قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}(1/579)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{وما لنا أن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(1/579)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لنهلكن الظالمين}(1/579)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ظاهر ومعنى: {خاف مقامي} معناه: خاف مقامه بين يدي {وخاف وعيدِ} : ما أوعدت من العذاب(1/579)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{واستفتحوا} واستنصروا الله سبحانه على قومهم ففازوا بالنَّصر {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} متكبِّرٍ عن طاعة الله سبحانه {عنيدٍ} مجانب للحقَّ(1/579)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{من ورائه جهنم} أَيْ: أمامه جهنَّم فهو يردها {ويُسقى من ماء صديد} وهو ما يسيل من الجرح مُختلطاً بالدَّم والقيح(1/580)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{يتجرَّعه} يتحسَّاه بالجرع لا بمرَّةٍ لمرارته {ولا يكاد يسيغه} لا يجيزه في الحلق إلاَّ بعد إبطاءٍ {ويأتيه الموت} أَيْ: أسباب الموت من البلايا التي تصيب الكافر في النَّار {من كلِّ مكان} من كلِّ شعرةٍ في جسده {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} موتاً تنقطع معه الحياة {ومن ورائه} ومن بعد ذلك العذاب {عذاب غليظ} متَّصل الآلام ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافر فقال:(1/580)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ به الريح في يوم عاصف} أَيْ: شديد هبوب الرِّيح ومعنى الآية: إنَّ كلَّ ما تقرَّب به الكافر إلى الله تعالى فَمُحْبَطٌ غيرُ منتفعٍ به لأنَّهم أشركوا فيها غير الله سبحانه وتعالى كالرَّماد الذي ذّرَّتْهُ الرِّيح وصار هباءً لا يُنتفع به فذلك قوله: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} أَيْ: لا يجدون ثواب ما عملوا {ذَلِكَ هُوَ الضلال البعيد} يعني: ضلال أعمالهم وذهابها والمعنى: ذلك الخسران الكبير(1/580)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
{ألم تر} يا محمد {أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} أَيْ: بقدرته وصنعه وعلمه وإرادته وكلُّ ذلك حقٌّ {إن يشأ يذهبكم} يُمتكم أيُّها الكفَّار {ويأت بخلق جديد} خيرٍ منكم وأطوع(1/580)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
{وما ذلك على الله بعزيز} بممتنعٍ شديدٍ(1/580)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{وبرزوا لله جميعاً} خرجوا من قبورهم إلى المحشر {فقال الضعفاء} وهم الأتباع لأكابرهم الذين {استكبروا} عن عبادة الله: {إنَّا كنَّا} في الدُّنيا {لكم تبعاً فهل أنتم مغنون} دافعون {عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لو هدانا الله لهديناكم} أَيْ: إنَّما دعوناكم إلى الضَّلال لأنَّا كنَّا عليه ولو أرشدنا الله لأرشدناكم(1/580)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{وقال الشيطان} يعني: إبليس {لما قضي الأمر} فصار أهل الجنَّة في الجنَّة وأهل النَّار في النَّار وذلك أنَّ أهل النَّار حينئذٍ يجتمعون باللائمة على إبليس فيقوم خطيباً ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يعني: كون هذا اليوم فصدقكم وعده {ووعدتكم} أنَّه غير كائنٍ {فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ: ما أظهرت لكم حجَّةً على ما وعدتكم {إلاَّ أن دعوتكم} لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} فصدَّقتموني {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} حيث أجبتموني من غير برهانٍ {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ من قبل} بإشراككم إيَّاي مع الله سبحانه في الطَّاعة إنَّي جحدت أن أكون شريكاً لله فيما أشركتموني {إنَّ الظالمين} يريد: المشركين وقوله:(1/581)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{تحيتهم فيها سلام} يحييهم الله سبحانه بالسَّلام ويحيي بعضهم بعضاً بالسَّلام(1/581)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} بيَّن شبهاً ثمَّ فسَّره فقال: {كلمة طيبة} يريد: لا إله إلاَّ الله {كشجرة طيبة} يعني: النَّخلة {أصلها} أصل هذه الشَّجرة الطَّيِّبة {ثابت} في الأرض {وفرعها} أعلاها عالٍ {في السماء}(1/581)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{تؤتي} هذه الشَّجرة {أكلها} ثمرها {كلَّ حين} كلَّ وقتٍ في جميع السَّنة ستة أشهرٍ طلعٌ رخص وستة أشهرٍ رطبٌ طيِّبٌ فالانتفاع بالنَّخلة دائمٌ في جميع السَّنة كذلك الإِيمان ثابتٌ في قلب المؤمن وعمله وقوله وتسبيحه عالٍ مرتفع إلى السَّماء ارتفاع فروع النَّخلة وما يكتسبه من بركة الإِيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النَّخلة في أوقات السَّنة كُلِّها من الرُّطَب والبسر والتَّمر {ويضرب الله الأمثال للناس} يريد: أهل مكَّة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكي يتَّعظوا(1/582)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{ومثل كلمة خبيثة} يعني: الشِّرك بالله سبحانه {ك} مثل {شجرة خبيثة} وهي الكشوت {اجتثت} انتزعت واستؤصلت والكشوت كذلك {من فوق الأرض} لم يرسخ فيها ولم يضرب فيها بعرق {ما لها من قرار} مستقرٌّ في الأرض يريد: إنَّ الشكر لا ينتفع به صاحبه وليس له حجَّةٌ ولا ثباتٌ كهذه الشَّجرة(1/582)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} وهو قول لا إله إلا الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على الحقَّ {وَفِي الآخِرَةِ} يعني: في القبر يُلقِّنهم كلمة الحقِّ عند سؤال الملكين {ويضل الله الظالمين} لا يُلقِّن المشركين ذلك حتى إذا سُئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري {ويفعل الله ما يشاء} من تلقين المؤمنين الصَّواب وإضلال الكافرين(1/582)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
{ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً} بدَّلوا ما أنعم الله سبحانه عليهم به من الإيمان ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً حيث كفروا به {وأحلوا قومهم} الذين اتَّبعوهم {دار البوار} الهلاك ثمَّ فسَّرها فقال:(1/583)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
{جهنم يصلونها وبئس القرار} أَي: المقرُّ(1/583)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{وجعلوا لله أنداداً} يعني: الأصنام {ليضلوا عن سبيله} النَّاس عن دين الله {قل تمتعوا} بدنياكم {فإنَّ مصيركم إلى النار} وقوله:(1/583)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{لا بيع فيه} لا فداء فيه {ولا خلال} مخالة يعني: يوم القيامة وهو يوم لا بيعٌ فيه ولا شراءٌ ولا مُخالَّةٌ ولا قرابةٌ إنَّما هي أعمالٌ يُثاب بها قومٌ ويعاقب عليها آخرون(1/583)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
{الله الذي خلق السماوات وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ}(1/583)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{وسخر لكم الشمس والقمر} ذلَّلهما لما يُراد منهما {دائبين} مقيمين على طاعة الله سبحانه وتعالى في الجري {وسخر لكم الليل} لتسكنوا فيه {والنهار} لتبتغوا من فضله ومعنى لكم في هذه الآية لأجلكم ليس أنَّها مسخَّرة لنا هي مسخَّرةٌ لله سبحانه لأجلنا ويجوز أنَّها مسخَّرة لنا لانتفاعنا بها على الوجه الذي نريد وقوله:(1/583)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{وإن تعدوا نعمة الله} إنعام الله عليكم {لا تحصوها} لا تطيقوا عدَّها {إن الإنسان} يعني: الكافر {لظلوم} لنفسه {كفَّار} نعمة ربِّه وقوله:(1/584)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
{واجنبني} أَيْ: بعِّدني واجعلني من على جانبٍ بعيدٍ(1/584)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أَيْ: ضلُّوا بسببها {فمن تبعني} على ديني {فإنه مني} من المتدينين بديني {ومن عصاني} فيما دون الشِّرك {فإنك غفور رحيم}(1/584)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ربنا إني أسكنت من ذريتي} يعني: إسماعيل عليه السَّلام {بوادٍ غير ذي زرعٍ} مكَّة حرسها الله {عند بيتك المحرَّم} الذي مضى في علمك أنَّه يحدث في هذا الوادي {ربنا ليقيموا الصلاة} ليعبدوك {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} تريدهم وتحنُّ إليهم لزيارة بيتك {وارزقهم من الثمرات} ذُكر تفسيره في سورة البقرة {لعلَّهم يشكرون} كي يوحدونك ويعظموك(1/584)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}(1/584)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
{الحمد لله الذي وهب لي} أعطاني {على الكبر إسماعيل} لأنَّه وُلد له وهو ابن تسع وتسعين {وإسحاق} وُلد له وهو ابن مائة سنة واثنتي عشرة سنة وقوله:(1/584)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
{ومن ذريتي} أَيْ: واجعل منهم مَنْ يقيم الصَّلاة وقوله:(1/585)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{ولوالدي} استغفر لهما بشرط الإِيمان(1/585)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} يريد: المشركين من أهل مكَّة {إنما يؤخرهم} فلا يعاقبهم في الدُّنيا {ليوم تشخص} تذهب فيه أبصار الخلائق إلى الهواء حيرةً ودهشةً(1/585)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{مهطعين} مسرعين منطلقين إلى الداعي {مقنعي} رافعي {رؤوسهم} إلى السماء لا ينظر أحدٌ إلى أحدٍ {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا ترجع إليهم أبصارهم من شدَّة النَّظر فهي شاخصةٌ {وأفئدتهم هواء} وقلوبهم خاليةٌ عن العقول بما ذهلوا من الفزع وقوله:(1/585)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{فيقول الذين ظلموا} أَيْ: أشركوا {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} استمهلوا مدَّةً يسيرةً كي يجيبوا الدَّعوة فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لكم من زوال} حلفتم في الدُّنيا أنَّكم لا تُبعثون ولا تنتقلون إلى الآخرة وهو قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ الله من يموت} الآية(1/585)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
{وسكنتم} في الدُّنيا {في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} يعني: الأمم الكافرة {وتبيَّن لكم كيف فعلنا بهم} فلم تنزجروا {وضربنا لكم الأمثال} في القرآن فلم تعتبروا(1/586)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} يعني: مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وما همُّوا به من قتله أو نفيه {وعند الله مكرهم} هو عالمٌ به لا يخفى عليه ما فعلوا فهو يجازيهم عليه {وإن كان} وما كان {مكرهم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يعني: أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: ما كان مكرهم ليبطل أمراً هو في ثبوته وقوَّته كالجبال(1/586)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{فلا تحسبن الله} يا محمد {مخلف وعده رسله} ما وعدهم من الفتح والنَّصر {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} منيع {ذُو انْتِقَامٍ} من الكفَّار يجازيهم بما كان من سيئاتهم(1/586)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} تُبدَّل الأرض بأرضٍ كالفضَّة بيضاء نقيَّة يُحشر النَّاس عليها والسَّماء من ذهبٍ {وبرزوا} وخرجوا من القبور كقوله تعالى: {وبرزوا لله جميعاً}(1/586)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{وترى المجرمين} الذين زعموا أنَّ لله شريكاً وولداً يوم القيامة {مقرنين} موصولين بشياطينهم كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ في غلٍّ والأصفاد: سلاسل الحديد والأغلال(1/586)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{سرابيلهم} قُمصهم {من قطران} وهو الهِناء الذي يُطلى به الإِبل وذلك أبلغ لا شتعال النَّار فيهم {وتغشى وجوههم} وتعلو وجوههم {النار}(1/587)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{ليجزي الله كلَّ نفس} من الكفَّار {ما كسبت} أَيْ: ليقع لهم الجزاء من الله سبحانه بما كسبوا(1/587)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{هذا} القرآن {بلاغ للناس} أَيْ: أنزلناه إليك لتبلِّغهم {ولينذروا به} ولتنذرهم أنت يا محمد {وليعلموا} بما ذُكر فيه من الحجج {أنما هو إله واحدٌ وليذكر} وليتعظ {أولو الألباب} أهل اللُّبِّ والعقل والبصائر(1/587)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
{الر} أنا الله أرى {تلك آيات} هذه آيات {الكتاب} الذي هو قرآن مبين للأحكام(1/588)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{ربما يودُّ} الآية نزلت في تمنِّي الكفَّار الإِسلام عند خرةج مَنْ يخرج من النَّار(1/588)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} يقول: دع الكفَّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم {ويلههم الأمل} يشغلهم عن الأخذ بحظِّهم من الإِيمان والطَّاعة {فسوف يعلمون} إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا(1/588)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
{وما أهلكنا من قرية} يعني: أهلها {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أجلٌ ينتهون إليه يعني: إنَّ لأهل كلِّ قرية أجلاً مؤقَّتاً لا يُهلكهم حتى يبلغوه(1/588)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{ما تسبق من أمة أجلها} أيْ: ما تتقدَّم الوقت الذي وُقَّت لها {وما يستأخرون} لا يتأخَّرون عنه(1/589)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
{وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر} أَي: القرآن قالوا هذا استهزاءً(1/589)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{لو ما} هلا {تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} أنَّك نبيٌّ فقال الله عز وجل:(1/589)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
{ما ننزل الملائكة إلاَّ بالحق} أَيْ: بالعذاب {وما كانوا إذاً منظرين} أَيْ: لو نزلت الملائكة لم يُنظروا ولم يُمهلوا(1/589)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{إنا نحن نزلنا الذِّكر} القرآن {وإنا له لحافظون} من أن يُزاد فيه أو يُنقص(1/589)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
{ولقد أرسلنا من قبلك} أَيْ: رسلاً {في شيع الأوَّلين} أَيْ: فِرَقِهم(1/589)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يستهزئون} تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم(1/589)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{كذلك} أَيْ: كما فعلوا {نسلكه} ندخل الاستهزاء والشِّرك والضَّلال {في قلوب المجرمين} ثمَّ بيَّن أَيَّ شيء الذي أدخل في قلوبهم فقال:(1/589)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{لا يؤمنون به} أَيْ: بالرَّسول {وقد خلت} مضت {سنَّة الأولين} بتكذيب الرُّسل فهؤلاء المشركون يقتفون آثارهم في الكفر(1/589)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{ولو فتحنا عليهم} على هؤلاء المشركين {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} فطفقوا فيه يصعدون لجحدوا ذلك وقالوا:(1/589)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{إنما سكِّرت أبصارنا} أَيْ: سُدَّت بالسِّحر فتتخايل لأبصارنا غير ما نرى {بل نحن قوم مسحورون} سحرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نبصر(1/590)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
{ولقد جعلنا في السماء بروجاً} يعني: منازل الشَّمس والقمر {وزيناها} بالنُّجوم للمعتبرين والمستدلِّين على توحيد صانعها(1/590)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{وحفظناها من كلّ شيطان رجيم} مرميٍّ بالنُّجوم(1/590)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{إلاَّ من استرق السمع} يعني: الخطفة اليسيرة {فأتبعه} لحقه {شهاب} نارٌ {مبين} ظاهرٌ لأهل الأرض(1/590)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{والأرض مددناها} بسطناها على وجه الماء {وَأَلْقَيْنَا فيها رواسي} جبالاً ثوابت لئلا تتحرَّك بأهلها {وأنبتنا فيها} في الجبال {من كلِّ شيء موزون} كالذَّهب والفضَّة والجواهر(1/590)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} من الثِّمار والحبوب {ومَنْ لستم له برازقين} العبيد والدَّوابَّ والأنعام تقديره: وجعلنا لكم فيها معايش وعبيداً وإماءً ودوابَّ نرزقهم ولا ترزقوهم(1/590)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{وإن من شيء} يعني: من المطر {إلاَّ عندنا خزائنه} أَيْ: في حكمنا وأمرنا {وما ننزله إلاَّ بقدر معلوم} لا ننقصه ولا نزيده غير أنَّه يصرفه إلى مَنْ يشاء حيث شاء كما شاء(1/590)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{وأرسلنا الرياح لواقح} السَّحاب تَمُجُّ الماء فيه فهي لواقح بمعنى: ملقحاتٌ وقيل: لواقح: حوامل لأنَّها تحملُ الماء والتُّراب والسَّحاب {فأسقيناكموه} جعلناه سقياً لكم {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} لذلك الماء المنزل من السَّماء {بخازنين} بحافظين أَيْ: ليست خزائنه بأيديكم(1/590)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إذا مات جميع الخلائق(1/591)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{ولقد علمنا المستقدمين} الآية خص رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي الصَّلاةِ فَازْدَحَمَ النَّاسُ عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية يقول: قد علمنا جميعهم وإنَّما نجزيهم على نياتهم(1/591)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}(1/591)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{ولقد خلقنا الإنسان} آدم {من صلصال} طينٍ منتنٍ {من حمأ} طينٍ أسود {مسنون} متغيِّر الرَّائحة(1/591)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{والجانَّ} أبا الجنِّ {خلقناه من قبل} خَلْقِ آدم {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} وهي نارٌ لا دخان لها(1/591)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}(1/591)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
{فإذا سويته} عدَّلت صورته {ونفخت فيه} وأجريت فيه {من روحي} المخلوقة لي {فقعوا} فخرُّوا {له ساجدين} سجود تحية وقوله:(1/591)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}(1/591)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
{إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}(1/591)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
{قال يا إبليس ما لك أن لا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}(1/591)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
{قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}(1/591)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}(1/591)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
{وإنَّ عليك اللعنة} الآية يقول: يلعنك أهل السَّماء وأهل الأرض إلى يوم الجزاء فتحصل حينئذٍ من عذاب النار وقوله:(1/592)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1/592)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}(1/592)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{إلى يوم الوقت المعلوم} يعني: النَّفخة الأولى حين يموت الخلائق(1/592)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
{قَالَ رَبِّ بِمَا أغويتني} أَيْ: بسبب إغوائك إيَّاي {لأُزَيِّنَنَّ لهم} لأولاد آدم الباطل حتى يقعوا فيه(1/592)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
{إلاَّ عبادك منهم المخلصين} أَيْ: المُوحِّدين المؤمنين الذي أخلصوا دينهم عن الشِّرك(1/592)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عليّ} هذا طريق عليَّ {مستقيم} مرجعه إليَّ فأجازي كلاً بأعمالهم يعني: طريق العبوديَّة(1/592)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
{إنَّ عبادي} يعني: الذين هداهم واجتباهم {ليس لك عليهم سلطانٌ} قوَّةٌ وحجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الشِّرك والضَّلال(1/592)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
{وإنًّ جهنم لموعدهم أجمعين} يريد: إبليس ومَنْ تبعه من الغاوين(1/592)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{لها} لجهنم {سبعة أبواب} سبعة أطباقٍ طبقٌ فوق طبقٍ {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} من أتباع إبليس {جزء مقسوم}(1/592)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{إنَّ المتقين} للفواحش والكبائر {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني: عيون الماء والخمر يقال لهم:(1/592)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
{ادخلوها بسلامٍ} بسلامةٍ {آمنين} من سخط الله سبحانه وعذابه(1/593)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} ذكرناه في سورة الأعراف {إخواناً} متآخين {على سرر} جمع سرير {متقابلين} لا يرى بعضهم قفا بعض(1/593)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
{لا يمسهم} لا يصيبهم {فيها نصب} إعياء(1/593)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
{نبئ عبادي} أخبر أوليائي {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} لأوليائي {الرحيم} بهم(1/593)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
{وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} لأعدائي(1/593)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
{ونبئهم عن ضيف إبراهيم} يعني: الملائكة الذين أتوه في صورة الأضياف(1/593)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فقالوا سلاماً} سلَّموا سلاماً فـ {قال} إبراهيم: {إنَّا منكم وجلون} فَزِعُون(1/593)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
{قالوا لا توجل} : لاتفزع وقوله:(1/593)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} أَيْ: على حالة الكبر {فبم تبشرون} استفهامُ تعجُّبٍ كأنَّه عجب من الولد على كبره(1/593)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{قالوا بشرناك بالحق} بما قضاه الله أن يكون {فلا تكن من القانطين} الآيسين(1/593)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{قال ومَنْ يقنط} ييئس {من رحمة ربِّه إلاَّ الضالون} المكذِّبون(1/593)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
{قال فما خطبكم} ما شأنكم وما الذي جئتم له؟(1/594)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
{قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} يعني: قوم لوط(1/594)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
{إلاَّ آل لوط} أتباعه الذين كانوا على دينه وقوله:(1/594)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{قدَّرنا} قضينا ودبَّرنا أنَّها تتخلَّف وتبقى مع مَنْ بقي حتى تهلك وقوله:(1/594)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
{فلما جاء آل لوط المرسلون}(1/594)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
{منكرون} أَيْ: غير معروفين(1/594)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
{قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} بالعذاب الذي كانوا يشكُّون في نزوله(1/594)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
{وأتيناك بالحق} بالأمر الثَّابت الذي لا شكَّ فيه من عذاب قومك(1/594)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{فأسر بأهلك} مُفسَّرٌ في سورة هود {واتبع أدبارهم} امش على آثارهم ببناتك وأهلك لئلا يتخلَّف منهم أحدٌ {ولا يلتفت منكم أحد} لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من العذاب {وامضوا حيث تؤمرون} حيث يقول لكم جبريل عليه السَّلام(1/594)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{وقضينا إليه} أوحينا إليه وأخبرناه {ذلك الأمر} الذي أخبرته الملائكة إبراهيم من عذاب قومه وهو {أنَّ دابر هؤلاء} أَيْ: أواخر مَنْ تبقَّى منهم {مقطوع} مُهلَكٌ {مصبحين} داخلين في وقت الصُّبح يريد: إنَّهم مهلكون هلاك الاستئصال في ذلك الوقت(1/594)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
{وجاء أهل المدينة} مدينة قوم لوط وهي سذوم {يستبشرون} يفرحون طمعاً منهم في ركوب المعاصي والفاحشة حيث أُخبروا أنَّ في بيت لوطٍ مُرداً حساناً فقال لهم لوط:(1/595)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
{إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} عندهم بقصدكم إيَّاهم فيعلموا أنَّه ليس لي عندكم قدرٌ(1/595)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
{واتقوا الله ولا تخزون} مذكورٌ في سورة هود(1/595)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عن العالمين} عن ضيافتهم لأنَّا نريد منهم الفاحشة وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء(1/595)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
{قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} هذا الشَّأن يعني: اللَّذة وقضاء الوطر يقول: عليكم بتزويجهن أراد أن يقي أضيافه ببناته(1/595)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{لعمرك} بحياتك يا محمد {إنهم} إنَّ قومك {لفي سكرتهم يعمهون} في ضلالتهم يتمادون وقيل: يعني: قوم لوط(1/595)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
{فأخذتهم الصيحة} صاح بهم جبريل عليه السَّلام صيحةً أهلكتهم {مشرقين} داخلين في وقت شروق الشَّمس وذلك أنَّ تمام الهلاك كان مع الإشراق وقوله:(1/595)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سجيل}(1/595)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
{للمتوسمين} أَي: المُتفرِّسين المُتثبِّتين في النَّظر حتى يعرفوا حقيقة سمة الشَّيء(1/596)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{وإنها} يعني: مدينة قوم لوط {لبسبيل مقيم} على طريق قومك إلى الشَّام وهو طريقٌ لا يندرس ولا يخفى(1/596)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} لعبرةً للمصدِّقين يعني: إنَّ المؤمنين اعتبروا بها(1/596)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
{وإن كان أصحاب الأيكة} قوم شعيب وكانوا أصحاب غياضٍ وأشجار(1/596)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{فانتقمنا منهم} بالعذاب أخذهم الحرُّ أيَّاماً ثمَّ اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا {وإنَّهما} يعني: الأيكة ومدينة قوم لوطٍ {لبإمامٍ مبين} لبطريقٍ واضحٍ(1/596)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{ولقد كذَّب أصحاب الحجر} يعني: قوم ثمود والحِجر اسم واديهم {المرسلين} يعني: صالحاً وذلك أنَّ مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب جميع الرُّسل(1/596)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
{وآتيناهم آياتنا} يعني: ما أظهر لهم من الآيات في النَّاقة(1/596)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً} لطول عمرهم كان لا يبقى معهم السُّقوف فاتَّخذوا كهوفاً من الجبال بيوتاً {آمنين} من أن يقع عليهم(1/596)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
{فأخذتهم الصيحة} صيحة العذاب {مصبحين} حين دخلوا في وقت الصُّبح(1/596)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
{فما أغنى عنهم} ما دفع العذاب {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الأموال والأنعام(1/597)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق} أي: للثَّواب والعقاب أُثيب مَنْ آمن بي وصدَّق رسلي وأعاقب مَنْ كفر بي والموعد لذلك السَّاعة وهو قوله تعالى: {وإنَّ الساعة لآتية} أَيْ: إنَّ القيامة تأتي فيجازى المشركون بقبيح أعمالهم {فاصفح} عنهم {الصفح الجميل} أَيْ: أعرض إعراضاً بغير فحشٍ ولا جزعٍ(1/597)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
{إن ربك هو الخلاق العليم} بما خلق(1/597)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} يعني: الفاتحة وهي سبع آيات وتثنى في كلِّ صلاةٍ امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه السُّورة كما امتنَّ عليه بجميع القرآن حين قال: {والقرآن العظيم} أي: العظيم القدر(1/597)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرَّغبة في الدُّنيا فخظر عليه أن يمدَّ عينيه إليها رغبةً فيها وقوله: {أزواجاً منهم} أَيْ: أصنافاً من الكفَّار كالمشركين واليهود وغيرهم يقول: لا تنظر إلى ما متَّعناهم به في الدُّنيا {ولا تحزن عليهم} إن لم يؤمنوا {واخفض جَناحَكَ للمؤمنين} ليِّن جانبك وارفق بهم(1/597)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
{وقل إني أنا النذير المبين} أنذركم عذاب الله سبحانه وأُبيِّن لكم ما يقرِّبكم إليه(1/598)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
{كما أنزلنا} أَيْ: عذابنا {على المقتسمين} وهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدُّون الناس عَنْ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى بهم خزياً فماتوا شرَّ ميتةٍ(1/598)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
{الذين جعلوا القرآن عضين} جزَّؤوه أجزاءً فقالوا: سحرٌ وقالوا: أساطير الأولين وقالوا: مفترى(1/598)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(1/598)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{عما كانوا يعملون} أَيْ: يفترون من القول في القرآن يريد: لنسألنَّهم سؤال توبيخٍ وتقريعٍ(1/598)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{فاصدع بما تؤمر} يقول: أَظهرْ ما تؤمر واجهر بأمرك {وأعرض عن المشركين} لا تُبالِ بهم ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية(1/598)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{إنا كفيناك المستهزئين} وكانوا خمسة نفرٍ: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث سلَّط الله سبحانه عليهم جبريل عليه السَّلام حتى قتل كلَّ واحدٍ منهم بآفةٍ وكفى نبيه عليه السَّلام شرَّهم(1/598)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يعلمون}(1/599)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}(1/599)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
{فسبح بحمد ربك} قل: سبحان الله وبحمده {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} المصلِّين(1/599)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} أَي: الموت(1/599)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أَيْ: عذابه لمَنْ أقام على الشرك أي: قد فرب ذلك {فلا تستعجلوه} فإنَّه نازلٌ بكم لا محالة {سبحانه} براءةٌ له من السُّوء {وتعالى} ارتفع بصفاته {عما يشركون} عن إشراكهم(1/600)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{ينزل الملائكة} يعني: جبريل عليه السَّلام وحده {بالروح} بالوحي {من أمره} والوَحْيُ من أمر الله سبحانه {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد: النَّبيِّين الذين يختصُّهم بالرِّسالة {أن أنذروا} بدلٌ من الرُّوح أَيْ: أعلموا أهل الكفر {أنه لا إله إلاَّ أنا} مع تخويفهم إنْ لم يقرُّوا {فاتقون} بالتَّوحيد والطَّاعة ثمَّ ذكر ما يدلُّ على توحيده فقال:(1/600)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
{خلق السماوات} الآية(1/600)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: أُبيَّ بن خلف {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} مخاصمٌ {مبين} ظاهرُ الخصومة وذلك أنَّه خاصم النبيَّ صلى الله علي وسلم في إنكاره البعث وقوله:(1/600)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{لكم فيها دفء} يعني: ما تستدفئون به من الأكسية والأبنية من أشعارها وأصوافها وأوبارها {ومنافع} من النَّسل والدَّرِّ والرُّكوب(1/601)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} زينةٌ {حِينَ تُرِيحُونَ} تردُّونها إلى مَراحها بالعشايا {وحين تسرحون} تخرجونها إلى المرعى بالغداة(1/601)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{وتحمل أثقالكم} أمتعتكم {إلى بلد} لو تكلَّفتم بلوغه على غير الإِبل لشقَّ عليكم والشِّقِّ: المشقَّة {إنَّ ربكم لرؤوف رحيم} حيث منَّ عليكم بهذه المرافق وقوله:(1/601)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{ويخلق ما لا تعلمون} لم يُسمِّه فالله أعلم به(1/601)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
{وعلى الله قصد السبيل} أَي: الإِسلام والطَّريق المستقيم يُؤدِّي إلى رضا الله تعالى كقوله: {هذا صراط مستقيم} {ومنها} ومن السَّبيل {جائر} عادلٌ مائل كاليهوديَّة والنَّصرانية {ولو شاء لهداكم} أرشدكم {أجمعين} حتى لا تختلفوا في الدِّين وقوله:(1/601)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
{ومنه شجر} يعني: ما ينبت بالمطر وكلُّ ما ينبت على الأرض فهو شجر {فيه تسيمون} ترعون مواشيكم وقوله:(1/601)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لقوم يتفكرون}(1/601)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يعقلون}(1/601)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{وما ذرأ لكم} أَيْ: وسخَّر لكم ما خلق في الأرض {مختلفاً ألوانه} أَيْ: هيئته ومناظره يعني: الدَّوابَّ والأشجار وغيرهما(1/602)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{وهو الذي سخر البحر} ذلَّله للرُّكوب والغوص {لتأكلوا منه لحماً طرياً} السَّمك والحيتان {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} الدُّرَّ والجواهرَ {وترى الفلك} السُّفن {مواخر فيه} شواقّ للماء تدفعه بِجُؤْجُئِها بصدرها {ولتبتغوا من فضله} لتركبوه للتِّجارة فتطلبوا الرِّبح من فضل الله(1/602)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
{وألقى في الأرض رواسي} جبالاً ثابتةً {أن تميد} لئلا تميد أَيْ: لا تتحرَّك {بكم وأنهاراً} وجعل فيها أنهاراً كالنِّيل والفرات ودجلة {وسبلاً} وطرقاً إلى كلِّ بلدةٍ {لعلكم تهتدون} إلى مقاصدكم من البلاد فلا تضلُّوا(1/602)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{وعلامات} يعني: الجبال وهي علاماتُ الطُّرق بالنَّهار {وبالنجم} يعني: جميع النُّجوم {هم يهتدون} إلى الطُّرق والقِبلة في البرِّ والبحر(1/602)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
{أفمن يخلق} يعني: ما ذُكر في هذه السُّورة وهو الله تعالى {كمَنْ لا يخلق} يعني: الأوثان يقول: أَهما سواءٌ حتى يسوَّى بينهما في العبادة؟ {أفلا تذكرون} أفلا تتعظون كما اتَّعظ المؤمنون(1/602)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} مرَّ تفسيره {إنَّ الله لغفور} لتقصيركم في شكر نعمه {رحيم} بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم وقوله:(1/603)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}(1/603)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يخلقون}(1/603)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{أموات} أَيْ: هي أمواتٌ لا روح فيها يعني: الأصنام {غير أحياء} تأكيد {وما يشعرون أيان يبعثون} وذلك أنَّ الله سبحانه يبعث الأصنام لها أرواحٌ فيتبرَّؤون من عابديهم وهي في الدُّنيا جماد لا تعلم متى تُبعث وقوله:(1/603)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
{إلهكم} ذكر الله سبحانه دلائل وحدانيته ثمَّ أخبر أنَّه واحد ثمَّ أتبع هذا إنكار الكفَّار وحدانيَّته بقوله: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} جاحدةٌ غير عارفة {وهم مستكبرون} ممتنعون عن قبول الحقِّ(1/603)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{لا جرم} حقا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} الآية أَيْ: يُجازيهم بذلك {إنه لا يحب المستكبرين} لا يمدحهم ولا يُثيبهم(1/603)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أساطير الأولين} الآية نزلت في النَّضر بن الحارث وذكرنا قصَّته(1/603)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ليحملوا أوزارهم} هذه لام العاقبة لأنَّ قولهم للقرآن: أساطير الأولين أدَّاهم إلى أن حملوا أوزارهم كاملة لم يُكفَّر منها شيء بنكبةٍ أصابتهم في الدُّنيا لكفرهم {ومن أوزار الذين يضلونهم} لأنَّهم كانوا دعاةَ الضَّلالة فعليهم مثل أوزار من اتَّبعهم وقوله: {بغير علم} أَيْ: يضلُّونهم جهلاً منهم بما كانوا يكسبون من الإثم ثم صنيعهم فقال: {ألا ساء ما يزرون} أَيْ: يحملون(1/603)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{قد مكر الذين من قبلهم} وهو نمروذ بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السَّماء فيقاتل أهلها {فأتى الله} فأتى أمر الله وهو الرِّيح وخَلْقُ الزَّلزلة {بنيانهم} بناءهم {من القواعد} من أساطين البناء التي يعمده وذلك أنَّ الزَّلزلة خُلقت فيها حتى تحرَّكت بالبناء فهدمته وهو قوله: {فخرَّ عليهم السقف من فوقهم} يعني: وهم تحته {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من حيث ظنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه(1/604)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{ثم يوم القيامة يخزيهم} يُذلُّهم {ويقول أين شركائي} أَي: الذين في دعواكم أنَّهم شركائي أين هم ليدفعوا العذاب عنكم {الذين كنتم تشاقون} تخالفون المؤمنين {فيهم قال الذين أوتوا العلم} وهم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفَّار في القيامة: {إنَّ الخزي اليوم والسوء} عليهم لا علينا(1/604)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{الذين تتوفاهم الملائكة} مرَّ تفسيره في سورة النِّساء وقوله: {فألقوا السلم} أَي: انقادوا واستسلموا عند الموت وقالوا: {ما كنا نعمل من سوء} شرك {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك والتكذيب ثم قيل لهم:(1/604)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
