن يتوب منها ".(1/746)
وقال: [زيد بن] أسلم: " هو الرجل يقول: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، وأخرجني الله من مالي إن لم أصنع كذا، وشبهه مما يدعو به على نفسه. فهو لغو ولا كفارة/ فيه ".
وقال: ابن زيد: " هو قول الرجل: " أنا كافر إن فعلت كذا، وجعلت مع الله إلاهاً إن صنعت كذا، وشبهه، فلا كفارة فيه ".
وقال الضحاك: " اللغو من الأيمان، هي اليمين المكفرة يحلف ألا يفعل فيكفر ويفعل، ولا يؤاخذه الله بذلك، ولكن يؤاخذه بما يحلف عليه وقلبه يتيقن أن يمينه كذبة. فتلك اليمين لا كفارة فيها، وهي اليمين الغموس، وهي أعظم من أن تكفر ".
وقيل: لغو اليمين الحنث، لا يؤاخذ الله من حنث في يمينه وكفر، لأن التكفير يسقط الإثم ".
وقال إبراهيم: " هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء، ثم ينسى فيفعله، فيمينه لغو ".(1/747)
واللغو في كلام العرب ما لا يحتاج إليه.
قال نفطويه: " اللغو في نفس اللغة الشيء المطرح يقال: ألغيت هذا، أي طرحته ". واللغة في الأيمان ما لم تكن النية معتقدة له، إنما في عرض الكلام. وهو معنى قول ابن عباس وعائشة.
والسهو داخل في هذه الآية بغير نية، ويدخل فيه أيضاً ما ليس بيمين نحو قول الرجل: " لا وحياتك " وشبهه، وهذا يرجع إلى قول أبي هريرة وقول الحسن المتقدمي الذكر.
وكان ابن عباس لا يرى الكفارة إلا في الإيمان التي تكون لغواً. فأما ما كسبت القلوب، وعقدت اليمين فيه وهي تعلم أنها كاذبة، فلا كفارة فيه، والله يؤخذ على ذلك بما شاء إن شاء.(1/748)
وتقدير الآية التي في المائدة على هذا القول: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم فكفارته إطعام عشرة/ مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فيصام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ". أي حلفتم وأنتم تعلمون أنكم كاذبون.
[كذلك التقدير] عند ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم.
وقال قتادة: " المؤاخذة هنا في الإيمان الفاجرة إنما هي الزام الرجل الكفارة على يمينه؛ فمن حلف وهو يعلم أنه كاذب وجبت عليه الكفارة، وهي المؤاخذة التي ذكر الله. ومن حلف وهو يظن أنه/ صادق، فهو لغو يمين ولا كفارة فيه، ولا إثم ".
وروي عن الربيع مثله. وهو قول عطاء والحكم.
وقال السدي مثل ذلك إلا أنه قال: " يؤخذه في الدنيا بالكفارة على يمينه(1/749)
الفاجرة ويؤاخذه في الآخرة إن شاء الله عليها إ ذ حلف وهو يعلم أنه كاذب ".
والأيمان/ عند أكثر الفقهاء ثلاثة:
- اللغو؛ وهو قوله: " لا والله وبلى والله فلا شيء فيها ".
- والثانية: العمد؛ وهو أن يحلف متعمداً ألا يفعل الشيء، ثم يريد أن يفعله ويرى أن ذلك خير فيكفر ويفعل ولا شيء عليه. وهي التي في قوله: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89].
- والثالثة: الغموس؛ وهو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كذاب فلا كفارة فيها لعظمها، والله يفعل بفاعلها ما شاء. وهي التي في قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وقل زيد بن أسلم: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}. قال: " هو الشرك(1/750)
بالله والكفر لا اليمين ". يريد قول الرجل: أنا كافر بالله إن فعلت وأنا مشرك إن فعلت، يؤاخذ عليه إن اعتقده بقلبه. فإن لم يعتقده بقلبه، فهو اللغو الذي قال فيه: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}.
ومن قال: " أقسمت ألا أفعل "، فإن أراد بالله وفعل كفر، وإن لم يرد ذلك فلا شيء عليه، وكل/ أسماء الله يجب فيها الكفارة، وكذلك صفاته.
وإذا حلف بالقرآن وحنث، فقال ابن مسعود: " عليه لكل آية كفارة "، وبه قال الحسن البصري.
وأكثر الفقهاء على أن: فيه كفارة يمين، ومنهم من قال: " لا كفارة فيه لعظمه، وجلالة قدره ".
والعهد والميثاق والكفالة إذا أضيف ذلك إلى الله جلّ ذكره وحلف به، فيه كفارة يمين عند مالك وغيره.
ومن قال: " حلفت " ولم يحلف، فإن أراد اليمين كفر. وإن أراد الكذب لم يكن عليه شيء.(1/751)
هذا قول مالك وغيره.
ومن حلف بصدقة ماله أو بهديه أن يجعله في سبيل الله؛ فقال عطاء والشعبي وغيره: " لا شيء عليه ".
وروي عن عمر رضي الله عنهـ، وعائشة أن عليه كفارة يمين وهو قول جماعة من التابعين.
وقال مالك: " يخرج ثلث ماله " وهو قول الزهري وغيره. وروي عن ابن عمر وابن عباس أنه: يتصدق من ماله بمقدار الزكاة. وقد قبل: يعني بما جعل على نفسه. روي ذلك عن ابن عمر. وقال قتادة: " يهدي بدنة ".
وقال/ جابر بن زيد: " إن كان ماله كثيراً نحو ألفين فعشرة، وإن كان وسطاً نحو ألف، فسبعة، وإن كان قليلاً نحو خمسمائة فخمسه.
ومن حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث فلا شيء عليه عند أبن المسيب والقاسم بن محمد.(1/752)
وقال الحسن وجابر بن زيد وطاوس والنخعي وعطاء وقتادة/ وغيرهم/ " عليه كفارة يمين ". وهو قول الشافعي.
وقال الشعبي ومالك وأبو حنيفة: " يمشي كما حلف ".
وقال ابن شبرمة: " يحرم من يومه ".
وقال مالك رضي الله عنهـ: " إن حنث في غير البلد الذي حلف فيه فعليه أن يأتي إلى ذلك البلد، فيمشي منه ".
ومن حلف بعتق رقبة فحنث، فأكثر الناس [على أن عليه] كفارة يمين، وهو قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة، وحفصة وقاله الحسن.
وقال عطاء: " يتصدق بشيء من حنث في العتق ".
وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وجماعة من الفقهاء: " يعتق من حلف إذا حنث ".
وقوله: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
أي غفور لأهل اللغو في الأيمان، حليم [في تركه]. العقوبة على أهل(1/753)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
اعتقاد الأيمان/ الكاذبة فلا يعاجلهم بها.
وقوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} الآية.
الإيلاء عند ابن عباس هو: أن يحلف الرجل في الغضب ألا يجامع امرأته. وكذلك روي عن علي رضي الله عنهـ، وهو قول النخعي وقتادة والحسن. فإن حلف في غير غضب، فليس بمولي لأنه إصلاح.
وقد ق ل مالك رضي الله عنهـ: " من حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها فليس بمولي ".
وقال ابن مسعود: " يكون مولياً إذا حلف في الرضا والغضب ألا يطأ ". وبه قال الثوري وأهل العراق والشافعي وابن حنبل، وهو قول(1/754)
مالك. كما أن سائر الأيمان من طلاق وغيره سواء في الرضا والغضب.
وروي عن ابن عباس أنه قال: " لا يكون مولياً حتى يحلف ألا يطأها أبداً ".
وقال مالك رضي الله عنهـ والشافعي: " إذا حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، وتمت الأربعة أخذ بالوطء أو الطلاق؛ يطلق طلقة بائنة تملك بها نفسها، وله مراجعتها إن شاء بعقد مجدد وصداق ".
وقد قال جماعة: " إن الطلاق يقع بمضي الأربعة أشهر ولا يوقف بعدها "، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وجماعة معهما.
وإيجاب توقيفه بعد الأربعة الأشهر هو قول عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة وأبي الدرداء وغيرهم من الصحابة، وعليه أكثر الفقهاء: مالك والشافعي وغيرهما.(1/755)
والإجماع على أن الطلاق بكلام يسمع يدل على تمام الأربعة أشهر لا يكون طلاقاً حتى يتكلم به، وهو قول عمر وأبي الدرداء.
وكل يمين عند مالك لا يقدر صاحبها عند الوطء من أجلها فهو مول بها/ لو حلف لغريمه ألا يطأ امرأته حتى يوفيه حقه فهو مول عند مالك. فكل يمين منعت من الوطء فصاحبها مول عند مالك والشافعي والشعبي والنخعي وسفيان وأصحاب الرأي/، وأبي ثور وأبي عبيد، وهو مروي عن ابن عباس.
إلا أن مذهب مالك أنه إذا حلف ألا يطأ فتمضي أربعة أشهر من يوم حلف، يوقف، فإما فاء، و [إما طلق]، سواء رفع إلى السلطان بعد الأربعة أشهر وقبلها، إنما يحسب من يوم حلف، وإذا حلف على أمر يفعله بالطلاق منع من الوطء حتى يفعل ودخل عليه الإيلاء، لكن لا يوقف إلا بمضي الأربعة الأشهر من يوم يرفع إلى السلطان، ولا يحسب له من يوم حلف.(1/756)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
ومن قال لامرأته: " [إن قربتك فأنت] علي كظهر أمي "، فهو مول عند مالك. فإذا انقضت أربعة أشهر، فإما أن يطلق وإما أن يكفر ويطأ.
وقوله: {يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}.
قيل/ معناه: على وطء نسائهم، " فمن " بمعنى " على " وفيه حذف مضاف معناه: " على وطء نسائهم "، ثم حذف الوطء كما قال: {مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] أي " ألسنة وسلك "، ثم حذف الألسنة.
وقوله: {فَإِنْ فَآءُو}.
أي رجعوا إلى الوطء، وكفّروا عن عن إيمانهم، فإن الله غفور لهم على يمينهم، رحيم بهم أن يعاقبهم بعد كفارتهم.
قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق}.
أي إن لم يكفروا ولا فاءوا إلى الطوء؛ أي رجعوا إليه وأرادوا الطلاق، فإن الله سميع لقولهم، عليم باعتقادهم وعزيمتهم.
قوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قروء}.(1/757)
ومعناه: المطلقات المدخول بهن ذوات الحيض - غير الحوامل - يتربصن عن التزويج ثلاثة أطهار، وقيل: ثلاثة حيض.
والقرء في اللغة: الوقت، فيصلح للطهر، ويصلح للحيض. والحيض عند أبي حنيفة وغيره أولى به. وهو يقول أحد عشر من الصحابة وجماعة من التابعين والفقهاء.
وهو عند مالك الطهر، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. فإذا طلقها وهي طاهر في طهر لم يمسها فيه فهو قرء تعتد به، وإن لم يبق منه إلا أقله. فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج، وهو قول عائشة. وابن عمر وزيد بن ثابت والقاسم وسالم وسليمان بن يسار/.(1/758)
وبه قال الشافعي وغيره من الفقهاء. ويدل على أن المراد/ بالأقراء في هذه الآية الأطهار قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فلهن أن يعتدن بما يطلقن فيه وهو الطهر الذي لم تمس فيه.
والطلاق في الحيض عند أهل العلم مكروه، فدل ذلك على أن الطلاق إنما يكون في الطهر لا في الحيض: [وهو قول النبي عليه السلام]: " فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ " فإذا طلقت/ في الطهر اعتدت به قرءاً.
ودخول الهاء في ثلاثة يدل على أنه الأطهار، لأن الطهر ما ذكر والحيض مؤنث، فلو أريد به الحيض لم تدخله الهاء.
قال ابن عباس: " استثنى الله من هذه الآية اللواتي لم يدخل بهن والحوامل ".
وقال قتادة: " هو نسخ ".
وقال غيرهما: " هو تبيين، لأن هذه الآية يراد بها الخصوص فبين المراد في(1/759)
" الأحزاب " وسورة الطلاق، فهي مبينة لا منسوخة.
قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ}.
/ أكثر أهل التفسير على أن الذي نهين عنه أن يكتمن هو الحيض والولد وذلك أن تقول: " إني قد حضت الثلاثة، وهي لم تحض لتذهب ما يجب لزوجها من الرجعة، أو تكتم الولد ليذهب حقه من الرجعة حتى تلد وهو لا يعلم، فلا يكون له في الرجعة بعد الولادة حق.
وقيل: هو الحمل خاصة؛ وذلك أنهن كن في الجاهلية يكتمن الولد خوفاً ألا يراجعهن أزواجهن، فيتزوجن وهن حوامل، فيلحقن الولد بالزوج الثاني،(1/760)
فحرم ذلك عليهن. قال ذلك قتادة وغيره.
وقال السدي: " كان الرجل في الجاهلية إذا أراد الطلاق سأل امرأته هل بها حمل خوف أن يطلقها وهي حامل، فتلحق ولده غيره، فإن كانت تكرهه كتمت حملها ليطلقها، فتلحق الولد غيره، فحرم ذلك.
وهذا القول يدفعه قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ} بعد ذكر الطلاق ووقوعه، فإنما ظاهر القرآن يدل على النهي أن يكتمن ذلك في العدة ليذهب حق الرجل من الرجعة؛ إما أن تقول: " قد حضت "، ولم تحض، وأما أنو تقول " لست بحامل "، وهي حامل، فَتَجْحَدُ حتى تضع فتذهب رجعته.
وهذه الآية تدل على أن المرأة مؤتمنة على عدتها وحملها.
ومعنى: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر}.
أي: يحجزهن إيمانهن عن فعل ذلك، وليس ذلك يجوز أن يفعله من لا يؤمن.
قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ/ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}.
أي: أزواج المطلقات أحق بردهن في العدة إن أرادوا بالرد الإصلاح. فإن أراد المضارة، لا يحل له ذلك.
قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف}.(1/761)
أي للزوجات على الأزواج من الأحسان والصحبة الجميلة مثل ما للأزواج على الزوجات.
وقيل: معناه: يتزين الرجل للمرأة كما تتزين له. روي ذلك عن ابن عباس.
قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
أي في الميراث والجهاد والشهادة ونحو ذلك، وأن فراقهن بيد الأزواج.
وقال الشعبي: " الدرجة هو ما ساق إليها من الصداق، وأنها إذا قذفته حُدَّتْ، وإذا قذفها لم يُحد، وَلاَعَنَ.
وعن ابن عباس: (دَرَجَةٌ): أداء/ حقها إليها ومؤنتها وتركه الواجب له عليها إحساناً ".
وقيل: " الدرجة هو ما زين الله به الرجل من اللحية ". رواه عبيد بن الصباح عن حميد.(1/762)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
وقال ابن إسحاق: " المرأة تنال من اللذة مثل ما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه، وما ساق من الصداق فهي الدرجة ".
قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي: فعليكم إمساك، هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه؛ وذلك أن الرجل كان يطلق امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فنسخ الله ذلك بأنه إذا طلق ثلاثاً، لم تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر.
وقيل: إنها منسوخة بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقيل: هي محكمة، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} تبيين لقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ}.
ومن قال: إنها محكمة منهم، قال: " لا ينبغي أن يطلق إلا اثنتين، ثم إن شاء طلق الثالثة أو أمسك لقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ}. قاله عكرمة.
وقال الشافعي: " يطلقها في كل ظهر لم يجامعها فيه ما شاء ".(1/763)
وقال أكثر الناس: " يطلقها في كل طهر طلقة واحدة ".
ومعنى {الطلاق مَرَّتَانِ}: أي: الطلاق الذي يجوز معه الرجعة وتملك المرأة بعده مرتان، فهو تبيين للعدد.
/ [وقوله]: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}.
هي الثالثة التي لا أملك للرجل على المرأة بعدها، روي ذلك عن النبي [عليه السلام].
وقيل: / معنى {تَسْرِيحٌ بإحسان}: يتركها فلا يراجعها حتى توفي عدتها.
وعن ابن عباس: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}: " لا يظلمها من حقها شيئاً ".
قال ابن عباس: " {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] هو {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، أي صحبة حسنة، أو {تَسْرِيحٌ بإحسان}، لا يظلمها من حقها شيئاً ".
قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}.(1/764)
أي مما أعطيتموهن إذا أردتم/ فراقهن.
قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}.
اختار أبو عبيد الضم في {يَخَافَآ} على قراءة حمزة، واحتج بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ}، فجعل الخوف لغيرهما، ولم يقل: " فإن خافا " وفيه حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان ".
والخوف هنا عند إبي عبيدة بمعنى اليقين. وهذا النص إنما هو في الخلع الذي يكون بين الزوجين، فيأخذ منها ما اتفقا عليه، ويتركها لقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}.
ولا يحل للزوج أن يأخذ من المرأة شيئاً على طلاقها إذا كانت المضارة من قبله، وإنما يأخذ منها على الطلاق إذا كانت هي التي كرهته، وأحبت فراقه من غير مضارة منه لها.(1/765)
وهذه لآية عند بعضهم منسوخة، ولا يجوز أن يأخذ منها شيئاً نسخها قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20].
وأكثر الناس على أنها محكمة، وأن له أن يأخذ منها ما اتفقا عليه، وتلك الآية في النساء إنما هي لمن أراد الاستبدال، وهذه لمن خيف منهما ألا يقيما حدود الله، فهما محكمتان.
" وروي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي [بن] سلول وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه ويحبها، فأتت أباها فردها ولم يشكها، فصارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: " إن ثابتاً [يظلمني ويضربني]. فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتاً فقال: " والله يا رسول الله ما على وجه الأرض أحد أحب إلي منها سواك ". فقال للمرأة: " مَا تَقُولينَ؟. فقالت: " يا رسول الله، ما كنت لأخبرك بخبر ينزل عليك الوحي بإبطاله، هو كما وصف، وفرق بيني وبينه ". فقال ثابت: " فترد إلي الحديقة التي جعلتها لها ". فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بردها، ثم طلقها "
، كان ذلك أو خلع كان في الإسلام. والخلع(1/766)
جائر بغير سلطان، وإنما يكون الخلع والافتداء إذا كان النشوز من قبل المرأة.
قال ابن عباس: " هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة للرجل، فله أن يأخذ ما أعطته ويفارقها، فإن كانت راضية به، فلا يحل له أن يضارر بها حتى تفتدي منه، فإن فعل كان ما أخذ حراماً ".
وإنما الخلع إذا كان الشيء المنكر من قبلها؛ / فتقول: " لا أغتسل لك من جنابة، ولا أَبَرُّ لَكَ قسماً " ثم افتدت منه وخالعها، فذلك جائز حسن.
وقال القاسم بن محمد: " لا يحل الخلع حتى يخافا جميعاً ألا يقيما حدود الله في العشرة الواجبة بينهما ".
وقال زيد بن أسلم: " إذا خافت المرأة ألا تؤدي حق زوجها/ وخاف الرجل ألا يؤدي حق زوجته، فلا جناح في الفدية ".
قال مالك: " الأمر عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم تُؤتَ من قبله وأحبت(1/767)
فراقه فحلال ما افتدت به ".
قال: " ولم أرَ أحداً ممن/ يُقتدى به، يكره أن يفتدى بأكثر من صداقها ".
وقال أبو حنيفة: " لا يكون بأكثر مما ساق إليها ".
والخلع طلقة بائنة عند جماعة من الصحابة والتابعين، وهي قول مالك والشافعي وغيرهما من الفقهاء.
وعدتها عدة المطلقة عند مالك والشافعي وغيرهما.
وهو مروي عند جماعة من الصحابة والتابعين.
ولا سبيل لزوج المختلعة إليها إلا بخطبة ونكاح جديد عند مالك والأوزاعي. وهو قول عطاء وطاوس والحسن النخعي والثوري.
وقال ابن المسيب: " يَرُدُّ عليها ما أخذ منها، وليشهد على رجعتها ". وكذلك(1/768)
قال الزهري.
قال مالك: " عليها أن تكمل بقية عدتها ". وكذلك قال الحسن وعطاء، ثم بعد ذلك يراجعها بنكاح جديد إن شاء.
وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
أي لا جناح عليها فيما أعطت إذا كان النشوز من قبلها. ولا جناح عليه فيما أخذ إذا كان الضرر من قبلها.
وقيل: {فَلاَ جُنَاحَ/ عَلَيْهِمَا}: هو مخاطبة للزوج وحده فيما أخذ منها ليتركها، وهذا كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من الملح لا من العذب. وكما قال: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]، وإنما الناسي صاحب موسى. وتقول: " عندي دابتان أركبهما وأسقي عليهما "، وإنما تركب إحداهما.
وقوله: {فِيمَا افتدت بِهِ}.
قيل: من صداقها الذي كان أعطاها، لقوله: {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} والذي أعطاها هو الصداق فرجع آخر الآية على أولها وكان ذلك أبين وأليق بالكلام. قال ذلك الأوزاعي.(1/769)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
وكره الشعبي أن يأخذ منها إلا ما ساق أو دونه " (روي) ذلك عن علي رضي الله عنهـ. وأكثر الناس على أنه له أن يأخذ ما رضيت به من قليل كان أو كثير لعموم الآية. وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله}. أي هذه حدوده.
" وتلك " إشارة إلى الآيات التي تقدمت/ من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} إلى {فِيمَا افتدت بِهِ}.
فمعنى: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أي لا [{تجاوزنها إلى ما لم يأمركم به، ومن تجاوزها}] فهو ظالم.
وقد قال الضحاك: " معناه: من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم " وأنكر ذلك غيره.
قوله: / {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الآية.(1/770)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قال ابن عباس: " إن طلقها ثلاثاً لم تحل إلا بعد زوج ونكاح جديد ".
وقال الضحاك: " وغيره - كل الفقهاء -: " إن طلقها واحدة بعد اثنتين لم تحل له إلا بعد زواج ".
قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}.
يريد الوطء بالعقد الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: " حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ " ومعنى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} أي من بعد الثالثة، ولذلك بنيت " بعد " للحذف والذي بعدها.
وعن ابن المسيب: " أنها إذا نكحت نكاحاً صحيحاً لا يراد به تحليل حلت [به له]، وإن لم يقع وطء ". / وهو شاذ.
قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الآية.(1/771)
هذا مخاطبة للأزواج، ويكون البلوغ المقاربة.
وقيل: هو خطاب للأولياء، ويكون البلوغ التمام.
وكونه خطاباً للأزواج أولى لقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وهذا لا يكون للأزواج.
ومعناه إذا كان للأزواج: وإذا طلقتم النساء فبلغن ميقاتهن من انقضاء العدة، أي قربن منها كما تقول: " إذا بلغت مكة فاغتسل " أي إذا قربت منها. أي إذا قربن منها فأمسكوهن.
ومن قال: هو مخاطبة للأولياء قال: نزلت في أخت معقل بن يسار عضلها معقل عن مراجعة زوجها بعد انقضاء عدتها، وكان قد طلقها طلقة واحدة ".
وقيل: هو خطاب للزوج يطلق امرأته طلقة واحدة. فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم يطلقها ليطول عليها، فنهى عن ذلك، وأصل العضل الحبس والمنع. وظاهر الآية يدل على أنه مخاطبة للأزواج. وبلوغ الأجل المقاربة؛ نهى الزوج أن(1/772)
يراجعها إذا قرب تمام عدتها، ثم يطلقها ليضار بها ويطول عليها، وهو ظاهر الخطاب.
وأكثر المفسرين على أنها مخاطبة للأولياء؛ ويكون بلوغ الأجل تمامه. وملك المرأة لنفسها، إذا جعلته خطاباً للأولياء.
وإن جعلته خطاباً للأزواج فبلوغ الأجل المقاربة.
فالمعنى: فراجعوهن إن أردتم مراجعتهن.
{أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} أي اتركوهن حتى تتم العدة.
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}. أي: لا يحل لكم أن تراجعوهن مضارة لتطول العدة عليها فيضرّ بها. وقال الضحاك وغيره: " {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}: " هو أن يطلقها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها راجعها، فإذا كادت أن تنقضي راجعها مضارة، وهو لا يريد / إمساكها، فنهى الله عن ذلك ". وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.(1/773)
وقال السدي: " نزلت في رجل من الأنصار وهو ثابت بن يسار، طلق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها. ففعل ذلك حتى مضت لها تسعة أشهر مضارة، / فأنزل الله الآية ".
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
أي من يضارر برجعته فإنما يضر / نفسه لأنه يأثم.
قوله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}.
قال الحسن: كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يُطَلّق الرجل أو يعتق، فيقال له: ما صنعت؟ فيقول: " إنّي كنت لاعباً "، فأنزل الله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}.
وروى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام]: أنه قال: " ثَلاَثٌ جِدُّهُّنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَلاَقُ وَالعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ ".(1/774)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
وقالت عائشة رضي الله عنها: " كان الرجل يطلق امرأته ويقول: " والله لا أُؤْوِيكِ وَلاَ أَدَعُكِ؟ قالت: وكيف ذلك؟ قال: إذا كِدتِ تقضين عدتك راجعتك. فنزلت: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}.
قوله: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ}. يعني الإسلام.
{وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة}. يعني القرآن.
{يَعِظُكُمْ بِهِ}: أي بالقرآن.
{واتقوا الله} أي خافوه فيما أمركم به مما أنزل عليكم ووعظكم به.
قوله: / {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} الآية.
نزلت في رجل كان له أخت، زوجها من ابن عم له، فطلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فأراد أن يتزوجها المطلق لها وهي فيه راغبة، فمنعها أخوها من ذلك.(1/775)
ولما نزلت هذه الآية دعا النبي [عليه السلام] معقلاً فنهاه عن ذلك وتلاها عليه، فترك الحمية وزوّجها من زوجها الأول على التراضي، كما قال: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف}. فقيل: إن أخا المرأة كان جابر بن عبد الله الأنصاري.
وقيل: معقل بن يسار. وقيل: ابن سنان.
وقيل: إن جابر بن عبد الله كان أبا المرأة المطلقة فمنعها من أن ترجع إلى زوجها بعد انقضاء العدة أنفة، فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: " نزلت في أولياء المرأة يمنعونها من مراجعة زوجها بعد(1/776)
انقضاء العدة ".
وقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}. أي لا تحبسوهن.
وقيل: لا تضيقوا عليهن.
وحكى الخليل: دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ؛ إذا احتبس بيضها.
وأصل العضل الضيق والمنع، ومنه الداء العضال، وهو الذي لا يطاق لضيقه عن العلاج.
وهذه الآية تدل على أنه لا نكاح إلا بولي، إذ لو جاز أن تنكح نفسها لم يخاطب الله الأولياء في المنع لها من الزواج.
قوله: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ}.
أي هذا المذكور في الآية. و " ذلك " محمول على معنى الجمع ولو قال: " ذلكم " لجاز وهو الأصل.
وقيل: إن ذلك / خطاب للنبي [عليه السلام] فلذلك وُحِّدَ، ثم رجع إلى مخاطبة /(1/777)
المؤمنين فقال {مِنكُمْ} وقال في آخر الآية: {ذلكم أزكى لَكُمْ}.
ومعنى: {وَأَطْهَرُ}، أي أطهر للقلوب من الريبة لأنه إذا كان في قلوب الزوجين كل واحد من صاحبه شيء، ثم منعا من النكاح الذي هو حلال لهما، لم يُؤْمِنْ أن يتجاوزا إلى ما لا يحل أو يُتّهَمَا بذلك.
{والله يَعْلَمُ}. أي يعلم أسراركم، وما فيه حسن العاقبة لكم، وأنتم لا تعلمون ذلك.
وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}.
هذا خطاب للأولياء بلا اختلاف، فلا يكون البلوغ في هذا إلا تمام العدة. ولو كان على معنى المقاربة، لم يكن للولي حكم في منعها من المراجعة إلا أن يكون الطلاق بائناً فيحتمل البلوغ الوجهين: المقاربة والتمام. فإنما هو في هذا الخروج من العدة، فعند ذلك يقدر الوالي على منع المراجعة. وبهذا علمنا أنه لا نكاح إلا بولي؛ إذ لو كان لها أن تراجع زوجها بغير إذن وليها لم يخاطب الله الأولياء في ترك المنع، فعلم أن للأولياء المنع من المراجعة والإجازة في الطلاق البائن وبعد إتمام العدة في الطلاق الرجعي بهذه الآية.
[ولو] كان قوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يريد به المقاربة لكان الحكم للزوج، يردها(1/778)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
إذا شاء، وكان الطلاق رجعياً، ولا يسأل عن وليها أجاز، أو لم يجز. فلا بد أن يكون بلوغ الأجل تمام العدة إذا جعلت الخطاب للأولياء.
قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} الآية.
قرأ مجاهد وحميد بن قيس، وابن محيصن / " لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تُتِم الرضاعة " بالرفع بالتاء.
وقرأ أبو رجاء / " الرِّضَاعَةَ " بكسر الراء. وقرأ: " لاَ تَكَلَّفُ " بفتح التاء أراد تَتَكَلَّفُ.
قوله: {لاَ تُضَآرَّ}.
من رفع فهو خبر عن الله، معنى الأمر، ومعناه: / لا تضار والدة(1/779)
في علم الله، ولا تكلف نفس إلا وسعها.
والفتح أبين على النهي. ويجوز الكسر، لالتقاء الساكنين والفتح أخف.
وروى أبان عن عاصم " لاَ تُضَاررْ " بالجزم والإظهار، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، غير أن ابن مسعود يفتح الراء الأولى.
وإجماع المسلمين أن تحريم المضارة للطفل من أبويه يدل على الجزم على النهي. كان اليزيدي يقول: " الرفع فيه معنى النهي " كأنه يريد أن الضمة ليست بإعراب، إنما هي لالتقاء الساكنين. وهذا بعيد لأنه يشبه النهي بالنفي.(1/780)
ومعنى الآية / أن لفظها لفظ الخبر، ومعناها الإلزام، كما تقول: " حَسْبُكَ دِرْهَمٌ ". فلفظه لفظ خبر، ومعناه الأمر، فكذلك: {والوالدات يُرْضِعْنَ} هو على الإلزام ولفظه لفظ الخبر.
وقوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.
أَكّدَ " بكاملين " لجواز أن يكون " حولان " معناه حولٌ وبعضُ آخر، لأن العرب تقول: " أَقَامَ فُلاَنٌ شَهْرَيْنِ "، وإن كان أقام شهراً أو بعض آخر. وهذا كما قال: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. والمتعجل إنما يتعجل في [يوم ونصف]، وكذلك اليوم الثالث.
والعرب تقول: " لم أرك مذ يومان "، تقوله في اليوم الثاني، وهو لم يتم يومان. ومعنى ذلك: " لا ينزع الولد من أمه وهي تحب رضاعه وتأخذ كغيرها، فيكون " تُضَارَّ " فعلاً لم يسم فاعله، ويجوز أن يكون فعلاً سمي فاعله.(1/781)
ومعناه: لا تترك رضاع ولدها وأخذ الأجرة، والصبي لا يقبل غيرها فتضارر بالأب والصبي.
قوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}.
معناه: لا يضارر الوالد فيلقى إليه الطفل بعد ما عرف أمه وَأَلِفَها؛ تفعل ذلك لتقرب عدتها فتتزوج، لأنها إذا كانت ترضع، أبطأ عندها المحيض فتلقي الصبي، وهو لا يقبل غيرها فتضارر بالوالد والولد في ذلك. فنهى الله النساء عن ذلك.
فيجوز أن يكون أيضاً " مَوْلُودٌ " رفع على ما لم يسم فاعله على هذا التفسير. ويجوز أن يكون فاعلاً، ويكون المعنى: ولا يضارر الوالد بولده فيمنعه من أن يرضع أمه، وقد ألفها ولا يقبل غيرها، وهي تأخذ كما يأخذ غيرها فنهى الأب عن ذلك.
قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا}.
أي إن أرادا أن يفطما قبل الحولين عن تراض من الأبوين فلا جناح عليهما(1/782)
في ذلك، وليس لأحدهما فعل ذلك حتى يرد الآخر عند الثوري.
قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ}.
أي على الأب رزق المرضعة وكسوتها بالمعروف، ورزق الولد على قدر الجدة، لا يكلف فوق ما يطيق.
{لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}.
أي لا [تمتنع من رضاعه]، وتقذفه [إلى أبيه] لتنكي به الأب.
{وَلاَ مَوْلُودٌ / لَّهُ بِوَلَدِهِ} لا يمنع أمه من أن ترضعه ليحزنها.
قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}.
أي على وارث الصبي مثل الذي على الأب لو كان حياً، أي عليه ألا يضارر بها(1/783)
كما كان على الأب. قال السدي وقتادة.
قال الحسن: " على عصبته نفقته إن لم يكن له أب ولا مال ".
وقال الضحاك: {وَعَلَى الوارث} " هو الصبي المرضع، عليه نفقة أمه من ماله إن لم يكن له أب ". وهو اختيار الطبري وغيره.
وقال ابن عباس: " على وارث / الصبي من أجر الرضاع مثل ما كان على الأب إذا لم يكن له مال ".
وقال الشعبي ومجاهد وسفيان: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}: أي: وعلى وارث الصبي ألا يضار بالأم. وهو مروي عن ابن عباس. فلا يكون {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} على هذا القول إلا " تُفَاعِلَ " بكسر / العين لأن: {وَعَلَى الوارث} معطوف عليه، وهو فاعل، ولا تكون {وَالِدَةٌ} إلا فاعلة.(1/784)
فأما على القول الآخر، فيحتمل {تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} أن يكون: " تُفَاعَلْ "، و " تَفَاعَلَ "، لأن، {وَعَلَى الوارث} ليس بمعطوف عليها إنما هو معطوف على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وعلى الوارث مثل ذلك "، فهو عطف جملة على جملة كلاهما من ابتداء وخبر، فيحسن على هذا في {تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} الوجهان جميعاً. ولا يحسن في الآخر إلا أن تكون فاعلة.
وقال مالك: " هو منسوخ لا يلزم عصبة نفقة صبي / ولم يبين الناسخ لها. حكاه ابن القاسم في " الأَسَدِيّةِ " عن مالك.
وعن مالك أيضاً أن المعنى: " وعلى الوارث ألا يضار " فهو محكم، وهي رواية ابن وهب وأشهب عن مالك.
وقيل: إن ورثة الصبي ينفقون عليه على قدر / ميراثهم منه لو مات. قاله قتادة، وهو قول أبي حنيفة.(1/785)
قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ}.
أي إن أبت أمه أن ترضعه أو انقطع لبنها، فأردتم أن ترضعه أجنبية فلا حرج.
قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم} أي إذا سلمتم للأم ما [فرضتموه] عليه من الأجرة بالحساب.
وقيل: معناه: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة من الأب والأم، قاله قتادة.
وقيل: معناه: وإذا سلمتم إلى الأم الذي أعطيتموها على الأجرة بالمعروف.
وقال سفيان: " إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرونها حقها بالمعروف، فليس عليكم جناح فيما صنعتم من الاسترضاع إذا أبت الأم رضاعه أو انقطع لبنها ".
وقيل: معناه: إذا سلمت أم الولد، فرضيت برضاعه من غيرها، لتعتد(1/786)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
هي وتتزوج ورضي الأب بذلك.
قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الآية.
هي ناسخة لقوله: {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول} [البقرة: 240] قاله عثمان بن عفان وابن الزبير، فنسخ أربعة أشهر وعشر الحول.
وأما الوصية فنسخها آية الميراث.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: " نسخ منها الحوامل ".
قيل: ليس هو بنسخ، وإنما هو بيان أن الذي في " البقرة " لغير الحوامل وغير المدخول بهن، وزيدت العشرة / على الأربعة أشهر لأن في ذلك يتبين الحمل.
وقال سعيد: " في العشر ينفخ فيه الروح ".
قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.(1/787)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
أي إذا تمت العدة فلها أن تتزوج من شاءت.
/ {بالمعروف} أي بولي وصداق.
قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء}.
هو أن يعرض لها في العدة، فيقول: " إنك لجميلة، وإن النساء من حاجتي، وإني فيك لراغب حريص، ولأحسنن إليك " ونحوه.
قوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ}.
أي أخفيتم الخطبة ولم تبدوها، لا حرج في جميع ذلك.
قال جابر بن زيد: " {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}: قال: هو الزنا ".
وقاله الحسن وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: " سراً نكاحاً ".
وأصل السر الغشيان من غير وجهه.
وقال ابن عباس: لا تواعدوهن سراً، ألا ينكحن غيركم، ولا تعاهدوهن(1/788)
على ذلك.
وقال مجاهد وعكرمة: " لا تعاهدها على النكاح و [تأخذ ميثاقها ألا] [تتزوج غيرك، تفعل ذلك معها] سراً ".
وقال ابن زيد: " {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}: لا تنكحوهن وتخفوا النكاح، فإذا خرجت من العدة، أظهرتموه ".
واختار الطبري أن يكون السر الزنا.
قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}، هو التعريض المذكور.
قال ابن زيد: " نسخ هذا كله بقوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}.
وأكثر الناس على أنه محكم، وأنه كله نهي عن عقد النكاح في العدة، ثم أرخص في التعريض الذي [ليس هو] بوعد ولا عقد.(1/789)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
ومعنى {يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}: تنقضي العدة.
وقال السدّي: " حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر وهو الكتاب الذي ينقضي ". وقاله قتادة، وهو قول ابن عباس والضحاك.
قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية.
رفع الله الحرج عمن طلق المفروض لها الصداق قبل أن يدخل بها.
ومعنى {تَمَسُّوهُنَّ}: تجامعوهن. قاله ابن عباس وغيره.
ومعنى: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ}: رفع الجناح أيضاً عمن طلق التي لم يفرض لها قبل الفرض، فمعناه: أو توجبوا لهن فريضة.
قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ}.
قال ابن عباس وغيره: " هو واجب للتي لم يفرض لها؛ يمتع الموسر(1/790)
بخادم، والوسط بالورق، ودون ذلك بالكسوة والنفقة ". وقاله قتادة.
وقال أبو حنيفة: " يمتع التي لم يفرض لها، إذا طلق قبل الدخول بنصف مقدار صداقها ". وبه قال الشافعي، ولم يجد / نصفاً من غيره.
وأوجب علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ المتعة لكل مطلقة.
وبه قال الحسين فرض لها أو لم يفرض دخل بها أو لم يدخل.
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: " لكل مطلقة متعة إلا التي سمى لها صداقاً ولم تمس، فحسبها نصف ما فرض لها ".
ومذهب مالك أنه لا يجبر على المتعة أحد من المطلقين إنما هو ندب، وبه قال شريح.(1/791)
وقال ابن المسيب: / " كانت المتعة واجبة بالآية التي في الأحزاب لقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ / سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49]، قال: " ثم نسختها التي في البقرة لقوله: {حَقّاً عَلَى المحسنين} ولم يقل: " حقاً عليكم " ولا " واجباً عليكم ".
وقد أجمعوا / أن المطلقة قبل الدخول لا تضرب بالمتعة مع الغرباء كان قد فرض لها أم لم يفرض، فدل على أنها غير واجبة، فصارت المتعة في البقرة ندباً لمن أحسن واتقى لا فرضاً.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} أي على قدر يسره، {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}: أي على قدر عسره للتي لم يسم لها صداقاً، ولم يدخل بها خاصة ".
ومعنى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، أي الجناح مرفوع / عنكم في الطلاق قبل المسيس لأنه يجوز أن يقع بعد المسيس الجناح على المطلق، وذلك الذي يتزوج للذوق. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلاَ الذَّوَّاقَاتِ " فَرَفْعُ الجناح في الطلاق قبل المس يدل على أنه قد يقع في الطلاق بعد المس وهو ما ذكرنا.
وقيل: إنما رفع الجناح عن طلاق التي لم يدخل بها، لأن الرجل يطلق متى شاء(1/792)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
[حائضاً كانت أو طاهراً]، ولا عدة ولا سنة في طلاقهن، وليس ذلك في المدخول بها، لأنه إن طلق وهي حائض وجب عليه مراجعتها، ولحقه ضيق وإثم إن تعمد مخالفة السنة، ولزمت العدة.
قوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الآية.
بيّن الله في الآية التي قبلها حال من لم يفرض لها، وحض على المتعة لها على قول من قال: هو ندب، وفرضها على قول من قال: هو فرض، ثم بين في هذه الآية حال المطلقة قبل الدخول التي قد فرض لها فرضاً أن تعطى نصف الطلاق الذي فرض لها.
وهذه الآية تبيين لصدر الآية التي قبلها لأن قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} هي المفروض لها.
وقوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
أي أو لم تفرضوا لهن فريضة، فهي غير المفروض لها، فكرر هذه الآية في(1/793)
التي قد فرض لها للبيان والتأكيد.
وقال قتادة: هذه الآية/ نخست التي قبلها لأنه لم يفرض لها أولاً شيئاً، وجعل لها متعة، ثم فرض لها الآن نصف الصداق ولا متعة لها ".
وهو قول الربيع وجماعة معه.
قوله: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ}.
يريد إلا أن تعفو الثيب أو البكر التي زوجها غير أبيها التي لا ولي لها عن أخذ نصف الصداق.
قال ذلك ابن عباس، وهو قول الجماعة من التابعين والفقهاء.
قوله: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}.
قال ابن عباس: " هو ولي البكر إذ كانت لا يجوز أمرها في مالها فله أن يعفو عن النصف إن شاء، فإن أبت جاز فعل الولي ".(1/794)
وهو قول الحسن وعطاء وإبراهيم وعكرمة وطاوس وربيعة وزيد بن أسلم ومحمد بن كعب القرظي ويشريح وأصحاب ابن مسعود والشعبي وقتادة والسدي وغيرهم.
وقال الزهري وغيره: " هو الأب في انبته البكر، أو السيد في أمته لهما أن يعفوا، وإن أبت ". وهو قول مالك.
قال مالك: " هو الأب في ابنته البكر، أو السيد في أمته ".
وليس له أن يعفو ولم يقع طلاق، إنما العفو طلاق، وكل ذلك في التي لم يدخل بها.
وقاله علي بن أبي طالب ومجاهد وسعيد بن جبير.
وروي أيضاً عن ابن عباس: " أن الذي بيده عقده النكاح هو الزوج المطلق ".(1/795)
ومعنى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}: أي يعفو الزوج فيعطي الصداق كله.
والذي يرد هذا أن العفو إنما هو ترك ما يجب للعافي. هذا أصله في اللغة. وليس هو موضوعاً على إعطاء الرجل ما لا يلزمه فإضافته إلى الولي أولى به وأبين في الخطاب، لأنه ندب إلى أن يترك ما وجب لوليته.
ومن كلام العرب: " عفا ولي المقتول عن القاتل "، أي ترك له حقه من الدية. وليس/ يقال: " عفا القاتل "، إذا أعطى أكثر من الدية التي تلزمه ولو كان العافي الزوج يعطي الصداق كله، لكانت الترجمة عن هذا بالهبة أولى منه بالعفو لأنه إذا أعطى الصداق كله فهو واهب، وليس بعافٍ إنما العافي من يترك حقه، ليس هو من يهب ماله.
وأيضاً فإنه قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يريد الزوجات المالكات لأنفسهن، ثُمَّ قال: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}، فهذا ثالث غير الأول والثاني ولا ثالث إلا الولي.
وأيضاً فإن الله إنما ذكر العفو بعد/ وقوع الطلاق، فكيف يقال لمن طلق ولا(1/796)
شيء في يديه/ أنه هو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الآن [لا] عقدة في يديه إذ قد طلق.
وقيل: إنما هو مخاطبة للأزواج الذين دفعوا الصداق/ كله، ثم طلقوا قبل الدخول فندبوا [إلى أن يعفوا] عن نصف الصداق ولا يرجعون به على الزوجات.
وهذا القول يدل على أن الآية خاصة في بعض الأزواج، وليست الآية كذلك، إنما هي عامة اللفظ.
ويدل على أيضاً على أن المراد به غير الأزواج قوله: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}، والمطلق لا عقدة بيده من إثبات نكاح التي طلق قبل الدخول/ إنما عقدة نكاحها بيد الولي، فهو المراد. وكذلك غير المطلق لا عقدة بيده، إنما عقدة النكاح للولي، وإنما بيد الزوج عقدة نكاح نفسه، وبيد الولي عقدة نكاح المرأة. وأيضاً فإن معنى: {عُقْدَةُ النكاح} أي نكاحها.
والألف واللام عوض من الهاء كما قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النزعات: 41]. أي: مأواه، فكان رد الضمير المحذوف إليهن، لأنهن أقرب ذكر في قوله:(1/797)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
{إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} أولى به.
قوله: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى}.
هذا مخاطبة للأولياء والمطلقات المالكات أمرهن.
وقيل: خوطب بذلك أزواج المطلقات في أن يتركوا الصداق كله إن كان قد ساقوه قبل الطلاق إلى الزوجة.
قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل}.
أي لا تتركوا فعل الخير فيما بينكم؛ يتفضل الزوج على المرأة بإعطاء الصداق كله فإن لم يفعل فتنفصل برد نصف الصداق الذي وصل إليها، أو تترك الكل فذللاك فضلها.
قال مجاهد: " هو إتمام الزوج الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها واجب ".
وقال السدي وعكرمة وسفيان وابن زيد مثله.
قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى}.(1/798)
قال ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد وغيرهم: " الوسطى صلاة العصر " وروي ذلك عن النبي [ صلى الله عليه وسلم] .
وقال زيد بن ثابت وابن أبي ذئب: " هي الظهر ". وروي ذلك عن ابن عمر.
وروي أن النبي عليه السلام كان يصلي في الهاجرة والناس في هاجرتهم، فلا يجتمع إليه أحد، فتكلم في ذلك فأنزل الله: {والصلاة الوسطى}، يريد الظهر.
وقال قبيصة بن ذؤيب: " هي المغرب لكونها بين الليل والنهار ".(1/799)
وقال جابر بن عبد الله وعطاء وعكرمة: " هي الصبح/ لكونها أيضاً بين الليل والنهار ". ولقوله: {وَقُومُواْ للَّهِ قانتين}. والقنوت إنما يكون في الصبح. وهو [أيضاً مروي] عن ابن عباس [وعلي بن أبي طالب] / وهو قول الربيع وعبد الله بن شداد بن الهاد، وروي ذلك عن مجاهد، وهو قول مالك.
وهو قول أبي أمامة الباهلي وزيد بن أسلم وعبد الله بن عمر.
وقد تظاهرت الأخبار عن النبي [عليه السلام] أنها العصر.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح.(1/800)
قال مالك: " الظهر والعصر في النهار، والمغرب والعشاء في الليل، والصبح فيما بين ذلك ".
قال مالك: " والصبح لا تجمع إلى غيرها، وقد يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ".
قال مالك: " وهي كثيراً ما تفوت الناس ويتلهون عنها ".
قلت: وصلاة الصبح أفضل الصلوات، ولذلك أكد الله في المحافظة عليها، يدل على ذلك قول النبي عليه السلام: " مَنْ شَهِدَ الصُّبْحَ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً، وَمَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لِيْلَةٍ ".
وقال: " بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعَتْمَةِ والصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعونَهُمَا ".
وقال: " لَوْ يَعْلَمُوَ مَا فِي الْعَتْمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ".
ففضل العتمة والصبح على سائر الصلوات، ثم فضل الصبح على العتمة(1/801)
فدل على أنها أفضل الصلوات، فهي الوسطى.
وقد قال عمر: " لأن أشهد صلاة أحب إلي من أن أقوم ليلة ".
وقد قرأ الرؤاسي: {والصلاة الوسطى} بالنصب، بمعنى: وألزموا الصلاة، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أثبتت في المصحف: " والصلاة الوسطى، وصلاة العصر "، بالواو.
وكذلك روى نافع أن حفصة أمرت أن يكتب ذلك في مصحفها، وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها كذلك ".
وليست هذه الزيادة توجب أن تكون الوسطى/ غير العصر، لأن سيبويه قد حكى: " مررت بأخيك وصاحبك " والصاحب هو الأخ، فكذلك الوسطى هي العصر، وإن عطفت بالواو.(1/802)
الصلاة الوسطى هي أفضل الصلوات إعادتها بلفظها بعد أن دخلت في جملة الصلوات كما قال: {وملائكته} [البقرة: 98]. ثم قال: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98]، وكما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ/ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. فأعاد " جبريل وميكائيل " وقد دخلا في جملة الملائكة، وأعاد " النخل والرمان "، وقد دخلا في جملة الفاكهة، وذلك لفضل فيهما، فأعيدا للتنبيه على الفضل، فكذلك الصلاة الوسطى أعيدت لأنها أفضل الصلوات.
وقد بينا أن صلاة الصبح أفضل الصلوات فهي هي بغير شك.
وقرأ ابن عباس: " والصلاة الوسطى صلاة العصر " على التقدير.
وذكر ابن حبيب عن بعضهم أنها صلاة الجمعة، وهو قول شاذ.
وأصل القنوت/ الطاعة، وهو أيضاً طول القيام.
وقيل: هو هنا السكوت لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة.(1/803)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
قال زيد بن أرقم: " كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُواْ للَّهِ قانتين}، فأمرنا بالسكوت.
وقيل: القنوت هنا الدعاء.
وقيل: هو الركوع/ والخشوع في الصلاة.
وقال مجاهد: " هو غض البصر/ في الصلاة وضم الجناح وطول الركوع وأصله كله يرجع إلى الطاعة ".
قوله: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}.
نصبهما على الحال. والمعنى: فصلوا في هذا الحال. والرجال جمع راجل، والمعنى: " فرجالاً " أي مشاة على أرجلكم " أو ركباناً " وهو جمع راكب. وزذلك في الخوف من العدو، وقال: يصلي كيف قدر ماش وراكب.
فمعناه: وإن خفتم من العدو أن تصلوا قياماً في الأرض فصلوا ماشين وركباناً،(1/804)
وكيف قدرتم إيماء وغير إيماء، وذلك على قدر شدة الخوف والمسايفة.
قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله}.
أي إذا أمنتم من عدوكم فاشكروا الله كما خفف عنكم وعلمكم ما لم تعلموا من أحكامه.
وقال ابن زيد: " معناه إذا أمنتم من العدو فصلوا كما افترض عليكم.
تم الجزء الخامس.(1/805)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً} الآية.
في هذه الآية نسخان، نسخت آية المواريث الوصية.
وقيل: الوصية منسوخة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ "، ونسخت {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} الحول.
وقد قيل: إن هذا ليس بنسخ، إنما هو تخصيص ونقص؛ وذلك أن المرأة كانت إذا توفي زوجها سكنت، وأنفق عليها حولاً إن شاءت. فنسخ ذلك آية الميراث. مقاله الربيع وغيره.
وقال مجاهد: " الآية محكمة، ولها السكنى والنفقة من مال زوجها إن شاءت ".
ومعنى {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي لا تخرج إلا أن تشاء الخروج، فيبطل حقها بخروجها وهو قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} أي ليس لها شيء إذا خرجت، وكان ذلك المقام عليها إباحة وندباً ولمي يكن فرضاً، فلها الخروج متى أحبت.(1/806)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف}.
عني بهن اللواتي دخل بهن لأن الآية الأولى عني بها من لم يمدخل بهن وهي ندب لا فرض عند أكثر العلماء. وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال عطاء: " عني بها كل مطلقة أن لها متاعاً حقاً على المتقين كالثياب والنفقة والخادم ونحوها على قدر الطاقة ".
وقال ابن زيد: " هذا يوجب المتعة/ لكل مطلقة ". هذا معنى قوله.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت}.
قال ابن عباس: كانوا أربعة ألاف خرجوا فراراً من الطاعون ".
وقيل: فراراً من الحمى، حتى إذا كانوا بموضع شاء الله فيه موتهم أماتهم، فمر بهم نبي فدعا ربه أن يحميهم فأحياهم.(1/807)
وروي أن نبياً من أنبياء الله أمر قومه أن يخرجوا إلى عدوهم فجبنوا وكرهوا الخروج، وقالوا: إن الأرض التي تخرجنا إليها فيها الطاعون، وكانوا سبعين ألفاً، ففروا من الطاعون أن يأتيهم في بلادهم، فلما توسطوا البلاد أماتهم الله، فسمي ذلك الموضع واسطاً، وهي واسط العراق، فخرج نبيهم في طلبهم فوجدهم بعد ثمانية أيام موتى قد أنتنوا فتضرع إلى الله وبكى، وقال: يا رب، كنت في قوم يحمدونك ويكذرونك فبقيت وحيداً. فأوحى الله إليه أني قد جعلت/ حياتهم إليك. فقال:
/ أحيوا بإذن الله، فحيوا. فتلك الرائحة فيهم.
وقيل: إن اسم ذلك النبي حزقيل.
وقال وهب بن منبه: " أصاب ناساً من بني إسرائيل بلاء وشدة فشكو ما أصابهم إلى نبيهم وتمنوا الموت لما هم فيه. فأوحى الله إليه: أي راحة لهم في الموت، أيظنون أنني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت، فاطلق إلى جبانة كذا، فإن فيها أربعة(1/808)
آلاف وهم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، فقم فيهم [وناجهم. / وكانت] عظامهم قد تمزقت وتفرقت، فنادى النبي على نبينا وعليه السلام: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل إنسان منهم، ثم نادى: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم الجلد. ثم نادى: يا أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك، فقاموا فكبروا تكبيرة واحدة ".
وقال الضحاك: " هم ألوف كثيرة أمروا أن يقاتلوا في سبيل الله ففروا من الجهاد، فأماتهم الله ثم أحياهم، وأمرهم أن يعاودوا الجهاد، ودل على ذلك قوله: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقيل: كانوا أربعة آلاف من بني إسرائيل عصوا الله، وصرفوا عن(1/809)
الجهاد، وقالوا: البلاد التي تقصدها بلاد طاعون. فأماتهم الله عقاباً لهم، ثم أحياهم بدعاء نبيهم وتضرعه إليه.
وقال السدي: " كانت قرية عند واسط وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية، وهلك أكثر من بقي في القرية، فلما ارتفع الطاعون/ رجع الهاربون إلى القرية. فقال الذين بقوا من أهل القرية: لو صنعنا مثل ماصنع أصحابنا بقينا ولئن وقع الطاعون مرة أخرى لنخرجن معهم، فوقع من قابل، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً ثم نزلوا بواد أفيح فناداهم ملَك من أسفله، وآخر من أعلاه أن موتوا، فماتوا. فمر بهم نبي، فوقف عليهم، وجعل يفكر في أمرهم، فأوحى الله تعالى إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وقيل له: فنادِ فيهم.
فنادى: يا أيتها العظام: إن الله يأمركِ أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض، فاجتمعت، ثم/ ناداها فاكتست اللحم ثم ناداها فقامت ".(1/810)
وقد قيل: إن معنى ألوف مؤتلفون.
قوله: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
قيل: هو أمر مراد للذين أحياهم الله بعد موتهم لأنهم فروا من الجهاد فماتوا.
وقيل: هو عام لجميع الخلق.
قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ} الآية.
قال ابن زيد: " هذا في الجهاد يضاعف له بالواحد سبعمائة.
ولما نزلت الآية، قالت اليهود: " هو فقير يستقرض "، يُمَوِّهُونَ بذلك على الضعفاء، فأنزل الله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181].(1/811)
وقال السدي: " هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو؟ ".
" وروي أن هذه الآية نزلت في أبي [الدحدح الأنصاري كان من أفاضل الأنصار رحمه/ الله. ولما حض الله المؤمنين على الصدقة، قال: يا رسول الله، ربنا يستقرض منا؟ قال رسول الله [عليه السلام]: نعم، ليعظم بذلك ثوابك، فقال يا رسول الله، والله ما أَمْلِكُ غير حائطي، وقد جعلته لله عز وجل وأرضى بثوابه. ثم مضى إلى الحائط وفيه امرأته وصبيانه، فصاح من خارج بامراته: خذي بيد الصبية فاخرجي، فإني سمعت الله يستقرض خلقه ليعظم بذلك ثوابهم فأقرضته حائطي. فقالت له امرأته: لا تقيل ولا تقال، ربح بيعك. وأخذت بيد الصبية، وخرجت والنخيل موقورة رطباً وزهواً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم من غدق مذلل في الجنة لأبي الدحداح ".(1/812)
وقالت اليهود: " إنما ربنا فقير يستقرض منا، ولم نر غنياً يستقرض من فقير. فأنزل الله، {لَّقَدْ [سَمِعَ الله قَوْلَ] الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] الآيات.
وعن الحسن أنه قال في حديث له طول: " لما نزلت الآية أتى أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي/ الله إني قد أقرضت الله حائطي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم /: أَيُّ أَحَدِهِمَا يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ؟ قال: اختر خيرهما. قال: أَبْشِرْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، فَإِتنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَ لَكَ ذَلِكَ فِي الجَنَّةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ. قال: فمضى أبو الدحداح وأخرج أولاده من الحائط وجعل يخرج التمرة من فم هذا ومن حجر هذا، ومن كم هذا، ويلقيها في الحائط وأنشأ يقول: "
يَا أُمَّ دَحْدَاحِ هَدَاكِ الهَادِي ... إِلَى سَبِيلِ الخَيْرِ وَالرَّشَادِ
بيني مِنَ الحَائِطِ وَسْطَ الوَادِي ... فَقَدْ مَضَى قَرْضاً إِلَى التَّنَادِ
أَقْرَضْتُهُ الهَ عَلَى اعْتِمَادِ ... طَوْعاً بِلاَ مَنٍّ وَلاَ ارْتِدَادِ(1/813)
إِلاَّ رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ ... فَوَرِّطِي الحَائِطَ قَبْلَ الغَادِ
وَارْتَجِلي بالْفَقْرِ وَالأَوْلادِ/ ... قَبْلَ تَدَاعِيهِمْ إِلَى الجَدادِ
وَاسْتَبْقِي وُفقْتِ لِلرَّشَادِ ... إِنَّ التُّقَى وَالبِرَّ خَيْرُ زَادِ
قَدَّمَهُ الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَادِ ...
" فأجابته أم الدحداح: "
بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ وَفَلاَحْ ... مِثْلُكَ أَجْرَى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ
وَانْتَهَزَ الحَظَّ إِذَا الحَظُّ وَضَحْ ... قَدْ مَتَّعَ اللهُ عِيَالِي مَا صَلَحْ
بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَهْوِ الْبَلَحْ ... وَاللهُ أوْلَى بِالَّذِي كَانَ مَنَحْ(1/814)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
مَعْ عَاجِلِ التَّضْعِيفِ فِيمَا قَدْ شَرَحْ ... وَالمَرء يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ
طُولَ اللَّيالِي وَعَلَيْهِ مَا أجْتَرَعْ ... " فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إِنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَهُ لَهُ فِي الجَنَّةِ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ ".
ومعنى {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} - بالصاد - أي يقبض الأرزاق فيضيقها على من يشاء ويبسطها فيوسعها على من يشاء.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. أي إليه مرجعكم في معادكم.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ/ مِن بَعْدِ موسى} الآية. معنى أَلَمْ تَرَ، في جمع القرآن: ألم تعلم، ألم يبلغك خبرهم يا محمد.
والملأ هنا أشرف القوم ووجوهم، جمع لا واحد له من لفظه. والنبي، قال(1/815)
السدي: اسمه سمعون، سمي بذلك لأن الله سمع دعاء أمه وأجابها في أن وهبها إياه فسمته سمعون إذ قد سمع دعاءها.
وقال وهب: اسمه إسمويل.
وقيل: هو يوشع بن نون، قاله قتادة: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما وذلك بعد موت موسى.
قال السدي: " كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة/ وكان ملك العمالقة جالوت، فظهرت العمالقة على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية فسألوا الله أن يبعث إليهم/ نبياً يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلك من عندهم، فلم يبق إلا أمرأة حبلى من شيخ من سبط النبوة، فأخذوها وحبسوها في بيت خوفاً أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبتهم في ولد ذكر منها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يزرقها غلاماً، فولدت غلاماً، فسمّته سمعون إذ قد سمع الله دعاءها فيه فكبر وتعلم التوراة فأتى جبريل عليه السلام، والغلام نائم إلى جنب الشيخ فدعاه بلحن الشيخ،(1/816)
فقام الغلام وقال: يا أبتاه، أنت دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول: لا، فيفزع الغلام. فقال با بني، أرجع فننم. فدعاه جبريل الثانية. فأتى الغلام الشيخ فقال: دعوتني؟ فقال له: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كان الثالثة ظهر جبريل عليه السلام، فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك نبياً. فأتاهم فكذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة، وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية نبوتك.
فقال لهم سمعون: عسى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا.
فقالوا وكيف لا نقاتل، وقد غلب علينا وأخرجنا من ديارنا وأبنائنا ". أي أسر منهم من أسر فأخرج من دياره وأبنائه، وهم في وقت قولهم قد كانوا في ديارهم وأبنائهم، ولكن المعنى: أن من أسر منهم قد فُعِلَ به ذلك، فأُخبروا عن أنفسهم والمراد به بعضهم، فهو عام يراد به الخصوص.
فأما قوله: {عَسَيْتُمْ}، فقد ضعف قراءة من كسر السين لأنه يلزم أن يجيز " عَسِيَ أَنْ أَقُومَ "، وذلك لا يقال.(1/817)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قال أبو حاتم، " لا وجه للكسر، ويلزم منه فَعَسِيَ {أَن يَأْتِيَ بالفتح} [المائدة: 52].
وقد حكى أهل اللغة؛ يعقوب وغيره/، " أن الكسر مع المضمر خاصة، لغة ".
قال أبو غانم: " هي لغة أهل الحجاز يكسرون مع المضمر خاصة ".
قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}.
قال لهم ذلك سمعون بأمر الله له، [فلم يرضوا] به، وكان طالوت هو من سبط ابن يامين بن يعقوب، فقالوا: أنى يكون له الملك علينا، وهو من سبط ابن يامين، ولا ملك فيه.
{وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك}. لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب.
{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال}: عابوه/ بفقره.
قيل: طالوت كان سقاءً وكان دباغاً.(1/818)
قال وهب بن منبه: " لما سألوا نبيهم أن يبعث الله إليهم ملكاً يقاتلون معه سأل نبي الله في ذلك، فأمره أن ينظر إلى قرن في بيت فيه دهن، فقيل له: هذا الدهن/ إذا نشَّ عند دخول رجل فهو الملك، فَأَدْهِنْ رأسه منه ومَلَّكْهُ عليهم، فأقام النبي ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه. فخرج طالوت يوماً في طلب دابة له، ومعه/ غلام له فمر ببيت النبي فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن دابتنا ليرشدنا إليها، ويدعو لنا بخير، فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران شأن دابتهما ويسألانه الدعاء، إذ نش الدهن الذي في القرن، فأخذه النبي وقال لطالوت: قَرِّبَ رأسك فَدَهِّنْهُ من الدهن، [ثم قال] له: أنت ملِك بني إسرائيل. فشاع الأمر في بني إسرائيل [وأتت] عظماء بني إسرائيل لنبيهم وقالوا: ما لطالوت يُمَلَّك علينا ونحن أحق بالملك منه لأنك قد علمت أن الملك والنبوة في آل لاوي وآل يهوذا فقال لهم: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ}: أي اختاره وزاده بسطة في العلم والجسم ".(1/819)
وقال السدي: " لما سألوه ملكاً يقاتلون معه أتاهم بعصا، وقال: إن صاحبكم طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها، فقال لهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا ما كنت قط أكذب منك الساعة ".
قال ابن عباس: " كان من بني إسرائيل سبط نبوة وسبط خلافة، ولم يكن طالوت من أحد السبطين، فلذلك قالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي من أين له ذلك؟، وليس هو [من أحد] السبطين {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ}، لأنا من أحد السبطين ".
وقال غيره: " [كان طالوت من سبط قد أتوا] ذنباً فنزع منهم الملك، فلذلك أنكروا أن يكون ملكاً إذ هو من سبط قد أتوا ذنباً، ونزع منهم الملك ".
قال وهب بن منبه: " كان طالوت يطول بني إسرائيل من منكبيه إلى فوق؛(1/820)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
يزيد ذلك على أطولهم ".
قوله: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ}. أي: يضعه حيث يشاء.
{والله وَاسِعٌ}. أي: يوسع من فضله على من يشاء.
{عَلِيمٌ} بمن هو أحق بالمملكة، وبما فيه حسن العاقبة وهذه الآية تدل على جواز إقامة المفضول لأن نبيهم كان أفضل من طالوت فقد قدم المفضول على الفاضل.
قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية.
دلت هذه الآية على أن في الكلام حذفاً واختصاراً كأنهم قالوا: ما آية ملكه وما علامته؟ فقال: آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة. وهذا التابوت كان عندهم من عهد موسى صلى الله عليه وسلم وهارون/، فسلبهم إياه ملوك من أهل الكفر، فجعل الله رده عليهم آية لملك طالوت.(1/821)
قال ذلك/ قتادة والربيع، قالا: " كان التابوت في البرية، وكان موسى صلى الله عليه وسلم / خلفه عند فتاة يوشع بن نون، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت.
وقال أهل التفسير: كان بنو إسرائيل ينبهون بالتابوت ويستنصرون به على الأعداء، ويقدمونه أمامه إذا قاتلوا أهل الكفر. فلما عصوا الله عز وجل وخالفوا أنبياءه، أظهر الله عليهم أهل الكفر، فسلبوهم التابوت وجعلوه في مخرأة عناداً وتصغيراً له. فلما تقذر الموضع الذي هو فيه، ابتلاهم الله بالواسير، فضاقوا بها ذرعاً وعلموا السبب الذي من أجله ابتلوا بها، فأجمع رأيهم على أخراج التابوت، فأخرجوه وجعلوه على بقرة ذات لبت، فحملته الملائكة حتى وضعته بين بين إسرائيل، فرضوا بطالوت ملكاً.
وكان لهم في هذا التابوت آية عظيمة كانوا يهزمون به العدو ويظهرون به على الكفار. فقالوا: إن جاءنا التابوت آمنا وسلمنا، وكان العدو الذين أخذوه أسفل(1/822)
الجبل - جبل إيلياء عبدة أوثان - وكان ملكهم/ جالوت، وكان طالوت قد أعطاه الله شجاعة وقوة وشدة وبطشاً، وكان الكفار قد جعلو التابوت في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح مكنسة رؤوسها، وبعث الله عز وجل على أهل تلك القرية فأراً يبيت الرجل الفأرة فيصبح ميتاً قد أكلت ما جوفه، فاستشأموا بالتابوت، وقالوا: هذا بلاء قد أصابكم مذ كان هذا التابوت بين أظهركم، قد رأيت أصنامكم تصبح كل غداة منكسة،، ولم تكن تصنع هذا إلا مذ كان التابوت معها فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحلموا التابوت عليها ثم علقوها بثورين ثم ضربوا على جنوبها. فمرت الملائكة تسوق الثورين حتى وقفوا على بني إسرائيل فكبروا، وحمدوا الله وجدوا في الحرب ".
وقال ابن عباس: " لم يبق من الألواح إلا سدسها، وكانت العمالقة(1/823)
أخذت التابوت وهم فرقة من عاد، فحملت/ الملائكة التابوت بين السماء والأرض وهم ينظرون حتى وضعته عند طالوت، فسلموا له الأمر وملكوه. وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموا بين أيديهم التباوت ".
قال ابن عباس: " بلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة ".
قال وهب: " كان نحو ثلاثة أذرع في ذراعين ".
/ قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ}.
قيل: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. قال ذلك على بين أبي طالب.
وروي عنه أنه قال: " هي ريح خجوج ولها رأسان ".(1/824)
وقال مجاهد: "السكينة لها رأس كرأس الهر، وجناحان وذنباً كذنب الهر ".
وقال السدي: " هي طست من ذهب من الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، وفيها رضاض الألواح. وكانت الألواح من درر وياقوت وزبرجد ".
وروي عن وهب بن منبه " أن السكينة روح/ من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء، بين لهم ما يريدون ".
وقال ابن جريج: " سألت عطاء عن السكينة فقال: هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ".
وقال الربيع: " السكينة الرحمة ".
وقال قتادة: " السكينة الوقار ".
وروى الضحاك عن ابن عباس أن السكينة دابة مثل الهرّ(1/825)
لعينيها إشعاع، فإذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم، فنهزم ذلك الجيش من الرعب.
وقال بعض بني إسرائيل من علمائهم: " السكينة رأس هرة ميتة كانت إذ صرخت في التابوت صراخ الهر، أيقنوا بالنصر ".
واختار الطبري أن تكون السكينة ما يسكنوه إليه من الآيات، وهو قول عطاء، وكل ما ذكرنا من الأقوال فهي آيات تسكن إليها النفوس، فهي داخلة تحت هذا القول.
وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى}.
قيل: هي عصا موسى، ورضاض الألواح لأن موسى صلى الله عليه وسلم حين ألقى(1/826)
الألواح تكسرت، فوقع منها رضاض، فجعل في التابوت. قاله عكرمة وقتادة والسدي. وروي عن ابن عباس. وقال مقاتل: " البقية رضاض الألواح، وصر في طست من ذهب وعمامة موسى وعصاه ".
وعن السدي أنه قال: " هي التوراة ورضاض الألواح والعصا ".
وقال أبو صالح: " هي لوحان من التوراة وثياب موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم وعصاهما وكلمة الفرج، لا إله إلا الله الحليم الكريم، وسبحان الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين ".
وقيل: هي عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح. قاله أبو صالح وعطية بن سعد.(1/827)
وقال الثوري: " هي العصا والنعلان ".
وقيل: " هي العصا وحدها.
وقال القتبي: " هو من المَنِّ الذي كان ينزل عليهم ورضاض الألواح.
قوله: {تَحْمِلُهُ الملائكة}.
قيل: حملته إليهم عياناً حتى وضعته بين أظهرهم.
وقيل: حملته حتى وضعته في دار طالوت.
وقيل: حمل إليه التابوت بأمر الملائكة، كما تقول: " حَمَلَ السلطان الأمير إلى بلد كذا "، وإنما/ أمر بحمله ولم يحمله هو/ بنفسه، فلما وصل إليهم التابوت أقروا غير راضين، وخرجوا للقتال ساخطين. قال ابن زيد.
وقيل: معنى {تَحْمِلُهُ} تسوقه علجة تجرها بقر. وقد ذكرنا ذلك.(1/828)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
ومعنى {إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}.
إن كنتم تصدقون إذا جاء التابوت، ولم يكونوا مؤمنين قبل مجيء التابوت لأنهم كذبوا بنبيهم/ فيما قال لهم وسألوه أن يبين صدقه بآية.
قوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} الآية.
أي مختبركم، وذلك أنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين العدو [وكان قد أخرجوا] في ثمانين ألفاً، ولم تخلف منهم إلا ذو عذر. والنهر بن الأردن وفلسطين، امتحنهم الله به على عطش كانوا فيه.
فقال: " من شرب منه فليس مني:، أي ليس من أهل ولايتي ".
{إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} سمح الله لهم في الغرفة.
/ {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ}، أي من تركه، ولم يشرب منه فهو مني.
فلما جاوزوا النهر شربه أكثرهم، ولم يقنعوا بغرفة، فكان من شرب عطش، ومن اغترف غرفة روى. وجعل الكفار منهم يشربون فلا يروون، والمؤمن يغترف(1/829)
بيده فترويه. فعبر معه منهم أربعة آلاف، وهم الذين اغترفوا، ورجع ستة وسبعون ألفاً "، وهم الذين شربوا.
وقال ابن زيد: " قال طالوت حين فصل، لا يصحبني إلا من نية في الجهاد، فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يصحبه منافق رجعوا كفاراً، وأخذ من بقي منهم غرفة، ومنهم من لم يمسه ".
وكان البراء يقول: " إن أصحاب النبي عليه السلام يوم بدر، على عدة من جاز مع طالوت النهر، وذلك ثلاثمائة وبضعة عشر ".
وقال السدي: " عبر/ النهر معه أربعة ألاف، ورجع ستة وسبعون ألفاً، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، قال المنافقون منهم: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}، فرجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وخلص طالوت في ثلاثمائة وبضعة عشر، - عدة أهل بدر -، وهم الذين قالوا: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.(1/830)
ومعنى {يَظُنُّونَ} يوقنون، ويجوز أن يكون " يشكون " أي يشكون هل يقتلون [في تلك الغزاة، أو يسلمون، ليس هو شك في البعث.
قال أكثر المفسرين: واختبرهم الله بالنهر، وامتحنهم/ بالعطش الشديد فشربوا إلا قليلاً منهم اغترفوا ولم يكثروا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان جالوت في مائة ألف.
قوله: {والله مَعَ الصابرين} أي إذا صبروا في طاعته.
وذكر ابن وهب أن ابن عباس قال لكعب: أخبرني عن ست آيات في القرآن لم أكن علمتهن، ولا تخبرني عنهم إلا بما تجد في كتاب الله المنزل: ما سجين؟ [المطففين: 8] وما عليين؟ [المطففين: 18] وما سدرة المنتهى؟ [النجم: 14]، وما جنة المأوى؟ [النجم: 15] وما بال أصحاب الرس ذكرهم الله في الكتاب؟ [ق: 12](1/831)
وما بال طالوت رغب عنه قومه؟، وما بال إدريس ذكره الله فقال {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57].
قال كعب: " والذي نفسي بيده لا أخبرك عنهن إلا بما أجد في كتاب الله المنزل.
أما " سجين "، فإنها صخرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها اسم كل شيطان. فإذا فبضت نفس الكافر، عرج بها إلى السماء، فغلقت أبواب السماء دونها ثم رمي بها إلى سجين فذلك سجين.
وأما " عليون "، فإنه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، حتى تنتهي إلى العرش، فتخرج كف من العرش فتكتب له: نزله وكرامته فذلك " عليون ".
وأما سدة المنتهى، فإنها سدرة عن يمين العرش، انتهى إليها علم العلماء فلا يعلم العلماء ما وراء تلك السدرة.
وأما " جنة المأوى "، فإنها جنة تأوي إليها أرواح المؤمنين.
وأما " أصحاب الرسّ "، فإنهم كانوا قوماً مؤمنين يعبدون الله في ملك جبار لا يعبد الله فخيرهم أن يكفروا أو يقتلهم، فاختاروا/ القتل على الكفر، فقتلهم ثم(1/832)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
رمى بهم في قليب فلذلك سموا اصحاب الرس ".
وأما " طالوت "، فإنه كان من غير السبط الذي الملك فيه فلذلك رغب عنه قومه.
وأما " إدريس "، فإنه كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله على جميع أهل الأرض، فاستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه فأذن الله له أن يؤاخيه. . الحديث " وهو مذكور في مريم بتمامه والله المستعان.
/ قوله: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} الآية.
أي أنزل علينا الصبر لقتالهم وانصرها عليهم.
قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك}.
أي أتى داود، وذلك أن جالوت برز وقال: من يبرز فيقتلني، فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، فأتى بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله فألبسه/ طالوت سلاحاً، فكره داود أن يقاتله بسلاح، وقال: إن الله إن لم ينصرني عليه، فلا تغني السلاح شيئاً، فخرج بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار، ثم(1/833)
برز إليه. فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ فقال داود: نعم. فقال جالوت: ويحك ما خرجت/ إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة، لأُبَدِّدَنَّ لحمك ولأطعمنك اليوم الطير والسباع ".
فقال له داود: " بل أنت عدو الله شر من الكلب ". فأخذ داود حجراً فرماه بالمقلاغ، فأصاب بين عينيه حتى نفذ في دماغه، وصرع جالوت وانهز من معه، وأخذ رأسه. ورجع الناس إلى طالوت، فادَّعَوْا قتل جالوت، فأتى بعضهم بسيف وبضعهم بشيء من جسده، والرأس مع داود.
فقال طالوت: " من جاء بالرأس فهو الذي قتله. فجاء داود به، وطالب طالوت بما وعده. فندم طالوت على ما جرى بينهما من الشرط، فقال طالوت: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاجعل صداقها ثلاثمائة غلفة من أعدائنا - يرجو بذلك أن يتقل داود -: فغزا معه داود، وأسر ثلاثمائة وقطع غلفهم وجاء بها، فلم يجد بداً من تزويجه وأدركته الندامة، فأراد قتل داود حتى(1/834)
هرب منه إلى الجبل، وحاضره طالوت، فلما كان ذات ليلة تسلط عليهم النوم فنزل داود/ فأخذق إبريق طالوت الذي كان يشرب فيه، وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من هدبة ثيابته ورجع إلى كانه، وناداه: أن تعهد حرسك، فإني لو شئت قتلتك البارحة، وهذا إبريقكم وشيء من شعر لحيتك، وشيء من هذبة ثيابك، وبعث به إليه. فعلم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه وعاهده ألا يرى بأساً ثم انصرف ".
قال ابن إسحاق: " إن داود كان له أربعة إخوة خرجوا مع طالوت، وبقي داود في الغنم يرعاها لهم، وكان أصغرهم، فأمره أبوهأن يحمل إليهم زاداً ويرجع، وفخرج داود ومعه زاد إخوته ومخلاته فيها حجارة، ومقلاعه الذي يرمي به فمر بحجر فناداه يا داود، خذني فاجعلني في مخلاتك/ تقتل بي جالوت، فإني حجر يقعوب، فأخذه [وجعله] في مخلاته ومضى فناداه حجر أخر مثل ذلك، وقال: أنا حجر إسحاق، فأخذه ومضى، فنادي ثالث مثل ذلك، وقال: أنا حجر إبراهيم فأخذه/ ووصل إلى الوقوم فدفع إليهم أزودتهم، فسمع داود خوض الناس في العسكر وتعظيمهم لأمر(1/835)
جالوت فقال لههم: " إنكم لتعظمون من أمره، والله لو أراد الملك لقتلته فأدخلوني على الملك طالوت.
/ فأدخل عليه فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون أمر هذا العدو ووا لله لو أردته لقتلته. فقال له طالوت: يا فتى، ما عندك من القوة على ذلك، وفيمن جربت نفسك؟
قال داود: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه وآخذ برأسه فأفك لحييه عنها، فآخذها من فيه، فادع لي بدرعك حتى ألبسها، فدعا بالدرع فلبسها. فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت فلما التقى الناس، قال داود: أروني جالوت. فأروه إياه على فرس، فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تتواثب في مخلاته [ويقول] هذا: خذني، وهذا خذني. فأخذ أحدها وجعله في مقلاعه، ثم أرسله فصك به بين عينيه، ورفعه، وتنكس عن دابته فقتله. وانهزم وقال الناس: قتل داود جالوت، وخلع طالوت حتى لم/ يسمع له ذلك ".
{وَآتَاهُ الله الملك والحكمة}.
أي داود. والحكمة: النبوة.(1/836)
قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية.
أي بدفع أهل الطاعة عن أهل المعصية، وبالبر عن الفاجر.
{لَفَسَدَتِ الأرض}. أي بهلاك أهلها.
وروى ان عمر عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِنَّ الله لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مَائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلاَءَ " ثم قرأ ابن عمر {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}.
وعن جابر بن عبد الله، قال: قال [النبي عليه السلام]:
" إِنَّ اللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاَحِ المُسْلِمِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتِ جِيرَانِهِ. وَلاَ يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مَا دَامَ فِيهِم ".(1/837)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
وأكثر أهل التفسير على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عن من لا يصلي، وبمن يتقي عن من لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم.
وقيل المعنى: لولا أن الله أمر بحرب الكفار، لكان إفسادهم في الأرض أكثر، ولولا أمره في الحرب لَعُمِلَ بالكفر، فيهلك الناس بذنوبهم.
قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}.
أي هذه آيات الله، أي علاماته تتلى عليك يا محمد.
{وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}.
أي ما تلي عليك من إماتة من ذكر وإحيائه، وبعث طالوت ملكاً وقتل داود جالوت، وشبه ذلك مما تقدم من الآيات/ التي لا يخبر بمثلها إلا نبي، وإنك إذ جئتهم بهذه الآيات والحجج وأنت أمي لا تقرأ الكتاب لمن المرسلين إذ لا يأتي بهذه الآيات المعجزات إلا مرسل.
قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا/ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}.(1/838)
" تلك " إشارة إلى ما تقدم ذكره من الرسل: موسى وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل وإسحاق وداود ممن تضمنه ما تقدم.
قال أبو العزم " {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هو موسى، ورفع بعضهم درجات: هو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة، وكلمته الشجرة، وأنشق له القمر وأطعم الخلق الكثير ومن اليسير من الطعام في أشباه لهذا لا تحصى، رفع الله بها درجة محمد صلى الله عليه [وسلم].
وروى أبو موسى الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أُعْطِيتُ خَمْساً/ لَمْ يُعْطَهُنَّ [أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِل لِنَبيٍّ كَانَ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ سَأَلَ الشَّفَاعَةَ وَإِنِّي أَخَّرْتُ شَفَاعَتِي فَجَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً ".(1/839)
قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات}.
أي أعطيناه الحجج والدالة على نبوته، وهي: إبراء الأكمة، وأحياء الموتى ونفخه في الط ين فيكو طائراً، وشبه ذلك.
{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}.
أي قويناه بجبريل، وقد تقدم الاختلاف في روح القدس.
وهو جبريل عند الضحاك وغيره.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم}.
أي من بعد الرسل.
وقال قتادة: " من بعد [عيسى وموسى صلى الله على محمد وعليهما [وسلم خاصة. " وهو قول الربيع.
{وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا}.(1/840)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
أي لحجزهم عن القتال ومنعهم منه.
{ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
أي يوقفق من يشاء فيطيع، ويخذل من يشاء فيعصي.
قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}.
أي يأتي يوم هذه صفته، أنه لا بيع يه ولا خلة ولا شفاعة. أي يأتون يوم هذه صفته.
وعني بالنفقة هنا الزكاة [و] التطوع.
أمرهم تعالى أن يدخروا لأنفسهم من ذلك من قبل أن يأتي يوم صفته أنه {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ}: أي لاتباع [فيه] الأعمال فلا كسب {وَلاَ خُلَّةٌ}: أي لا صداقة.
{وَلاَ شَفَاعَةٌ}: أي لا شفاعة للكافرين.(1/841)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
فالآية عامة، أي لا صداقة ولا شفاعة للكافرين.
فالآية عامة الظاهر خاصة، قد بينت أنها خاصة/ للكافر السنة. ويجوز أن يكون/ المعنى: ولا شفاعة إلا بإذن الله بدليل قوله بعد هذا: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].
وفي القرآن جواز الشفاعة لمن شاء الله لأنه قد قال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]، وقال عز وجل: { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
فهذا كثير يدل على جواز الشفاعة يوم القيامة/ ممن شاء الله عزو جل ولمن شاء الله سبحانه فالآية مخصوصة [في الكفار]، لا شفاعة لهم ولا فيهم.
قوله: {والكافرون هُمُ الظالمون}.
كما تقدم في أول الآية/، ذكر صنفين كافرين ومؤمنين في قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ}. صرف آخر الآية إلى الكفار بعد أن خص ذكر أهل الإيمان في وسط الآية بما ذكر تعالى.
قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} الآية.
أجاز النحاس: لا إله إلا إياه على الاستثناء.(1/842)
وروي عن أبي ذر أنه سأل النبي [عليه السلام] فقال له: أي ما أنزل عليك من القرآن أعظم "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} ".
وقال ابن عباس: " أشرف آية في القرآن الكرسي ". نبه الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ألا يعبد غيره، وأن يحذر مما وقع فيه من تقدم ذكره، في قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} واختلفوا فاقتتلوا وشبهه.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِي إِذَا نَامَ، لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ الله حَتَّى يَنْتَبِهَ. وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا انْتَبَهَ، لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ الله حَتَّى يَعُودَ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ اللهِ عز وجل حَتَّى يَعُودَ. وَمَنَ قَرَأَهَا عِنْدَ حِجَامَةٍ كَانَتْ لَهُ مَنْفَعَتَانِ: مَنْفَعَةٌ لِلْحِجَامَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَمَنْفَعَةٌ لِلْحِجَامَةِ(1/843)
الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا. وَمَنْ قَرَأَهَا كُلِّ صَلاَةٍ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ ".
وروى أبو هريرة أن النبي [عليه السلام] قال: " لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وَسَنَامُ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ، مِنْهَا آيَةٌ لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلاَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَهِيَ آيَةُ الكُرْسِي ".
وقوله: {الحي القيوم}. الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا يزول.
وقيل: بل هو اسم من أسمائه تسمى به، فقلناه تسليماً لأمره.
وقوله: {القيوم}.
قال ابن عباس: " معناه: الذي لا يزول ".
وقال مجاهد: " معناه القائم على كل شيء ".(1/844)
وهو " فَيْعُولٌ " من " قَامَ "، ولا يحسن أن يكون " فَعُولاً " لأنه يلزم منه أن يقال: " قَوُومٌ ".
وقال ابن كيسان: " ليس في كلام العرب، فعول من الواو ".
وروي عن عمر أنه/ قرأ " الْقَيَّامُ " ووزنه " فَيْعَالٌ " من " قَامَ ".
وقرأ علقمة " الْقَيِّمُ "، ووزنه عند البصريين " فعيل "، ثم أدغم فكان أصله قيوماً، وأصل عند الكوفيين " قويم " مثل فعيل، ويلزمهم ألا يعل كما لم يعل " طويل " وشبهه.
وصفات/ الله مطلقة في غاية الكمال والتمام، لا يجوز عليها حوالة ولا تغيير، بخلاف صفات المخلوقين.
قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ}.
أي نعاس. قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وغيرهم. ولا نوم فيستثقل.
وأصل " سنة " وسنة، كزنة وعدة.(1/845)
قال السدي: " السنة ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان ".
وقال الربيع: " السنة هو الذي كون به الإنسان بين النائم واليقظان، وهو الوسنان، والنوم الاستثقال ".
نفى الله تعالى عن نفسه الآفات التي تدخل على المخلوقين، فتذهب حسهم تعالى عن ذلك.
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وَقَعَ نَفْسِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم: هَلْ يَنَامُ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؟ فأَرَسَلَ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكاً فأَرَّقَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ أَعْطَاهُ قَرُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ بِهِمَا. فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ/ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَنْ الأُخْرَى، حَتَّى نَامَ نَوْمَهُ فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتْ القَارُورَتَانِ، فَجَعَلَ اللهَ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً "، أي أن الله لو كان ينام لم تمتسك السموات والأرضون(1/846)
كما لم تمتسك القارورتان في يدي موسى عليه السلام.
قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
أي من يشفع لمن أراد الله عقوبته إلا بأمره لهم بالشفاعة. وهذا دليل على جواز الشفاعة بإذنه لمن شاء من رسله وأوليائه. وقيل: معناه: من ذا الذي يذكر الله بقلبه حتى يأذن له، لا إله إلا هو.
قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
قال ابن جريج: " يعلم ما مضى أمامهم من الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما يكون بعدهم من أمر الدنيا والآخرة ".
وهذا يدل على/ قدم علم الله تعالى، وأنه لم يزل/ عالماً ولا يزال.
{إِلاَّ بِمَا شَآءَ}. ما شاء هو أن يعلمه.
قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض}.
قال ابن جبير عن ابن عباس: " كرسيه: علمه "، ودل على ذلك قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}.
قال أبو هريرة: " الكرسي بين يدي العرش ".(1/847)
قال مجاهد: " ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ".
قال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه ".
قال ابن زيد: " حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم /: " مَا السَّمَوات السَّبْع فِي الكُرْسِيِّ إِلاَّ كدرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ ".
وقال أبو ذر: سمعت النبي [عليه السلام] يقول: " مَا الْكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ".
وروى ليث عن مجاهد أنه قال: " ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ".
وروى الأعمش عن مجاهد أنه قال: " مثل السموات تحت الكرسي كحلقة ملقاة في الفلاة ".
وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: " الكرسي الذي وسع السموات والأرض موضعه من العرض موضعه من السرير، ولا يقدر قدر العرش إلا(1/848)
الذي خلقه ".
وقال الحسن: " الكرسي هو العرش نفسه ".
وقال الضحاك: " كرسيه الذي يوضع تحت العرش ".
وقيل: " كرسيه: قدرته ".
اختار الطبري أن يكون علمه لقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}، ولقوله: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7].
وفيه لغتان: ضم الكاف وكسرها.
قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ}.
أي لا يثقله ولا يشق عليه. يقال: ما آدَكَ هو لي آئِدٌ ".
وقال القتبي:: يقال: آدَاهُ يَؤُودُهُ، [وَأَدَهُ] يئده، والوأد الثقل ". والهاء في(1/849)
{يَؤُودُهُ} لله جل ذكره.
وقال أبو إسحاق: " يجوز أن تكون للكرسي ".
وقوله: {حِفْظُهُمَا}. أي حفظ السموات والأرض.
{وَهُوَ العلي}. أي ذو الارتفاع عن شبه خلقه بقدرته.
{العظيم}.
أي لاشيء أعظم منه جلالة وهيبة وسلطانا. ولا يحسن أن يكون بمعنى العلو في المسافة والارتفاع من مكان إلى مكان تعالى الله عن ذلك - إنما هو علو قدرة وجلالة وهيبة وسلطان، لا علو ارتفاع من مكان إلى مكان، ليس كمثله شيء. لا يجوز عليه الحركة ولا الانتقال ولا التغير من حال إلى حال، فافهمه.
وقيل: معنى {العلي}: العلي عن النظراء والأشباه، لا علو مكان.
وقيل: إن {العظيم} هنا بمعنى المعظم، الذي يعظمه خلقه لم يزل على ذلك. ولا يحسن أن يتأول أن تعظيمه محدث. / بل لم يزل معظماً قبل كون الخلق كما(1/850)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
لم يزل قادراً وعالماً قبل كون المعلوم والمقدور، ولا يزال معظماً بعد فناء الخلق.
وقد طعن/ في هذا القول.
وقيل: يلزم ألا يكون معظماً قبل الخلق ولا بعدهم، إلا معظم له. فالجواب عن ذلك ما ذكرنا أنه لم يزل ولا يزال كذلك كالعلم والقدرة وشبههما. تقول العرب: " هذه خمر عتيقة "، بمعنى معتقة. وقيل: معنى " العظيم ": أن له عظمة هي صفة له/ لا تكيف.
قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}.
أكثر الناس على أن هذه الآية مخصوصة نزلت في أهل الكتاب ألا يكرهوا على الدين، إذا أدوا الجزية. فأما أهل الأوثان فلا تؤخذ منه الجزية ويكرهون على الدين. قاله ابن عباس؛ قال: " كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَهُ، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع(1/851)
أبناءنا، فأنزل الله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} الآية، فمن شاء لحق، ومن شاء لم يلحق ".
وقد قيل: إن الآية منسوخة منسخها: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} [التوبة: 73].
وأكثر الناس على أن هذه الآية نزلت في غير عبدة الأوثان، ومن [لاكتاب له]، ومن لا يؤدي الجزية من أهل الكتاب.
والألف واللام في " الدِّين " عوض من ضمير يعود على الله. والمعنى: " وهو العلي العظيم لا إكراه في دينه ".
وقيل: هما للتعريف. والدين: الإسلام.
قوله: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}.
قرأ أبو عبد الرحمن " الرَّشَدَ " بفتحتين، وهما لغتان، كالبُخْل والبَخَل والشُّغْل والشَّغَل والسُّقْم والسَّقَم والعُدْم والعَدَم/ والعُرْب والعَرَب، والعُجْم والعَجَم، والسُّخْط والسَّخَط، والحُزْن والحَزَن، والوُلْد والوَلَد.(1/852)
والرشد إصابة الحق، والغي ضده. وهو مصدر غَوِيَ يَغْوِ غَيّاً، وأصله " غَوْياً ". وبعضهم يقول: غَوَى، يَغْوى بالفتح فيهما.
وقال بعضهم: غَوَى يَغْوِ/ إذا عدا الحق فضل، فمعناه: استبان الإيمان من الكفر.
قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} أي بالشيطان، والجبت: السحر.
وقيل: الكاهن.
وقال مجاهد في قوله {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} [النساء: 60]، هو كعب بن الأشرف، وهو مشتق من " طغى " مقلوب وأصله طَغَوُوتٌ مثل جَبَرُتٌ.
وقيل أصله طَيَغُوتٌ لأنه يقال: طَغَوْتُ وَطَغَيْتُ.
وقيل: هو في معنى الطغيان وليس بمشتق منه، إنما يؤدي عن معناه، كما(1/853)
قيل: رجل لآلٌ من اللؤلو، يؤدي عن معناه، وليس بمشتق منه.
قوله: {بالعروة الوثقى}.
أي تمسك بأويثق ما يستوثق به ويتمسك به.
وقيل: الجبت والطاغوت كل ما يعبد من دون الله.
قال سيبويه: " الطاغوت واحد مؤنث يقع على الجميع ".
وقال المبرد: " هو جماعة "، ويريد الشياطين.
وقال أنس: " العروة الوثقى: القرآن ". ذكره عنه ابن أبي شيبة.
/ وقيل: العروة الوثقى: العهد الوثيق.
وقال ابن عباس: " العروة الوثقى: لا إله إلا الله.
قوله: {لاَ انفصام لَهَا}. أي لا انكسار لها.
وقال/ السدي: " لا انقطاع لها ".(1/854)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{والله سَمِيعٌ}. أي يسمع إيمان المؤمن وكفر الكافر.
{عَلِيمٌ}. أي عليم بمن وافق قلبه في الإيمان لسانه وأخلص في قوله.
قوله: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ}.
أي يتولاهم بتوفيقه فيخلصون ويثبتون على الإيمان ويعينهم على عدوهم ويتولى ثوابهم.
قوله: {مِّنَ الظلمات إِلَى النور}. أي: من الكفر إلى الإيمان.
نزلت هذه الآية في قوم كانوا قد كفروا بعيسى فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به، فكانوا في ظلمة ثم صاروا في نور، وهم العرب وعبدة الأوثان والجاهلية، كلهم من آمن منهم، وكان قوم آخرون آمنوا بعيسى فكانوا في نور، فلما جاءهم محمد كفروا به فصاروا في ظلمة وهم النصارى. روى ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
قوله: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت}. أي الشياطين. وهذا مما يدل على أن الطاغوت جمع.(1/855)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
قوله: {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات}.
أي من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني قريشاً وكفار العرب. وقيل: هم اليهود.
وقيل: هم النصارى كانوا مؤمنين بعيسى صلى الله على محمد وعليه وسلم.
هذا قول مجاهد وغيره. وإنما مثل الكفر بالظلمة، لأن الظلمة تحجب البصر عن إدراك الأشياء، كذلك الكفر يحجب القلب عن إدراك الحقائق، حقائ الإيمان.
{أولئك أَصْحَابُ النار}. هو إشارة إلى الكفر.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}.
ألِف {أَلَمْ} ألِف توقيف لفظها. لفظ الاستفهام، وفيها معنى التعجب والتنبيه على ما يتعجب منه.
والهاء في {رَبِّهِ} تعود على {الذي}، أو على إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: ألم تعلم، ألم تر بقلبك يا محمد.(1/856)
قوله: {أَنْ آتَاهُ الله الملك}.
الهاء تعود على [الكافر الملك] وعليه أكثر الناس.
وقيل: هي تعود على إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
/ والذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن كنعان بن كوشب بن سا بن نوح. قاله مجاهد.
قال قتادة: " نمروذ، صاحب الصرح، وهو أول من تجبر في الأرض ببابل ". أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه القصص ليكون ذلك عبرة وتعجباً مما كان، وليكون حجة على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يعلمه إلا من قرأ الكتب ودرسها، أو من يوحى إليه، فلما لم يكن محمد عليه السلام عندهم/ ممن(1/857)
يقرأ [الكتاب فينقل منهان وجب أن يكون ذلك] بوحي، فيجب قبول قوله، والإيمان به ضرورة لمن وفق.
قال مجاهد: " نمروذ، هو أحد الأربعة الذين ملكوا الأرض كلها: كافرَيْن ومؤمنَيْن، فالمؤمنان: سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم، وذو القرنين عليه السلام. والكافران: نمروذ، وبخت نصر البابلي ".
قوله: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}.
أي حين قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت: أي يملك ذلك ولا يملكه أحد غيره، قال نمروذ: " أنا أحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله وأقتل آخر ".
قال له إبراهيم: " فإن الله يأت بالشمس من مشرقها، فأت بها/ إن كنت صادقاً من مغربها ".(1/858)
قال الله: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ}.
أي الكافر، أي انقطع وعجز عن الجواب. وقرىء: " فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ " أي فبهتَ إبراهيمُ الكافرَ ف " الذي " في موضع نصب، على هذه القراءة.
قال قتادة: " دعا نمروذ/ برجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر، وقال: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. / فبهت الذي كفر " فلم يجب لأنه لو ادعى أنه [هو الذي يأتي] بالشمس من المشرق لكذبه جميع أهل مملكته، لأنهم يعرفون أنه محدث، والشمس كانت على حالها قبل حدوثه، فليس يقدر أن يقول: " أنا أتيت بها من المشرق قبل حدوثي، ولو ق ل: أنا آتي بها من المغرب لعجز عن ذلك. فلما رآى أنه لا مخرج له سكت وانقطع فبهت.(1/859)
قال زيد بن أسلم: " كان الناس يمتارون من عند نمروذ طعاماً، وكان أول جبار في الأرض، فخرج إبراهيم يمتار مع الناس فكلما مر بنمروذ ناس قال لهم: من ربكم؟ قالوا: أنت.
حتى مر به إبراهيم عليه السلام، فقال له نمروذ: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت. قال: أنا أحيي وأميت. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر، ورد إبراهيم بغير طعام. فرجع إبراهيم عليه السلام إلى أهله، فمر على كثيب أعفر - يعني من رمل - فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم. فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام. فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رأى أحد، فصنعت له منه، فقربته إليه. وكان قد عهد أهله ليس عندهم طعام، فقال من أين هذا؟ قالوا: من الطعام الذي/ جئت به. فعلم أن الله عز وجل قد رزقه [فحمد الله(1/860)
تعالى]، ثم بعث الله جل وعز ذكره إلى نمروذ ملكاً يقول له: أن آمن بي [وأتركك] على ملكك، قال: وهل رب غيري؟، فجاء الثانية فقال له فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه. فقال له الملك: أجمع جموعك إلى ثلاثة أيام. فجمع الجبار جمعه، وأمر الله عز وجل الملك ففتح عليهم باباً من البعوض، فطلعت الشمس ولم يروها من كثرتها، فبعثها الله سبحانه عليهم، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ولم يبقى إلا [العظام، والملك كما هو لم يصبه] من ذلك شيء، فبعث الله عز وجل عيه بعوضة فدخلت في منخره، فمكمث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، فأرحم الناس به من جمع يديه ثم يضرب بهما رأسه، وكان قد تجبر أربعمائة سنة فعذبه الله بها أربعمائة سنة وأماته.
وقال السدي: " لما أخرج إبراهيم صلى الله عليه وسلم من النار، أدخل على الملك، ولم يره(1/861)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قبل ذلك، فقال له: من ربك؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. فلما قال له إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب فبهت وقال: إن هذا إنسان مجنون، فأخرجوه، ألا ترون أنه اجترأ على ألهتكم، وأن النار لا تأكله. وخشي الملعون الفضيحة من قومه فأخرجوه، وهو قوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتيناهآ إبراهيم على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83].
قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}.
أي لا يهديهم للحجة عند الخصومة لما هم/ عليه من الضلالة قاله ابن اسحاق. وليس (الظالمين) بوقف، لأن (أو كالذي) معطوف عليه.
/ قال الفراء والكسائي: " معنى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ}: هل رأيت كالذي حاج، أي كالذي مر على قرية، فهو معطوف عليه ". وقيل: الكاف زائدة، والمعنى: " الم تر إلى الذي حاج أو الذي مر على قرية.
قوله: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}.(1/862)
قال ابن عباس وقتادة وعكرمة والربيع والسدي: " وهو عزير ".
وقيل: هو أرميا. وروي أن اسمه أرميا، وهو الخضر.
وقال مجاهد: " هو رجل من بني إسرائيل ".
وقال وهب بن منبه: " القرية بيت المقدس. لما خربت وحرقت، وقف أروميا على ناحية الجبل، فقال: أَنَّى يحُيْى/ هذه الله بعد موتها ". على معنى: التطلع على مشاهدة قدرة الله، لا على الإنكار لإحياء الله إياها فأراه الله ذلك. والذي خربها بخت نصر البابلي.
وكذلك قال قتادة/ وعكرمة والضحاك غير أنهم قالوا: " وقف عليها عزير ".
وقال ابن زيد: " هي القرية التي خرج منها ألوف حذر الموت، فقال [لهم](1/863)
الله: موتوا. قال: فمر بها رجل وهي عظام تلوح، فنظر وقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ".
{وَهِيَ خَاوِيَةٌ}. أي خالية من أهلها.
{على عُرُوشِهَا}. [أي على أبنيتها]، سقوفها وبيوتها.
وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها من قولهم: " قَرَبْتُ الماءَ " إذا جمعته.
وقال السدي: معنى {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}: ساقطة على سقفها.
وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها.
قال وهب بن منبه: " أوحى الله إلى أرميا، وهو بأرض مصر بعد أن خرب بخت نصر بيت المقدس: أن الحق بأرض الشام، فركب حماره حتى كان ببعض الطريق ومعه سلة من تين وعنب، وكان معه سقاء جديد فَمَلأَهُ ماء، فلما بدا شخصُ(1/864)
بيت المقدس وما حوله نظر إلى خراب لا يوصف، قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم سار حتى تبوأ منزلاً، فربط حماره بحبل جديد، وعلق سقاءه، وألقى الله عليه السبات، فلما نام نزع الله روحه مائة عام. فلما مرت من المائة سبعون عاماً أرسل الله ملَكاً إلى ملِك من ملوك فارس عظيم، فقال: إن الله يأمرك أن تسير بقومك فتعمر بيت المقدس إيليا وأرضها، حتى تعود أَعْمَرَ ما كانت. فقال له الملِك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب/ لهذا العمل. فأنظره، فانتدب ثلاثة آلاف قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل وما يصلحه من أداة العمل، فسار إليها قهارمته، فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عين أرميا خاصة، وأخر جسده ميتاً، فنظر إلى إيليا وما حوليها تعمل وتعمر وتجدد حتى صارت كما كانت بعد ثلاثين سنة تمام المائة، فرد الله إليه روحه، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه؛ أي لم يتغير. ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، أحياه الله له وهو يرى. ونظر إلى الحبل لم يتغير، وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها، فعندها قال له: كم(1/865)
لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم.
قال: بل لبثت مائة/ عام ".
وإنما قال: يوماً أو بعض يوم، لأنه فيما ذكر قتادة وغيره: أميت ضحى، وبعث آخر النهار، فظن أنه يومه الذي كان فيه ".