{فادخلوا أبواب جهنم} الآية وقوله: {فلبئس مثوى} مقام {المتكبرين} عن التَّوحيد وعبادة الله سبحانه(1/605)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم} هذا كان في أيَّام الموسم يأتي الرَّجل مكَّة فيسأل المشركين عمَّا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أساطير الأولين ويسأل المؤمنين عن ذلك فيقولون: {خيراً} أَيْ: ثواباً لمَنْ آمن بالله ثمَّ فسَّر ذلك الخير فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في هذه الدنيا حسنة} قالوا: لا إله إلاَّ الله ثوابٌ مضاعف {ولدار الآخرة} وهي الجنَّة {خير} من الدُّنيا وما فيها(1/605)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لهم فيها ما يشاؤون كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}(1/605)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} طاهرين من الشِّرك(1/605)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
{هل ينظرون إلاَّ أن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم {أو يأتي أمر ربك} بالقتل والمعنى: هل يكون مدَّة إقامتهم على الكفر إلاَّ مقدار حياتهم إلى أن يموتوا أو يُقتلوا {كذلك فعل الذين من قبلهم} وهو التَّكذيب يعني: كفَّار الأمم الخالية {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتعذيبهم {وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظلمون} بإقامتهم على الشِّرك(1/605)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{فأصابهم} هذا مؤخَّر في اللَّفظ ومعناه التَّقديم لأنَّ التَّقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الآية ثمَّ يقول: {وما ظلمهم الله} الآية ومعنى: أصابهم {سيئات ما عملوا} أَيْ: جزاؤها {وحاق} أحاط {بهم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب(1/605)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
{وقال الذين أشركوا} يعني: أهل مكَّة: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عبدنا من دونه من شيء} أَيْ: ما أشركنا ولكنَّه شاءه لنا {وَلا حَرَّمْنَا من دونه من شيء} أَيْ: من السَّائبة والبحيرة وإنَّما قالوا هذا استهزاءً قال الله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي: من تكذيب الرُّسل وتحريم ما أحلَّ الله {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أَيْ: ليس عليهم إلاَّ التَّبليغ وقد بلَّغتَ يا محمَّدُ وبلَّغوا فأمَّا الهداية فهي إلى الله سبحانه وتعالى وقد حقَّق هذا فيما بعد وهو قوله:(1/606)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
{ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولاً} كما بعثناك في هؤلاء {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} بأن اعبدوا الله {واجتنبوا الطاغوت} الشيطان وكلَّ من يدعو إلى الضلاَّلة {فمنهم مَنْ هدى الله} أرشده {ومنهم مَنْ حقَّت} وجبت {عليه الضلالة} الكفر بالقضاء السابق {فسيروا في الأرض} معتبرين بآثار الأمم المكذِّبة ثمَّ أكَّد أنَّ مَنْ حقَّت عليه الضَّلالة لا يهتدي وهوقوله:(1/606)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{إن تحرص على هداهم} أَيْ: تطلبها بجهدك {فإنَّ الله لا يهدي مَنْ يضل} كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ}(1/606)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أغلظوا في الأيمان تكذيباً منهم بقدرة الله على البعث فقال الله تعالى: {بلى} ليبعثنَّهم {وعداً عليه حقاً}(1/606)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{ليبيِّن لهم} بالبعث ما اختلفوا فيه من أمره وهو أنَّهم ذهبوا إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون {وَلِيَعْلَمَ الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} ثمَّ أعلمهم سهولة خلق الأشياء عليه بقوله:(1/607)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{إنما قولنا لشيء} الآية(1/607)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{والذين هاجروا} نزلت في قومٍ عذَّبهم المشركون بمكَّة إلى أن هاجروا وقوله: {في الله} في رضا الله {لنبوئنهم في الدنيا حسنة} داراً وبلدةً حسنةً وهي المدينة {ولأجر الآخرة} يعني: الجنَّة(1/607)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{الذين صبروا} على أذى المشركين وهم في ذلك واثقون بالله تعالى مُتوكِّلون عليه(1/607)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{وما أرسلنا من قبلك} ذكرنا تفسيره في آخر سورة يوسف وقوله: {فاسألوا أهل الذكر} يعني: أهل التَّوراة فيخبرونكم أنَّ الأنبياء كلَّهم كانوا بشراً(1/607)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{بالبينات} أَيْ: أرسلناهم بالبيِّنات بالحجج الواضحة {والزبر} الكتب {وأنزلنا إليك الذكر} القرآن {لتبين للناس ما نزل إليهم} في هذا الكتاب من الحلال والحرام والوعد والوعيد {ولعلهم يتفكرون} في ذلك فيعتبرون(1/607)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
{أفأمن الذين مكروا السيئات} عملوا بالفساد يعني: عبادة الأوثان وهم مشركو مكَّة {أن يخسف الله بهم الأرض} كما خسف بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أَيْ: من حيث يأمنون فكان كذلك لأنَّهم أُهلكوا يوم بدر وما كانوا يُقدِّرون ذلك(1/608)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
{أو يأخذهم في تقلبهم} للسَّفر والتِّجارة {فما هم بمعجزين} بممتنعين على الله(1/608)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{أو يأخذهم على تخوّف} على تنقض وهو أن يأخذ الأوَّل حتى يأتي الأخذ على الجميع {فإنَّ ربكم لرؤوف رحيم} إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة(1/608)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{أو لم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} له ظلٌّ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ {يتفيَّأ} يتميَّل {ظلاله عن اليمين والشمائل} في أوَّل النَّهار عن اليمين وفي آخره عن الشِّمال إذا كنت مُتوجِّهاً إلى القبلة {سجداً لله} قال المُفسِّرون: ميلانها سجودها وهذا كقوله: {وظلالهم بالغدو والآصال} وقد مرَّ {وهم داخرون} صاغرون يفعلون ما يُراد منهم يعني: هذه الأشياء التي ذكرها أنَّها تسجد لله(1/608)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
{ولله يسجد} أَيْ: يخضع وينقاد بالتَّسخير {ما في السماوات وما في الأرض من دابة} يريد: كلَّ ما دبَّ على الأرض {والملائكة} خصَّهم بالذِّكر تفضيلاً {وهم لا يستكبرون} عن عبادة الله تعالى يعني: الملائكة(1/608)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{يخافون ربهم من فوقهم} يعني: الملائكة هم فوق ما في الأرض من دابَّة ومع ذلك يخافون الله فلأَنْ يخافَ مَنْ دونهم أولى {ويفعلون ما يؤمرون} يعني: الملائكة وقوله:(1/609)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هو إله واحدٌ فإياي فارهبون}(1/609)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{وله الدين واصباً} دائماً أَيْ: طاعته واجبةٌ أبداً {أفغير الله} الذي خلق كلَّ شيء وأمر أن لا تتَّخذوا معه إلهاً {تتقون}(1/609)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
{وما بكم من نعمة} من صحَّة جسمٍ أو سعة رزق أو متاع بمالٍ وولدٍ فكلُّ ذلك من الله {ثمَّ إذا مسكم الضرُّ} الأسقام والحاجة {فإليه تجأرون} ترتفعون أصواتكم بالاستغاثة(1/609)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
{ثمَّ إذا كشف الضر عنكم} يعني: مَنْ كفر بالله وأئرك بعد كشف الضُّرَّ عنه(1/609)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ليكفروا بما آتيناهم} ليجحدوا نعمة الله فيما فعل بهم {فتمتعوا} أمر تهديد {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم(1/609)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{ويجعلون} يعني: المشركين {لما لا يعلمون} أَي: الأوثان التي لا علم لها {نصيباً مما رزقناهم} يعني: ما ذُكر في قوله: {وهذا لشركائنا} {تالله لتسألنَّ} سؤال توبيخٍ {عمَّا كنتم تفترون} على الله من أنَّه أمركم بذلك(1/609)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
{ويجعلون لله البنات} يعني: خزاعة وكنانة زعموا أنَّ الملائكة بنات الله ثم نزه نفشه فقال تعالى: {سبحانه} تنزيهاً له عمَّا زعموا {وَلَهُمْ مَا يشتهون} يعني: البنين وهذا كقولهم: {أم له البنات} الآية(1/610)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى} أُخبر بولادة ابنةٍ {ظلَّ} صار {وجهه مسودّاً} متغيِّراً تغيُّرَ مغتمٍّ {وهو كظيم} ممتلئ غمّاً(1/610)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{يتوارى} يختفي ويتغيب مقدّراً مع نفسه {أيمسكه على هون} أيستحييها على هوانٍ منه لها {أم يدسُّه} يخفيه {في التراب} فعل الجاهليَّة من الوأد {ألا ساء} بئس {ما يحكمون} أَيْ: يجعلون لمن يعترفون بأنَّه خالقهم البناتِ اللاتي محلهنَّ منهم هذا المحل ونسبوه إلى اتِّخاذ الأولاد وجعلوا لأنفسهم البنين(1/610)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} العذاب والنَّار {ولله المثل الأعلى} الإِخلاص والتَّوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله(1/610)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{ولو يؤاخذ الله الناس} المشركين {بظلمهم} بافترائهم على الله تعالى {ما ترك عليها من دابة} يعني: أحداً من المشركين {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} وهو انقضاء عمرهم(1/610)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم وذلك هو البنات أَيْ: يحكمون له به {وتصف ألسنتهم الكذب} ثمَّ فسَّر ذلك الكذب بقوله: {أنَّ لهم الحسنى} أَي: الجنَّة والمعنى: يصفون أنَّ لهم مع قبح قولهم الجنَّة إن كان البعث حقّاً فقال الله تعالى: {لا} أَيْ: ليس الأمر كما وصفوه {جرم} كسب قولهم هذا {أنَّ لهم النار وأنَّهم مُفرْطون} متروكون فيها وقيل: مُقدَّمون إليها وقوله:(1/611)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{فهو وليُّهم اليوم} يعني: يوم القيامة وأُطلق اسم اليوم عليه لشهرته وقوله:(1/611)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
{لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} أَيْ: تُبيِّن للمشركين ما ذهبوا فيه إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون فتقوم الحجَّة عليهم ببيانك وقوله: {وهدى} أَيْ: والهداية والرَّحمة للمؤمنين وقوله:(1/611)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{والله أنزل} ظاهرٌ إلى قوله: {يسمعون} أَيْ: سماع اعتبار يريد: إنَّ في ذلك دلالة على البعث(1/611)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة} لدلالةً على قدرة الله تعالى ووحدانيَّته {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} وهو سرجين الكرش {ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} جائزاً في حلوقهم(1/611)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{ومن ثمرات} أَيْ: ولكم منها ما {تتخذون منه سكراً} وهو الخمر نزل هذا قبل تحريم الخمر {ورزقاً حسناً} وهو الخلُّ والزَّبيب والتَّمرُ {إنَّ في ذلك لآية لقومٍ يعقلون} يريد: عقلوا عن الله تعالى ما فيه قدرته(1/611)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
{وأوحى ربك إلى النحل} ألهمها وقذف في أنفسها {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} هي تتَّخذ لأنفسها بيوتاً إذا كانت لا أصحاب لها فإذا كانت لها أرباب اتِّخذت بيوتها ممَّا تبني لها أربابها وهو قوله: {ومما يعرشون} أَيْ: يبنون ويسقفون لها من الخلايا(1/612)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ ربك} طرق ربِّك تطلب فيها الرَّعي {ذللاً} منقادة مُسخَّرة مطيعة {يخرج من بطونها شراب} وهو العسل {مختلف ألوانه} منه أحمر وأبيض وأصفر {فيه} في ذلك الشَّراب {شفاء للناس} من الأوجاع التي شفاؤها فيه(1/612)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{والله خلقكم} ولم تكونوا شيئاً {ثمَّ يتوفاكم} عند انقضاء آجالكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر} وهو أردؤه يعني: الهرم {لكي لا يعلم بعد علم شيئاً} يصير كالصبيِّ الذي لا عقل له قالوا: وهذا لا يكون للمؤمنين لأنَّ المؤمن لا ينزع عنه علمه وإن كبر {إنّ الله عليم} بما يصنع {قدير} على ما يريد(1/612)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} حيث جعل بعضكم يملك العبيد وبعضكم مملوكاً {فما الذين فضلوا} وهم المالكون {برادي رزقهم} بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكونوا عبيدهم معهم {فيه سواء} وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمشركين في تصييرهم عباد الله شركاء له فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ {أفبنعمة الله يجحدون} حيث يتَّخذون معه شركاء(1/612)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} يعني: النِّساء {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} يعني: ولد الولد {ورزقكم من الطيبات} من أنواع الثِّمار والحبوب والحيوان {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} يعني: الأصنام {وبنعمة الله هم يكفرون} يعني: التَّوحيد(1/613)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لهم رزقا من السماوات} يعني: الغيث الذي يأتي من جهتها {والأرض} يعني: النَّبات والثِّمار {شيئاً} أَيْ: قليلاً ولا كثيراً {ولا يستطيعون} لا يقدرون على شيء(1/613)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
{فلا تضربوا لله الأمثال} لا تشبِّهوه بخلقه وذلك أنَّ ضرب المثل إنَّما هو تشبيه ذاتٍ بذاتٍ أو وصفٍ بوصفٍ والله تعالى منزَّه عن ذلك {أن الله يعلم} ما يكون قبل أن يكون {وأنتم لا تعلمون} قدر عظمته حيث أشركتم به(1/613)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ضرب الله مثلاً} بيَّن شبهاً فيه بيانٌ للمقصود ثمَّ ذكر ذلك فقال: {عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} لأنه عاجز مملوكٌ لا يملك شيئاً وهذا مثل ضربه الله لنفسه ولمَنْ عُبِدَ دونه يقول: العاجز الذي لا يقدر أن ينفق والمالك المقتدر على الإِنفاق لا يستويان فكيف يُسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرَّك وبين الله الذي هو على كل شيء قدير وهو رازقُ جميع خلقه ثمَّ بيَّن أنَّه المستحقُّ للحمد دون ما يعبدون من دونه فقال: {الحمد لله} لأنَّه المنعم {بل أكثرهم لا يعلمون} يقول: هؤلاء المشركون لا يعلمون أنَّ الحمد لي لأنَّ جميع النِّعم مني والمراد بالأكثر ها هنا الجميع ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال:(1/613)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} من الكلام لأنَّه لا يَفْهم ولا يُفهم عنه {وهو كَلٌّ} ثِقْلٌ ووبالٌ {على مولاه} صاحبه وقريبه {أينما يوجهه} يرسله {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأنَّه عاجزٌ لا يَفهم ما يقال له ولا يُفهم عنه {هَلْ يستوي هو} أَيْ: هذا الأبكم {ومَنْ يأمر بالعدل} وهو المؤمن يأمر بتوجيد الله سبحانه {وهو على صراط مستقيم} دينٍ مستقيمٍ يعني: بالأبكم أُبيَّ بن خلف وكان كلاًّ على قومه لأنَّه كان يؤذيهم ومَن يأمر بالعدل حمزة بن عبد المطلب(1/614)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ولله غيب السماوات} أَيْ: علم ما غاب فيهما عن العباد {وما أمر الساعة} يعني: القيامة {إلاَّ كلمح البصر} كالنَّظر بسرعةٍ {أو هو أقرب} من ذلك إذا أردناه يريد: إنه يأتي بها في أسرع من لمح البصر إذا أراده(1/614)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئاً} أَيْ: غير عالمين {وجعل لكم السَّمْعَ والأبصار} أَيْ: خلق لكم الحواسَّ التي بها يعلمون ويقفون على ما يجهلون(1/614)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} مذلَّلاتٍ {فِي جوِّ السماء} يعني: الهواء وذلك يدلُّ على مُسخِّرٍ سخَّرها ومدبِّرٍ مكَّنها من التَّصرُّف {ما يُمسكهنَّ إلاَّ الله} في حال القبض والبسط والاصطفاف(1/614)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} موضعاً تسكنون فيه ويستر عوراتكم وحرمكم وذلك أنَّه خلق الخشب والمدر والآلة التي يمكن بها تسقيف البيوت {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ} يعني: الأنطاع والأدم {بيوتاً} وهي القباب والخيام {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} يخفُّ عليكم حملها في أسفاركم {ويوم إقامتكم} لا يثقل عليكم في الحالتي {ومن أصوافها} يعني: الضَّأن {وأوبارها} يعني: الإِبل {وأشعارها} وهي المعز {أثاثاً} طنافس وأكسية وبُسطاً {ومتاعاً} تتمتَّعون به {إلى حين} البلى(1/615)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{والله جعل لكم مما خلق} من البيوت والشَّجر والغمام {ظلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} يعني: الغِيران والأسراب {وجعل لكم سرابيل} قمصاً {تقيكم الحر} تمنعكم الحرَّ والبرد فترك ذكر البرد لأنَّ ما وقى الحرَّ وقى البرد فهو معلوم {وسرابيل} يعني: دروع الحديد {تقيكم} تمنعكم {بأسكم} شدَّة الطَّعْن والضَّرب والرَّمي {كَذَلِكَ} مثل ما خلق هذه الأشياء لكم {يتمُّ نعمته عليكم} يريد: نعمة الدُّنيا والخطاب لأهل مكَّة {لعلَّكم تسلمون} تنقادون لربوبيته فتوحِّدونه(1/615)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
{فإن تولوا} أعرضوا عن الإِيمان بعد البيان {فإنما عليك البلاغ المبين} وليس عليك من كفرهم وجحودهم شيء(1/615)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{يعرفون نعمة الله ثمَّ ينكرونها} يعني: الكفَّار يُقرُّون بأنَّها كلَّها من الله تعالى ثمَّ يقولون بشفاعة آلهتنا فذلك إنكارهم {وأكثرهم} جميعهم {الكافرون}(1/616)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
{ويوم} أَيْ: وأنذرهم يوم {نبعث} وهو يوم القيامة {من كلِّ أمة شهيداً} يعني: الأنبياء عليهم السَّلام يشهدون على الأمم بما فعلوا {ثم لا يؤذن للذين كفروا} في الكلام والاعتذار {ولا هم يستعتبون} ولا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله تعالى(1/616)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{وإذا رأى الذين ظلموا} أشركوا {العذاب} النَّار {فلا يخفف عنهم} العذاب {ولا هم ينظرون} يمهلون(1/616)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} أوثانهم التي عبدوها من دون الله {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا} وذلك أنَّ الله يبعثها حتى تُوردهم النَّار فإذا رأوها عرفوها فقالوا: {ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول} أَيْ: أجابوهم فقالوا لهم: {إنكم لكاذبون} وذلك أنَّها كانت جماداً ما تعرف عبادة عابديها فيظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا مَن لم يشعر بالعبادة وهذا كقوله تعالى: {سيكفرون بعبادتهم}(1/616)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
{وألقوا إلى الله يومئذ السلم} استسلموا لحكم الله تعالى {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} بطل ما كانوا يأملون من أنَّ آلهتهم تشفع لهم(1/616)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}(1/617)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{ويوم نبعث في كلِّ أمَّة شهيداً} وهو يوم القيامة يبعث الله فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا {عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهو نبيُّهم لأنَّ كلَّ نبيٍّ بُعث من قومه {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} على قومك وتمَّ الكلام ها هنا ثمَّ قال: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً} بياناً {لكلِّ شيء} ممَّا أُمر به ونهي عنه(1/617)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{إنَّ الله يأمر بالعدل} شهادة أن لا إله إلاَّ الله {والإِحسان} وأداء الفرائض وقيل: بالعدل في الأفعال والإِحسان في الأقوال {وإيتاء ذي القربى} صلة الرَّحم فتؤتي ذا قرابتك من فضل ما رزقك الله {وينهى عن الفحشاء} الزِّنا {والمنكر} الشِّرك {والبغي} الاستطالة على النَّاس بالظُّلم {يعظكم} ينهاكم عن هذا كلِّه ويأمركم بما أمركم به في هذه الآية {لعلكم تذكرون} لكي تتَّعظوا(1/617)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} يعني: كلَّ عهدٍ يحسن في الشريعة الوفاء به {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لا تحنثوا فيها بعد ما وكَّدتموه بالعزم {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} بالوفاء حيث حلفتم والواو للحال(1/617)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{ولا تكونوا كالتي نقضت} أفسدت {غزلها} وهي امرأة حمقاء كانت تغزل طول يومها ثمَّ تنقضه وتفسده {من بعد قوة} الغزل بإمراره وفتله {أنكاثاً} قطعاً وتم الكلام هاهنا ثمَّ قال: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} أَيْ: غشَّاً وخديعةً {أن تكون} بأن تكون أو لأن تَكُونَ {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أَيْ: قوم أغنى وأعلى من قوم وذلك أنهم كانوا يحالفون قوماً فيجدون أكثر منهم وأعزَّّ فينقضون حلف أولئك ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزُّ فنُهوا عن ذلك {إنما يبلوكم الله به} أَيْ: بما أمر ونهى {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تختلفون} في الدنيا عن أيمان الخديعة فقال:(1/617)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عما كنتم تعملون}(1/618)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها} تزلّ عن الإِيمان بعد المعرفة بالله تعالى وهذا إنَّما يستحقُّ في نقض معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرة الدِّين {وتذوقوا السوء} العذاب {بما صَدَدتُم عن سبيل الله} وذلك أنَّهم إذا نقضوا العهد لم يدخل غيرهم في الإِسلام فيصير كأنهم صدُّوا عن سبيل الله وعن دين الله(1/618)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
{ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً} لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً من الدنيا {إنما عند الله} أَيْ: ما عند الله من الثَّواب على الوفاء {هو خير لكم إن كنتم تعلمون} ذلك(1/618)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{ما عندكم ينفد} يفنى وينقطع يعني: في الدُّنيا {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثَّواب والكرامة {باق} دائمٌ لا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} على دينهم وعمَّا نهاهم الله تعالى {أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} يعني: الطَّاعات وقوله:(1/619)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{فلنحيينه حياة طيبة} قيل هي القناعة وقيل: هي حياة الجنَّة(1/619)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{فإذا قرأت القرآن} أَيْ: إذا أردت أن تقرأ القرآن {فاستعذ بالله} فاسأل الله أن يعيذك ويمنعك {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(1/619)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: حجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الضَّلالة والمعنى: ليس له عليهم سلطان الإِغواء(1/619)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{إنما سلطانه على الذين يتولونه} يُطيعونه {والذين هم به} بسببه وطاعته فيما يدعوهم إليه {مشركون} بالله(1/619)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{وإذا بدلنا آية} أَيْ: رفعناها وأنزلنا غيرها لنوعٍ من المصلحة {والله أعلم} بمصالح العباد في {بما ينزَّل} من النَّاسخ والمنسوخ {قالوا} يعني: الكفَّار {إنما أنت مفترٍ} كذَّابٌ تقوله من عندك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} حقيقةَ القرآن وفائدةَ النَّسخ والتَّبديل(1/619)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{قل نزله روح القدس} جبريل عليه السَّلام {من ربك} من كلام ربِّك {بالحق} بالأمر الحقِّ {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} بما فيه من الحجج والآيات {وهدىً} وهو هدىً(1/620)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ولقد نعلم أنَّهم يقولون إنما يُعلِّمه} القرآنَ {بشرٌ} يعنون عبداً لبني الحضرمي كان يقرأ الكتب {لسان الذي يلحدون إليه} لغةُ الذي يميلون القول إليه ويزعمون أنَّه يُعلِّمك {أعجميّ} لا يُفصح ولا يتكلَّم بالعربية {وهذا} يعني القرآن {لسان} لغى {عربيّ مبين} أفصح ما يكون من العربيَّة وأبينه ثم أخير أن الكاذبين هم فقال:(1/620)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1/620)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} لأنَّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلاَّ الله هذا من قول البشر ثمَّ سمَّاهم كاذبين بقوله: {وأولئك هم الكاذبون}(1/620)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه} هذا ابتداء كلام وخبره في قوله: {فعليهم غضب من الله} ثمَّ استثنى المُكره على الكفر فقال: {إلاَّ مَنْ أكره} أَيْ: على التَّلفظ بكلمة الكفر {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صدراً} أَيْ: فتحه ووسَّعه لقبوله(1/620)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{ذلك} الكفر {بأنهم استحبوا الحياة الدنيا} اختاروها {على الآخرة وأنَّ الله} لا يهديهم ولا يريد هدايتهم ثمَّ وصفهم بأنَّهم مطبوعٌ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأنَّهم غافلون عمَّا يُراد بهم ثمَّ حكم عليهم بالخسار وأكد ذلك بقوله:(1/620)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم وأولئك هم الغافلون}(1/621)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
{لا جرم} أَيْ: حقَّاً {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} المغبونون(1/621)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{ثم إن ربك للذين هاجروا} يعني: المُستضعفين الذين كانوا بمكَّة {من بعد ما فتنوا} أَيْ: عُذِّبوا وأُوذوا حتى يلفظوا بما يرضيهم {ثمَّ جاهدوا} مع النبي صلى الله عليه وسلم {وصبروا} على الدِّين والجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعدها} أَيْ: من بعد تلك الفتنة التي أصابتهم {لغفور رحيم} يغفر لهم ما تلفَّظوا به من الكفر تقيَّة(1/621)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{يوم تأتي} أَيْ: اذكر لهم ذلك اليوم وذكِّرهم وهو يوم القيامة {كلُّ نفس} كلُّ أحدٍ لا تهمُّه إلاَّ نفسه فهو مخاصمٌ ومحتجٌ عن نفسه حتى إنَّ إبراهيم عليه السَّلام ليدلي بالخلَّة {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أَيْ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لا يُنْقَصُونَ ثمَّ أنزل الله تعالى في أهل مكَّة وما امتُحنوا به من القحط والجوع قوله تعالى:(1/621)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة} ذات أمنٍ لا يُغار على أهلها {مطمئنة} قارَّةً بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوفٍ أو ضيقٍ {يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان} يُجلب إليها من كلِّ بلدٍ كما قال: {يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء} {فكفرت بأنعم الله} حين كذَّبوا رسوله {فأذاقها الله لباس الجوع} عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين {والخوف} من سرايا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم {بما كانوا يصنعون} من تكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكَّة(1/621)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{ولقد جاءهم} يعني: أهل مكَّة {رسول منهم} من نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه {فكذبوه فأخذهم العذاب} يعني: الجوع(1/622)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
{فكلوا} يا معشر المؤمنين {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من الغنائم وهذه الآية والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة(1/622)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحيم}(1/622)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} أَيْ: لوصف ألسنتكم الكذب والمعنى: لا تقولوا لأجل الكذب وسببه لا لغيره: {هذا حلال وهذا حرام} يعني: ما كانوا يحلونه ويحرمونه إليه ثمَّ أوعد المفترين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يفلحون}(1/622)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{متاع قليل} أَيْ: لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ ثم يردون إلى عذاب أليمٍ(1/622)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ من قبل} يعني: في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية {وما ظلمناهم} بتحريم ما حرَّمنا عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بأنواع المعاصي(1/623)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أَيْ: الشِّرك {ثم تابوا من بعد ذلك} آمنوا وصدَّقوا {وأصلحوا} قاموا بفرائض الله وانتهوا عن معاصيه {إن ربك من بعدها} من بعد تلك الجهالة {لغفور رحيم}(1/623)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{إنَّ إبراهيم كان أمة} مؤمناً وحده والنَّاس كلُّهم كفَّارٌ {قانتاً} مُطيعاً {لله حنيفاً} لأنَّه اختتن وقام بمناسك الحج وقوله:(1/623)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
{شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(1/623)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{وآتيناه في الدنيا حسنة} يعني: الذِّكر والثَّناء الحسن في النَّاس كلِّهم {وإنَّه في الآخرة لمن الصالحين} هذا ترغيبٌ في الصَّلاح ليصير صاحبه من جملة مَنْ منهم إبراهيم عليه السَّلام مع شرفه(1/623)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حنيفاً} أمر باتِّباعه فِي مناسك الحجِّ كما علَّم جبريل عليه السَّلام إبراهيم عليه السَّلام(1/623)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} وهم اليهود أمروا أن يتفرَّغوا للعبادة في يوم الجمعة فقالوا لا نريده ونريد اليوم الذي فرغ الله سبحانه فيه من الخلق واختاروا السَّبْتَ ومعنى اختلفوا فيه أَيْ: على نبيِّهم حيث لم يطيعوه في أخذ الجمعة فجعل السَّبْتَ عليهم أَيْ: غَلَّظَ وضيَّق الأمر فيه عليهم(1/623)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ادع إلى سبيل ربك} دين ربِّك {بالحكمة} بالنُّبوَّة {والموعظة الحسنة} يعني: مواعظ القرآن {وجادلهم} افتلهم عمَّا هم عليه {بالتي هي أحسن} بالكلمة اللَّيِّنة وكان هذا قبل الأمر بالقتال {إن ربك هو أعلم} الآية يقول: هو أعلم بالفريقين فهو يأمرك فيهما بما هو الصَّلاح(1/624)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{وإن عاقبتم} الآية نزلت حين نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمزة وقد مُثِّل به فقال: واللَّهِ لأُمَثِلنَّ بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السَّلام بهذه الآيات فصبر النبي صلى الله عليه وسلم وكفَّر عن يمينه وأمسك عمَّا أراد وقوله سبحانه: {ولئن صبرتم} أَيْ: عن المجازاة بالمثلة {لهو} أَيْ: الصَّبر {خير للصابرين} ثمَّ أمره بالصَّبر عزماً فقال:(1/624)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} أَيْ: بتوفيقه ومعونته {ولا تحزن عليهم} على المشركين بإعراضهم عنك {وَلا تَكُ فِي ضيق مما يمكرون} لا يضيق صدرك من مكرهم(1/624)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الفواحش والكبائر {والذين هم محسنون} في العمل بالنَّصرة والمعونة(1/625)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{سبحان الذي} براءة من السُّوء {أسرى بعبده} سيَّر محمَّداً عليه السَّلام {من المسجد الحرام} يعني: مكَّة ومكَّةُ كلُّها مسجد {إلى المسجد الأقصى} وهو بيت المقدس وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بالثِّمار والأنهار {لنريه من آياتنا} وهو ما أُري في تلك اللَّيلة من الآيات التي تدلُّ على قدرة الله سبحانه ثمَّ ذكر أنَّه سبحانه أكرم موسى عليه السَّلام أيضاً قبله بالكتاب فقال:(1/627)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{وآتينا موسى الكتاب} التَّوراة {وجعلناه هدىً لبني إسرائيل} دللناهم به على الهدى {أن لا تتخذوا} فقلنا: لا تتخذوا وأن زائدة والمعنى: لا تتوكَّلوا على غيري ولا تتَّخذوا من دوني ربَّاً(1/627)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ذرية} يا ذريَّةَ {مَنْ حملنا مع نوح} يعني: بني إسرائيل وكانوا ذرية ن كان في سفينة نوح عليه السَّلام وفي هذا تذكيرٌ بالنِّعمة إذْ أنجى آباءهم من الغرق ثمَّ أثنى على نوحٍ فقال: {إِنَّهُ كَانَ عبداً شكوراً} كان إذا أكل حمد الله وإذا لبس ثوباً حمد الله(1/628)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{وقضينا إلى بني إسرائيل} أوحينا إليهم وأعلمناهم في كتابهم {لتفسدنَّ في الأرض مرتين} بالمعاصي وخلاف أحكام التَّوراة {ولتعلن علواً كبيراً} لتتعظمنَّ ولتبغُنَّ(1/628)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{فإذا جاء وعد أولاهما} يعني: أوَّل مرَّة في الفساد {بعثنا عليكم} أرسلنا عليكم وسلَّطنا {عباداً لنا} يعني: جالوت وقومه {أولي بأسٍ شديد} ذوي قوَّةٍ شديدةٍ {فجاسوا خلال الديار} تردَّدوا وطافوا وسط منازلهم ليطلبوا مَنْ يقتلونهم {وكان وعداً مفعولاً} قضاءً قضاه الله تعالى عليهم(1/628)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ثمَّ رددنا لكم الكرَّة عليهم} نصرناكم ورددنا الدَّولة لكم عليهم بقتل جالوت {وأمددناكم بأموالٍ وبنين} حتى عاد أمركم كما كان {وجعلناكم أكثر نفيراً} أكثر عدداً من عدوِّكم(1/628)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{إن أحسنتم} أَيْ: وقلنا: إن أحسنتم {أحسنتم لأنفسكم} إن أطعتم الله فيما بقي عفا عنكم المساوئ {وإنْ أسأتم} بالفساد وعصيان الأنبياء وقتلهم {فلها} فعليها يقع الوبال {فإذا جاء وعد الآخرة} المرَّة الأخيرة من إفسادكم وجواب (إذا) محذوف على تقدير: بعثناهم {لِيَسُوْءُوْا وجوهكم} وهو أنَّه عليهم بختنصر فسبى وقتل وخرب ومعنى لِيَسُوْءُوْا وجوهكم: ليخزوكم خزياً يظهر أثره في وجوهكم كبسي ذراريكم وإخراب مساجدكم {وليتبروا ما علوا} وليدمِّروا ويُخرِّبوا ما غلبوا عليه(1/628)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{عسى ربكم} وهذا أيضاً ممَّا أُخبروا به فِي كتابهم والمعنى: لعلَّ ربكم {أن يرحمكم} ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل {وإن عدتم} بالمعصية {عدنا} بالعقوبة هذا في الدنيا وأما في الآخرة فقد {جعلنا جهنم للكافرين حصيراً} أَيْ: سجناً ومحبساً(1/629)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} يرشد إلى الحالة التي هي أعدل وأصوب وهي توحيد الله تعالى والإِيمان برسله {ويبشر المؤمنين} بأنَّ {لهم أجراً كبيراً} وأنَّ أعداءهم معذَّبون في الآخرة(1/629)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عذابا أليما}(1/629)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ويدع الإِنسان} الآية ربَّما يدعو الإنسان على نفسه عند الغضب والضَّجر وعلى ولده وأهله بما لا يحبُّ أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} يعجل في الدُّعاء بالشَّرِّ كعجلته في الدُّعاء بالخير(1/629)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} علامتين تدلاَّن على قدرة خالقهما {فمحونا} طمسنا {آية الليل} نورها بما جعلنا فيها من السَّواد {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} مُضيئةً يُبصر فِيها {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} بمحو آية اللَّيل ولولا ذلك ما كان يُعرف اللَّيل من النَّهار وكان لا يتبيَّن العدد {وكل شيء} ممَّا يُحتاج إليه {فصلناه تفصيلاً} بينَّاه تبييناً لا يلتبس معه بغيره(1/629)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه} كتبنا عليه ما يعمل من خيرٍ وشرٍّ {ونخرج له} ونُظهر له {يوم القيامة} صحيفة عمله منشورةً(1/630)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{اقرأ كتابك} أَيْ: يُقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} مُحاسباً يقول: كفيتَ أنت في محاسبة نفسك(1/630)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} ثواب اهتدائه لنفسه {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} على نفسه عقوبة ضلاله {وَلا تَزِرُ وازرة وزر أخرى} وذلك أنَّ الوليد بن المغيرة قال: اتَّبعوني وأنا أحمل أوزاركم فقال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازرة وزر أخرى} أي: لا تحمل نفس ذنب غيرها {وما كنا معذبين} أحداً {حتى نبعث رسولاً} يُبيِّن له ما يجب عليه إقامةً للحجَّة(1/630)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمرناهم على لسان رسولٍ بالطَّاعة وعنى بالمترفين: الجبَّارين والمُسلَّطين والملوك وخصَّهم بالأمر لأنَّ غيرهم تبعٌ لهم