قوله: {فانظر إلى/ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا}.
من قرأ " نُنْشِرُهَا " بالراء، فمعناه كيف نحييها، من: " أَنْشَرَ اللهُ المَيِّتَ: أَحْيَاهُ ". ومن قرأ بالزاي، فمعناه: كيف نرفع بعضها إلى بعض من النَّشْزِ، وهو المرتفع، ومنه نشوز المرأة وهو ارتفاعها عن موافقة زوجها. ومنه قوله:(1/866)
{وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11]، أي ارتِفعوا وانْضَموا.
قال وهب بن منبه وغيره: " معناه: وانظر إلى إحياء حمارك وإلى عظامه كيف أنشرها ثم أكسوها لحماً.
قال وهب: " كان ينظر إلى حماره يتصل بعضه ببعض، ثم كسي لحماً ثم جرى فيه الروح فقام [ينهق. ونظر إلى عنبه] وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه. فلما عاين ما عاين، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير ".
قال السدي: " كانت الطير قد ذهبت بعظام الحمار إلى كل سهل وجبل فبعث الله ريحاً، فجاءت بها واجتمعت/ وهو ينظر. فركب بعضها في بعض فصار حماراً من عظام لا لحم فيه ولا دم، ثم كسى اللحم والدم، ثم أقبل ملك يمشي فأخذ بمنخر(1/867)
الحمار فنفخ فيه فنهق. فقال عندما عاين: أعلم أن الله على كل شيء قدير ".
ومن قرأ [بوصل ألف " أعلم " جعل الفعل] لله والقول لله، والله هو القائل له بعدما أراه من البراهين: " اعْلَمْ يا أرميا أن الله على كل شيء قدير ".
قال الضحاك: / " أول ما نفخ الله الروح، ففي رأسه وبصره، وبقي جسده ميتاً، فرأى حماره قائماً كهيئته يوم تركه وطعامه وشرابه كهئته، فقال له الله جل ذكره: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أي عظامك، فأراه التئام عظامه، وكون اللحم عليها، ونفخ الروح في باقي جسده. [والعبرة] في نفسه أعظم. فلما رأى ذلك وحيي كله قال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ". وكذلك قال قتادة.(1/868)
وقال: ابن زيد: " أراه إحياء جسده، والتئام عظامه وهو ينظر، والحياة في عينيه ورأسه فقط ".
قال ابن زيد: " جعل الله الروح في بصره ولسانه، فنظر إلى خلقه والتئام عظامه، وأمره أن يدعو بلسانه إلى عظامه وأعضائه أن تلتئم فنادى بلسانه ليلحق كل عضو بآلِفِه فجاء كل عظم إلى صاحبه حتى اتصلت وهو يراها، / حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الكسرة الأخرى فتتصل بها، ثم شدت بالعروق والأعصاب وهو يرى.
ثم التحمت وهو يرى، ثم كسيت بالجلد وهو يرى، ثم جرى [فيها الروح، فقال عند ذلك]: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ". وقال الله له ذلك يأمره به. ويجوز أن يكون الأمر منه لنفسه فتستوي القراءتان. وقد قاله الطبري.(1/869)
فالعطف في قوله: {أَوْ كالذي} مردود على معنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ} لأن معناه: هل رأتي مثل الذي حاج إبراهيم. فعطف على المعنى فقال: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ}، تقديره: " أو رأيت مثل الذي مر ". [و] العطف على المعنى كثير كما قال: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ} [آل عمران: 86]، ف " شهدوا " معطوف على معنى إيمانهم لا على كفرهم، تقديره: " بعد أن/ آمنوا وشهدوا ".
وقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ}.
قال الأعمش: " جاء شاباً وولده شيوخ ".
وقال السدي: " جاء فوجد داره قد بيعت وبَلِيت، وهلك من كان يعرفه. فقال: اخرجوا من داري، قالوا: من أنت؟ قال: أنا عزير.
قالوا: هلك عزير منذ كذا وكذا سنة. فأخبرهم بما جرى عليه، فخرجوا له من الدار ".(1/870)
وروي أن عزيراً كان ممن سباه بخت تنصر ومضى به إلى إرض بابل فرأى عزير دير هرقل قد خرب، ومضى عليه حين من الدهر، فقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وقد عمر الدير وذلك كله بأرض بابل.
وعلى [أن] القرية بيت المقدس أكثر أهل التفسير.
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} من أثبت الهاء في الوصل، فهو من سانَهْتُ فسكون الهاء عَلَم الجزم، والهاء أصلية، وهو أحسن. ومعناه: أنه مأخوذ من " السَّنَةَ "، أي لم تأخذه السِّنُونَ وتحله.
ومن قرأ " يتَسَنَّه " فأصله يتسنن، من " سَنَّ المَاءَ " إذا تغير. فمعناه لم يتغير(1/871)
فأبدلوا من النون/ الآخيرة ياء، فقالوا: يتسنى كما قالوا: " تَقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ "، ثم حذفت الألف للجزم [و] زيدت الهاء في الوقف لبيان الحركة.
وقرأ طلحة من مصرف: " لَمْ يَسَّنَّ " أدغم التاء في السين.
وقد قال بعض أهل اللغة: " لَمْ يَتَسَنَّ " من أَسِنَ الماء إذا أنتن. ويلزمهم من هذا " يَتَأَسَّنْ ".
وقال الشيباني: " هو من قولهم: " حَمَأٌ مَسْنُونٌ ".
ومعنى " يَتَسَنَّ ": يتغير. ولا يجوز عند أأبي إسحاق أن يكون من " مَسْنُونٍ " لأن معنى " مَسْنُونٍ "، مصبوب. والصحيح أنه من السَّنَةِ، فتكون الهاء أصلية/ تقول في تصغيرها: " سُنَيْهَةٌ " على قول من قال: " يَتَسَنَّه ". و " سُيينةٌ " على قول من(1/872)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قال: " يتسن ".
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}.
" إذا " في موضع نصب بمعنى: " واذكر ".
وقيل: هو معطوف على ما قبله لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ}: " ألم تر بقلبك يا محمد، فتذكر الذي حاج، وتذكر إذ قال إبراهيم ". قال قتادة: " مر إبراهيم عليه السلام على دابة قد تقسمتها السباع والدواب والطير والرياح، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ ". وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن زيد: " مر إبراهيم بحوت نصفه في [البر، ونصفه في البحر]، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان في البر فدواب البر تأكله. فقال له الخبيث الشيطان/ يا إبراهيم: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}؟، ليرى ذلك/ عياناً ".
ومعنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: أي ليطمئن إلى ما تَاقَ إليه من العيان لا أنه شك(1/873)
دخل عليه.
وقال السدي: " لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه عز وجل أن يأذن له فيبشر إبراهيم عليه السلام بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس هو في البيت فدخل داره. وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم أغير الناس يغلق بابه إذا خرج، فلما جاء وجد في داره رجلاً ثانياً، فبادر إليه ليأخذه، / وقال له: من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال له ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار فقال إبراهيم: صدقت، وعرف أنه ملك، قال له: من أنت؟ ق ل: ملك الموت، جئت أبشرك أن الله قد اتخذك خليلاً، فحمد الله تعالى، وقال: يا ملك الموت. أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار، فقال: [يا إبراهيم، لا تطيق] ذلك، قال: بلى. فعرض عليه فإذا هو برجل [أسود ينال] رأسه السماء، يخرج من فيه لهب النار، وليس من شعرة في جسده إلا صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار. فغشي على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق، وقد تحول ملك الموت في الصورة(1/874)
الأولى فقال: يا ملك الموت، لو لم يلق الكافر من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ذلك، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين، قال: فَأَعْرِضْ. فَأَعْرَض إبراهيم عليه السلام ثم التفتَ فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً في ثياب بيض. قال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمني عند ربه عز وجل من قرة العين والكرامة إلا صورتك/ هذه لكان يكفيه. فانطلق ملك الموت وقام إبراهيم صلى الله " عكلى محمد " وعليه وسلم يدعو ربه، يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حين أعلم أني خليلك.
قال: أو لم تؤمن بأني خليلك؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي بذلك ".
وقال ابن عباس: " ما في القرآن آية أرجى عندي منها "، يريد أن إبراهيم دخل قلبه الشك، فنحن آكد أن يعترضنا ذلك.
وقال عطاء بن أبي رباح: " دخل قلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يدخل(1/875)
قلوب الناس ".
وروى مالك عن الزهري أن ابن المسيب وأبا عبيدة أخبراه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رَحِمَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْهُ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهيِمُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}، وَقالَ: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ".
واختار الطبري هذا القول لرواية أبي هريرة لهذا الخبر عن النبي [عليه السلام] لأن الشيطان يعرض لجميع الخلق.
وقد قال النبي [عليه السلام]: " ذَلِكَ مِنْ مَحْضِ الإِيمَانِ ".
وهذا القول من نبي الله صلى الله عليه وسلم إنما هو على التواضع والتذل لله، ونفى التكبر كما قال: " لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ " ويعيذه الله من الشك الذي يدخل في قلوب المذنبين المؤمنين.
ويجوز أن يكون قوله: " نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم "، يعني به أمته، كأنه(1/876)
صلى الله عليه وسلم يعذرهم فيما يوسوس [به إليهم الشيطان]. وقد عفا الله عما يوسوس به الشيطان في قلوب المؤمنين إذا لم يبدوه ولم يعتقدوه.
وقال قال سعيد بن جبير: " معنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: ليزداد يقيناً ".
وعن ابن عباس: " ليطمئن قلبي " في إجابتك إياي إذا دعوتك بأمرٍ وسألتك فيه ". ولم يرد أن إحياء المتى يطمئن به.
قال أبو إسحاق: " ولم يكن شاكاً، ولكن أراد مشاهدة ذلك عياناً ليزداد يقيناً، فليس الخبر كالمعاينة ".
قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير}.
قال مجاهد/ وابن جريج وابن زيد: " أخذ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة ".(1/877)
وجعل ابن عباس الكُرْكِيَّ في موضع الغراب.
قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}.
من ضم فمعناه: أضممهن إليك ووجههن إليك، يقال: / " صُرْ وَجُهَكَ إِلَيَّ " أي أقبل به إلي، ووجهه إلي. قال ذلك الكسائي.
وفي الكلام حذف: " وقطعهن بعد الضم ".
وقال مجاهد: " {فَصُرْهُنَّ}: انتفهن بريشهن ولُحُومِهِنَّ ".
وقال أبو عبيدة: " صِرت [بالكسر: قطعت، وصُرْت] بالضم: جمعت ".
وقيل: الكسر والضم بمعنى واحد، وهو ما ذكرنا.
وقيل: معنى الكسر: قطعهن.(1/878)
/ قال أبو حاتم: يقال: صار، إذا قطع.
ويكون في الكلام تقديم/ وتأخير على هذا التفسير. ومعناه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، أي فقطعهن.
وقد قال عطاء: " {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}: / أضممهنَّ إليك ".
وقال ابن زيد: " أجمعهن ".
وقال قتادة: " أمر أن يذبحن ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ثم يجزئهن على أربعة أجبل ".
قال ابن جريج: " جعل لُحُومَهُنَّ وريشهن على سبعة أجبل وهي الأجبال التي رأى الطير والسباع [ذهبت فيها، وهن] اللواتي أكلن من لحم الجيفة التي كانت سبب سؤاله، وأمسك إبراهيم [ صلى الله عليه وسلم] عند نفسه رؤوسهن ثم دعاهن بإذن الله عز وجل، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الآخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة(1/879)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
الأخرى، وكل بضعة وكل عظم بعضها إلى بعض. فلما تتامت عليه في الهواء انقضت عليه فوصلت كل جثة إ لى الرأس الذي [في يده] ".
قوله: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
أي لا يمتنع [عليه ما أراد، حكيم في تدبيره.
قوله: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله}.
قال الطبري: " هذه الآية مردودة إلى قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وإلى الآيات التي بعدها ".
قال السدي: " نزلت في الذي ينفق على نفسه في سبيل الله عز وجل ويخرج ". والمثل في هذه الآية إنما هو للنفقة لا للمنفق، وفي الكلام حذف، والتقدير: " مثل نفقة الذين ينفقون "، ودل " ينفقون " على النفقة فحسن حذفها.
وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: " لما نزلت: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله(1/880)
كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية، قال النبي عليه السلام: " اللَّهُمَّ زِدْ أُمَّتِي "، فنزلت:
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رَبِّ زِدْ أُمَّتِي " فنزلت: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ".
قال مالك في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] " هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها ".
قال مالك: " وبلغني أن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ".
قلت: والصبر على طاعة الله عز وجل وعن محارم الله تعالى أفضل من الصبر على المصائب والفجائع. كذا، قال عمر وغيره.
ثم قال: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ}.
أي ممن أنفق في غير سبيل الله، يضاعف أيضاً إن شاء.
وقيل: {لِمَن يَشَآءُ} هو المنفق في سبيل الله عز وجل، يزيد على سبعمائة ضعف إلى ألفي ألف ضعف إن شاء. روي ذلك/ عن ابن عباس.
قوله: {والله وَاسِعٌ}.(1/881)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
أي يزيد من يشاء من خلقه على السبعمائة ما شاء.
{عَلِيمٌ}. أي عليم بما ينفق المنفقون في سبيله.
وقيل: عليم بمن يزيده على السبعمائة ضعف ومن لا يزيده.
/ قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ}.
قال الكلبي وغيره: " أصل نزول هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن ابن عوف، أتى عبد الرحمن بن عوف إلى النبي صلى عليه السلام بأربعة آلاف دينار. وقال: يا رسول الله، اجتمع عندي ثمانية آلاف فعزلت لنفسي وعيالي نصفها،(1/882)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
وجعلت لله نصفها، فجزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. وقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، عليّ تجهيز كل عاجز عن النهوض معك لفقره إلى تبوك، واشترى رومة يبرأ بوقفها للمسلمين ". ثم " الآيات لكل " من فعل مثل فعلهما.
وهذه الآيات فيما قال ابن زيد:: هي لمن ينفق، وليس يجاهد، ولم يقل للمجاهدين شيئاً ".
وقيل: هي عامة، علم الله عز وجل أقوماً يمنون بعطيتهم فقدم في ذلك.
قال زيد بن أسلم: " إن ظننت أنه يثقل عليه سلامك، فكي سلامك عنه ". يعني الذي تصدق عليه.
قوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}.
" قول " مبتدأ، و " معروف " نعته، والخبر محذوف كأنه " أمثل " و " أولى ". و " مغفرة ": مبتدأ و " خير من صدقة " الخبر.(1/883)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
قال الضحاك: " إن تمسك مَالَكَ خير من أن تنفقه، ثم تتبعه المن والأذى ".
قوله: {والله غَنِيٌّ}.
أي عنى عن ما يتصدق به بالمن والأذى.
{حَلِيمٌ}.
لا يعجل بالعقوبة على من يتبع صدقته المن والأذة، وقيل: المعنى: قول جميل، ودعاء للسائل خير من أن تعطي صدقة [يتبعها أى ومَنٌّ ".
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم} الآية/.
أمروا أن يكفوا عن المن والأذى اللذين يبطلان ثواب الصدقة، كما يبطل الرياء صدقة المتصدق المافق/ الذي يوهم بصدقته أنه مؤمن فيرائي.
والمراد في قوله: {وَلاَ يُؤْمِنُ بالله}.(1/884)
هو المنافق، وإنما ذلك لأنه أضاف إليه الرياء. وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره. فأما الكافر فليس عنده رياء، لأنه مناصب للدين مجاهر بذلك.
وقيل: المراد به الكافر المجاهر. وذلك أن الكافر قد ينفق ماله، ليقول الناس: " ما أكرمه! ما أفضله "، ولا يريد بإنفاقه إلا الثناء، لا غير. فنهاهم الله أن يكونوا مثله إذا منوا أو آذوا.
وقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ}.
الصفوان: الحجر الأملس.
وقرأ ابن المسيب والزهري: " صَفَوَانٍ " بفتح الفاء.
وحكى قطرب " صِفْوَانٍ " بكسر الصاد.
قال الأخفش: " صَفْوَانٌ، جماعة صَفْوَانَةٍ ".
وقال غيره: " هو واحد والصلد هو الذي لا شيء عليه من نباته(1/885)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
ولا غيره ".
مَثَّلَ الله المنافقين وأعمالهم بالحجر الأملس عليه تراب، وأصابه مطر وابل؛ وهو العظيم القطر، فتركه لا شيء عليه. فكذلك صدقات المنافقين للرياء.
ومعنى: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ}.
أي لا يقدرون يوم القيامة على وجود شيء مما كسبوا، أي من ثواب ما كسبوا في الدنيا لأنه كان لغير الله.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}.
أي لا يسددهم لإصابة الهدى في فعلهم وقولهم. وهذا يقوي قول من ق ل: أراد بما تقدم الكافر لا المنافق. قال معنى ما ذكرنا: قتادة والربيع/ وغيرهما.
قوله: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ [أَمْوَالَهُمُ] ابتغآء مَرْضَاتِ الله}.
ضرب الله الآية الأولى مثلاً لأعمال الكافرين يوم القيامة، وشبه صدقة أهل الرياء والكفر بالصفوان الذي عليه تراب فأصابه مطر شديد، ثم ضرب هذه الآية(1/886)
مثلاً لأعمال المؤمنين وصدقاتهم. فمعنى قوله: {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ}، أي يقيناً وثقة. قاله السدي وقتادة وأبو صالح.
وقال مجاهد: " يثبتون: أين يضعون أموالهم ".
قال الحسن: " يعني زكاتهم ".
وروي عن قتادة: " {وَتَثْبِيتاً}: احتساباً من أنفسهم ".
وعن الحسن أنه قال: " يثبت إذا أراد أن ينفق، فإن كان لله أنفق وإلا أمسك ".
قوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ}.
شبه فعل هؤلاء في صدقاتهم بجنة بربوة، وهي الترعة أصابها وابل وهو المطر الشديد العظيم القطر، فإن أخطأها الوابل أصابها الطل وهو الندى.(1/887)
وقال الضحاك: " هو الرذاذ من المطر، يعني اللين منه ".
والهاء في {أَصَابَهَا} تعود على الجنة أو على الربوة، وكذلك الهاء في " يصبها ".
قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}.
أي فهي لا تخلف؛ لابد من إتيان الأكل. فكذلك عمل المؤمن لا خلف لخيره.
وسميت الربوة ربوة لأنها ربت على وجه الأرض. / أي ارتفعت من: " ربا " إذا زاد.
قال مجاهد: " الربوة المكان الظاهر المستوي ". وكذلك قال الحسن. وقال الضحاك: " الربوة المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار ". وقال السدي: " {بِرَبْوَةٍ}: برابية من الأرض " يريد المنخفض.
وقال ابن عباس: " الربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه(1/888)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
الأنهار " / وتقدير الكلام عند المبرد: " فطل يكفيها ".
وعلى ذلك يستحسن الوقف على {فَطَلٌّ}. وقدَّره غيره. " فهو طل " أو " أصابها طل ".
قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} الآية.
قوله: {وَأَصَابَهُ الكبر}.
على تقدير: " وقد أصابه الكبر "، ولذلك عطفه على " أَيَوَدُّ " وهو مخالف له.
وقيل: هو محمول على المعنى، تقديره: " أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر ".
وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي. ينفقانهما رياء الناس، فهو يحمد على ما ظهر منه في الدنيا ولا حاجة به إلى ذلك في الآخرة كالرجل الذي له جنة من نخيل وأعناب ولا كبر معه ولا ذرية. فلما كبر، وصارت له ذرية ضعفاء. وضعف عن الكسب والتصرف، ولا طاقة لذريته على التكسب لضعفهم وصغرهم، فعند ذلك(1/889)
احترقت جنته، فانطقع في أحوج ما كان إليها، ولم ينتفع بها في شيببته وقلة عياله إذ كانت سالمة. كذلك المنافق أو المرائي، إذا أتى في الآخرة لم يجد شيئاً من عمله، وهو أحوج ما يكون إليه، ولم ينفعه حمد الناس على ما ظهر لهم من عمله. فحاجته إلى العمل الصالح، كحاجة هذا الكبير الذي له ذرية ضعفاء إلى جنته.
قوله {إِعْصَارٌ}.
أي ريح فيها سموم فاحترقت، وهي ريح عاصفة تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود/ والجمع أعاصير، وهي التي تسميها الناس: الزوابعة.
وقال الحسن: " {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ}: ريح فيها برد شديد ".
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ}.
أي هكذا البيان المُتَقَدم في الصدقة، والجهاد، وقصة إبراهيم، وجميع ما سلف.(1/890)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي العلامات.
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.
قال/ ابن عباس: " تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها ".
وقال مجاهد: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: أي تطعون ".
قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}.
قال علي رضي الله عنهـ: " من الذهب والفضة، الجياد منها ". أي زكوا من ذلك.
وقيل: من الحلال.
وقال مجاهد: " ما كسبتم من التجارة، {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض}: يعني ما فيه زكاة مما بينته السنة ".
{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث}:
أي الرديء، اي لا تعمدوا إلى الرديء تتصدقون به فتجعلوه(1/891)
زكاتكم. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، علق قِنوا من حشف للصدقة وكانوا يعلقون في أيام الجداد في مسجد النبي [عليه السلام] / بين كل أسطوانتين أقناء يأكل منها المهاجرون والأنصار، فعلق هذا الرجل قنوا من حشف فنهوا عن ذلك، وهو الخبيث يراد به الرديء. وقال علي: " كان الرجل يعزل الرديء من التمر للصدقة، فنزلت الآية ". وهو قول الحسن ومجاهد وعطاء.
وقال ابن زيد: " الخبيث: / الحرام ".
أي لاتتدصقوا من الحرام. وتصدقوا من الحلال.(1/892)
قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ}.
أي لستم بآخذين الرديء من المال من غرمائكم إلا عن إغماض منكم؛ أي كراهية، فتأخذونه كأنكم قد أغمضتم أعينكم، فلا ترونه كراهة فيما أعطيتم.
وقرأ الحسن " أن تُغْمَضُوا " بفتح الميم وضم التاء. أي لستم تأخذونه حتى تنقصوا من سعر غيره. وكذلك قرأ قتادة.
قيل: معناه: لستم تأخذونه إلا أن يهضم لكم من ثمنه أي ينقص. وقرأ الزهري: " تَغْمِضُوا " بفتح التاء، وكسر الميم.
وعنه أيضاً بضم التاء، وتشديد الميم.(1/893)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
وقال علي: " لستم ممن يأخذ الرديء حتى يهضم لكم "، أي يرخص عليكم من ثمنه، فيقول تعالى: " ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم إلا عن تغمض وترخص في أخذه وكراهة ".
وقال ابن زيد: " لستم ممن يأخذ الحرام حتى يغمض لكم في من الإ ثم ".
قوله: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ}.
أي غني عن أن تتصدقوا بالرديء والدنيء، وتأخذوا لأنفسكم الجيد.
/ {حَمِيدٌ} لمن تصدق بطيب ماله.
قوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر}.
أي يخوفكم به ويوسوس إليكم، فلا تخرجون الزكاة.
{وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} أي [بترك الصدقة فتكونون عاصين].
{والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً} أي يجازيكم على صدقاتكم بالمغفرة.
وقال ابن عباس: " الشيطان يقول: " لا تنفق مالك، أمسكه(1/894)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
عليك "، والله يعدل مغفرة على تركك هذه المعاصي، وفضلاً في الرزق ".
وقال قتادة: " والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً لفقركم ".
{والله وَاسِعٌ} يعطيكم من سعته، ما شاء لمن شاء.
{عَلِيمٌ} بمن [يطيعه فيتفضل] عليه، ومن يعصيه فيغفر له أو يعاقبه.
وروي أن في التوراة مكتوباً: " عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك من فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ".
وفي القرآن نظير/ هذا، {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [سبأ: 39].
قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ}.
قال ابن عباس: " الحكمة علوم القرآن/ مقدمة ومؤخرة وناسخة ومنسوخة،(1/895)
ومحكمة ومتشابهة ".
وقال قتادة: " الحكمة: الفقه في القرآن ".
وقال مجاهد: " الحكمة: الإصابة في القول ".
وقال ابن زيد: " الحكمة: العلم بالدين ".
قال مالك: " الحكمة: المعرفة بدين الله، والفقة فيه، والاتباع له ".
وروى عنه ابن القاسم أنه قال في الآية: " الحكمة: التفكر في أمر الله والاتباع له ".
وعنه أيضاً أنه قال: " الحكمة: طاعة الله والاتباع له، والفقه في الدين والعمل به ".
وقال مالك: " إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في الدين يدخل الله في القلوب من رحمته وفضله ".(1/896)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
وقال الربيع بن أنس: " الحكمة: الخشية ".
وقال السدي: " الحكمة: النبوءة ".
وقال زيد بن أسلم: " الحكمة: الفهم عن الله في أمره ونهيه ".
وقال ابن زيد بن أسلم: " الحكمة: العقل في الدين ".
وقال مجاهد أيضاً: الحكمة: القرآن ". وقاله الضحاك.
قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}.
أي لا يتذكر ولا يتعظ بهذه الآيات إلا أولوا العقول وهم المؤمنون. قاله ابن سلام.
قوله: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ}.(1/897)
الهاء " في {يَعْلَمُهُ} تعود على الإنفاق أو على النذر. أي ما تصدقتم من صدقة لم تعقدوها على أنفسكم أو نذرتم من نذر، فعقدتموه على أنفسكم، فإن الله يعلم ذلك، أي يعلم من تصدق ونذر لوجه الله، ومن فعل ذلك للرياء.
و" ما " لمن ظلم نفسه فتصدق لغير الله، ونذر لغير الله.
قال الحسن: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا أَنْفَقَ النَّاسُ/ مِنْ نَفَقَةٍ أَعْظَمُ إِلَى اللهِ مِنْ قَوْلٍ ".
وقال الحسن أيضاً عن النبي عليه السلام أنه قال: " مَا أَنْفَقَ النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، وَقِرَاءَةُ القُرْآن ".
وقَال: " أَفْضَلُ النَّفَقَةِ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَالِدَيْكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَلَدِكَ وَزَوْجَتِكَ وَعِيَالَكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى قَرَابَتِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ الله " هذا معنى الحديث.(1/898)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قوله: {مِنْ أَنْصَارٍ}. أي ما للظالم من نصير ينصره يوم القيامة.
قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} الآية.
قال الربيع: " كل مقبول، إذا كانت النبية خالصة، والسر أفضل ".
وكذلك قال ابن جبير وغيره. وهذا في التطوع.
قال [ابن عباس: " صدقة التطوع في السر أفضل من العلانية، يقال: بسبعين ضعفاً. وصدقة الفريضة في العلانية/ أفضل من السر بخمسة وعشرين ضعفاً ".
وكذلك جميع الفرائض والنوافل على هذا القياس. ومن قرأ: " يُكَفِّرْ " بالياء، فمعناه: ويكفر الإعطاء.
وقيل: معناه: ويكفر الله، و " مِنْ " للتعبيض.
ومعنى {سَيِّئَاتِكُمْ} أي يكفر منها ما شاء لمن يشاء، ليكون العباد على وَجَلٍ(1/899)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
من الله، لئلا يتكلوا على الصدقات أنها تكفر الذنوب كلها.
وقيل: " من " زائدة، فتكون الكفارات للسيئات كلها.
قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
أي خبير بما تصنعون في صدقاتكم من أخفائها وإعلانها.
ومعنى {خَبِيرٌ} / ذو خبر.
قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ}.
هذا مثل/ {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119]، على قراءة من رفع، أي ليس عليك سوى البلاغ المبين، ولست عليهم بمسيطر. {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ}، أي يوفقه للهداية.
وهذا الآية نزلت في المشركين لأن المؤمنين كانوا لا يتصدقون عليهم ليدخلوا في الإسلام، فنزلت: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله}.(1/900)
وقيل: " نزلت في أسماء بنت أبي بكر امتنعت مِن بِر جدها [أبي قحافة] إذ لم يسلم/ وغيره، فتصدق عليهم ".
قال ذلك ابن عباس وابن جبير، قالا: " كان ناس من الأنصار لهم قرابة ضعفاء مشركون فلا يتصدقون عليهم، فنزلت الآية، فتصدقوا عليهم ".
وروى ابن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان لا يتصدق على المشركين حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم.
وقال ابن زيد: " لك ثواب نفقتك، وليس علكيم من عمله شيء ".
وهذا إنما هو في التطوع، فأما في الواجب فلا يعطى منه إلا المسلمون.
قال مالك: " يتصدق على اليهود والنصارى من التطوع، ولا يعطون من الواجبات لا من الزكاة ولا من صدقة الفطر، ولا مما أشبههما ".
قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ}.(1/901)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
أي ما تتصدقوا من مال - والخير المال - فإنه لأنفسكم تجزون به. [روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إِذَا تَصَدَّقَ الْعَبْدُ بِالْصَدَّقَةِ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْسَّائِلِ فَيُرْبِيهَا لأَحَدِكُمْ كَمَا يُرْبِي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مَثْلَ أُحُدٍ ".
وتصديق ذلك في كتاب الله: {َيَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276]، وقال: {وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104].
قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله}.
اللام متعلقة بقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} للفقراء الذين من حالهم وقصتهم - {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}. وعني به فقراء المهاجرين بالمدينة. ومعنى {أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله}: منعوا أنفسهم من التصرف وحبسوها على جهاد عدوهم. قاله قتادة وغيره.
وقال ابن زيد: " كانت الأرض للعدو، فلا يستطيعون تصرفاً فهم محصرون ".(1/902)
وقال السدي: " معناه: حصرهم المشركون بالمدينة ".
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض}.
أي تقلباً ولا تصرفاً في المعاش والتجارات.
وقال ابن جبير: " نزلت في قوم أصابتهم جراحات في سبيل الله، فصاروا زمنى من أجل عدوهم، أو من أجل حرصهم على الجهاد والغزو.
قوله: {يَحْسَبُهُمُ}. بكسر السين وفتحها لغتان، ونظيره " نَعِمَ " و " يَئِسَ "، يأتي المستقبل بالفتح والكسر.
وحكى أبو إسحاق أن مثله عهد، يقال: " يَعْهِدُ وَيَعْهَدُ.
ومعنى: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل}.
أي الجاهل بأمرهم وحالهم، أغنياء من تعففهم عن المسألة والتعرض لها.
تعرفهم يا محمد بعلاماتهم وهي السيماء وهي أثر السجود.(1/903)
وقيل: هي الخشوع والتواضع. قاله مجاهد.
وقيل: هي أثر الفاقة والحاجة. قال السدي.
وقال ابن زيد: " هي رثاثة ثيابهم، / لأن الجوع خفي ".
ومن العرب من يمد السيماء، ومنهم من يقول سيماء بالمد وزيادة ياء بعد الميم.
قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً/}.
أي إلحاحاً، أي لا يشملون الناس بالسوال، ومنه اللحاف.
والمعنى: لا يكون منهم سؤال فيكون إلحافاً.
وهو كقول امرئ القيس:(1/904)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
" عَلَى لاَ حِبٍ لاَ يَهْتَدِي لِمَنَارِهِ ".
أي ليس فيه منار فيهتدي به.
ويقال: قد ألحف السائل إذا ألح.
ويقال: " أَلْحَفَ الرجل " و " أَلَحَّ " و " أَخْفَى "، بمعنى واحد.
قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً}.
قال ابن عباس: " نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ؛ كانت معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً. وبالنهار درهماً، وسراص درهماً، وعلانية درهماً ".
وقيل: " إنها نزلت في علف الخيل في سبيل الله ".
ذكر ذلك أيضاً عن ابن عباس، وعن أبي ذر الغفاري.(1/905)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
/ وقال أبو أمامة: " نزلت في أصحاب الخيل ".
وكذلك قال الأوزاعي: " هي في الذين يربطون الخيل في سبيل الله ينفقون عليها بالليل والنهار " وروي ذلك عن أبي الدرداء. وعلى أنها في الخيل أكثر أهل التفسير.
قوله: {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا لاَ يَقُومُونَ}.
معناها: الذين يأكلون الربا في الدنيا لا يقومون في الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجنون.
والمس: الجنون. قاله مجاهد وقتادة وابن جبير وغيرهم؛ قاوا: " يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} [المعارج: 43] إلا أكله الربا، فإن الربا يربو في بطونهم فيقومون ويقسطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون ".
قال ابن جبير: / " يبعث أحدهم حين يبعث، وشيطان يخنقه ".(1/906)
والقصد بالنهي في هذه الآية: كل من أخذ الربا أكله أو لم يأكله.
وكان أهل الجاهلية إذا حل أحدهم الأجل في دين/ عليه، يقول الذي عليه الدين: " زِدْنِي في الأَجَل وَأَزيدُكَ فِي دَيْنِكَ "، فنهى الله عن ذلك، وقال: {اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279].
وأصل الربا الزيادة، وهو في التجارة والبيع والشراء جائز إذا كان على وجهه الذي قد بينته السنة والكتاب. فأصل الربا المحرم أن يقول الذي عليه الدين: " أَخِّرْنِي وَأَزِيدَكَ فِي دَينك "، ثم جرى مجراه كل ما شابهه في البيوع والدين، وغير ذلك ما قد أحكمته السنة وفسره العلماء.
وقد روى محمد بن كعب القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبَا ".
قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}.
أي ما أكل وأخذ قبل مجيء الموعظة فذلك مغفور له.(1/907)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{وَأَمْرُهُ إِلَى الله}.
أي في المستقبل، إن شاء ثبته وإن شاء رده إلى ما نهاه عنه.
والموعظة: القرآن.
ومن عاد فعمل بالربا حتى يموت فأولئك أصحاب النار. قال ذلك سفيان. وقال غيره: " من عاد فقال: إنما البيع مثل الربا، وتمادى عليه، فهو من أصحاب النار ".
قوله: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات}.
معناه: ينقص الله الربا ويذهبه، ويضاعف الصدقات وينميها.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
أي إن الذين تابوا من أكل الربا فآمنوا بما أنزل عليهم، وانتهوا عما/ نهو عنه وعملوا الصالحات، فهم أصحاب الجنة.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا}.
معناه: / يا أيها الذين صدقوا محمداً: ذروا ما بقي لكم من الربا زيادة على رؤوس أموالكم.
ونزلت هذه الآية في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوا عليهم فقبضوا بعضاً، وبقي بعض، فعفا لهم عما كانوا قبضوا وحرم عليهم ما بقي(1/908)
مما زاد على رأس المال.
قال ابن المسيب: " لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما [يكال و] يوزن مما يؤكل ويشرب ". يعني في المبايعة.
وفسره بعض العلماء فقال: " ما كان مما يكال أو يوزن من نوع من الطعام، فلا تأخذ إلا وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، يداً بيد، وكذلك الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فإن اختلف النوعان فَزِدْ واستزد يداً بيد ".
قال عبد الله بن سلام: " أكل الربا يعدل سبعين فجرة، أدنى فجرى منها مثل أن يضطجع الرجل مع أمه ".
وروى الحكم بن عتيبة عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " درهم ربا أشد من/ ست وثلاثين زنية ".
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرِبَا سَبْعُونَ حُوباً، أَيْسَرُهَا مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ".(1/909)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
قال ابن مسعود: " الربا بضع وسبعون بابا ".
قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله}.
أي فأيقنوا بحرب.
وقال الأصمعي: " معناه: كونوا على علم ".
ومن قرأ بالمد فمعناه: فأعلموا أصحابكم بالحرب.
{وَإِنْ تُبْتُمْ}. أي تركتم الربا.
{فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم}. بلا زيادة.
{لاَ تَظْلِمُونَ}. فتأخذون ما ليس لكم.
{وَلاَ تُظْلَمُونَ}. فتنقصون من رؤوس أموالكم.
وروى المفضل عن عاصم: " لا تُظْلَمُونَ وَلاَتَظْلِمُونَ "، المفعول قبل(1/910)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
الفاعل.
قوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}. أي إن وقع ذلك.
ولا خبر ل " كان "، هي " كان " التامة تستغني باسمها عن الخبر. فليست بالداخلة على الابتداء والخبر، تلك هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر.
وقد قيل: إن الخبر محذوف، والتقدير: " وإن كان ذو عسرة في الدين فظرة إ لى ميسرة ".
وفي مصحف عبد الله: " وَإِنْ كَانَ ذَا " بالألف على تقدير: وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة، فهي " كان " الناقصة على هذا.
وقرأ مجاهد: " فَنَاظِرْهُ إِلَى مَيْسُرِ هِي "، بضم السين، وصلت الهاء بياء.
وهو لحن عتد أهل العربية: ليس في الكلام مفعل بتغيير هاء التأنيث.(1/911)
قال الأخفش: / " ولو قرأوا بفتح السين لكان حسناً، لأن " مفعلاً " في الكلام كثير ".
وقوله: {فَنَظِرَةٌ}. هو من التأخير. ورفعها على معنى: " فعليكم نظرة ".
/ وحكى أبو إسحاق: " فناظرة " من التأخير.
وقيل: [هو من أسماء المصادر كقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]. ورد أو حاتم ذلك وقال: " إنما يجوز هذا في نظر العين، مثل الذي في النمل قوله: {بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35].
والمعنى: " إن كان الذين لكم أن ترجعوا عليهم برؤوس أموالكم ذوي عسرة، فعليكم أن تنظروهم إلى مسيرة ".
وفتح السين وضمها لغتان. وأجاز النحاس النصب على(1/912)
المصدر. وهذه الآية ناسخة لما كان في أول الإسلام. كان الرجل إذا اتبع في دين ولم يكن معه ما يقضيه بيع في الدين.
روي عن النبي عليه السلام: " أنه أمر أعرابياً ببيع رجل له عليه دين، ولا مال معه ".
وقال قوم: " إنما هذا الإنظار في الربا خاصة، وليس لمن عليه دين لا يؤديه إلا السجن حتى يؤديه كان معه أو لم يكن لقوله: {إِنَّ الله/ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
قال ابن عباس: " نزلت في الربا ".
/ وأكثر الفقهاء على أن الآية عامة في كل من عليه دين، ولا شيء معه، ينظر إلى يسره إذا صح فَقْرُهُ وثبت.(1/913)
قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
أي وصدقه رؤوس أموالكم على المعسر خير لكم إن كنتم تعلمون الفضل.
وقال قتادة: " ندبوا أن يتصدَّقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير ".
وقال غيره: " ذلك على المعسر خاصة ".
قال عمر بن الخطاب رضي لله عنه: " آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله قبض من قبل أن يفسرها ".
قال ابن عباس: " آخر آية نزلت: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله}.
كذلك قال السدي وعطية وابن جريج.
واليوم في هذا يوم القيامة.(1/914)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
وقيل: هو يوم موت الإنسان لأنه وقت قدومه على الله.
ويروى أن النبي عليه السلام قال: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ ثُمَانَينَ وَمَائَتَيْنِ مِنَ البَقَرَةِ ".
ومعنى الآية: التحذير والتخويف في أخذ الربا وارتكاب ما نهي عنه.
وروي أنها نزل على النبي عليه السلام قبل موته بثلاث ساعات فقال النبي عليه السلام: " اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الرِّبَا ".
وقال مقاتل: " نزلت قبل/ وفاته بتسع ليال ".
قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ}.
قال ابن عباس: " نزلت في السلم خاصة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم ". يريد بثمن نقد معلوم من غير أن يكون طعام في طعام.(1/915)
وروي عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري " أنه واجب أن يكتب إذا باع بدين ". وهو قول ابن سيرين وأبي قلابة والضحاك وجابر بن زيد ومجاهد.
/ وقال عطاء: " أشهد إذا بعت، وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو بثلث درهم أو أقل من ذلك، فإن الله يقول: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وهو مذهب الطبري.
وقال أبو سعيد الخدري: " كان ذلك فرضاً ثم نسخه {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
وبه قال الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد والشعبي.
وأكثر الفقهاء على أنه ندب وإرشاد لا على الحكم. وهو قول مالك والشافعي.(1/916)
وقال الطبري: " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على أنها ندب وإرشاد ". وقال: " من جعل الإشهاد فرضاً، لا يجوز أن يكون هذا منسوخاً لأنه يلزم منه رفع حكم الإ شهاد. والإشهاد جائز بإجماع. وفي تركه وقع الاختلاف فلو كانت منسوخة لم يجز الإشهاد لأن حكم المنسوخ ألا يبقى حكمه ولم تأت آية فيها/: " لا تكتبوا ولا تشهدوا ". بل لك حسن جائز بإجماع وواجب عندنا. وإنما معنى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} عند عدم الكاتب والشهود ".
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا الاعتراض لا يلزم لأنه يجب منه ألا يعمل بما نسخ البتة. وقد نسخ فرض صوم عاشوراء وفرض صوم ثلاثة أيام من كل شهر. ونسخ فرض قيام الليل، وفعل ذلك حسن مُرَغَّبٌ فيه. كذلك فرض الإشهاد، هو منسوخ، وفعله حسن جائز. وقول الطبري: " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على الندب ".
جوابه: أن الدليل على أنه صار ندباً قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً}. ولا يحمل(1/917)
على معنى عدم الكاتب والشهود إلا بدليل.
قوله: / {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ}.
قيل: هو واجب عليه أن يكتب إذا دُعي إلى ذلك.
قال الضحاك: " نسخها: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ}.
وقال السدي: " لا يأب كاتب أن يكتب إذا كان فارغاً ".
{وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}.
أي لا يظلم ولا ينقص من حق الرجل/ الذي له الحق شيئاً.
قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق}. أي من عليه الدين.
{سَفِيهاً}. أي جاهل بالصواب الذي يمليه عليه الكاتب.
{أَوْ ضَعِيفاً}. أي أخرق. قاله ابن عباس، وقاله مجاهد وغيره.
وقال السدي: " السفيه الصغير ".(1/918)
وأصل " السفيه " الخفيف العقل من قولهم: " تَسَفَّهَتِ الْرِّيحُ الشَّيْء " إذا استخفته فحركته.
قال السدي: " الضعيف الأحمق ".
{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل}: أي ولي السفيه والضعيف. قاله الضحاك.
وقال ابن عباس: " ولي الدين هو الذي هو عليه " أي فَلْيُقِرْ وَلَيُّهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلْيَشْهَدْ.
وقيل: ولي الدين هو العيي واليتيم.
فالهاء في {وَلِيُّهُ} تعود على الدِّين أو على صاحب الدَّين أو على المطلوب.
قوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ}.
اختير " فَعِيلٌ " لأنه للتكثير، فمعناه: استشهدوا من عُرف بالشهادة والشاهد يقع لغير التكثير، يقال: " فُلاَنٌ شَهِيدِي وَشَاهِدِي ".(1/919)
قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} أي من الأحرار المسلمين.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان}.
قال ابن بكير: " هذا مخاطبة للحكام "، أي إن لم يأت صاحب الحق برجلين أتى برجل وامرأتين، فليس معناها أنه لا يشهد الرجل والامرأتان إلا عند عدم الرجلين. لأن فاعلاً لو فعله وهو واحد الرجلين لتم إشهاده ".
ومعنى الآية/ عند غيره أنها مخاطبة لصاحب الدين، أي فاستشهدوا [من حضر]؛ رجلين، أو رجلاً وامرأتين.
ومعنى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء}.
أي من العدول المرضيين، وإنما تجوز شهادة النساء عند مالك، ومن قال بقوله في الأموال خاصة؛ لأنه المكان الذي تكون فيه لا يتعدى إلى غيره.
قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}.
أي فتصير إحداهما ذكراً باجتماعهما. تقول العرب " اذَّكَرَتِ المَرْأَةُ " إذا(1/920)
ولدت ذكراً، قال ذلك ابن عيينة. وليس هو عنده من الذِّكر بعد النيسان.
وأكثر الناس على أنه من الذكر بعد النسيان لقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أي إن تنسى فتذكرها الأخرى ما نيست.
قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ}.
أي لا يتخلفوا عن أداء الشهادة إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق. قاله قتادة والحسن.
وقيل: معناه: لا يتأخروا إذا دُعُوا ليؤدوا ما قد شهدوا عليه، وذلك إذا لم يجد غيره، فإن وجد غيره فهو مخير/ فأما إذا دعيت إلى شهادة لم تشهد بعد بها، فأنت مخير في ذلك.
هذا/ قول مجاهد وعطاء وغيرهما. وهو قول مالك.(1/921)
والألف واللام في {الشهدآء} يدلان على أنه لشهادة متقدمة إذا دعوا [ليوصلوها إلى] حكم، فلا يتخلفوا إذا لم يوجد غيرهم.
وعن عطاء أنه إذا دعي ليشهد لزمه ذلك.
قوله: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ}.
أي لا تملوا أن تكتبوا صغير حقوقكم وكبيرها إلى أجله، فإن الكتاب أحضر للأجل والمال.
{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ} أي أعدل.
{وَأَقْومُ} أي أصوب.
{وأدنى أَلاَّ ترتابوا}.
أي أقرب ألا تشكوا في الدين والأجل. ثم أرخص في التجارة الحاضرة التي هي يداً بيد غير أن يكون طعام في طعام متفاضلاً ألا تكتبوها.(1/922)
ثم قال: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
قال الضحاك: " ما كان من بيع حاضر، فإن شاء أشهد وإن شاء ترك. وما كان من بيع إلى أجل فليشهد ".
قال مالك: " هو مخير في الإشهاد، وتركه ".
/ ويروى عن ابن عمر أنه قال: " الشهادة واجبة في كل ما يباع من قليل أو كثير بقوله عز وجل: { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
وهذا عند جماعة منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ}، وهو نسخ/ فرض إلى ندَب، كنسخ رمضان ليوم عاشوراء؛ من شاء صامه، ومن شاء تركه. وكالامتحان؛ من شاء امتحن، ومن شاء ترك، بعد قوله: {فامتحنوهن} [الممتحنة: 10]. فكان الإشهاد واجباً ثم صار ندباً بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً}. ففي هذا الحكم ثلاثة أقوال: الأول: أنه محكم يعمل به، والثاني: أنه منسوخ، والثالث: أنه ندب وترغيب.
تم الجزء السابع(1/923)
قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.
قال الحسن وغيره: " معناه لا يضار كاتب فيزيد ما لم يملل عليه في الكتاب أو يُحرّف، ولا شهيد فيكتم الشهادة أو بغيرها ".
وقال ابن عباس وغيره: " معناه لا يضارا فيتخلفا عن الكتابة والشهادة ويقولان: علينا شغل ولنا حاجة ".
وقيل: المعنى: لا [يضار فيما قد شهدا] فيه فيتخلفا عن أدائه إلى الحاكم.
وفي كل هذه الأقوال يرتفع [الكاتب والشهيد/ معاً بفعلهما].
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنه كان يقرأ: " وَلاَ يُضَارَر " برأءين ظاهرتين الأولى مفتوحة.(1/924)
وكذلك روى الضحاك عن ابن مسعود. وكذلك روى ابن كثير عن مجاهد. وتأويله: أن يضارا في أن يدعيا وعنهم غنى، ويشغلا عن أشغلالهما، ويعنفا تعمداً.
وقال الضحاك: " هو أن يكونا على حاجة مهمة فيقولان: اطلب غيرنا، فيقول: إن الله أمركما بذلك، ليؤثمهما ".
وكذلك قال السدي وطاوس، وهو اختيار الطبري، لأن الخطاب من أول الآية إنما هو للمكتوب له والمشهود له، وليس للكاتب والشاهد خطاب تقدم فيرد هذا عليه، ويبين هذا قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}، ولم يقل: " وإن تفعلا "، فيرد على الكاتب والشاهد، إنما رده على أهل الكتابة/ والشهادة فالنهي لهم أبين، ألا يضاروا الكاتب والشهيد فيشغلوهما عن شغلهما وهم يجدون غيرهما.(1/925)
ومعناه: وإن تضاروهما فإنه إثم حال بكم. فيكون الكاتب والشهيد على هذا التأويل مرفوعين على أنهما مفعولان لم يسم فاعلهما.
وكان الزجاج يختار أن يكون النهي للكاتب ألا يزيد في كتابته ولا يحرف، و [للشهيد ألا] يتخلف ولا يغير، ويكون قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} رداً إلى الكاتب والشهداء؛ أي إن حرفتم أو زدتم أو تخلفتم من غير عذر فإنه إثم وخروج عن الحق.
والهاء في {فَإِنَّهُ} عائدة على الضرار.
وقيل: على الفعل، أي فإن هذا الفعل فسوق بكم.
وقيل: الفسوق هنا الكذب في الشهادة والكتاب.
قوله: {واتقوا الله}.
أي في ترك المضارة، وفيما تقدم ذكره من حدوده.
قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله}.
أي يبين الله لكم الواجب لكم وعليكم لتعمَلُوا به.(1/926)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أي علم جميع ما تعملون ويحصيها عليكم ليجازيكم بها، فاحذروا المخالفة.
قوله: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} الآية.
قوله: {فرهان} هو جمع رهن، كبَغْلٍ وبِغَالٍ وكَبْشٍ وكِبَاشٍ.
ومن قرأ: " فَرُهُنٌ " فهو جمع الجمع. هو جمع " رِهَانٍ ": ك " كِتَابٍ ": و " كُتُبٍ "، / و " حِمَارٍ " و " حُمُرٍ ".
وقيل: هو جمع " رَهْنٍ "، ك " سَقْفٍ " و " سُقُفٍ ".
ومن قرأ " فَرُهْنٌ " بالإسكان/ فإنما أسكن الضمة لثقلها.
وقرأ ابن عباس " كِتَاباً "، وقال: " قد لا توجد الصحيفة "، وكذلك قرأ(1/927)
أبو العالية وعكرمة والضحاك ومجاهد. وهو واحد الكتب.
وقيل: هو جمع " كَاتِبٍ "، كما يقال: " قَائِمٌ " و " قِيَامٌ ".
وروي أيضاً عن ابن عباس: {وَلَمْ تَجِدُواْ} " كُتَّاباً "، على وزن " فُعَّالٍ " وهو جمع " كاتب "، " كضَارِبٍ " و " ضُرَّابٍ ".
وهذه الآية أرخص الله فيها في قبض الرهان عند عدم الكاتب، والرهن لا يكون رهناً حتى يقبض من مالكه بقوله: {مَّقْبُوضَةٌ}، سواء قبضه المرتهن عنده أو جعله على يدي عدل عند مالك.
قوله: / {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن}.
أي إن ترك صاحب الدين، أخذ الرهن، وأمن الذي عليه الدين، فليؤد ما عليه لأنها أمانة، وليتق الله ربه فيما قد اؤتمن به.(1/928)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وقال الضحاك: " هذه الأمانة التي فسخ فيها إنما في السفر، دون الحضر ".
قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة}. هو نهي للشهداء وتحذير لهم.
{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}. أي فاجر قلبه.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
أي يعلم ما تصنعون في شهاداتكم من أحالتها، والإتيان بها على وجهها فيحصي ذلك عليكم/ ويجازيكم به.
قوله: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}.
قال ابن عباس: " قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}، منسوخة بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}.
ومعنى قول: " إنها منسوخة "، أي نزلت على نسختها لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ.(1/929)
وقيل قي: إن الآية محكمة، وإن المؤمن والكافر يحاسبان بما أبديا وأخفيا، فيغفر للمؤمن، ويعاقب الكافر.
وقيل: إن الآية مخصوصة في كتمان الشهادة خاصة وإظهارها.
روي ذلك عن ابن عباس.
وروي عن عائشة أنها قالت: / " ما هَمَّ به العبد من خطيئة عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا ".
قال ابن عباس " إذا جمع الله الخلائق يقول: أنا أخبركم بما أكننتم في أنفسكم. فأما المؤمنون فيغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من شكهم وتكذيبهم، فذلك قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}.
قال ابن عباس: " لما نزلت هذه/ الآية وقع في قلوبهم شيء، فقال لهم النبي عليه السلام: " قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا "، فَأَلْقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنْزَلَ:(1/930)
{ءَامَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون} إلى {أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال " قَدْ فَعَلْتُ " {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً}، قال: " قَدْ فَعَلْتُ "، {واعف عَنَّا} إلى آخر السورة. قال: قَدْ فَعَلْتُ ".
وقال السدي: " وقعت عليهم شدة عند نزول: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} حتى نسخها ما بعدها ".
أي أزالت الشدة، من قولهم: " نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ " أي أزالته.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
أي يقدر على العفو لما أخفته نفس المؤمن، وعلى العقاب فيما أخفته نفس الكافر من الكفر والشك في الدين.
وقال حذيفة: " سمعت النبي عليه السلام يقول: " أُعْطِيتُ آيَاتٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَاهَا أَحَدٌ مِنْ بَعْدِي، ثم قرأ: {للَّهِ ما فِي السماوات(1/931)
وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} حتى ختم السورة ".
وروى أبو هريرة أنه: " لما نزلت على النبي عليه السلام هذه الآية: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}، وسمعوا فيها: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب فقالوا: " لا نطيق، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع، فأنزل الله: {ءَامَنَ الرسول} إلى آخرها.
وقال محمد بن كعب القرظي: " ما بعث الله نبياً إلا أمره أن يعرض على قومه، {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} إلا قالوا: لا نطيق أن نؤاخذ بما نوسوس في قلوبنا، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزلها عليه فآمن بها، وعرضها على قومه، فآمنوا بها، وقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}، قال: فخفف الله عنهم، فأنزل: {ءَامَنَ الرسول}.
وحكى عنهم " أنهم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}، فنسخ المؤاخذة بالوسوسة. وقاله ابن مسعود. وقالت عائشة: هو الرجل يهم بالمعصية، ولا يعملها، فيرسل عليه من الهم(1/932)
والحزن بقدر ما همَّ به من/ المعصية، فذلك محاسبته ".
وروي أنها لما نزلت قال النبي [عليه السلام]: " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " يعني نفسه.
" وروي أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة ما يلقون من قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}، / فقال لهم النبي [عليه السلام]: " لَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرائِيلَ. بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " فأنزل الله ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم ".
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: " لاَ يُفَرِّقُ " بالياء، رد على (كُلٌّ) أي " كُلٌّ لاَ يُفَرِّقُ ".
وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي سترك علينا.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {ءَامَنَ الرسول} / إلى {وَإِلَيْكَ المصير}. قال له(1/933)
جبريل: " إن الله قد أَجَلَّ الثناء عليك/ وعلى أمتك، فَسَلْ تُعْطَهُ ". فسأل إلى آخر السورة: " رَبَّنا رَبَّنا ".
قوله: {إِلاَّ وُسْعَهَا}: أي طاقتها فيما تعبدنا به.
فهذا توسيع ورخصة من الله وهو/ مثل قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ومثل: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} [البقرة: 185]، ومثل: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16].
قوله: {إِن نَّسِينَآ}. أي: نسينا فرضاً فرضته علينا، فلم نفعله.
{أَوْ أَخْطَأْنَا}.
أي: في فعل شيء نهيتنا عنه، ففعلناه على غير قصد إلى معصيتك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تَجَاوَزَ اللهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ نِسْيَانِهَا وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ".
وكان النحاس يقول: النيسان هنا الترك لأن الله تعالى لا يوصف بأن يعاقب(1/934)
على النيسان فيسأل في العفو عنه، لأنه ليس من تعمد العبد. إنما هي آفة تدخل عليه. وهو قول قطرب.
قوله: {إِصْراً}.
أي: عهداً. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم.
وقال غيره: " لا تحمل علينا ذنوبنا، فتعاقبنا بمسخ أو عذاب كما كان من قبلنا ".
وقال الضحاك: في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}، قال: " إذا دعي الناس ليوم الحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم، فيقول: " إِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنِّي شَيْءٌ وَإِنَّ كُتَّابِي مِنَ المَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُونُوا يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا تُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَإِنِّي لاَ أُحَاسِبُكُمْ بِهِ الْيَوْمَ ".
قال الضحاك: هذا قول ابن عباس.
وعن ابن عباس أن الله جل ذكره نسخ هذه الآية بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، قال: لما نزلت: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} الآية، وجدوا في أنفسهم منها وجداً(1/935)
شديداً فنسخ الله ذلك وأجارهم. منها، ثم علمهم أن يقولوا إذا عملوا سيئة: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى قوله: {مِن قَبْلِنَا}.
قال: " وكان الذين من قبلهم، إذا عملوا سيئة حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، وذلك قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ/ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
وقال للمؤمنين: قولوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إلى قوله: {الكافرين}.
قال: " فهذا شيء أعطاه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يُعْطِهِ أحداً ممن كان قبلهم من الأمم ألا يؤاخذوا بنسيان ولا خطأ غيرَهم ". وقال الحسن: " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تَجَاوَزَ اللهُ لاِبْنِ آدَمَ عَمَّا نَسِيَ وَعَمَّا أَخْطَأَ وَعَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَعَمَّا غُلِبَ عَلَيْهِ ".(1/936)
وروى عبد الله بن أبي أوفى أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ ".
وروي أن ابن عمر قرأ هذه الآية وبكى بكاءً شديداً، ثم ق ل: " والله لئن آخَذنا اللهُ بهذا لنهلكن "، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: " يرحم الله أبا عبد الرحمن؛ لقد وجد المسلمون منها مثل ما وجد حتى أنزل الله بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}.
قال ابن جبير: " لما نزل: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ}، شق ذلك على الناس حتى نزلت بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} ".
قال مجاهد: " معنى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}: يعني من الشك واليقين ".(1/937)
قال ابن جبير: " نسخت {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} أو تخفوه الآية ". وقاله إبراهيم/ والشعبي.
قال الضحاك: " لما نزلت {ءَامَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ}، إلى آخر/ السورة، قال الله جل ذكره: " قَدْ فَعَلْتُ ".
وروي عن الحسن والضحاك - أو عن أحدهما - أنه قال في قوله تعالى: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: " معناه: سمعنا القرآن أنه جاء من عند الله وأطعنا ". يقول: " أقروا على أنفسهم بالطاعة لله فيما أمرهم به ونهاهم عنه ".
وروى حذيفة أن النبي عليه السلام قال: " أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ [آخِرِ سُورَةِ] البَقَرَةِ مِنْ بَيْتٍ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ، لَمْ يُعْطَ أحَدٌ مِنْهُ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُ بِعْدِي ".(1/938)
وروى النعمان بن بشير أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ الله تَعَالَى كَتَبَ كِتَاباً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلاَ تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " إن خواتم سورة البقرة وفواتحها من كنز تحت العرش ".
وروي أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " يعني نفسه.
وذكر ابن الأنباري في هذه الآية ثلاثة أقوال: قال: إن الله تعالى يعاقب الذي يحدث/ نفسه بالمعصية، ولا يعلمها، بِهَمٍّ أو حزن وبشبهه، ثم لا يحاسبه على(1/939)
ذلك يوم القيامة وهو معنى قول عائشة رضي الله عنها.
/ والقول الثاني: إن الله يُقبل على العبد يوم القيامة فيخبره بما حدث به نفسه من خير وشر، ثم لا يجزيه بما لم يظهر منه من عمل، وهو معنى قول الضحاك.
والقول الثالث: إنه منسوخ بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. فالوسوسة وحديث النفس لا يملك الإنسان صرفه، ولا قدرة له على دفعه.
قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}.
روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: / " أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، اللهُ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنِّي قَدْ تَجَاوَزْتُ لَكَ عَنْ أُمَّتِكَ الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ".
وقال ابن زيد: " {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً}، اي ذنباً لا توبة منه ولا كفارة فيه ".
وقال ابن وهب عن مالك: " الإصر: الأمر الغليظ ".
وقال أهل اللغة: " الإصر: الثقل ".(1/940)
وقيل: معناه: لا تحمل علينا فرضاً يصعب علينا أداؤه، كما حملت على بني إسرائيل بعضهم يقتل بعضاً، وشبهه.
قوله: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق.
وقال قتادة: معناه: لا تشدد علينا كما شددت على] من كان قبلنا.
ومعنى: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: ما لا نستطيعه إلا بمشقة شديدة وكلفه عظيمة. فإنما سألوا دفع ما في طاقاتهم لو كلفوه، ولكن له مشقة كلفة. ولم يسألوا دفع ما لا يطيقونه لو كلفوه، لأن ذلك لا يوصف به الله عز وجل فيجوز أن يسألوا في دفعه عنهم.
قوله: {واعف عَنَّا}: أي امح ذنوبنا. والعافي الدارس.
{واغفر لَنَا}: أي حط عنا ذنوبنا.
{أَنتَ مولانا}: أي ولينا.
وروت أم سلمة أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لَكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الْخَطَأ(1/941)
والنِّسْيَانِ وَالاسْتِكْرَاهِ ".
وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ".(1/942)
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 347 هـ
المجلد الثاني
آل عمران - النساء
1429 هـ - 2008 م(1/943)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران
وهي مدنية
قوله: {الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ}.
قد تقدم ذكر {الم} في أول البقرة، وذكر {لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} عند ذكر آية الكرسي.
وأجاز الأخفش كسر الميم في {الم * الله} لالتقاء الساكنين.(2/945)
ومن أسكن الميم وقطع فعلى نية الوقف، وكذلك إسكان الميم في {الم * ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1 - 2] و {الم * غُلِبَتِ الروم} [الروم: 1] وشبههما.
ومن فتح فإنه حرك الميم لسكونها وسكون الياء قبلها، ولم يكسر لاستثقال الكسر بعد الياء وقد قال الفراء: " من فتح ألقى حركة الهمزة على الميم ".(2/946)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
وفي " القيوم " من القراءات والمعاني مثلما ذكر في آية الكرسي.
وأحسن ما قيل فيه: إنه القائم على كل شيء، الذي لا يزول، الدائم.
قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} يعني القرآن. {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما تقدمه من كتب الله.
وقوله: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} أي: من قبل نزول القرآن.
وقوله {هُدًى لِّلنَّاسِ}: يعني اليهود والنصارى، وهذا كله رد على من جحد القرآن.
وكان سبب هذه السورة في نزولها بالتوحيد، وذكر يحيى وعيسى: أن طائفة من النصارى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم من نجران فحاجوه في عيسى وألحدوا، فأنزل الله في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفاً وثمانين آية من أولها، احتجاجاً عليهم، ودعاهم النبي عليه السلام إلى الإسلام فقالوا: قد أسلمنا فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم.(2/947)
يمنعكم من الإسلام ادعاؤكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، فأبوا إلا المقام على كفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك وسألوه أخذ الجزية فقبلها، وانصرفوا إلى بلادهم.
وكان من أول ما سألوه أن قالوا: من أبو عيسى عليه السلام؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله صدر السورة بتوحيده وتعظيمه رداً عليهم، ووصف نفسه بالحياة تقريعاً لهم، لأنهم يعبدون عيسى وهو عندهم قد مات وقال: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6]. وقال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} [آل عمران: 59].
وكان ممن قدم عليه ثلاثة رؤساء (لهم) منهم: أحدهم العاقب، وهو(2/948)
عبد المسيح.
والآخر: السيد، وهو الأيهم.
والثالث أبو حارثة بن علقمة، أخو بكر بن وائل.
والإنجيل " الأصل من: نجلته " الشيء: أخرجته، ويقال نجله أبوه أي: جاء به وجمعه أناجيل، وهو إفعيل وجمع التوراة: توار.
قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، (أي) لما قبله من كتاب ورسول ".
قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان}.
هو ما يفرق به بين الحق والباطل في أمر عيسى.(2/949)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
وقيل: في أحكام الشرائع، وقيل: فيهما.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.
أي: إن الذين حجدوا بآيات الله وقالوا: إن عيسى ولده واتخذوه إلأهاً {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.
معناه: من كان بهذه الحال يا محمد كيف يخفى عليه ما يضاهي به هؤلاء في عيسى.
قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ}.
أي: يجعل هذا ذكَراً وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر فلذلك خلق عيسى لا من رجل كيف شاء، ولو كان إلهاً ما اشتملت عليه الآرحام، وانتقل من حالة إلى حالة.
قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}.
قال ابن عباس: [هي]:(2/950)
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث آيات، وفي بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين} [الإسراء: 23]، قال: والمتشابه نحو: آلَم، والروح وشبهه.
وقال مجاهد وعكرمة، ويحيى بن يعمر: المحكمات: الحلال والحرام والأمر والنهي، وما سوى ذلك فمتشابه يصدق بعضه بعضاً.
وقال الضحاك: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات.
وأهل المعاني على (أن) المحكم ما قام بنفسه، وفهم في ظاهر لفظه، ولم يحتمل إلآ ذلك، والمتشابه ما احتاج إلى تأويل وتفسير واحتمل المعاني.(2/951)
وسمى المحكمات أم الكتاب لأنهن معظمه، وأكثره.
وقيل: سماهن أم الكتاب لأن فيهن الدين من: حلال وحرام وأمر ونهي وفرض وغير ذلك، فهذا الأصل الذي تعبدنا به.
وإنما وحد الأم لأن معناه: هن أصل الكتاب.
وقيل: المعنى هن الشيء الذي كل واحدة منهن أم الكتاب.
قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. قيل معناه: اشتبهت على اليهود إذ سمعوها وهي أوائل السور: حروف التهجي، متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني.
وقال ابن عباس: متشابهات: هو المنسوخ، والمقدم والمؤخر.(2/952)
وقال قتادة وغيره: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات المنسوخات.
وقيل: المحكمات ما حكمت في ألفاظ قصص الأنبياء والأمم، والمتشابهات ما حكمت فيه ألفاظ القص والأخبار، قاله، قاله ابن زيد.
[قال:]: نحو {فاسلك فِيهَا} [المؤمنون: 27]، {احمل فِيهَا} هود: 40]، {اسلك يَدَكَ} [القصص: 32]. . . . . . . [ادخل يدك]، {حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20]، {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 32]، ونحوه، فهذا المتشابه.
وقيل: المحكم ما علم تأويله العلماء، والمتشابه ما لم يعلم تأويله أحد، وقد أفردنا الكلام على هذه الآية في كتاب مفرد متقصى فيه(2/953)
الاختلاف فيها وموضع الوقف.
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}.
أي: ميل عن الحق وهو الشك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وهو ما احتمل التأويلات " يبتغون بذلك الفتنة " أي: الكفر.
قال ابن عباس: يحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم يلبسون على الناس.
وقال السدي: يعترضون في الناسخ والمنسوخ فيقولون: ما بال هذه وما بال هذه. وعنى بهذا الوفد من نصارى نجران ومن هو مثلهم. لأنهم خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى.
وقال قتادة: إن لم يكونوا الحرورية فما أدري من هم؟.(2/954)
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنوا بقوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ".
قال السدي والربيع {ابتغاء الفتنة} أي: الشرك
وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات.
قال ابن عباس معنى: {ابتغاء تَأْوِيلِهِ} هو طلب الأجل في مدة محمد وأمته من قبل الحروف التي في أوائل السور وذلك أنهم حسبوها على حروف الجمل بالعدد فقالوا: هذه مدة محمد وأمته.
قال السدي: أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن وهو تأويله متى ينسخ منه شيء.(2/955)
وقيل معناه: وابتغاء تأويل المتشابه على ما يريدون من الزيغ.
قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}.
أي: ليس يعلم متى تقوم الساعة وتنقضي مدة أمة محمد عليه السلام إلا الله.
{والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.
أي: يسلمون ويقولون صدقنا، وهو قول ابن عباس وعائشة وابن مسعود، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك.
وروى عن نافع ويعقوب والكسائي، إن الوقف {إِلاَّ الله} وهو قول(2/956)
الأخفش والفراء وأبي حاتم، وأبي إسحاق، وابن كيسان، وهو اختيار الطبري.
ومعنى التأويل: التفسير وهو عند أكثرهم قيام الساعة لأنه ما تؤول إليه الأمور.
ومعنى: {والراسخون فِي العلم} الذين قد أتقنوا علمهم، وأًله من: رسخ إذا ثبت.(2/957)
وروي عن ابن القاسم أن مالكاً سئل عن الراسخون في العلم: من هم؟ فقال: العامل بما علم، المتبع له.
(وقال في رواية ابن وهب عنه: العالم العامل بما علم المتبع له).
وعن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخون في العلم فقال: " من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعَفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم ".
وقيل: الراسخ في العلم من وقف حيث انتهى به علمه.
قوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}.
أي: ما نسخ وما لم ينسخ من عند الله.(2/958)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
وقول أكثر العلماء: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه.
قال عروة بن الزبير: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ولكن يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}.
قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}.
أي ما يتذكر فيعلم الحق فيؤمن به إلا أولو العقول.
قوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}.
أي: لا تملها عن إيمانها بالمتشابه والمحكم فأنت هديتنا.
قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس. . .}.
أي: ويقولون أيضاً مع قولهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ}، ومع قولهم {آمَنَّا بِهِ}: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}. لا شك فيه.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ. . . .}.(2/959)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
يعني: من حاجَّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم) في عيسى لا تغني عنهم الأموال والأولاد يوم القيامة في شيء.
قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}.
أي: كعادتهم، وقيل كصنعهم: وقيل كشأنهم.
وقيل: كسنتهم في التكذيب والكفر، أي: تكذيب هؤلاء (كتكذيب هؤلاء) وصنعهم كصنعهم، وسنتهم كسنتهم والدأب: العادة
قوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ}.
من قرأ بالتاء فعلى الخطاب لهم لقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} كأنه قال: [قل] يا محمد للذين(2/960)
(يتبعون) ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} يعني اليهود، فهم المغلوبون.
ومن قرأ بالياء فعلى معنى، قل لليهود سيغلب المشركون.
فمن قرأ بالتاء كان المعنى: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول بعينه.
[ومن قرأ بالياء فالمعنى: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لغيرهم هذا القول وهم اليهود.
واحتج] من قرأ بالتاء أن النبي عليه السلام جمع يهود بعد وقعة بدر، فقال لهم: أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً يوم بدر، فأبوا، وقالوا: لا تغرنك نفسك أنك قاتلت قريشاً وكانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت ما نحن عليه فأنزل الله [تعالى] {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} إلى قوله {الأبصار}.(2/961)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
وحجة من قرأ بالياء ما روي أن اليهود تضعضعوا، وخافوا مثل يوم بدر وقالوا: هذا لا تزيح له راية فقال بعضهم لا تعجلوا بتصديقه حتى تكون وقعة أخرى فلما نكب المسلمون يوم أحد كذبت اليهود وفرحت فأنزل الله: قل يا محمد لليهود سيغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم
قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا. . . .} الآية.
قرأ الحسن {فِئَةٌ}، {كَافِرَةٌ} بالخفض فيهما على البدل، من {فِئَتَيْنِ}.
ومن رفع فعلى إضمار مبتدأ.(2/962)
وقال أحمد بن يحيى: يجوز النصب على الحال.
وقال الزجاج: النصب بمعنى أعني.
ومن قرأ {يَرَوْنَهُمْ} بالتاء فعلى المخاطبة لليهود، أي ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين.
ومن قرأ بالياء جعل الرؤية للمسلمين، أي: يرى المؤمنون المشركين مثلي أنفسهم.
وكان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً. وقيل ثلاثة عشر، والمشركون تسعمائة وخمسون.
وقيل: كانوا ألفاً.(2/963)
وقيل: كانوا ما بين ألف إلى تسعمائة.
وقد وعد الله المؤمنين بأن الرجل منهم يغلب الرجلين فأراهم الله المشركين مثليهم لتقوى نفوسهم، وكانت تلك آية أن رأوا الكثير قليلاً كما قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44].
وأنكر أبو عمرو قراءة من قرأ بالتاء وقال لا يلزم أن يقرأ مثليكم، هذا الرد إنما يلزم لو كانت الرؤية تنصرف على المسلمين، ولا يمكن إلا ذلك.
وقراءة التاء تنصرف على اليهود الذين تقدم ذكرهم.
والمعنى: قد كانت لكم أيها اليهود علامة في صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة ما دعاكم إليه بنصر (الله) تعالى إياه يوم بدر وأعداؤه مثلا من معه.(2/964)
وقيل: [المعنى] على قراءة التاء في ترونهم أيها المؤمنون مثلي أصحابكم.
وقال ابن كيسان: الضمير في {يَرَوْنَهُمْ} يعود على {أخرى كَافِرَةٌ}. والهاء والميم في {مِّثْلَيْهِمْ} يعودان على فئة.
وقال الفراء: معنى " مثليهم " ثلاثة أمثالهم.
قال ابن كيسان: كأنه جعل ترونهم يرجع إلى الكل أي: ترون الكل ثلاثة أمثال أصحابكم: هذا على [معنى] من قرأ بالتاء ".
[ومن قرأ بالياء فعلى معنى يرى المؤمنون الكل ثلاثة أمثالهم،
وتكون التاء مخاطبة لليهود فيكون المعنى ترون أيها اليهود الكل ثلاثة أمثال المؤمنين] وهذه كله يوم بدر.
{والله يُؤَيِّدُ} اي: يقوي {بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ}.(2/965)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء} الآية.
هذا توبيخ لليهود إذ آثروا الدنيا على الآخرة، فنبذوا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم خوف أن تذهب رياستهم.
وروي عن عمر أنه قال لما نزلت هذه الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات}: " الآن يا رب حين زينتها " فنزل {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} الآية.
فالمعنى: زين الله للناس ذلك ابتلاءً واختباراً منه كما قال:
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7]، فأخبر بالعلة التي من أجلها جعل ما في الأرض زينة لها.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية ".(2/966)
وقيل عنه: " القنطار ألف دينار ومائتان ".
وقال ابن عباس: القنطار اثنا عشر ألف درهم.
وقال ابن المسيب: القنطار ثمانون ألفاً.
وعن أبي هريرة: أنه اثنا عشر ألف أوقية.
وعن ابن عباس أنه قال: " هو دية أحدكم " وعنه: ثمانون ألف درهم [وعنه سبعون] ألفاً.
وقال قتادة: القنطار ثمانون ألف درهم.
وقيل: هو مائة رطل من ذهب، وهو قول قتادة.
وعن مجاهد: القنطار سبعون ألف دينار.(2/967)
وقيل: هو المال الكثير.
وقيل: [هو] أربعون أوقية من ذهب أو فضة.
وقال القتبي وغيره: هو ملء مسك ثور من ذهب، والمقنطرة المكملة.
وقال الفراء: المقنطرة: المضعفة.
وقال ابن كيسان: لا تكون المقنطرة أقل من تسعة قناطير.
وقال السدي معنى المقنطرة: المضروبة دراهم ودنانير.
وواحد الخيل عند أبي عبيدة: خايل. سمي بذلك لأنه يختال في مشيته وهو(2/968)
كطير وطائر.
وقيل: هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه.
والمسومة: الراعية، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة ومجاهد.
وعن مجاهد أيضاً: هي الحسان المطهمة الحسنة الصورة.
وعن ابن عباس أيضاً: المسومة: الممرجة، يريد الراعية في المروج.
وقال ابن زيد: المسومة: المعدة للجهاد.(2/969)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
وواحد الأنعام: نَعَم ونِعَم، لا واحد [له من] لفظه قوله: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا}: أي: هذا الذي ذكر متاع الحياة الدنيا {والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} أي: حسن المرجع للذين اتقوا ربهم، وهي الجنة والخلود فيها.
والمآب: المفعل، من آب يؤوب، وأصله المأوب، ثم نقلت فتحة الواو على الهمزة، وانقلب [الواو] ألفاً كالمقال والمجال.
قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} الآية.
(رفع {جَنَّاتٌ} على) الابتداء.
ويجوز الخفض على البدل من {بِخَيْرٍ}.(2/970)
ويجوز النصب على إعادة الفعل
ويكون للذين متعلق بـ {أَؤُنَبِّئُكُمْ}.
وقوله: {وَرِضْوَانٌ} أي زيادة الرضا بعد دخول الجنة.
وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: أعطيكم أفضل من هذا؟ فيقولون أي ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: أحل لكم رضواني ".
وهذه الآية نزلت تعزية للمهاجرين الذين أخرجوا وتركوا ديارهم وأموالهم [فأعلمهم الله أن خيراً مما تركوا من الدنيا الجنة للذين اتقوا.
قوله: {والله بَصِيرٌ بالعباد} أي: ذو بصر بمن يتقيه ويخافه ممن(2/971)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
لا يتقيه ويتبع الشهوات.
وروي أن هذه الآية نزلت تعزية وتصبيراً للمهاجرين إذ فارقوا ديارهم وأموالهم] قدموا بلداً لا مال لهم فيه [ولا] ديار، فأُعلموا أن خيراً مما تركوا من الدنيا: الجنة، ثم مدحهم الله فقال: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ. . . .} الآية.
قوله: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ. . . .} الآية.
في هذه الآية صفة من يتقيه ويخافه.
ومعنى {فاغفر لَنَا}: استر علينا ذنوبنا.
ثم وصفهم فقال: {الصابرين والقانتين}. الآية.
ومعنى {الصابرين} الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس أي: في القتال.
وقال قتادة: صبروا عن محارم الله، وصبروا على طاعة الله ( عز وجل) .
وقيل: الصابرون هم الصائمون، يقال لشهر رمضان شهر الصبر.(2/972)
وقيل هم الذين يصبرون على طاعة الله عز وجل ويصبرون عن المعاصي وهو قول قتادة.
ومعنى {والصادقين} في قول قتادة: هم قوم صدقت نياتهم. وعنه (هم) قوم صدقت أفواههم واستقامت قلوبهم وألسنتهم.
والقانتون: المطيعون، وقيل: المصلون.
والمنفقون: الذين يزكون كما أمر الله.
ومعنى: {والمستغفرين بالأسحار}.
قال قتادة: هم الذين يصلون بالأسحار.
وروي عن ابن مسعود أنه الاستغفار بعينه.
(و) عنه: أنه سمع رجلاً بالسحر يقول: أمرتني فأطعتك وهذا سحرك،(2/973)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
فاغفر لي.
قال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
وقال زيد بن أسلم: " والمستغفرون بالأسحار " هم الذين يشهدون صلاة الصبح.
وقيل: هو الاستغفار بعينه.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن الله يتنزل في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا يقول من يدعوني أستجب له من يستغفرني أغفر له ".
قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ. . .} الآية.
نفى الله عز وجل بهذه الآية ما أضافته إليه النصارى الذين حاجوا النبي عليه السلام - في عيسى - وغيرهم، أنه إله فأخبرهم أنه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، وأن ذلك شهد به هو،(2/974)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
وملائكته وأهل العلم من خلقه.
قال أبو عبيدة: معنى شهد الله: قضى الله، أي: علم. وأنكر ذلك جماعة، ومعنى {قَآئِمَاً بالقسط} أي: بالعدل.
وقرأ أبو المهلب: " شهدآء الله " رده على ما قبله، ونصبه على الحال.
وروى عنه: شهداءَ الله على الحال أيضاً.
وعنه: شهداءُ الله، رفع بالابتداء.
قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام. . .} الآية.
{بَغْياً بَيْنَهُمْ} منصوب بفعل دل عليه (اختلف) كأنه: اختلفوا بغياً بينهم،
وقال الأخفش: [نصبه] باختلف، هذا الظاهر تقديره: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم).(2/975)
وهو حال عند الجميع.
وقيل: مفعول من أجله.
ومن كسر إن فعلى الابتداء، ومن فتح رده على شهداء أي: ويشهد بأن الدين.
وقال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى، لأن الإسلام تفسير بمعنى [الدين] الذي هو التوحيد.
وعن ابن عباس: شهد الله إنه، بالكسر فجعله خبراً وتفتح أن الدين برفع الشهادة عليها.
وقد ألزم من قرأ بالفتح في أن الدين أن يقرأ: أن الدين عنده الإسلام،(2/976)
لأن الإظهار يستغنى عنه، وقد منع النحويون: شهدت أن زيداً عالم، وأن زيداً بصير، والثاني هو الأول.
وقال المحتج للكسائي: وقع الإظهار هنا للتعظيم والتفخيم كما قال: لا أرى الموت يسبق الموت (شيء).
على التعظيم للموت.
والذي هو أحسن من هذا، أن النحويين إنما منعوا الإظهار [فيما يمكن أن يتوهم أن الثاني غير الأول فيخاف الالتباس عند الإظهار]، والآية لا يمكن ذلك فيها، لأن هذا الاسم ليس هو إلا لواحد لم يتسم به غيره، لا إله إلا هو، فإظهاره مرة بعد مرة لا يوهم أن الثاني غير الأول، وإظهار زيد مرة [بعد(2/977)
مرة] يوهم أن الثاني غير الأول.
فليست الآية تشبه ما يقع في الكلام من غلإظهار بعد الإظهار، إذ زيد وغيره يصلح لكل أحد، وأما الموت فإنما ظهر في الثاني لأنه لا لبس فيه، إذ ليس ثم غير موت واحد، فليس يتوهم أن الثاني غير الأول وفي الإظهار مع زوال الالتباس معنى التعظيم والتفخيم كما تقدم.
والدين: الطاعة
ومعنى الإسلام: شهادة أن لا إلأه إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله.
وأصل الإسلام: الخشوع والانقياد.
وروى ابن عمر عن النبي عليه السلام أنه قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".(2/978)
وفي هذه الآية دلالة على ضعف قول من يفرق بين الإسلام والإيمان، ويجعل الإيمان أفضل من الإسلام، إذ أخبر الله جل ذكره {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} فهو الإيمان بعينه، إذ لا يرضى الله من خلقه بما هو أدون، ويدل على ذلك قوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
فالإسلام: هو الإيمان إذا استوى الباطن والظاهر، فإن خالف الظاهر الباطن فيهما فليسا بدين يتقبله الله، نحو قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ونحو قوله {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}
[البقرة: 8] لم يحصلوا على شيء لما خالف باطنهم ظاهرهم.
وقد قيل: " إن الإسلام أعم من الإيمان، لأن الإيمان ما صدق به الباطن، والإسلام ما صدق به الباطن ونطق به الظاهر.
ومعنى {الذين أُوتُواْ الكتاب} أي: الإنجيل، وهم النصارى الذين اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: في عيسى للبغي من بعدما جاءهم العلم، فعلوا ذلك طلباً للرياسة والدنيا، قوله: {سَرِيعُ الحساب} أي: أحصى كل شيء بلا معاناة ولا عدد.(2/979)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
وقال الربيع: {الذين أُوتُواْ الكتاب} هم اليهود، و {الكتاب}: التوراة، وذلك أن موسى على نبينا وعليه السلام، لما حضرته الوفاة دعا سبعين حَبْراً من أحبار " بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، واستخلف عليهم يوشع بن نون، فلما مضت ثلاثة قرون بعد موسى صلى الله عليه وسلم وقعت الفرقة والاختلاف بين أبناء أولئك السبعين تنافساً في الدنيا، وطلباً للملك والرياسة.
قوله: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ. . .}
(أي): فإن حاجك يا محمد، النفر من نصارى نجران في أمر عيسى، فقل: أخلصت وجهي لله، أي: عبادتي لله، {وَمَنِ اتبعن} أخلص أيضاً،
" من " في موضع رفع عطف على التاء في {أَسْلَمْتُ} أي ": أسلمت أنا ومن تبعني وجوهنا لله.
وقيل: هي موضع خفض عطف على " الله " ومعنى الكلام أخلصت نفسي لله ول: " من اتبعني "(2/980)
قوله: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} يعني: اليهود والنصارى و {الأميين} يعني: " الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب، كأنهم نسبوا إلى الأم لجهلهم بالكتابة كالأم.
وقيل: نسبوا إلى مكة، وهي أم القرى.
أسلمتم أي: أقررتم بالتوحيد، {فَإِنْ أَسْلَمُواْ} أي: انقادوا وخضعوا لله ولدينه {فَقَدِ اهتدوا} والكلام يراد به الأمر وأخرج مخرج الاستفهام.
والمعنى: قل لهم أسلموا، ولذلك دخلت الفاء في الجواب وهي مثل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا.
[قوله: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} هذا منسوخ.
بالأمر بالقتال].(2/981)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية.
قال أبو العالية: جاء النبيون إلى ناس من بني إسرائيل يدعونهم إلى الله فقتلوهم، فقام ناس من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم.
وعن عبد الله: إن بني إسرائيل كانت تقتل في اليوم سبعين نبياً، ثم تقوم سوق بقلهم في آخر النهار.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من (أول) النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل منهم، واثنا عشر رجلاً من عبادهم، فأنكروا عليهم، فقتلوا جميعاً في آخر النهار في ذلك اليوم " ثم تلا الآية.
دخلت الفاء في الخبر من أجل: إن الذي فيه إبهام فدخل به في حيز المجازات، فجاز دخول الفاء في الخبر وحسن مع " إن " لأنها للتأكيد لا تغير(2/982)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
معنى الابتداء، ولو دخلت لعل، أو ليت، أو كأن، لم يجز دخول الفاء في الخبر مع الذين لأن الكلام يتغير معناه بهن.
وخوطب من كان بالحضرة بالآية، وهم لم يقتلوا، وإنما ذلك لأنهم على مذهب من فعل ذلك في آبائهم، راضون بفعلهم، مصرون على ذلك إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فلو وجدوا إلى قتل النبي صلى الله عليه وسلم ما تركوه، فخوطبوا بذلك لأنهم وآباؤهم سواء.
قوله: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت، فلا ثناء عليهم في الدنيا ولا محمدة، ولا خير لهم في الآخرة ولا رحمة، وما لهم من ينصرهم من عذاب الله، وعقابه.
وقرأ أبو السَمّال: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، بالفتح وهي لغة شاذة.
قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [أي إنما أبوا أن يحكم بينهم كتاب الله،(2/983)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
لأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات "] وهي أربعون يوماً، عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل.
{وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، أي: غرهم افتراؤهم وهو كذبهم وهو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ}.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ}.
أي: فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت، وقد قدموا الافتراء والكذب والكفر، والتبديل واتباع المتشابه، وفضلوا الدنيا وزينتها على الآخرة.
والمعنى: جمعناهم لحساب يوم لا شك فيه.
وقال الكسائي: اللام بمعنى: في، والمعنى عنده: في يوم.
قوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} الآية.
ذُكِرَ أن النبي عليه السلام سأل الله أن يجعل مُلك فارس والروم لأمته، فأنزل الله:(2/984)
قل يا محمد: {اللهم مَالِكَ الملك} الآية.
وروي أن النبي عليه السلام، بشر أصحابه بفتح الشام وملك قيصر وكسرى، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: هيهات، هيهات، فعظموا ما صغر الله من ملك الكفار، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد {اللهم مَالِكَ الملك} الآية.
فلما سمعوا بذلك ذلوا، (طلبوا الموادعة)، فكانوا في رفاهية من العيش حتى بغوا، فرد الله بغيهم عليهم، فقُتِلوا، وأُجْلُوا.
قال مجاهد: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: النبوة
وقيل: الملك، والمال، والعبيد.
وقيل: هو الغلبة.(2/985)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} " أي: بالغلبة، يقال: عزه إذا غلبه.
قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل. . .}.
قال ابن عباس: ما ينقص في (ذا) يزيد في ذا
ومعنى تولج: تدخل
قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت}.
قال مجاهد: الإنسان الحي من النطفة الميتة (ويخرج الميت من الحي): النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك قال: الضحاك والسدي: وقتادة وغيرهم.
وقيل المعنى: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة والسنبل من الحب والحب من السنبل، والبيض من الدجاج والدجاج من البيض، قال ذلك عكرمة والسدي.
وقال الحسن: معنا: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن روي ذلك(2/986)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
عن ابن مسعود ورفعه الزهري إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن حي القلب والكافر ميت القلب.
قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: ليس يخاف نقصاً فيخرج الأشياء بالحساب والتحصيل.
قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ. . .}.
قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار يتخذوهم أولياء، إلا أن يكون الكفار لهم القوة والغلبة، فيظهر لهم اللطف بالقول لا غير وهو قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة}.
قال الضحاك: التقية أن يحمل على أمر يتكلم به بلسانه من معصية الله فيفعل(2/987)
وهو مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه.
قال الحسن: ذلك في المشركين يكرهون المؤمنين على الكفر وقلوبهم كارهة.
وقال قتادة: التقاة: أن تصل رحمك من الكفار من غير أن توليهم على المؤمنين فتصله لقرابة منك ولا تواليه في الدين.
ويقال: إنها نزلت في عمار بن ياسر، وحاطب بن أبي بلتعة، أما عمار فخاف أن يقتله المشركون فكلمهم ببعض ما أحبوا، وأما حاطب فكتب إلى المشركين يعلمهم بأخبار النبي عليه السلام ليحفظوه في أهله بمكة وهو مطمئن بالإيمان.
وقرأ مجاهد وجابر بن زيد وحميد والضحاك: تقية(2/988)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
وهي فعلية، وتقاة: فعله، وهما مصدران.
{وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} (أي) من نفسه، أي: تركبوا ما نهيتم عنه.
قوله: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} الآية.
معناه: قل يا محمد للذين نهوا أن يتخذوا الكافرين أولياء {أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين}: إن تخفوا ما في أنفسكم من ولاية الكافرين أو تبدوه فذلك سواء، الله يعلم الجميع فيجازيكم عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء ".
قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} الآية.
أي: هو على كل شيء قدير ذلك اليوم.
وقيل المعنى: واذكر يوم تجد.
وقيل (المعنى): ويحذركم الله نفسه يوم تجد.(2/989)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
ومعنى {مُّحْضَراً}: موقرا، {أَمَدَاً بَعِيداً} " قال السدي: مكاناً بعيداً ".
وقال ابن جريج: أجلاً بعيداً.
وقال الحسن: لا يسر أحدكم أن يلقى عمله أبداً.
وقال الزجاج معناه: ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عنه بالنفس.
وقال غيره: المعنى: عقابه، ثم حذفت.
قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} الآية.
قال الحسن: قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنا نحب ربنا فأنزل الله: " قل (يا محمد) {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} (كما زعمتم) {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله}.
وقيل إنها نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم ادعوا في عيسى صلى الله عليه وسلم ما(2/990)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
اخترقوا، وقالوا: نقوله حباً لله وتعظيماً له فقيل لهم: إن كنتم صادقين في قولكم فاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيحببكم الله.
ثم قال: قل [يا] محمد اطيعوا الله في اتباعي، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به، كله مخاطبة للنصارى من وفد نجران.
وعن مالك أنه قال: معناه من أحب طاعة الله أحبه وحببه إلى خلقه.
" قوله: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً} الآية.
نصب {ذُرِّيَّةً} عند الأخفش على الحال، وعلى القطع عند الكوفيين.
وأجاز الزجاج نصبها على البدل مما قبلها فيعمل فيها {اصطفى} والذرية(2/991)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
هنا الجماعة، ويقع للواحد، قال الله تعالى: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] فهو واحد كما قال: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5].
فذكر الله في هذه الآية رجلين، وأهل بيتين، وفضلهم على العالمين فمحمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وآل الرجل قد يكون أتباعه.
قال مالك: [آل محمد صلى الله عليه وسلم: أهل الاتباع له. وعنه أنه قال]: آل محمد صلى الله عليه وسلم كل تقي، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى، بعضها من بعض أي: في الدين والمعاونة على الإسلام والنية والإخلاص.
وقيل معناه: متقاربون في النسب مجتمعون.
قوله: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ} الآية.(2/992)
المعنى سميع عليم إذ قالت.
وقيل: واذكر إذ قالت.
وقال أبو عبيدة: {إِذْ} زائدة، وأنكر ذلك جماعة النحويين.
وقال الزجاج: المعنى: اصطفى آل عمران إذ قالت.
واسم امرأة عمران حنة، وزكريا هو ابن آذر، وعمران هو ابن ماتان وكلاهما من ولد داود النبي من سبط يهود بن يعقوب صلى الله عليهم ويلم أجمعين.
وذلك أن زكريا وعمران تزوجا اختين، فكانت أم مريم عند عمران، وأم يحيى عند زكريا، فهلك عمران، وأم مريم حامل بها وكانت في حياة عمران قد أمسك عنها الولد حتى يبست، وكانوا أهل بيت [لهم] عند الله مكان، فبينا هي ذات يوم(2/993)
في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخاً، فتحركت له نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولداً، فحملت ثم مات عمران، فلما علمت أن في بطنها جنيناً حسبته ذكراً فنذرته ليكون حبيساً لخدمة الكنيسة، وقيل: خدمة بيت المقدس.
قال الكلبي: لما وضعتها لفتها في خرقتها ثم أرسلت بها إلى بيت المقدس، فوضعتها فيه، فتنافست الأحبار بنو هارون.
فقال زكرياء: أنا أحقكم بها عندي خالتها، فذرها لي.
فقالت الأحبار: لو تركت لأفقر الناس إليها لتركت لأمها، ولكنا نقترع عليها، فاقترعوا عليها بأقلامهم [التي]، يكتبون بها الوحي، فقرعهم زكريا عليه السلام، واسترضع لها حتى إذا شبت بنى لها محراباً في المسجد على الباب فلا يرقى إليها إلا بِسلم.
ومعنى {مُحَرَّراً} عتيقاً لعبادتك لا ينتفع به لشيء من أمور الدنيا.(2/994)
وقال مجاهد " محرراً خادماً للكنيسة.
ونصب {مُحَرَّراً} على أنه نعت لمفعول محذوف أي: غلاماً محرراً.
وكانوا إنما يحررون الغلمان، فظنت أنه تلد غلاماً فلما وضعت أنثى قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} تريد أنه إنما يحرر الغلمان للخدمة.
وقيل المعنى إن الأنثى تحيض فلا تصلح لخدمة بيتك.
ثم دعت لها فقالت: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} فاستجاب الله لها وأعاذها وذريتها منه. وأصل المعاذ: الملجأ والمفعل، والهاء في " وضعتها لما على المعنى.
وقيل: لمريم ولم يجر لها ذكر ولكن المعنى مفهوم فحسن. ومن قرأ {وَضَعَتْ} بإسكان التاء ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} فهذا من كلامها، ثم قال تعالى إخباراً منه {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}.(2/995)
ومن قرأ بضم التاء فليس فيه تقديم ولا تأخير وهذا كله من كلام أم مريم.
وقرأ ابن عباس: " وضعتِ " بكسر التاء ومعْناه إنه خطاب من الله لها.
قال ابن عباس: ما ولد مولود إلا قد استهل سوى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فإنه لم يسلط عليه الشيطان لأن الله أجاب دعاء أم مريم في قولها: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} الآية.
قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى صلى الله عليه وسلم أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد انكسرت رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث، فقال: مكانكم، وطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً، ثم طار ثانية فوجد عيسى صلى الله عليه وسلم قد ولد عند مدوذ حمار، والملائكة قد حفت به، فرجع إليهم فقال لهم: إن نبياً قد ولد البارحة مت حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها(2/996)
إلا هذه، فيئسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
وقال النبي عليه السلام " كل آدمي طعن الشيطان في جلده إلا عيسى ابن مريم وأمه جعل بينها وبينه حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء ".
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من لمس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " (ثم) يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}.
قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا}: أي: رضيها مكان المحرر {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} من غذائه.
وقرأ مجاهد: وتقبلْها بالإسكان، {رَبُّهَا} بالنصب عن النداء و " أنبتها " بكسر الباء والإسكان، و " كفلْها " بالإسكان " زكرياءَ " بالنصب.
وقوله: {بِقَبُولٍ} أتى مصدراً على غير المصدر، وكان القياس ضم القاف(2/997)
كالجلوس، ولكن أتى بالفتح فلا نظير له عند سيبويه.
وقال غيره، قد أتى منه الولوع والوجود والسعوط كل مصدر على فعول بالفتح.
قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} المد في زكرياء لغة، وزكري لغة، وزكر، وحكى أبو حاتم بغير صرف، وهو غلط عند النحويين لأن ما كانت في هذه الياء. والتخفيف في كفلها على أن زكريا الفاعل. ومن شدد فمعناه كفلها الله زكرياء لأنه تعالى أخرج قلمه إذ ساهم مع أحبار بني إسرائيل عليها من يكفلها.
وكان زكريا زوج خالتها.
وقيل زوج أختها كان.
وامرأة زكريا بني امرأة عمران، فهي أخت مريم.(2/998)
وروي أن زكرياء كان ابن عم مريم أيضاً.
فلما همت بالبلوغ فكانت تخدم في صغرها (مسجد) بيت المقدس، أراد زكريا، أن يكفلها، وقال: هي ابنة عمي، وأختها زوجتي، فلم يتركها له جماعة الأحبار والأنبياء، فتساهموا عليها، وأتوا بسهامهم إلى عين، فطرحوها فيها فغرقت سهامهم كلهم، إلا سهم زكرياء، فضمها زكرياء لنفسه فكانت عنده في غرفة بسلم.
وقوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}.
قال الضحاك: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
وقال ابن إسحاق: كفلها زكرياء بعد هلاك أمها [و] ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، فأصابت بني إسرائيل ضدة، فضعف زكرياء عن حملها فتقارع بنو إسرائيل عليها: من يقوم بها؟ وكلهم يشتكي من الشدة ما يشتكي زكرياء، ولكن لم يكن لهم بد من حملها، فخرج السهم لحملها على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له جريج، [فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه،(2/999)
فقالت: يا جريج]، أحسن بالله الظن، فإن الله سيرزقنا، فجعل جريج يرزق بمكانها عنده فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها، فينميه الله ويكثره، فيدخل عليها زكريا، فيرى عندها فضلاً من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به جريج، فيقول: {يامريم أنى لَكِ هذا} أي: من أي وجه لك هذا؟ فتقول: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
قد تقدم في البقرة تفسير قوله {بِغَيْرِ حِسَابٍ} والاختلاف في ذلك.
والمحراب: هو مقدم كل مجلس ومصلاه.
وهو أيضاً: المكان العالي.
فلما رأى زكرياء من الله لها ما رأى، طمع بالولد مع كبر سنه من المرأة العاقر فدعا الله في الولد من ذلك الوقت، وهو قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فبشر وهو يصلي بالمحراب.
وقيل: بشر يحيى بعد أربعين سنة من وقت دعائه ولذلك قال عند البشارة: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} لأنه نسي دعاءه لطول المدة التي بين الدعاء والإجابة.(2/1000)
والمحراب: المسجد، وهو الآن مقام الإمام في المسجد.
وقال الطبري: المحراب: " مقدم كل مجلس ومصلى " وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها.
والذرية في هذا الوضع: الولد، ويكون في غيره للجميع.
قوله: {مِن لَّدُنْكَ} أي: من عندك.
ومعنى: {طَيِّبَةً} زكية مباركة.
{إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} أي: تسمع من دعاك.
قوله: {فَنَادَتْهُ الملائكة}.
قال قتادة وغيره: جبريل ناداه.
وأكثر الناس على أن الجماعة من الملائكة نادوه.(2/1001)
ومن أنَّثَ فلتأنيث الجماعة ومطابقة اللفظ.
ومن ذَكَّر فعلى المعنى، ولتذكر الجمع.
ومن كسر (إن) أجرى النداء مجرى القول.
[وفي قراءة عبد الله: يا زكريا إن الله، فهذا يدل على إضمار القول].
ومن فتح: أعمل النداء لأنه فعل.
وسمي بيحيى لأن الله أحياه بالإيمان.
قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}، أي: بعيسى ابن بنت خالته ".
وقيل: بابن خالته هو.(2/1002)
قال الضحاك وغيره، كان أول من صدق بعيسى يحيى.
قال ابن عباس: كانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى وتقدمه في ذلك، ويحيى أكبر من عيسى.
وقال أبو عبيدة: {بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}، أي: بكتاب من الله وأكثر المفسرين على أن الكلمة عيسى.
وسمي كلمة لأن الناس يهتدون به.
ويجوز أن يكون سمي كلمة لأنه من غير ذكر بقوله: " كن " أي: فهذه الكلمة.
والسيد: الشريف في العلم والعبادة.
وقال الضحاك: السيد الحليم التقي.
وقال مجاهد السيد: الكريم.(2/1003)
وقال عكرمة، وابن زيد: (السيد) الذي لا يغلبه الغضب {وَحَصُوراً} ممتنعاً من جماع النساء لا يشتهيهن.
وقيل: الحصور الذي لا يولد له، وليس له ماء.
وقيل: الهيوب.
وقال ابن عباس: هو الذي لا ينزل الماء.
وقال ابن المسيب: كان يحيى حصوراً معه مثل الهُدْبَة.
وقيل: الحصور هنا هو الذي لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها أي: ممنوعاً منها.(2/1004)
قال مالك: بلغني أن يحيى إنما قتل في امرأة، وأن بختنصر لما دخل بيت المقدس بعد زمان طويل، وجد دمه يفور لا يطرح عليه تراب ولا شيء إلا فار فسأل بني إسرائيل عن ذلك فقالوا: لا علم لنا، هكذا وجدناه، وأخبرنا آباؤنا بأنهم هكذا وجدوه، فقال بختنصر: هذا دم مظلوم، ولأقتلن عليه، فقتل عليه سبعين ألفاً من المسلمين والكفار، فهدأ بعد ذلك.
وروي أن امرأة كانت طلبته فامتنع، فاشتكت إلى صاحبها أنه طلبها فقتله.
وروي أن جباراً من الجبابرة استفتاه: هل يتزوج بنت أخيه؟ فمنعه من ذلك، فسعت ابنة أخيه في قتله فقتل بها.
قال ابن شهاب: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى. قال مجاهد: كان طعام يحيى العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله ما لو كان القار على عينيه يحرقه، ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في خدِّه.
وقال أبو عبيدة، الكلمة هنا: الكتاب يعني التوراة، ولا يجوز أن يكون(2/1005)
عيسى كلمة الله على الحقيقة لأنه مخلوق، وكلمة الله غير مخلوقة.
قوله {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي: من أي وجه وأنا كبير {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} أي: بلغته {وامرأتي عَاقِرٌ}.
والعلة التي من أجلها سأل زكريا فقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} فإنه روي أنه لما سمع نداء الملائكة بالبشارة أتاه الشيطان فقال: إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان، فسأل عندما لبس عليه ليتثبت لا على طريق الإنكار بقدرة الله ولا لاعتراض لما يورد الله سبحانه وتعالى عن ذلك.
وقال: لما سأل (عن ذلك) ليعلم هل من زوجته العاقر يكون ذلك، أو من غيرها؟. وقيل: إنما سألأ عن ذلك عن طريق التواضع والإقرار فكأنه يقول: بأي منزلة أستوجب هذا عندك يا رب. . .!
وقيل: إنما سأل: هل يرزق ذلك وهو شيخ وامرأته عاقر، أو يرد شاباً، وامرأته(2/1006)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
كذلك سالمة من العقم؟ أم يرزقان ذلك على حالتهما؟ فأجابه الله فقال {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}، أي: يولد العاقر والشيخ فلا يتعذر عليه شيء أراده.