{ففسقوا فيها} أَيْ: تمرَّدوا في كفرهم والفسق فِي الكفر: الخروج إلى أفحشه {فحقَّ عليها القول} وجب عليها العذاب {فدمرناها تدميراً} أهلكناها إهلاك استئصال(1/630)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}(1/630)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{من كان يريد العاجلة} بعلمه وطاعته وإسلامه الدُّنيا {عجلنا له فيها ما نشاء} القدر الذي نشاء {لمن نريد} أن نعجِّل له شيئاً ثمَّ يدخل النَّار في الآخرة {مذموماً} ملوماً {مدحوراً} مطروداً لأنَّه لم يرد الله سبحانه بعمله(1/630)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{ومن أراد الآخرة} الجنَّة {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} عمل بفرائض الله {وهو مؤمن} لأنَّ الله سبحانه لا يقبل حسنةً إلاَّ من مؤمنٍِ {فأولئك كان سعيهم مشكوراً} تُضاعف لهم الحسنات(1/630)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{كلاً} من الفريقين {نمدُّ} نزيد ثمَّ ذكرهما فقال: {هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} يعني: الدُّنيا وهي مقسومةٌ بين البرِّ والفاجر {وما كان عطاء ربك محظوراً} ممنوعاً في الدُّنيا من المؤمنين والكافرين ثمَّ يختصُّ المؤمنين في الآخرة(1/630)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} في الرِّزق فمن مُقلٍّ ومُكثرٍ {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} من الدُّنيا لأنَّ درجات الجنَّة يقتسمونها على قدر أعمالهم(1/631)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{ولا تجعل} أَيُّها الإِنسان المخاطب {مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً} ملوماً {مخذولاً} لا ناصر لك(1/631)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{وقضى} وأمر {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاَّ إيَّاه وبالوالدين إحساناً} وأمرَ إحساناً بالوالدين {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} يقول: إن عاش أحد والديك حتى يشيب ويكبر أو هما جميعاً {فلا تقل لهما أف} (لا تقل لهما رديئاً) من الكلام ولا تستثقلنَّ شيئاً من أمرهما {ولا تنهرهما} لا تواجههما بكلامٍ تزجرهما به {وقل لهما قولاً كريماً} ليِّناً لطيفاً(1/631)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{واخفض لهما جناح الذل} ألن لهما جانبك واخضع لهما {من الرحمة} أَيْ: من رقَّتك عليهما وشفقتك {وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني} مثل رحمتهما إيَّاي فِي صغري حتى ربَّياني {صغيراً}(1/632)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ربكم أعلم بما في نفوسكم} بما تُضمرون من البِرِّ والعقوق {إن تكونوا صالحين} طائعين لله {فإنَّه كان للأوابين} الرَّاجعين عن معاصي الله تعالى {غفوراً} يغفر لهم ما بدر منهم وهذا فيمن بدرت منه بادرةٌ وهو لا يُضمر عقوقاً فإذا رجع عن ذلك غفر الله له ثمَّ أنزل في برِّ الأقارب وصلة ارحامهم بالإِحسان إليهم قوله:(1/632)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ممَّا جعل الله لهما من الحقِّ في المال {ولا تبذر تبذيراً} يقول: لا تنفق في غير الحقِّ(1/632)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{إنَّ المبذرين} المنفقين فِي غير طاعة الله {كَانُوا إِخْوَانَ الشياطين} لأنهم يوافقهم فيما يأمرهم به ثمَّ ذمَّ الشَّيطان بقوله: {وكان الشيطان لربه كفوراً} جاحداً لنعم الله وهذا يتضمنَّ أنَّ المُنفق فِي السَّرف كفور(1/632)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{وإمَّا تعرضنَّ عنهم} الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله فقراء الصَّحابة ولم يكن عنده ما يعطيهم أعرض عنهم حياءً منهم وسكت وهو قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} انتظار الرِّزق من الله تعالى يأتيك {فقل لهم قولاَ ميسوراً} ليِّناً سهلاً وكان إذا سُئل ولم يكن عنده ما يُعطي قال: يرزقنا الله وإيَّاكم من فضله(1/633)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} لا تُمسكها عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنَّها مقبوضة إلى عنقك لا تنبسط بخيرٍ {ولا تبسطها كلَّ البسط} في النفقة والعطيَّة {فتقعد ملوماً} تلوم نفسك وتُلام {محسوراً} ليس عندك شيء من قولهم: حسرتُ الرَّجل بالمسألة: إذا أفنيتَ جميع ما عنده نزلت هذه الآية حين وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يجد ما يلبسه للخروج فبقي في البيت(1/633)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يوسع على مَنْ يشاء ويُضيِّق على مَنْ يشاء {إنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً} حيث أجرى رزقهم على ما علم فِيهِ صلاحهم(1/633)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ} سبق تفسيره في سورة الأنعام وقوله: {خطأ} أي: إثما(1/633)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلا}(1/634)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالحق} بكفرٍ بعد إسلام أو زنا بعد إحصانٍ أو قتل نفسٍ بتعمُّدٍ {ومَنْ قتل مظلوماً} أَيْ: بغير إحدى هذه الخصال {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} وارثه {سلطاناً} حجَّةً في قتل القاتل إن شاء أو أخذ الدِّية أو العفو {فلا يسرف في القتل} فلا يتجاوز ما حدَّ له وهو أن يقتل بالواحد اثنين أو غير القاتل ممَّنْ هو من قبيلة القاتل كفعل العرب في الجاهليَّة {إنَّه} إنَّ الوليَّ {كَانَ مَنْصُورًا} بقتل قاتل وليِّه والاقتصاص منه وقيل: {إنَّه} إنَّ المقتول ظلماً {كان منصوراً} في الدُّنيا بقتل قاتله وفي الآخرة بالثَّواب(1/634)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} يعني: الأكل بالمعروف وذكرنا هذا في سورة الأنعام {وأوفوا بالعهد} وهو كلُّ ما أمر ونهى عنه {إنَّ العهد كان مسؤولاً} عنه(1/634)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{وأوفوا الكيل} أتمُّوه {إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم} بأقوم الموازين {ذلك خيرٌ} أقرب إلى الله تعالى {وأحسن تأويلاً} عاقبةً(1/634)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لا تقولنَّ في شيءٍ بما لا تعلم {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً} أَيْ: يسأل الله العباد فيم استعملوا هذه الحواس(1/634)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{ولا تمش في الأرض مرحاً} أَيْ: بالكبر والفخر {إنَّك لن تخرق الأرض} لن تثقبها حتى تبلغ آخرها ولا تطاول الجبال والمعنى: إنَّ قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك صلة إلى الاختيال يريد: إنَّه ليس ينبغي للعاجز أن يذبخ ويستكبر(1/635)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{كُلُّ ذَلِكَ} إشارةٌ إلى جميع ما تقدَّم ذكره مما به ونهى عنه {كان سَيِّئُهُ} وهو ما حرَّم الله سبحانه ونهى عنه(1/635)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{ذلك} يعني: ما تقدَّم ذكره {ممَّا أوحى إليك ربك من الحكمة} من القرآن ومواعظه وباقي الآية مفسَّر في هذه السُّورة ثمَّ نزل فيمن قال من المشركين: الملائكة بنات الله:(1/635)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{أفأصفاكم ربكم بالبنين} أَيْ: آثركم وأخلص لكم البنين دونه وجعل لنفسه البنات {إنكم لتقولون قولاً عظيماً}(1/635)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{ولقد صرَّفنا} بيَّنَّا {في هذا القرآن من كلِّ مثل} يوجب الاعتبار به والتَّفكُّر فيه {ليذكروا} ليتَّعظوا ويتدبَّروا {وما يزيدهم} ذلك البيان والتَّصريف {إلاَّ نفوراً} من الحقِّ وذلك أنَّهم اعتقدوا أنَّها شُبَهٌ وحيلٌ فنفروا منها أشدَّ النُّفور(1/635)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{قل} للمشركين: {لو كان معه} مع الله {آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العرش سبيلاً} إذا لا بتغت الآلهة أن تزيل ملك صاحب العرش(1/635)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}(1/635)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{تُسَبِّحُ له السماوات} الآية المراد بالتَّسبيح في هذه الآية الدلالة عل أنَّ الله سبحانه خالقٌ حكيمٌ مبرَّأٌ من الأسواء والمخلوقون والمخلوقاتُ كلُّها تدلُّ على هذا وقوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} مخاطبة للكفَّار لأنَّهم لا يستدلُّون ولا يعتبرون(1/635)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{وإذا قرأت القرآن} الاية نزلت في قومٍ كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه إذا قرأ القرآن فحجبه الله تعالى عن أعينهم عند قراءة القرآن حتى كانوا يمرُّون به ولا يرونه وقوله: {مستوراً} معناه: ساتراً(1/636)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{وجعلنا على قلوبهم أكنة} سبق تفسيره في سورة الأنعام {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن {ولوا على أدبارهم نفور} أعرضوا عنك نافرين(1/636)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{نحن أعلم بما يستمعون به} نزلت حين دعا علي رضي الله عنه أشراف قريش إلى طعام اتَّخذه لهم ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وهم يقولون فيما بينهم متناجين: هو ساحرٌ وهو مسحورٌ فأنزل الله تعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به} أَيْ: يستمعونه أخبر الله سبحانه أنَّه عالمٌ بتلك الحال وبذلك الذين كان يستمعونه {إذ يستمعون} إلى الرَّسول {وَإِذْ هُمْ نجوى} يتناجون بينهم بالتَّكذيب والاستهزاء {إذ يقول الظالمون} المشركون: {إن تتبعون} ما تتبعون {إِلا رَجُلا مسحوراً} مخدوعاً أن اتَّبعتموه(1/636)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} بَيَّنوا لك الأشباه حين شبَّهوك بالسَّاحر والكاهن والشَّاعر {فضلوا} بذلك عن طريق الحق {فلا يستطيعون سبيلاً} مخرجاً(1/637)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{وقالوا أإذا كنا عظاماً} بعد الموت {ورفاتاً} وتراباً أَنُبعث ونخلق خلقاً جديداً؟(1/637)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
{قل كونوا حجارة أو حديداً} الآية معناها يقول: قدِّروا أنَّكم لو خُلقتم من حجارةٍ أو حديدٍ أو كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدورهم لأماتكم الله ثمَّ أحياكم لأنَّ القدرة التي بها أنشأكم بها يُعيدكم وهذا معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فطركم} خلقكم {أول مرَّة فسينغضون إليك رؤوسهم} يُحرِّكونها تكذيباً لهذا القول {ويقولون متى هو} ؟ أَي: الإِعادة والبعث {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} يعني: هو قريب(1/637)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فسينغضون إليك رؤوسهم وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قريبا}(1/637)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{يوم يدعوكم} بالنداء الذي يسمعكم هو النَّفخة الأخيرة {فتستجيبون} تجيبون {بحمده} وهو أنَّهم يخرجون من القبور يقولون: سبحانك وبحمدك حمدوا حين لا ينفعهم الحمد {وَتَظُنُّونَ إِنْ لبثتم إلاَّ قليلاً} استقصروا مدَّة لبثهم في الدُّنيا أو في البرزخ مع ما يعلمون من طول لبثهم فِي الآخرة(1/637)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{وقل لعبادي} المؤمنين: {يقولوا التي هي أحسن} نزلت حين شكا أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه أذى المشركين واستأذنوه في قتالهم فقيل له: قل لهم: يقولوا للكفَّار الكلمة التي هي أحسن وهو أن يقولوا: يهديكم الله {إن الشيطان} هو الذي يفسد بينهم(1/637)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم} يوقفكم فتؤمنوا {أو إن يشأ يعذبكم} بأن يميتكم على الكفر {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} ما وكل إليك إيمانهم فليس عليك إلاَّ التَّبليغ(1/638)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{وربك أعلم بمَنْ في السماوات والأرض} لأنَّه هو خالقهم {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} عن علمٍ بشأنهم ومعنى تفضيل بعضهم على بعض: تخصيص كلِّ واحد منهم بفضيلة دون الآخر {وآتينا داود زبوراً} أَيْ: فلا تنكروا تفضيل محمد عليه السَّلام وإعطاءه القرآن فقد جرت بهذا في النَّبيين(1/638)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
{قل ادعوا الذين زعمتم} الآية ابتلى الله سبحانه قريشاً بالقحط سنين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم} ادَّعيتم أنَّهم آلهةٌ {من دونه} ثمَّ أخبر عن الآلهة فقال: {فَلا يَمْلِكُونَ كشف الضر} يعني: البؤس والشِّدة {عنكم ولا تحويلاً} من السَّقم والفقر إلى الصَّحة والغنى ثمَّ ذكر أولياءَه فقال:(1/638)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} يتضرَّعون إلى الله تعالى في طلب الجنَّة {أيُّهم} هو {أقرب} إلى رحمة الله سبحانه يبتغي الوسيلة إليه بصالح الأعمال(1/638)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{وإن من قرية} الآية أَيْ: وما من أهل قريةٍ إلاَّ ستهلك إمَّا بموت وإمَّا بعذاب يستأصلهم أمَّا الصَّالحة فبالموت وأمَّا الطَّالحة فبالعذاب {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} مكتوباً في اللَّوح المحفوظ(1/639)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{وما منعنا أن نرسل بالآيات} لمَّا سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم أن يوسع لهم مكة ويجعل الصَّفا ذهباً أتاه جبريل عليه السَّلام فقال: إن شئت كان ما سألوا ولكنَّهم إن لم يؤمنوا لم يُنظروا وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعناها: أنَّا لم نرسل بالآيات لئلا يُكذِّب بها هؤلاء كما كذب الذين من قبلهم فيستحقُّوا المعاجلة بالعقوبة {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} آيةً مُضيئةً بيِّنةً {فظلموا بها} جحدوا أنَّها من الله سبحانه {وما نرسل بالآيات} أَي: العبر والدِّلالات {إلاَّ تخويفاً} للعباد لعلَّهم يخافون القادر على ما يشاء(1/639)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أَيْ: فهم في قبضته وقدرته يمنعك منهم حتى تبلِّغ الرِّسالة ويحول بينك وبينهم أن يقتلوك {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} يعني: ما أُري ليلة أُسري به وكانت رؤيا يقظة {والشجرة الملعونة في القرآن} وهي شجرة الزَّقوم {إلاَّ فتنةً للناس} فكانت الفتنة في الرُّؤيا أنَّ بعضهم ارتدَّ حين أعلمهم بقصَّة الإسراء وازداد الكفَّار تكذيباً وكانت الفتنة في الزَّقوم أنَّهم قالوا: إنَّ محمداً يزعم أنَّ فِي النار شجراً والنَّار تأكل الشَّجر وقالوا: لا نعلم الزَّقوم إلاَّ التَّمر والزُّبد فأنزل الله تعالى في ذلك: {إنا جعلناها فتنة للظالمين} الآيات {ونخوفهم} بالزَّقوم فما يزدادون إلاَّ كبراً وعتوَّاً(1/639)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}(1/740)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{قال} يعني: إبليس {أرأيتك} أَيْ: أرأيت والكاف توكيدٌ للمخاطبة {هذا الذي كرَّمت عليّ} فضَّلته يعني: آدم عليه السَّلام {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} لأستأصلنَّهم بالإغواء ولأستولينَّ عليهم {إلاًّ قليلاً} يعني: ممَّن عصمه الله تعالى(1/640)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{قال} الله: {اذهب} إنِّي أنظرتك إلى يوم القيامة {فمن تبعك} أطاعك {منهم} من ذُرِّيَّتِهِ {فإنَّ جهنم جزاؤكم جزاءً موفوراً} وافراً(1/640)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{واستفزز من استطعت منهم} أَيْ: أزعجه واستخفَّه إلى إجابتك {بصوتك} وهو الغناء والمزامير {وأجلب عليهم} وصحْ {بخيلك ورجلك} واحثثهم عليهم بالإِغواء وخيلُه: كلُّ راكبٍ في معصية الله سبحانه وتعالى وَرَجِلُه: كلُّ ماشٍ على رجليه في معصية الله تعالى {وشاركهم في الأموال} وهو كلُّ ما أُخذ بغير حقٍّ {والأولاد} وهو كلُّ ولد زنا {وعدهم} أن لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب وهذه الأنواع من الأمر كلُّها أمر تهديد قال الله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا}(1/640)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{إنَّ عبادي} يعني: المؤمنين {ليس لك عليهم سلطانٌ} حجَّةٌ في الشِّرك {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} لأوليائه يعصمهم من القبول مِن إبليس(1/641)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{ربكم الذي يزجي} يسيِّر {لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} في طلب التِّجَارة {إنه كان بكم} بالمؤمنين {رحيماً}(1/641)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{وإذا مسَّكم الضرُّ} خوف الغرق {في البحر ضلَّ} زال وبطل {من تدعون} من الآلهة {إلاَّ إياه} إلاَّ الله {فلما نجاكم} من الغرق وأخرجكم {إلى البر أعرضتم} عن الإيمان والتَّوحيد {وكان الإِنسان} الكافر لربِّه {كفوراً} لنعمة ربِّه جاحداً ثمًّ بيَّن أنَّه قادر أن يهلكهم فِي البرِّ فقال:(1/641)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
{أفأمنتم} يريد: حيث أعرضتم حين سلمتم من هول البحر {أن يخسف بكم} يُغيِّبكم ويذهبكم فِي {جانب البَرِّ} وهو الأرض {أو يرسل عليكم حاصباً} عذاباً يحصبهم أَيْ: يرميهم بحجارةٍ {ثمَّ لا تجدوا لكم وكيلاً} مانعاً ولا ناصراً(1/641)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{أم أمنتم أن يعيدكم} فِي البحر {تارةً} مرةً {أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصفاً} ريحاً شديدةً تقصف الفلك وتكسره {فيغرقكم بما كفرتم} بكفركم حيث سلمتم المرة الأولى {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} ثائراً ولا ناصرا والمعنى: لا تجدوا مَنْ يتًّبعنا بإنكار ما نزل بكم(1/641)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{ولقد كرَّمنا} فضَّلنا {بني آدم} بالعقل والنُّطق والتَّمييز {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} على الإِبل والخيل والبغال والحمير {و} في {البحر} على السُّفن {ورزقناهم من الطيبات} الثِّمار والحبوب والمواشي والسَّمن والزُّبد والحلاوى {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كثير ممن خلقنا} يعني: البهائم والدَّوابَّ والوحوش(1/642)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{يوم ندعو} يعني: يوم القيامة {كلَّ أناسٍ بأمامهم} بنبيِّهم وهو أن يقال: هاتوا مُتَّبعي إبراهيم عليه السَّلام هاتوا مُتبَّعي موسى عليه السلام هاتوا متبعي محمد عليه السلام فيقول أهل الحقِّ فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثمَّ يقال: هاتوا مُتَّبِعي الشَّيطان هاتوا مُتَّبعي رؤساء الضَّلالة وهذا معنى قول ابن عباس: إمام هدى وإمام ضلالة {ولا يظلمون} ولا ينقصون {فتيلاً} من الثَّواب وهي القشرة التي في شقِّ النَّواة(1/642)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{من كان في هذه أعمى} في الدُّنيا أعمى القلب عمَّا يرى من قدرتي في خلق السَّماء والأرض والشَّمس والقمر وغيرهما {فهو في الآخرة} في أمر الآخرة ممَّا يغيب عنه {أعمى} أشدُّ عمىً {وأضلُّ سبيلاً} وأبعد حجَّةً(1/642)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{وإن كادوا} الآية نزلت فِي وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وقالوا: متِّعنا باللاَّت سنةً وحرِّمْ وادينا كما حرَّمت مكَّة فإنَّا نحبُّ أن تعرف العربُ فضلنا عليهم فإنْ خشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك وأقبلوا يلحُّون على النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقد همَّ أنْ يعطيهم ذلك فأنزل الله: {وإن كادوا} همُّوا وقاربوا {ليفتنونك} ليستزلُّونك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني: القرآن والمعنى: عن حكمه وذلك أنَّ فِي إعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن {لتفتري علينا غيره} أَيْ: لتختلق علينا أشياء غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك {وإذاً} لو فعلت ما أرادوا {لاتخذوك خليلاً}(1/642)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحقِّ بعصمتنا إيَّاك {لقد كدت تركن} تميل {إليهم شيئاً} ركوناً {قليلاً} ثمَّ توعَّد على ذلك لو فعله فقال:(1/643)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{إذاً لأذقناك ضعف الحياة} ضِعْفَ عذاب الدُّنيا {وضعف الممات} وضعف عذاب الآخرة يعني: ضعف ما يعذِّب به غيره(1/643)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{وإن كادوا لَيَسْتَفزٌّونَكَ} يعني: اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأنبياء بُعثوا بالشَّام فإنْ كنت نبيَّاً فالحق بها فإنَّك إنْ خرجتَ إليها آمنَّا بك فوقع ذلك في قلبه لحبِّ إيمانهم فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ومعنى ليستفزونك: ليزعجونك {من الأرض} يعني: المدينة {وإذا لا يلبثون خلافك إلاَّ قليلاً} أعلم الله سبحانه أنَّهم لو فعلوا ذلك لم يلبثوا حتى يستأصلوا كسنَّتنا فيمن قبلهم وهو قوله:(1/643)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{سنة من قد أرسلنا قبلك} الآية يقول: لم نرسل قبلك رسولاً فأخرجه قومه إلاَّ أهلكوا {ولا تجد لسنتنا تحويلاً} لا خُلف لسنَّتي ولا يقدر أحدٌ أن يقلبها(1/644)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{أقم الصلاة} أَيْ: أدمها {لدلوك الشمس} من وقت زوالها {إلى غسق الليل} إقباله بظلامه فيدخل في هذا صلاة الظُّهر والعصر والعشاءين {وقرآن الفجر} يعني: صلاة الفجر سمَّاها قرآناً لأنَّ الصَّلاة لا تصحُّ إلاَّ بقراءة القرآن {إنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً} تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار(1/644)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
{ومن الليل فتهجد} فصلِّ {به} بالقرآن {نافلة لك} زيادةً لك في الدَّرجات لأنه غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عمل من عملٍ سوى المكتوبة فهو نافلة له من أجل أنَّه لا يعمل ذلك في كفَّارة الذُّنوب {عسى أن يبعثك ربك} عسى من الله واجبٌ ومعنى يبعثك ربُّك: يقيمك ربُّك في مقامٍ محمودٍ وهو مقام الشَّفاعة يحمده فيه الخلق(1/644)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{وقل ربِّ أدخلني} لمَّا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة أُنزلت عليه هذه الآية ومعناها: أدخلني المدينة إدخال صدق أَيْ: إدخالاً حسناً لا أرى فيه ما أكره {وأخرجني} من مكة إخراج صدق لا ألتفت إليها بقلبي {واجعل لي من لَدُنْكَ سلطاناً نصيراً} قوَّة القدرة والحجَّة حتى أُقيم بهما دينك(1/644)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{وقل جاء الحق} الإِسلام {وزهق الباطل} واضمحلَّ الشِّرك {إن الباطل} الشِّرك {كان زهوقاً} مضمحلاً زائلاً أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا عند دخول مكَّة يوم الفتح(1/645)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{وننزل من القرآن} أَيْ: من الجنس الذي هو قرآن {ما هو شفاء} من كلِّ داءٍ لأنَّ الله تعالى يدفع به كثيراً من المكاره {ورحمةٌ للمؤمنين} ثوابٌ لا انقطاع له في تلاوته {ولا يزيد} القرآن {الظالمين} المشركين {إلاَّ خساراً} لأنَّهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه(1/645)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{وإذا أنعمنا على الإنسان} يريد: الوليد بن المغيرة {أعرض} عن الدُّعاء والابتهال فلا يبتهل كابتهاله في البلاء والمحنة {ونأى بجانبه} بعد نفسه عن القيام بحقوق نعم الله تعالى {وإذا مسه الشر} أصابه المرض والفقر {كان يؤوسا} يائساً عن الخير ومن رحمة الله سبحانه لأنَّه لا يثق بفضل الله تعالى على عباده(1/645)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{قل كلٌّ يعمل على شاكلته} على مذهبه وطريقته فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند الإِنعام واليأس عند الشدَّة والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرَّخاء والصَّبر والاحتساب عند البلاء ألا ترى أنَّه قال: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} أَيْ: بالمؤمن الذي لا يُعرض عند النِّعمة ولا ييئس عند المحنة(1/646)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ويسألونك} يعني: اليهود {عن الروح} والرُّوح: ما يحيا به البدن سألوه عن ذلك وحقيقته وكيفيَّته وموضعه من البدن وذلك ما لم يُخبر الله سبحانه به أحداً ولم يُعط علمه أحداً من عبادِه فقال {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ: من علم ربِّي أَيْ: إنَّكم لا تعلمونه وقيل: من خلق ربِّي أيْ: إنَّه مخلوقٌ له {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} وكانت اليهود تدَّعي علم كل شيء بما في كتابهم فقيل لهم: وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً بالإِضافة إلى علم الله تعالى(1/646)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا إليك} لنمحونَّه من القلوب ومنت الكتب حتى لا يوجد له أثر {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} لا تجد مَنْ نتوكل عليه فِي ردِّ شيءٍ منه(1/646)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
{إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} لكنَّ الله رحمك فأثبت ذلك فِي قلبك وقلوب المؤمنين {إِنَّ فضله كان عليك كبيراً} حيث جعلك سيِّد وَلدِ آدم وأعطاك المقام المحمود(1/647)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن} الآية لمَّا تحدَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وعجزوا عن معارضته أنزل الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يأتوا بمثل هذا القرآن} في نظمه وبلاغته {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيراً} مُعيناً مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعرٍ فيقيمونه(1/647)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{ولقد صرَّفنا} بَيَّنّا {للناس في هذا القرآن} لأهل مكَّة {من كلِّ مثل} من الأمثال التي يجب بها الاعتبار {فَأَبَى أكثر الناس} أكثر أهل مكَّة {إلاَّ كفوراً} جحوداً للحقِّ واقترحوا من الآيات ما ليس لهم وهو قوله تعالى:(1/647)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
{وقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} لن نصدِّقك {حَتَّى تَفْجُرَ} تشقق {لنا من الأرض ينبوعاً} عيناً من الماء وذلك أنَّهم سألوه أَن يجريَ لهم نهراً كأنهار الشَّام والعراق(1/647)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
{أو تكون لك جنَّة} الآية هذا أيضاً كان فيما اقترحوا عليه(1/647)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{أو تسقط السماء كما زعمت} أنَّ ربَّك إن شاء فعل ذلك {كسفاً} أَيْ: قطعاً {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} تأتي بهم حتى نراهم مقابلةً وعياناً(1/647)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{أو يكون لك بيتٌ من زخرف} من ذهبٍ فكان فيما اقترحوا عليه أن يكون له جنَّاتٌ وكنوزٌ وقصورٌ من ذهبٍ {أو ترقى في السماء} وذلك أن عبد الله بن أبي أُميَّة قال: لا أؤمن بك يا محمَّد أبداً حتى تتَّخذ سلماً إلى السماء ثمَّ ترقى فِيهِ وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخةٍ منشورةٍ معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنَّك كما تقول فقال الله سبحانه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رسولاً} أَيْ: إنَّ هذه الأشياء ليس في قوى البشر(1/647)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
{وما منع الناس} يعني: أهل مكَّة {أن يؤمنوا} أَيْ: الإِيمان {إذ جاءهم الهدى} البيان وهو القرآن {إلاَّ أن قالوا} إلاَّ قولهم فِي التَّعجب والإِنكار: {أَبَعَثَ اللَّهُ بشراً رسولاً} أَيْ: هلاَّ بعث مَلَكاً فقال الله تعالى:(1/648)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{قل لو كان في الأرض} بدل الآدميين {ملائكة يمشون مطمئنين} مستوطنين الأرض {لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} يريد: إنَّ الأبلغ في الأداء إليهم بشر مثلهم وقوله تعالى:(1/648)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كان بعباده خبيراً بصيرا}(1/648)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً} يمشيهم الله سبحانه على وجوههم عُمياً لا يرون شيئاً يسرُّهم {وَبُكْمًا} لا ينطقون بحجَّةٍ {وصماً} لا يسمعون شيئاً يسرُّهم {كلما خبت} أَيْ: سكن لهبها {زدناهم سعيراً} نادرا تتسعر(1/648)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
{ذلك جزاؤهم} هذه الآية مفسَّرة في هذه السُّورة(1/649)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{أَوَلَمْ يروا} أَوَلَمْ يعلموا {أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يخلق مثلهم} أَيْ: يخلقهم ثانياً وأراد ب {مثلهم} إيَّاهم وتمَّ الكلام ثمَّ قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا ريب فيه} يعني: أجل الموت وأجل القيامة {فأبى الظالمون} المشركون {إلاَّ كفوراً} جحوداً بذلك الأجل وهو البعث والقيامة(1/649)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} خزائن الرِّزق {إذاً لأمسكتم} لبخلتم {خشية الإنفاق} أن تتفقوا فتفقروا {وكان الإِنسان قتوراً} بخيلاً ثمَّ ذكر قصَّة موسى عليه السَّلام وما آتاه من الآيات وإنكار فرعون ذلك فقال:(1/649)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} وهي العصا واليد وفلق البحر والطمسة وهي قوله: {ربَّنا اطمسْ على أموالِهم} والطُّوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدَّم {فاسأل} يا محمد {بني إسرائيل} المؤمنين من قريظة والنَّضير {إذا جاءهم} يعني: جاء آباءَهم وهذا سؤال استشهاد ليعرف اليهود صحَّة ما يقول محمَّد عليه السَّلام بقول علمائهم {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مسحوراً} ساحراً فقال موسى عليه السَّلام:(1/649)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{لقد علمت ما أنزل هؤلاء} الآيات {إلاَّ رب السماوات والأرض بصائر} عبراً ودلائل {وإني لأظنك} لأعلمك {يا فرعون مثبوراً} ملعوناً مطروداً(1/649)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{فأراد} فرعون {أن يستفزهم} يخرجهم يعني: موسى وقومه {من الأرض} أرض مصر وقوله:(1/650)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{فإذا جاء وعد الآخرة} يريد: يوم القيامة {جئنا بكم لفيفاً} مُجتمعين مُختلطين(1/650)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
{وبالحق أنزلناه} أَيْ: أنزلنا القرآن بالدِّين القائم والأمر الثَّابت {وبالحق نزل} وبمحمَّد نزل القرآن أَيْ: عليه نزل كما تقول: نزلتُ بزيدٍ(1/650)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{وقرآناً فرقناه} قطعناه آيةً وسورةً سورةً في عشرين سنة {لتقرأه على الناس على مكث} تودة وَتَرسُّلٍ ليفهموه {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} نجوماً بعد نجومٍ وشيئاً بعد شيءٍ(1/650)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{قل} لأهل مكَّة: {آمَنُوا} بالقرآن {أَوْ لا تؤمنوا} به وهذا تهديد أَيْ: فقد أنذر الله وبلَّغ رسوله {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل القرآن يعني: ناساً من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم خرُّوا سُجَّداً وقوله:(1/650)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{إن كان وعد ربنا لمفعولاً} أَيْ: وعده بإنزال القرآن وبعث محمِّد عليه السَّلام لمفعولاً(1/650)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{ويخرون للأذقان يبكون} كرَّر القول لتكرُّر الفعل منهم {ويزيدهم} القرآن {خشوعاً}(1/651)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{قل ادعوا الله} الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: يا الله يا رحمان فسمع ذلك أبو جهل فقال: إنَّ محمداً ينهاناً أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله يقال له الرَّحمن فأنزل الله سبحانه: {قل} يا محمد {ادعوا الله} يا معشر المؤمنين {أو ادعوا الرحمن} إن شئتم قولوا: يا الله وإن شئتم قولوا: يا رحمان {أياً ما تدعوا} أَيَّ أسماءِ اللَّهِ تَدْعُوا {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} بقراءتك فيسمعها المشركون فيسبُّوا القرآن {ولا تخافت بها} ولا تُخفها عن أصحابك فلا تسمعهم {وابتغِ بين ذلك سبيلاً} اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة وقوله:(1/651)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ولم يكن له وليٌّ من الذل} لم يكن وليٌّ ينصره ممَّن استّذلَّه من البشر {وكبره تكبيراً} عظمه عظمةً تامَّةً(1/652)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ولم يجعل له عوجاً} اختلافاً والتباساً(1/653)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{قيماً} مستقيماً يريد: أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً {لينذر} الكافرين {بأساً} عذاباً {شديداً من لدنه} من قِبَلِه وقوله: {أجراً حسناً} يعني: الجنة(1/653)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
{لينذر} بعذابِ الله {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وهو اليهود والنَّصارى(1/653)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
{ما لهم به} بذلك القول {من علمٍ} لأنَّهم قالوه جهلاً وافتراءً على الله {ولا لآبائهم} الذين قالوا ذلك {كبرت كلمة} مقالتهم تلك كلمة(1/653)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلا كذبا}(1/653)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{فلعلك باخع نفسك} قاتلها {على آثارهم} على أثر تولِّيهم وإعراضهم عنك لشدَّة حرصك على إيمانهم {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني: القرآن {أسفاً} غيظاً وحزناً(1/653)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{إنا جعلنا ما على الأرض} يعني: ما خلق في الدُّنيا من الأشجار والنبات والماء ولك ذي روح على الأرض {زينة لها} زيَّناها بما خلقنا فيها {لنبلوهم أيهم أحسن عملاَ} أزهد فيها وأترك لها ثمَّ أعلم أنَّه يُفني ذلك كلَّه فقال:(1/654)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} بلاقع ليس فيها نبات(1/658)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{أم حسبت} بل أحسبت {أنَّ أصحاب الكهف} وهو المغارة في الجبل {والرقيم} وهو اللَّوح الذي كُتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم {كانوا من آياتنا عجباً} أَيْ: لم يكونوا بأعجب آياتنا ولم يكونوا العجب من آياتنا فقط فإنَّ آياتنا كلَّها عجب وكانت قريش سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن خبر فتيةٍ فُقدوا في الزمان الأوَّل بتلقين اليهود قريشاً ذلك فأنزل الله سبحانه على نبيِّه عليه السَّلام خبرهم فقال:(1/654)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{إذ أوى} اذكر {الفتية إلى الكهف} هربوا إليه ممَّن يطلبهم فاشتغلوا بالدُّعاء والتَّضرُّع {فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة} أعطنا من عندك مغفرةً ورزقا {وهيئ} أصلح {لنا من أمرنا رشداً} أَيْ: أرشدنا إلى ما يُقرِّب منك(1/654)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{فضربنا على آذانهم} سددنا آذانهم بالنَّوم {في الكهف سنين عدداً} معدودةً(1/654)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ثم بعثناهم} ايقظناهم من نومهم {لنعلم} لنرى {أيّ الحزبين} من المؤمنين والكافرين {أحصى} أعدُّ {لما لبثوا} للبثهم في الكهف نائمين {أمداً} غايةً وكان وقع اختلافٌ بين فريقين من المؤمنين والكافرين في قدر مدَّة فقدهم ومنذ كم فقدوهم فبعثهم الله سبحانه من نومهم ليتبيَّن ذلك(1/654)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{نحن نقصُّ عليك نبأهم} خبرهم {بالحق} بالصِّدق {إنهم فتية} شُبَّانٌ وأحداثٌ {آمنوا بربهم وزدناهم هدى} ثبَّتناهم على ذلك(1/655)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{وربطنا على قلوبهم} ثبتناها بالصَّبر واليقين {إذ قاموا} بين يديّ ملكهم الذي كان يفتن أهل الأديان عن دينهم {فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} كذباً وجوراً إنْ دعونا غيره(1/655)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة} يعنون: الذين عبدوا الأصنام في زمانهم {لولا} هلاَّ {يأتون عليهم} على عبادتهم {بسلطانٍ بيِّن} بحجَّةٍ بيِّنةٍ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أنَّ معه إلهاً فقال لهم تمليخا - وهو رئيسهم -:(1/655)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{وإذ اعتزلتموهم} فارقتموهم {وما يعبدون} من الأصنام {إلاَّ الله} فإنكم لن تتركوا عبادته {فأووا إلى الكهف} صيروا إليه {ينشر لكم ربكم من رحمته} يبسطها عليكم {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} يُسهَّل لكم غذاءً تأكلونه(1/655)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{وترى الشمس إذا طلعت تزاور} تميل عن كهفهم {ذات اليمين} في ناحية اليمين {وإذا غربت تقرضهم} تتركهم وتتجاوز عنهم {ذات الشمال} في ناحية الشِّمال فلا تصيبهم الشَّمس ألبتةَ لأنَّها تميل عنهم طالعةَ غرابة فتكون صورهم محفوظة {وهم في فجوة منه} مُتَّسعٍ من الكهف ينالهم برد الرِّيح ونسيم الهواء {ذلك} التزاور والقرض {من آيات الله} دلائل قدرته ولطفه بأصحاب الكهف {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتد} أشار إلى أنَّه هو الذي تولَّى هدايتهم ولولا ذلك لم يهتدوا(1/655)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{وتحسبهم أيقاظاً} لأنَّ أعينهم مُفتَّحة {وهم رقود} نيامٌ {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} لئلا تأكل الأرض لحومهم {وكلبهم باسط ذراعيه} يديه {بالوصيد} بفناء الكهف {لو اطلعت} أشرفت {عليهم لوليت} أعرضت {منهم فراراً ولملئت منهم رعباً} خوفاً وذلك أن الله تعالى منعهم بالرُّعب لئلا يراهم أحد(1/656)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{وكذلك} وكما فعلنا بهم هذه الأشياء {بعثناهم} أيقظناهم من تلك النَّومة التي تشبه الموت {ليتساءلوا بينهم} ليكون بينهم تساؤلٌ عن مدَّة لبثهم {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} كم مرَّ علينا منذ دخلنا الكهف؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وذلك أنَّهم دخلوا الكهف غدوةً وبعثهم الله في آخر النَّهار لذلك قالوا: يوماً فلمَّا رأوا الشمس قالوا: أَوْ بعض يوم وكان قد بقيت من النَّهار بقيةٌ فقال تمليخا: {ربكم أعلم بما لبثتم} ردَّ علم ذلك إلى الله سبحانه {فابعثوا أحدكم بورقكم} بدراهمكم {هذه إلى المدينة فلينظر أيها} أَيُّ أهلها {أزكى طعاماً} أحلّ من جهةِ أنَّه ذبيحةُ مؤمن أو من جهة أنَّه غير مغصوب وقوله: {وليتلطف} في دخوله المدينة وشراء الطَّعام حتى لا يَطَّلِع عليه أحدٌ {ولا يشعرنَّ بكم} ولا يخبرنَّ بكم ولا بمكانكم {أحداً}(1/656)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{أنهم إن يظهروا عليكم} يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم {يرجموكم} يقتلوكم {أو يعيدوكم في ملتهم} يردُّوكم إلى دينهم {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} لن تسعدوا في الدُّنيا ولا في الآخرة إن رجعتم إلى دينهم(1/657)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{وكذلك} وكما بعثناهم وأنمناهم {أَعْثرنا} أطلعنا {عليهم ليعلموا} ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت {أنَّ وعد الله} بالثَّواب والعقاب {حقٌّ وأنَّ الساعة} القيامة {لا ريب فيها} لا شكَّ فيها وذلك أنَّهم يستدلُّون بقصَّتهم على صحَّة أمر البعث {إذ يتنازعون} أي: اذكر يا محمد إذ يتنازع أهلُ ذلك الزَّمان أمرَ أصحاب الكهف {بينهم} وذلك أنَّهم كانوا يختلفون في مدَّة مكثهم وفي عددهم وقيل: تنازعوا فقال المؤمنون: نبني عندهم مسجداً وقال الكافرون: نُحوِّط عليهم حائطاً يدلُّ على هذاقوله: {ابنوا عليهم بنياناً} استروهم عن النَّاس ببناءٍ حولهم وقوله: {ربُّهم أعلم بهم} يدلُّ على أنَّه وقع تنازعٌ في عدَّتهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت {لنتخذنَّ عليهم مسجداً} فذكر في القصَّة أنّه جعل على باب الكهف مسجد يصلَّى فيه(1/657)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{سيقولون ثلاثة} الآية أخبر الله تعالى عن تنازعٍ يجري في عدَّة أصحاب الكهف فجرى ذلك بالمدينة حين قدم وفد نصارى نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبيَّة منهم: كانوا ثلاثةً رابعُهم كلبهم وقالت النِّسطورية: كانوا خمسةً سادسهم كلبهم وقال المسلمون: كانوا سبعةً وثامنهم كلبهم فقال الله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قليل} من النَّاس قال ابن عباس: أنا في ذلك القليل ثمَّ ذكرهم بأسمائهم فذكر سبعة {فلا تمار} فلا تجادل في أصحاب الكهف {إلاَّ مراءً ظاهراً} بما أنزل عليك أي: أَيْ أَفتِ في قصَّتهم بالظَّاهر الذي أنزل إليك وقل: لا يعلمهم إلاَّ قليل كما أنزل الله {ما يعلمهم إلاَّ قليل} {ولا تستفت فيهم} في أصحاب الكهف {منهم} من أهل الكتاب {أحداً}(1/657)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
{ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غداً}(1/658)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{إلا أن يشاء الله} هذا تأديبٌ من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وأمرٌ له بالاستثناء بمشيئة الله سبحانه فيما يعزم يقول: إذا قلت لشيءٍ: إني فاعله غداً فقل: إن شاء الله {واذكر ربك إذا نسيت} أراد: إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله سبحانه فاذكره وقله إذا تذكَّرت {وقل عسى أن يهدين ربي} أَيْ: يعطيني ربِّي من الآيات والدّلالات على النُّبوَّة ما يكون أقرب في الرُّشد وأدلَّ من صحَّة قصَّة أصحاب الكهف ثمَّ فعل الله به ذلك حيث أتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم ثمَّ أخبر عن قدر مدَّة لبثهم في الكهف بقوله:(1/658)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{ولبثوا في كهفهم} منذ دخلوه إلى أن بعثهم الله {ثلاث مائة سنين وازدادوا} بعدها تسع سنين(1/658)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{قل} يا محمد: {الله أعلم بما لبثوا} ممَّن يختلف في ذلك {له غيب السماوات والأرض} علم ما غاب فيهما عن العباد {أَبْصِرْ به وأسمع} ما أبصرَ الله تعالى بكلِّ موجودٍ وأسمعَه تعالى لكلِّ مسموعٍ {ما لهم} لأهل السماوات والأرض {من} دون الله {من ولي} ناصرٍ {ولا يشرك} الله {فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} فليس لأحدٍ أن يحكم بحكمٍ لم يحكمْ به الله(1/659)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} اتَّبع القرآن {لا مبدِّل لكلماته} لا مغيِّر للقرآن {ولن تجد من دونه ملتحداً} أَيْ: ملجأ(1/659)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} مفسر فِي سورة الأنعام إلى قوله: {وَلا تَعْدُ عيناك عنهم} أَيْ: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والرُّتبة {تريد زينة الحياة الدنيا} تريد مجالسة الأشراف {ولا تطع} في تنحية الفقراء عنك {من إغفلنا قلبه عن ذكرنا} جعلناه غافلاً {وكان أمره فرطاً} أَيْ: ضَياعاً هلاكاً لأنَّه ترك الإِيمان والاستدلال بآيات الله تعالى واتَّبع هواه(1/659)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{وقل} يا محمَّد لمن جاءك من النَّاس: {الحق من ربكم} يعني: ما آتيتكم به من الإِسلام والقرآن {فمن شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر} تخييرٌ معناه التَّهديد {إنا أعتدنا} هيَّأنا {للظالمين} الذين عبدوا غير الله تعالى {ناراً أحاط بهم سرادقها} وهو دخان يحيط بالكفَّار يوم القيامة {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ والعطش {يُغاثوا بماءٍ كالمهل} كمذاب الحديد والرَّصاص في الحرارة {يشوي الوجوه} حتى يسقط لحمها ثمَّ ذمَّه فقال: {بئس الشراب} هو {وساءت} النَّار {مرتفقاً} منزلاً ثمَّ ذكر ما وعد المؤمنين فقال:(1/659)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نضيع أجر مَنْ أحسن عملاً} وقوله:(1/660)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{يحلون فيها من أساور من ذهب} يحلى كلك مؤمنٍ واحدٍ بسوارين من ذهبٍ وكانت الأساورة من زينة الملوك في الدُّنيا وقوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} وهما نوعان من الحرير والسُّندس: ما رقَّ والاستبرق: ما غلط {متكئين فيها على الأرائك} وهي السُّرر في الحجال {نعم الثواب} طاب ثوابهم {وحسنت} الأرائك {مرتفقاً} موضع ارتفاق أَيْ: اتِّكاءً على المرفق فيه(1/660)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{واضرب لهم مثلاً رجلين} يعني: ابني ملكٍ كان فِي بني إسرائيل تُوفِّي وتركهما فاتخذ أحدهما القصور والأجنَّة والآخر كان زاهداً فِي الدُّنيا راغباً فِي الآخرة فكان إذاعمل أحوه شيئاً من زينة الدُّنيا أخذ الزَّاهد مثل ذلك فقدَّمه لآخرته واتَّخذ به عند الله الأجنة والقصور حتى نقد ماله فضربهما الله مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النِّعمة وهو قوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بنخل} وجعلنا النَّخل مُطبقاً بهما {وجعلنا بينهما} بين الجنتين {زرعاً}(1/660)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{كلتا الجنتين آتت أكلها} أدَّت ريعها تامَّاً {ولم تظلم منه شيئاً} لم تنقص {وفجرنا خلالهما} أخرجنا وسط الجنتين {نهراً}(1/661)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{وكان له ثمر} وكان للأخ الكافر أموال كثيرة {فقال لصاحبه} لأخيه {وهو يحاوره} يراجعه في الكلام ويُجاذبه وذلك أنَّه سأله عن ماله فيما أنفقه؟ فقال: قدَّمته بين يدي لأقدم عليه فقال: {أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً} رهطاً وعشيرةً(1/661)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
{ودخل جنته} وذلك أنَّه أخذ بيد أخيه المسلم فأخله جنَّته يطوف به فيها وقوله: {وهو ظالم لنفسه} أَيْ: بالكفر بالله تعالى {قال: ما أظنُّ أن تبيد} تهلك {هذه أبداً} أنكر أنَّ الله سبحانه يفني الدُّنيا وأنَّ القيامة تقوم فقال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي} يريد: إن كان البعث حقَّاً {لأَجِدَنَّ خَيْرًا منها منقلباً} كما أعطاني هذا فِي الدُّنيا سيعطيني فِي الآخرة أفضل منه فقال له أخوه المسلم:(1/661)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً}(1/661)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نطفة} في رحم أُمِّك {ثم سوَّاك رجلاً} جعلك معتدل الخلق والقامة(1/661)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
{لكنا} لكن أنا {هو الله ربي} الآية(1/661)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
{ولولا} وهلاَّ {إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي: الأمر ما شاء الله أَيْ: بمشيئة الله تعالى: {لا قوة إلاَّ بالله} لا يقوى أحدٌ على ما فِي يديه من ملكٍ ونعمةٍ إلا بالله وهذه توبيخٌ من المسلم للكافر على مقالته وتعليمٌ له ما يجب أن يقول ثم رجع إلى نفسه فقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا}(1/661)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
{فعسى ربي أن يؤتين} في الآخرة أو في الدُّنيا {خيراً من جنتك ويرسل عليها} على جنَّتك {حسباناً من السماء} عذاباً يرميها به من بَرَدٍ أو صاعقةٍ {فتصبح صعيداً زلقاً} أرضاً لا نبات فيها(1/662)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{أو يصبح ماؤها} يعني: النهر خلالهما {غوراً} غائراً ذاهباً فِي الأرض {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ} لا تقوى {له طلباً} لا يبقى له أثرٌ تطلبه(1/662)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{وأحيط بثمره} وأهلكت أشجاره المثمرة {فأصبح يقلب كفيه} يضرب يديه واحدةً على الأخرى ندامةً {على ما أنفق فيها وهي خاوية} ساقطةٌ {على عروشها} سقوفها وما عرش للكروم {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} تنمى أنَّه كان مُوحِّداً غير مشركٍ حين لم ينفعه التَّمني(1/662)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} لم ينصره النَّفر الذين افتخر بهم حين قال: {وأعزُّ نفراً} {وما كان منتصراً} بأن يستردَّ بدل ما ذهب منه ثمَّ عاد الكلام إلى ما قبل القصة فقال:(1/662)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{هنالك} عند ذلك يعني: يوم القيامة {الولاية لله الحق} يتولَّون الله ويؤمنون يه ويتبرَّؤون ممَّا كانوا يعبدون {هو خير ثواباً} أفضل ثواباً ممَّن يُرجى ثوابه {وخير عقباً} أَيْ: عاقبةُ طاعته خيرٌ من عاقبة طاعة غيره(1/662)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{واضرب لهم} لقومك {مثل الحياة الدنيا كماء} أَيْ: هو كَمَاءٍ {أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض} أَيْ: شرب منه فبدا فيه الرِّيّ {فأصبح} أي: النَّبات {هشيماً} كسيراً مُتفتِّتاً {تذروه الرياح} تحمله وتفرِّقه وهذه الآية مختصرةٌ من قوله تعالى {إنما مثل الحياة الدنيا} الآية {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الإنشاء والإِفناء {مقتدراً} قادراً أنشأ النَّبات ولم يكن ثمَّ أفناه(1/662)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{المال والبنون زينة الحياة الدنيا} هذا ردٌّ على الرؤساء الذي كانوا يفتخرون بالمال والأبناء أخبر الله سبحانه أنَّ ذلك ممَّا يُتزيَّن به فِي الحياة الدُّنيا ولا ينفع في الآخرة {والباقيات الصالحات} ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الصَّلوات والأذكار والأعمال الصالحة {خير عند ربك ثواباً} أفضل ثواباً وأفضل أملاً من المال والبنين(1/663)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{ويوم} واذكر يوم {نسيّر الجبال} عن وجه الأرض كما نُسيِّر السَّحاب {وترى الأرض بارزة} ظاهرةً ليس عليها شيءٌ {وحشرناهم} المؤمنين والكافرين {فلم نغادر} ونترك {منهم أحداً}(1/663)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{وعرضوا على ربك} يعني: المحشورين {صفاً} مصفوفين كلُّ زمرةٍ وأمَّةٍ صفٌّ ويقال لهم: {لقد جئتمونا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} حُفاةً عُراةً فرادى {بل زعمتم} خطاب لنكري البعث {ألن نجعل لكم موعداً} للبعث والجزاء(1/663)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{وضع الكتاب} وُضع كتاب كلِّ امرئ فِي يمينه أو شماله {فترى المجرمين} المشركين {مشفقين ممَّا فيه} خائفين ممَّا فيه من الأعمال السيئة {وَيَقُولُونَ} لوقوعهم في الهلكة: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ} لا يترك {صغيرة} من أعمالنا {ولا كبيرة إلاَّ أحصاها} أثبتها وكتبها {ووجدوا ما عملوا حاضراً} في الكتاب مكتوباً {ولا يظلم ربك أحداً} لا يعاقب أحداً بغير جرمٍ ثمَّ أمر نبيَّه عليه السَّلام أن يذكر لهؤلاء المُتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصَّة إبليس وما أورثه الكبر فقال:(1/664)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إبليس كان من الجن} أَيْ: من قبيلٍ من الملائكة يُقال لهم: الجنُّ {ففسق} خرج {عن أمر ربه} إلى معصيته في ترك السُّجود {أفتتخذونه وذريته} أولاده وهو الشَّياطين {أولياء من دوني} تطيعونهم في معصيتي {وهم لكم عدوٌّ} كما كان لأبيكم عدواً {بئس للظالمين بدلاً} بئس ما استبدلوا بعبادة الرَّحمن طاعة الشَّيطان(1/664)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ما أشهدتهم} ما أحضرتهم يعني: إبليس وذريَّته {خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} أخبر عن كمال قدرته واستغنائه عن الأنصار والأعوان فيما خلق {وما كنت متخذ المضلين عضداً} أنصاراً وأعواناً لاستغنائي بقدرتي عن الأنصار(1/664)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} الآية يقول الله تعالى يوم القيامة: ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم} بين المشركين وأهل لا إله إلا الله {موبقاً} حاجزاً(1/665)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{ورأى المجرمون} المشركون {النار فظنوا} أيقنوا {أنهم مواقعوها} واردوها وداخلوها {ولم يجدوا عنها مصرفاً} مهرباً لإحاطتها بهم من كلِّ جانبٍ وقوله:(1/665)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{وكان الإِنسان} الكافر {أكثر شيء جدلاً} قيل: هو أبي بن خل وقيل: النَّضر بن الحارث(1/665)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{وما منع الناس} أهل مكَّة {أن يؤمنوا} الإِيمان {إذ جاءهم الهدى} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن {إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين} العذاب يعني: إنَّ الله تعالى قدَّر عليهم العذاب فذلك الذي منعهم من الإِيمان {أو يأتيهم العذاب قبلاً} عياناً يعني: القتل يوم غدر وقوله:(1/665)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ويجادل الذين كفروا بالباطل} يريد المُستهزئين والمقتسمين جادلوا في القرآن {ليدحضوا} ليبطلوا {به} بجدالهم {الحق} القرآن {واتخذوا آياتي} القرآن {وما أنذروا} به من النَّار {هزواً}(1/665)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{ومن أظلم ممن ذكّر} وُعظ {بآيات ربه فأعرض عنها} فتهاون بها {ونسي ما قدَّمت يداه} ما سلف من ذنوبه وباقي الآية سبق تفسيره وقوله:(1/666)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{بل لهم موعد} يعني: البعث والحساب {لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً} ملجأ(1/666)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{وتلك القرى} يريد: القرى التي أهلكها بالعذاب {أهلكناهم} أهلكنا أهلها {لما ظلموا} أشركوا وكذَّبوا الرُّسل {وجعلنا لمهلكهم} لإِهلاكهم {موعداً}(1/666)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{وإذ قال موسى} واذكر إذ قال موسى لما في قصَّته من العبرة {لفتاه} يوشع بن نون: {لا أبرح} لا أزال أسير {حتى أبلغ مجمع البحرين} حيث يلتقي بحر الروم وبحر فارس {أو أمضي} إلى أن أمضي {حقباً} دهراً طويلاَ وذلك أنَّ رجلاً أتى إلى موسى عليه السَّلام فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال: لا فأوحى الله تعالى إليه: بلى عبدنا خضر فسأل موسى عليه السَّلام السبيل إلى لُقيِّه فجعل الله تعالى له الحوت آيةً وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنَّك ستلقاه فانطلق هو وفتاه حتى أتيا الصَّخرة التي عند مجمع البحرين فقال لفتاه: امكث حتى آتيك وانطلق موسى لحاجته فجرى الحوت حتى وقع فِي البحر فقال فتاه: إذا جاء نبيُّ الله حدَّثته فأنساه الشَّيطان فذلك قوله:(1/666)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوْتَهُما} أراد: نسي أحدهما: وهو يوشع ابن نون {فاتخذ سبيله} اتَّخذ الحوت سبيله {في البحر سرباً} ذهاباً والمعنى: سرب سريا والآية على التّقديم والتَّأخير لأنَّ ذهاب الحوت كان قد تقدَّم على النِّسيان(1/667)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{فلما جاوزا} ذلك المكان الذي ذهب الحوت عنه {قال لفتاه آتنا غداءنا} ما نأكله بالغداة {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} عناءً وتعباً ولم يجد النَّصب في جميع سفره حتى جاوز الموضع الذي يريده فقال الفتى:(1/667)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
{أرأيت إذْ أوينا إلى الصخرة} يعني: حيث نزلا {فإني نسيت الحوت} نسيت قصَّة الحوت أن أُحدِّثكها ثمَّ اعتذر بإنساء الشَّيطان إيَّاه لأنَّه لو ذكر ذلك لموسى عليه السَّلام ما جاوز ذلك الموضع وما ناله النَّصب ثمَّ ذكر قصَّته فقال: {واتخذ سبيله في البحر عجباً} أَي: أعجب عجباً أخبر عن تعجُّبه من ذلك فقال موسى عليه السَّلام:(1/667)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{ذلك ما كنا نبغ} نطلب ونريد من العلامة {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} رجعا من حيث جاءا {قصصاً} يقصَّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصَّخرة التي فعل الحوت عندها ما فعل(1/667)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{فوجدا عبداً من عبادنا} يعني: الخضر عليه السَّلام {آتيناه رحمة من عندنا} نبوَّة {وعلمناه من لدنا علماً} أعطيناه علماً من علم الغيب وقوله:(1/667)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{رشداً} أَيْ: علماً ذا رشدٍ والتَّقدير: على أن تعلِّمني علماً ذا رشدٍ مما علمته(1/667)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
{إنك لن تستطيع معي صبراً} لن تصبر على صنيعي لأنِّي عُلِّمت غيب ربِّي ثمَّ أعلمه العلَّة فِي ترك الصَّبر فقال:(1/668)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خبراً} أَيْ: على ما لم تعلمه من أمرٍ ظاهره منكرٌ(1/668)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
{قال} له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صابراً} لا أسألك عن شيءٍ حتى تكون أنت تحدِّثني به {ولا أعصي لك أمراً} ولا أخالفك في شيء(1/668)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
{قال} له الخضر عليه السَّلام: {فإن اتبعتني} صحبتني {فلا تسألني عن شيء} ممَّا أفعله {حتى أحدث لك منه ذكراً} حتى أكون أنا الذي أُفسِّره لك(1/668)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{فانطلقا} ذهبا يمشيان {حتى إذا ركبا} البحر {في السفينة خرقها} شقَّها الخضر وقلع لوحين ممَّا يلي الماء فـ {قال} موسى منكراً عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شيئاً إمراً} أَيْ: عظيماً منكراً(1/668)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
فـ {قال} الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صبراً} فقال موسى:(1/668)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
{لا تؤاخذني بما نسيت} أَيْ: تركت من وصيتك {ولا ترهقني من أمري عسرا} لا تضيق عليَّ الأمر في صحبتي إيَّاك(1/668)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله} أَيْ: ضربه فقضى عليه وقوله: {نفساً زكية} أَيْ: طاهرةً لم تبلغ حدَّ التَّكليف {بغير نفس} بغير قود وقوله:(1/668)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا}(1/669)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{إن سألتك} سؤال توبيخٍ وإنكارٍ {عن شيء بعدها} بعد النَّفس المقتولة {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بلغت من لدني عذراً} أعذرت فيما بيني وبينك حيث أخبرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً(1/669)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية} وهي أنطاكية {استطعما أهلها} سألاهم الطَّعام {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} فلم يطعموهما {فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} قَرُبَ أَن يسقط لميلانه {فأقامه} فسوَّاه فقال موسى: {لو شئت لاتخذت} على إقامته {أجراً} جُعلاً حيث أبوا أن يطعمونا(1/669)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{قال} الخضر: {هذا} وقت {فراق بيني وبينك} إنِّي لا أصحبك بهد هذا وأخبرك بتفسير ما لم تصبر عليه وأنكرته عليَّ(1/669)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فأردت أن أعيبها} أجعلها ذات عيب {وكان وراءهم} أمامهم {ملك يأخذ كلَّ سفينة} صالحة {غضبا}(1/669)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا} فكرهنا {أن يرهقهما} يُكلِّفهما {طغياناً وكفراً} ويحملهما حبُّه على أن يتَّبعاه ويدينا بدينه وكان الغلام كافراً(1/669)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} صلاحاً {وأقرب رحماً} وأبرَّ بوالديه وأوصل للرَّحم(1/670)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} يعني: في تلك القرية {وكان تحته كنز لهما} من ذهبٍ وفضَّةٍ ولو سقط الجدار أُخذ الكنز {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} أراد الله سبحانه أن يبقى ذلك الكنز إلى بلوغ الغلامين حتى يستخرجاه {وما فعلته عن أمري} أي: انكشف لي من الله سبحانه علمٌ فعملت به ولم أعلم من عند نفسي(1/670)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{ويسألونك} يعني: اليهود وذلك أنَّهم سألوه عن رجلٍ طوَّافٍ بلغ شرق الأرض وغربها(1/670)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{إنا مكنا له في الأرض} سهلنا على السَّير فيها وذلَّلنا له طرقها {وآتيناه من كلِّ شيء} يحتاج إليه {سبباً} علماً يتسبَّب به إلى ما يريد(1/670)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{فأتبع سبباً} طريقاً يوصله إلى مغيب الشَّمس(1/670)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عين حمئة} ذات حمأةٍ وهو الطِّين الأسود {ووجد عندها} عند العين {قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تعذب} إمَّا أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه {وإمَّا أن تتخذ فيهم حسناً} تأسرهم فتعلِّمهم الهدى خيَّره الله تعالى بين القتل والأسر فقال:(1/670)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
{أما من ظلم} أشرك {فسوف نعذبه} نقتله إذا لم يرجع عن الشِّرك {ثُمَّ يرد إلى ربه} بعد القتل {فيعذبه عذاباً نكراً} يعني: فِي النَّار(1/671)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الحسنى} الجنَّة {وسنقول له من أمرنا يسراً} نقول له قولاً جميلاً(1/671)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
{ثم أتبع سبباً} سلك طريقاً آخر يوصله إلى المشرق(1/671)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قوم} عُراةٍ {لم نجعل لهم من} دون الشمس {ستراً} سقفاً ولا لباساً(1/671)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
{كذلك} القبيل الذين كانوا عند مغرب الشَّمس في الكفر {وقد أحطنا بما لديه} من الجنود والعدَّة {خبراً} علماً لأنَّا أعطيناه ذلك(1/671)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
{ثم أتبع سبباً} ثالثاً يُبلِّغه قطراً من أقطار الأرض(1/671)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{حتى إذا بلغ بين السدين} وهما جبلان سدَّ بينهما ذو القرنين {وجد من دونهما} عندهما {قوماً لا يكادون يفقهون قولاً} لا يفهمون كلاماً فاشتكوا إليه فساد يأجوج ومأجوج وأذارهم إياهم وهو قوله:(1/671)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} بالنَّهب والبغي {فهل نجعل لك خرجاً} جعلاً {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}(1/672)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{قال: ما مكني فيه ربي خير} أي: كالذي أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم {فأعينوني بقوة} بعملٍ تعملون معي {أجعل بينكم وبينهم ردماً} سدَّاً حاجزاً(1/672)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{آتوني} أعطوني {زبر} قطع {الحديد} فأتوه بها فبناه {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصدفين} جانبي الجبلين {قال انفخوا} على زُبر الحديد قطع الحديد بالكير والنَّار {حتى إذا جعله ناراً} جعل الحديد ناراً أَيْ: كنارٍ {قال آتوني} قطراً: وهو النُّحاس الذَّائب {أفرغ عليه} أصبُّ عليه فأفرغ النُّحاس المذاب على الحديد المحمى حتى التصق بعضه ببعض(1/672)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{فما اسطاعوا أن يظهروه} ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وملاسته {وما استطاعوا} أن ينقبوه من أسفله لصلابته(1/672)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{قال} ذو القرنين لمَّا فرغ منه: {هذا رحمة من ربي} يعني: التَّمكين من ذلك البناء والتَّقوية عليه {فإذا جاء وعد ربي} أجل ربي بخروج يأجوج مأجوج {جعله دكاً} كِسَراً {وكان وعد ربي} بخروجهم {حقاً} كائناً(1/672)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{وتركنا بعضهم} يعني: الخلق من الإِنس والجنِّ {يومئذ} يوم القيامة {يموج في بعض} يدخل ويختلط {ونفخ في الصور} وهو القرن الذي يُنفخ فيه للبعث {فجمعناهم} في صعيدٍ واحدٍ(1/672)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
{وعرضنا} أظهرنا {جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}(1/673)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غطاء} في غشاوةٍ {عن ذكري} أَيْ: كانوا لا يعتبرون بآياتي فيذكرونني بالتَّوحيد {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} لعدواتهم النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوا عليهم(1/673)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{أفحسب} أفظنّ {الذين كفروا أن يتخذوا عبادي} الشَّياطين {من دوني أولياء} نفعهم ذلك ودفعوا عنهم كلا {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً} منزلاً(1/673)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
{قل هل ننبئكم} نخبركم {بالأخسرين أعمالاً} بالذين هم أشدُّ الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا(1/673)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
{الذين ضل سعيهم} حبط عملهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنعاً} يظنُّون أنَّهم بعملهم مُطيعون ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال:(1/673)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} بدلائل توحيده من القرآن وغيره {ولقائه} يعني: البعث {فحبطت أعمالهم} بطل اجتهادهم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وزناً} أَيْ: نهينهم النَّار ولا نعبأ بهم شيئا وقوله:(1/673)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي ورسلي هزوا}(1/674)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
{جنات الفردوس} وهو وسط الجنَّة وأعلاها درجةً وقوله:(1/674)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{لا يبغون عنها حولاً} لا يريدون أن يتحوَّلوا عنها(1/674)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
{قل لو كان البحر مداداً} وهو ما يكتب به {لكلمات ربي} أَيْ: لكتابتها وهي حِكَمُه وعجائبه والكلمات: هي العبارات عنها {لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله} بمثل البحر {مداد} زيادة على البحر(1/674)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{قل إنما أنا بشر مثلكم} آدميٌّ مِثْلُكُمْ {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فمن كان يرجو لقاء ربه} ثواب ربه {فليعمل عملاً صالحاً} خالصاً {ولا يشرك} ولا يراءِ {بعبادة ربه أحداً} نزلت هذه الآية في النَّهي عن الرِّياء بالأعمال(1/674)
كهيعص (1)
{كهيعص} معناه: الله كَافٌّ لِخَلْقِهِ هَادٍ لِعِبَادِهِ يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ عالمٌ ببريَّته صادقٌ في وعده(1/675)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
{ذكر} هذا ذكر {رحمة ربك عبده زكريا} أَيْ: هذا القول الذي أنزلت عليك ذكر رحمة الله سبحانه عبده بإجابة دعائه لمَّا دعاه وهو قوله:(1/675)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{إذ نادى ربه} دعا ربه {نداء خفياً} سرَّاً لم يطَّلعْ عليه غير الله(1/675)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{قال رب إني وهن} ضعف {العظم مني} أَيْ: عظمي {واشتعل الرأس شيباً} وكثر شيب رأسي جداً {ولم أكن بدعائك} بدعائي إيَّاك {ربي شقياً} أَيْ: كنت مستجاب الدَّعوة قد عوَّدتني الإِجابة(1/675)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{وإني خفت الموالي} الأقارب وبني العمِّ والعصبة {من ورائي} من بعدي ألاَّ يحسنوا الخلافة لي في دينك {وكانت امرأتي} فيما مضى من الزَّمان {عاقراً} لم تلد {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} ابناً صالحاً(1/676)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{يرثني ويرث من آل يعقوب} العلم والنُّبوَّة {واجعله ربِّ رَضِيّاً} مرضياً فاستجاب الله تعالى دعاءه وقال:(1/676)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{يا زكريا إنا نبشرك بغلام} ولدٍ ذكرٍ {اسمه يحيى} لأنَّه يحيا بالعلم والطَّاعة {لم نجعل له من قبل سمياً} لم يُسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم فأحبَّ زكريا أن يعلم من أيِّ جهةٍ يكون له الولد ومثلُ امرأته لا تلد ومثله لا يولد له فقال: {رب أنى يكون لي غلام} ولدٌ(1/676)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عتياً} أَيْ: يُبوساً وانتهاءً في السِّنِّ(1/676)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
{قال} جبريل عليه السَّلام: {كذلك} أَيْ: الأمر كما قيل لك {قال ربك هو عليَّ هيَّنٌ} أردُّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع وأفتق رحم امرأتك بالولد {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قبل} يعني: من قبل يحيى {ولم تك شيئاً}(1/676)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{قال رب اجعل لي آية} على حمل امرأتي {قال آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً} أَيْ: تمنع الكلام وأنت سويٌّ صحيحٌ سليمٌ فتعلم بذلك أنَّ الله قد وهب لك الولد(1/676)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
{فخرج على قومه} وذلك أنَّهم كانوا ينتظرونه فخرج عليهم ولم يقدر أن يتكلَّم {فأوحى إليهم} أشار إليهم {أن سبحوا} صلُّوا لله تعالى {بكرة وعشياً} فوهبنا له يحيى وقلنا:(1/677)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{يا يحيى خذ الكتاب} التوارة {بقوة} أعطيتكها وقوَّيتك على حفظها والعمل بما فيها {وآتيناه الحكم صبياً} النُّبوَّة في صباه(1/677)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{وحناناً} وآتيناه حناناً: رحمةً {من لدنا وزكاةً} تطهيراً وقوله:(1/677)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
{جباراً} أيْ قتَّالاً مُتكبِّراً {عصياً} عاصياً لربِّه(1/677)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{وسلامٌ عليه} سلامةٌ له منَّا في الأحوال التي ذكرها يريد أنَّ الله سبحانه سلَّمه في هذه الأحوال(1/677)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
{واذكر} يا محمَّد {في الكتاب مريم إِذِ انتبذت} تنحَّت من أهلها {مكاناً شرقياً} من جانب الشَّرق وذلك أنَّها أرادت الغسل من الحيض فاعتزلت في ناحيةٍ شرقيةٍ من الدَّار(1/677)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
{فاتخذت من دونهم حجاباً} تتستَّر به عنهم {فأرسلنا إليها روحنا} جبريل عليه السَّلام {فتمثَّل} فتصوَّر {لها بشراً} آدمياً {سويَّاً} تامَّ الخلق(1/677)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{قالت إني أعوذ بالرحمن منك} أيُّها البشر {إن كنت تقيّاً} مُؤمناً مُطيعاً فستنتهي عني بتعوُّذي بالله سبحانه منك(1/677)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
{قال} جبريل عليه السَّلام: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زكياً} ولداً صالحاً نبيَّاً(1/678)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بشر} ليس لي زوجٌ {ولم أك بغيا} وليس بزانيةٍ(1/678)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{قال كذلك} أَيْ: الأمر كما وصفت لك {قال ربك هو علي هين} أن أهب لكِ غلاماً من غير أبٍ {ولنجعله آية} علامةً للنَّاس على قدرة الله تعالى {ورحمةً منا} لمّنْ تبعه على دينه {وكان} ذلك {أمراً مقضيّاً} قضيت به في سابق علمي فرفع جبريل عليه السَّلام جانب درعها فنفخ في جيبها فحملت بعيسى عليه السَّلام وذلك قوله سبحانه:(1/678)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
{فحملته فانتبذت به} تباعدت بالحمل {مكاناً قصياً} بعيداً من أهلها في أقصى وادي بيت لحم وذلك أنَّها لمَّا أحسَّت بالحمل هربت من قومها مخالفة اللائمة(1/678)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{فَأَجاءَها المخاض} وجع الولادة {إلى جذع النخلة} وذلك أنَّها حين أخذها الطَّلق صعدت أكمة فإذا عليها جذع نخلةٍ وهو ساقها ولم يكن لها سعفٌ فسارت إليها وقالت جزعاً ممَّا أصابها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} اليوم وهذا الأمر {وكنت نسياً منسياً} شيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يُذكر فلمَّأ رأى جبريل عليه السَّلام وسمع جزعها وناداها من تحت الأكمة وهو قوله:(1/678)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} نهر ماءٍ جارٍ وكان تحت الأكمة نهرٌ قد انقطع الماء منه فأرسل الله سبحانه الماء فيه لمريم(1/679)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
{وهزي} وحرِّكي {إليك} إلى نفسك {بجذع النخلة تُسَاقط} النَّخلة {عليك رطباً جنياً} غضَّاً ساعةَ جُني وذلك أنَّ الله تعالى أحيا لها تلك النَّخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت(1/679)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{فكلي} من الرُّطب {واشربي} من الماء السَّري {وقري عيناً} بولدك {فإمَّا ترينَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فسألك عن ولدك ولامَك عليه {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً} صمتاً أَيْ: قولي له: إني أوجبت على نفسي لله سبحانه أن لا أتكلَّم وذلك أنَّ الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى عليه السَّلام يتكلَّم ببراءة أمِّه وهو في المهد فذلك قوله: {فلن أكلم اليوم إنسياً}(1/679)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{فأتت به} بعيسى بعد ما طهرت من نفاسها {قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شيئاً فرياً} عظيماً منكراً ولداً من غير أبٍ!(1/679)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
{يا أخت هارون} كان لها أخٌ صالحٌ من جهة أبيها يسمَّى هارون وقيل: هارون رجلٌ صالحٌ كان من أمثل بني إسرائيل فقيل لمريم: يا شبيهته في العفاف {ما كان أبوك} عمران {امْرَأَ سوء} زانٍ {وما كانت أمك} حنَّة {بغياً} زانيةً فمن أين لك هذا الولد من غير زوجٍ؟(1/679)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{فأشارت} إلى عيس بأن يجعلوا الكلام معه فتعجَّبوا من ذلك وقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} يعني: رضيعاً في الحِجْر(1/679)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{قال} عيسى عند ذلك: {إني عبد الله} أقرَّ عل نفسه بالعبوديَّة لله سبحانه وتعالى {آتاني الكتاب} علَّمني التَّوراة وقيل: الخطَّ(1/680)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
{وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً} معلِّماً للخير أدعو إلى الله تعالى {أين ما كنت وأوصاني بالصلاة} أمرني بالصلاة {والزَّكاة} الطَّهارة {ما دمت حيَّاً}(1/680)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
{وبرَّاً} لطيفاً {بوالدتي}(1/680)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{والسلام عليَّ يوم ولدت} الآية أَيْ: السَّلامة عليَّ من الله تعالى في هذه الأحوال(1/680)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ذلك عيسى ابنُ مريم} أَيْ: الذي قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الآية هو عيسى ابن مريم لا ما يقول النَّصارى مِنْ أنَّه إله وإنَّه ابن الله {قول الحق} أيْ: هذا الكلام قول الحقِّ والحقُّ: هو الله سبحانه وقيل: معنى قوله الحقِّ: أنَّه كلمةُ الله {الذي فيه يمترون} يشكُّون يعني: اليهود يقولون: إنَّه لِزَنيةٍ وإنَّه كذَّاب ساحر ويقول النَّصارى: إنَّه ابن الله(1/680)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