وقيل: إنما سأل لأنه نسي دعاءه بأن يهب له غلاماً، وكان بين دعائه والبشارة بيحيى أربعين عاماً.
قوله: {قَالَ رَبِّ اجعل [ليا] آيَةً}. . . الآية.
معناه: قال زكريا: رب كان هذا الصوت من عندك فاجعل لي علامة تدل على أن ذلك من عندك، فجعل الله آيته أن منعه من الكلام ثلاثة أيام إلا إيماء أو إشارة.
قال قتادة: عوقب بذلك لسؤاله بعد مشافهة الملائكة بالبشارة فسأل الآية على ذلك.
ويروى أن لسانه ربا في فيه حتى أطلقه الله بعد ثلاث. وأكثرُ أهل التفسير على أن الله جعل احتباس لسانه عن الكلام علامة يعلم بها الوقت الذي يهب له فيه الغلام، وليس بعقوبة.(2/1007)
والرمز: الإشارة بالعينين والحاجبين.
وقيل: هو تحريك الشفتين من غير صوت.
وقال الضحَّاك: هو تحريك اليدين.
وقرأ علقمة بن قيس " إلا رُمُزا " بالضم فيهما.
وقرأ الأعمش " رَمَزا " بفتحتين، وهما اسمان.
وقراءة الجماعة على المصدر.
وقيل: إنما منعه الكلام وهو يقدر على ذلك، وأباح له الإشارة باليد، أو بالرأس، ثم نسخ الله ذلك بقول النبي " لا صمت يوماً إلى الليل " وهذا على قول(2/1008)
من أجاز النسخ القرآني بالسنة.
وقيل: إنما منع النبي الصمت عن ذكر الله، فأما عن الهدر، وما لا فائدة فيه' فالصمت عنه حسن.
ودل على هذا القول أمره تعالى [زكرياء] بالذكر والتسبيح فلو منعه الكلام كافة لم يأمره بالذكر والتسبيح اللذين لا يكونان مع الآفة.
وقد قال: إنها آفة دخلت عليه في الثلاثة الأيام، جماعة من المفسرين.
وقيل: فعل به ذلك عقوبة له إذ سأل فقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} وهذا قول مرغوب عنه.
ومعنى: " [و] سبح " نزه ربك من السوء بالعشي والإبكار.
وقرىء {بالعشي والإبكار} جمع بكر.
والكسر مصدر أبكر.(2/1009)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وفي زكريا أربع لغات " زكرياء ممدود ومقصور وقد قرئ بهما وزكري مشدد الياء معرب، وزكري مخفف الياء.
قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم. . .} الآية (إذ) عطف على ما تقدم.
وقيل: المعنى واذكر إذ قالت. {اصطفاك} اختارك، {وَطَهَّرَكِ} " أي: طهر دينك من الريب والشكوك، وقاله مجاهد وقيل معناه: طهرك من الحيض والنفاس.
{واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} أي اختارك على نساء عالم زمانك.
وقيل {على} جميع العالم وذلك بعيسى إذ ولدته من غير ذكر. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ".(2/1010)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
وروي عن أنس بن مالك أنه قال " خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وسلم) .
ومعنى {اقنتي}: أخلصي الطاعة.
وقيل معناه: أطيعي القيام والركوع.
وقال النبي عليه السلام " أفضل الصلاة طول القنوت " أي: القيام.
وقال مجاهد: لما قيل لمريم ذلك قامت حتى ورم قدماها.
قوله: {" ذلك " نُوحِيهِ إِلَيكَ} الآية.
أي هذه الأشياء التي أخبرناك بها من الغيب الذي كنت لا تعلمه، وهو أدل ما يكون على نبوتك، إذ لست ممن يقرأ الكتب وتخبر بما فيها، ولا صاحبت أهل الكتاب فتنقل عنهم، إنما ذلك عندك بوحي من عندي.(2/1011)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}.
معناه ينظرون أيهم كما تقول: اذهب، فانظر أيهم قائم {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} أي: سهامهم على مريم من يكفلها.
وقال ابن عباس: اقترعوا بأقلامهم التي [كانوا] يكتبون [بها] الوحي، فقرعهم زكرياء، فما كنت يا محمد عندهم في جميع ذلك فإخبارك بما لم تشهده دليل على صدقك في النبوة وأنه وحي من عندي.
وقال عكرمة: ألقوا أقلامهم في الماء فذهب [ت] أقلامهم مع الجرية، وأصعد قلم زكرياء يغالب الجرية فذهب [ت] بأقلامهم غير قلم زكرياء، فكفلها.
وقيل: هي أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة.
وقيل: هي السهام التي يقترع بها.
قوله: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم} الآية معناه: لم تكن يا محمد عندهم إذ(2/1012)
يختصمون في أمر مريم من يكفلها حين قالت الملائكة.
وقيل: المعنى وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة كذا وكذا إذ يختصمون، فلم تكن يا محمد عندهم وقت بشارة الملائكة لمريم، وما قالت وما قيل لها، فإخبارك به يصحح دعواك في نبوتك.
ومعنى {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} هو بشارته التي بشرت بها مريم.
وقيل: {بِكَلِمَةٍ [مِّنْهُ]} هو قوله {كُنْ} فسماه كلمة لأنه عن كلمته (كان). وقال ابن عباس: الكلمة هو عيسى اسم له. والهاء في {اسمه} تعود على الكلمة لأنها عيسى في المعنى. وفي الظاهر على قول ابن عباس. والمسيح: فعيل: فنقول في مفعول: أصله ممسوح أي: مسحه الله فطهره من الذنوب.
وقيل: مسحه بالبركة.(2/1013)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
وقيل: مسح بدهان كانت الأنبياء تمسح به، فيعلم أنها أنبياء.
وقال النخعي: المسيح الصّدِّيق
وقيل: سمي المسيح لأنه كان إذا مسح بيده على أهل العاهة أفاقوا كما ذكر الله فيكون فاعلاً غير منقول عن مفعول.
وذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه قال: المسيح تفسيره الملك. وفسره ابن حبيب فقال: سمي ملكاً لأنه ملك إبراء الأكمه والأبرص وأحيى الموتى، وغير ذلك من الآيات.
قوله: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}.
أي: من أين يكون لي ولد؟ أمن بعل أتزوجه، أم تبتدئ [خلقه] من غير بشر أتزوجه؟، فأعلمها الله أنه يخلق ما يشاء، فيعطي الولد من غير فحل لك، ويحرم ذلك نساء العالمين، وإذا أراد أمراً {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، والهاء في " له " تعود على الأمر.
[وقيل المعنى: فإنما يقول (له) من أجله {كُنْ فَيَكُونُ} أي: من أجل، الأمر](2/1014)
الذي يقضي به ويريد.
قال ابن عباس: وضعت مريم عيسى عليه السلام لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من (ولد) لثمانية أشهر.
قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أي: يكتب بيده، {والحكمة}: السنة التي توحَى إليه، {والتوراة}: هي التي أنزلت فبله على موسى عليه السلام و {والإنجيل} أي: الكتاب الذي أنزل عليه، ولم يعطه أحد قبله، وتعليمه إياه إلهام منه إليه بذلك، و {رَسُولاً} أي: ويجعله رسولاً، فالابتداء به حسن
وقيل المعنى: ويكلمهم رسولا
وقيل: هو معطوف على وجيه، فالابتداء به على ذلك.
ومن فتح {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} فهو متعلق برسول، أي: فإني قد جئتكم بآية تصدقني أني رسول.(2/1015)
والآية بمعنى الآيات، وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وإحداث الطير من الطين. وغير ذلك من: الإنجيل وغيره.
قوله: {أني أَخْلُقُ} من فتح أني جعلها بَدَلاً من (أن) الأولى، وإن شئت بدلاً من (آية)، (و) إن شئت على إضمار هي فتكون أن في موضع رفع.
وقرأ يزيد بن القعقاع (أخلق لكم من الطين كهيأة الطائر) فيكون طائراً.
وقال ابن اسحاق: حبس [عيسى] عليه السلام يوماً مع غلمان في الكتاب [فأخذ طيناً](2/1016)
ثم قال: أجعل لكم هذا الطين طائراً؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم، بإذن الله ربي، قال: ثم هيأه حتى إذا صار في هيأة الطائر نفخ فيه، ثم قال كن طائراً بإذن الله، فخرج يطير بإذن [الله] بين كفيه فذكر الغلمان ذلك لمعلمهم فأفشوه في الناس، وترعرع، فعمت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمير ثم خرجت به هاربة.
قال ابن جريج وغيره: قال لهم: أيُّ الطير أشد خلقاً؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم، ففعل مثله من الطين، وقال في هذه الصمورة {فَأَنفُخُ فِيهِ} رده على الطير، وفي المائدة {فَتَنفُخُ فِيهَا} [المائدة: 110] رده على الهيأة، ويجوز رد الهاء في هذه السورة] على الهيأة لأنها(2/1017)
(بمعنى) المثال والشبه، وتأنيثها غير حقيقي ولا سلطت لا في نسخ.
ولا يجوز في سورة المائدة رجوع الهاء على الطير لأنه اسم جمع.
وقوله: {وَأُبْرِىءُ الأكمه}.
قال مجاهد: هو الذي يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار.
وقال الأوزاعي: هو الذي لا يبصر بالليل، وهو الذي به عشى.
وقال قتادة: هو الذي ولد أعمى، وكذلك قال أكثر المفسرين.
وعن ابن عباس وغيره: هو الأعمى حَدَث به ذلك، أو ولد [به]
وقال عكرمة: هو الأعمش.
وقال وهب: كان عيسى عليه السلام قد هربت [به] أمه إلى أرض مصر من قومها(2/1018)
فلما بلغ اثني عشر سنة أوحى الله عز وجل إليها أن انطلقي إلى الشام، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة، جاءه الوحي على رأس الثلاثين فكانت نبوته ثلاثين سنة، ثم رفعه الله إليه.
وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: " أنه نعى نفسه لفاطمة حين بلغ سنّة ستين سنة وقال: " ما من نبي إلا يعمر مثل نصف عمر من قبله (و) أن عيسى عمّر مائة سنة وقد بلغت ستين سنة وما أراني إلا ميتاً في هذا العام " أو كلام هذا معناه " ".
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفاً من أطاق أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، فكان عيسى يداويهم بالدعاء وكان يُحْيي الموتى.(2/1019)
قوله {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ}.
أصل تدخرون: تفتعلون من ذخرت، فلما اختلف الحرفان، بأن كانت الذال حرفاً مجهوراً، والتاء حرفاً مهموساً أبدل من التاء حرفا مجهوراً يشبه الدال في الجهر، ويقرب منها في المخرج وهو الدال، ثم ادغمت الذال في الدال.
قال ابن إسحاق: لما بلغ [عيسى] تسع سنين أو عشراً، أدخلته أمه الكتاب، فلا يذهب المؤدب يعلمه شيئاً إلا بادره عيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه إياه، فيقول المؤدب ألا تعجبون لابن هذه الأرملة، أذهب أعلمه شيئاً إلا وجدته أعلم به مني.
قال ابن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان بما صنع في بيوتهم وبما صنع آباؤهم، ويقول يا فلان: إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من طعام، ويقول للصبي: انطلق فإن أهلك يأكلون كذا وكذا، ويقول: إنطلق فقد خبأ لك أهلك كذا وكذا. فينطلق(2/1020)
الصبي يبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء، فيقولون له: من أخبرك بهذا فيقول: عيسى.
فلما رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا لأولادهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وحبسوا أولادهم عنه، فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام (يطلبهم فقالوا: ليس هم هنا، فقال عيسى عليه السلام): وما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير! فقال عيسى عليه السلام: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير، فذلك قوله (تعالى): {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78]
قال قتادة: معنى قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} ذلك في أمر المائدة التي نزلت عليهم كانت خواناً تنزل أين ما كانوا بثمر من ثمار الجنة، وأمروا ألا يخونوا فيه ولا يدخروا لغد، ابتلاهم الله بذلك فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئاً، وادخروا لغد انبأهم عيسى صلى الله عليه وسلم به، فهو قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} أي: من المائدة التي نهوا عن ادخار ما(2/1021)
ينزل عليهم فيها.
وقرأ مجاهد والزهري تدخرون، بدال مخففة.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً}، أي: في جميع ما ذكر آية، أي: في نبوة عيسى.
وقوله {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} أي: ما قبلي من التوراة إيماناً بها، وتصديقاً بما فيها، وإن كانت شريعته تخالفها فإنه، ونحن مؤمنون بما صح منها، ولم يبدل ولم يغير على أن عيسى صلى الله عليه وسلم كان عاملاً بالتوراة لم يخالف فيها شيئاً إلا ما خفف الله أشياء كانت حراماً فيها وهو قوله {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وذلك أنه حلل لحوم الإبل والثروب وأشياء من الطير والحيتان كانت في التوراة محرمة.
واللام متعلقة بفعل محذوف والمعنى، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم.
وكان أبو عبيدة يجيز أن يكون البعض هنا بمعنى الكل، وهذا يوجب أن يحل لكم القتل والسرق والزنى وغيره لأن كل ذلك كان محرماً عليهم في الوراة، فلا يجوز(2/1022)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
ما قال، ولا وجه له في العربية ولا في المعنى.
وقد قيل: إنما أحل لهم عيسى صلى الله عليه وسلم أشياء حرمتها عليهم الأحبار لم تكن محرمة في التوراة، فهو غير مخالف للتوراة.
وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم ذنوب اكتسبوها ولم يكن في التوراة تحريمها نحو: أكل الشحوم وكل ذي ظفر.
قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} أي: بعلامة تعلمون بها أني صادق فيما أقول لكم {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}.
قوله: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر. . .} الآية معناه: فلما (علم) عيسى صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون قتله وأحس بمعنى: وجد وعلم برزية أو غيرها.
يقال: أحس الأمر إذا علمه، وحس القوم قتلهم، والحس حس الدابة من الغبار، والحس ضد البرد.(2/1023)
وقيل معناه: فلما علم عيسى صلى الله عليه وسلم الجحود به، والتكذيب له.
{مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي: من أعواني على هؤلاء (مع الله). وإلى بمعنى: " مع ".
وكان من قصة عيسى صلى الله عليه وسلم ما حكاه السدي في حكاية طويلة نذكر معناها مختصراً، قال: كذبت بنو إسرائيل عيسى صلى الله عليه وسلم، وأخرجته حين دعاهم إلى الإيمان به، فخرج هو وأمه، فنزل على رجل، فأضافهما وأحسن إليهما، وكان على تلك المدينة جبار معتد (فجاء) صاحب البيت يوماً وعليه، حزن وهم، فقالت مريم لزوجته: ما شأن زوجك؟ أراه حزيناً؟ فأبت أن تخبرها بشيء، فقالت لها مريم: أخبريني لعل الله عز وجل يفرج كربته، قالت المرأة لمريم: إن لنا ملكاً جباراً يجعل على كل رجل منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وقد بلغت نوبته اليوم علينا [وليس معنا سعة، فقالت مريم لها: فقولي له: فلا يهتم فإني آمر لبني [أن] يدعو له، فَيُكْفَى]. فقالت مريم لعيسى صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم: " يا أمه إني إن(2/1024)
فعلت كان في ذلك شر، قالت: فلا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم فقولي له: إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، فلما ملأهن أعلمه فدعا عيسى صلى الله عليه وسلم الله عز وجل فحول ما في القدور لحماً ومرقاً وخبزاً وما في الخوابي خمراً لم ير مثله، فلما جاء الملك أكل وشرب فقال: من أين لك هذا؟ وتقصى عليه حتى أخبره فقال: عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه وأنه دعا الله حتى جعل الماء خمراً، وكان قد توفي للملك ابن، فقال: إن رجلاً دعا الله حتى رد الماء خمراً ليستجيبن له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى صلى الله عليه وسلم، فكلمه وسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه - فقال عيسى صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل [فإنه إن] عاش كان شراً، فقال الملك: لا أبالي أراه فقط، فاشترط عليه عيسى صلى الله عليه وسلم أن يحيي ولده، ويتركه هو وأمه يخرجان فشرط له ذلك فدعا الله تعالى، فقام الغلام، وانصرف عيسى صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى أهل المملكة الغلام عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: قد أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه، فاقتلوه.
ومر عيسى صلى الله عليه وسلم وأمه فصحبهما يهودي وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى صلى الله عليه وسلم رغيف فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم: تشاركنا؟ فقال اليهودي: نعم، فلما رأى اليهودي أن ليس مع عيسى إلا رغيف ندم فلما نام جعل اليهودي يأكل الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى صلى الله عليه وسلم: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء حتى(2/1025)
فرغ [من] الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى صلى الله عليه وسلم: طعامك فجاء برغيف، فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد.
ثم انطلقوا حتى مروا براعي غنم فقال عيسى صلى الله عليه وسلم: يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك، قال الراعي: نعم، أرسل صاحبك يأخذها: فأرسل عيسى صلى الله عليه وسلم اليهودي فجاءه بالشاة، فذبحوها وشووها ثم قال لليهودي: كل ولا تكسر عظماً. فأكلوا حتى شبعوا فرد عيسى صلى الله عليه وسلم العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه، وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة، فقال: يا صاحب الغنم: خذ شاتك فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى إبن مريم، قال له: أنت الساحر، وفر منه، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدما أكلناها، كم كان معك رغيفاً؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد.
فمروا بصاحب بقر، فسأله عيسى صلى الله عليه وسلم عجلاً فأعطاه عجلاً فذبحه، وشواه وأكله، وصاحب البقر ينظر، ثم جمع عيسى صلى الله عليه وسلم العظام في الجلد وقال: قم بإذن الله، فقام وله خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك فقال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى، قال: عيسى الساحر، ثم فر منه، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم لليهودي: بالذي أحيى الشاة بعدما(2/1026)
أكلناها، والعجل بعدما أكلناه، كم كان معك رغيفاً؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد.
ثم انطلقا حتى أتيا قرية، فنزل عيسى صلى الله عليه وسلم في أسفلها واليهودي في أعلاها، فأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أحيي الموتى وكان يملك تلك القرية مرض شديد فانطلق اليهودي ينادي من يبتغي طبيباً؟ حتى أتى باب الملك، فأخبر بمرض الملك فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، فدخل عليه فأخذ برجله، وضربه بالعصا كما كان عيسى صلى الله عليه وسلم يفعل، فمات الملك من الضربة فأخذ اليهودي ليصلب فبلغ عيسى صلى الله عليه وسلم الخبر، فأتى ووجده قد رفع على الخشبة [فقال]: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركو لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيى عيسى صلى الله عليه وسلم الملك، وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة، والله لا أفارقك أبداً، قال له عيسى صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذين أحيى الشاة والعجلة بعدما أكلناها وأحيى هذا بعد [ما] مات، وأنزلك من الجذع بعدما رفعت عليه كم كان معك رغيفاً؟ فحلف اليهودي بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد.
فانطلقا حتى مرَّا على كنز قد حفرته السباع فقال اليهودي: يا عيسى هذا المال؟ فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أهلاً يهلكون عليه وجعل اليهودي يتشوق إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى صلى الله عليه وسلم، فانطلقا.(2/1027)
ومر بالمال بعدهما أربعة نفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه فقال اثنان لصاحبهما: انطلقا فابتاعا لنا طعاماً ودواباً نحمل عليها هذا المال، فانطلق الرجلان فابتاعا ذلك فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن تجعل لصاحبينا في طعامهما سماً؟ فإذا أكلا ماتا، فيصير المال بيني وبينك، فقال الآخر: نعم، ففعلا، وقال الآخران الباقيان مع المال: إذا أتى صاحبانا فليقم كل واحد منا إلى صاحبه فيقتله فيكون الطعام والمال بيننا، فاتفقا على ذلك.
فلما جاء صاحباهما، قتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا، فرجع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى المال فوجد القوم عليه موتى، فقال لليهودي: أخرجه حتى نقسمه، فأخرجه اليهودي فجعل عيسى صلى الله عليه وسلم يقسمه على ثلاثة، فقال اليهودي: اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت، ما هذه الثلاثة؟ فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم: هذا لي، وهذا لك، وهذا لصاحب الرغيف، قال اليهودي: وإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال؟ قال [عيسى] صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: أنا هو، فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم: خذ حظي وحظك، وحظ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة، فلما حمله مشى [به] شيئاً(2/1028)
فخسف به.
وانطلق عيسى صلى الله عليه وسلم فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك فأعلمهم بنفسه فآمنوا به وانطلقوا معه فذلك قوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله}.
وقيل: إنما سموا حواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين.
وقيل: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب.
وقيل: كانوا غسالين يغسلون الثياب.
وقال قتادة: " الحواريون خاصة الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة.
وقال الضحاك: الحواريون الأصفياء الأنبياء صلوات الله عليهم.
وروي أن مريم دفعت عيسى صلى الله عليه وسلم في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يبيضون الثياب، ويصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألأواناً شتى من ماء واحد فآمنوا به واتبعوه.(2/1029)
وروي أنه أدخل ثياباً كثيرة بيضاء في خابية واحدة وخرجت مختلفة الألوان كما أرادوا، فعجبوا من ذلك، وأيقنوا أنه ليس بسحر فآمنوا [به] واتبعوه.
قوله: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هذا قول الحواريين لعيسى صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك أن عيسى صلى الله عليه وسلم كان على ذلك، لا على اليهودية ولا على النصرانية ولكن كان مسلماً وكذلك برأ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من سائر الأديان إلا من الإسلام.
قول: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي: أثبت أسماءنا مع أسماء من يشهدون بالحق، وأقروا بالتوحيد، واجعلنا في عددهم وهذا كله احتجاج على أهل نجران الذين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى صلى الله عليه وسلم، فأخبروا أن قول من اتبع عيسى كان خلاف قولهم.
وقال ابن عباس: (اكتبنا مع الشاهدين)، قال مع محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته الذين شهدوا له أنه ققد بلغ الرسالة، وشهدوا للرسل عليهم السلام أنهم قد بلغوا.
وقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله}: هذا إخبار عن الذي أَحَسَّ عيسى منهم الكفر وهو ما اجتمعوا عليه من قتل عيسى صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه فيما أتى به، فمكرهم هو ما نووا من قتله، ومكر الله سبحانه ما ألقى من الشبه على بعض أتباع عيسى صلى الله عليه وسلم حتى قتله الماكرون يظنونه عيسى صلى الله عليه وسلم، ثم رفع الله عيسى صلى الله عليه وسلم.(2/1030)
وقيل المكر من الله جل ذكره الاستدراج والإمهال، وذلك أن بني إسرائيل حصروا عيسى صلى الله عليه وسلم، ومعه تسعة عشرة رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه، من يأخذ صورتي فيقتل وله جنة؟ فأخذها رجل منهم ورفع الله عيسى إلى السماء ثم خرج الحواريون فأخبروا أن عيسى صلى الله عليه وسلم رفع إلى السماء فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلاً من العدة ويرون، صورة عيسى صلى الله عليه وسلم فيهم فشكوا فيه، فقتلوه وصلبوه يرون أنه عيسى صلى الله عليه وسلم، ويروى أن اليهود كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم، وهموا بقتله، وكان مع عيسى رجل من اليهود آمن بعيسى فدل على عيسى فحوله [الله] في صورة عيسى، فأخذه بنو إسرائيل، فقتلوه، وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: {ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}.
والمكر: الحيلة، المكيدة، والمكر من الله سبحانه عقوبة، وجزاء من حيث لا يعلم العبد.
قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} قيل هي وفاة نوم.(2/1031)
{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في نوم قال ذلك الربيع.
وقيل معناه إني قابضك من الأرض حياً ورافعك إلي، وذلك أن عيسى لما رأى كثرة من كذبه، وقلة من اتبعه شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
وقال النبي عليه السلام: كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها.
وقال كعب: (يبعث) عيسى صلى الله عليه وسلم على الأعور الدجال فيقتله ثم يعيش بعد ذلك أربعاً وعشرين سنة ثم يموت ميتة الحي.
وحكي أن الله تعالى أوحى ذلك إلى عيسى صلى الله عليه وسلم مع قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
وقال ابن زيد في قوله: {تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} أن كلامه وهو كهل حين ينزل(2/1032)
بقتل الدجال.
وقيل معنى {مُتَوَفِّيكَ}: قابل عملك ومتقبله منك.
وقال ابن عباس، معنى {مُتَوَفِّيكَ} هي وفاة موت (يعني) بعد نزوله من السماء.
وقال وهب بن منبه: توفي عيسى صلى الله عليه وسلم ثلاث ساعات ثم أحيي ورفع. والنصارى يزعمون أنه توفي سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه. وقيل: 'ن الكلام تقديماً وتأخيراً. والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك. وذلك إذا نزل لقتل الدجال في الدنيا، والواو يحسن فيها ذلك.(2/1033)
وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: الأنبياء أخوات لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى لأنه لم يكن بيني [وبينه] نبي وأنه خليفتي على أمتي، وأنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير ويقبض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذَّاب، وتقع في الأرض الأمنة حتى ترتع الأسد مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان مع الحيات، لا يضر بعضهم بعضاً، يلبث في الأرض [أربعين سنة] ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ}: هذا خطاب لعيسى صلى الله عليه وسلم وأمته، جعلهم الله تعالى فوق اليهود: في النصر والحجة والإيمان بعيسى والتصديق به وقول الحق فيه.
وقيل: هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا} هو القتل والسبي وأداء الجزية {والآخرة} هو(2/1034)
عذاب النار.
قوله: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ}: الإشارة إلى ما تقدم من ذكر قصص الأنبياء والحجج {والذكر} القرآن {الحكيم} المحكم أي: ذو الحكمة.
قوله {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ. . .} (و) هذا احتجاج على نصارى نجران، الذين خاصموه في عيسى وقالوا للنبي: بلغنا أنك تذكر صاحبنا، وتأول أنه عبد، قالوا له: هل رأيت عيسى؟ فأنزل الله {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} الآية. . أي: خلق هذا من غير ذلك وهذا كذلك.
وقيل: إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كل إنسان له أب فما شأن عيسى صلى الله عليه وسلم ليس له أب فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وقوله {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} ابتداء المماثلة، وليس بمتصل بآدم صلى الله عليه وسلم إنما هو تبيين قصة آدم صلى الله عليه وسلم، لأن الماضي لا يكون حالا.
قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
قال بعض أهل المعاني: إن هذا الكلام أتى على خبرين منفصلين، ولو كان على(2/1035)
خبر واحد لكان خلقه له من تراب بغير {كُن} ويكون خلقه بـ {كُن} بعد خلقه له من تراب، وليس الأمر كذلك إنما أخبر تعالى أنه خلق آدم عليه السلام من تراب ثم أخبر آخر أنه قال له: {كُن} فكان، أي: قال له: كن خلقاً من تراب فكان ما أراد لأنه خلق من تراب بغير كن، فما يصنع بقوله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ [بِيَدَيَّ]} [ص: 75]، ثم قال له {كُن} بعد خلقه له من تراب على ما أراد بعد قوله كن، ولهذا نظائر كثيرة.
وأبين هذا أن يكون المعنى: قد قدر خلقه من تراب فلما أراد تعالى ذكره إظهار ما قدر قال: {كُن} فكان ما قدر بقوله {كُن}.
قوله: {الحق مِن رَّبِّكَ} أي: هو الحق، أي هذا الذي أنبأتك به هو الحق {فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} أي: الشاكين ومعناه: قل يا محمد للشاكين في ذلك (لا تكن من الممترين).(2/1036)
وقيل: هو خطاب لجميع الناس، وظاهر الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
قوله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ} أي: في عيسى وقيل في الحق الذي ذكر، {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} أي من بعدما بين لك فادعوهم إلى المباهلة، ومعنى نبتهل أي نجتهد في الدعاء باللعنة {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله} على من كذب في أمر عيسى صلى الله عليه وسلم.
قوله: {وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} أي: أهل ديننا ودينكم فرضوا بالجزية وبأشياء شرطها عليهم يؤدونها.
وروي أنهم قالوا: نباهلك فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما رأوا ذلك نكصوا وعلموا أن اللعنة عليهم واقعة، فرضوا بالجزية ولم يباهلوا. وروي أن رئيسهم العاقب قال لهم: قد علمت أنه نبي وما لاعن نبي قوماً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن فعلتم فهو استئصال، فوادعوا محمداً وانصرفوا إلى بلادكم فرضوا بالجزية، وبعث معهم النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ولم يباهلوه.(2/1037)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قال ابن عباس: لو باهلوه لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا ولداً.
قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} أي: إن الذي أنبأتك به في أمر عيسى صلى الله عليه وسلم أنه رسول، وكلمته ألقاها الله عز وجل إلى مريم: هو الحق {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} هذا رد على من جعل عيسى إله من أهل نجران وغيرهم.
قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ}
الكلمة {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وما بعده.
وقيل: الكلمة لا إله إلا الله
والسواء: النَصَفَة والعدل والقصد.
ونزلت هذه الآية فيمن كان حول المدينة من اليهود، وهم الذين حاجوه في إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وقيل: نزلت في الوفد من نصارى نجران لأنه دعاهم فأخبرهم بالقصص الحق في أمر عيسى صلى الله عليه وسلم، فأبوا أن يبلوه، فأمر أن يدعوهم إلى المباهلة فأبوا، فأمر أن يدعوهم إلى ما ذكر آخراً فأبوا، فأمر الله المؤمنين أن يقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون.(2/1038)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
وإن في موضع خفض على البدل من (كلمة).
وقيل: هي في موضع رفع، وذلك على التأويل الأول أي: هي ألا نعبد، ولا نفعل، ولا نصنع.
{وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً}: هو طاعة العوام الرؤساء فيما يأمرونهم به من المعاصي كما قال {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] يأمرونهم بالمعصية وينهونهم عن الطاعة فيسمعون ويطيعون.
وقيل {أَرْبَاباً}: هو سجود بعضهم لبعض قاله عكرمة.
وقيل معناه: لا نعبد عيسى من دون الله كما عبدت النصارى، ولا عزيراً كما عبدت اليهود، ولا الملائكة كما عبدت جماعة المشركين، ولا نقبل من الرهبان تحريمهم علينا ما لم يحرمه الله كما فعلت اليهود والنصارى والمشركون.
قوله: {يا أهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} هذا خطاب لليهود والنصارى ولأنهم ادعاه كل فريق منهم، وأنه على دينهم فرد الله ذلك عليهم، وأراهم المناقضة فيما يدعون لأن اليهود تدعي أنه على ما في التوراة دينه، والنصارى تدعي أنه على ما في الإنجيل دينه، وفي الكتابين إنما أنزل بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم فهذا تناقض أن يكون دينه على شيء لم يكن بعده.(2/1039)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
وذلك أن نصارى نجران وأحبار يهود اجتمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم فتنازعوا في أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فادعاه كل فريق منهم، فأنزل الله ذلك يعلمهم أن اليهودية والنصراينة إنما حدثت بعد إبراهيم فكيف يكون على دين لم يكن، ولا أوله أن يكون، فذلك جهل عظيم، ولذلك قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
قوله: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ. . .}.
معناه: أنتم القوم الذين خاصمتم فيما لكم به علم من أمر دينكم، وما لحقتم من زمانكم، وجاز ذلك بينكم، فلم تخاصمون فيما لا علم عندكم فيه؟ وهو دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في زمانكم. {والله يَعْلَمُ} أي: يعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك فتخاصموه فيه.
قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً. . .}.
ذلك رد لقولهم وادعائهم {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً} أي: حاجاً وأصل(2/1040)
الحنف: (إقبال صدر الرجل على الأخرى إذا كان ذلك خلقة)، فالحنيف: المائل إلى الإسلام.
والمسلم: المتذلل لأمر الله عز وجل.
فأما معنى قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} [المائدة: 44] {الذين أَسْلَمُواْ} [المائدة: 44] ولا يكون نبي إلا مسلم
فإنه يريد النبيين الذين استسلموا أو سلموا لما في التوراة من أحكام الله عز وجل التاركون التعقب وكثرة السؤال عما فيها.
وروي أن عزيراً أكثر السؤال عن القدر، فمحي من ديوان النبوة.
ومن هذا قول ابراهيم صلى الله عليه وسلم: { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ} [البقرة: 128]. أي: مسلمين لأمرك،(2/1041)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
منقادين لحكمك بالنية والعمل وكذلك {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 128] أي: [انقدت لأمره].
قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه}.
أي أخفهم بولايته ونصرته من اتبع دينه {وهذا النبي} هو محمد صلى الله عليه وسلم { والذين آمَنُواْ} أي: الذين صدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم " ثم قرأ الآية " ".
قوله: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.
أي: جماعة من أهل نجران ومن اليهود لو يصدونكم عن الإسلام فتهلكوا، وما يُهلكون إلا أنفسهم أي أتباعهم وأنفسهم وكلهم يود ذلك، و [من] ليست للتبعيض، وإنما هي للإبانة والجنس.
ومعنى {وَمَا يَشْعُرُونَ} (ليس هو أنهم يجهلون ما يفعلون فيكون ذلك عذراً لهم(2/1042)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
وإنما معناه وما يشعرون) أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. وقيل: معناه، وما يشعرون بصحة الإسلام. وقيل: عنى به قريظة، والنضير، وبنو قينقاع.
قوله {يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} أي بالتوراة والإنجيل {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، هذا توبيخ لهم، لأنهم جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه نبي مكتوب عندهم في كتابهم في التوراة والإنجيل، فهو قوله {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي: تشهدون أنه نبي حق، ثم تكفرون حسداً وبغياً.
وقيل: المعنى: وأنتم تشهدون أن آية الله حق وأن ما جاء به حق.
قوله: {يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل}.
أي تظهرون من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم خلاف ما تعتقدون فتخلطون الحق بالباطل.
وقيل: [لم] تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن الدين الذي لا يقبل غيره: الإسلام.(2/1043)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
وقال ابن زيد: الحق: التوراة، والباطل: ما كتبوه بأيديهم {وَتَكْتُمُونَ الحق} هو أمر النبي عليه السلام يجدونه في كتبهم ويكتمونه {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه نبي حق، وأن ما جاء به من عند الله حق.
قوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ} الآية.
معناها أن اليهود قال بعضهم لبعض: آمنو بالنبي وما أنزل إليه أول النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون معكم.
وقال ابن عباس: نظر اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح إلى بيت المقدس، فأعجبهم ذلك، ثم حولت القبلة في صلاة الظهر إلى الكعبة، فقالت اليهود: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} أي بصلاة الصبح إذا صلوها إلى بيت المقدس {واكفروا آخِرَهُ} أي: بصلاة الظهر لأنهم صلوها إلى الكعبة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى قبلتكم.
وقال السدي: قالت اليهود لضعفائها: آمنوا بمحمد أول النهار، فإذا كان بالعشي قولوا: قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء لعلهم يرجعون عن دينهم ويشكون فيه.(2/1044)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
قوله {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} الآية.
قال المبرد: فيها تقديم وتأخير، وتقديرها عنده: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى مثلما أوتيتم {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله}
وقيل تقديرها: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لمن تبع [دينكم] واللام زائدة.
ومعنى ذلك أنهم قالوا لضعفائهم: لا تصدقوا أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم من علم ورسالة وشرف، إلا لمن تبع دينكم، فصدقوا أن يؤتى مثلما أوتيتم.
وقيل معناها على هذا التقدير: ولا تصدقوا أن تكون الرسالة إلا فيكم. وقيل: تقديرها قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أي كراهة أن يؤتى كأنه بعد أن يؤتى اليهود مثلما أوتي المؤمنون، فتكون على هذا المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته.(2/1045)
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى بن عمرو، وابن كثير أن يؤتى بالاستفهام معناه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا يؤمنون؟ مثل {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 14 - 15] أي: من أجل هذا قال كذا وكذا.
وقرأ الأعمش (إن يؤتي بكسر إن فجعلها بمعنى " ما " على معنى ما يؤنى أحد مثلما أوتيتم.
وقد زعم قوم أنه لحن لحذف النون من يحاجوكم وليس هو لحن عند أهل النظر لأن (أن) تضمر مع أو، فهي مضمرة ناصبة للفعل، ومن جعل في الكلام تقديماً(2/1046)
وتأخيراً فاللام زائدة، ومن في موضع نصب استثناء ليس من الأول.
ومن قدر الآية على وجهها، ولم يقدر تقديماً ولا تأخيراً جعل اللام أيضاً زائدة أو متعلقة بمصدر، كأنه: لا تجعل تصديقكم إلا لمن تبع دينكم بأن يؤتى أحد.
وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله " دينكم " ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} أي: البيان بيان الله {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ}، أو: لا يؤتى أحد، " وإن عنده بمعنى لا، ولذلك دخلت " أحد " في الكلام هنده.
وقوله: {إِنَّ الهدى هُدَى} معناه: الهدى إلى الخير بيد الله يؤتيه من يشاء، فلا تتنكروا أيها اليهود أن يؤتى أحد سواكم مثلما أوتيتم، فإن أنكروا وهو معنى " يحاجوكم عند ربكم " فقل يا محمد: {إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ}.
وقال الأخفش: {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} معطوف على {تؤمنوا} معناه ولا تصدقوا أن يحاجوكم، أي: قالت اليهود لضعفائها: لا تصدقوا بأن يحتجوكم أحد عند ربكم فيما أنكرتم من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الفراء: أو بمعنى حتى (و) إلا: أن.(2/1047)
وقال مجاهد: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} اعتراض في الكلام وسائر الكلام متصل. فالأول خبر عن اليهود ومعناه {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثلما أتيتم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم، أي: ليس يحاجوكم أحد عند ربكم ثم قال تعالى بعد ذلك: قل يا محمد: {إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ}.
وقوله {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ}.
قيل: هو إخبار عما قالت اليهود لضعفائها، أي: لا تكون النبوة إلا فيكم.
وقيل معناه: لا يكون العلم والشرف إلا فيكم.
وقيل: هو إخبار من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم معناه: لا يؤتي أحد من الأمم مثلما أوتيت يا محمد وأمتك من الإسلام والهدى، وهذا قول السدي.
ومعنى: {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} إلا أن يحاجوكم، وهذا التأويل لا اعتراض فيه، ولا تقديم ولا تأخير، وأن في موضع رفع خبر عن الهدى، والتأويل الأول يقع فيه التقديم والتأخير وأن في موضع نصب على ما ذكرنا، وذلك حسداً، قالوا لضعفائهم من(2/1048)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
اليهود: لا يكون نبي مثل نبيكم ولا كتاب مثل كتابكم.
وقال الزجاج: معنى الآية: أن اليهود قالت لا تجعلوا تصديقكم لنبي في شيء مما جاء به إلا اليهود، ولا تقولوه للمشركين، فإن ذلك إن قلتموه لهم كان عوناً لهم على تصديقه.
وقال أكثر المفسرين: معناه لا تصدقوا أن يعطى أحد مثلما أوتيتم من علم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم أحد: لا يكونوا لأحد حجة عند الله إلا من كان مثلكم.
قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}.
بمعنى: النبوة، وقيل: الإسلام والقرآن.
قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} الآية.
وجه من قرأ بالإسكان في يؤده وشبهه أنها لغة العرب يسكنون الهاء كما(2/1049)
يسكنون الميم في أنتم، ورأيتم، وأنشد الفراء: " فيصلح اليوم ويفسده غداً " وأنشد الأخفش وغيره:
بيت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتقاقان له ارقان
وبعض النحويين لا يجيزه إلا في الشعر، وبعضهم يمنعهم البتة. وعد المبرد إسكان الهاء لحناً.
وقيل: اسكنت الهاء على التوهم أن الجزم عليها وقع.(2/1050)
وقد روي عن أبي عمرو: الاختلاس، وهو اختيار أهل النظر.
ومعنى الآية أن الله أخبر أن من أهل الكتاب المؤتمن ومنهم الخائن، والناس لا يميزون الخائن منهم، فصارت الفائدة أنها تحذير من الله للمؤمنين أن يأتمنوهم لأن منهم الخائن وغيره، وهم لا يميزون ذلك فاجتنابهم أخلص.
ومعنى {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً}: إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
والباء في بقنطار " و " بدينار بمعنى على، وهما يتعاقبان في مثل هذا.
وقيل: معنى {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أي: يقر بالأمانة ما دمت قائماً على رأسه في وقت عطائها، فإذا ذهب ثم جئت تطلبها كابرك وجحدك.
وقيل: قائماً بمعنى ثابتاً لازماً له، حكى سيبويه: قام بمعنى ثبت.(2/1051)
قوله [ذلك] لأنهم قالوا: أي: فعلهم ذلك (و) أمرهم ذلك ومعناه، فعلوا ذلك لأنهم يقولون: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب لأنهم على غير حق، قال ذلك قتادة.
وقال ابن جريج: كان لرجل من المسلمين على اليهود ديون داينهم بها قبل أن يسلموا، فلما أسلموا طالبوهم بها فقال اليهود: ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لأنكم تركتم دينكم الذي (كنتم) عليه، وإنما كان حقوقكم واجبة علينا في الأمانة، وغيرها قبل أن ترجعوا عن دينكم، فلما تركتم دينكم ورجعتم إلى الإسلام لم تلزمنا لكم حقوق ولا أداء أمانة، وادعوا أنهم يجدون ذلك في كتابهم، فرد الله عليه قولهم بقوله عقب الآية: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
وعنوا بالأميين العرب، نسبوا إلى ما عليه الأمة قبل أن يتعلموا الكتابة.
وقيل: نسبوا إلى الأم لأنها لا تعرف تكتب.(2/1052)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
وقيل: نسبوا إلى أم القرى، وهي مكة.
قوله: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} الآية.
معناها ليس الأمر كما يقول هؤلاء من أنه ليس في أموال الأميين حرج لكن من أوفى بعهد الله وهي وصيته إياهم في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
فالهاء في {بِعَهْدِهِ} تعود على الله جل ذكره.
ومعنى {وَاتَّقَى} أي: واتقى الشرك قاله ابن عباس وقيل: المعنى، واتقى الله ولم يكذب.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله}. . . الآية.
معنى الآية: إن الذين يستبدلون بعهد الله الذي عهد إليهم في كتابهم وبإيمانهم الكاذب عوضاً قليلاً أي: خسيساً من عرض الدنيا، {لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} أي: لا حظ لهم فيها أي: لا نصيب {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} معناه: لا يكلمهم بما يسرهم.(2/1053)
وقيل: لا يسمعهم كلامه بلا سفير.
وقيل معناه: غضب عليهم كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً أي: هو غاضب عليه.
{وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}، أي: لا يعطف عليهم بخير، كما يقال: انظر إلي نظر الله إليك أي: اعطف علي عطف الله عليك.
ما زالت هذه الآية في أحبار اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بم الأخطب.
وقيل: " إنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له اختصما في أرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي: احلف، فقال الأشعت: إذن يحلف فيذهب حقي "، فأنزل الله الآية، وقال النبي عليه السلام بعقب ذلك: " من حلف بيمين كاذبة ليقطع بها حق أخيه(2/1054)
لقي الله عز وجل ( وهو عليه غضبان) ".
وروي عن مجاهد أنه قال: نزلت في رجل أقام سلعة في أول النهار، فلما كان آخره جاء رجل يساومه فيها، فحلف لقد منعها أول النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها بهذا العطاء فأنزل الله الآية.
وقال ابن المسيب: اليمين الفاجرة من الكبائر وتلا هذه الآية.
وقال قتادة: من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها حق أخيه فليتبوأ مقعده من النار، ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن مسعود: كنا نرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الذنب الذي لا يغفر: يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها.
وعن مجاهد أنه قال: هو الرجل يقول أعطيت بسلعتي كذا وكذا كذباً.(2/1055)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود ضاقت عليهم معاشهم، فخرجوا إلى المدينة، فلما رجعوا رؤساءهم سألوهم عن النبي عليه السلام فقالوا: هو الصادق لا شك فيه، فقال الرؤساء: الآن حرمْتُم أنفسَكم بِرَّنَا ونَفْعَنَا. فانقلب القوم، إلى منازلهم، وأخرجوا كتبهم فحكوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتوا صفة غيره، وراحوا إلى رؤسائهم فقالوا: إنا فتحنا كتبنا فرأينا الأمر فيها على ما تصفون في محمد صلى الله عليه وسلم فنفعوهم وأعطوهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فيهم.
وروى ابن مسعود بأن النبي عليه السلام قال " من حلف بيمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} الآية ".
قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} الآية.
ومعناها وإن من اليهود الذين جرى ذكرهم لفريقاً يحرفون ألسنتهم بالكتاب لتظنوا أنه من الكتاب وما ذلك من الكتاب أي: وما ذلك الذي حرفوا من الكتاب، ويزعمون أن الذي حرفوا من عند الله: أي ما نزل على أنبيائه {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} وإنما(2/1056)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
أحدثوه من عند أنفسهم فيكذبون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون.
يقال: لويته عدلته عن قصده.
وقال القتبي: يلوون: يقلبون ألسنتهم بالتحريف والزيادة
قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة} أي: ما ينبغي لبشر أن ينزل الله عليه الكتاب ويعطيه الحكم، وهو الفقه في الدين، ويعطيه النبوءة ثم يدعو الناس إلى عبادته، بل يدعوهم إلى الله وإلى عبادته.
وروي أنها نزلت في النفر من اليهود والنصارى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. " وروي أن اليهود قالت له: تريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟
وقال الرئيس من نصارى نجران: ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثت فأنزل الله جل ذكره {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية ".(2/1057)
ثم قال: {ولكن كُونُواْ ربانيين} أي. . . حكماء علماء {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ} من شد فهو مشتمل على معنى التخفيف لأن من علمنا شيئاً فقد علم.
قال الضحاك: لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده، فإن الله تعالى يقول: {ولكن كُونُواْ ربانيين} فقهاء علماء بعلم الكتاب ودرسكم إياه.
هذا على قراءة من خفف.
(ومن شدد فمعناه: بتعليمكم الكتاب وبدرسكم إياه ") وكل معلم عالم، وليس كل عالم معلماً، فالتشديد أعم وأبلغ وأمدح. " ونزلت هذه الآية حين قالت اليهود من أهل نجران وغيرهم: أتريد يا محمد أن نعبدك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن(2/1058)
نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " أو كما قال فأنزل الله عز وجل { مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية ".
ومعنى {ولكن كُونُواْ ربانيين} أي: ما ينبغي لبشر أن يفعل ذلك مع الناس وأن يقول لهم ذلك، ولكن يقول لهم كونوا ربانيين "
. أي حكماء علماء.
وقيل: فقهاء علماء فتركوا القول لدلالة الكلام عليه.
وقال ابن زيد: الربانيون ولاة الأمر، وقرأ {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون}، وقال: هم ولاة الأمر.
والألف والنون في " ربانيين " دخلت للمبالغة كجماني للعظيم الجمة، وكذلك غضبان للمتلئ غيظاً ومعنى الرباني العالم بدين الرب، وكأنه في الأصل الربي منسوب إلى الرب ثم دخلت الألف والنون للمبالغة، وجمع جمع السلامة بالياء والنون والألف والنون.
قال مجاهد: الربانيون، فوق الأحبار.(2/1059)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قال النحاس: الأحبار العلماء، والربانيون الذين جمعوا مع العلم السياسة والصلاح.
من قولهم: ربَّ فلان الأمر إذا أصلحه.
وقد قيل في {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي: الفقه.
والأحسن أن يكون مردوداً على ما قبله فتكون الدراسة للكتاب الذي جرى ذكره، ولم يجر ذكر للفقه.
والكتاب هنا القرآن، قاله عاصم.
قوله {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين} الآية من نَصَبَ يأمركم عطفه على الأول على {يُؤْتِيهُ} كأنه وما كان لبشر أن يأمركم. ومن رفع قطعه من الأول وتقديره عند سيبويه: ولا يأمركم الله، وعند الأخفش: وهو لا يأمركم.(2/1060)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
والتفسير يدل على النصب لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك، فأنزل الله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أن يفعل كذا وكذا، ولا أن يأمركم بكذا فنفى عنه ما أسندوا إليه، ثم قال: ولكن له أن يقول ويأمر {كُونُواْ ربانيين}.
ثم قال: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} أي أيأمركم نبيكم بالكفر فهذا ظاهر الآية والتفسير، وهو تابع لقراءة النصب في المعنى.
وقيل المعنى أيأمركم الله بالكفر فهذا رد على قراءة من قراء بالرفع.
قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم}.
أي: واذكر إذ أخذ الله. واللام في " لما " لام تأكيد " وما " بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء، و (من) لبيان الجنس والهاء محذوفة من آتيناكم و، {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الخبر هذا مذهب الخليل وسيبويه.(2/1061)
وأجاز الأخفش أن يكون الخبر {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} وهذا لام قسم كأنه قال: والله لتؤمنن به.
وقال الكسائي: ما للشرط وهي في موضع نصب، واللام لام تأكيد كما تقول والله لئن زيد ضربت لأضربنك به.
ومن كسر اللام في " لما " فهي لام الجر أي: أخذ الميثاق الذي أتاهم من كتاب وحكمة، ويكون {لَتُؤْمِنُنَّ} من أخذ الميثاق وكأن تقول: أخذت ميثاقك لا تفعلن.
وفي قراءة ابن مسعود {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين}، وكذلك قرأها أبي بن كعب، ودليله قوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يأتِ إلا لأهل الكتاب، وغيرهم دون النبيين، ثم {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} فليس في هذا أمر من نبيين، إنما هو أمر لمن أخذ الله عليه الميثاق، وهم أهل الكتاب، وهذا المعنى مروي عن مجاهد وغيره قالوا: إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب في الإيمان بالأنبياء والنصر لهم، ولم يؤخذ على النبيين نصر لقومهم، ولا إيمان بقومهم.
وقال ابن عباس: المعنى وأخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وقال طاووس: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.(2/1062)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: لم يبعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه بذلك.
وقال قتادة: أخذ الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً وأن يبلغوا كتاب الله عز وجل ورسالته إلى قومهم ففعلوا وأخذوا على القوم أن يؤمنوا بما بلغت إليهم رسلهم، وكان فيما بلغت إليهم الرسل الأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق به، والنصر له.
وقال السدي: لم يبعث الله نبياً من لدن نوح صلى الله عليه وسلم إلا أخذ ميثاقه أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنصره إن بعث وهو حي وأن يأخذ الميثاق على قومه بذلك إن بعث وهم أحياء.
وقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ} أي: بالميثاق على نحو ما تقدم " {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} أي: عهدي {قالوا أَقْرَرْنَا}.
قيل: الضمير يعود على الأنبياء أي قال الأنبياء: أقررنا بما التزمنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتب.
{قَالَ فاشهدوا} أي: اشهدوا أيها النبيون بما أخذت به ميثاقكم عليكم، وعلى(2/1063)
أممكم {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} أي: أشهد عليكم وعليهم بذلك.
وقيل: إن الضمير راجع إلى الذين أوتوا الكتاب على تقدير الاختلاف المذكور.
{فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك}: أي من أعرض بعد العهد الذي أخذ عليه، فهو فاسق أي خارج من دين الله.
وفي هاتين الآيتين تذكير - لمن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب - وتخويف.
قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} أي: أفغير طاعة الله يا أهل الكتاب تطلبون، وهو الذي خضع له من في السماوات والأرض، وأسلم طائعاً، وهم: الملائكة، والنبيون والمؤمنون {وَكَرْهاً} وهم الذين آمنوا بالتوحيد، وأشركوا عن علم كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87].