{وما كان لله} ما ينبغي له سبحانه {أن يتخذ من ولد} أَيْ: ولداً {سبحانه} تنزيهاً له عن ذلك {فإذا قضى أمراً} أراد كونه {فإنما يقول له كن فيكون} كما قال لعيسى: كن فكان من غير أبٍ(1/680)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
{وإنَّ الله ربي وربكم} هذا راجعٌ إلى قوله تعالى: {وأوصاني بالصَّلاة} وأوصاني بأنَّ الله ربِّي وربُّكم {فاعبدوه} {هذا} الذي ذكرت {صراط مستقيم}(1/680)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
{فاختلف الأحزاب} يعني: فرق النَّصارى {من بينهم} فيما بينهم وهم النّسطورية واليعقوبيَّة والملكانية {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يريد: مشهدهم يوم القيامة(1/681)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{أسمع بهم وأبصر} ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة وأطوعهم أنَّ عيسى ليس الله ولا ابن الله سبحانه ولا ثالث ثلاثة ولكن لا ينفعهم ذلك مع ضلالتهم في الدُّنيا وهو قوله: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} من أمر عيسى والقول فيه(1/681)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{وأنذرهم} خوِّفهم يا محمَّد {يوم الحسرة} يوم القيامة حين يُذبح الموت بين الفريقين {إذْ قضي الأمر} أُحكم وفرغ منه {وهم في غفلة} في الدُّنيا من ذلك اليوم {وهم لا يؤمنون} لا يُصدِّقون به(1/681)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
{إنا نحن نرث الأرض} لأنَّا نُميت سُكَّانها {و} نرث {مَنْ عليها} لأنَّا نميتهم {وإلينا يرجعون} للثَّواب والعقاب(1/682)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{واذكر} لقومك {في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً} مؤمناً مُؤقناً {نبياً} رسولاً رفيعا(1/682)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يسمع} الدُّعاء {ولا يبصر} العبادة {ولا يغني} ولا يدفع {عنك} من عذاب الله {شيئاً}(1/682)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}(1/682)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
{يا أبت لا تعبد الشيطان} لا تُعطه {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} عاصياً(1/682)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{يا أبت إني أخاف} إن متَّ على ما أنت عليه أن يصيبك {عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً} قريناً في النار(1/682)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{قال} أبوه محببا له: {أراغب أنت عن آلهتي} أَزاهدٌ فيها وتارك لعبادتها؟ ! {لئن لم تنته} لئن لم يرجع عن مقالتك في عيبها {لأرجمنك} لأشتمنَّك {واهجرني ملياً} زماناً طويلاً من الدَّهر(1/682)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{قال} إبراهيم: {سلام عليك} أَيْ: سلمتَ مني لا أصيبك بمكروه وهذا جواب الجاهل كقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} {سأستغفر لك ربي} كان هذا قبل أن نُهي عن استغفاره وعده ذلك رجاء أن يُجاب فيه {إنه كان بي حفياً} بارَّاً لطيفاً(1/682)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{وأعتزلكم وما تدعون} أُفارقكم وأُفارق ما تعبدون من أصنامكم {وأدعو ربي} أعبده {عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا} بعبادته {شقياً} كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام يريد: إنَّه يتقبَّل عبادتي ويُثيبني عليها(1/683)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وذهب مهاجراً إلى الشَّام {وهبنا له} بعد الهجرة {إسحاق ويعقوب وكلاً} منهما {جعلنا} هُ {نبياً}(1/683)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{ووهبنا لهم من رحمتنا} يعني: النُّبوَّة والكتاب {وجعلنا لهم لسان صدق علياً} ثناءً حسناً رفيعاً في كلِّ أهل الأديان(1/683)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
{واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً} مُوحِّداً قد أخلص دينه لله(1/683)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{وناديناه من جانب الطور الأيمن} حيث أقبل من مدين يريد مصر فنودي من الشَّجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى {وقرَّبناه نجيَّاً} قرَّبة الله تعالى من السماوات للمناجاة حتى سمع صرير القلم يكتب له في الألواح(1/683)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{ووهبنا له من رحمتنا} من نعمتنا عليه {أخاه هارون نبيَّاً} حين سأل ربَّه فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي}(1/683)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} إذا وعد وفَّى وانتظر إنساناً في مكانٍ وعده عنده حتى حال الحول عليه {وكان رسولاً نبيَّاً} قد بعث إلى جرحهم(1/684)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{وكان يأمر أهله} يعني: قومه {بالصلاة والزكاة} المفروضة عليهم {وكان عند ربِّه مرضياً} لأنَّه قام بطاعته(1/684)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
{واذكر في الكتاب} القرآن {إدريس} وقصَّته {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}(1/684)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{ورفعناه مكاناً علياً} رُفع إلى السَّماء الرَّابعة وقيل: إلى الجنَّة(1/684)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{أولئك الذين} يعني: الذين ذكرهم من الأنبياء كانوا {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ومن ذرية من حملنا مع نوح في سفينته {ومن ذرية إبراهيم} يعني: إسحاق وإسماعيل ويعقوب {وإسرائيل} يعني: موسى وهارون {وممَّن هدينا} أرشدنا {واجتبينا} اصطفينا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبكياً} جمع باكيا أخبر الله سبحانه أنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سبحانه ويكوا من خشية الله تعالى(1/684)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{فَخَلفَ من بعدهم} قفا بعد هؤلاء {خلف} قوم سوء يعني: اليهود والنَّصارى والمجوس {أضاعوا الصلاة} تركوا الصَّلاة المفروضة {واتبعوا الشهوات} اللَّذات من شرب الخمر والزِّنا {فسوف يلقون غياً} وهو وادٍ في جهنم(1/685)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
{إلاَّ من تاب} من الشِّرك {وآمن} وصدَّق النَّبيِّين {وعمل صالحاً} أدَّى الفرائض {فأولئك يدخلون الجنَّة ولا يظلمون شيئاً} لا يُنقصون من ثواب أعمالهم شيئاً(1/685)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} بالمغيب عنهم ولم يروها {إنَّه كان وعده مأتياً} يؤتي ما وعده لا محالة تأتيه أنت كما يأتيك هو(1/685)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{لا يسمعون فيها لغواً} قبيحاً من القول {إلاَّ} لكن {سلاماً} قولاً حسناً يسلمون منه والسَّلام: اسمٌ جامعٌ للخير {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} على قدر ما يعرفون في الدُّنيا من الغداء والعشاء(1/685)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
{تلك الجنة التي نورث} نعطي وننزل {من عبادنا مَنْ كان تقياً} يتَّقي الله بطاعته واجتناب معاصيه(1/685)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{وما نتنزل} كان جبريل عليه السَّلام قد احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم أيَّاماً فلمَّا نزل قال له: ألاَّ زرتنا فأنزل الله سبحانه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بين أيدينا} من أمر الآخرة {وما خلقنا} ما مضى من أمر الدُّنيا {وما بين ذلك} ما يكون من هذا الوقت إلى قيام السَّاعة وقيل: {له ما بين أيدينا} : يعني: الدُّنيا {وما خلفنا} يعني: السماوات {وما بين ذلك} : الهواء {وما كان ربك نسياً} تاركاً لك منذ أبطأ عنك الوحي وقوله:(1/685)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{هل تعلم له سمياً} ت هل تعلم أحداً يُسمَّى الله غيره؟(1/686)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
{ويقول الإِنسان} يعني: أُبيَّ بن خلف {أإذا ما متُّ لسوف أخرج حياً} يقول: هذا استهزاءً وتكذيباً بالبعث يقول: لسوف أخرج حيَّاً من قبري بعد ما مت! ؟(1/686)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
{أو لا يذكر} يتذكَّر ويتفكَّر هذا {الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئاً} فيعلم أنَّ مَنْ قدر على الابتداء قدر على الإِعادة ثمَّ أقسم بنفسه أنَّه يبعثهم فقال:(1/686)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{فوربك لنحشرنَّهم} يعني: منكري البعث {والشياطين} قرناءهم الذين أضلوا {ثمَّ لنحضرنَّهم حول جهنم جثياً} جماعات جمع: جُثوة(1/686)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
{ثمَّ لننزعنَّ} لنخرجنَّ {من كلِّ شيعة} أُمَّةٍ وفرقةٍ {أيُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً} الأعتى فالأعتى منهم وذلك أنَّه يبدأ في التعذيب بأشدهم عتيَّا ثمَّ الذي يليه(1/686)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صلياً} أحقُّ بدخول النَّار(1/687)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{وإنْ منكم} وما منكم من أحدٍ {إلاَّ واردُها} إلاَّ وهو يرد النَّار {كان على ربك} كان الورود على ربِّك {حتماً مقضياً} حتم بذلك وقضى(1/687)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{ثمَّ نُنَجِّي} من النَّار {الذين اتقوا} الشِّرك {ونذر الظالمين} المشركين {فيها جثياً} أَيْ: جميعاً(1/687)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن وما بيَّن الله فيه {قال الذين كفروا} يعني: مشركي قريش {للذين آمنوا أَيُّ الفريقين} منَّا ومنكم {خيرٌ مقاماً} منزلاً ومسكناً {وأحسن ندياً} مجلساً وذلك أنَّهم كانوا أصحاب مالٍ وزينةٍ من الدُّنيا وكان المؤمنون أصحاب فقر ورثاثة فقال لهم: نحن أعظم شأناً وأعزُّ مجلساً وأكرم منزلاً أم أنتم؟ فقال الله تعالى:(1/687)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أثاثاً} متاعاً {ورئياً} منظراً من هؤلاء الكفَّار فلم يُغن ذلك عنهم شيئاً(1/687)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{قل مَنْ كان في الضلالة} الشِّرك والجهالة {فليمدد له الرحمن مدَّاً} فإنَّ الله تعالى يمدُّ له فيها ويمهله في كفره وهذا لفظ أمرٍ معناه الخبر {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} في الدُّنيا {وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وأضعف جنداً} أَهم أم المؤمنون؟ وذلك أنَّهم إن قُتلوا ونُصر المؤمنون عليهم علموا أنَّهم أضعف جنداً وإن ماتوا فدخلوا النَّار علموا أنَّهم شرٌّ مكاناً(1/687)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً} يزيدهم في يقينهم ورشدهم {والباقيات الصالحات} الأعمال الصالحة {خير عند ربك ثواباً} ممَّا يملك الكفَّار من المال {وخيرٌ مردَّاً} أَيْ: في المرَدِّ وهو الآخرة(1/688)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{أفرأيت الذي كفر بآياتنا} يعني: العاص بن وائل {وقال لأوتين مالاً وولداً} وذلك أن خبايا اقتضى ديناً له عليه فقال: ألستم تزعمون أنَّ في الجنة ذهبا وفضة؟ ولئن كان ما تقولون حقَّاً فإنِّي لأفضلُ نصيباً منك فأَخِّرني حتى أقضيك في الجنَّة استهزاءً فذلك قوله: {لأوتين مالاً وولداً} يعني: في الجنَّة فقال الله تعالى:(1/688)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
{أطلع الغيب} أعلمَ علم الغيب حتى عرف أنَّه في الجنَّة {أم اتخذ عند الرحمن عهداً} أم قال: لا إله إلاَّ الله حتى يستحقَّ دخول الجنَّة؟(1/688)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
{كلا} ليس الأمر كما يقول: {سنكتب ما يقول} سيحفظ عليه ما يقول من الكفر والاستهزاء لنجاريه به {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} نزيده عذاباً فوق العذاب(1/688)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{ونرثه ما يقول} من أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضةً فنجعله لغيره من المسلمين {ويأتينا فرداً} خالياً من ماله وولده وخدمه(1/688)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
{واتخذوا من دون الله} يعني: أهل مكَّة {آلهة} وهي الأصنام {ليكونوا لهم عزَّاً} أعواناً يمنعونهم مني(1/688)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{كلا} ليس الأمر على ما ظنُّوا {سيكفرون بعبادتهم} لأنَّهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنَّهم يُعبدون {ويكونون عليهم ضداً} أعواناً وذلك أنَّ الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم ويركِّب فيهم العقول فتقول: يا ربِّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك(1/689)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{ألم تر} يا محمد {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين} سلَّطناهم عليهم بالإِغواء {تؤزهم أزَّاً} تُزعجهم من الطَّاعة إلى المعصية(1/689)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
{فلا تعجل عليهم} بالعذاب {إنما نعدُّ لهم} الأيَّام واللَّيالي والأنفاس {عدَّاً} إلى انتهاء أجل العذاب(1/689)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
{يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} ركباناً مُكرمين(1/689)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
{ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} عطاشاً(1/689)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتَّخذ} لكم {عند الرحمن عهداً} اعتقد التَّوحيد وقال: لا إله إلاَّ الله فإنه يملك الشَّفاعة والمعنى: لا يشفع إلاَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ(1/689)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} يعني: اليهود والنَّصارى ومَنْ زعم أنَّ الملائكة بنات الله(1/689)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدَّاً} عظيما فظيعا(1/689)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
{تكاد السماوات} تقرب من أن {يتفطرن} يتشقَّقْن {منه} من هذا القول {وتخرُّ} وتسقط {الجبال هدَّاً} سقوطاً(1/690)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
{أن دعوا} لأنْ دعوا {للرحمن ولداً}(1/690)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
{وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً} لأنَّه لا يليق به الولد ولا مجانسة بينه وبين أحد(1/690)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
{إن كل} ما كل {من في السماوات والأرض إلاَّ} وهو يأتي الله سبحانه يوم القيامة مُقرَّاً له بالعبوديَّة(1/690)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
{لقد أحصاهم وعدَّهم عدَّاً} أَيْ: علمهم كلَّهم فلا يخفى عليه أحدٌ ولا يفوته(1/690)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فرداً} من ماله وولده وليس معه أحدٌ(1/690)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وداً} محبَّةً في قلوب المؤمنين قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب وقيل: في عبد الرَّحمن بن عوف(1/690)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
{فإنما يسرناه} سهَّلنا القرآن {بلسانك} بلغتك {لتبشر به المتقين} الذين صدَّقوا وتركوا الشرك {وتنذر به قوماً لداً} شداد الخصومة(1/690)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{وكم أهلكنا قبلهم} قبل قومك {من قرن} جماعةٍ {هل تحس} تجد {مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} صوتاً(1/690)
طه (1)
{طه} يا رجل(1/691)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
{ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} لتتعب بكثرة الجهد وذلك أنَّه كان يُصلِّي اللَّيل كلَّه بمكَّة حتى تورَّمت قدماه وقال له الكفَّار: إنَّك لتشقى بترك ديننا فأنزل الله تعالى هذه الآية(1/691)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{إلاَّ تذكرة} أي: ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً موعظةً {لمن يخشى} يخاف الله عز وجل(1/691)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
{تنزيلاَ ممَّن خلق الأرض والسماوات العلى} جمع العليا(1/691)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
{الرحمن على العرش} من أنَّه أعظم المخلوقات {استوى} أي: أقبل على خلقه كقوله: {ثم استوى إلى السماء} مع أنه أعظم المخلوقات أي: استولى وقوله:(1/691)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
{وما تحت الثرى} ما تحت الأرض والثَّرى: التُّراب النَّدي(1/692)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر} وهو ما أسررت في نفسك {وأخفى} وهو ما ستحدِّث به نفسك ممَّا لم يكن بعد والمعنى: إنَّه يعلم هذا فكيف ما جهر به؟(1/692)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحسنى}(1/692)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{وهل أتاك} يا محمَّد {حديث موسى} خبره وقصَّته(1/692)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{إذ رأى ناراً} في طريقه إلى مصر لمَّا أخذ امرأته الطَّلْقُ {فقال لأهله} لامرأته {امكثوا} أقيموا مكانكم {إني آنست} أبصرت {ناراً لعلي آتيكم منها بقبس} شعلة نارٍ {أو أجد على النار هدى} مَنْ يهديني ويدلُّني على الطَّريق وكان قد ضلَّ عن الطَّريق(1/692)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
{فلما أتاها} أي: النَّار(1/692)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نعليك} وكانت من جلد حمارٍ ميِّتٍ غيرِ مدبوغٍ لذلك أُمر بخلعها {إنك بالواد المقدس} المُطهَّر {طوى} اسم ذلك الوادي(1/692)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
{وأنا اخترتك} اصطفيتك للنُّبوَّة {فاستمع لما يوحى} إليك مني(1/692)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{وأقم الصلاة لذكري} لتذكرني فيها(1/692)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{إنَّ الساعة} القيامة {آتية أكاد أخفيها} أسترها للتَّهويل والتعظيم وأكاد صلةٌ {لتجزى} في ذلك اليوم {كل نفس بما تسعى} تعمل(1/692)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{فلا يصدنك} يمنعك {عنها} عن الإِيمان بالسَّاعة {مَنْ لا يؤمن بها واتبع هواه} مراده {فتردى} فتهلك(1/693)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{وما تلك} وما التي {بيمينك} في يدك اليمنى؟(1/693)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{قال هي عصاي أتوكأ عليها} أتحامل عليها عند المشي والإِعياء {وأهش} أخبط الورق عن الشَّجر {بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} حاجاتٌ أخرى سوى التوكؤ والهش وقوله:(1/693)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى}(1/693)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
{فألقاها فإذا هي حية تسعى}(1/693)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
{سنعيدها سيرتها الأولى} أَيْ: نردُّها عصاً كما كانت(1/693)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
{واضمم يدك إلى جناحك} جناح الإنسان: عضه إلى أصل إبطه يريد: أدخلها تحت جناحك {تخرج بيضاء من غير سوء} برصٍ أو داءٍ {آية أخرى} لك سوى العصا(1/693)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{لنريك من آياتنا الكبرى} وكانت يده أكبر آياته(1/693)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إنه طغى} كفر بأنعمي وتكبَّر عن عبادتي فعند ذلك(1/693)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
{قال} موسى: {رب اشرح لي صدري} وسِّعْ ولَيِّنْ لي قلبي بالإِيمان والنُّبوَّة(1/693)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
{ويسِّر لي أمري} وسهِّلْ عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرِّسالة(1/693)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
{واحلل} افتح {عقدة من لساني} وكانت في لسانه رُتَّة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه(1/694)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
{يفقهوا قولي} كي يفهموا كلامي(1/694)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
{واجعل لي وزيراً} معيناً {من أهلي} وهو(1/694)
هَارُونَ أَخِي (30)
{هارون}(1/694)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
{اشدد به أزري} قوِّ به ظهري(1/694)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
{وأشركه في أمري} اجعل ما أمرتني به من النُّبوَّة بيني وبينه(1/694)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
{كي نسبحك} نصلِّي لك {كثيراً}(1/694)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
{ونذكرك كثيراً} باللسان على كلِّ حالٍ(1/694)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
{إنك كنت بنا بصيراً} عالماً فاستجاب الله له وقال تعالى:(1/694)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
{قد أوتيت سؤلك يا موسى} أُعطيت مرادك ثمَّ ذكر منَّته السالفة عليه بقوله تعالى:(1/694)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
{ولقد مننا عليك مرَّة أخرى} قبل هذه وهي:(1/694)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
{إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى} أَيْ: ألهمناها ما يلهم الإِنسان من الصَّواب وهو إلهام الله تعالى إيَّاها:(1/694)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{أن اقذفيه} اجعليه {في التابوت فاقذفيه} فاطرحيه {في اليم} يعني: نهر النِّيل {فليلقه اليمُّ بالساحل} فيردُّه الماء إلى الشَّطِّ {يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له} وهو فرعون {وألقيت عليك محبة مني} حتى لم يقتلك عدوُّك الذي أخذك من الماء وهو أنَّه حبَّبه إلى الخلق كلِّهم فلا يراه مؤمنٌ ولا كافرٌ إلاَّ أحبَّه {ولتصنع} ولتربى وتغذَّى {على عيني} على محبَّتي ومرادي يعني: إذ ردَّه إلى أُمِّه حتى غدته وهو قوله:(1/694)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{إذ تمشي أختك} مُتعرِّفةً خبرك وما يكون من أمرك بعد الطَّرح في الماء {فتقول} لكم: {هل أدلُّكم على مَنْ يكفله} يرضعه ويضمُّه إليه وذلك حين أبى موسى عليه السَّلام أن يقبل ثدي امرأة فلما قال لهم ذلك قولوا: نعم فجاءت بالأُمِّ فَدُفع إليها فذلك قوله: {فرجعناك إلى أمك كي تقرَّ عينها} بلقائك وبقائك {ولا تحزن} على فقدك {وقتلت نفساً} يعني: القبطي الذي قتله {فنجيناك من الغم} من غمِّ أن تُقتل به {وفتناك فتوناً} اختبرناك اختباراً بأشياء قبل النَّبوَّة {فلبثت} مكثت {سنين في أهل مدين} عشر سنين في منزل شعيب {ثم جئت على قدر} على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السَّلام(1/695)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
{واصطنعتك لنفسي} اخترتك بالرِّسالة لكي تحبَّني وتقوم بأمري(1/695)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{اذهب أنت وأخوك بآياتي} يعني: بما أعطاهما من المعجزة {ولا تنيا} لا تَفتُرا(1/695)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
{اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى} علا وتكبَّر(1/695)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
{فقولا له قولاً ليّناً} كنِّياه وعِداه على الإِيمان نعيماً وعمراً طويلاً في صحَّة ومصيراً إلى الجنَّة {لعله يتذكر} يتَّعظ {أو يخشى} يخاف الله تعالى ومعنى (لعلَّ) ها هنا يعود إلى حال موسى وهارون أَي: اذهبا أنتما على رجائكما وطعمكما وقد علم الله تعالى ما يكون منه(1/696)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
{قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} يجعل علينا بالقتل والعقوبة {أو أن يطغى} يتكبَّر ويستعصي(1/696)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
{قال لا تخافا إنني معكما} بالعون والنُّصرة {أسمع} ما يقول {وأرى} ما يفعل وقوله:(1/696)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ: خلِّ عنهم ولا تستخرهم {ولا تعذبهم} ولا تتعبهم في العمل {قد جئناك بآية من ربك} يعني: اليد البيضاء والعصا {والسلام على من اتبع الهدى} سَلِمَ مَنْ أسلم(1/696)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كذَّب} أنبياء الله {وتولى} أعرض عن الإيمان وقوله:(1/696)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
{قال فمن ربكما يا موسى}(1/696)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ربنا الذي أعطى كلَّ شيء خلقه} أَيْ: أتقن كلَّ شيءٍ ممَّا خلق وخلقه على الهيئة التي بها يُنتفع والتي هي أصلح وأحكم لما يُراد منه {ثم هدى} أي: هداه لمعيشته ثمَّ سأله فرعون عن أعمال الأمم الماضية وهو قوله:(1/696)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
{فما بال القرون الأولى} الماضية؟ فأجابه موسى عليه السَّلام بأنَّ أعمالهم محفوظةٌ عند الله يُجازون بها وهو قوله:(1/697)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{علمها عند ربي في كتاب} وهو اللَّوح المحفوظ {لا يضل ربي} لا يخطئ ومعناه: لا يترك مَنْ كفر به حتى ينتقم منه {ولا ينسى} مَنْ وحَّده حتى يجازيه(1/697)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{الذي جعل لكم الأرض مهدا} فراشاً {وسلك لكم فيها سبلاً} وسهَّل لكم فيها طُرُقاً {وأنزل من السماء ماء} يريد: المطر وتمَّ ها هنا جواب موسى ثمَّ تلوَّن الخطاب وقال الله تعالى: {فأخرجنا به أزواجاً} أصنافاً {من نبات شتى} مختلفة الألوان والطُّعوم(1/697)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
{كلوا} منها {وارعوا أنعامكم} فيها أَيْ: أسيموها واسرحوها في نبات الأرض {إنَّ في ذلك} الذي ذكرت {لآيات} لعبرة {لأولي النهي} لذوي العقول(1/697)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
{منها خلقناكم} يعني: آدم عليه السَّلام {وفيها نعيدكم} عند الموت {ومنها نخرجكم} عند البعث {تارة} مرَّةً {أخرى}(1/697)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{ولقد أريناه} يعني: فرعون {آياتنا كلَّها} الآيات التِّسع {فكذَّب} بها وزعم أنَّها سحرٌ {وأبى} أن يُسلم(1/697)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
{قال} لموسى: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا} من أرض مصر(1/697)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
{بسحرك يا موسى * فلنأتينَّك بسحر مثله} فلنعارضنَّ سحرك بسحرٍ مثله {فاجعل بيننا وبينك موعداً} لمعارضتنا إيَّاك لا نُخلف ذلك الموعد {نحن ولا أنت} وأراد بالموعدت ها هنا موضعاً يتواعدون للاجتماع هناك وهو قوله: {مكاناً سوى} أَيْ: يكون النَّصف فيما بيننا وبينك(1/698)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{قال موعدكم يوم الزينة} أَيْ: وقتُ موعدكم يوم الزِّينة وهو يوم عيدٍ كان لهم {وأن يحشر الناس ضحى} يريد: يجمع أهل مصر في ذلك اليوم نهاراً أراد موسى صلوات الله عليه أن يكون أبلغ في الحجَّة وأشهر ذكراً في الجمع(1/698)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
{فتولى} فأدبر {فرعون فجمع كيده} حِيَله وسحرته {ثم أتى} الميعاد(1/698)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{قال لهم موسى} للسَّحرة: {لا تفتروا على الله كذباً} لا تشركوا مع الله أحداً {فيسحتكم} فيستأصلكم {بعذاب وقد خاب من افترى} خسر مَن ادَّعى مع الله تعالى إلهاً آخر(1/698)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{فتنازعوا أمرهم بينهم} فتشاوروا بينهم يعني: السَّحرة {وأسروا النجوى} تكلَّموا فيما بينهم سرَّاً من فرعون فقالوا: إنْ غلَبَنا موسى اتَّبعناه(1/698)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{قالوا إن هذان لساحران} يعنون: موسى وهارون عليهما السَّلام {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم} من مصر ويغلبا عليها {بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} بجماعتكم الأشراف أَيْ: يصرفا وجوههم إليهما(1/698)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
{فأجمعوا كيدكم} أي: اعزموا على الكيد من غير اختلافٍ بينكم فيه {ثم ائتوا صفاً} مُجتمعين مصطفِّين ليكون أشدَّ لهيبتكم {وقد أفلح اليوم من استعلى} أَيْ: قد سعد اليوم مَنْ غلب(1/699)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
{قالوا يا موسى إمَّا أن تلقي} عصاك من يدك إلى الأرض {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}(1/699)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{قال بل ألقوا} أنتم فألقوا {فإذا حبالهم وعصيهم} جمع العصا {يخيل إليه} يُشبَّه لموسى {أنها تسعى} وذلك أنَّها تحرَّكت بنوع حيلةٍ وتمويهٍ وظن موسى أنَّها تسعى نحوه(1/699)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
{فأوجس} فأضمر {في نفسه خيفة} خوفاً خاف أن لا يفوز ولا يغلب فلا يُصدَّق حتى قال الله تعالى له:(1/699)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
{لا تخف إنك أنت الأعلى} الغالب(1/699)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
{وألق ما في يمينك تلقف} تبتلع {ما صنعوا إنما صنعوا} أي: الذين صنعوه {كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ولا يسعد الساحر ما كان فألقى موسى عصاه فتلقَّفت كلَّ الذي صنعوه وعند ذلك أُلقي(1/699)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{السحرة سجداً} خرُّوا ساجدين لله تعالى {قالوا آمنا برب هارون وموسى}(1/699)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{قال آمنتم له} صدّقتموه {قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم} معلّمكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خلاف} اليد اليمنى والرِّجل اليسرى {ولأصلبنكم في جذوع النخل} عل رؤوس النَّخل {ولتعلمن أينا أشد عذاباً} أنا أو ربُّ موسى {وأبقى} وأدوم(1/699)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{قالوا لن نؤثرك} لن نختار دينك {على ما جاءنا من البينات} اليقين والهدى {والذي فطرنا} ولا نختارك على الذي خلقنا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} فاصنع ما أنت صانعٌ منت القطع والصَّلب {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} إنَّما سلطانك وملكك في هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(1/700)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{إنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} الشرك الذي كنَّا فِيهِ {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ من السحر} وإكراهك إيانا على تعلُّم السِّحر {والله خير} لنا منك {وأبقى} لأنَّك فانٍ هالكٌ(1/700)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
{إنَّه مَنْ يأت ربَّه مجرماً} مات على الشِّرك {فإنَّ له جهنم لا يموت فيها} فيستريح بالموت {ولا يحيا} حياةً تنفعه(1/700)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
{ومن يأته مؤمنا} ما على الإيمان {قد عمل الصالحات} قد أدَّى الفرائض {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} في الجنَّة وقوله:(1/700)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{جزاء من تزكى} تطهَّر من الشِّرك بقول: لا إله إلاَّ الله(1/700)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر {فَاضْرِبْ لهم} بعصاك {طريقاً في البحر يبساً} يابساً {لا تخاف دركاً} من فرعون خلقك {ولا تخشى} غرقاً في البحر(1/700)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
{فأتبعهم} فلحقهم {فرعون بجنوده فغشيهم من اليم} فعلاهم من البحر {ما غشيهم} ما غرَّقَهم(1/701)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
{وأضل فرعون قومه وما هدى} ردَّ عليه حيث قال: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ثمَّ ذكر مِننه على بني إسرائيل فقال:(1/701)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{قد أنجيناكم من عدوكم} فرعون {وواعدناكم} لإِيتاء الكتاب {جانب الطور الأيمن} وذلك أنَّ الله سبحانه وعد موسى أن يأتي هذا المكان فيؤتيه كتاباً فيه الحلال والحرام والأحكام ووعدهم موسى أن يأتي هذا المكان عند ذهابه عنهم {ونزلنا عليكم المنَّ والسلوى} يعني: في التِّيه(1/701)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
{كلوا} أيْ: وقلنا لهم: كلوا {مِنْ طَيِّبَاتِ} حلالات {ما رزقناكم ولا تطغوا} ولا تكفروا النِّعمة {فيه فيحلَّ} فيجب {عليكم غضبي ومن يحلل} يجب {عليه غضبي فقد هوى} هلك وصار إلى الهاوية(1/701)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{وإني لغفار لمن تاب} من الشِّرك {وآمن} وصدَّق بالله {وعمل صالحاً} بطاعة الله {ثمَّ اهتدى} أقام على ذلك حتى مات عليه(1/701)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
{وما أعجلك عن قومك} يعني: السَّبعين الذين اختارهم وذلك أنَّه سبقهم شوقاً إلى ميعاد الله وأمرهم أن يتَّبعوه فذلك قوله:(1/702)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{قال: هم أولاء على أثري} يجيئون بعدي {وعجلت إليك} بسبقي إيَّاهم {لترضى} لتزداد عن رضى(1/702)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
{قال فإنا قد فتنا قومك} أَيْ: ألقيناهم في الفتنة واختبرناهم {من بعدك} من بعد خروجك من بينهم {وأضلهم السامريُّ} بدعائهم إلى عبادة العجل(1/702)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً} شديد الحزن {قَالَ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حسناً} أنَّه يعطيكم التَّوراة صدقاً لذلك الموعد {أفطال عليكم العهد} مدَّة مفارقتي إيَّاكم {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ} أن يجب {عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي} باتِّخاذ العجل ولم تنظروا رجوعي إليكم(1/702)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا} باختيارنا ونحن نملك من أمرنا شيئاً ولكنَّ السامري استغلونا وهو معنى قوله: {ولكنا حملنا أوزاراً} أثقالاَ {من زينة القوم} من خلي آل فرعون {فقذفناها} ألقيناها في النَّار بأمر السَّامِرِيَّ وذلك أنَّه قال: اجمعوها وألقوها في النَّار ليرجع موسى فيرى فيها رأيه {فكذلك ألقى السامري} ما معه من الحُلِّي في النَّار وهو قوله: {فكذلك ألقى السامري} ثمَّ صاغ لهم عجلا وهو قوله:(1/702)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
{فأخرج لهم عجلاً جسداً} لحماً ودماً {له خوار} صوت فسجدوا له وافتتنوا به وقالوا: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} فتركه ها هنا وخرج يطلبه قال الله تعالى احتجاجاً عليهم(1/703)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{أفلا يرون ألا يرجع} أنَّه لا يرجع {إليهم قولاً} لا يُكلِّمهم العجل ولا يجيبهم {ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً}(1/703)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
{ولقد قال لهم هارون من قبل} من قبل رجوع موسى: {يا قوم إنما فتنتم به} ابتليتم بالعجل {وإنَّ ربكم الرحمن} لا العجل {فاتبعوني} على ديني {وأطيعوا أمري}(1/703)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
{قالوا لن نبرح عليه عاكفين} على عبادته مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فلمَّا رجع موسى(1/703)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا} ت أخطأوا الطَّريق بعبادة العجل {أن لا تتبعن} أن تتبعني وتلحق بي وتخبرني؟ {أفعصيت أمري} حيث أقمتَ فيما بينهم وهم يعبدون غير الله! ؟ ثمَّ أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه فقال:(1/703)
أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
{أن لا تتبعن أفعصيت أمري}(1/703)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{يا ابن أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} خشيت إن فارقتهم واتبتعك أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول: أوقعتَ الفرقة فيما بينهم {ولم ترقب قولي} لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم ثمَّ أقبل موسى على السَّامري فقال:(1/703)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
{فما خطبك} فما قصَّتك وما الذي تخاطب به فيما صنعت؟(1/704)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{قال: بصرت بما لم يبصروا به} علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل قال موسى: وما ذلك؟ قال: رأيت جبريل عليه السَّلام على فرس الحياة فأُلقي فِي نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيءٍ إلاَّ صار له روحٌ ولحمٌ ودمٌ فحين رأيتُ قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً زيَّنت لي نفسي ذلك فذلك قوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} طرحتها في العجل {وكذلك سولت لي نفسي} حدثني نفسي(1/704)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{قال} له موسى صلوات الله عليه: {فاذهب فإنَّ لك في الحياة} يعني: ما دمت حيَّاً {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} لا تخالط أحداً ولا يخالطك وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه وصار السَّامريُّ بحيث لو مسَّه أحدٌ أو مسَّ هو أحداً حُمَّ كلاهما {وإن لك موعداً} لعذابك {لن تخلفه} لن يُخلفكه الله {وانظر إلى إلهك} معبودك {الذي ظلت عليه عاكفاً} دمتَ عليه مقيماً تعبده {لنحرقنَّه} بالنَّار {ثمَّ لننسفنَّه} لنذرينَّه في البحر(1/704)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هو} لا العجل {وسع كلَّ شيء علماً} علم كلَّ شيء علماً(1/704)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