وقيل: إسلام الكاره هو حين أخذ عليه الميثاق.
وقال مجاهد: إسلام الكاذب سجود ظله.
والطائع: المؤمن.(2/1064)
وقيل: إسلام الكاره تقلبه في مشيئة الله، واستكانته لقضائه.
وقال قتادة: إسلام الكاره هو حين لا ينفعه إسلامه، وذلك في الآخرة، وحين رأى الموت، قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85].
وقيل المعنى: له خضع الجميع طائعين، وكارهين لأنه جبلهم على ذلك، وخلقهم كذلك.
وفي تفسير الحسن {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات} انقطع الكلام. ثم قال: {والأرض} طوعاً أو ركهاً أي أسلم من في الأرض طوعاً وكرهاً، فالكاره المنافق لا ينفعه إيمانه.
وقيل: إن أهل الأرض أسلموا كلهم حين أخذ الله عليهم الميثاق واستخرجهم من ظهر آدم، فالتأويل: أفغير طاعة الله تريدون وهذه صفته. ثم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام وأمته أن يقولوا: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ} ومن ذكر بعده [وأن] لا يفرقوا بين أحد منهم، وأعلمهم الله تعالى أنه لا يقبل ديناً غير الإسلام، وأن من ابتغى غيره فهو خاسر في الآخرة. أي: يخسر نفسه وذلك الخسران المبين.(2/1065)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
ولما نزلت {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ادعى كل قبيل، وكل أهل ملة انهم هم المسلمون فأنزل الله [ عز وجل] { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97]، فحج المسلمون وقعد الكافرون، فظهر فساد دعوى كل من ادعى الإسلام إلا المسلمون.
قوله {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} الآية. قال ابن عباس: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، وهو الحارث بن سويد فأرسل إلى قومه أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ فأنزل الله عز وجل { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ثم أنزل الله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأرسل إليه قومه وأسلم.
وقال مجاهد: نزلت الآيتان بعد ارتداد الحارث بن سويد فحملهما إليه رجل فقرأ عليه الآية الأولى ثم قرأ عليه الآية {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} الآية فقال الحارث: إنك - والله ما علمت - لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق منك. وإن الله سبحانه لأصدق الثلاثة ثم رجع فأسلم وحسن إسلامه.
قال السدي: نزلت في الحارث بن سويد حين ارتد ثم نسخها الله بقوله:(2/1066)
{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ}.
وروي أنه كان يظهر الإسلام فلما كان يوم أحد قتل المجذر بن زياد بدم كان له عليه، وقتل قيس بن زيد، وارتد ولحق بمشرك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر أن يقتله إن ظفر به، ففاته، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة، فأنزل الله عز وجل { كَيْفَ يَهْدِي الله} الآيتين.
وقال كثير من المفسرين: إنما نزلت في اليهود لأنهم وجدوا في التوراة إن الله جل ذكره ناجى موسى عليه السلام وكان في مناجاته " يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني، فقال موسى عليه السلام: جعلت وفادتي لغيري "، وذلك قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] " أي: إذ ناجينا موسى بهذا أن: يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني إلى آخر القصة.
وقيل: نزلت في قوم ارتدوا.
وقيل: نزلت في أهل الكتاب لأنهم عرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم وصفته، ثم كفروا به عن(2/1067)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
علم بصحة نبوته.
وقال القرظي: [كان] ناس من أهل مكة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، فمكثوا ما شاء الله في المدينة، ثم خرجوا وارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله ذلك فيهم ثم تعطف عليهم فأنزل الله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} الآية.
قوله: {وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ}: معطوف على الفعل الذي تضمنه المصدر وهو إيمانهم، تقديره بعد أن آمنوا وشهدوا ولا يجوز عطفه على {كَفَرُواْ} لفساد المعنى. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى عرفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك وكذبوه وأنكروا حسداً وبغياً، وقلوبهم تشهد أنهم مبطلون في ذلك.
قوله {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} الآية.
معناه: جزاء من هذه حاله بعنة الله، أي: يبعده من الرحمة ولعنة الملائكة والناس أي: يلعنهم كل من خالفهم يوم القيامة من المخلوقين كما قال: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]:
ويجوز أن يكون الناس يراد بهم من كان مؤمناً. ويجوز أن يكون أراد بهم: لعن(2/1068)
بعضهم بعضاً في الدنيا لاختلاف أديانهم فيها.
{لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} أي: لا ينقص عنهم: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: لا يؤخرون عن الوقت. وقيل: لا ينظرون لمعذرة يعتذرون بها.
وكل ما في القرآن من اللعنة فالخط فيها في المصحف بالهاء إلا في موضعين كتبت بالتاء: في آل عمران {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} [آل عمران: 61] و [في] النور {والخامسة أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} [النور: 7] هذان بالتاء لا غير.
قوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي: استثنى من تاب ممن ذكر قبله.
وقيل: هو ناسخ ل {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ} الآية وقد ذكرناه.
ومعنى: {وَأَصْلَحُواْ} أي: أصلحوا أعمالهم، وقيل: معناه وعملوا الصالحات.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} عنى بها من كفر ببعض الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ثم(2/1069)
كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فلن تقبل توبتهم عند الموت ومعاينته.
قال قتادة: عنى بها اليهود لأنهم كفروا بالإنجيل - وبعيسى عليه السلام {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم - والقرآن.
وقيل: عنى بها اليهود والنصارى كفروا بكتابهم، فبدلوه، {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد عليه السلام. وقيل: كفرهم الأول هو حجدهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وازدادوا كفراً [أي: ذنوباً].
وقيل: هم اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، [ وازدادوا كفراً] لم يتوبوا مما فعلوا في الصحة لم تقبل توبتهم عند الموت.
وقيل: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} ماتوا على الكفر.
[و] اختار الطبري أن يكون المعنى: ثم ازدادوا كفراً بما أصابوا من الذنوب، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم(2/1070)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
بمحمد صلى الله عليه وسلم والآية عنده عنى بها اليهود.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ} الآية.
معناه: لن يقبل ممن كان بهذه الصفة جزاء ولا فدية ولو كانت ملء الأرض ذهباً، روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت ما هو أيسر من ذلك ".
وقال الزجاج معناه: لو عمل من الخير فتصدق بملء الأرض ذهباً - وهو كافر - لم ينفعه ذلك مع كفره.
قوله: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
قال ابن مسعود وغيره: البر هنا الجنة.(2/1071)
{لَن تَنَالُواْ} حتى تتصدقوا {مِمَّا تُحِبُّونَ} أي: تهوون، ومثله {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الإنسان: 8] [وقوله] {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
ولما نزلت هذه الآية " جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فحمل النبي (عليه السلام) [عليها] أسامة بن زيد وهو ولده فوجد زيد في نفسه فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إن الله قد تقبلها منك ".
وقيل: إن البر العمل الصالح الذي يدهو إلى الجنة.
وفي الحديث " عليكم بالصدق فإنه يدعوا إلى البر، والبر يدعو إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإنه يدعو إلى الفجور والفجور يدعو إلى النار ".(2/1072)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ} أي: فتصدقوا بشيء فإنه محفظ لكم.
وقال الحسن: النفقة هنا يعني بها الزكاة الواجبة.
قوله: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} الآية.
إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أخبرنا الله تعالى أن الأطعمة كلها كانت حلالاً لولده يعقوب إلا ما حرم يعقوب على نفسه قبل نزول التوراة، وحرمه وُلْدَه على أنفسهم من غير فرض من الله تعالى عليهم، وكان بيعقوب صلى الله عليه وسلم عرق يسمى النساء، فيأخذه بالليل ويتركه بالنهار فحلف: إن الله عافاه منه ألا يأكل عرقاً أبداً، فحرَّم الله عليهم لبغيهم فنزلت التوراة بتحريم ما كانوا حرَّموه على أنفسهم، فذلك قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ثم قال: إن أنكرتم ذلك فاتوا بالتوراة فاتلوها فإنكم تجدون ذلك فهذا قول السدي.
وقيل: إن الذي حرموه على أنفسهم إنما تبعوا فيه يعقوب صلى الله عليه وسلم، ولم تنزل التوراة بشيء منه، ولكنهم ادعوا أنه في التوراة فقال الله: قل يا محمد ايتوا بالتوراة فإنه لا شيء فيها مما يقولون.
وقال ابن عباس: حرم إسرائيل على نفسه وعلى ولده العرق وليس(2/1073)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
بمكتوب في التوراة.
فمجاهد وقتادة وابن عباس وغيرهم يقولون: الذي حرم إسرائيل على نفسه هو العرق لعرق كان به يؤذيه.
[وقال عطاء] وابن جريج: حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وهو قول الحسن.
" ويروى أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أي شيء حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالذي أنزل التوراة هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه منه، فنذر لله نذراً لئن عافاه الله منه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم ".
وروي انه حرم على نفسه أحب الطعام إليه إن برئ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وشحومها، وشحوم الضأن والبقر والمعز، فحرم ذلك على نفسه.
قوله: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} الآية.
أي: فمن ادعى بعد قراءة التوراة - وعدم ما ادعيتم من تحريم العروق ولحوم(2/1074)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
الإبل وألبانها فيها -: إن ذلك في التوراة، وأن الله أنزل تحريم ذلك فيها فهو ظالم.
قوله: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} معناه: قل يا محمد صدق الله في جميع ما أخبرنا به وأن إسرائيل حرم لحوم الإبل وألبانها من غير تحريم من الله في كتابه، فإن كنتم أيها اليهود على حق في قولكم {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} فإنه لم يكن مشركاً.
والوقف على قوله {قُلْ صَدَقَ الله} حسن.
قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ. . .} الآية.
أخبر الله تعالى: أن أول بيت وضع للناس مبارك وهدى للعالمين هو الذي ببكة، وكان قبله بيوت إلا أنه ليس لهن هذه الصفة، هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ فهو على قوله أول بيت وضعت فيه البركة والهدى مقام إبراهيم. وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض.
وقال ابن عمر: هو أول بيت وضع في الأرض، خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء على زبد وبيضاء فدحيت الأرض من تحته.
وقال مجاهد: أو بيت خلق الله: الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، وقال السدي.
وقيل: إن موضع الكعبة موضع أول بيت وضعه الله في الأرض. وقال قتادة:(2/1075)
هبط البيت مع آدم حين هبط، يطوف حوله كما يطاف حول العرش ثم رفعه الله في الطواف فصار معموراً في السماء، ثم إن إبراهيم تتبع منه أساساً حين أمره تعالى ببنائه فبناه على أساس قديم.
ومعنى وضع للناس [أي]: لعبادة الله.
وسئل النبي عليه السلام عن أول مسجد وضع؟ فقال: " المسجد الحرام، ثم مسجد بيت المقدس وكان بينهما أربعون سنة ".
وبكة: حول البيت مع الطواف (من) قولهم بكة: إذا زحمه، فسميت بذلك البقعة للازدحام [الذي يكون] فيها وما عدا ذلك في خارج المسجد: مكة.
قال ابن شهاب: بكة البيت والمسجد، ومكة الحرم كله.
وقال مالك: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع.
قال ابن القاسم: يريد القرية.
وروي عن ابن وهب أنه قال: بكة موضع البيت، ومكة ما حول البيت(2/1076)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
من المواضع.
وقيل: إنما سميت مكة لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها.
قال مقاتل: بكة ما بين الجبلين، ومكة الحرم كله وإنما سميت بمكة لأنها تمك المخ من العظم أي تمحقه لما يحتاج (إليه) الإنسان من السعي والطواف والعمل.
يقال: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه.
وقيل: سميت مكة لأن الناس كانوا يمكون، ويضجون فيها من قوله:
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] يقول: تصفيق وصفير.
وقال الضحاك: بكة هي مكة، وعلى ذلك أهل اللغة أن الميم بدل من الباء كما يقال: لازب، ولازم وسبل شعره وسمله إذا استأصله.
وسميت بكة لأن الناس يتباكون حولها الرجال والنساء يعني يزدحمون، وقيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة.
قوله {فِيهِ ءايات بينات. . .} الآية.
هي: مقام إبراهيم، المشعر الحرام {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}.
وقال مجاهد: مقام إبراهيم الحرم كله، وهي آيات كثيرة.
منها: الصفا والمروة والركن والحطيم والملتزم والحجر وغير ذلك، ومنها: أن الطائر لا يعلو البيت صحيحاً ويعلوه مريضاً للتشفي [به] ومنها: أن الجارح يتبع(2/1077)
الصيد فإذا دخل الحرم تركه. ومنها: أن الغيث إذا كان من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان من ناحية الشامي كان الخصب بالشامي، والعراقي كذلك، وإن عم الأركان عم الخصب الدنيا.
ومنها: أن الجمار تزداد فيه كل عام لا يحصى كثرة وهي ترى على قدر واحد. وأمثال ذلك كثيرة لا تحصى.
وعلى هذا القول يكون {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} خبر مبتدأ.
وقد قرأ " فيه آيات بينة " على أنها المقام الموجود الساعة ويكون أيضاً ما بعد مبتدأ.
ومعنى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} كان أهل الجاهلية من جنى منهم جناية ثم لجأ إلى حرم الله لم يطلب، ولم ينتصف وأما في الإسلام فليس يمنع من حدود الله عز وجل مانع.
وعن يحيى بن جعدة {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قيل: كان آمناً من النار.
وأهل التفسير على أن المعنى: ومن دخله فاراً من غيره مستجيراً به أمن ممن يطلبه.
وقيل: [المقام] هو الحجر الذي فيه أثر رجلي إبراهيم عليه السلام.(2/1078)
وروي أن الله عز وجل أمره أن يؤذن بالحج كما قال تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} [الحج: 27] فوقف على المقام وهو الحجر، فأعطاه الله في صوته ما يسمعه كل من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأعطاه من القوة حتى رسخت رجلاه مقر الحجر فنادى يا عباد الله، أجيبوا داعي الله، والحج إلى بيته الحرام يخرجك من النار، ويسكنكم الجنة " فالناس اليوم يلبون دعوة إبراهيم فمن أجابه مرة حج مرة ومن أجابه مرتين حج مرتين، وكذلك (أكثر) من ذلك.
قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً. . .}.
هذا فرض من الله واجب علينا مع وجود الاستطاعة.
قال ابن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهـ: الاستطاعة: الزاد والراحلة، وهو قول ابن جبير والحسن.
وعن ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل.
وقال الضحاك: إن قدر [أن] يؤاجر نفسه ويمشي فهو مستطيع.(2/1079)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " السبيل الزاد والراحلة ".
وعن علي رضي الله عنهـ أنه قال: من ملك زاداً وراحلة يبلغانه إلى بيت الله عز وجل فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.
وقال عكرمة: السبيل: الصحة.
وقال ابن زيد: السبيل القوة في النفقة والجسم والحملان.
وقيل السبيل الطاقة بأي وجه. وهو اختيار (الطبري) وجماعة من العلماء، وهو مذهب مالك وأصحابه.
والهاء في " إليه " تعود على البيت " وقيل على الحج ".(2/1080)
قوله: {وَمَن كَفَرَ} أي: من لم يحج وهو يقدر عليه.
وقيل: معناه من لزمه فرض الحج فأنكره فإن الله غني عن حجه.
وقال ابن عباس: من كفر من قال الحج ليس بفرض.
وقيل: معناه من اعتقد أنه لا أجر له في سعيه وحجه، ولا إثم عليه في تأخيره قاله مجاهد. " وسأل رجل من هذيل النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا نبي الله من تركه كفر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذلك " أي: كافر.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: معنى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} أي: وكفر بالله واليوم الآخر، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الناس عند نزول فرض الحج، وخطبهم وأمرهم بالحج وأنه فرض عليهم. فحج البيت هو ملة واحدة وهي: من آمن بالله، وتركه خمس ملل، وهم الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عز وجل: { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين}.
وعن ابن عباس أنه قال لما نزلت: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} الآية، قالت: الملل كلها نحن مسلمون فأنزل الله {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} فحج المؤمنون وقعد الكافرون.
قال ابن زيد معناه ومن كفر بهذه الآية يعني التي تقدم ذكرها وهي: مقام(2/1081)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
إبراهيم {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}.
قال عطاء: {وَمَن كَفَرَ} بالبيت.
وقال السدي: {وَمَن كَفَرَ} معناه: من وجد ما يحج به ثم لم يحج فهو كافر.
ويروى عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى كل رجل لم يحج وهو واجد فيضربون عليه الجزية ما هم بمسلمين.
وعنه أنه قال: لو أن ناساً تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما قاتلناهم على الصلاة والزكاة.
واختار بعضهم أن يكون المعنى: ومن كفر فأنكر فرض الله ووجوبه.
قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله}.
هذا خطاب لليهود والنصارى وتوبيخ لهم لأنهم كفروا بمحمد وهم يشهدون أنه حق يجدونه عندهم في التوراة مكتوباً والله يشهد عليهم بأنهم على باطل في إنكارهم له وهم يعلمون أنه نبي حق.
قوله {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ} الآية.
هو أيضاً لليهود والنصارى، ومعنى صدهم عن سبيل الله هو جحدهم(2/1082)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
بمحمد وما جاء به من الدين، والسبيل: الطريق.
{تَبْغُونَهَا عِوَجاً} " أي يبغون لها أي: السبيل أي: يطلبون السبيل المعوج وهو الميل عن الحق في الدين.
العوج بالفتح يكون في الحائط والعود ونحوه.
قال السدي: وكانوا إذا سألهم أحد هل يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قالوا: لا، فيصدون عن الإيمان به، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو السبيل إلى الله سبحانه.
قوله {يا أيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً} الآية.
نزلت هذه الآية في قوم من اليهود أرادوا أن يحدثوا الفتنة بين الأوس والخزرج، وقد كان بين القبيلتين فتنة فذهبت بالنبي عليه السلام، فأراد قوم من اليهود أن يحدثوها بينهم، فنهى الله عز وجل عن ذلك وأخبرهم أنهم إن أطاعوهم كفروا، ثم قال:
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [معناه: وعلى أي حال تكفرون أيها المؤمنون وآية الله تقرأ عليكم ورسوله] بين أظهركم يدعوكم إلى الحق ويبينه لكم، فليس لكم عذر في ارتدادكم عن الحق {وَمَن يَعْتَصِم بالله} أي: يمتنع(2/1083)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
به {فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
قال ابن جريج: {وَمَن يَعْتَصِم بالله}: من يؤمن بالله.
قال ابن العباس: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ}، ونزلت {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}.
وروي أن شاس بن قيس كبير اليهود دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب والدعاء طمعاً أن يقرف إلفتهم، فلما ذكروا بذلك ثار بينهم سر حتى أخذوا السلاح، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووعظهم وذكرهم بالله والإسلام، فرجع القوم، وعلموا أنها نزعة من الشيطان، فبكوا وتعانقوا [وانصرفوا] مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآيات في توبيخ أهل الكتاب على فعلهم وتذكير الأنصار ووعظهم.
قوله {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}.
هذا خطاب للمؤمنين، ومعنى {اتقوا الله} راقبوه ودوموا: على طاعته. ومعنى {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: حق خوفه وهو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر،(2/1084)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
قال السدي وطاووس وقتادة، وغيرهم.
{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}: لربكم.
وعن ابن عباس {حَقَّ تُقَاتِهِ}: أن يجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وعن قتادة إنها منسوخة بقوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} وكذلك قاله الربيع ابن أنس، وقاله السدي وابن زيد.
وأهل النظر على أن هذا لا نسخ فيه لأن الأمر بالتقوى لا ينسخ ولكنه خفف بالآية الأخرى. ومعنى {وَلاَ تَمُوتُنَّ} أي: كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت، وليس ينهاهم عما لا يملكون ولكن هذا معناه.
وحكى سيبويه: لا أرينك هاهنا، وهو لم ينه نفسه، وإنما المعنى لا يكن ها هنا، فإنه من يكن ها هنا أراه.
قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.(2/1085)
أي: تعلقوا بأسباب الله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي: تمسكوا بدين الله. والحبل في اللغة الذي يتوصل به إلى البغية.
قال ابن مسعود: حبل الله الجماعة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كتاب الله حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ".
وقيل: حبله، عهده وأمره، وأكثر المفسرين على أنه القرآن، وقال أبو العالية حبل الله الإخلاص والتوحيد.
وقال ابن زيد: حبل الله: الإسلام.
وقال القتبي: حبل الله: دينه.
وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أيها الناس عليكم بالطاعة، والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة هو خير مما(2/1086)
تحبون في الفرقة "
وهذا تذكير للأنصار إذ كانوا يقتتلون في كل شهر فلما أتى الإسلام واجتمعوا عليه ألف الله بينهم وزالت العداوة التي كانت بينهم عشرين ومائة سنة، وقد كانوا بني عم.
ومذهب البصريين أن {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} تمام الكلام، ومذهب الكوفيين أن {إِذْ كُنْتُمْ} متصل بـ {واذكروا}.
{وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار}، هذا مثل لما كانوا عليه من الكفر، أنقذهم الله من ذلك بالإسلام.
وشفا الحفرة: طرفها.
وقيل: {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} بمحمد صلى الله عليه وسلم قاله السدي، فالآية للأنصار خاصة لما أزال الله عنهم من القتل الذي كان بينهم.
وقيل: هي لقريش لأن بعضهم كان يغير على بعض فلما دخلوا في الإسلام حرمت عليهم الأموال والدماء فأصبحوا إخواناً.
والهاء في {مِّنْهَا} تعود على النار، وقيل على الحفرة.(2/1087)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
قوله {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} الآية.
معناها: ولتكن منك أيها المؤمنون جماعة مستقيمة يدعون [الناس] إلى الخير، وهو الإسلام، ويأمرونهم بالمعروف أي: باتباع محمد عليه السلام. وما جاء به، وينهونهم عن المنكر، وهو التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به أولئك الذين يكونون هكذا من المفلحين.
وقيل: إن [من] هاهنا لبيان الجنس، ولأن المعنى ولتكونوا كلكم أمة مستقيمة يدعون إلى الخير. [ومن] مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ومثله {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] فلم يأمرهم باجتناب بعض الأوثان وإنما المعنى: فاجتنبوا الأوثان فإنها رجس، فكذلك لم يأمر بعض المؤمنون بالدعاء إلى الخير دون البعض إنما أمرهم كلهم، ودل على ذلك قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110].
وقال من زعم أن [من] للتبعيض، إنما أمر الله بعض المؤمنين بالدعاء إلى الخير، لأن الدعاء ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون الناس إليه، وليس كل الخلق علماء، فالأمر واقع لمن فيه علم، وهو بعض الناس، فمن للتبعيض على أصلها.
والأمة: الجمعة، والقائمة: المستقيمة، الطريقة الصحيحة: الديانة.(2/1088)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
وقرأ عثمان بن عفان رضي الله عنهـ: [وينهون عن المنكر ويستعينون بالله [على] ما أصابهم " زاد خمس كلمات، وما يقرأ بذلك اليوم لأنه خلاف لخط المصحف المجمع عليه] ".
قوله: {(وَلاَ تَكُونُواْ) كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا} حذر الله المؤمنين أن يكونوا مثل اليهود الذين اختلفوا في كتابهم وتفرقوا فرقاً.
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالجماعة، وينهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالاختلاف والمراء والخصومات في دين الله.
وقال الحسن: هم اليهود والنصارى اختلفوا في دينهم فنهانا الله عن مثل ذلك.
ثم أخبر أن هؤلاء المختلفين لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه أي: عذاب عظيم في هذا: اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
ويجوز في غير القرآن كسر التاء في {تَبْيَضُّ} و {وَتَسْوَدُّ}.(2/1089)
ومعنى تبيض: تشرق كما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39] فهي تشرق لما تصير إليه من [النعيم، وتسود وجوه من أجل ما تصير إليه] من العذاب.
قوله {أَكْفَرْتُمْ} معناه: فيقال لهم أكفرتم؟ قال جماعة من العلماء: عنى بهذا بعض أهل القبلة من المسلمين وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
قال أبو أمامة {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ}: (هم) الخوارج.
وعن أبي بن كعب أنه قال صاروا يوم القيامة فريقين: يقال لمن اسود وجهه:(2/1090)
أكفرتم بعد إيمانكم وذلك الإيمان هو الذي كان قبل الاختلاف حين أخرجهم من ظهور آدم وأخذ منهم عهدهم وميثاقهم، فقال الله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] فأقروا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الإسلام، ثم لما خرجوا إلى الدنيا كفروا، فيقال لهم يوم القيامة: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فالآية عنده للكفار خاصة. قال: والآخرون فقاموا على إيمانهم المتقدم فهم في رحمة الله خلوداً.
وقال الحسن: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} هم المنافقون أظهروا الإيمان وأسروا الكفر. واختار الطبري قول أبي بن كعب أن يكون للكفار، ويكون الإيمان هو الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من ظهور آدم كالذر فأقروا بأنه ربهم ثم كفروا بعد ذلك.
وذكر النحاس في قوله: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} قال: عنى بها اليهود بشروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحوا به قبل بعثه فكان ذلك منهم إيماناً، فلما بعث كفروا به هذا معنى قوله.
قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} أي: في ثواب رحمة الله وهي الجنة وتأولها مالك في أهل الأهواء.
وروى أبو أمامة: أنها في الحرورية، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا(2/1091)
اثنتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، حتى بلغ سبعاً.
وروى عبد الملك بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله تبارك وتعالى: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية مسودة وجوههم زرقاً عيونهم قد دلعوا ألسنتهم يسيل لعابهم على صدورهم يقذرهم كل من في القيامة فيقولون: ما لنا؟ ما عبدنا شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً، فيأتيهم النداء من عند الله صدقتم ما عبدتم شمساً ولا قمراً
ولا وثناً ولكن جاءكم الكفر من حيث لا تحتسبون ".
قوله {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي: هذه آيات الله تتلى عليكم يا محمد بالحق. . .(2/1092)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
وليس يريد الله أن يظلم أحداً من خلقه.
أعيد ذكر الاسم في الآية لأنه أفخم ولأنه لا يقع فيه أشكال إذ هذا الاسم إنما هو للرب لا يشركه فيه أحد. وقال الكوفيون: إنما أعيد ظاهراً، لأن كل واحد من الاثنين في قصة مفارق معناها للأخرى وليس مثل قول البيت في قول الشاعر:
" لا أرى الموت يسبق الموت شيء ". ... لأن الثاني من تمام الأول وإنما أظهر في البيت اضطراراً وليس كذلك الآية.
قوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية.
قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقيل: هو خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم.
وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ ابن جبل.
وقال الحسن وغيره: الخطاب لأمه سيدنا محمد عليه السلام كلهم وكانوا يقولون نحن آخرها وأكرمها على الله.
وعن الحسن أنه قال: معناها كنتم خير الناس للناس.(2/1093)
وقال أبو هريرة في معناها: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعماقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وروي أن النبي عليه السلام قال " ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله " وقال يوماً وهو مسند ظهره إلى الكعبة: " نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها ".
وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة بمنزلة قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} [البقرة: 142] أي: أنت عليها وبمنزلة {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} [النمل: 142]، وقد ذكر هذا كله في مواضعه وفي بعضه اختلاف.
وقيل: المعنى كنتم في اللوح المحفوظ خير أمة، ومثله
{واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: 85] أي إذ أنتم.
وقيل المعنى: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف أي: إذا كان هذا حالكم(2/1094)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
فأنتم خير أمة.
ومعنى: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} تشهدون ألا إله إلا الله وتقرون بما أنزل الله وتنهون عن المنكر تقاتلون على ذلك.
والمنكر: هو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به هذا قول ابن عباس. وأصل المعروف هو فعل كل ما كان مستحسناً جميلاً غير مستقبح.
قوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} الآية هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم معناه لم يضروكم أيها المؤمنون أهل الكتابين {إِلاَّ أَذًى} بألسنتهم لا غير يسمعونكم تكذيب نبيكم صلى الله عليه وسلم وقوله البهتان في عيسى وعزير صلى الله عليهما وسلم، وهو استثناء منقطع.(2/1095)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
وإن قاتلوكم ولُّو الأدبار وانهزموا {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}، فهذا وعد من الله أن أعداء [هم] لا ينصرون، وأنهم هم المنصورون.
قوله {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} الآية. معناها: ألزم الله المكذبين بمحمد الذلة وهي الصغار حيثما وجدوا، فهم تحت أقدام المسلمين لا منعة لهم فهم في ذلة وخوف {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} [أي بسبب من الله]. أو بسبب من المؤمنين، فإنهم يأمنون على أنفسهم، وذرياتهم، والذلة لا تفارقهم، والسبب هو العهد إذ عوهدوا.
وتقدير الآية عند الكوفيين إلا أن يعتصموا بحبل من الله وحبل من المؤمنين، ولذلك دخلت الباء وهي متعلقة بهذا الفعل المحذوف. وقال بعض الكوفيين - أيضاً -: هو استثناء من الأول محمول على المعنى لأن المعنى ضربت عليهم الذلة بكل مكان إلا بموضع من الله.
وقال بعض البصريين: هو استثناء ليس من الأول.(2/1096)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
وقوله: {أَيْنَ مَا ثقفوا} تمام، ثم قال: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} أي: لكنهم (يعتصمون) بحبل من الله.
قوله: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله}، أي: تحملوا وانصرفوا ورجعوا به، وحقيقته: لزمهم ذلك، يقال: تبوأت الدار أي: لزمتها.
(تم السفر الأول من كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية والحمد لله الذي بعونه. .).
قوله: [ عز وجل] { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} أي: تبوءهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، فكأنهم ألزموا الذلة، والغضب لفعلهم هذا، ثم قال: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي: فعل بهم ذلك بعصيانهم واعتدائهم كذلك في موضع نصب وهو ذلك الثاني.
قوله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.
هذا مردود على [قوله] {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} ثم قال: {لَيْسُواْ سَوَآءً} أي: ليس المؤمنون والفاسقون سواء وتم الكلام، ويعني بذلك من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن.(2/1097)
والفراء يقدره بمعنى ليست تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة من حالها كذا وأمة على غير ذلك، وهو غلط من وجوه: أحدها أنه يقدر محذوفاً ولا يحل التمام سواء، وترتفع أمة بسواء، وإذا فعل ذلك لم يعد على اسم ليس ذكر وساء ليس بجار على الفعل فيرفع الظاهر، والمضمر الذي يضمر لا يدل على شيء من الكلام.
وأبو عبيدة يجعل {لَيْسُواْ} على لغة من قال: أكلوني البراغيث، ويجعل {أُمَّةٌ} اسم ليس و {سَوَآءً} الخبر ويقدر محذوفاً، وهو ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهو بعيد لأن ذكر أهل الكتاب قد تقدم، فليس [هو] مثل أكلوني البراغيث لأنه لم يتقدم [له] ذكر.
وتصغير {آنَآءَ} أوينا تبدل من الألف التي هي فاء الفعل واواً كما تقول: أويد في آدم، ومعنى الآية: أنه تعالى أعلمنا أنه ليس أهل الإيمان من أهل الكتاب والكفر سواء، والضمير في {لَيْسُواْ} يعود على ما تقدم من ذكر المؤمنين والفاسقين (من أهل الكتاب فقال): من أهل الكتاب {أُمَّةٌ} شأنها بالمدح والثناء هذا(2/1098)
مذهب البصريين.
والكوفيون يجعلون أمة مرفوعة بسواء والكلام عندهم متصل، وقد تقدم ما يدخل عليهم كأن تقديره عندهم لا يستوون من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة، قالوا: وترك ذكر الأخرى لدلالة ذكر المؤمنة عليها ومن مذهبهم ألا يجوز سواء [علي] قمت حتى تقول أم قعدت، وأجازوا هنا الحذف، ويجيزون الحذف إذا كان الكلام مكتفياً بواحد نحو ما أبالي، وما أدري لاكتفاء ما أبالي بواحد، أجازوا ما أبالي أقمت، وما أدري أجليت يريدون أم فعلت كذا ويحذفونه، ويلزمهم الا يجيزوا الآية على تأويلهم لأنهم لا يجيزون الحذف مع سواء لنقصانه، وقد أجازوه في الآية، وهذا تناقض لأنهم أجازوا في الآية ما لا يجوز في الكلام.
روى ابن وهب عن مالك: أمة قائمة أي قائمة بالحق وهو قول مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس وروي مثله عن ابن عباس.
ونزلت هذه الآية في قول عكرمة وابن جبير وابن عباس في عبد الله بن سلام(2/1099)
وثعلبة بن سعية، وأسيد بن عبيد وهم أخيار أهل الكتاب في الوقت، وأسلم معهم غيرهم فقال: من بقي من أحبار يهود: ما آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إلا شرارنا فأنزل الله الآية يفضل فيها من آمن منهم على من لا يؤمن.
وقال الحسن: إن قوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يريد ما بين المغرب والعشاء.
وقال ابن مسعود: معناها ليس أهل الكتاب سواء وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، القائمة يتلون آيات الله ويؤمنون بالله، ويفعلون كذا وكذا. قال مجاهد: قائمة عادلة.
وقال قتادة: قائمة على كتاب الله عز وجل وفرائضه وحدوده.
وقال ابن عباس: قائمة أي: مهتدية على أمر الله سبحانه مستقيمة.
وقال السدي: قائمة مطيعة. وقال الأخفش: من أهل الكتاب أمة (أي: ذو أمة) بمعنى: ذو طريقة حسنة.
وواحد آناء الليل اني: كقُنو وأقناء، وقيل واحد أني كمعي وأمعاء وحكى(2/1100)
الأخفش أني.
وقال قتادة: آناء الليل ساعاته أي: يتلون في ساعات الليل. وقال السدي: هي جوف الليل. وقال ابن مسعود: [آيات الله] آناء الليل صلاة العتمة يصلونها، وما سواهم لا يصليها وروى ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ليلة، وقد أخر الصلاة قال: فجاء النبي عليه السلام ومنا المصلي ومنا المضطجع فبشرنا، وقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب: فأنزل الله عز وجل { لَيْسُواْ سَوَآءً} الآية ".
وروى الثوري عن منصور أنه نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
ومعنى يتلون آناء الليل: يتبعون بعضها بعضاً، (ومعنى) {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي: يصلون.(2/1101)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
وقيل: المعنى يتلون الآيات في الصلاة، وهم مع ذلك يسجدون في الصلاة يعني السجود المعروف في الصلاة.
ثم وصفهم الله فقال: {يُؤْمِنُونَ بالله} أي: يصدقون به وبما أنزل على أنبيائه من غيب الآخرة {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} أي: بالإيمان بالله ورسوله {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي: ينهون الناس عن الكفر بالله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، ودل هذا من وصفهم على أن غيرهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
قوله: {مِنَ الصالحين}. أي: من عداد الصالحين.
قوله: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} الآية.
من قرأ بالتاء رده على المخاطبة في {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} تفعلون وتصنعون. ومن قرأ بالياء رده على الإخبار في قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله} ويفعلون كذا وكذا ثم قال {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ}.
والياء فيها تخصيص لهؤلاء المذكورين.
والتاء فيها عموم لجميع الأمة واختار الطبري وغيره التاء.(2/1102)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
ومعنى [فلن تكفروه] فلن يغطى عليه، فتتركوا بلا مجازات عليه، وقال قتادة: " فلن تكفروه " فلن يضل عنكم.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الآية. هذه الآية وعيد بالأمة الفاسقة من أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم، ومعنى الكفر هنا تغطية ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وجحوده، ومعنى (ذلك) أن أموالهم لم تمنع عنهم ما ينزل بهم من العذاب في الآخرة شيئاً.
قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا} الآية.
المثل هنا بمعنى الشبه ومعناها: شبه ما يتصدق به الكافر يا محمد كشبه ريح فيها صر، وهو البرد الشديد {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} أي: زرعهم الذي أملوا إدراكه كما أمل الكفار وجود عملهم في الآخرة.
ومعنى {ظلموا أَنْفُسَهُمْ}: عصوا الله ورسوله فأهلكته فصدقة الكافر كزرع هذا الظالم لنفسه، ونفقة الكافر هنا: صدقاتهم على أقربائهم تقرباً إلى الله عز وجل.
وقيل: نفقتهم هو ما ينفقون على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه.
وقيل: هي نفقة الكافر في الدنيا.(2/1103)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
وقيل: هي قوله بلسانه ما ليس في قلبه فهو لا ينفعه [كما لا ينتفع] بالزرع الذي أصابته الريح التي فيها برد شديد.
ومعنى {كَمَثَلِ رِيحٍ} أي: كمثل مهلك ريح، فتحقيق المثل إنما هو للحرث.
والتقدير: مثل نفقة هؤلاء كمثل حرث أصابته ريح فيها صرٌ فأهلكته، فهو بمنزلة قوله: {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً} [البقرة: 171] والمعنى: [كمثل] المتعوق به أي: مثلهم في أنهم لا يعقلون ما يقال لهم كمثل الغنم لا تعقل بما يقال لها.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ. . .}.
نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين والمنافقين أولياء في هذه الآية. والبطانة: الدخيلة الذين يطلعهم الرجل على سره لأنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على المؤمنين، فأمر الله المؤمنين ألا يداخلوهم.
وقيل: البطانة: الأصدقاء، وقيل: للأخلاء، والمعنى في ذلك متقارب ومعنى {مِّن دُونِكُمْ} أي: من دون أهل دينكم كما قال: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي: على أهل دينكم
{لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي: لا يقصرون في السوء والشتات بينكم، وهي البطانة(2/1104)
المنهي عنها. {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي: يتمنون لكم العنت والشر في أنفسكم ودينكم.
وقيل: " ودوا عَنَتكم، أي: ما شق عليكم، وما نزل بكم من مكروه وضر. وأصل هذا أن يقال: أكمة عنوت: إذا كانت طويلة شاقة.
ويقال: عنت العظم: إذا انكسر بعد جبر، ومنه قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت [مِنْكُمْ]} [النساء: 25] أي: المشقة.
ونزلت هذه الآية في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة قال ذلك ابن عباس. فنهاهم الله أن يصادقوهم دون المؤمنين وأن يستهجوهم في شيء من أمر دينهم فإنهم لا يقصرون في الخبال والشر لهم.
وأكثر أهل التفسير على أنها نزلت في النهي عن مصافاة اليهود والمنافقين(2/1105)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
ومخالطتهم ومصادقتهم وإنشاء الشر إليهم وأخبرهم أنهم يودون كفرهم وإضلالهم وما ينزل بهم من شر.
وقوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} هو خبر مستأنف وليس بحال من البطانة.
وقد قيل: إن {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} صفة ثانية للبطانة والصفة الأولى {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}.
{قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: ظهرت بألسنتهم وهو إقامتهم على الكفر، أو النفاق، والذي تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة لكم مما بدا لكم بألسنتهم {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} أي: العبارات من أمر هؤلاء {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} عن الله آياته ومواعظه.
{هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} الآية.
معناها: " أنتم أيها المؤمنون تحبون الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.
وقيل [هم] المنافقون نهى الله المؤمنين عن محبتهم لأن المؤمنين أحبوهم لما أظهروا الإيمان، فأخبر الله بما يسرون من العداوة والبغضاء لهم، ولأنهم لا يحبونهم، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ فقال: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: بل يبطنون لكم(2/1106)
العداوة والغش.
وأولاء عند الطبري بمعنى: الذين، وهي على بابها عند غيره وأنتم: ابتداء، وأولاء: الخبر.
وذهب القتبي إلى أنه نداء والمعنى: أنتم يا هؤلاء.
وقيل: الضمير للمنافقين بدليل قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا}
وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} الكتاب هنا بمهنى: الكتب كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس، يريد الدراهم.
وقال ابن عباس: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} أي: بكتابكم وبكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك. وهذا يدل على أن الآية التي قبلها في اليهود دون المنافقين لأنهم أهل كتاب، ولا كتاب للمنافقين.
قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} أي: عضوا على ما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم - والأنامل أطراف الأصابع - {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} أي: بالغيظ(2/1107)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
الذي بكم أي: اهلكوا به، وهو دعاء في لفظ الأمر.
[قوله] {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ}.
معناها أي: إن تنالوا سروراً، [وظفر] بعدوكم وزيادة الناس في الدخول في الإسلام، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ساء ذلك اليهود. وقيل: يعني المنافقين - وإن يصبكم ضرر من عدوكم واختلاف بينكم فرح بذلك اليهود.
وقيل: هم المنافقون.
{لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}.
من قرأ بكسر الضاد، والتخفيف، فهو من ضاره يضيره، وجزمه لأنه جواب الشرط. ومن قرأ يضركم فهو يحتمل ثلاثة أوجه: يجوز أن يكون ضم لالتقاء الساكنين مع الإدغام، وأصله يضرركم من ضره يضره فيم على لغة من قال: مد يا في كمن قال مديا.(2/1108)
وأهل الحجاز يظهرون في مثل هذا التضعيف، وقوله {إِن تَمْسَسْكُمْ} أظهر على لغة أهل الحجاز، ولا يضركم أدغم على لغة غيرهم.
وقال الكسائي والفراء: رفعه على إضمار الفاء على معنى فليس [يضركم].
وقيل: هو مرفوع على تقدير التقديم والمعنى لا يضركم كيدهم إن تصبروا كما قال:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
وإجماعهم على الأخير يدل على قراءة من قرأ بالتخفيف.
وروى المفضل عن عاصم لا يضركم بالتشديد والفتح، وهو أحسن من(2/1109)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
الضم لأن الضم فيه إشكال.
قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين} الآية. معناه واذكر إذ غدوت.
واليوم الذي عنى به ذلك: يوم أحد عند مجاهد، وهو قول ابن عباس والسدي. وقال الحسن: هو يوم الأحزاب.
واستدل من قال يوم أحد بقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} ولم يختلف المفسرون، وأهل السير أن الطائفتين هم بنو سلمة وبنو حارثة، وأن الذي ذكر من أمرهما إنما كان يوم أحد.
واحتج من قال هو [يوم] الأحزاب بأن أهل الأخبار والتواريخ يقولون: إنما راح النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعدما صلى الجمعة بالناس في المدينة والله يقول: {وَإِذْ غَدَوْتَ} ولم يقل: وإذ رحت. وقيل: " إنما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة غدوة أن يفتقدوا مواضع لنفسهم وجلس حتى صلى عليه السلام ثم خرج، فتبوؤه كان بالغداة بأمره لهم ومشورته إياهم ".
و" لما شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما يصنع أتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله، لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق، لأدخلن الجنة. فقال: بم؟ قال: يا(2/1110)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
نبي الله بأني أشهد ألا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله وأني (لا) أفر من الزحف، قال: " صدقت " فقتل يومئذ. وقالت: الأنصار: يا رسول الله، ما علمنا عدواً لنا أتانا في دارنا قط فكيف وأنت فينا؟ وسألوه الخروج إليهم وكان رأي عبد الله هذا اسم أبيه أُبي واسمه عبد الله بن أُبي بن سلول ألا يخرج ويدعهم يدخلون وأكثر عليه الأنصار بالخروج إليهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرعه فلبسها فلما رأوه قد لبسها ندموا وقالوا: كيف نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحي يأتيه، فقاموا، واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته، فيضعها حتى يقاتل " ".
قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}.
معناه: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}. والعامل في " إذ " ما قبله. والفشل: الجبن والضعف. والطائفتان هم بنو حارثة وبنو سلمة وذلك يوم أحد هموا بأمر فعصم الله منه، وهم خيار الأنصار.(2/1111)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
وقد قال مجاهد: أما بنو سلمة فهو نحو سلع يوم الخندق قال السدي: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد في ألف رجل فلما خرج رجع عبد الله بن أُبي بن سلول في ثلاثمائة فهمَّ بنو حارثة، وبنو سلمة بالرجوع حين رجع عبد الله فعصمهم الله، وبقي رسول الله في سبعمائة وبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس.
قال جابر بن عبد الله: نحوهم بنو سلمة وما يسرنا أنها لم تكن.
فمعنى: إذ همت طائفتان منك أن تفشلا [لقول الله] والله وليهما.
قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. . .}.
هذا تذكير من الله لنبيه عليه السلام وللمؤمنين بنصره لهم في بدر، فالمعنى: فكذلك ينصركم فيما بقي.(2/1112)
ومعنى {أَذِلَّةٌ}: قليلون، فقد نصركم الله وأنتم قليلون فهو إلى نصركم وأنتم كثيرون أقرب، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، ويوم أحد ثلاثة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفاً. وكانت بدر في سبع عشرة ليلة خلت من رمضان لثمانية عشر [شهراً] من الهجرة بعد تحويل القبلة بشهرين، كذلك رواه مالك وكانت أحد على رأس واحد وثلاثين شهراً من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في شوال يوم السبت للنصف من شوال من سنة ثلاث.
قال مالك: فقتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ومن الأنصار سبعون.
قال مالك: " بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم أحد كسرت رباعيته وأصيبت وجنته، وجرح في وجهه وتهشمت البيضة على رأسه وأنه أتى بماء في جحفة فكان يغسل به عنه الدم، وأحرق له حصير فأتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب [الله] على قوم أدموا وجه رسوله " فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية ".(2/1113)
وقال أنس: كان يمسح الدم عن وجهه ويقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ}.
قال أبو سعيد الخدري: " رمى عتبة بن أبي وقاص يومئذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] فكسرت رباعيته اليمنى وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته، وأن ابن قميئة جرح وجنته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة حتى استوى(2/1114)
قائماً، ومص ما لك بن سنان، ابو أبي سعيد الخدري الدم عن وجهه ثم ازدرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مس دمه دمي لا تصيبه النار " ".
وسمي الموضع بدراً لأنه كان لرجل يسمى بدراً، فسمي الموضع باسم صاحبه. وقيل: كان هناك بير يسمى صاحبه بدراً، فسمي الموضع باسم صاحب البير، وقيل هو اسم للموضع وهي قرية بين المدينة والجار، وهو أول قتال قاتله النبي عليه السلام، اجتمع فيه مع المشركين على غير تواعد.
وقوله: {فاتقوا الله} أي: قد كنتم قليلين فنصرتم بلزومكم الطاعة، وقد نزل بكم ما نزل يوم أحد وأنتم كثرة، وذلك لمخالفتكم لأمر نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو ما فعل الرماة جعل الله عز وجل
" ما أصيب من المشركين يوم أحد عقوبة لما فعل الرماة، إذ عهد إليهم النبي عليه السلام ألا يبرحوا من مكانهم فمضوا للنهب وظنوا أن المشركين قد فرغ منهم، وقد كان قال لهم النبي عليه السلام: " لا تبرحوا، فلن يزال النصر لنا ما ثبتم في مكانكم " فلما رأوا المشركين قد انهزموا اطمأنوا وزالوا من مكانهم طمعاً في النهب فرجعت الهزيمة على المسلمين، فأصيب خلق كثير كل ذلك بذنوب الرماة ومخالفتهم ما أمر به نبيهم صلى الله عليه وسلم فذلك قوله: {فاتقوا الله} أي: لا تعصوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمره لكم.(2/1115)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
قوله {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ}. إذ متعلقة بتشكون. والمعنى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم، وذلك كله يوم بدر، وذلك أن المسلمين حُدِّثوا أن كرز بن جابر الحارثي بمد المشركين فاغتنموا لذلك، فقيل لهم {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} {بلى إِن تَصْبِرُواْ} على عدوكم {وَتَتَّقُواْ} أمر دينكم {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} ثم لم يأت كرز، ولم يمددهم الله بخمسة آلاف. وقال أبو أسيد مالك بن ربيعة وكان شاهد بدر وقد ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم [ببدر] ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، فعلى هذا يكون الله قد أمدهم وفعل بهم ما وعدهم به.
وقال ابن عباس: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من تكون. قال: فبينما نحن على الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم قال: أما ابن عمي فأكشف قناع فلبه فمات مكانه، أما أنا فكدت(2/1116)
أهلك، وتماسكت.
وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر وإنما كانوا في غيره من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون.
وحكى أبو داود المازني وكان شهد بدراً قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري.
وحكى ابن عباس عن أبي رافع أنه قال: كنت أسلمت مع العباس بمكة، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان قد خرج مع القوم وكنت أجلس في حجرة زمزم أنحت القداح، فوصل إلينا خبر أهل بدر وما نزل بهم، فسرنا، فدخل أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال له: أخبرني كيف كان أمر(2/1117)
الناس؟ قال: لا شيء، والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا، ويأسروننا كيف شاؤوا! لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، وما تلين شيئاً، وما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة. ثم قلت: تلك الملائكة.
قال ابن عباس: " أسر أبو اليسر كعبُ بنُ عمرو العباسَ وكان أبو اليسر رجلاً مجموا وكان العباس رجلاً جسيماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أسرت العباس؟ فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك، ولا بعده هيأته كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه والله ملك كريم ".
وقيل: إن قوله: {إِذْ تَقُولُ} وما بعده في قصة يوم أحد هو كله وإنما وعدوا يوم بدر بأن يمدهم الله بألف من الملائكة مردفين.
قال قتادة: قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليلون. ثم رجع إلى قصة أحد فقال: إذ تقول للمؤمنين الآيات ووعد الله [تعالى] المؤمنين يوم أحد أنهم إن ثبروا واتقوا بعد هذا اليوم أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسمين ففروا يوم أخد، ولم يتقوا النبي صلى الله عليه وسلم [ في أمره، فلم يمدهم بشيء.(2/1118)
وقال ابن زيد: " سألوا النبي صلى الله عليه وسلم] فقالوا يا رسول الله: هل يمدنا كما أمدنا يوم بدر؟ وذلك يوم أحد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} " قال الشعبي وغيره: وعدهم بخمسة آلاف، إن جاءوا من ذلك الفور، فلم يجيئوا ولم يمدهم بخمسة آلاف وأمدهم يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، يوم أحد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين فهم أربعة آلاف وهم اليوم في جنود المسلمين.
ومعنى {مِّن فَوْرِهِمْ هذا} أي: من وجههم هذا.
وقيل: من غضبهم هذا لأنهم غضبوا يوم بدر.
واستدل من قال أنه تعالى قد أمدهم بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}.
وقال مجاهد: معنى مسومين " معلَّمين مجززة أذناب خيلهم ونواصيها [فيها] الصوف العهن، وذلك التسويم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن سيماهم يومئذ الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها وأنهم(2/1119)
كانوا على خيل بلق وقد سوم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصوف.
وقيل: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر، وكذلك كانت عمامة الزبير.
وهذا كله يوم بدر، على كسر الواو لأنها سومت أنفسها، ومن فتح أضاف تسويمها إلى الله [تعالى ذكره. ومن فتح الواو أيضاً احتج بقوله {مُنزَلِينَ} بإضافة النزول إلى الله] سبحانه فكذلك التسوم، كانوا أنزلوا مسومين.
وقيل: معنى مسومين: مرسلين من سومت الخيل: أرسلتها إلى السائمة. وحكى بعض النحويين سوم الرجل غلامه أرسله، وخلا سبيله فيكون المعنى على هذا مرسلين إلى الكفار وكذلك (قال) الأخفش معناه: مرسلين.
وأكثر الناس على أن معنى مسومين معلمين: من السومة.(2/1120)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
وقال مجاهد: لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وقال: مسومين معلمين بالصوف في أذناب خيلهم.
قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ} الآية.
أي: ما جعل الله النصر والمدد والوعد بذلك إلا بشرى لكم ولتسكن إليه قلوبكم.
وقال مجاهد: لم يقاتلوا معهم يوم أحد، ولا قبله ولا بعده إلا في يوم بدر.
{وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله}. قال ابن زيد: لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل لأنه عزيز في انتقامه حكيم في تدبيره.
فالهاء في {جَعَلَهُ} تعود على الإمداد، ودل عليه {يُمِدَّكُمْ} وقيل: تعود على المدد، وهم الملائكة لدلالة يمددكم على الملائكة الين يُمَدُّ السلمون بهم، وقيل: تعود على التسويم.
وقيل: تعود على الإنزال لدلالة [منزلين] على ذلك.
وقيل: تعود على العدد لأن خمسة آلاف عدد، فرجعت الهاء على المعنى.
قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا} الآية. المعنى: ليقطع طرفاً من الذين كفروا(2/1121)
نصركم، فبهذا تتعلق اللام. ويجوز أن تكون متعلقة بـ " يمددكم ".
والطرف: الطائفة [من الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم] .
[ وتقدير الآية {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} فيهلك من الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم] .
قال قتادة: قطع الله بدر طرفاً من الذين كفروا، وقتل صناديد رؤسائهم في الشر. وقال السدي: عنى بذلك يوم أحد قتل منهم ثمانية عشر رجلاً، فذكرهم الله في قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}، ثم ذكر الشهداء فقال بعد ذلك {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 169] ومعنى: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ}.
وقيل: معناه: أو يصرعهم لوجوههم سُمِعَ من العرب كبته الله لوجهه بمعنى صرعه. ذكره أبو عبيدة، وعن أبي عبيدة أيضاً، الكبت: الهلاك، وقيل: معناه: يغيظهم ويخزيهم ومنه {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5].
والأصل فيه عند أهل النظر يكبدهم من أصاب كبده بشر وحزن وغيظ، ثم أبدل من الدال تاء لقرب مخرجهما كما قال: هرت التوب وهردت إذا حرضه يقال قد(2/1122)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
أخرق الحزن كبده، والخائب الذي لم ينل ما أمل.
قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية.
هذا معطوف عند الطبري وغيره على {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، والمعنى عنده: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} ففي الكلام في قوله تقديم وتأخير. وعند غيره أو بمعنى إلا، فهي الناصبة بإضمار إن، ولا تقديم ولا تأخير في الكلام.
ومعنى الآية: ليس لك يا محمد من الحكم في عبادي شيء، أو أتوب عليهم برحمتي إن شئت، فيؤمنوا أو أعذبهم فيموتوا على كفرهم {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي: قد استحقوا العذاب بظلمهم. وكان سبب نزول هذه الآية " أن النبي عليه السلام لما أصابه بأحد ما أصابه قال كالآيس منهم أن يؤمنوا: " كيف يفلح قوم فعلوا [هذا] بنبيهم " وقد كانوا كسروا رباعيته، وشج، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول " كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم "؟ فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء حين نزلت عليه الآية، وكان قد دعا عليهم قبل الآية وقال، في عتبة بن أبي وقاص حين كسرت رباعيته، ووشاء وجهه فقال(2/1123)
" اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً " فما حال عليه [الحول] حتى مات كافراً ".
وقال ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية ".
وروى أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الفجر فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم انجِ عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم اشدد وطأتك(2/1124)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
على مضر اللهم سنين كسني يوسف فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية " وروى ذلك أبو هريرة أيضاً - عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه قال: " واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وزاد فيها الدعاء على قوم آخرين "، فلما نزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} ترك ذلك.
وروى ابن وهب عن رجاله يرفعه إلى النبي عليه السلام " أنه كان يدعو على مضر إذ جاء جبريل صلى الله عليه وسلم فأومأ إليه أن اسكت، فسكت فقال يا محمد: إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً، وإنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذاباً {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} قال: ثم علمه القنوت " اللهم إنا نستعينك. . . إلى آخره ملحق ".
وقال بعض الكوفيين: إن هذه ناسخة للقنوت الذي كان النبي عليه السلام جعله في صلاة الصبح، وأكثر الناس على أنه ليس بمنسوخ.
قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}. هذا تأكيد لما قبله أن الله له كل الأشياء يفعل ما يريد ويحكم ما يريد فيغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء ويعذب من يشاء.
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [أضعافاً]: حال من الربا.(2/1125)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
قال النحاس: هو مصدر، وهو غلط منه، وهذا نهي من الله عز وجل للمؤمنين أن يأكلول الربا بعد إسلامهم.
ومعنى {أضعافا} أي: تضعفون الدين إذا أخرتم الأجل، كان الذي عليه الدين يقول: أخرني، وأزيدك فإذا حان قال: أخرني وأزيدك، فيتضاعف الدين عليه.
{واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تنجون. والمفلح الذي أدرك ما أمل ونجا مما خاف.
{وَأَطِيعُواْ الله والرسول} أي: أطيعوه فيما نهاكم عنه من أكل الربا، وأطيعوا الرسول أن تخالفوه كما خالفتموه يوم أحد فهذه معاتبة من الله عز وجل للذين عصوا يوم أحد، قال ابن عباس.
قوله: {سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} الآية. معناه: بادروا بالأعمال الصالحات، أي: إلى ستر ذنوبكم من ربكم، والمغفرة الستر - ومنها المغفر. وسارعوا أيضاً إلى جنة هذه صفتها.
ومعنى {عَرْضُهَا السماوات والأرض}.: أي عرضها كعرض السماوات السبع، والآراضين السبع إذا ضم بعضها إلى بعض. قال ابن عباس: تقرن السماوات السبع، والآرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذلك عرض الجنة ولا يصف أحد طولها لاتساعه، والله أعلم بذلك. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: لو أن السماوات بسطن، ثم وصل بعضها إلى بعض ما كُنَّ في سعة خلق الله إلا بمنزلة(2/1126)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
الحلقة في المفازة. وكم لله من عالم أعظم من السماوات والأرض!
[وروي أن لله تعالى اثني عشر عالماً السماوات والأرض] منها عالم واحد.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: والله أعظم من ذلك كله، ويقدر على أكثر من ذلك كله لا إله إلا هو.
وقد قيل معنى {عَرْضُهَا السماوات والأرض} أي: سعتها كسعتهن ومن قول العربي أرض عريضة أي: واسعة، وليس يريد العرض الذي هو خلاف الطول.
قال أنس بن مالك: يعني بالمسارعة: التكبيرة الأولى.
وسئل النبي عليه السلام وقيل له: " هذه الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال: هذا النهار إذا جاء فأين الليل؟ " وروي أن بعض أهل نجران سألوا عمر عن ذلك فأجابهم بذلك فقالوا: لقد نازعت بمثل ما في التوراة.
قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} الآية.
هذه صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة ينفقون أموالهم في الله في حال السرور.
والسراء مصدر سرني مسرة وسروراً.
والضراء مصدر، قد ضُرَّ فلان إذا أصابه الضر، وهو الضيق والجهد. قال ابن(2/1127)
عباس: في السراء والضراء في اليسر، والعسر.
{والكاظمين الغيظ} أي: الذين يتجرعون غيظهم عند امتلاء أنفسهم. وقيل الكظم: الحبس، فمعناه: والحابسين غيظهم {والعافين} أي: الصافحين عن جنايات الناس وذنوبهم وهم على الانتقام قادرون.
قال أبو العالية: {عَنِ الناس} أي: عن المماليك.
وقال النبي صلى الله عليه سلم " من كظم غيظاً، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً " وقال ابن عباس: هذا كقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى 34] {والعافين عَنِ الناس} مثل قوله:
{وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} [النور: 22]. . . إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] الآية.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تجرع عبد جرعة خير له من جرعة غيظ ".(2/1128)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
وقال " أفضل أخلاق المسلمين العفو ".
{والله يُحِبُّ المحسنين} أي: يحب من عمل بهذه الصفات. وعن الحسن أنه قال: {والكاظمين الغيظ} عن الأرقاء {والعافين عَنِ الناس} إذا ما جهلوا عليهم.
قوله: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية.
هذا كله من نعت المتقين الذين أعدت لهم جنة عرضها السماوات والأرض. وروي عن جابر أنه قال: الفاحشة هنا: الزنا وكذلك (قال) السدي.
وقيل: هي كل فعل قبح [في] الشر [ع].
ومعنى {أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ}: فعلوا غير الذي ينبغي.
قال النخعي: الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم.
ومعنى {فاستغفروا} أي: استدعوا الغفران من الله عز وجل وهو الستر على فعلهم {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} أي: من يسترها على فاعلها إلا الله.
وقال عطاء بن أبي رباح: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يا نبي الله، بنو إسرائيل(2/1129)
أكرم على الله منا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه [على بابه] مكتوبة: أجدع أنفك، افعل كذا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت {سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. . . إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلكم؟ ثم قرأ الآيات. فقيل: إنها خصوص أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن بني إسرائيل كانت تمتحن على ذنوبها، وتعاقب عليها في الدنيا ".
قال ثابت البناني لما نزلت. {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية: بكى إبليس فزعاً منها، قال: وبلغني أنه بكى حين نزلت {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} الآية.
قال علي بن أبي طالب: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ينفعني الله منه بما يشاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، فيحسن الطهور، ثم يستغفر الله إلا غفر له " ثم تلى هذه الآية {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً}.
وروي عنه زيادة في هذا الحديث وهو أنه قال: ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر.(2/1130)
وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه ثمراً فضرب على عجزها فقالت: والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك؟ فأُسقط في يده، فذهب إلى أبي بكر فقال له: إياك أن تكون امرأة غازٍ. ثم قال له عمر مثل ذلك، وقال النبي عليه السلام مثل ذلك، فذهب يبكي فنزلت في اليوم الرابع {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية.
وقال النبي عليه السلام: " إن الله يغضب للغزاة كما يغضب للمرسلين ويستجيب لهم كما يستجيب للمرسلين ".
وروي أن نبهان التمار أقام ثلاثة أيام صائماً حزيناً يبكي على ذنبه، فلما نزلت الآية أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بها فشكر الله، ثم قال: يا نبي الله هذه توبتي قبلها الله مني، فكيف حتى يتقبل شكري؟ فأنزل الله
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] الآية. ومعنى {ذَكَرُواْ الله} [أي]: ذكروا نهي الله عما ركبوا وما أحدثوا فاستغفروا {لَمْ يُصِرُّواْ} أي: لم يتمادوا ولم يثبتوا على ما فعلوا.
وقيل {لَمْ يُصِرُّواْ} أي: لم يسكتوا عن الاستغفار قاله السدي.
والمعنى عند أكثر المفسرين، وأهل اللغة لم يقيموا متعمدين على الذنب، وترك التوبة منه.(2/1131)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
وقال الحسن: المعنى لم يواقعوه إذ هموا به، جعل الآتي للذنب مصراً في حال إتيانه، وهو بعيد عند أهل اللغة، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ".
وقال السدي: معنى {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: لم يقيموا على ترك الاستغفار وهم يعلمون [أنهم اذنبوا. وقيل: المعنى يعلمون أن الذي أتوا معصية. وقيل المعنى {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}] أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل المعنى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إني معاقب على الإصرار. وقيل: المعنى: وهم يذكرون ذنوبهم.
قوله {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ} الآية.
المعنى: أولئك الذين مضت صفتهم جزاؤهم مغفرة أي: ثوابهم مع ما ذكر مما أعد لهم {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي: ثواب المطيعين.
قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض}.(2/1132)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
المعنى: قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم يا أصحاب محمد سنن وسير نحو: إهلاك عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم فتركتهم عبراً {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} للرسل الجاحدين للكتب. وهذا إعلام من الله تبارك وتعالى للمؤمنين أنه سيهلك من أدال له على المسلمين للمشركين يوم أحد، وأنه إنما فعل لهم ذلك استدراجاً منه لهم، وإمهالاً حتى يبلغ الكتاب أجله. وأصل السنة الطريقة المستقيمة.
وقيل: {سُنَنٌ} هنا أمثال فيمن كان قبلكم.
قوله: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} الآية.
وقال الحسن: {هذا} إشارة إلى القرآن، وقاله قتادة.
وقال الربيع: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} عامة وهو القرآن {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} خاصة.
وقال ابن اسحاق: {هذا} إشارة إلى قوله {قَدْ خَلَتْ} الآية.
وقال الشعبي: {وَهُدًى} من الضلال {وَمَوْعِظَةٌ} من الجهل وذلك لمن اتقى المحارم.
قوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} الآية هذه الآية تعزية لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيما(2/1133)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
أصابهم يوم أحد من الجراح، والقتل فعزَّاهم الله، وبشّرهم أنهم الأعلون. ومعنى {وَلاَ تَهِنُوا}: لا تضعفوا عن قتال عدوكم {وَلاَ تَحْزَنُوا} على ما فات، فإلى النعيم المقيم صار، وأنتم مع ذلك الظافرون فيما تستقبلون {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين لمحمد صلى الله عليه وسلم وما أتى به.
قال ابن جريج: " لما انهزم أصحاب النبي عليه السلام يوم أحد في الشعب قالوا: ما فعل فلان، ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضاً، وتحدثوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم [ قتل، فكانوا في هم وحزن على النبي صلى الله عليه وسلم] فبينا هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد [الجبل] بخيل من المشركين فلما رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا، وثاب قوم من الرماة [من المسلمين فصعدوا الجبل فرموا المشركين حتى انهزموا وعلا المسلمون الجبل فنزل {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا قوة إلا بك وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر " ".
قال ابن عباس: لما أتى خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل بخيل معه، قال النبي عليه السلام: " اللهم لا يعلون علينا " فأنزل الله: {وَلاَ تَهِنُوا} الآية.
قوله {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ} الآية.
هذا تعزية للمسلمين فيما أصابهم من الجراح والقتل يوم أحد وأنهم إن كان(2/1134)
أصابهم ذلك فقد أصاب المشركين مثله يوم بدر، ثم قال: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أي: إن ظفرتم يوم بدر فكانت لكم دولة، ثم كانت الدولة للمشركين يوم أحد غليكم بمعصيتكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم كل ذلك ليبتلي الله المؤمنين، وليبلغ الكتاب أجله. وروي أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل من المسلمين يوم أحد سبعون، وكثر الجراح في الباقين حتى شج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته والقَرح والقُرح لغتان عند الكسائي والأخفش وقطرب كالضُعف والضَعف.
وقال الفراء: الفتح اسم الجرح، والضم اسم الألم.
ولم يعرف أبو عمر الضمن. وقال يعقوب الحضرمي: المفتوح ما كان بسلاح، والمضموم الجهاد كذا وقع عنه.
قال ابن عباس: " لما كان يوم أحد وأصاب المسلمين ما أصاب صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل فجاء أبو سفيان فقال يا محمد: الحرب سجال يوم لنا، ويوم لكم فقال النبي عليه السلام: أجيبوه فقالوا له: لا سواء لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في الناؤ. فقال له أبو سفيان: لنا عزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه. فقالوا: الله مولانا ولا مولى(2/1135)
لكم [فقال أبو سفيلن: أعل هبل أعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل]. فقال أبو سفيان: موعدنا، وموعدكم بدر الصغرى، فنزلت {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} ".
قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين} أي: داوها ليعلم الله المؤمنين من المنافقين علم مشاهدة، وهو عالم بهم قبل أن يخلقهم الله ولكن أراد العلم الذي يقع عليه الجزاء {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} أي: يكرم من أراد بالشهادة.
والشهداء جمع شهيد، وسمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة.
قال ابن جريج: كان المسلمون يسألون الله أن يريهم مثل يوم بدر، فيقاتلون ويلتمسون فيه الشهادة، فابتُلوا بيوم أحد، فخالف الرماة، فقتل من المسلمين، واتخذهم الله شهداء، فبلغهم أملهم الذي كانوا قد أملوا وسألأوا.
وقال ابن عباس: يسألون الشهادة فقتلوا يوم أحد.
تم الجزء التاسع(2/1136)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
قوله: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ}.
المعنى: داول الله [الأيام] بين الناس، فيعلم المؤمنين من المنافقين، وليمحص ذنوب المؤمنين. يقال: محصه إذا خلصه فمعناه على هذا: وليخلص الله المؤمنين من ذنوبهم داول الأيام بين الناس، ومنه قولهم: اللهم محص عنا ذنوبنا أي خلصنا من عقوبتها. وقيل: معنى ليمحص ليبتلي.
ومعنى: {وَيَمْحَقَ الكافرين} أي: يستأصلهم. وقيل يمحق أعمالهم. وقيل: ينقصهم ويفنيهم.
يقال: محق فلان الطعام إذا نقصه وأفناه.
وقال مجاهد: وليمحص وليختبر.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ} الآية.
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر {وَيَعْلَمَ الصابرين} عطفاً على {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله}.
ومن نصب في ظهر " أن " عند الخليل وسيبويه، وعلى الصرف عند الكوفيين،(2/1137)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
ومعنى الصرف عندهم أن يكون في أول الكلام جحد، أو استفهام أو نهي، ولا تمكن إعادته مع حرف العطف فإذا لم تمكن إعادته لم يعطف بالثاني على الأول، ولكن يصرف على العطف على النصب.
والمعنى: أم حسبتم أيها المؤمنون أت تنالوا الكرامة، ولم تختبروا بالشدة والبأساء، فيعلم منه صدقكم وصبركم واقعاً وقد كان تعالى ذكره، علمه غيباً، ولكن لا تقع المجازاة إلا على ما خرج من الأفعال إلى الوجود.
قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} الآية.
المعنى: لقد كنتم يا أصحاب محمد تتمنون الموت، وذلك أن أناساً فاتهم حضور بدر، وما أ'طي أهل بدر من الفضل، فكانوا يتمنون الموت أن يجاهدوا، فيبلوا العذر في القتال في الله عز وجل.
ومعنى: {تَمَنَّوْنَ الموت} أي: القتل الذي هو سبب الموت {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: رأيتم سبب الموت {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي: بصراء تشهدون ذلك عن قرب.
قال القتبي {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}: يعني أسباب الموت وهي السيف والسلاح.
وقيل: الهاء في رأيتموه تعود على محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما كان يوم أُحد حضروا القتال، فولى قوم وأبلى [قوم] العذر، وأوفوا بما(2/1138)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
عاهدوا، وهم الذين قال الله فيهم: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] أي: استشهد فقتل، {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} أي: الشهادة {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أي: ما بدلوا العهد الذي عاهدوا الله عليه من ابتلاء العذر في الجهاد في الله عز وجل.
وقيل: إنهم كانوا يتمنون الشهادة في القتال فقتلوا يوم أحد.
قال الحسن: لما سألوا، ابتلوا بيوم أحد [فلا] والله ما كلهام صدق.
قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية.
معنى الآية أن الله أخبرهم أن محمداً كبعض رسله المتقدمين في الرسالة والدعاء، الذين قد مضوا وخلوا، فلما حضرت آجالهم ماتوا فمحمد صلى الله عليه وسلم مثلهم ميت عند انقضاء أجله، وهذا إنما هو معاتبة من الله للمؤمنين على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل فب أحد إن محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، ومقبحاً لهم انهزام من انهزم منهم حين سمع ذلك.
ومعنى: {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} أي: ارتددتم عن دينكم لو مات، وهل هو إلا مثل من تقدمه من الرسل ميت عند انقضاء أجله؟ فلو مات أكنتم تكفرون؟
{وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} أي: من يرتدد عن دينه {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} سبحانه ارتداده. وفي(2/1139)
لفظ الاستفهام تقديم وتأخير، وذلك أنهم إنما وبخوا وعوذلوا على الانقلاب على العقبين، فهم لم ينكروا موت محمد صلى الله عليه وسلم فيقع عليه لفظ الاستفهام الذي يدل على التوبيخ، ولا أنكر عليهم ذلك، إنما أنكر عليهم انقلابهم، فحق الاستفهام الذي للتوبيخ أن يقع على ما أنكر عليهم وهو انقلابهم، ومثله {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] لم يستفهم عن الموت وإنما استفهم عن خلودهم بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم؟ أيكون أم لا؟ فحق الاستفهام أن يقع عليهم، فيكون: أفهم الخالدون إن مت؟ وكذلك هذا حقه. أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل؟ ففيه اتساع معروف في كلام العرب مشهور قد علم معناه. والأصل في ذلك أن كل استفهام دخل على حرف الجزاء، فالاستفهام في غير موضعه وحقه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط داخلاً على الجواب، فهذا تقديره حيث وقع.
أو قولهم {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} أي: وسيثيب الله عز وجل من شكره على هدايته له، وتوفيقه إياه.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أبو بكر أمير الشاكرين، فالآية إنما نزلت فيمن انهزم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: لما كان يوم أحد من الشناعة ما(2/1140)
كانت في قتل النبي صلى الله عليه وسلم قال ناس: لو كان نبياً ما قتل.
وقال ناس من عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله، أو تلحقوا به، فأنزل الله تبارك وتعالى في عتاب من قال: لو كان نبياً ما قتل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}.
وذكر الربيع أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
قال السدي: " لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم أحد بعد صلاة لجمعة يوم الجمعة، أمر الرماة فقاموا في أصل الجبل في وجوه خيل المشركين. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن لأسود على المشركين فهزموهم وحمل صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموهم وهزموا أبا سفيان.(2/1141)
فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة من المسلمين، فانقطع، فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينهبونه بادروا الغنيمة، فقال بعضهم لبعض: لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق عامتهم فلحقوا بالمعسكر فلما رأى خالد قلة من بقي من الرماة صاح فيه خيله، ثم حمل فقتل الرماة، وحمل على أصحاب محمد، فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل شدوا على المسلمين وتنادوا فقتلوا من المسلمين عدداً، وأتى ابن قميئة الحاري فرمى [رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته، وشجه في وجهه، وتفرق عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وصعد بعضهم الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها وجعل] رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس ويقول: [إلي عباد الله] فاجتمع إليه ثلاثنون رجلاً، وجعلوا يسيرون بين يديه، ولم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك فقال: يا كذاب، أين تفر؟ فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم طعنة في الدرع، فجرحة فوقه يخور خوار الثور، فحماه المشركون وقالوا: ليس بك بأس، فما(2/1142)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
يجزعك؟ فقال: أليس قال: لأقتلنك، لو كانت الضربة لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم فلم يلبث حتى مات [و] فشا في الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل فقال بعض أحصاب الصخرة: ليتنا أخذنا من المشركين أماناً، وضعفوا، وقال بعضهم: يا قوم إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فإن رب محمد صلى الله عليه وسلم لم يُقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم اللهم إنا نعتذر إليك مما قال هؤلاء ".
ويروى " أن الذي قال ذلك واعتذر: أنس بن النضر، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو حتى أتى أصحاب الصخرة فلما رأوه أراد رجل منهم أن يرميه، ولم يعرفه فقال: أنا رسول الله، ففرحوا وفرح رسول الله بهم، وذهب عنهم الحزن وأنزل الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية ".
وقال الضحاك: نادى منادٍ يوم أحد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول فأنزل الله {وَمَا مُحَمَّدٌ} الآية.
قوله {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الآية معناه: لا تموت نفس إلا بإذن الله، وليس هو نهي للنفس، لأن ذلك ليس هو في يديها وهو بمنزلة(2/1143)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] أي: كونوا مسلمين حتى يصادفكم الموت عليه، وليس هو نهي عن شيء لأن ذلك ليس إليهم ليس الموت في أيديهم، وله نظائر كثيرة ليس معناها النهي عن المذكور إنما معناها النفي، كأنه قال: لا تفارق الإسلام حتى يأتيكم الموت، وأنتم عليه كذلك.
هذا نعنى لا تموت نفس إلا بإذن الله، أخبرهم الله في هذه الآية أن محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره لا يموت إلا بإذن الله، وإذا أتى أجله. " وكتاباً " منصوب على المصدر أي كتب الله ذلك كتاباً.
قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من يرد بعمله أعراض الدنيا دون ما عند الله يعطه ما قسم الله منها يرزق أيام حياته، ولا حظ له في الآخرة، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة}، أي ما عند الله من الكرامة {نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} أي: سنتيب من أطاعني وقبل أمري، لأن اتباع أمر الله والعمل بطاعته من أعظم الشكر.
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ} الآية.(2/1144)
قال الخليل: من قرأ كأين بهمزة بعد ألف وهي قراءة أهل مكة فإنما قدم الياء قبل الهمزة ثم جعلها ألفاً وسكنت الياء الثانية لأنها بعد همزة مكسورة.
وأما من قرأ وكأي فإنها عند الخليل (أي): دخلت عليه كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم، فيجب على قوله أن تقف بغير نون في قراءة الجماعة كما تقف على (أي): وهو مذهب سيبويه وكذلك حكى عن أبي عمرو، والكسائي، وروي عنهما الوقف على النون.
فمن وقف بالنون في هذه القراءة، فإنما ذلك لأنه اتبع السواد وهو في المصحف بالنون على قراءة من قدم الألف قبل الهمزة وهي قراءة ابن كثير ومن قرأ: " قتل ": فالمعنى عند عكرمة أن القتل إخبار عما فعل بالأنبياء عليهم السلام، وأنهم قتلوا فيما مضى، وأن من كان معهم لم يضعف بعده ولا تضعضع.
ثم أخبر عن قولهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وثباتهم على دينهم، فيكون التمام على هذا قتل وفيه بعد لأن ما بعده من صفة نبي ويكون معنى الآية: أن الله وبخ بذلك(2/1145)
أصحاب النبي الذين ضعفوا يوم أحد حين قيل: قتل محمد! فأخبرهم أن كثيراً من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان معهم ليتأسوا بهم.
وقيل: المعنى أن الله عز وجل أخبر أنه قد قتل مع الأنبياء عليهم السلام {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} فما وهن من بقي ولا ضعف ولا ذل، فيتأسى المسلمون بهذا، فلا يضعفون لما أصاب أصحابهم من القتل يوم أحد، فلا يكون التمام على هذا قتل لأن " الربيون " مرفوع بقتل، والأول أحسن لأن كعب بن مالك قال: أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أنه لم يقتل: أنا، رأيت عينيه تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن: اسكت.
وكان قد صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد فانهزم المسلمون إلا قليلاً منهم، فأنزل الله عز وجل { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ} أي: كثير من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان بعده ولا ذل، فكيف اردتم أيها المؤمنون أن تضعفوا حين سمعتم الشناعة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فتأسوا أيها المؤمنون بمن كان قبلكم من أصحاب الأنبياء صلوات الله عليهم، الربيين.(2/1146)
وعلى تأويل اختار قوم من العلماء قراءة من قرأ قتل لأنهم عوقبوا على ضعف بعضهم لما سمعوا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قرأ قاتل حمله على معنى أنهم وهنوا لقتل أصحابهم وجراحم، فأنزل الله عز وجل عليهم يعلمهم أن كثيراً من الأنبياء قاتل مع أصحابه وأتباعه، فلم يضعفوا لما أصابهم من قتل وجراح فتأسوا بهم.
واختار بعض أهل اللغة قاتل لأنه أبلغ في المدح من قتل لأن الله تعالى إذا مدح من قاتل كان من قتل أدخل في المدح لأنه لم يقتل إلا بعد القتال، فالقاتل والمقتول ممدوحان في قراءة من قرأ قاتل وهو إذا مدح من قتل فليس من قاتل، ولم يقتل بالممدوح، فقاتل أبلغ في المدح للجميع.
" والربيون " الذين يعبدون الرب نسبوا إليه لعبادتهم إياه وإقرارهم له، وهو معنى مروي عن الحسن وغيره.
واحدهم ربي منسوب إلى الرب ولكن كسرت الراء اتباعاً للكسرة التي بعدها كما قالوا: نسي وعصي فكسروا الأول للاتباع، وقيل: الربانيون الجماعات.
وقيل: هم العلماء الألوف.(2/1147)
قال ابن عباس: ربيون جموع كثيرة.
وقال ابن جبير: علماء كثير.
وقال الحسن: فقهاء وعلماء.
وقال ابن المبارك: أتقياء صُبُر.
وقال ابن زيد: الربانيون الأتباع، والربانيون الولاة.
وقيل الربانيون: منسوب إلى الرب أيضاً واحد ربي وزيدت الألف والنون للمبالغة كالنسبة إلى الجهة: جهاتي ثم جمع بعد الزيادة وقد مضى ذكره.
وقال ابن زيد: هذا عتاب من الله عز وجل لأصحاب النبي عليه السلام حين صاح إليهم الشيطان يوم أُحد أن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم. وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء: رقبيون بضم الراء غُير أوله بالضم كما قالوا في النسب إلى الدهر دهري.
قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} أي: ما ضعفوا، ولا عجزوا لما أصابهم من آلام الجراح، وقتل أصحابهم: وقيل: لم يعجزوا لما أصابهم من قتل نبيهم صلى الله عليه وسلم ولا آلام جراحهم، ولم يعجزوا عن القتال في سبيل الله تعالى بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم.(2/1148)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
والوهن أشد الضعف.
وكان سعيد بن جبير يقول: لم أسمع بنبي قتل في الحرب، فلا يكون الوقف على قوله: قتل البتة.
قوله: {وَمَا استكانوا} أي: ما خشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم، ولكن مضوا على بصيرتهم في نصر دينهم وصبروا. قال ابن اسحاق: ما وهنو لفقد نبيهم،
وما ضعفوا عن قتال عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الحرب.
قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا}.
حكى الله عز وجل للمؤمنين قول الربيين الذين ذكرهم ليتأسوا بهم، فأخبرهم أنهم لم يعتصموا إلا بالصبر ومجاهدة عدوهم، ومسألة ربهم المغفرة والنصرة على عدوهم.
ومعنى: {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} أي: خطايانا وظلمنا لأنفسنا.
وقال الضحاك: هي الكبائر وسألوه المغفرة فيها.
قوله: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا} الآية]، المعنى: فأعطى الله المؤمنين الربيين ثواب الدنيا أي: النصر على عدوهم والظفر والغنيمة {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} أي: خير(2/1149)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
جزاء الآخرة وهو الرضوان من الله: {والله يُحِبُّ المحسنين} أثنى عليهم أنهم محسنون وأن الله يحبهم.
قوله {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} الآية. هذه الآية تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يطيعوا المنافقين والكافرين بمحمد في أمر، أو يقبلوا منهم نصيحة، وأ'لمهم أنهم إن قبلوا منهم ردوهم كافرين مثلهم، فيخسرون دنياهم وآخرتهم. قوله {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} أي: بل الله وليكم ينقذكم من طاعة الكافرين التي ترديكم فأطيعوه ولا تستنصروا بغيره فهو خير من استنصرتم به.
قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} الآية.
بشر الله تعالى المؤمنين بما صنع بالمشركين، ويصنع بهم.
قال السدي: " ارتحل المشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة إذا بلغوا بعض الطريق ندموا فقال لهم أبو سفيان: بئس ما صنعنا، قاتلناهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب وانهزموا، فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً فقالوا له: إذا لقيت محمداً، وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم. كذباً منهم لما قد جعل في قلوبهم من الرعب، وأعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأمرهم ورعبهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فلم يلحقهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب " ".(2/1150)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} الآية.
أعلم الله عز وجل المؤمنين أنه قد صدقهم وعده الذي أتاهم على لسان نبيه، وهو قوله للرماة بأحد: اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا هزمناهم، فإن لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره.
وقال لمن معه غير الرماة: إذا هزمناهم فلا تتبعوهم فقام الرماة بأصل الجبل.
ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم من أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار، فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط، وانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم ابن عم، فتركه وكبّر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجيز عليه؟ فقال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه، [ثم شد الزبير بين العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزمهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فنقمع، ثم أيقن الرماة بأن المشركين انهزموا، وأن(2/1151)
رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وأصحابه] ينهبونهم، فلحق أكثرهم بالعسكر من نهب وثبت [الأقل] لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل على من بقي من الرماة فقتلهم، وحمل على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تراجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم، وقتلوا وجرحوا فأصيب من المسلمين سبعون رجلاً، وكان أبو سفيان أقبل إلى المدينة في ثلاث خلون من شوال، فنزل بأحد، وكانوا في ثلاثة آلاف معهم مائتا فارس، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم [ في سبعمائة رجل، فمعنى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} أي: الذي وعدكم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم] من النصر إذا ثبت الرماة حق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم [أنهم] سيهزمون المشركين، فكان ما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم حق، فهو الوعد الذي صدقهم الله تعالى. فلما (فشلتم وتنازعتم وعصيتم) طلباً للغنيمة يعني ما فعله الرماة والذين اتبعوا الهزيمة {بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} وهو هزيمة المشركين. ومعنى {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي: تقتلونهم بعلمه، والحسن: القتل الذريع وذلك في أول الهزيمة التي كانت على المشركين قبل أن يزول الرماة من مكانهم.(2/1152)
وقيل: بإذنه بحكمه. وقيل: بتسليطه إياكم عليهم.
ومعنى: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} هو اختلاف الرماة قال قائلون: نمضي للغنيمة. وقال آخرون: لا نبرح ولا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى الأكثر وكان ذلك سبب قتل من بقي.
ومعنى: {فَشِلْتُمْ} جبنتم، وتخاذلتم، وعصيتم النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمركم به وقد كان الله تعالى: صدقكم وعده الذي أخبركم به نبيكم صلى الله عليه وسلم { أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من النصر إذ هزم عدوكم ولكنكم اخترتم الدنيا وهي الغنيمة.
قال مالك: لما نزلت يوم أحد: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} قال عبد الله بن مسعود: والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ما ظننت أن فينا أحداً يريد الدنيا.
ومعنى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} أي: يريد الغنيمة، وأخذ الأموال وقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد أن استوليتم عليهم، ورأيتم ما تحبون من هزيمتهم، وقتل صاحب رايتهم فعل ذلك بكم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يختبركم {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} هذا لمن عصى من الرماة خاصة. وقال ابن جريج: معنى(2/1153)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} إذ لم يستأصلكم بالقتل، وقاله غيره.
قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} الآية.
العامل في إذ عفا، كأنه قد عفا الله عنكم أيها المؤمنون {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: تلوون منهزمين في الوادي والرسول يدعوكم إليّ عباد الله، فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية اصتعاد، وفي الجبل صعود لأنه كالسلالم والدرج.
وقرأ الحسن " إذ تَصعَدون " بفتح التاء والعين على تأويل إنهم صعدوا الجبل منهزمين، وقد روي أن بعضهم صعد الجبل.
قال السدي: " لما وقعت الهزيمة على المسلمين دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إلي عباد الله إلي عباد الله ".
وقال القتبي: {إِذْ تُصْعِدُونَ} تبعدون في الهزيمة يقال: اصتعد في الأرض إذا أمعن(2/1154)
في الذهاب.
{وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي: لا ترجعون ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً من عدوكم {فأثابكم غَمّاًً بِغَمٍّ} أي: جزاكم بفراركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، وفشلكم عن عدوكم، ومخالفتكم غماً على غم، الباء في موضع على. ومعنى: {فأثابكم} جعل ما يقوم مقام الثواب لكم غماً بعد غم مثل: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، التوبة: 34، والانشقاق: 24]. فالغم الأول: ما لحقهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم حين سمعوا أنه قتل. والثاني: ما لحقهم من الجراح، وقتل أصحابهم لأنه قتل يومئذ ستة وستون من الأنصار وأربعة من المهاجرين.
قوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} أي: من الغنيمة {وَلاَ مَآ أصابكم} من ألم الجراح والقتل. وقيل: الغم الأول: ما صاحبهم على قتل أصحابهم، وجراحهم. والثاني: ما أصابهم حين سمعوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قتل. وقيل: الغم الأول: أسفهم على ما فات من الغنيمة. والثاني: اطلاع أبي سفيان عليهم في الجبل، فخافوا حين أتاهم، فرموه، فرجع عنهم وقد كانوا فزعوا منه أن يميل عليهم فيقتلهم فهو الغم الثاني.
وكان من قتل يومئذ ستة وستون من الأنصار وأربعة من المهاجرين.(2/1155)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} الآية.
النعاس: بدل من أمنة. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله. وأمنة مصدر في الأصل. وقيل: هو اسم فاعل.
أخبرهم الله تعالى أنه جعلهم طائفتين طائفة أمنة حتى نعست، وطائفة أهمتها نفسها حين ظنت بالله غير الحق: أي ساء ظنها بالله سبحانه.
وسبب ذلك فيما ذكر السدي: " أن المشركين انصرفوا [من أحد] بعدما كان منهم، واعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدراً من قابل فقال لهم: نعم، فتخوف المسلمون أن ينزل المشركون المدينة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً: أنظر، فإن رأيتهم قعوداً على أثقالهم، وجنبوا خيلهم، فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله، واصبروا وَوَطَّنهم على القتال، وإن رأيتهم سراعاً عجالاً، فليس ينزلون المدينة، فلما أبصرهم الرسول - قعود على الآثقال - سراعاً عجالاً نادى بأعلى صوته بذهابهم، فلما رأى المؤمنون ذلك أمنوا وناموا، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتوهم فطار عنهم النوم، ولم يركنوا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وما أخبرهم به: أنهم لا ينزلون المدينة ".(2/1156)
قال أبو طلحة: كنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي.
ثم أخبر عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المنافقين يخفون في أنفسهم ما لا يبدون للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الذي يخفون منه قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين} قدر الله عليهم القتل إلى مضاجعهم التي سبق في علمه أنهم يقتلون بها. ومعنى: {لَبَرَزَ الذين} [أي]: لصاروا إلى براز من الأرض، وهو المكان المنكشف.
وقرأ أبو حياة: لبُرِّز الذين. مشدداً على ما لم يسم فاعله.
قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} يعني به: المنافقون يبرزون من بيوتهم إلى مضاجعهم التي يموتون بها.
وقيل المعنى: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} فرض عليكم القتال. وقال الطبري: معناه وليختبر الذي في صدوركم من الشك فيميزكم بما يظهر للمؤمنين من نفاقكم، فيميزكم المؤمنون.(2/1157)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: يكفر عنكم سيئاتكم إن كنتم على يقين من دينكم {والله عَلِيمٌ} بما في صدوركم.
قوله: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} الاية.
هذه الآية إعلام من الله تعالى أنه قد غفر لهم انهزان بوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا تعالى أنهم إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان ببعض ما تقدم لهم من أمرهم فانهزموا.
قيل: إنه ذكرهم بذنوب لم يتوبوا منها، فكرهوا أن يلقوا الله - عز وجل - على غير توبة، فانهزموا لئلا يقتلوا قبل التوبة، فغفر الله لهم فرارهم.
وقال السدي: عنى بذلك من دخل المدينة منهزماً خاصة دون أن يصعد الجبل. وقيل: " نزلت في رجال لأعيانهم فروا، منهم: عثمان بن عفان وغيره، فروا وأقاموا على فرارهم ثلاثاً، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد ذهبتم في أرض عريضة، فاعلمنا الله عز وجل أنه عفا عنهم ".
قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} الآية. نهى الله المؤمنين أن يكونوا مثل المنافقين {كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض} أي: إذا خرجوا إلى سفر في تجارة {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} أي: خرجوا لغزو، فهلكوا في سفرهم أو غزوهم، {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُو} في سفرهم {وَمَا قُتِلُواْ} في غزوهم، جعل الله قولهم ذلك حسرة في قلوبهم. روي أن المنافقين قالوا في من بعثه النبي صلى الله عليه وسلم من السرايا إلى بئر معونة، فقتلوا رحمة الله(2/1158)
عليهم {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} وهم عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه قالوا ذلك، وأصل الضرب في أرض الإبعاد. وأصل الكلام أن يكون في موضع (إذا): (إذ) لأن في الكلام معنى الشرط، إذ فيه الذين، وإنما وقعت إذا موضع إذ كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل، فتقول إن تزرني زرتك.
أي: أزورك، فكذلك وقعت إذا وهي للمستقبل موضع إذ، ومثله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} [الحج: 25] وقع [كفروا] موضع يكفرون لأن الذي فيه معنى الجزاء، فجاز فيه ما يجوز في الجزاء، ودل على يكفرون قوله: {وَيَصُدُّونَ}. ثم أخبر تعالى [أنه] يحيي من يشاء ويميت من يشاء ليس جلوسهم عندهم بمنجيهم من الموت، ولا مسيرهم لسفر أو غزاة بمقرب لما بعد من آجالهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: بعمل هؤلاء المنفقين بصير، فهذا على قراءة من قرأ بالياء، فذكر المنافقين أقرب. ومن قرأ بالتاء رده على أول الكلام في قوله {لاَ تَكُونُواْ كالذين} وكان الياء أقوى لأن الذين وضع عليهم الدم أولى بالتهديد من غيرهم، وكلا الأمرين حسن.(2/1159)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قوله {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ} الآية.
هذا خطاب للمؤمنين خاصة، لأنهم إن ماتوا في سبيل الله أوم قتلوا فإنهم يصيرون إلى مغفرة ورحمة، وذلك خير مما يجمع المنافقون هذا على قراءة من قرأ يجمعون بالياء. ومن قرأ بالتاء، رده على المخاطبة، وأن المغفرة والرحمة خير مما تجمعون أيها المؤمنون من حطام الدنيا الذي يمنع من الجهاد.
وقال ابن اسحاق معناها: إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله خير لو علموا وأيقنوا. وتأويل الكلام: ليغفرن الله لكم وليرحمنكم. ثم أعلمهم أن الرجوع إليه في كل حال من موت، أو قتل فقال: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهذا الأمر خطاب للمؤمنين والمشركين أعلمهم أن مصير الجميع إليه، فيجازي كل صنف بعمله.
قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} الآية.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: فبرحمة من الله لنت للمؤمنين حتى آمنوا بك فسهلت عليهم الأمر، وبينت لهم الحجج، وحسنت خلقك، وصبرت على الأذى {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي: لتركوك {فاعف عَنْهُمْ} أي: تجاوز عنهم، واصفح فيما نالك منهم، ثم قال: {واستغفر لَهُمْ} أي: ادع ربك لهم بالمغفرة. وقوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} أَمَر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه عند الحرب ولقاء العدو،(2/1160)
وتطييباً لأنفسهم، وتأليفاً لهم على دينهم.
قال أبو اسحاق: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} معناه: ليريهم أنه يستعين بهم، ويسمع من آرائهم، فيكون أطيب لأنفسهم وقد كان عنهم غنياً لتوفيق الله عز وجل له بالوحي.
وقيل: إنما أمره بذلك لما فيه من الفضل وليتأسى أمته صلى الله عليه وسلم بذلك بعده. روى ابن وهب أن مالكاً قال: ما تشاور قوم قط إلا هُدوا. و " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزم فقال " تستشيروا الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى أمرك به " ويقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد بتوحيد رأي. وقال النبي عليه السلام " المستشار بالخيار ما لم يتكلم، فإذا تكلم فحق عليه أن ينصح ".
قال الحسن والله ما تشاور [قوم] قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم.
قال أبو هريرة رضي الله عنهـ: ما رأيت من الناس أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: واستشر في أمرك الذين يخشون الله.(2/1161)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما شقي عبد بمشورة ولا سعد عبد باستغناء رأي ".
وقال الشعبي: مكتوب في التوراة من لم يستشر يندم.
أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار ".
وقال ابن عباس: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} أبو بكر وعمر رضي الله عنهـ.
وقيل: إنما أمر أن يشاورهم فيما لم يكن عنده علم فيه وحي لأنه قد يكون عند بعضهم فيه علم، والناس قد يعرفون من أمور الدنيا ما لا تعرف الأنبياء صلوات الله عليهم.
{فَإِذَا عَزَمْتَ} أي: إذا ثبت الرأي على أمر {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فيه، وامض فيه، إن الله يحب من يتوكل عليه ويفوض الأمر إليه.
قوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} الآية.
هذا خطاب للمؤمنين أن الله تعالى إن نصرهم لم يغلبهم أحد، وإن خذلهم لم ينصرهم أحد، فجميع الأمور إليه ترجع، والهاء في {مِّنْ بَعْدِهِ} تعود على الله عز وجل ذكره. وقيل: تعود على الخذلان لدلالة يخذلهم عليه.
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الآية.(2/1162)
من قرأ بضم الياء فهو على معنى ما كان لنبي أن يوجد خائناً كما يقال أحمد الرجل وجدته محموداً، وأحمقته وجدته أحمق.
وروى الضحاك أنهم قالوا: بادروا الغنائم لئلا تؤخذ فقال الله عز وجل: ما كان لنبي أن يوجد خائناً
أي: ما ينبغي ذلم ولا يكون.
وقيل: المعنى: ما ينبغي لنبي أن يغل منه أي: يخان منه. وقد قيل: إن المعنى: أن يخون، وهذا لا يصلح لأنه يلزم أن يكون يغل. وقد قيل: إنه لما اجتمعت ثلاث لامات حذفت الواحدة. ومن قرأ بفتح الياء فمعناه أن يخون: أي: لا ينبغي أن يخون النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولا يكون ذلك.
قال محمد بن كعب معناه: ما كان له أن يكتم شيئاً من كتاب الله عز وجل، وما أمر به. وقيل: إن قوماً من المنافقين اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من المغنم، فأنزل الله جل ذكره ذلك، وعليه أكثر المفسرين.
فالقراءة [على الفتح] بمعنى: لا ينبغي أن يخون هو، وبالضم: ما كان لنبي أن يوجد خائناً، ولا يمكن ذلك مثل أحمدته. أو يكون المعنى: ما كان لنبي أن يخون، فيتهم(2/1163)
بما لا يليق بالأنبياء صلوات الله عليهم، أو يكون المعنى: ما كان لنبي أن يخان منه.
وقد قوى قراءة الضم بأن الآية نزلت في قوم غلوا فنفى الله أن يخان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينبغي أن يخان. وقوى آخرون قراءة الفتح بأن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت من الغنائم يوم بدر فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله أخذها، وأكثر في ذلك فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: يخون أصحابه.
وقال سعيد بن جبير القراء [ة] {يَغُلَّ} بفتح الياء قال: وأما يُغل فقد كان، والله يغل ويغتل.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ وغيره أنه قال: نزلت الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في أمر فلم يقسم لهم، فأعلمه الله عز وجل في هذه الآية أنه ليس له أن يقسم لطائفة دون آخرين فيخون في أنفسهم. وقال الضحاك: يغل بالفتح معناه أن يعطي بعضاً، ويترك بعضاً وبالفتح كان يقرأ. وقال ابن اسحاق: نرى ذلك في النفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي له أن يكتم من الوحي شيئاً فالفتح أولى به على هذا.
{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} أي: من يخن من غنائم المسلمين شيئا يأتي به يوم القيامة.
قال ابن عباس رضي الله عنهـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أعرف أحدكم يأتي يوم القيامة(2/1164)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
يحمل شاة لها ثغاء فينادون: يا محمد، يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً فقد بلغتك " ثم قال في الجمل مثل ذلك، وفي الفرس مثل ذلك غير أنه قال: جمل له رغاء، أو فرس له حمحمة.
قوله: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} الآية.
معناها أفمن ترك الغلول، فاتبع رضوان الله بذلك كمن غل فرجع بسخط، من الله على غلوله قال معناه الضحاك، وقيل الآية عامة في كل من عمل خيراً، ومن عمل شراً.
قوله: {هُمْ درجات عِندَ الله والله} الآية.
قيل المعنى: أن الغال، وغير الغال، والصالح وغير الصالح، أصحاب درجات عند الله، رداً على ما قبله.
والدرجات: الجنة والنار.
وقيل المعنى: {هُمْ درجات عِندَ الله}: يعني من اتبع رضوانه خاصة قاله مجاهد والسدي. وقيل: المعنى هم طبقات عند الله أي: أهل الرضوان طبقات. وقيل: المعنى: هم ذوو درجات، يعني المؤمنين، وذلك في الفضل بعضهم أرفع من بعض، كذلك قال القتيبي وغيره. قوله: {والله بَصِيرٌ} أي: بما يعمل الجميع، فيوفي كلاً بقسطه.(2/1165)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
قوله: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} الآية.
{مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} منهم، والكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، قاله قتادة وغيره، وقيل: معنى {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ}: بشر مثلهم يظهر البراهين، فيعلم أنه نبي إذ هو بشر مثلهم يأتي بما لا يمكن أن يأتوا بمثله هم، وما كانوا من قبله إلا في ضلال مبين أي: في جهالة وحية ظاهرة. فإن بمعنى: ما، واللام في {لَفِي} بمعنى: إلا هذا قول الكوفيين. ومذهب سيبويه أن أن مخففة من الثقيلة، واسمها [مضمر] والتقدير على قوله: وأنهم كانوا من قبل محمد صلى الله عليه وسلم لفي ضلال مبين أي: أنهم لفي ضلال مبين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن على نحو هذا الاختلاف من تقدير أن وتقدير الكلام، فاعرف الأصل فيها إن تركنا ذكرها اكتفاء بما ذكرنا.
قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ}.
المعنى: أحين أصابكم أيها المؤمنون مصيبة، وهي ما قتل يوم أحد - وأنتم قد أصبتم مثليها أي: مثل المصيبة يعني يوم بدر إذ قتل المسلمون للمشركين سبعين،(2/1166)
وأسروا سبعين وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد سبعسن، فالذين ظفر بهم المسلمون مثلاً، ما ظفر به المشركون، فمن أين قلتم كيف هذا؟ ومن أي وجه هذا؟ أي: من أين أصابنا هذا؟ كل هذا توبيخ للمؤمنين لقولهم: كيف أصابنا هذا القتل يوم أحد " فقيل له: أتقولون هذا، وأنتم قد أصبتم يوم بدر مثلي ما أصابكم يوم أحد " ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: كل الذي أصابكم يوم أحد هو من عند أنفسكم. أي: بذنوبكم، ومخالفتكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذ ترك الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومضوا في طلب النهب.
قال قتادة: " لما قدم أبو سفيان بالمشركين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، رأى بقراً تنحر، فتأولها قتلى في أصحابه، ورأى سيفه ذا الفقار انقسم، فكان قتل عمه حمزة، كان يقال: أسد الله، ورأى أن كبشاً أغبر قتل، فكان قتل صاحب لواء المشركين: عثمان ابن أبي طلحة أصيب يومئذ وكان معه لواء المشركين وهو منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد هذه الرؤية: إنا في جُنَّة حصينة يعني المدينة فدعوهم يدخلون نقاتلهم، فقال أناس من الأنصار: يا نبي الله إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع(2/1167)
من العرب في الجاهلية، والإسلام أحق نمتنع فيه فأبرز بنا إلى القوم، فمضى النبي عليه السلام ولبس لامته وندم القوم على ما كسروا به على النبي صلى الله عليه وسلم فيما أشاروا به فاعتذروا إليه فقال: " إنه ليس للنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل ستكون فيكم مصيبة، قالوا: يا رسول الله خاصة أو عامة؟ قال سترونها " ".
فقتادة يذهب إلى [أن] الذنب الذي عدده الله عليهم في قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} هو ما أشاروا به من رأي أنفسهم على النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج وكان قد قتل من الأنصار يومئذ ستة وستون، ومن المهاجرين أربعة.
" وروى ابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين في أسارى بدر: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، وتقووا به على عدوكم، فإن قبلتموه قتل منكم سبعون، أو تقتلوهم، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، ويقتل منا سبعون، فأخذوا الفدية وقتل منهم يوم أحد سبعون. فيكون المعنى على هذا: قل يا محمد ما أصابكم يوم أحد من القتل فمن عند أنفسكم أي باختياركم أخذ الفدية من السبعين الذين أسرتم ببدر، ورضاكم أن يقتل فيكم بعددهم وتركتم قتلهم ".