{كذلك} كما قصصنا عليك هذه القصَّة {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} من الأمور {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} يعني: القرآن(1/705)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
{من أعرض عنه} فلم يؤمن به {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} حملاً ثقيلاً من الكفر(1/705)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
{خالدين فيه} لا يغفر ربك لهم ذلك ولا يكفِّر عنهم شيء {وساء لهم يوم القيامة حملاً} بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفراً بالقرآن(1/705)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين} الذين اتَّخذوا مع الله إلهاً آخر {يومئذ زرقاً} زرق العيون سود الوجوه(1/705)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
{يتخافتون} يتساررون {بينهم إن لبثتم} في قبوركم إلاَّ عشر ليالٍ يريدون ما بين النَّفختين وهو أربعون سنة يُرفع العذاب في تلك المدَّة عن الكفَّار فيستقصرون تلك المدَّة إذا عاينوا هول القيامة قال الله تعالى:(1/705)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طريقة} أعدلهم قولاً {إن لبثتم إلاَّ يوماً}(1/705)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
{ويسألونك عن الجبا} سألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ {فقل ينسفها ربي نسفاً} يصيِّرها كالهباء المنثور حتى تستوي مع الأرض وهو قوله:(1/705)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{فيذرها قاعاً صفصفاً} مكاناً مستوياً(1/705)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا} انخفاضا وارتفاعا(1/705)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{يومئذ يتبعون الداعي} الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ولا يقدرون ألا يتَّبعوا {وخشعت} سكنت {الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً} وطء الأقدام نقلها إلى المحشر(1/706)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
{يومئذ} يوم القيامة {لا تنفع الشفاعة} أحداً {إلاَّ من أذن له الرحمن} في أن يُشفَع له وهم المسلمون الذين رضي الله قولهم لأنَّهم قالوا: لا إله إلا الله وهذا معنى قوله: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا}(1/706)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
{يعلم ما بين أيديهم} من أمر الآخرة {وما خلفهم} من أمر الدُّنيا وقيل ما قدَّموا وما خلَّفوا من خيرٍ وشرٍّ {ولا يحيطون به علماً} وهم لا يعلمون ذلك(1/706)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
{وعنت الوجوه} خضعت وذلَّت {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} خسر مَنْ أشرك بالله(1/706)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{ومن يعمل من الصالحات} الطَّاعات لله {وهو مؤمن} مصدِّق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} لا يخاف أن يزاد في سيئاته ولا ينقص من حسناته(1/706)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{وكذلك} وهكذا {أنزلناه قرآناً عربياً وصرَّفنا} بيَّنا {فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لهم} القرآن {ذكراً} وموعظة(1/706)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{ولا تعجل بالقرآن} كان إذا نزل جبريل عليه السَّلام بالوحي يقرؤه مع جبريل عليه السَّلام مخافة النِّسيان فأنزل الله سبحانه: {ولا تعجل بالقرآن} أَيْ: بقراءته {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وحيه} من قبل أن يفرغ جبريل ممَّا يريد من التَّلاوة {وقل رب زدني علماً} بالقرآن وكان كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علماً(1/706)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{ولقد عهدنا إلى آدم} أمرناه وأوصينا إليه {من قبل} هؤلاء الذين تركوا أمري ونفضوا عهدي في تكذيبك {فنسي} فترك ما أمر به {ولم نجد له عزماً} حفظاً لما أُمر به وقوله:(1/707)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إبليس أبى}(1/707)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}(1/707)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
{إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى}(1/707)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
{ولا تضحى} أَيْ: لا يؤذيك حرُّ الشَّمس وقوله:(1/707)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
{شجرة الخلد} يعني: مَنْ أكل منها لم يمت وقوله:(1/707)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{فغوى} فأخطأ ولم ينل مراده ممَّا أكل ويقال: لم يرشد(1/707)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{ثم اجتباه} اختاره {ربه فتاب عليه} عاد عليه بالرَّحمة والمغفرة {وهدى} أي: هداه إلى التوبة وقوله:(1/707)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنْي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلا يضل ولا يشقى}(1/707)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
{من أعرض عن ذكري} موعظتي وهي القرآن {فإنَّ له معيشة ضنكاً} ضيقى يعني: في جهنَّم وقيل: يعني عذاب القبر {ونحشره يوم القيامة أعمى} البصر(1/707)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بصيراً}(1/707)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
{قال كذلك أتتك آياتنا} يقول: كما أتتك آياتي {فَنَسِيتَهَا} فتركتها ولم تؤمن بها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تنسى} تُترك في جهنَّم(1/708)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
{وكذلك} وكما تجزي مَنْ أعرض عن القرآن {نجزي مَنْ أسرف} أشرك {ولعذاب الآخرة أشدُّ} ممَّا يُعذِّبهم به في الدُّنيا والقبر {وأبقى} وأدوم(1/708)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{أفلم يهد لهم} أفلم يتبيَّن لهم بياناً يهتدون به {كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون} هؤلاء إذا سافروا في مساكن أولئك الذين أهلكناهم بتكذيب الأنبياء {إن في ذلك لآيات} لعبراً {لأولي النهى} لذوي العقول(1/708)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
{ولولا كلمة سبقت من ربك} في تأخير العذاب عنهم {لكان لزاماً} لكان العذاب لازماً لهم في الدُّنيا {وأجل مسمى} وهو القيامة وقوله:(1/708)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{وسبح بحمد ربك} صل لربِّك {قبل طلوع الشمس} صلاة الفجر {وقبل غروبها} صلاة العصر {ومن آناء الليل فسبح} فصلِّ المغرب والعشاء الآخرة {وأطراف النهار} صلِّ صلاة الظُّهر في طرف النِّصف الثاني وسمَّى الواحد باسم الجمع {لعلك ترضى} لكي ترضى من الثَّواب في المعاد(1/708)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ولا تمدنَّ عينيك} مُفسَّر في سورة الحجر وقوله: {زهرة الحياة الدنيا} أَي: زينتها وبهجتها {لنفتنهم فيه} لنجعل ذلك فتنةً لهم {ورزق ربك} لك في المعاد {خير وأبقى} أكثر وأدوم(1/708)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{وأمر أهلك بالصلاة} يعني: قريشاً وقيل: أهل بيته {لا نسألك رزقاً} لخلقنا ولا لنفسك {نحن نرزقك والعاقبة} الجنَّة {للتقوى} لأهل التَّقوى يعني: لك ولمن صدَّقك ونزلت هذه الآيات لمَّا استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهوديٍّ وأبى أن يعطيه إلاَّ برهنٍ وحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/709)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
{وقالوا} يعني: المشركين {لولا} هلاَّ {يأتينا} محمَّد عليه السَّلام {بآية من ربه} ممَّا كانوا يقترحون من الآيات قال الله: {أَوَلَمْ تأتهم بيِّنة} بيان {ما في الصحف الأولى} يعني: في القرآن بيان ما في التَّوراة والإِنجيل والزَّبور(1/709)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله} من قبل نزول القرآن وقوله: {من قبل أن نذل} بالعذاب {ونخزى} في جهنَّم(1/709)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{قل} يا محمد لهم: {كلٌّ متربص} منتظرٌ دوائر الزَّمان ولمَنْ يكون النَّصر {فتربصوا فستعلمون} في القيامة {من أصحاب الصراط السويّ} المستقيم {ومن اهتدى} من الضَّلالة نحن أم أنتم(1/709)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
{اقترب للناس} يعني: أهل مكَّة {حسابهم} وقت محاسبة الله إيَّاهم على أعمالهم يعني: القيامة {وهم في غفلة} عن التَّأهُّب لذلك {معرضون} عن الإِيمان(1/710)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} يعني: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيءٍ من القرآن يذكرهم ويعظمهم به {إلاَّ استمعوه وهم يلعبون} يستهزئون به(1/710)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{لاهية} غافلةً {قلوبهم وأسروا النجوى} قالوا سرّاً فيما بينهم {الذين ظلموا} أشركوا وهو أنَّهم قالوا: {هل هذا} يعنون محمَّداً {إلاَّ بشرٌ مثلكم} لحمٌ ودمٌ {أفتأتون السحر} يريدون: إنَّ القرآن سحرٌ {وأنتم تبصرون} أنَّه سحر فلمَّا أطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على هذا السِّرِّ الذي قالوه أخبر أنَّه يعلم القول في السَّماء والأرض بقوله:(1/710)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
{قال ربي يعلم القول} أَيْ: ما يقال {في السماء والأرض وهو السميع} للأقوال {العليم} بالأفعال ثمَّ أخبر انَّ المشركين اقتسموا القول في القرآن وأخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض فيقولون مرَّةً:(1/711)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{أضغاث أحلام} أَيْ: أباطيلها يعنون أنَّه يرى ما يأتي به في النَّوم رؤيا باطلة ومرَّةً هو مفترىً ومرَّةً هو شعرٌ ومحمَّد شاعرٌ {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} بالآيات مثل: النَّاقة والعصا واليد فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهالٌ إذا كُذِّب بها فقال الله تعالى:(1/711)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} بالآيات التي اقترحوها {أفهم يؤمنون} يريد: إنَّ اقتراح الآيات كان سبباً للعذاب والاستئصال للقرون الماضية وكذلك يكون لهؤلاء(1/711)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} ردّاً لقولهم {هل هذا إلاَّ بشر مثلكم} {فاسألوا} يا أهل مكَّة {أهل الذكر} مَنْ آمن من أهل الكتاب {إن كنتم لا تعلمون} أنَّ الرُّسل بشر(1/711)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{وما جعلناهم} أي: الرُّسل {جسداً} أَيْ: أجساداً {لا يأكلون الطعام} وهذا ردٌّ لقولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} فأعملوا أنَّ الرُّسل جميعاً كانوا يأكلون الطَّعام وأنَّهم يموتون وهو قوله: {وما كانوا خالدين}(1/711)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ثم صدقناهم الوعد} ما وعدناهم من عذاب مَنْ كفر بهم وإنجائهم مع مَنْ تابعهم وهو قوله: {فأنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين} المشركين(1/712)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا معشر قريش {كِتَابًا فيه ذكركم} شرفكم {أفلا تعقلون} ما فضلتكم به على غيركم؟(1/712)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
{وكم قصمنا} أهلكنا {من قرية كانت ظالمة} يعني: إنَّ أهلها كانوا كفَّاراً {وأنشأنا} أحدثنا {بعدها} بعد إهلاك أهلها {قوماً آخرين} نزلت في أهل قرىً باليمن كذَّبوا نبيَّهم وقتلوه فسلَّط الله سبحانه عليهم بختنصَّر حتى أهلكهم بالسَّيف فذلك قوله:(1/712)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
{فلما أحسوا بأسنا} رأوا عذابنا {إذا هم منها} من قريتهم {يركضون} يسرعون هاربين وتقول لهم الملائكة:(1/712)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه} نَعِمْتُم فيه {لعلكم تسألون} من دنياكم شيئاً قالت الملائكة لهم هذا على سبيل الاستهزاء بهم كأنَّهم قيل لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه من المال والنِّعمة لعلكم تُسألون فإنَّكم أغنياء تملكون المال فلمَّا رأَوا ذلك أقرُّوا على أنفسهم حيث لم ينفعهم فقالوا:(1/712)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
{يا ويلنا إنا كنا ظالمين} لأنفسنا بتكذيب الرُّسل(1/712)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{فما زالت} هذه المقالة {دعواهم} يدعون بها ويقولون: يا ويلنا {حتى جعلناهم حصيداً} بالسُّيوف كما يحصد الزَّرع {خامدين} ميِّتين(1/712)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} عبئا وباطلاً أَيْ: ما خلقتهما إلاَّ لأُجازي أوليائي وأُعذِّب أعدائي(1/713)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{لو أردنا أن نتخذ لهواً} امرأةً وقيل: ولداً {لاتخذناه من لدنا} بحيث لا يظهر لكم ولا تطَّلعون عليه {إن كنا فاعلين} ما كنَّا فاعلين ولسنا من يفعله(1/713)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
{بل نقذف بالحق على الباطل} نُلقي القرآن على باطلهم {فيدمغه} فيذهبه ويكسره {فإذا هو زاهقٌ} ذاهبٌ {ولكم الويل} ما معشر الكفَّار {مما تصفون} الله تعالى بما لا يليق به(1/713)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
{وله من في السماوات وَالأَرْضِ} عبيداً وملكاً {ومَنْ عنده} يعني: الملائكة {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} لا يملُّون ولا يعيون(1/713)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{يسبحون الليل والنهار لا يفترون} لا يضعفون(1/713)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{أم اتخذوا آلهةً من الأرض} يعني: الأصنام {هم ينشرون} يحيون الأموات والمعنى: أنتشر آلهتهم التي اتَّخذوها؟(1/713)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
{لو كان فيهما} في السَّماء والأرض {آلهةٌ إلاَّ اللَّهُ} غير الله {لفسدتا} لخربتا وهلك مَنْ فيهما بوقوع التَّنازع بين الآلهة(1/713)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{لا يُسأل عما يفعل} عن حكمه في عباده {وهم يُسألون} عمَّا عملوا سؤال توبيخ(1/713)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا برهانكم} حجَّتكم على أن مع الله تعالى معبوداً غيره {هذا ذكر مَنْ معي} يعني: القرآن {وذكر مَنْ قبلي} يعني: التَّوراة والإِنجيل فهل في واحدٍ من هذه الكتب إلاَّ توحيد سبحانه وتعالى؟ {بل أكثرهم لا يعلمون الحق} فلا يتأمَّلون حجَّة التَّوحيد وهو قوله: {فهم معرضون}(1/713)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
{وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ} الآية يريد: لم يُبعثْ رسولٌ إلاَّ بتوحيد الله سبحانه ولم يأتِ رسولٌ أُمّته بأنَّ لهم إلهاً غير الله(1/714)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} يعني: الذين قالوا: الملائكة بنات الله والمعنى: وقالوا: اتَّخذ الرحمن ولداً من الملائكة {سبحانه} ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا يقولون {بل} هم {عباد مكرمون} يعني: الملائكة مكرمون بإكرام الله إيَّاهم(1/714)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} لا يتكلَّمون إلاَّ بما يأمرهم به {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(1/714)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} ما علموا وما هم عاملون {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارتضى} لمن قال: لا إله إلاَّ الله {وهم من خشيته مشفقون} خائفون لأنَّهم لا يأمنون مكر الله(1/714)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
{ومَنْ يقل منهم} من الملائكة {إني إلهٌ من دونه} من دون الله تعالى {فذلك نجزيه جهنم} يعني: إبليس حيث ادَّعى الشِّركة في العبادة ودعا إلى عبادة نفسه {كذلك نجزي الظالمين} المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى(1/714)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{أَوَلَمْ يَر} أولم يعلم {الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً} مسدودةً {ففتقناهما} بالماء والنَّبات كانت السَّماء لا تُمطر والأرض لا تُنبت ففتحهما الله سبحانه بالمطر والنَّبات {وجعلنا من الماء} وخلقنا من الماء {كلَّ شيء حي} يعني: إنَّ جميع الحيوانات مخلوقةٌ من الماء كقوله تعالى: {والله خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ} ثمَّ بكَّتهم على ترك الإيمان فقال: {أفلا يؤمنون} وقوله:(1/714)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{وجعلنا فيها} في الرَّواسي {فجاجاً سبلاً} طرقاً مسلوكةً يهتدوا(1/715)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
{وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} بالنُّجوم من الشَّياطين {وهم عن آياتها} شمسها وقمرها ونجومها {معرضون} لا يتفكَّرون فيها وقوله:(1/715)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{كلٌّ في فلك يسبحون} يجرون ويسيرون والفَلَكُ: مدار النُّجوم(1/715)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{وما جَعَلْنا لبشر من قبلك الخلد} دوام البقاء {أفإن مت فهم الخالدون} نزل حين قالوا: {نتربَّصُ به ريَب المنون} وقوله:(1/715)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{ونبلوكم} نختبركم {بالشر} بالبلايا والفقر {والخير} المال والصِّحة {فتنة} ابتلاءً لننظر كيف شكركم وصبركم(1/715)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{وإذا رآك الذين كفروا} يعني: المستهزئين {إن يتخذونك} ما يتَّخذونك {إلاَّ هزواً} مهزوءاً به قالوا: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} يعيب أصنامكم {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} جاحدون إلهيَّته يريد أنَّهم يعيبون مَنْ جحد إليهة أصنامهم وهم جاحدون إليهة الرَّحمن وهذا غاية الجهل(1/715)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{خلق الإنسانُ من عجل} يريد: إنَّ خلقته على العجلة وعليها طُبع {سَأُرِيكم آياتي} يعني: ما توعدون به من العذاب {فلا تستعجلون}(1/617)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{ويقولون متى هذا الوعد} وعد القيامة(1/716)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
{لو يعلم الذين كفروا} الآية وجواب لو محذوف على تقدير: لآمنوا ولما أقاموا على الكفر(1/716)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
{بل تأتيهم} القيامة {بغتة} فجأة {فتبهتهم} تحيرهم(1/716)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}(1/716)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{قل مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} يحفظكم {بالليل والنهار من الرحمن} إن أنزل بكم عذابه {بل هم عن ذكر ربهم} كتاب ربِّهم {معرضون}(1/716)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يستطيعون نصر أنفسهم} فكيف تنصرهم وتمنعهم؟ ! {ولا هم منا يصحبون} لا يُجارون من عذابنا(1/716)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{بل متَّعنا هؤلاء} الكفَّار {وآباءهم حتى طال عليهم العمر} أَيْ: متَّعناهم بما أعطيناهم من الدُّنيا زماناً طويلاً فقست قلوبهم {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أطرافها} بالفتح على محمد صلى الله عليه وسلم {أفهم الغالبون} أم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟(1/716)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{قل إنما أنذركم} أُخوِّفكم {بالوحي} بالقرآن الذي أوحي إليَّ وأُمرت فيه بإنذاركم {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} كذلك أنتم يا معشر المشركين(1/717)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
{ولئن مستهم} أصابتهم {نفحة من عذاب ربك} قليلٌ وأدنى شيءٍ لأقرّوا على أنفسهم بسوء صنيعهم وهو قوله: {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}(1/717)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{ونضع الموازين القسط} ذوات القسط أي: العدل {فلا تظلم نفسٌ شيئاً} لا يزاد على سيئاته ولا ينقص من ثواب حسناته {وإن كان} ذلك الشَّيء {مثقال حبة} وزن حبَّةٍ {من خردل أتينا بها} جئنا بها {وكفى بنا حاسبين} مُجازين وفي هذا تهديد(1/717)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} البرهان الذي فرَّق به بين حقّه وباطل فرعون {وضياء} يعني: التَّوراة الذي كان ضياءً يُضيء هدى ونوراً {وذكراً} وعِظَةً {للمتقين} من قومه(1/717)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
{الذين يخشون ربهم بالغيب} يخافونه ولم يروه(1/717)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{وهذا ذكر مبارك} يعني: القرآن {أفأنتم له منكرون} جاحدون(1/717)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{ولقد آتينا إبراهيم رشده} هُداه وتوفيقه {من قبل} من قبل موسى وهارون {وكنا به عالمين} أنَّه أهلٌ لما آتيناه(1/718)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الأصنام {التي أنتم لها عاكفون} على عبادتها مقيمون!(1/718)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
{قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فاقتدينا بهم(1/718)
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مبين}(1/718)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
{قالوا أجئتنا بالحق} يعنون: أَجادٌّ أنت فيما تقول أم لاعبٌ؟(1/718)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
{قال بل ربكم رب السماوات وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشاهدين} أي: أشهد على أنَّه خالقها(1/718)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
{وتالله لأكيدن أصنامكم} لأمركن بها {بعد أن تولوا مدبرين} قال ذلك في يوم عيدٍ لهم وهم يذهبون إلى الموضع الذي يجتمعون فيه(1/718)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{فجعلهم جذاذاً} حطاماً ودقاقاً {إلاَّ كبيراً لهم} عظيم الآلهة فإنَّه لم يكسره {لعلهم إليه} إلى إبراهيم ودينه {يرجعون} إذا قامت الحُجَّة عليهم فلمَّا انصرفوا(1/718)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
{قالوا من فعل هذا بآلهتنا} ت الآية قال الذين سمعوا قوله: {لأكيدن أصنامكم}(1/718)
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
{سمعنا فتى يذكرهم} يعيبهم {قال له إبراهيم}(1/719)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{قالوا فأتوا به على أعين الناس} على رؤوس النَّاس بمرأىً منهم {لعلَّهم يشهدون} عليه أنَّه الذي فعل ذلك وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنةٍ فلمَّا أتوا به(1/719)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}(1/719)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{قال بل فعله كبيرهم هذا} غضب من أن يعبدوا معه الصِّغار وأراد إقامه الحجَّة عليهم {فاسألوهم} مَنْ فعل بهم هذا {إن كانوا ينطقون} ت إن قدروا على النُّطق(1/719)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
{فرجعوا إلى أنفسهم} تفكَّروا ورجعوا إلى عقولهم {فقالوا إنكم أنتم الظالمون} هذا الرجل بسؤالكم إيَّاه وهذه آلهتكم حاضرةٌ فاسألوها(1/719)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ثم نكسوا على رؤوسهم} أطرقوا لما لحقهم من الخجل وأقرُّوا بالحجَّة عليهم فقالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فلمَّا اتَّجهت الحجَّة عليهم قال إبراهيم:(1/719)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شيئاً ولا يضركم}(1/719)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
{أفٍ لكم} أَيْ: نتناً لكم فلما عجوا عن الجواب(1/719)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{قالوا حرّقوه} بالنَّار {وانصروا آلهتكم} بإهلاك مَنْ يعيبها {إن كنتم فاعلين} أمراً في أهلاكه فلمَّا ألقوه في النَّار(1/719)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبراهيم} ذات بردٍ وسلامةٍ لا يكون فيها بردٌ مضرٌّ ولا حرٌّ مُؤذٍ(1/719)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
{وأرادوا به} بإبراهيم {كيداً} مكراً في إهلاكه {فجعلناهم الأخسرين} حين لم يرتفع مرادهم في الدُّنيا ووقعوا في العذاب في الآخرة(1/720)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{ونجيناه} من نمروذ وقومِه {ولوطاً} ابن أخيه {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} وهي الشَّام وذلك أنَّه خرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشَّام(1/720)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{ووهبنا له إسحاقَ} ولداً لصلبه {ويعقوب نافلة} ولد الولد {وكلاً جعلنا صالحين} يعني: هؤلاء الثَّلاثة(1/720)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{وجعلناهم أئمة} يُقتدى بهم في الخير {يهدون} يدعون النَّاس إلى ديننا {بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات} أن يفعلوا الطَّاعات ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة(1/720)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{ولوطاً آتيناه حكماً} فصلاً بين الخصوم بالحقِّ {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} يعني: أهلها كانوا يأتون الذُّكران في أدبارهم(1/720)
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين}(1/720)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ونوحاً إذ نادى من قبل} من قبل إبراهيم {فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} الغمِّ الذي كان فيه من أذى قومه(1/720)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{ونصرناه} منعناه من أن يصلوا إليه بسوء وقوله:(1/720)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
{إذ يحكمان في الحرث} قيل: كان ذلك زرعاً وقيل: كان كرماً {إذ نفشت} رعت ليلاً {فيه غنم القوم} بلا راعٍ {وكنا لحكمهم شاهدين} لم يغبْ عن علمنا(1/721)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{ففهمناها سليمان} ففهمنا القضيَّة سليمان دون داود عليهما السَّلام وذلك أنَّ داود حكم لأهل الحرث برقاب الغنم وحكم سليمان بمنافعهم إلى أن يعود الحرث كما كان {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} يجاوبنه بالتَّسبيح {و} كذلك {الطير وكنا فاعلين} ذلك(1/721)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{وعلمناه صنعة لبوس لكم} علم ما يلبسونه من الذروع {لتحصنكم} لتحرزكم {من بأسكم} من حربكم {فهل أنتم شاكرون} نعمتنا عليكم؟(1/721)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{ولسليمان الريح} وسخرنا له الرِّيح {عاصفة} شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني: الشَّام وكان منزل سليمان عليه السَّلام بها(1/721)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ومن الشياطين} وسخَّرنا له من الشَّياطين {من يغوصون له} يدخلون تحت الماء لاستخراج جواهر البحر {ويعملون عملاً دون ذلك} سوى الغوص {وكنا لهم حافظين} من أن يُفسدوا ما عملوا وليبصروا تحت أمره(1/721)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
{وأيوب إذ نادى ربه} دعا ربَّه {أني مسني الضرُّ} أصابني الجهد وقوله:(1/722)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{وآتيناه أهله ومثلهم معهم} وهو أنَّ الله تعالى أحيا مَنْ أمات من بنيه وبناته ورزقه مثلهم من الولد {رحمة} نعمةً {من عندنا وذكرى للعابدين} عظةً لهم ليعلموا بذلك كما قدرتنا وقوله:(1/722)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{وذا الكفل} هو رجلٌ من بني إسررئيل تكفَّل بخلافه نبيٍّ في أمته فقام بذلك(1/722)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قال تعالى {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}(1/722)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{وذا النون} وذاكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السَّلام {إذ ذهب} من بين قومه {مغاضباً} لهم قبل أمرنا له بذلك {فظن أن لن نقدر عليه} أن لن نقضي عليه ما قضينا من حبسه في بطن الحوت {فنادى في الظلمات} ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة اللَّيل {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظالمين} حيث غاضبت قومي وخرجت من بينهم قبل الإذن(1/722)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{وكذلك} وكما نجيناه {ننجي المؤمنين} من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا وقوله:(1/722)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
{لا تذرني فرداً} أَيْ: وحيداً لا ولد لي ولا عقب {وأنت خير الوارثين} خير من يبقى بعد من يموت وقوله:(1/722)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{وأصلحنا له زوجه} بأن جعلناها ولوداً بعد أن صارت عقيماً {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} يُبادرون في عمل الطَّاعات {ويدعوننا رغباً} في رحمتنا {ورهباً} من عذابنا {وكانوا لنا خاشعين} عابدين في تواضع(1/722)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{والتي أحصنت} واذكر التي منعت {فرجها} من الحرام {فنفخنا فيها من روحنا} أمرنا جبريل عليه السَّلام حتى نفخ في جيب درعها والمعنى: أجرينا فيها روح المسيح المخلوقة لنا {وجعلناها وابنها آية للعالمين} دلالةً لهم على كمال قدرتنا وكانت الآيةُ فيهما جميعاً واحدةً لذلك وُحِّدت(1/723)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
{إنَّ هذه أمتكم} دينكم وملَّتكم {أمة واحدة} ملَّة واحة وهي الإِسلام(1/723)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{وتقطعوا أمرهم بينهم} اختلفوا في الدّين فصاروا فرقاً {كلٌّ إلينا راجعون} فنجزيهم بأعمالهم(1/723)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{فمن يعمل من الصالحات} الطَّاعات {وهو مؤمنٌ} مصدِّق بمحمَّدٍ عليه السَّلام {فلا كفران لسعيه} لا نُبطل عمله بل نُثيبه {وإنا له كاتبون} ما عمل حتى نجازيه(1/723)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{وحرام على قرية} يعني: قريةً كافرةً {أهلكناها} أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إلى الدُّنيا ولا زائدةٌ في الآية ومعنى حرامٌ عليهم أنَّهم ممنوعون من ذلك لأنَّ الله تعالى قضى على مَنْ أُهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة(1/723)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} من سدِّها {وهم من كل حدب} نشر وتلٍّ {ينسلون} ينزلون مسرعين(1/723)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
{واقترب الوعد الحق} يعني: القيامة والواو زائدة لأنَّ اقترب جواب حتى {فإذا هي شاخصة} ذاهبةٌ لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم يقولون {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا} في الدُّنيا عن هذا اليوم {بل كنا ظالمين} بالشِّرك وتكذيب الرُّسل(1/724)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
{إنكم} أيُّها المشركون {وما تعبدون من دون الله} يعني: الأصنام {حصب جهنم} وقودها {أنتم لها واردون} فيها داخلون(1/724)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{لو كان هؤلاء} الأصنام {آلهة} على الحقيقة ما دخلوا النَّار {وكلٌّ} من العابدين والمعبودين في النَّار {خالدون}(1/724)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} السَّعادة والرَّحمة {أولئك عنها} عن النَّار {مبعدون}(1/724)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون}(1/724)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
{لا يسمعون حسيسها} صوتها(1/724)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{لا يحزنهم الفزع الأكبر} يعني: الإِطباق على النَّار وقيل: ذبح الموت بمرأىً من الفريقين {وتتلقاهم الملائكة} تستقبلهم فيقولون لهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} للثواب ودخلوا الجنَّة(1/724)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} وهو مَلَكٌ يطوي بني آدم وقيل: السِّجلُّ: الصَّحيفة والمعنى: كطيِّ السِّجل على ما فيه من المكتوب {كما بدأنا أوَّل خلق نعيده} كما خلقناكم ابتداءً حُفاةً عُراةً غُرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة {وعداً علينا} أَيْ: وعدناه وعداً {إنا كنَّا فاعلين} يعني: الإِعادة والبعث(1/725)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} قيل: في الكتب المنزلة بعد التَّوراة وقيل: أراد بالذِّكر اللَّوح المحفوظ {أنَّ الأرض} يعني: أرض الجنَّة {يرثها عبادي الصالحون} وقيل: أرض الدُّنيا تصير للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم(1/725)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{إنَّ في هذا} القرآن {لبلاغاً} لوصولاً إلى البغية {لقوم عابدين} مُطيعين لله تعالى(1/725)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين} للبَرِّ والفاجر فمن أطاعه عُجِّلت له الرَّحمة ومَنْ عصاه وكذَّبه لم يحلقه العذاب في الدُّنيا كما لحق الأمم المكذبة(1/725)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(1/725)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{فإن تولوا} عن الإسلام {فقل آذنتكم على سواءٍ} أعلمتكم بما يوحى إليَّ على سواءٍ لتستووا في ذلك يريد: لم أُظهر لبعضكم شيئاً كتمته عن غيره {وإن أدري} ما أعلم {أقريب أم بعيد ما توعدون} يعني: القيامة(1/725)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تكتمون}(1/726)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{وإن أدري لعله} ت لعلَّ تأخير العذاب عنكم {فتنة} اختبارٌ لكم {ومتاعٌ إلى حين} إلى حين الموت(1/726)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{قال رب احكم بالحق} اقض بيني وبين أهل مكَّة بالحقِّ أُمر أن يقول كما قالت الرُّسل قبله من قولهم: {ربَّنا افتحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحقِّ} {وربنا} أَيْ: وقل ربُّنا {الرحمن المستعان على ما تصفون} من كذبكم وباطلكم(1/726)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
{يا أيها الناس} يا أهل مكة {اتقوا ربكم} أطيعوه {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وهي زلزلةٌ يكون بعدها طلوع الشَّمس من مغربها(1/727)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{يوم ترونها} يعني: الزَّلزلة {تذهل كلُّ مرضعة عمَّأ أرضعت} تتلاك كلُّ امرأةٍ تُرضع ولدها الرضيع اشتعالا بنفسها وخوفاً {وتَضَعُ كلُّ ذات حملٍ حملها} تُسقط ولدها من هول ذلك اليوم {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} من شدَّة الخوف {وَمَا هم بسكارى} من الشَّراب {ولكنَّ عذاب الله شديد} فهم يخافونه(1/727)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ علم} نزلت في النَّضر بن الحارث وجماعةٍ من قريش كانوا يُنكرون البعث ويقولون: القرآن أساطير الأولين ويجادلون النبي صلى الله عليه وسلم {ويتبع} في جداله ذلك {كلَّ شيطان مريد} متمرِّدٍ عاتٍ(1/727)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{كُتب عليه} قُضي على الشَّيطان {أنَّه مَنْ تولاَّه} اتَّبعه {فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} يدعوه إلى النَّار بما يُزيِّن له من الباطل(1/728)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{يا أيها الناس} يعني: كفار مكَّة {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} شكٍّ من الإِعادة {فإنا خلقناكم} خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر {من تراب ثمَّ} خلقنا ذريَّته {من نطفة ثمَّ من علقة} وهي الدَّم الجامد {ثمَّ من مضغة} وهي لحمةٌ قليلةٌ قدر ما يُمضغ {مُخَلَّقَةٍ} مصوَّرةٍ تامَّة الخلق {وغير مخلقة} وهي ما تمجُّه الأرحام دماً يعني: السِّقط {لنبيِّن لكم} كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم {ونقرُّ في الأرحام ما نشاء} ننزل فيها ما لا يكون سقطاً {إلى أجل مسمى} إلى وقت خروجه {ثم نخرجكم} من بطون الأمهات {طفلاً} صغاراً {ثمَّ لتبلغوا أَشدكم} عقولكم ونهاية قوَّتكم {ومنكم من يُتوفَّى} يموت قَبْلُ بلوغ الأشدِّ {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أرذل العمر} وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل شيئاً وهو قوله: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} ثمَّ ذكر دلالةً أخرى على البعث فقال: {وترى الأرض هامدة} جافَّةً ذات ترابٍ {فإذا أنزلنا عليها الماء} المطر {اهتزت} تحركت بالنبات {وربت} زادت {وأنبتت من كلِّ زوج بهيج} من كلِّ صنفٍ حسنٍ من النَّبات(1/728)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
{ذلك} الذي تقدَّم ذكره من اختلاف أحوال خلق الإِنسان وإحياء الأرض بالمطر {بأن الله هو الحق} الدَّائم الثَّابت الموجود {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}(1/728)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}(1/729)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ علم} نزلت في أبي جهل {ولا هدىً} ليس معه من ربِّه رشادٌ ولا بيانٌ {ولا كتابٍ} له نورٌ(1/729)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ثاني عطفه} لاوي عنقه تكبُّراً {ليضل} الناس عن طاعة الله سبحانه باتِّباع محمَّد عليه السَّلام {له في الدنيا خزي} يعني: القتل ببدرٍ(1/729)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ذلك بما قدَّمت يداك} هذا العذاب بما كسبْتَ {وأن الله ليس بظلام للعبيد} لا يعاقب بغير جرمٍ(1/729)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على جانبٍ لا يدخل فيه دخول مُتمكِّنٍ {فإن أصابه خير} خِصبٌ وكثرةُ مالٍ {اطمأنَّ به} في الدِّين بذلك الخصب {وإن أصابته فتنة} اختبارٌ بجدبٍ وقلَّة مالٍ {انقلب على وجهه} رجع عن دينه إلى الكفر(1/729)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ} إن عصاه {ولا ينفعه} إن أطاعه {ذلك هو الضلال البعيد} الذَّهاب عن الحقِّ(1/729)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{يدعو لمَنْ ضرُّه أقرب من نفعه} ضرره بعبادته أقرب من نفعه ولا ينفع عنده والعرب تقول لما لا يكون: هو بعيدٌ والمعنى في هذا أنَّه يضرُّ ولا ينفع {لبئس المولى} الناصر {ولبئس العشير} الصاحب والخليط(1/729)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(1/730)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يُظهره على الدِّين كلِّه فليمت غيظاً وهو تفسير قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أَيْ: فليشدد حبلاً في سقفه {ثمَّ ليقطع} أَيْ: ليَمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت مختلفا {فلينظر هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ} غيظه وقوله:(1/730)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يريد}(1/730)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة} أَيْ: يحكم ويقضي بأن يدخل المؤمنين الجنَّة وغيرهم من هؤلاء الفرق النَّار {إنَّ الله على كل شيء شهيد} يريد: إنَّ اللَّهَ عالمٌ بما في قلوبهم(1/730)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{ألم تر أنَّ الله يسجد له} يذلُّ له وينقاد له {من في السماوات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه العذاب} وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ منقاد لله عز وجل على ما خلقه وعلى ما رزقه وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواءٌ {ومَنْ يهن الله} يذلَّه بالكفر {فما له من مكرم} أحدٌ يكرمه {إنَّ الله يفعل ما يشاء} يُهين من يشاء بالكفر ويكرم من يشاء بالإيمان(1/730)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{هذان خصمان} يعني: المؤمنين والكافرين {اختصموا في ربهم} في دينه {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} يلبسون مقطعات النيران {يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم} ماءٌ حارٌّ لو سقطت نقطٌ على جبال الدُّنيا أذابتها(1/731)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{يصهر} يُذاب {به} بذلك الماء {ما في بطونهم} من الأمعاء {والجلود} وتنشوي جلودهم فتتساقط(1/731)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{ولهم مقامع} سياطٌ {من حديد}(1/731)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{كلما أرادوا أن يخرجوا منها} من جهنَّم {من غمّ} يصيبهم {أعيدوا فيها} ردوا إليها بالمقاطع {و} تقول لهم الخزنة: {ذوقوا عذاب الحريق} النَّار وقال في الخصم الذين هم المؤمنون:(1/731)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات} الآية وهي مفسَّرةٌ في سورة الكهف(1/731)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{وهدوا} أُرشدوا في الدُّنيا {إلى الطيب من القول} ت وهو شهادة أن لا إله إلا الله {وهدوا إلى صراط الحميد} دين اللَّهِ المحمود في أفعاله(1/731)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون عن طاعة الله تعالى {والمسجد الحرام} يمنعون المؤمنين عنه {الذي جعلناه للناس} خلقناه وبنيناه للنَّاس كلِّهم لم تخص به بعضاً دون بعض {سواءً العاكف فيه والباد} سواءٌ في تعظيم حرمته وقضاء النُّسك به الحاضر والذي يأتيه من البلاد فليس أهل مكَّة بأحقَّ به من النَّازع إليه {ومَن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} أَيْ: إلحاداً بظلمٍ وهو أن يميل إلى الظُّلم ومعناه: صيد حمامة وقطع شجرة ودخوله غير مُحرمٍ وجميع المعاصي لأنَّ السَّيئات تُضاعف بمكَّة كما تضاعف الحسنات(1/732)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} بيَّنا له أين يُبنى {أن لا تشرك} يعني: وأمرناه أَنْ لا تُشْرِكْ {بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} مفسَّرٌ في سورة البقرة(1/732)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{وأذن في الناس} نادِ فيهم {بالحج يأتوك رجالاً} مُشاةً على أرجلهم {و} ركباناً {على كلّ ضامر} وهو البعير المهزول {يأتين من كلِّ فج عميق} طريق بعيدٍ(1/732)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{ليشهدوا} ليحضروا {منافع لهم} من أمر الدُّنيا والآخرة {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني: التَّسمية على ما ينجر في يوم النَّحر وأيَّامِ التشويق {فكلوا منها} أمر إباحةٍ وكان أهل الجاهليَّة لا يأكلون من نسائكهم فأمر المسلمون أن يأكلوا {وأطعموا البائس الفقير} الشَّديد الفقر(1/732)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ثم ليقضوا تفثهم} يعني: ما يخرجون به من الإحرام وهو أخذ الشَّارب وتقليم الظُّفر وحلق العانة ولبس الثَّوب {وليوفوا نذورهم} يعني: ما نذروه من ير وهدي في أيَّام الحجِّ {وليطوفوا بالبيت العتيق} القديم: وقيل: المُعتق من أن يتسلَّط عليه جبَّار يعني: الكعبة(1/733)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ذلك} أَيْ: الأمر ذلك الذي ذكرت {ومن يعظم حرمات الله} فرائض الله وسننه {وأحلت لكم الأنعام} أن تأكلوها {إلاَّ ما يتلى عليكم} في قوله: {حرمت عليكم الميتة} الآية ومعنى هذا النَّهي تحريمُ ما حرَّمه أهل الجاهليَّة من البحيرة والسَّائبة وغير ذلك {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} يعني: عبادتها {واجتنبوا قول الزور} يعني: الشِّرك بالله(1/733)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{حنفاء لله} مسلمين عادلين عن كلِّ دينٍ سواه {ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ} سقط {من السماء} فاختطفته الطَّير من الهواء أو ألفته الرِّيح في {مكان سحيق} بعيدٍ يعني: إنَّ مَنْ أشرك فقد هلك وبَعُدَ عن الحقِّ(1/733)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ذلك ومن يعظم شعائر الله} يستسمن البُدن {فإنَّ ذلك من} علامات التَّقوى(1/733)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{لكم فيها منافع} الرُّكوب والدَّرُّ والنَّسل {إلى أجل مسمى} وهو أن يُسمِّيها هدياً {ثمَّ محلها} حيث يحلُّ نحرها عند {البيت العتيق} يعني: الحرم كلَّه(1/734)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{ولكلِّ أمة} جماعةٍ سلفت قبلكم {جعلنا منسكاً} ذبحاً للقرابين {ليذكروا اسم الله} عند الذَّبح {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني: الأنعام {فإلهكم إله واحد} أَيْ: لا تذكروا على ذبائحكم إلاَّ الله وحده {فله أسلموا} أخلصوا العبادة {وبشر المخبتين} المتواضعين(1/734)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفقون}(1/734)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{والبدن} الإبل والبقر {جعلناها لكم من شعائر الله} أعلام دينه {لكم فيها خيرٌ} النَّفع في الدُّنيا والأجر في العقبى {فاذكروا اسم الله} وهو أن يقول عند نحرها: اللَّهُ أَكْبَرُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أكبر {صواف} قائمةً معقولة اليد اليسرى {فإذا وجبت جنوبها} سقطت على الأرض {فكلوا منها وأطعموا القانع} الذي يسألك {والمعتر} الذي يتعرَّض لك ولا يسألك {كذلك} الذي وفصفنا {سخرناها لكم} يعني: البدن {لعلَّكم تشكرون} لكي تطيعوني(1/734)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} كان المشركون يُلطِّخون جدار الكعبة بدماء القرابين فقال الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} أَيْ: لن يصل إلى اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم} أَيْ: النِّيَّةُ والإِخلاص وما أريد به وجه الله تعالى {لتكبروا الله على ما هداكم} إلى معالم دينه {وبشر المحسنين} المُوحِّدين(1/734)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{إن الله يدافع} غائلة المشركين عن المؤمنين {إن الله لا يحب كل خوَّانٍ} في أمانته {كفورا} لنعمته وهم الذين تقرَّبوا إلى الأصنام بذبائحهم(1/735)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{أُذِنَ للذين يقاتلون} يعني: المؤمنين وهذه أوَّلُ آيةٍ نزلت في الجهاد والمعنى: أُذن لهم أن يُقاتلوا {بأنهم ظلموا} بظلم الكافرين إيَّاهم {وإنَّ الله على نصرهم لقدير} وعدٌ من الله تعالى بالنَّصر(1/735)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} يعني: المهاجرين {إلاَّ أن يقولوا ربنا الله} أَيْ: لم يُخرجوا إلاَّ بأن وحَّدوا الله تعالى {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لولا أن دفع الله بعض النَّاس ببعض {لهدِّمت صوامع وبيعٌ} في زمان عيسى عليه السَّلام {وصلوات} في أيَّام شريعة موسى عليه السَّلام يعني: كنائسهم وهي بالعبرانيَّة صلوتا {ومساجد} في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم {ولينصرنَّ الله من ينصره} يعني: مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} على خلقه {عزيز} منيعٌ في سلطانه(1/735)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{الذين إن مكناهم في الأرض} يعني: هذه الأمَّة إذا فتح الله عليهم الأَرْضِ {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} أَيْ: آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ثمَّ عزَّى نبيَّه فقال:(1/735)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}(1/736)
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)
{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}(1/736)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
{وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين} أَيْ: أمهلتهم {ثم أخذتهم} عاقبتهم {فكيف كان نكير} إنكاري عليهم ما فعلوا بالعذاب(1/736)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{فكأين من قرية} وكم من قريةٍ {أهلكناها وهي ظالمة} بالكفر {فهي خاوية} ساقطةٌ {على عروشها} سقوفها {وبئر مُعَطَّلَةٍ} متروكةٍ بموت أهلها {وقصر مشيد} رفيعٍ طويلٍ(1/736)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{أفلم يسيروا في الأرض} يعني: كفَّار مكَّة {فينظروا} إلى مصارع الأمم المكذبة وهو قوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يسمعون بها} فيتفكَّروا ويعتبروا ثم ذكر أن الأبصار لا تعمى عن رؤية الآيات ولكن القلوب تعمى فلا يتفكروا ولا يعتبروا(1/736)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
{ويستعجلونك بالعذاب} كانوا يقولون له: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فقال الله تعالى: {ولن يخلف الله وعده} الذي وعدك من نصرك وإهلاكهم ثمَّ ذكر أنَّ لهم مع عذاب الدُّنيا في الآخرة عذاباً طويلاً وهو قوله تعالى: {وإنَّ يوماً عند ربك} أَيْ: من أيَّام عذابهم {كألف سنة مما تعدون} وذلك أن يوماً من أيَّام الآخرة كألفِ سنةٍ في الدُّنيا ثمَّ ذكر سبحانه أنَّه قد أخذ قوماً بعد الإِمهال فقال:(1/736)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثمَّ أخذتها وإلي المصير}(1/737)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
{قل يا أيها النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(1/737)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كريم}(1/737)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{والذين سعوا في آياتنا} عملوا في إبطالها {معاجزين} مقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوتنا(1/737)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{وما أرسلنا من قبلك من رسول} وهو الذي يأتيه جبريل عليه السلام بالوحي عياناً {ولا نبيّ} وهو الذي تكون نبوَّته إلهاماً ومناماً {إلاَّ إذا تمنى} قرأ {ألقى الشيطان} في قراءته ما ليس ممَّا يقرأ يعني: ما جرى على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قرأ سورة والنجم في مجلس من قريش فلما بلغ قوله تعالى: {ومناة الثَّالثة الأخرى} جرى على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى ثمَّ نبَّهه جبريل عليه السَّلام على ذلك فرجع وأخبرهم أنَّ ذلك كان من جهة الشَّيطان فذلك قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} يُبيِّنها حتى لا يجد أحدٌ سبيلاً إلى إبطالها {والله عليم} بما أوحى إلى نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم {حكيم} في خلقه ثمَّ ذكر أنَّ ذلك ليفتن الله به قوماً فقال:(1/737)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
{ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} ضلالةً {للذين في قلوبهم مرض} وهم أهل النِّفاق {والقاسية قلوبهم} المشركين {وإنَّ الظالمين} الكافرين {لفي شقاق بعيد} خلافٍ طويلٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين(1/738)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{وليعلم الذين أوتوا العلم} التَّوحيد والقرآن {أنه الحق} أَيْ: الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن وهو الحقُّ {فتخبت له قلوبهم} فتخشع(1/738)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{ولا يزال الذين كفروا في مرية} في شكٍّ {منه} ممَّا أُلقي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم {حتى تأتيهم الساعة} القيامة {بغتة} فجأة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} يعني: يوم بدرٍ وكان عقيماً عن أن يكون للكافرين فيه فرحٌ أو راحةٌ والعقيم معناه: التي لا تلد(1/738)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
{الملك يومئذ} يعني: يوم القيامة {لله} وحده من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ {يحكم بينهم} ثمَّ بيَّن حكمه فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}(1/739)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مهين}(1/739)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
{والذين هاجروا} فارقوا أوطانهم وعشائرهم {في سبيل الله} في طاعة اللَّهِ {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رزقاً حسناً} في الجنَّة(1/739)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مدخلاً} أَيْ: إدخالاً وموضعاً {يرضونه} وهو الجنة(1/739)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ذلك} أَيْ: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك {ومَنْ عاقب بمثل ما عوقب به} أَيْ: جازى العقوبة بمثلها {ثم بغي عليه} ظُلم {لينصرنَّه الله} يعني: المظلوم(1/739)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{وذلك} أَيْ: ذلك النَّصر للمظلوم بأنَّه القادر على ما يشاء فمن قدرته أن {يولج الليل في النهار} يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا والباقي ظاهرٌ إلى قوله:(1/739)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هو العلي الكبير}(1/739)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خبير}(1/739)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
{له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحميد}(1/739)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم}(1/739)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{إنَّ الإنسان لكفور} يعني: إنَّ الكافر لجاحدٌ لآيات الله تعالى الدَّالة على توحيده وقوله:(1/740)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه} شريعةً هم عاملون بها {فلا يُنازِعُنَّكَ} يُجادِلُنَّكَ {في الأمر} نزلت في الذين جادلوا المؤمنين فقالوا: ما لكم تأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ممَّا قتله الله؟(1/740)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
{وإن جادلوك} بباطلهم مِراءً وتعنُّتاً فادفعهم بقولك: {الله أعلم بما تعملون} من التكذيب والكفر(1/740)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
قال تعالى {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فيه تختلفون}(1/740)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض إنَّ ذلك} كلَّه {في كتاب} يعني: اللَّوح المحفوظ {إن ذلك} يعني: علمه بجميع ذلك {على الله يسير}(1/740)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ به} بعبادته {سلطاناً} حجَّةً وبرهاناً {وما ليس لهم به علم} لم يأتهم به كتابٌ ولا نبيٌّ {وما للظالمين} المشركين {من نصير} مانعٍ من عذاب الله تعالى(1/740)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} الإِنكار بالعبوس والكراهة {يكادون يسطون} يقعون ويبشطون {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} بِشَرٍ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون {النار} أَيْ: هي النَّار(1/740)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{يا أيها الناس} يعني: يا أهل مكَّة {ضرب مثل} بُيِّن لكم ولمعبودكم شَبَهٌ {فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله} من الأصنام {لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا} كلُّهم لخلقه {وإن يسلبهم الذباب شيئاً} ممَّا عليهم من الطَّيب {لا يستنقذوه منه} لا يستردُّوه منه لعجزهم {ضعف الطالبُ والمطلوب} يعني: العابد والمعبود والطَّالب: الذُّباب يطلب من الصَّنم ما لطِّخ به من الزَّعفران والطِّيب وهو مَثَلٌ لعابده يطلب منه الشَّفاعة والنُّصرة والمطلوب: الصنم(1/741)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ما قدروا الله حق قدره} ما عظَّموه حقَّ تعظيمه إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذُّباب ولا ينتصر منه(1/741)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
{الله يصطفي من الملائكة رسلاً} مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السَّلام {ومن الناس} يعني: النبيِّين عليهم السَّلام {إنَّ الله سميع} لقول عباد {بصير} بمَنْ يختاره(1/741)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{يعلم ما بين أيديهم} ما عملوه {وما خلفهم} وما هم عاملون ممَّا لم يعلموه(1/741)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
قال تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخير لعلكم تفلحون}(1/741)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{وجاهدوا في الله} في سبيل الله {حق جهاده} بينة صادقة {هو اجتباكم} اختاركم لدينه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} ضيقٍ لأنَّه سهَّل الشَّريعة بالتَّرخيص {ملَّة أبيكم} اتبعوا ملَّة أبيكم {إبراهيم} كان هو في الحرمة كالأب صلى الله عليه وسلم ولذلك جُعل أبا المسلمين {هو سماكم} أَيْ: الله تعالى سمَّاكم {المسلمين من قبل} أي: من قبل القرآن في سائر الكتب {وفي هذا} يعني: القرآن {ليكون الرسول شهيداً عليكم} وذلك أنَّه يشهد لمَنْ صدَّقه وعلى مَنْ كذَّبه {وتكونوا شهداء على الناس} تشهدون عليهم أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم وقوله: {واعتصموا بالله} أَيْ: تمسَّكوا بدينه {هو مولاكم} ناصركم ومتولي أموركم {فنعم المولى ونعم النصير}(1/742)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
{قد أفلح المؤمنون} سعد المصدِّقون ونالوا البقاء في الجنَّة(1/743)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
{الذين هم في صلاتهم خاشعون} ساكنون لا يرفعون ابصارهم عن مواضع سجودهم(1/743)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{والذين هم عن اللغو معرضون} عن كلِّ ما لا يجمل في الشَّرع من قولٍ وفعلٍ(1/743)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
{والذين هم للزكاة فاعلون} للصدقة الواجبة مودون(1/743)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} يحفظونها عن المعاصي(1/743)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} من زوجاتهم {أو ما ملكت أيمانهم} من الإماء {فإنهم غير ملومين} لا يلامون في وطئهنَّ(1/743)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{فمن ابتغى} طلب ما {وراء ذلك} ما بعد الزَّوجة والأَمَة {فأولئك هم العادون} المتعدُّون عن الحلال إلى الحرام(1/743)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{والذين هم لأماناتهم} ما ائتمنوا عليه من أمر الدِّين والدُّنيا {وعهدهم راعون} وحلفهم الذي يُوجد عليهم راعون يرعون ذلك ويقومون بإتمامه(1/744)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
{والذين هم على صلواتهم يحافظون} بإدائها في مواقيتها(1/744)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{أولئك هم الوارثون} ثمَّ ذكر ما يرثون فقال:(1/744)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{الذين يرثون الفردوس} وذلك أنَّ الله تعالى جعل لكل امرئ بيتاً في الجنَّة فمَنْ عمل عمل أهل الجنَّة ورث بيته في الجنَّة والفردوس خير الجنان(1/744)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{ولقد خلقنا الإنسان} ابن آدم {من سلالة} من ماءٍ سُلَّ واستُخرِجَ من ظهر آدم وكان آدم عليه السَّلام خُلق من طينٍ(1/744)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
{ثمَّ جعلناه} جعلنا الإنسان {نطفة} في أوَّل بُدوِّ خلقه {في قرار مكين} يعني: الرَّحم وقوله(1/744)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ثم أنشأناه خلقاً آخر} قيل: يريد الذُّكورية والأُنوثيَّة وقيل: يعني: نفخ الرُّوح وقيل: نبات الشَّعر والأسنان {فتبارك الله} استحقَّ التَّعظيم والثَّناء بدوام بقائه {أحسن الخالقين} المُصوِّرين والمقدرين(1/744)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}(1/744)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
{ثمَّ إنكم يوم القيامة تبعثون}(1/744)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} سبع سماوات كلٌّ سماءٍ طريقةٌ {وما كنَّا عن الخلق غافلين} عمَّن خلقنا من الخلق كلِّهم(1/744)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{وأنزلنا من السماء ماء بقدر} بمقدارٍ معلومٍ عند الله تعالى {فأسكناه} أثبتناه {في الأرض} قيل: هو النِّيل ودجلة والفرات وسيحان وجيحان وقيل: هو جميع المياه فِي الأَرْضِ {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} حتى تهلكوا أنتم ومواشيكم عطشا وقوله:(1/745)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(1/745)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{وشجرة تخرج} يعني: الزَّيتون {من طور سيناء} يعني: جبلاً معروفاُ أوَّل ما ينبت الزَّيتون ينبت هناك {تنبت بالدهن} لأنَّه يتَّخذ الدُّهن من الزَّيتون {وصبغ} إدام {للآكلين} وقوله:(1/745)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تأكلون}(1/745)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{وعليها وعلى الفلك تحملون}(1/745)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(1/745)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{يريد أن يتفضل عليكم} يتشَّرف عليكم فيكون أفضل منكم بأن يكون متبوعاً وتكونوا له تبعاً {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} تُبلِّغنا عنه {ما سمعنا بهذا} الذي يدعو إليه نوحٌ {في آبائنا الأولين}(1/745)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{إن هو} ما هو {إلاَّ رجلٌ به جنة} جنونٌ {فتربصوا به حتى حين} انتظروا موته حتى يموت(1/745)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
{قال رب انصرني} بإهلاكهم {بما كذبون} بتكذيبهم إياي وقوله:(1/745)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{فأوحينا إليه} الآية مُفسَّرة في سورة هود {فاسلك فيها} أَيْ اُدخل في السَّفينة والباقي مفسَّر في سورة هود(1/746)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{فإذا استويت} اعتدلت في السَّفينة راكباً الآية(1/746)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
{وقل رب أنزلني} منها {منزلاً} إنزالاً {مباركاً} فاستجاب الله تعالى دعاءَه حيث قال: {اهبط بسلام منا وبركات عليك} وبارك فيهم بعد إنزالهم من السَّفينة حتى كان جميع الخلق من نسل نوحٍ ومَنْ كان معه في السَّفينة(1/746)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{إن في ذلك} الذي ذكرت {لآيات} لدلالاتٍ على قدرتنا {وإن كنا لمبتلين} مُختبرين طاعتهم بإرسال نوحٍ إليهم(1/746)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
{ثم أنشأنا من بعدهم} أحدثنا {قرناً آخرين} يعني: عاداً(1/746)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
{فأرسلنا فيهم رسولاً منهم} وهو هود وقوله:(1/746)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
{وأترفناهم} أَيْ: نعَّمناهم ووسَّعنا عليهم وقوله:(1/746)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}(1/746)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
{أنكم مخرجون} أَيْ: من قبوركم أحياء(1/747)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{هيهات هيهات} بُعْداً {لما توعدون} من البعث(1/747)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
{إن هي} ما هي {إلاَّ حياتنا الدنيا} يعني: الحياة الدَّانية في هذه الدَّار {نموت ونحيا} يموت الآباء ويحيا الأولاد(1/747)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
{إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وما نحن بمبعوثين}(1/747)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
{قال رب انصرني} عليهم {بما كذبون} بتكذيبهم إياي(1/747)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{قال عمَّا قليل} عن قريبٍ {ليصبحنَّ نادمين} يندمون إذا نزل بهم العذاب على التَّكذيب(1/747)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{فأخذتهم الصيحة} صيحة العذاب {بالحق} بالأمر من الله تعالى {فجعلناهم غثاء} هلكى هامدين كغثاء السَّيل وهو ما يحمله من بالي الشَّجر {فبعداً} فهلاكاً {للقوم الظالمين} المشركين(1/747)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ}(1/747)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
{مَا تسبق من أمة أجلها} لا تموت قبل أجلها {وما يستأخرون} بعد الأجل طرفة عين وقوله:(1/747)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{تترا} أَيْ: متتابعةً {وجعلناهم أحاديث} أَيْ: لمَنْ بعدهم يتحدثون بهم وقوله:(1/747)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
قال تعالى {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مبين}(1/747)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{وكانوا قوماً عالين} مستكبرين قاهرين غيرهم بالظُّلم(1/747)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{وقومهما لنا عابدون} أَيْ: مطيعون متذللون(1/748)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}(1/748)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} لكي يهتدي به قومه(1/748)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{وجعلنا ابن مريم وأُمَّه آية} دلالة على قدرتنا {وآويناهما إلى ربوة} يعني: بيت المقدس وهو أقرب الأرض إلى السَّماء {ذات قرار} أرضٍ مستويةٍ وساحةٍ واسعةٍ {ومعين} ماءٍ ظاهرٍ وقيل: هي دمشق(1/748)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} هذا خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أنَّ الله تبارك وتعالى كأنه أخبر أنَّه قد قال لجميع الرُّسل قبله هذا القول وأمرهم بهذا والمعنى: كلوا من الحلال(1/748)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة} أَيْ: ملَّتكم أيُّها الرُّسل ملَّةٌ واحدةٌ وهي الإِسلام {وأنا ربكم} شرعتها لكم وبيَّنتها لكم {فاتقون} فخافون(1/748)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{فتقطعوا أمرهم بينهم} يعني: المشركين واليهود والنصارى {وزيرا} فرقاً {كلُّ حزب} جماعةٍ {بما لديهم} بما عندهم من الدِّين {فرحون} مُعجبون مسرورون(1/748)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{فذرهم في غمرتهم} حيرتهم وضلالتهم {حتى حين} يريد: حتى حينِ الهلاكِ بالسَّيف أو الموت(1/749)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
{أيحسبون أنما نمدُّهم به} ما نبسط عليهم {من مال وبنين} من المال والأولاد في هذه الدُّنيا(1/749)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{نسارع لهم في الخيرات} نُعطيهم ذلك ثواباً لهم {بل لا يشعرون} أنَّ ذلك استدراجٌ ثمَّ رجع إلى ذكر أوليائه فقال:(1/749)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} خائفون عذابه ومكره(1/749)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}(1/749)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}(1/749)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{والذين يؤتون ما آتوا} يُعطون ما يُعطون {وقلوبهم وجلة} خائفةٌ أنَّ ذلك لا يُقبل منهم وقد أيقنوا أنَّهم إلى ربِّهم صائرون بالموت وقوله:(1/749)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{وهم لها سابقون} أَيْ: إليها ثمَّ ذكر أنَّه لم يُكلِّف العبد إلاَّ ما يسعه فقال:(1/749)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها} فمَنْ لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلِّ جالساً {ولدينا كتاب} يعني: اللَّوح المحفوظ {ينطق بالحق} يُبيِّن بالصِّدق {وهم لا يظلمون} لا ينقصون من ثواب أعمالهم ثمَّ عاد إلى ذكر المشركين فقال:(1/749)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{بل قلوبهم في غمرة} في جهالةٍ وغفلةٍ {من هذا} الكتاب الذي ينطق بالحقِّ {ولهم أعمال من دون ذلك} وللمشركين أعمالٌ حبيثة دون أعمال المؤمنين الذين ذكرهم {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}(1/749)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{حتى إذا أخذنا مترفيهم} رؤساءَهم وأغنياءَهم {بالعذاب} بالقحط والجوع سبع سنين {إذا هم يجأرون} يضجُّون ويجزعون ونقول لهم:(1/750)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
{لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} لا تُمنعون ولا ينفعكم جزعكم(1/750)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني: القرآن {فكنتم على أعقابكم} على أدياركم {تنكصون} ترجعون القهقرى مُكذِّبين به(1/750)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{مستكبرين به} أي: بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحدٌ لأنَّا أهل الحرم {سامراً} سُمَّاراً باللَّيل {تُهْجِرُون} تهذون وتقولون الهُجر من سب النبي صلى الله عليه وسلم(1/750)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
{أفلم يدبروا القول} يتدبَّروا القرآن فيقفوا على صدقك {أم جاءهم} بل أَجاءهم {ما لم يأت آباءهم الأولين} يريد: إنَّ إنزال الكتاب قد كان قبل هذا فليس إنزال الكتاب عليك ببديعٍ ينكرونه(1/750)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
{أم لم يعرفوا رسولهم} الذي نشأ فيما بينهم وعرفوه بالصِّدق(1/750)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{أم يقولون} بل أيقولون {به جنة} جنونٌ {بل جاءهم} ليس الأمر كما يقولون بل جاءهم الرَّسول {بالحق} بالقرآن من عند الله(1/750)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{ولو اتبع الحق} القرآن الذي يدعو إلى المحاسن {أهواءَهم} التي تدعو إلى المقابح أي: لو كان التَّنزيل بما يُحبُّون {لفسدت السماوات والأرض} وذلك أنها خلفت دلالةً على توحيد الله فلو كان القرآن على مرادهم لكن يدعو إلى الشِّرك وذلك يُؤدِّي إلى إفساد أدلة التَّوحيد وقوله: {ومَنْ فيهنَّ} لأنَّهم حينئذٍ يُشركون بالله تعالى {بل أتيناهم بذكرهم} بشرهم في الدُّنيا والآخرة(1/751)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{أم تسألهم} أنت يا محمَّد على ما جئت به {خرجاً} جُعلاً وأجراً {فخراج ربك} فعطاه ربك وثوابه {خير} وقوله:(1/751)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
{وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم}(1/751)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{لناكبون} أَيْ: عادلون مائلون(1/751)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} جذب وقحطٍ {للجوا} لتمادوا {في طغيانهم يعمهون} نزلت هذه الآية حين شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: قتلْتَ الآباء بالسَّيف والأبناء بالجوع(1/751)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
{ولقد أخذناهم بالعذاب} بالجوع {فما استكانوا لربهم} ما تواضعوا(1/751)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شديد} يوم بدرٍ وقيل: عذاب الآخرة {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كلِّ خير وقوله:(1/751)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قليلا ما تشكرون}(1/751)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(1/751)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{وله اختلاف الليل والنهار} أي: هو الذي جعلنهما مختلفين وقوله:(1/752)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ}(1/752)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
{قَالُوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاما أإنا لمبعوثون}(1/752)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين}(1/752)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تعلمون}(1/752)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}(1/752)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
{قل من رب السماوات السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(1/752)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
{سيقولون لله قل أفلا تتقون}(1/752)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
{ملكوت كل شيء} أي: ملكه يعني: مَنْ يملك كلَّ شيء؟ {وهو يجير} يُؤمن من يشاء {ولا يجار عليه} لا يُؤمَنُ مَنْ أخافه وقوله:(1/752)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
{فأنى تسحرون} تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته(1/752)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
{بل أتيناهم بالحق} يعني: القرآن {وإنهم لكاذبون} أنَّ الملائكة بنات الله(1/752)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بما خلق} ينفرد بمخلوقاته فيمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليها {ولعلا بعضهم على بعض} بالقهر والمزاحمة كالعادة بين الملوك {سبحان الله} تنزيهاً له {عما يصفون} من الكذب(1/752)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
{عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}(1/752)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
{قل رب إما تريني ما يوعدون} ما يُوعَدُ المشركون من العذاب(1/752)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{فلا تجعلني} معهم أَيْ: إنْ أنزلت بهم النِّقمة فاجعلني خارجا منهم(1/752)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}(1/752)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ادفع بالتي هي أحسن} من الحلم والصَّفح {السيئة} التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه {نحن أعلم بما يصفون} فنجازيهم به وهذا كان قبل الأمر بالقتال(1/753)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} نزعاتها ووساوسها(1/753)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
{وأعوذ بك رب أن يحضرون} في شيءٍ من أموري وقوله:(1/753)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
{رب ارجعون} أي: ارددني إلى الدُّنيا(1/753)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{لعلي أعمل صالحاً} أَيْ: بالتَّوحيد {فيما تركت} حين كنت في الدُّنيا {كلا} لا يرجع إلى الدُّنيا {إنها كلمة هو قائلها} عند الموت ولا يُجاب إلى ذلك {ومن ورائهم} أمامهم {برزخ} حاجزٌ بينهم وبين الرُّجوع إلى الدُّنيا(1/753)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{فإذا نفخ في الصور} النَّفخة الأخيرة {فلا أنساب بينهم يومئذ} لا يفتخرون بالأنساب {ولا يتساءلون} كما يتساءلون في الدُّنيا من أيِّ قبيلةٍ ونَسبٍ أنت(1/753)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1/753)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جهنم خالدون}(1/753)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{تفلح} تحرق {وهم فيها كالحون} عابسون لتقلُّص شفاههم بالانشواء فيقال لهم:(1/753)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تكذبون}(1/754)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} التي قضيتَ علينا {وكنا قوماً ضالين} أقرُّوا على أنفسهم بالضلال وقوله:(1/754)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}(1/754)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{اخسؤوا} أي: تباعدوا تباعد سخط عليكم وقوله:(1/754)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}(1/754)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{فاتخذتموهم سخرياً} أَيْ: سخرتم منهم واسهزأتم {حتى أنسوكم ذكري} لاشتغالكم بالاستهزاء(1/754)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