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ: " إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله(2/1168)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
قد كره ما فعل قومك في أخذه الأسارى، وقد أمرك أن تخبرهم بين أمرين: إما أن يقدموا، فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا منهم الفدية على أن يقتل من المؤمنين مثل عدة من أخذت الفدية منه من المشركين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا، بل نأخذ منهم الفدية فتتقوى بها على عدونا، ويستشهدوا منا بعدتهم، فليس في ذلك ما نكره فأخذوا الفدية وقتل منهم سبعون يوم أحد، فذلك قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} " أي: باختياركم، ورضاكم، وفي ذلك نزلت.
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} [الأنفال: 67] [أي]: ليس له إلا القتل حتى يتمكن في الأرض، ثمّ وبخ الله المؤمنين في أخذ الفدية فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة}.
قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله} الآية.
هذا خطاب للمؤمنين والمعني: الذي أصابكم أيها المؤمنون من القتل والجرح يوم أحد فبإذن [الله] [أي]: بقدره وقضائه وقيل: بعلمه. قوله: {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين}. أي: ليظهروا إيمان المؤمنين من نفاق المنافقين في قلة الصبر، وتحقيق معناها: أنه قد دار عليهم ما(2/1169)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
أصابهم يوم أحد ليميز المؤمن من المنافق.
قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} يعني به عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين رجعوا من خلف رسول الله عليه السلام حين خرج إلى أحد فقال لهم المسلمون حين رأوهم راجعين: تعالى قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثير سوادنا {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ} إنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولكن لا نرى أن يكون بينكم وبين القوم قتال فأظهروا من كلامهم ما ليس يعتثدون، وكان عبد الله بن أبي بن سلول انخذل عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد بنحو ثلث الناس، واتبعهم عبد الله بن عمرو ابن حزام وهو يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم، وقومكم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولك لا نرى أن يكون قتالاً فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، وسيغني الله عنكم، ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم.
[ وقال السدي: رجع] عبد الله بن أبي " بن سلول " من وراء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه(2/1170)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
ثلاثمائة.
{والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: يعلم ما يكتمون من النفاق، وأن قولهم خلاف ما يسرون.
قوله: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ} الآية.
أي: وليعلم الله الذين نافقوا، وقالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين {وَقَعَدُواْ} أي: قالوا ذلك وهم قعود عن الحرب مع النبي عليه السلام {لَوْ أَطَاعُونَا} (أي): لو تأخروا معنا ما قتلوا هناك، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} " في قولكم إن إخوانكم لو قعدوا عندكم ما قتلوا " أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت، وهذا أقرب لأن من قدر أن يدفع الموت عن غيره فهو إلى دفعه عن نفسه أقرب.
قال قتادة: نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي بن سلول قال ذلك فيمن قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم بأحد من قرابته وأهل معرفته.
قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله}.
معناها: ولا تظنن أن من قتل بأحد من أصحابكم أمواتاً لا يلتذون، ولا يحسون شيئاً بل هم أحياء بما آتاهم الله من فضله مستبشرين بثوابه وعطائه.(2/1171)
وقال ابن عباس رضي الله عنهـ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش معلقة يجاوب بعضها بعضاً عملوا مثل الذي عملنا، فيسارعوا إلى مثل الذي سارعنا فيه، فإنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا، فوعدهم الله عز وجل ليخبرن نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، فيخبرهم فأنزل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} الآية
وقيل: إنهم لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغكم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهـ وكان قد قتل أبوه عبد الله بأحد: " يا جابر ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله فقال: ما تحب يا عبد الله بن عمر أن أفعل بك؟ فقال: يا رب أحب أن تردني في الدنيا، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ". ولما أتى جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحزن على رجل نظر الله إليه كفاحاً؟ ثم عاد فأقعده بين يديه فقال له: سلني ما شئت؟ فقال:(2/1172)
أسألك يا رب أن تعيدني إلى الدنيا حتى أقاتل في سبيلك فأقتل، قالها ثلاثاً، فقال له الله إني قضيت على نفسي ألا أرد خليقة قبضتها إلى الدنيا فقال أبو جابر: يا رب، فمن يبلغ قومي ما صنعت بي فقال الله عز وجل: أنا أبلغ قومك، فأنزل الله عز وجل { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ} الآية.
ودفن عبد الله بن جابر يوم أحد مع عمرو بن الجمح بقبر واحد، فروي أنهما أخرجا بعد خمسين سنة، فإذا هما وطاب لم ينثنوا ولم يتغيروا، ويد عبد الله على جرحه في وجهه إذا نزعت يده على وجهه يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت إلى الجرح، فحبست الدم، ووجد عمرو بن الجموح ويده على رأسه إذا نزعت يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت على الجرح. قال ابن مسعود رضي الله عنهـ: " أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة في أيتها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش قال: بينما هم كذلك اطلع عليهم ربك اطلاعه فقال: سلوني ما شئتم؟ فقالوا: يا ربنا ماذا نسألك " ونحن في الجنة نسرح في أيها شئنا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من [غير] أن يسألوا(2/1173)
قالوا: نسألك " أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا حتى نقتل في سبيلك. فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا " ".
وقال قتادة: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله عز وجل { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ} الآية.
قال الضحاك: [كان] المسلمون يسألون الله عز وجل يوماً كيوم بدر، فيبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ} الآيات.
قيل معناه: {أَمْوَاتاً} أي: في دينهم بل هم أحياء كما قال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه} [الأنعام: 122].
وروي: أن عبد الله بن عمرو أبا جابر رضي الله عنهـ قال لابنه جابر يوم أحد: يا بني كن مع أخوتك، - وكن تسعاً - فلا ندري ما يكون، فإن رزقت الشهادة كنت أنت معهن وإن سلمت رجوت أن يثيبك الله عز وجل ثواب من حضر، واستشهد رحمه الله بأحد،(2/1174)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} أي: يفرحون بهم وبكونهم على الجهاد في ذات الله عز وجل، وأنهم إن قتلوا نالوا من الكرامة مثلما نال هؤلاء.
وقال ابن اسحاق: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي: يفرحون بهم إذا لحقوهم على ما تركوهم عليه من جهاد عدوهم فهم شهداء مثلهم لا خوف عليهم ولا حزن.
وروي أنهم يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلاناً وفلاناً يقاتلون العدو، فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة والأمن ما لنا.
قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} الآية أي: يفرحون لما عاينوه من وفاء الوعد، وعظيم [الثواب] ويستبشرون بأن الله تعالى لا يضيع أجر المؤمنين: أي لا يبطل جزاء أعمالهم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنهـ: " أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت(2/1175)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
تأوي إلى قناديل تحت العرش، اطلع عليهم ربهم اطلاعه فقال: سلوني. فقالوا: يا رب نحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ثم اطلع عليهم ثانية فقالوا مثل ذلك ثم اطلع عليهم ثالثة فقال: سلوني: فقالوا: يا رب نحن نسرح في الجنة حيث شئنا، فلما رأوا أن لا بد لهم من الجواب قالوا: يا ربنا رد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل ثانية ".
قوله: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول} الآية.
المعنى: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله من بعد ما أصابه الجرح والألم، وعنى بهذا من خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب أبي سفيان، وأصحابه بعد انصؤافه من أحد وبعدما نال من المسلمين من القتل والجرح. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من أحد، وقد قتل من أصحابه سبعون، وجرح خلق كثير، أمر بلالاً أن ينادي في الناس لينفروا في طلب عدوهم، فنفروا معه على ما بهم من ألم الجراح، والحزن على من قتل منهم، وكان أخوان من بني عبد الأشهل مثخنين بالجراح، فقال أحدهما للآخر: تفوتنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأخر: والله ما بي حراك! فقال له أخوه: غفر الله لك، توكأ علي، وأتوكأ عليك حتى نبلغ، فخرجا مجروحين.(2/1176)
فأنزل الله عز وجل { الذين استجابوا للَّهِ والرسول} الآية إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلب أبي سفيان وأصحابه حتى بلغ إلى خمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها [ثلاثاً]، ثم رجع إلى المدينة، وفعل ذلك عليه السلام ليرى الناس أن به وبأصحابه قوة على عدوهم. وكان يوم أحد في قول عكرمة يوم السبت للنصف من شوال.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كانت أحد في شوال لإحدى وثلاثين شهراً من الهجرة.
فلما كان يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو فقال: لا يخرجن معنا إلا من حضر بالأمس فكلمه جلبر بن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال يا رسول الله: إن أبي كان خلفني على أخواتي لي تسع وقال لي: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أترك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك، فتخلفت [معهن] فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلب المشركين، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليرهب المشركين، ويبلغهم أنه لم(2/1177)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
يضعف وأنه خرج في طلبهم، وأن الذي أصاب أصحابه لم يُوهِنُهُم فالذين خرجوا هم الذين عُنوا في هذه الآية.
قال السدي: قال أبو سفيان لأصحابه حين انصرفوا [من أحد]: بئس ما صنعتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله عز ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد رأس ثمانية أميال عن المدينة، فالذين خرجوا معه هم الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم الجراح بأحد.
ثم قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} معناه: للذين أحسنوا، فداموا على الطاعة، وأداء الفرائض، واتقوا المحارم حتى لحقوا بالله عز وجل { أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} الآية.
المعنى: للذين أحسنوا أجر عظيم القائلين لهم الناس.
وقيل المعنى: وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس.
فالناس الأول قوم سألهم أبو سفيان أن يثبطوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ خرجوا في طلبه لما دخله من فزع، [والناس] الثاني أبو سفيان وأصحابه.(2/1178)
{قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أي: قد أعدوا للقائكم فاحضروهم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي: زاد التخويف تطريقاً لله عز وجل، ولوعده سبحانه، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صاروا إلى موضع ردهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا عند التخويف لصحة صدقهم: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} أي: كافينا الله، ونعم القيم الحافظ والناصر الله. يقال حسبه إذا كفاه.
وقيل: إن الناس الأول: نعيم بن مسعود، بعثه أبو سفيان، وأصحابه [أن يثبط النبي عليه السلام وأصحابه، ويخوفهم من المشركين ووعده بعشرة من الإبل إن هو ثبط النبي صلى الله عليه وسلم وخوفهم. والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه].
{فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} أي: فرجعوا سالمين مما خوفوا به، وهرب منهم عدوهم وأمِنُوا.
وقيل: إنهم اشتروا أدَماً وزبيباً، فربحوا فيه، وأقاموا ثلاثاً بحمراء الأسد " وهي(2/1179)
على ثمانية أميال من المدينة ".
وقال السدي: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه عن أحد ندموا إذ لم يستأصلوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويقتلوهم، وأداروا الرأي في الرجوع، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فهزموا فلقوا أعرابياً، وجعلوا له جعلاً، وقالوا له: إذا لقيت محمداً وأًحابه، فأخبرهم أنا قد جمهنا لهم، فأخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج في طبلهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا أعرابياً هنالك فأخبرهم ما قال له أبو سفيان من الكذب والتخويف، فقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، أي: كافينا الله ونعم الكافي.
قال ابن عباس رضي الله عنهـ: كان آخر قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار: [حسبي الله ونعم الوكيل] " فالناس الأول هو الأعرابي، والثاني أبو سفيان وأصحابه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وافى [أبو سـ]ـفيان عيراً واردة المدينة(2/1180)
ببضاعة لهم، فسألهم أبو سفيان ووعدهم، وقال لهم: إن لقيتم محمداً وأصحابه، فأخبروهم أني جمعت لهم جموعاً كثيرة خوفاً منه أن يتبعه النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلت العير ذلك، فأنزل الله عز وجل الآية.
فالناس الأول [أهل] العير، والثاني أبو سفيان وأصحابه.
وقال مجاهد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد واعد أبا سفيان، وأصحابه من عام قابل من عام أحد: اللقاء بدر الصغرى، قال أبو سفيان: موعدكم ببدر حيث قتلتم أصحابنا.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعده حتى أتوا بدراً الصغرى فوافقوا السوق فيها، ولم يأت المشركون فابتاعوا مما كان في السوق فذلك قوله: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله} يعني الأجر {وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ [سواء]} وهي غزوة بدر الصغرى.(2/1181)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قال مجاهد: فالفضل ما أصابوا في التجارة.
قوله: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} الآية.
[يقال] خوفت الرجل إذا صيرته خائفاً، وخوفته أيضاً إذا صيرته بحال يخافه الناس. فالمعنى: يخوفوكموهم {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}. وقيل المعنى: إنما خوفتم به من عند الشيطان يخوفكم بأوليائه، وأولياؤه أبو سفيان وأصحابه.
والمفعول الأول محذوف، والياء محذوفة كما قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وقيل: أولياؤه هنا الشيطان.(2/1182)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
وقيل المعنى: يخوفكم من أوليائه الكفار، أو الشياطين. ومثله في القرآن
{لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] أي: لينذركم [ببأس] ومن بأس ثم حذف المفعول الأول وحذف حرف الجر.
وقال أبو إسحاق: أولياؤه: الرهط الذين أتوا بالرسالة والتخويف من عند أبي سفيان. وقال السدي: إنما ذلكم أيها المؤمنون الشيطان يعظمكم أولياءه في أنفسكم فتخافوهم {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين حقاً.
قوله {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية.
المعنى: ولا يحزنك يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} كما أن مسارعتهم إلى الإيمان لو سارعوا لم تكن نافعة لله تعالى، قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين. وهذه الآية نزلت في قوم أسلموا ثم ارتدوا، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لذلك فأنزل الله عز وجل { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية.(2/1183)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قوله {أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة} أي: يريد أن يحبط أعمالهم بالكفر.
قوله: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً}. هذا أيضاً في المنافقين الذين ذكرهم لما استبدلوا الكفر بعد الإيمان صاروا بمنزلة من باع شيئاً بشيء، ثم كرر نفي الضرر عن نفسه تعالى [بكفرهم للتأكيد] تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} الآية.
من قرأ بالياء الذين هم الفاعلون و {أَنَّمَا} في موضع المفعولين وما مع نملي مصدر ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي، والهاء محذوفة من {أَنَّمَا}، والمعنى: ولا يحسبن يا محمد الكافرون الإملاء خيراً لهم، فلما دخلت إن قامت مقام المفعولين فارتفع خير على خبر أن.
ومن قرأ بالتاء، فقد زعم أبو حاتم أنه لحن، وتابعه على ذلك غيره " لأن الذين كفروا " يكونون في موضع نصب، والمخاطب هو الفاعل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فلا(2/1184)
معنى لفتح " أن " على هذا. وقال الزجاج: " إن " بدل من {الذين كَفَرُواْ} وهي تسد مسد المفعولين كأنه قال: ولا تحسبن يا محمد أن إملاءنا للذين كفروا [خير لهم. والكسائي الفراء يقدران الكلام على حد كأنه: ولا تحسبن الذين كفروا] لا تحسبن أن ما نملي لهم، وحذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد فهو غلط منهما.
وقد قرأ يحيى بن وثاب بكسر إن والياء كأنه ليبطل عمل حسب مع أن كما أبطلها مع اللام وهو قبيح.
وتأويل قول النحاس فيها يدل على أن يحيى قرأه بالتاء وكسر إن وذلك قبيح(2/1185)
أيضاً أبعد مما قبله.
قال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر كسر: إن " يحتج به لأهل القدر لأنه كان منهم، ويجعلهم على التقديم والتأخير، كأنه قال: ولا تحسبن الذين [كفروا] أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي خيراً لأنفسهم. قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفاً فصار: إن ما نملي لهم ليزدادوا إيماناً، فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن، فحكه. ومعنى: نملي لهم نؤخر لهم في الأجل.
قال ابن مسعود رضي الله عنهـ: الموت خير للكافر، ثم تلا {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً}، وقال الموت خير للمؤمن ثم تلا: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].
وقيل: إن الآية مخصوصة أريد بها قوم بأعيانهم علم الله تعالى منهم أنهم لا يسلمون أبداً، وليست في كل كافر إذ قد يكون الإملاء له مما يدخله في الإيمان، فيكون(2/1186)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
أحسن له وهو الصحيح في المعاني.
قوله {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الآية.
معناها: إن الله تعالى ذكره أخبرهم أنه لم يكن ليدع المؤمن ملتبساً بالمنافق وما يعرف بعضهم بعضاً ولكن ميزهم يوم أحد فعرف نفاق من رجع، وإيمان من ثبت فالخبيث المنافق والطيب المؤمن. وقيل المعنى: يميز المؤمن [من] الكافر. وقيل: يميزهم بالهجرة فيعلم المؤمن من الكافر.
قال السدي: قالوا إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن [منا] ممَن يكفر به.
وقيل المعنى: حتى يميزهم بالفرائض [ولا] يدعهم على الإقرار فقط.
ثم قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} أي: وما كان الله ليطلع المؤمنين على الغيب فيما يريد أن يبتليكم به فتحذروا منه {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيطلعه على ذلك. وقيل:(2/1187)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
المعنى ما كان الله أيها المؤمنون ليطلعكم على ضمائر عباده، فتعرفوا المؤمن من المنافق، ولكنه يميز بينكم بالمحن والابتلاء {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيطلعه على بعض ضمائر من يشاء بوحي.
ومعنى يجتبي: يستخلص ويختار. وقيل المعنى: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} من يصير كافراً بعد إيمانه، ومن يثبت على إيمانه، ولكن الله يطلع على ذلك من رسله من يشاء. وقيل: إنهم قالوا ما بالنا نحن لا نكون أنبياء؟ أي: المنافقين، فأنزل الله ذلك.
قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} الآية.
من قرأ بالياء فالذين فاعلون، والمفعول الأول محذوف دل عليه يبخلون و " خبراً " مفعول ثان، والتقدير ولا يحسبن الباخلون [البخل] هو خير لهم، وهو فاصلة عند البصريين، وعماد عند الكوفيين، ودل يبخلون على البخل، لأنه منه أخذ.(2/1188)
ومن قرأ بالتاء ففي الكلام حذف مضاف دل عليه ما يتصل بالمضاف إليه، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم، فخيراً مفعول ثان، وبخل مفعول أول، ومعنى الآية: ولا يحسبن الباخلون ولا ينفقون في سبيل الله: البخل خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة.
[ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: ولا تحسبن يا محمد بخل الباخلين عن الإنفاق في سبيل الله خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة].
وقيل: عنى بذلك الزكاة وهو إخبار عمن لم يؤد الزكاة: وقيل: إخبار عن اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما نزل عليهم من التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهـ.
{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} أي: سيجعل ما بخل به المانعون الزكاة طوقاً من نار في أعناقهم يوم القيامة أي: كهيأة الطير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من ذي رحم يأتي [ذا] رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله إياه، فيبخل عليه إلا أُخرج [له] يوم(2/1189)
القيامة شجاع من النار يتلبط حتى يطوقه " وقرأ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} الآية " وقال ابن مسعود رضي الله عنهـ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثّل له شجاع أقرع يطوقه " ثم قرأ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} الآية. قال الشعبي: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} قال: شجاع يلتوي على عنقه.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول له: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} ".
وقيل: يجعل الذي بخلوا به طوقاً من نار في أعناقهم.(2/1190)
وقال أبو وائل: هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيُجعل حية يطوقها، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: أنا مالك.
وقال مجاهد: {سَيُطَوَّقُونَ} سيكلفون أن يأتوا يوم القيامة بمثل الذي بخلوا به.
وقيل: المعنى سيطوقون جزاء ما بخلوا به وعقاب ما بخلوا به.
والتطوق: إلزام الله تعالى لهم ذلك، ومنعهم من التخلص منه. وقيل: المعنى سيكلفون يوم القيامة إحضار الأموال التي بخلوا بها، وهم لذلك غير مستطيعين، قال ابن مجاهد وغيره. وقيل: المعنى: سيطوق اليهود ثم الذين بخلوا [به]، هو صفة محمد صلى الله عليه وسلم، والنبوة فيه كتموا ذلك، وهو عندهم في كتابهم.
قوله {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} أعلم الله الخلق في هذه الآية أنهم سيفنون كلهم، فصار ما بقي بعدهم بمنزلة الميراث الذي يبقى بعد الميت فسماه ميراثاً على ذلك، وإلا فكل شيء له، أولاً وآخراً، ولكن سماه هنا ميراثاً إعلاماً منه أنهم سيفنون، وأن(2/1191)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
الأمور كلها ترجع إليه، والعرب تسمي كل ما بقي في يد الإنسان، فصار إلى غيره بعد موته: ميراثاً، فخوطبوا على ما يعقلون ولذلك قال (وهو خير الوارثين).
قوله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله} الآية.
" نزلت هذه الآية في بعض اليهود، قالوا لأبي بكر وقد عرض عليهم الإيمان وقال لهم: قد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوب عندكم في التوراة، فآمنوا به؟ فقالوا: ما بنا إلى الله من فقر، وإنه لفقير إلينا وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً ما استقرض من أموالنا، فغضب أبو بكر رضي الله عنهـ وضرب وجه رئيس لهم ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله. فذهب المضروب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه بأبي بكر فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، قال: قولاً شديداً، زعم عدو الله كيت كيت، وحكى ما سمع، فجحد اليهودي ذلك وقال: ما قلت من ذلك شيئاً، فأنزل الله عز وجل تصديقاً لقول أبي بكر وتكذيباً لهم وإنكاراً لكفرهم {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ} الآية. وقال لأبي بكر [حين] اشتد غضبه مما سمع، وللمؤمنين: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ} الآية ".
وقال الحسن لما نزلت {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245، الحديد: 11] الآية قالت اليهود: إن ربكم(2/1192)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
يستقرض منكم، فنزلت {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا} الآية وروي أن الذي قال ذلك من اليهود حيي بن أخطب، وقيل: فنحاص.
قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} أي: سنكتب قولهم، فنجازيهم عليه ونكتب قتلهم الأنبياء، فالقول كان ممن هو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقتل كان لآبائهم، وقد مضى مثله في سورة البقرة، وإنما أضيف إليهم لأنهم راضون بما فعل آباؤهم فكأنهم فعلوا ذلك [فأضيف إليهم] لرضاهم به واتباعهم لما كان عليه سلفهم الذين قتلوا الأنبياء مثل زكرياء ويحيى وغيرهم.
قوله: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي: نقول لمن قال ذلك ورضي بقتل الأنبياء: ذق
عذاب النار المحرقة أي: الملهية {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: ذلك العذاب بذنوبكم المتقدمة وبأن الله عدل لا يظلم عبيده.
قوله: {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} الآية.
المعنى: لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء الذين قالوا(2/1193)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا}. والمعنى: الذين قالوا: إن الله أوصانا، وتقدم في كتبه إلينا ألا نصدق رسولاً {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} أي: الآيات الظاهرات {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} كما قلتم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم الآن {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} بذلك، والمخاطبة لهم في القتال، والمراد آباؤهم وأسلافهم.
روي أن بني إسرائيل كانوا يذبحون لله إذا أرادوا أن يفعلوا شيئاً، ثم يأخذون الثوب، وأطايب اللحم فيضعه على موضع لهم في بيت كبير والسقف في ذلك الموضع مكشوف ثم يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ذلك الموضع يناجي ربه، وبنو إسرائيل دارجون حول البيت فلا يزال كذلك حتى تنزل نار فتأخذ ذلك الثوب، واللحم فهو القربان فيخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً ثم يوحى إليه بأمر قومه يفعلوا ما سألوا.
قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} الآية.
هذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إن كذبه من أرسل إليه فقد كذب رسل من قبله جاؤوا إلى أممِهِم بالآيات والزبر - وهو جمع زبور وهو الكتاب وكل كتاب زبور(2/1194)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
يمعنى مزبور أي: مكتوب يقال زبرت: إذا كتبت {والكتاب المنير} التوراة والإنجيل.
قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}.
المعنى أن الآية: تهديد ووعيد لهؤلاء المفترين.
قوله {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي: نجا {فَقَدْ فَازَ} أي: نجا وظفر {وَما الحياة الدنيا} أي: لذتها وشهوتها إلا متعة متعتكموها، و {الغرور}: الخداع المضمحل.
وقال ابن سابط: الدنيا كزاد الراعي تزوده الكف من التمر أو شيء من الدقيق.
والغرور مصدر: غره، فإن فتحت العين فهو صفة الشيطان، لأنه يغر ابن آدم حتى يوقعه في المعصية.
روى أبو هريرة رضي الله عنهـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " واقرؤوا إن شئتم {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور}.
قوله: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية. المعنى: لتختبرن بالمصائب في أموالكم،(2/1195)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
وأنفكسم وهو موت الأقارب والعشائر {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً}، الذين أوتوا الكتاب هنا: هم اليهود والمشركون هم النصارى، وأما اليهود فسمعوا منهم {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] وقولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] في أشباه لهذا، وأما النصارى فقولهم: {المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
وقيل: إنها نزلت في كعب بن الأشرف كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبب بنساء المسلمين، ذكر ذلك الزهري.
{وَإِن تَصْبِرُواْ} على أذاهم {وَتَتَّقُواْ} الله {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور}. وقيل: المعنى أنه أخبرهم بأنه قد فرض عليهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم، وفرض عليهم الزكاة فذلك ابتداؤه إياهم.
قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ} الآية.
من قرأه بالياء رده على ما قبله من اللفظ وهو قوله: {الذين أُوتُواْ الكتاب} ورده أيضاً على ما بعده وهو قوله: فنبذوه وراء دبورهم واشتروا فالذي قبله والذي بعده يدل على الخبر عن غائب فكانت الياء أولى به.(2/1196)
ومن قرأ بالتاء أجراه على الحكاية عن الميثاق، وما هو كان المعنى قلنا لهم لتبيننه، واختار الطبري وغيره الياء لقوله {فَنَبَذُوهُ} ولم يقل فنبذتموه. والمعنى اذكر يا محمد إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب من اليهود وغيرهم ليبينن أمرك الذي في كتابهم للناس ولا يكتمونه، {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} إن كتموا أمر الله عز وجل وضيعوه، ونقضوا ميثاقه {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عرضاً رخيصاً من عرض الدنيا: قبلوا [الرشا] على تركه وكتمانه، ورضوا بالرياسة في الدنيا، [وكتبوا ما كتبوا بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله، وحرفوها بثمن قليل أخذوه عليها، وكل ما في الدنيا] قليل {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} به والذي عنى به في هذه الآية: اليهود.
وقيل: عنى بها كل من اوتي علماً بأمر الدين.
قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله عز وجل على أهل العلم فمن علم شيئاً، فليعلمه، وإياكم كتمان العلم فإن كتمانه هلكة.(2/1197)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
قال ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهـ: إنه كان يقرأ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ويقول: والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم ألا يكتموهم شيئاً، فنبذه القوم وراء ظهورهم أي تركوا ما بلغت إليهم الرسل. فالذين أوتوا الكتاب هم الرسل في قوله، والضمير في {فَنَبَذُوهُ} يعود على الناس.
قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} الآية.
من قرأ بالتاء جعله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم و {الذين} مفعول أول {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} مكرر للتأكيد و {بِمَفَازَةٍ} المفعول الثاني لحسب الأول، وحسب الثاني مع المصدر للتأكيد، ولطول القصة. وقيل: إنه ليس بتأكيد وأن {بِمَفَازَةٍ} مفعول حسب الثاني محذوف لعلم السامع كما تقول في الكلام ظننت زيداً ذاهباً وظننت عمراً، يريد ذاهباً، ثم تحذف لدلالة الأول عليه كما قال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فحذف لدلالة الكلام على المحذوف.
ومن قرأ بالياء فقوله {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} للتأكيد، والهاء والميم مفعول أول. و {بِمَفَازَةٍ} الثاني كأنه قال: لا يحسبن الكافرون أنفسهم بمنجاة من العذاب.(2/1198)
ومن ضم الباء أراد الجميع، وحسب وأخواتها تتعدى إلى الفاعل نفسه. ولم يقرأ أحد الأول بالتاء والثاني بالياء مكرراً للتأكيد. أجاز أبو إسحاق: لا تظن أخاك إذا أتاك بخبر، فلا تظنه صادقاً تعيد الفاعل للتأكيد. ونزلت الآية في قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنهـ في رجال تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وفرحوا لمقعدهم خلاف رسول الله، ثم إذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم] أقبلوا يعتذرون إليه، ويحلفون أنهم لا يتخلفون عنه بعد ذلك، {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}.
وقال مروان لأبي سعيد الخدري رضي الله عنهـ وقرأ هذه الآية: يا أبا سعيد إنا لنحب أن نحمد بما لم نفعل، ونفرح بما آتينا. فقال أبو سعيد: إن ذلك ليس كذلك، إنما ذلك أن أناساً من المنافقين كانوا يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجع على ما يحب حلفوا له ألا يتخلفوا عنه بعد ذلك، وأحبوا أن يحمدوا على هذا، وإن رجع النبي صلى الله عليه وسلم على ما(2/1199)
يكره، فرحوا بتخلفهم عنه، وقاله زيد بن ثابت، وروى مثله مالك عن نافع. قال نافع: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا واعتذروا.
فقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لو خرجت لخرجنا معك، فإذا خرج تخلفوا ورأوا أنهم قد احتالوا حيلة، وفرحوا بفعلهم ذلك.
وقال ابن جبير: نزلت في أحبار اليهود يفرحون بما جاءهم من الدنيا من الرشا على إضلال الناس، ويحبون أن يقول لهم الناس عُلماء، وليسوا بعلماء.
وقال الضحاك: نزلت في قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أهل الصلاة والصيام، فأحبوا أن يحمدوا بذلك وليسوا بأهل له.
وقال السدي: كتموا محمد صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك وقالوا: نحن على دين إبراهيم، ونحن أهل الصلاة والزكاة، وهم ليسوا كذلك، فأحبوا أن يزكوا أنفسهم بما لم يفعلوا.(2/1200)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
وقال ابن عباس رضي الله عنهـ: هم أهل الكتاب حرفوه، وحكموا بمال سفيه وفرحوا بذلك وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ أيضاً: أنها نزلت في قوم من اليهود سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره ففرحوا بكتمانهم، وطلبوا المحمدة على ما أخبروه به من الكذب فقال {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} وقال قتادة: نزلت في يهود، حين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فزعموا أنهم متبعوه وأخفوا الضلالة، ففعلوا ذلك ليحمدهم الله على إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فأنزل الله الآية.
قوله: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}.
هذا تكذيب للذين قالوا {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} فأعلمهم الله أن له ما في السموات والأرض، فكيف يكون فقيراً؟ وله كل شيء.
قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية.
معنى الآية: أنها تنبيه لخلق أولي العقول على قدرة الله عز وجل، وإحكامه لما خلق من السماوات والأرض، وما دبر فيهما من المعايش واختلاف الليل والنهار، وأن ذلك علامات ظاهرات لأولي العقول، فكيف ينسب إلى من كان بهذه الصفة فقر أو نقص، ثم مدح أولي العقول ووصفهم فقال:(2/1201)
{الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} الآية.
المعنى: قياماً في صلاتهم، وقعوداً في تشهدهم وغيره، وعلى جنوبهم مضطجعين.
وقال ابن جريج: هو ذكر الله تعالى في الصلاة وغيرها وقراءة القرآن. قال ابن مسعود رضي الله عنهـ في معنى الآية: من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، أو مضطجعاً.
وقيل: المعنى: أنهم كانوا يذكرون الله على كل حال.
وفي حكاية ابن عباس رضي الله عنهـ: " إذ بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاستوى عليه السلام قاعداً - يريد من نومه - ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات، ثم قرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار} حتى ختم السورة ".
قوله: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} أي: يقولون ربنا ما خلقت هذا من أجل الباطل أي عبثاً، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} أي: في عظمة الله {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهاً لك من السوء أن تكون خلقت هذا باطلاً، والتفكر في عظمة الله عز وجل من أعظم العبادة.(2/1202)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
وقال أبو الدرداء رضي الله عنهـ: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وقيل لأم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر. وقال كعب: من أراد أن يبلغ شرف الآخرة فليكثر التفكر يكن عالماً.
قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} الآية.
أي: يقولون: ربنا إنك من تدخل النار فقد أبعدته من رحمتك، وهذا الكافر، ولا يخلو مؤمن فيخزى، وقال أبو الدرداء رضي الله عنهـ: المؤمنون هم العجاجون بالليل والنهار والله ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجيب لهم.
وقيل: عنى بذلك كل من يدخل النار من مخلدين وغير مخلدين لأن كل من عذب بالنار فقد أخزي.
والخزي: هتك ستر المخزي وفضيحته، ومن عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه. يقال: أخزيته أذللته، وأشد الخزي أشد الذلة وأبلغها.(2/1203)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
قوله: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} الآية.
المعنى: يقولون ربنا إننا سمعنا، والمنادي القرآن.
وقال محمد بن كعب: هو القرآن وليس كلهم لقي نبي الله صلى الله عليه وسلم، وليس كلهم بلغ إليه القرآن.
وقال ابن جريج: المنادي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى سمعنا نداء مناد، المنادي غير مسموع وإنما المسموع نداؤه.
وقال قتادة: سمعوا دعوة الله عز وجل فأجابوها.
قوله {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي: في عددهم، وفي زمرتهم وقيل: المعنى وتوفنا أبراراً مع الأبرار، والأبرار جمع بر وهو فعل ككتف أكتاف، وهم الذين بروا الله بطاعتهم إياه وخدمتهم له رضي الله عنهم. وقيل واحدهم بربار على فاعل كصاحب وأصحاب.
قوله {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} الآية.(2/1204)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
أي: يقولون: ربنا آتنا ما وعدتنا على لسان رسلك: وهو الجنة وهذا سؤال وطلب، ومعناه الخبر، لأن الله تعالى منجز وعده من غير سؤال، ومعناه وتوفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا فهذا معناه، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، ولكنه خبر. وقيل: إنه خرج منهم على طريق الطلب أن يجعلهم ممن يؤتيه ما وعده من الكرامة. وقيل: إنهم سألوا الله عز وجل أن يؤتيهم ما وعدهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم من النصر على أعدائهم.
{وَلاَ تُخْزِنَا} أي: لا تذلنا {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} أي: أنك قد وعدت من آمن بك ووحدك: الجنة في الآخرة والنصر في الدنيا على أعدائك.
قوله: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} الآية.
المعنى: فأجابهم ربهم {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} عمل خيراً، روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله عز وجل { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} أي ذكراً كان أو أنثى.(2/1205)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
قال الكوفيون: دخلت {مِّن} في قوله {مِّن ذَكَرٍ} على التفسير لقوله {مِّنْكُمْ} أي: منكم من الذكور والإناث، قال: وليست من هناهنا يجوز حذفها لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا بها وإنما يجوز حذفها إذا كانت تأكيداً للجحد. وقال بعض البصريين: دخلت {مِّن} هناهنا كما دخلت في قولك: قد كان من حديث فلان كذا، قال: وحرف النفي قد تقدم في قوله {أَنِّي لاَ أُضِيعُ} قد دخلت للتأكيد، والأحسن أن تكون من للتفسير كما تقدم.
ومعنى: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} أن بعضكم في النصر والمذلة والجزاء من بعض أي حكم الجميع الذكر والأنثى سواء {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي لأمحونها عنهم ولأسترنها عليه {ثَوَاباً} مصدر لأنه كما قال {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِي} كان بمعنى لأثيبنهم ثواباً.
قوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} الآية. المعنى: لا يغرنك يا محمد تصرف الذين كفروا في البلاد أي: بالتجارات، والأموال بغير عذاب فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: كسبهم وربحهم متاع قليل أي متعة يتمتعون بها(2/1206)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قليلاً {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} أي الفراش.
قوله: {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي} الآية.
لكن الذين اتقوا الله، فعملوا بطاعته لهم جنات أي: بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}، و {نُزُلاً} منصوب على التفسير. وقيل: هو في موضع إنزال، لأن الكلام يدل على أنزلتموها {وَمَا عِندَ الله} أي: ما عنده من كرتمة والرضوان خير للأبرار.
قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن بالله} الآية.
{خاشعين} نصب على الحال من المضمر في {يُؤْمِنُ} عند البصريين والفراء ومن {مِنْ} عند الكسائي. وقال نصير: هو حال من المضمر في إليكم أو في إليهم، وهذه الآية نزلت في الأربعين رجلاً من أهل نجران منهم: اثنان وثلاثون من بني الحارث من الحبشة، وثمانية من الروم على دين عيسى صلى الله عليه وسلم آمنوا بالنبي عليه السلام، وقيل: نزلت في النجاشي.(2/1207)
وروى ابن المسيب عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اخرجوا فصلوا على أخيكم " فقال فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات، فقال: هذا النجاشي أصحمة فقال المنافقون انظروا كيف يصلي على علج نصراني لم يره قط، فأنزل الله عز وجل { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية ".
قال قتادة: " قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن أخاكم النجاسي قد مات فصلوا عليه قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم قال فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب} قال: وقالوا فإنه كان يصلي إلى القبلة، فأنزل الله {وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية ".
وأصحمة بالعربية: عطية.
وقيل عنى بالآية عبد الله بن سلام ومن آمن معه قاله ابن جريج.
قال مجاهد وغيره: عنى بذلك من آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وهو مثل القول الأول، والآية تدل على هذا لأنها عامة اللفظ في أهل الكتاب.(2/1208)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً} الآية.
أي: لا يحرفون أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقبلون على تحريفه وإنكاره - الرشا فهم يؤمنون بالله، وما أنزل إليكم وهو القرآن، وما أنزل إليهم وهو التوراة والإنجيل {خاشعين للَّهِ} أي: متذللين خائفين، و {لاَ يَشْتَرُونَ}: في موضع الحال أيضاً لأن غير مشترين بآيات الله ثمناً قليلاً {أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي عوض أعمالهم {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فهو يحتاج إلى حساب ذلك وإحصائه لئلا يبقى منه شيء.
قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} الآية.
{اصبروا} على دينكم {وَصَابِرُواْ} عدوكم {وَرَابِطُواْ} في سبيل الله.
وقيل: المعنى وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي، ورابطوا على أعدائكم حتى يرجعوا إلى دينكم، ويتركوا دينهم.
وقيل المعنى: ورابطوا على الصلوات: أي: انتظروها واحدة بعد واحدة، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، قال: ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة.(2/1209)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ}.
قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} يدل على أن الخنثى لا بد أن يكون رجلاً أو امرأة، إذ لم يخلق الله عز وجل من ظهر آدم صلى الله عليه وسلم ' لاّ رجلاً أو امرأة لا ثالث.
ومن قرأ " الأرحام " بالخفض، فهو غير جائز عند البصريين، وقبيح عند الكوفيين، لأنه عطف ظاهر على مضمر مخفوض.(2/1211)
وقد قيل: إن الخفض على القسم، وقد قيل: إن المعنى وربّ الأرحام.
وفي واحد الأرحام لغات: رَحِمٌ ورِحِمٌ، ورَحْمٌ [ورِحْمٌ].
والرحم مؤنثة، ومعنى الآية: أن الله تعالى نبّه خلقه على قدرته وأمرهم بتقواه، والنفس هنا: آدم صلى الله عليه وسلم.
[ وقوله]: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الآية.
قال مجاهد: خلق حواء عن قصيري آدم وهو نائم، استيقظ فقال " أثا " بالنبطية: امرأة.
قال السدي: أُسكِنَ آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله تعالى من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة، قال: ولم خُلقتِ؟ قالت: لتسكن إليّ.(2/1212)
قال ابن إسحاق: ألقى الله عز وجل على آدم السنة فنام فأخذ ضلعاً من أضلاعه من شقّه الأيسر، ولأم مكانه لحماً، فخلق منه حواء ليسكن إليها، فلما انتبه رآها إلى جنبه فقال: لحمي ودمي، وزوجي، فسكن إليها.
وعن ابن عباس أنه قال: إن الله جلّ ذكره خلق آدم صلى الله عليه وسلم بيده سبحانه وتعالى في جنات عدن، فرأى آدم صلى الله عليه وسلم كل شيء يشبه بعضه بعضاً، ولم يرَ في الجنة شيئاً يشبهه، وأحبّ أن يكون معه من يشبهه ليأنس به، وأحبّ الله عز وجل أن يؤنسه بزوجته ليكون منهما النسل، فأسبته الله عز وجل، والجنة لا نوم فيها، ولا نعاس ولا سبات، فخلق حواء من ضلع من أضلاعه وهي: القصيري فلما ذهب عنه السبات رأى من يأنس به، ويشبهه فسمي إنساناً حيث أنس، فقال لها: ما أنت؟ قالت: أثا، وأثا بالسريانية أنثى، وقيل: معناه امرأة.
قال جماعة من المفسرين: لما خلق الله عز وجل ( وتعالى) آدم صلى الله عليه وسلم، ألقى عليه النوم، فلما نام خلق حواء من أحد أضلاعه، وهو لا يشعر ولا يألم، فلما انتبه فرآها قال: من هذه؟ قيل: هي زوجتك، فعطف عليها، وأحبّها ولو ألِم لخلْقها لم يحنُ عليها، ولم(2/1213)
يعطف أبداً، وإنما سمّيت حواء لأنها خلقت من حي.
قال ابن عباس: خلق الرجل من الأرض فجعلت همّته في الأرض، وخلقت المرأة من الرجل فجعلت همّتها في الرجل، فاحبسوا نساءكم.
قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا [رِجَالاً]} أي: نشر من آدم وحواء خلقاً كثيراً.
ومعنى {تَسَآءَلُونَ} أي: اتقوا الله الذي إذا سأل بعضكم بعضاً سأل به وجعله وسيلة، يقول السائل أسألك بالله، أنشدك بالله وشبهه، فكما تعظمونه بألسنتكم، عظّموه بالطاعة فيما أمركم به ونهاكم عنه.
وقال الضحاك: {تَسَآءَلُونَ بِهِ} أي تعاقدون به، وتعاهدون به.
وقال ابن عباس: {تَسَآءَلُونَ بِهِ} فتتعاطفون به.
{والأرحام} أي اتقوا الأرحام، هذا على قراءة من قرأ بالنصب. ومن قرأ بالخفض. فمعناه: تساءلون به وبالأرحام (تقولون أسألك بالله وبالرحم).
قال ابن عباس والمعنى: واتقوا الله في الأرحام فصلوها.(2/1214)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي: حفيظاً محيصاً لأعمالكم ومجازيكم عليها.
قال يعقوب: الوقف {تَسَآءَلُونَ بِهِ} على قراءة النصب و " الأرحام " على قراءة الخفض.
قوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} الآية.
هذه الآية عنى بها أوصياء اليتامى أن يعطوهم ما لهم إذا بلغوا الحلم وأنس منهم الرشد، ولا يقال يتيم إلاّ لمن (لم) يبلغ الحلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يُتم بعد البلوغ "، وسموا يتامى في الآية وإن كان قد بلغوا الحلم على الاسم الأول.
{وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} أي الحرام عليكم من أموالهم بالحلال من أموالكم.
قال الزهري: تعطي لهم مهزولاً وتأخذ سميناً أي: لا تأخذ الجيد من أموالهم وتعطي مكانه الرديء تقول شيئاً بشيء ودرهماً بدرهم وشاة بشاة والذي تأخذ خير من الذي تعطي والاسم واحد.(2/1215)
قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} معناه: لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوا الجميع فنهموا عن أكلها، وأحلّ الله لهم المخالطة بقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 218] وذلك أنهم اشتدّ عليهم عزل أموال اليتامى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. وحذّرهم هنا من أكلها عند المُخالطة. (وإلى) بمعنى: مع، وقيل: (إلى) على بابها، والمعنى لا تجمعوا أموالهم إلى أموالكم (إنه كان) أي: إن أكلكم أكوال اليتامى إثم كبير.
وقيل معنى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} لا تربح على يتيمك يهوى عندك دابة أو ثوباً أو غير ذلك وهو غير جاهل فتزداد عليه في الثمن.
وكون (إلى) بمعنى مع أولى، وعليه أكثر الناس، وذلك أن (إلى) أصلها أن تكون نهاية أو تكون حداً نحو {إِلَى الليل} [البقرة: 187] فهذا نهاية لا يدخل [ما] بعدها فيما قبلها ونحو قوله: {إِلَى الكعبين} [المائدة: 6] فهذا حد تدخل الكعبان في الغسل ومثله (إلى المرافين) فإن خرجت إلى عن هذين الأصلين كانت بمعنى حرف آخر، فلما لم يحسن فيها في هذا(2/1216)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
الموضع النهاية ولا الحد كانت بمعنى مع.
والهاء في (إنه كان) قيل: تعود على الأكل. وقيل: تعود على التبدل.
[وقيل: على المال].
والحوب: الإثم.
وقال نافع: {بالطيب} تمام، [وقال أحمد بن موسى {إلى أَمْوَالِكُمْ} تمام].
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى. . .} الآية.
إنما جاز أن تقع (ما) لمن يعقل، لأنها، والفعل: مصدر، وهي تقع للنعوت فكأنه قال: فانحكوا الطيب من النساء أي: الحلال، {فواحدة} أي: فانكحوا واحدة.
وقرأ الأعرج بالرفع على معنى: فواحدة تقنع يرفع بالابتداء(2/1217)
ويضمر الخبر.
وهذا أيضاً خطاب للأولياء في صداق اليتامى، والمعنى: فإن خفتم يا أولياء ألاّ تعدلوا في صداقهن، فتبلغوا صدقات أمثالهن فلا تنكحوهن {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} أي: الطيب يعني الحلال من غيرهن من واحدة إلى أربع {فَإِنْ خِفْتُمْ} أن تجوروا إذا نكحتم أكثر من واحدة، فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
قالت عائشة رضي الله عنهـ: هي اليتيمة تكون في حجر وليّها يعجبه مالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها، فنهى أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا من سواهن من النساء.
وقيل: معناها إنهم نهوا عن نكاح ما فوق الأربع لأن قريشاً كانت تتزوج العشرين من النساء والأكثر، فإذا صار الرجل معدماً رجع إلى مال يتيمه فأنفقه أو تزوّج به فنهوا عن ذلك.
وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال اليتامى ألاّ تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من النساء أربعاً، فإن خفتم أيضاً مع الأربع ألاّ تعدلوا في أموال يتاماكم، فاقتصروا على واحدة أو على ما ملكت أيمانكم قاله عكرمة.(2/1218)
وقيل: إن معناها أنهم كانوا يتحرون في أموال اليتامى ولا يتحرون في العدل بين النساء فلا تنكحوا منهن إلاّ من واحدة إلى أربع، ولا تزيدوا على ذلك.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} في الأربع فانكحوا واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} قاله ابن جبير والسدي، وقاله ابن عباس والضحاك وغيرهم، وهو اختيار الطبري.
وقال الحسن المعنى: وإن خفتم ألاّ تعدلوا في يتاماكم إذا نكحتموهنّ، فانكحوا ما طاب لكم منهنّ: اثنين أو ثلاثة أو أربعاً {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فانكحوا واحدة، أو فاقنعوا بما ملكت أيمانكم.
ومعنى: {تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} أي: في نكاح اليتامى ثم حذف. ومعنى {وَإِنْ خِفْتُمْ} عند أبي عبيدة: وإن أيقنتم.
وقال القتبي معناه: وإن علمتم.
ومعنى: {مَا طَابَ لَكُمْ}: ما حلّ لكم، وهذه الآية ناسخة لما كانوا عليه في الجاهلية(2/1219)
من تزويج ما شاء الرجل من النساء.
{ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أي أقرب ألاّ تجوروا، وتميلوا. يقال: عال إذا جار، يعول عولاً، ويقال: من الحاجة عال يعيل عيلة إذا احتاج، وأعال يعيل إذا كثر عياله.
قال الحسن: العول الميل في النساء، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وغيرهم.
وقال مجاهد: ألا تعولوا: ألاّ تضلوا.
وعن عائشة: ألاّ تجوروا.
وعول الفرائض من هذا لأنها تميل عن وجهها وحقها.(2/1220)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وقال الشافعي: {أَلاَّ تَعُولُواْ}، ألاّ يكثر من {أَلاَّ تَعُولُواْ}، وخطأه (في) هذا جميع النحويين وأهل اللغة، وإنما كان يجب على قوله: أن تعيلوا.
وأيضاً، فإنه قد أحلّ لنا ملك اليمين، وإن كثروا وهو ممّا يعال.
وقوله: {مثنى وثلاث ورباع} معدول عن اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع دل عليه، ولا تتجاوز العرب في العدل إلى ما بعد الأربع.
قوله: {وَآتُواْ النسآء صدقاتهن نِحْلَةً} الآية.
{نِحْلَةً} مصدر لأن قوله {وَآتُواْ النسآء} بمنزلة انحلوهنّ، فعمل في نحلة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال.(2/1221)
قوله: {هَنِيئاً مَّرِيئاً} حال من الهاء في {فَكُلُوهُ} يقال: قد هناني ومراني، فإذا أفردت قلت: أمراني ومعناه: فكلوه دواءً شافياً. يقال قد هناني الطعام، ومراني إذا صار لي دواء، وعلاجاً شافياً.
ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين أن يعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة.
قال قتادة: {صدقاتهن نِحْلَةً} فريضة. وقيل: ديانة.
وقيل: المعنى: " نحلة " من الله عز وجل للنساء دون الرجال إذ جعل على الرجل الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئاً فينحي لها ذلك. وقيل: نحلة عن طيب نفس.
وواحد الصدقات: صدقة، والصداق يفتح ويكسر عند يعقوب، وقال(2/1222)
المازني يفتح ولا يكسر.
وقال ابن زيد في معنى الآية: إنها أمر من الله ألاّ تنكح امرأة إلاّ بشيء واجب، والمخاطب بهذ الأزواج، قيل لهم: أعطوا من نكحتم صداقها [ولا] تنكحوا بغير صداق.
وقيل: إن المخاطب بهذا الأولياء لأنهم كانوا لا يعطونهنّ من صداقهن شيئاً يأخذه الولي نفسه، فنهى الله عز وجل عن ذلك. وقيل: بل المخاطب الأولياء أيضاً، لأنهم كانوا يعطي الرجل منهم أخته للآخر على أن يعطيه الآخر أخته، وهذا نكاح الشغار الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وعنه نهى الله عز وجل في هذه الآية.
قوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} أي: من الصداق إن تركنَ ذلك من غير(2/1223)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
مضارة منكم لهن: {فَكُلُوهُ} فهو مخاطبة للأزواج، وقيل: هو مخاطبة للأولياء إن وهبن من هنّ في حجورهم شيئاً من الصداق فهو حلال لهم لهم وأن تكون الآية خوطب بها الأزواج أولى وعليه أكثر الناس.
والهاء في {مِّنْهُ} تعود على المال، لأن المعنى: وآتوا النساء هذا المال الذي اسمه: صدقات فرجعت الهاء على المعنى الذي دلّ عليه الكلام.
وقيل: تعود على الإيتاء. وقيل: على الصداق.
وقال نافع: {صدقاتهن}، تمام. وهذا يدل على أن نحلة لا يعمل فيه ما قبله وأن المعنى أنحلهن الله عز وجل نحلة، أضمر الفعل. والأحسن في التمام أن تقف على " مريئاً ".
قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} الآية.
من قرأ: قياماً فهو مصدر، والمعنى الذي تصلح به أموركم فتقومون بها قياماً،(2/1224)