{إني جزيتهم اليوم} قابلتُ عملهم بما يستحقُّون من الثَّواب {بما صبروا} على أذاكم {أنهم هم الفائزون} النَّاجون من العذاب والنَّار(1/754)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} قال الله تعالى لمنكري البعث إذا بعثهم من قبورهم: كم لبثتم في قبوركم؟ وهذا سؤال توبيخٍ لهم لأنَّهم كانوا يُنكرون أن يُبعثوا من قبورهم(1/754)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
{قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} وذلك أنَّ العذاب رُفع عنهم فيما بين النَّفختين ونسوا ما كانوا فيه من العذاب فاستقصروا مدَّة لبثهم فلذلك قَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين} أي: فاسأل الملائكة الذين يحفظون عدد ما لبثنا(1/754)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
{قال إن لبثتم} ما لبثتم {إلاَّ قليلاً} وإن طال لبثكم في طول لبثكم في النَّار {لو أنكم كنتم تعلمون} مقدار لبثكم في القبر وذلك أنَّهم لم يعلموا ذلك حيث قالوا: {لبثنا يوماً أو بعض يوم} فقيل: لهم: لو كنتم تعلمون ذلك كان قليلاً عند طول لبثكم في النَّار(1/754)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
{أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً} أَيْ: للعبث لا لحكمة من ثوابٍ للمطيع وعقابٍ للعاصي وقيل: عبثاً للعبث حتى تعبثوا وتغفلوا وتلهوا(1/755)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{رب العرش الكريم} أي: السَّرير الحسن(1/755)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا برهان له به} لا حجَّة له بما يفعل من عبادته غير الله {فإنما حسابه عند ربه} جزاؤه عند الله تعالى فهو يجازيه لما يستحقُّه {إنه لا يفلح الكافرون} لا يسعد المُكذِّبون ثم أمر رسوله أن يستغفر للمؤمنين ويسأل لهم الرَّحمة فقال:(1/755)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}(1/755)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
{سورة أنزلناها} أَيْ: هذه سُورةٌ أنزلناها {وفرضناها} ألزمنا العمل بما فُرض فيها(1/756)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{الزانية والزاني} إذا كانا حُرَّين بالغين غير محصنين {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تأخذكم بهما رأفة} رقَّةٌ ورحمةٌ فَتُعطِّلوا الحدود وتخفِّفوا الضَّرب حتَّى لا يُؤلم وقوله: {في دين الله} أَيْ: في حكم الله {وليشهد} وليحضر {عذابهما} جلدهما {طائفة} نفرٌ {من المؤمنين}(1/756)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{الزاني لا ينكح إلاَّ زانية} الآية نزلت في قومٍ من فقراء المهاجرين همُّوا أن يتزوَّجوا بغايا كنَّ بالمدينة لِعَيْلَتِهم فأنزل الله تعالى تحريم ذلك لأنهنَّ كنَّ زانياتٍ مشركاتٍ وبيَّن أنَّه لا يتزوَّج بهنَّ إلاَّ زانٍ أو مشركٌ وأنَّ ذلك حرامٌ على المؤمنين(1/756)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{والذين يرمون} بالزِّنا {المحصنات} الحرائر العفائف {ثمَّ لم يأتوا} على ما رموهنَّ به {بأربعة شهداء} أَيْ: يشهدون عليهنَّ بذلك {فاجلدوهم} أَي: الرَّامين {ثمانين جلدة} يعني: كلَّ واحدٍ منهم {ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً} لا تُقبل شهادتهم إذا شهدوا لأنَّهم فسقوا برمي المحصنات إلاَّ أن يرجعوا ويُكذِّبوا أنفسهم ويتركوا القذف فينئذ تُقبل شهادتهم لقوله تعالى:(1/757)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك}(1/757)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
{والذين يرمون أزواجهم} يقذفوهن بالزِّنا {ولم يكن لهم شهداء إلاَّ أنفسهم} يشهدون على صحَّة ما قالوا إلاَّ هم {فشهادة أحدهم أربع شَهاداتٍ بالله} أربع مرات أنَّه صادقٌ فيما قذفها به يُسقط عنه الحدَّ ثم يقول في الخامسة: لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فإذا فعل الزَّوج هذا وجب الحدُّ على المرأة ويسقط ذلك عنها بأن تقول: أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما قذفني به أربع مرات وذلك لقوله تعالى:(1/757)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
{وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ من الكاذبين}(1/757)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{ويدرأ عنها العذاب} أَيْ: يدفع عنها عقوبة الحدِّ والخامسة تقول: عليَّ غضب الله إن كان الصادقين(1/757)
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ من الصادقين}(1/757)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} جواب لولا محذوفٌ عل تقدير: لفضحكم بارتكاب الفاحشة ولعاجلكم بالعقوبة ولكنَّه {توابٌ} يقبل التَّوبة ويرحم مَنْ رجع عن السَّيئة {حَكِيمٌ} فيما فرض من الحدود(1/758)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{إنَّ الذين جاؤوا بالإِفك} بالكذب على عائشة رضوان الله عليها وصفوان {عصبة} جماعة {منكم} يعني: حسَّان بن ثابت ومسطحاً وعبد الله ابن أُبيّ المنافق وحمنة بنت جحش {لا تحسبوه} لا تحسبوا ذلك الإفك {شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم} لأنَّ الله تعالى يأجركم على ذلك ويُظهر براءتكم {لكلِّ امرىء منهم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} جزاء ما اجترح من الذَّنب {والذي تولَّى كبره} تحمَّل معظمه فبدأ بالخوض فيه وهو عبد الله ابن أبي(1/758)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{لولا} هلاَّ {إذ سمعتموه} يعني: الإِفك {ظنَّ المؤمنون والمؤمنات} رجع من الخطاب إلى الخبر والمعنى: ظننتم أيُّها المؤمنون بالذين هم كأنفسهم {خيراً} والمؤمنون كلُّهم كالنَّفس الواحدة وقلتم: {هذا إفك مبين} كذبٌ ظاهرٌ(1/758)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
{لولا جاؤوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فأولئك عند الله هم الكاذبون}(1/758)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة لمسكم} لأصابكم {في ما أفضتم} خضتم {فيه} من الإفك {عذاب عظيم}(1/758)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{إذ تلقونه بألسنتكم} تأخذونه ويرويه بعضكم عن بعض {وتحسبونه هيناً} وتظنُّونه سهلاً وهو كبيرٌ عند الله سبحانه(1/759)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{ولولا} هلاَّ {إذ سمعتموه} سمعتم هذا الكذب {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سبحانك} تعجُّباً من هذا الكتاب {هذا بهتان} كذبٌ نتحيَّر من عظمه والمعنى: هلا أنكرتموه وصنتم ألسنتكم عن الخوض فيه؟(1/759)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
{يعظكم الله أن تعودوا} كراهة أن تعودوا لمثل هذا الإِفك أبداً(1/759)
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
{إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} يفشوَ الزِّنا {في الذين آمنوا لهم عذاب أليمٌ} وهم المنافقون كانوا يشيعون هذا الكذب ويطلبون العيب للمؤمنين وأن يكثر فيهم الزنا(1/759)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}(1/759)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} لعجَّل لكم الذي تستحقُّونه من العقوبة(1/759)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا} ما صلح وطهر من هذا الذَّنب أحد {منكم} يعني: من الذين خاضوا فيه {ولكنَّ الله يزكي مَنْ يشاء} يُطهِّر مَنْ يشاء من الإِثم والذَّنب بالرَّحمة والمغفرة(1/759)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{ولا يأتل} ولا يحلف {أولو الفضل منكم والسعة} يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله} يعني: مسطحاً وكان مسكيناً مهاجراً وكان ابن خالة أبي بكر وكان قد حلف أن لا ينفق عليه ولا يُؤتيه شيئاً {وليعفوا وليصفحوا} عنهم لخوضهم في حديث عائشة {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} فلمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق بلى أنا أحبُّ أن يغفر الله لي ورَجَع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه(1/760)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
{إنَّ الذين يرمون المحصنات الغافلات} عن الفواحش كغفلة عائشة رضي الله عنها عمَّا قذفت به {لعنوا} عُذِّبوا {في الدنيا} بالجلد {و} في {الآخرة} بالنار(1/760)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كانوا يعملون} وقوله:(1/760)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{يوفيهم الله دينهم الحق} أي: جزاءهم الواجب {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ المبين} لأنَّه قد بيَّن لهم حقيقة ما كان بعدهم به في الدُّنيا(1/760)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{الخبيثات} من القول وقيل: من النِّساء {للخبيثين} من الرِّجال {والخبيثون} من النَّاس {للخبيثات} من القول وقيل: من النِّساء {والطيبات} من القول وقيل: من النِّساء {للطيبين} من النَّاس {والطيبون} من النَّاس {للطيبات} من القول وقيل: من النَّاس {أولئك} يعني: عائشة وصفوان {مبرَّؤون مما يقولون} يقوله أهل الخبث والقاذفون(1/760)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تستأنسوا} تستأذنوا {وتسلموا على أهلها} وهو أن يقول: السَّلام عليكم أَأَدخلُ(1/761)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{فإن لم تجدوا فيها} في البيوت {أحداً} يأذن لكم في دخولها {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لكم ارجعوا} انصرفوا {فارجعوا} ولا تقفوا على أبوابهم {هو} أي: الرُّجوع {أزكى لكم} أطهر لكم وأصلح فلمَّا نزلت هذا الآية قيل: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في الطَّريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه(1/761)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مسكونة} بغير استئذانٍ {فيها متاع} منفعةٌ {لكم} في قضاء حاجةٍ أو نزولٍ وغيره(1/761)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} يكفُّوها عن النَّظر إلى ما لا يحلُّ {ويحفظوا فروجهم} عن مَنْ لا يحلُّ وقيل: يستروها حتى لا تظهر وقوله:(1/761)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ولا يبدين زينتهن} يعني: الخلخالين والقُرطين والقلائد والدَّماليج ونحوها ممَّا يخفى {إلاَّ ما ظهر منها} وهو الثِّياب والكحل والخاتم والخضاب والسِّوار فلا يجوز للمرأة أن تظهر إلاَّ وجهها ويديها إلى نصف الذِّراع {وليضربن بخمرهنَّ} وليلقين مقانعهنَّ {على جيوبهن} ليسترون بذلك شعورهنَّ وقرطهنَّ وأعناقهنَّ {ولا يبدين زينتهن} يعن: الزينة الخفيَّة لا الظَّاهرة {إلاَّ لبعولتهن} أزواجهنَّ وقوله: {أو نسائهنَّ} يعني: النِّساء المؤمنات فلا يحلُّ لامرأةٍ مسلمةٍ أن تتجرَّد بين يدي امرأةٍ مشركةٍ إلاَّ إذا كانت المشركة مملوكةً لها وهو قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أولي الإربة من الرجال} يعني: الذين يتَّبعون النِّساء يخدمونهنَّ ليصيبوا شيئاً ولا حاجة لهم فيهنَّ كالخصيِّ والخنثى والشَّيخ الهَرِم والأحمق العنِّين {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء} لم يقووا عليها {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زينتهنَّ} أَيْ: لا يضربن بإحدى الرِّجلين على الأخرى ليصيب الخلخالُ الخلخالَ فيعلم أنَّ عليها خلخالين فإنَّ ذلك يحرِّك من الشَّهوة {وتوبوا إلى الله جميعاً} راجعوا طاعة الله سبحانه فيما أمركم ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السُّورة(1/761)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{وأنكحوا الأيامى منكم} الذين لا أزواج لهم من الرِّجال والنِّساء {والصالحين من عبادكم} عبيدكم {وإمائكم} جورابكم {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هذا وعدٌ من الله تعالى بالغنى على النِّكاح وإعلامٌ أنَّه سببٌ لنفي الفقر(1/763)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{وليستعفف} وليعفَّ عن الحرام مَنْ لا يقدر على تزوُّج امرأةٍ بأن لا يملك المهر والنًّفقة {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} يطلبون {الكتاب} المكاتبة {مما ملكت أيمانكم} من عبيدكم وهو أن يطلب من مولاه أن يبيعه منه بمالٍ معلومٍ يُؤدِّيه إليه في مدَّةٍ معلومةٍ فإذا أدَّى ذلك عتق {فكاتبوهم} فأعطوهم ما يطلبون من الكتابة {إن علمتم فيهم خيراً} اكتساباً للمال يقدرون على أداء مال الكتابة {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} يعني: حطُّوا عنهم من المال الذي كاتبتموهم عليه ويستحبُّ ذلك للسيِّد وهو أن يحطَّ عنه ربع المال وقيل: المراد بهذا أن يُؤتوا سهمهم من الزَّكاة {ولا تكرهوا فتياتكم} إماءكم {على البغاء} الزِّنا نزلت في عبد الله ابن أُبيِّ وكانت له جوارٍ يكرههنَّ على الزِّنا ويأخذ منهنَّ أجراً معلوماً {إن أردن تحصناً} قيل: إنَّ هذا راجعٌ إلى قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} إن أردن تحصُّناً وقيل: إنْ بمعنى: إذ والمعنى: لا تكرهوهنَّ على الزِّنا إذ أردن التًّعفُّف عنه {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} يعني: ما يؤخذ من أجورهنَّ {ومن يكرههنَّ} على الزِّنا {فإنَّ الله من بعد إكراههنَّ} لهنَّ {غفور رحيم} والوزر على المُكْرِه(1/763)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} يعني: القرآن {ومثلاً} وخبراً وعبرةً {من الذين خَلَوا} مضوا {من قبلكم} يعني: ما ذكر من قصص القرون الماضية(1/764)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
{الله نور السماوات والأرض} أَيْ: بنوره وهداه يهتدي من في السماوات والأرض ثمَّ ضرب مثلاً لذلك النُّور الذي يقذفه في قلب المؤمن حتى يهتدي به فقال: {مثل نوره كمشكاة} وهي الكوَّة غير النَّافذة والمراد بها ها هنا الذي وسط القنديل كالكوَّة يُوضع فيها الذُّبالة وهو قوله: {فيها مصباح} يعني: السِّراج {المصباح في زجاجة} لأنَّ النُّور في الزُّجاج وضوء النَّار أبين منه في كلِّ شيءٍ {الزجاجة كأنها كوكب} لبياضه وصفائه {دريّ} منسوبٌ إلى أنه كالدر {يوقد} أي: الزُّجاجة والمعنى للمصباح ولكنه حذف المضاف مَنْ قرأ بالياء أراد: يُوقد المصباح {من شجرة} أَيْ: من زيت شجرةٍ {مباركة زيتونة لا شرقية} ليست ممَّا يطلع عليها الشَّمس في وقت شروقها فقط {ولا غربية} أو عند الغروب والمعنى: ليس يسترها عن الشَّمس في وقتٍ من النَّهار شيءٌ فهو أنضر لها وأجود لزيتها {يكاد زيتها يضيء} لصفائه دون السراج وهو قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني: نور السراج ونور الزيت ثم قال عزَّ مِنْ قائلٍ: {يهدي الله لنوره مَنْ يشاء} الآية(1/764)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
{في بيوت} أَي: المصباح يوقد فِي بُيُوتٍ يعني: المساجد {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ ترفع} تبنى وقوله تعالى:(1/765)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{تتقلب فيه القلوب} بين الطَّمع في النَّجاة والحذر من الهلاك {والأبصار} تنقلب في أي ناحية نؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشِّمال؟ ومن أيِّ جهةٍ يُؤتون كُتبهم من جهة اليمين أم من جهة الشِّمال؟(1/765)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{ليجزيهم الله أحسن} بأحسن {ما عملوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ما لم يستحقُّوه بأعمالهم ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافرين فقال:(1/765)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{والذين كفروا أعمالهم كسراب} وهو يا يرى في الفلوات عند شدَّة الحرِّ كأنَّه ماءٌ {بقيعة} جمع قاعٍ وهو المنبسط من الأرض {يحسبه الظمآن} يظنُّه العطشان {ماءً حتى إذا جاءه} جاء موضعه {لم يجده شيئاً} كذلك الكافر يحسب أنَّ عمله مُغنٍ عنه أو نافعه شيئاً فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئاً {ووجد الله عنده} ووجد الله بالمرصاد عند ذلك {فوفَّاه حسابه} تحمَّل جزاء عمله(1/765)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
{أو كظلمات} وهذا مثلٌ آخرُ ضربه الله لأعمال الكافر {في بحر لجيٍّ} وهو البعيد القعر الكثير الماء {يغشاه} يعلوه {موجٌ} وهو ما ارتفع من الماء {من فوقه موج} متراكمٌ بعضه على بعض {مِن} فوق الموج {سحاب} وهذه كلُّها {ظلمات بعضها فوق بعض} ظلمة السَّحاب وظلمة الموج وظلمة البحر {إذا أخرج} النَّاظر {يده} بين هذه الظُّلمات {لم يكد يراها} لم يرها لشدَّة الظُّلمة وأراد بالظُّلمات أعمال الكفار وبالبحر اللُّجيِّ قلبه وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشَّكِّ والحيرة وبالسَّحاب الرِّين والختم على قلبه ثمَّ قال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا له من نور} أَيْ: مَنْ لم يهده الله للإِسلام لم يهتد(1/766)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{ألم تر أنَّ الله يسبح له} يصلّي له {من السماوات والأرض} المطيع يُسبِّح له والعاصي يذلُّ أيضاً بخلق الله تعالى إيَّاه على ما يشاء على أنَّ الله بريءٌ من السُّوء {والطير صافات} أجنحتهنَّ في الهواء تسبِّح الله {كلٌّ قد علم صلاته} وهي لبني آدم {وتسبيحه} وهو عامٌّ لغيرهم من الخلق(1/766)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
{ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير}(1/766)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{ألم تر أنَّ الله يزجي} يسوق {سحاباً} إلى حيث يريد {ثمَّ يؤلف بينه} يجمع بين قطع ذلك السَّحاب {ثم يجعله ركاماً} بعضه فوق بعض {فترى الودق} المطر {يخرج من خلاله} فُرَجِه {وينزل من السماء من جبالٍ} في السَّماء {من بَردٍ فيصيب} بذلك البرد {مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سنا برقه} ضوء برق السَّحاب {يذهب بالأبصار} من شدَّة توقُّده(1/766)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{يقلب الله الليل والنهار} يُصرِّفهما في اختلافهما وتعاقبهما {إن في ذلك} الذي ذكرت من هذه الأشياء {لعبرة لأولي الأبصار} لذوي العقول(1/767)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} أَيْ: من نطفةٍ {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بطنه} كالحيًّات والحيتان {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنس والجنِّ والطَّير {ومنهم من يمشي على أربع} كالبقر والجمال وغيرهما(1/767)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(1/767)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
{ويقولون آمنا بالله} يعني: المنافقين {ثمَّ يتولى} يعرض عن قبول حكم الرَّسول صلى الله عليه وسلم {فريق منهم من بعد ذلك} الإقرار {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}(1/767)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} إلى كتاب الله {ورسوله ليحكم بينهم} نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ كان اليهوديُّ يجرُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما وجعل المنافق يجرُّه إلى كعب بن الأشرف وهذا إذا كان الحقُّ على المنافقين أعرضوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّه كان لا يقبل الرُّشا وإن كان لهم الحقُّ على غيرهم أسرعوا إلى حكمه وهو قوله تعالى:(1/767)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} مُطيعين منقادين قال الله تعالى:(1/767)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{أفي قلوبهم مرض} فجاء بلفظ التَّوبيخ ليكون أبلغ في ذمِّهم {أم ارتابوا} شكُّوا {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي: يظلم {بل أولئك هم الظالمون} لأنفسهم بكفرهم ونفاقهم(1/768)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1/768)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فأولئك هم الفائزون}(1/768)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وذلك أنَّ المنافقين حلفوا أنَّهم يخرجون إلى حيث يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم للغزو والجهاد فقال الله تعالى: {قل لا تقسموا طاعة معروفة} خيرٌ وأمثلُ من يمينٍ تحنثون فيها(1/768)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فإنما عليه ما حمَّل} من تبليغ الرِّسالة {وعليكم ما حملتم} من طاعته الآية(1/768)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنَّهم في الأرض} ليورثنَّهم أرض الكفَّار من العرب والعجم {كما استخلف الذين من قبلهم} يعني: بني إسرائيل {وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} حتى يتمكَّنوا منه من غير خوفٍ {وليبدلنَّهم من بعد خوفهم} من العدوِّ {أمناً} لا يخافون معه العدوَّ {ومن كفر} بهذه النِّعمة فعصى الله ورسوله وسفك الدِّماء {فأولئك هم الفاسقون} فكان أوَّل مَنْ كفر بهذه النِّعمة بعد ما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه فعادوا في الخوف وظهر الشر والخلاف(1/768)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ ترحمون}(1/769)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ومأواهم النار ولبئس المصير}(1/769)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} من العبيد والإماء {والذين لم يبلغوا الحلم منكم} من الأحرار {ثلاث مرَّات} ثمَّ بيَّنهنَّ فقال: {من قبل صلاة الفجر} وهو حين يخرج الإنسان من ثياب النَّوم {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} للقائلة {ومن بعد صلاة العشاء} الآخرة {ثلاث عورات لكم} يعني: هذه الأوقات لأنَّها أوقات التَّجرُّد وظهور العورة {ليس عليكم ولا عليهم جناح} ألا يستأذنوا بعد هذه الأوقات {طوافون} أَيْ: هم طَوَّافُونَ {عَلَيْكُمْ} يريد أنَّهم خدمكم فلا بأس عليهم أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثَّلاثة بغير إذنٍ وهذه الآية منسوخةٌ عند قومٍ وعند قومٍ لم تُنسخ ويجب العمل بها(1/769)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{وإذا بلغ الأطفال منكم} من أحراركم {الحلم فليستأذنوا} في كلِّ وقتٍ {كما استأذن الذين من قبلهم} يعني: الكبار من الأحرار(1/770)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} يعني: العجائز اللاتي أيسن من البعولة {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن} جلابيبهنَّ {غير متبرجات بزينة} غير مُظهراتٍ زينتهنَّ وهو أن لا تريد بوضع الجلباب أن تُري زينتها {وأن يستعففن} فلا يضعن الجلباب {خيرٌ لهن}(1/770)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{ليس على الأعمى حرج} الآية كان المسلمون يخرجون للغزو ويدفعون مفاتيح بيوتهنَّ إلى الزَّمنى الذين لا يخرجون ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما فيها فكانوا يتوفون ذلك حتى نزلت هذه الآية وقوله: {ولا على أنفسكم} أراد: ولا عليكم أنفسكم {أن تأكلوا من بيوتكم} أَيْ: بيوت أولادكم فجعل بيوت أولادهم بيوتهم لأنَّ ولد الرَّجل من كسبه ومالَه كمالِه وقوله: {أو ما ملكتم مفاتحه} يريد: الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة {ليس عليكم جناح أن تأكلوا} من منازل هؤلاءٍ إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا من غير أن يحملوا وهذه رخصةٌ من الله تعالى لطفاً بعباده ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر وقوله: {أَوْ صديقكم} يجوز للرَّجل أن يدخل بيت صديقه فيتحرَّم بطعامه من غير استئذانٍ بهذه الآية وقوله: {أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} يقول: لا جناح عليكم إن اجتمعتم في الأكل أو أكلتم فرادى وإن اختلفتم فكان فيكم الزَّهيد والرغيب والعليل والصَّحيح وذلك أنَّ المسلمين تركوا مؤاكلة المرضى والزَّمنى بعد نزول قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فقالوا: إنَّهم لا يستوفون من الأكل فلا تحلُّ لنا مؤاكلتهم فنزلت الرُّخصة في هذه الآية {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} فليسلِّم بعضكم على بعض وقيل: إذا دخلتم بيوتاً خالية فليقل الدَّاخل: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله تعالى:(1/770)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{وإذا كانوا معه على أمر جامع} يجمعهم في حربٍ حضرت أو صلاةٍ في جمعةٍ أو تشاورٍ في أمرٍ {لم يذهبوا} لم يتفرقوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم {حتى يستأذنوه} نزلت في حفر الخندق كان المنافقون ينصرفون بغير امر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله:(1/722)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{اتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أَيْ: لا تقولوا إذا دعوتموه: يا محمد كما يقول أحدكم لصاحبه ولكن قولوا: يا رسول الله يا نبيَّ الله {قد يعلم الله الذين يتسللون} يخرجون في خُفيةٍ من بين النَّاس {لواذاً} يستتر بغيره فيخرج مُختفياً {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} أَيْ: يخافون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وينصرمن بغير إذنه {أن تصيبهم فتنة} بلية يظهر نفاقهم {أو يصيبهم عذاب أليم} عاجلٌ في الدُّنيا(1/722)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{ألا إنَّ لله ما في السماوات والأرض} عبيداً وملكاً وخلقاً(1/722)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
{تبارك} ثبت ودام {الذي نزل الفرقان} القرآن الذي فرق بين الحقِّ والباطل {على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ليكون للعالمين} الجنِّ والإِنس {نذيراً} مخوِّفاً من العذاب(1/773)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{وخلق كلَّ شيء} ممَّا يُطلق في صفة المخلوق {فقدَّره تقديراً} جعله على مقدارٍ وقوله:(1/773)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
{نشوراً} أَيْ: حياةً بعد الموت(1/773)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{وقال الذين كفروا إن هذا} ما هذا القرآن {إلاَّ إفك} كذبٌ {افتراه} اختلقه {وأعانه عليه قوم آخرون} يعنون: اليهود {فقد جاؤوا} بهذا القول {ظلماً وزوراً} كذباً(1/733)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{وقالوا أساطير الأولين} أَيْ: هو ما سطره الأوَّلون {اكتتبها} كتبها {فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} يعنون أنَّه يختلف إلى مَنْ يعلَّمه بالغداة والعشيِّ(1/774)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{قل} يا محمد لهم: {أنزله} أنزل القرآن {الذي يعلم السر في السماوات والأرض} يعلم بواطن الأمور فقد أنزله على ما يقتضيه علمه(1/774)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{وقالوا مال هذا الرسول} يعنون محمداً عليه السَّلام {يأكل الطعام} أنكروا أن يكون الرَّسول بصفة البشر {ويمشي في الأسواق} طلباً للمعاش يعنون أنَّه ليس بملك ولام مَلَكٍ {لولا} هلاَّ {أنزل إليه ملك} يُصدِّقه {فيكون معه نذيراً} داعياً إلى الله يشاركه في النُّبوَّة(1/774)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{أو يلقى إليه كنز} يستغني به عن طلب المعاش {وقال الظالمون} المشركون: {إن تتبعون} ما تتبعون {إِلا رَجُلا مسحوراً} مخدوعاً(1/774)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{انْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} إذ مثَّلوك بالمسحور والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولاً والناقص عن القيام بالأمور إذ طلبوا أن يكون معك مَلَك {فضلوا} بهذا القول عن الدَّين والإِيمان {فلا يستطيعون سبيلاً} إلى الهدى ومخرجاً من ضلالتهم(1/774)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا من ذلك} الذي قالوه من إلقاء الكنز وجعل الجنَّة ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {جنات تجري من تحتها الأنهار} يعني: في الدُّنيا لأنَّه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة وقوله:(1/775)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
{سمعوا لها تغيظاً} أَيْ: صوتاً بغيظٍ وهو التَّغضُّب {وزفيرا} صوتا شديدا(1/775)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تغيظا وزفيرا}(1/775)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
{وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً} وذلك أنَّهم يُدفعون في النَّار كما يُدفع الوتد في الحائط {مقرَّنين} مقرونين مع الشيطان {دعوا هنالك ثبوراً} ويلاً وهلاكاً فيقال لهم:(1/775)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كثيراً}(1/775)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
{قل أذلك} الذي ذكرتُ من موضع أهل النَّار ومصيرهم {خيرٌ أم جنة الخلد} الآية وقوله:(1/775)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{وعداً مسؤولاً} لأنَّ الملائكة سألت ذلك لهم في قوله تعالى: {ربَّنا وأَدْخِلْهم جنَّاتِ عدنٍ التي وَعَدْتَهُم ومن صلح من آبائهم وأزوَاجِهم وذُرِّيَّاتهم}(1/775)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الأصنام والملائكة والمسيح وعزيراً {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} هذا توبيخ للكفَّار كقوله لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دون الله} ؟ !(1/775)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نتَّخذ من دونك من أولياء} أن نوالي أعداءك وفي هذا براءةُ معبوديهم منهم {ولكن متعتهم وآباءهم} في الدُّنيا بالصَّحة والنِّعمة {حتى نسوا الذكر} تركوا ما وُعظوا به {وكانوا قوماً بوراً} هلكى بكفرهم(1/776)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
{فقد كذبوكم بما تقولون} بقولكم: إنَّهم كانوا آلهة {فما تستطيعون} يعني الآلهة {صرفاً} للعذاب عنكم {ولا نصراً} لكم {ومن يظلم} أَيْ: يشرك {منكم نذقه عذاباً كبيراً}(1/776)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{وما أرسلنا قبلك} الآية هذا جواب لقولهم: {مال هذا الرسول} الآية أخبر الله سبحان أنَّ كلَّ مَنْ خلا من الرُّسل كان بهذه الصِّفة {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} الصَّحيح للمريض والغنيّ للفقير فيقول الفقير: لو شاء الله لأغناني كما أغنى فلاناً ويقول المريض لو شاء الله لعافاني كما عافى فلاناً وكذلك كلُّ النَّاس مبتلى بعضهم ببعض فقال الله تعالى: {أتصبرون} على البلاء؟ فقد عرفتم ما وُعد الصَّابرون {وكان ربك بصيراً} بمَنْ يصبر وبمَنْ يجزع(1/776)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{وقال الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث: {لولا} هلاَّ {أنزل علينا الملائكة} فتخبرنا أنَّ محمداً صادقٌ {أو نرى ربنا} فيخبرنا بذلك {لقد استكبروا في أنفسهم} حين طلبوا من الآيات ما لم يطلبه أُمَّة {وعتوا عتوّاً كبيراً} وغلوا في كفرهم أشدَّ الغلوِّ(1/777)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{يوم يرون الملائكة} يعني: إنَّ ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة وإنَّ الله سبحانه حرمهم البشرى في ذلك اليوم وتقول لهم الملائكة: {حجراً محجوراً} أَيْ: حراماً محرَّماً عليهم البشرى(1/777)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{وقدمنا} وقصدنا {إلى ما عملوا من عمل} ممَّا كانوا يقصدون به التقرُّب إلى الله سبحانه {فجعلناه هباءً منثوراً} باطلاً لا ثواب له لأنَّهم عملوه للشَّيطان والهباء: دقاق التُّراب والمنثور: المتفرِّق(1/777)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقراً} موضع قرار {وأحسن مقيلاً} موضع قيلولة(1/777)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{ويوم تشقق السماء بالغمام} عن الغمام وهو السَّحاب الأبيض الرَّقيق {ونزل الملائكة تنزيلاً} لإكرام المؤمنين(1/777)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{الملك يومئذ الحق} أَيْ: الملك الذي هو الملك حقَّاً ملك الرَّحمن يومئذ(1/777)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{ويوم يعض الظالم} الكافر يعني: عُقبة بن أبي مُعَيط كان قد آمن ثمَّ ارتدَّ لرضى أُبيّ بن خلف {على يديه} ندماً وتحسُّراً {يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} طريقاً إلى الجنة بالإسلام(1/778)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً} يعني: أُبيَّاً {خليلاً}(1/778)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{لقد أضلني عن الذكر} القرآن {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} عند البلاء يعني: إنًّ قبوله قول أُبيِّ بن خلف في الكفر كان من عمل الشيطان(1/778)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{وقال الرسول} في ذلك اليوم: يا {ربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} متروكاً أعرضوا عنه(1/778)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
{وكذلك} وكما جعلنا لك أعداءً من المشركين {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بربك هادياً} يهديك وينصرك فلا تُبالِ بِمَنْ يعاديك(1/778)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة} أَيْ: لم نزل عليه متفرِّقاً؟ وهلاَّ كان دفعةً واحدةُ كالتَّوراة والإِنجيل؟ قال الله تعالى: {كذلك} فرَّقنا تنزيله {لنثبت به فؤادك} لِنُقوِّيَ به قلبك وذلك أنَّه كلَّما نزل عليه وحيٌ جديدٌ ازداد هو قوَّة قلبٍ {ورتلناه ترتيلا} بيناه تبينا في تثبُّتٍ ومهلةٍ(1/778)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{ولا يأتونك} يعني: المشركين {بمثل} يضربونهن في إبطال أمرك {إلاَّ جئناك بالحق} بما يردُّ ما جاؤوا به من المثل {وأحسن تفسيراً} بياناً وتفصيلاً ممَّا ذكروا(1/779)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{الذين} أَيْ: هم الذين {يحشرون على وجوههم} يُمشيهم الله عليها فهم يُساقون عَلَى وُجُوهِهِمْ {إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وأضلُّ سبيلاً} من كلِّ أحدٍ(1/779)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون وزيراً} أَيْ: مُعيناً وملجأ(1/779)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} وهم القبط فكذَّبوهما {فدمَّرناهم تدميراً} أهلكناهم إهلاكاً(1/779)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
{وقوم نوحٍ لمَّا كذَّبوا الرسل} مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب الرُّسل كلَّهم لأنَّهم لا يفرِّقون بينهم في الإيمان بهم {أغرقناهم وجعلناهم للناس آية} عبرة {وأعتدنا للظالمين} في الآخرة {عذاباً اليماً} سوى ما ينزل بهم من عاجل العذاب وقوله:(1/779)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{وأصحاب الرَّسِّ} كانوا أهل بئرٍ قعودٍ عليها وأصحاب مواشٍ يعبدون الأصنام فأُهلكوا بتكذيب نبيِّهم {وقروناً} وجماعاتٍ {بين ذلك} الذين ذكرناهم {كثيراً}(1/779)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{وكلاً ضربنا له الأمثال} بيَّنا لهم الأشباه في إقامة الحجَّة عليهم {وكلاًّ تبرنا تتبيراً} أهلكنا إهلاكاً(1/779)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{ولقد أتوا} يعني: مشركي مكَّة {على القرية التي أمطرت مطر السوء} يعني: الحجارة وهي قرية قوم لوطٍ {أفلم يكونوا يرونها} إذا مرُّوا بها مسافرين فيعتبروا {بل كانوا لا يرجون نشوراً} لا يخافون بعثاً(1/780)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
{وإذا رأوك إن يتخذونك إلاَّ هزواً} ما يتَّخذونك إلاَّ مهزوءاً به ويقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} إلينا؟(1/780)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{إن كاد} إنَّه كاد {ليضلنا عن آلهتنا} فيصدُّنا عن عبادتها {لولا أن صبرنا عليها} لصرفنا عنها(1/780)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{أرأيت من اتخذ إلهه هواه} وهو أنَّهم كانوا يعبدون شيئاً حجراً أو ما كان فإذا رأوا حجراً أحسن طرحوا الأوَّل وعبدوا الأحسن فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم {أفأنت تكون عليه وكيلا} حفيفا حتى تردَّه إلى الإِيمان أَيْ: ليس عليك إلاَّ التبليغ وقيل: إنَّ هذا ممَّا نسخته آية السَّيف(1/780)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون} سماع تفهيم {أو يعقلون} بقلوبهم ما تقول لهم: {إن هم} ما هم {إلاَّ كالأنعام} في جهل الآيات وما جعل لهم من الدَّليل {بل هم أضلُّ سبيلاً} لأنَّ النَّعم تنقاد لمن يتعهده وهم لا يطيعون مولاهم الذي أنعم عليهم(1/780)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{ألم تر} ألم تعلم {إلى ربك كيف مدَّ الظلَّ} وقت الإِسفار إلى وقت طلوع الشَّمس {ولو شاء لجعله} لجعل الظلَّ {ساكناً} ثابتاً دائماً {ثمَّ جعلنا الشمس عليه دليلاً} لأنَّ بالشَّمس يُعرف الظِّلُّ(1/780)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ثم قبضناه} قبضنا الظِّلَّ إلينا بارتفاع الشَّمس {قبضاً يسيراً} قيل: خفيَّاً وقيل: سهلاً(1/781)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} يستركم {والنوم سباتاً} راحةً لأبدانكم {وجعل النهار نشوراً} حياة تنتشرون فيه من النَّوم وقوله:(1/781)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
{طهوراً} هو الطَّاهر المُطهِّر(1/781)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{لنحيي به} بالماء الذي أنزلناه من السَّماء {بلدة ميتا} بالجدوية {ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً} جمع إنسيٍّ وهم الذين سقيناهم المطر(1/781)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{ولقد صرفناه} أَيْ: المطر {بينهم} بأنواعه وابلاً وطشَّاً ورُهَاماً ورذاذاً {ليذكروا} ليتذكَّروا به نعمة الله تعالى {فأبى أكثر الناس إلاَّ كفوراً} جُحوداً حين قالوا: سُقينا بِنَوء كذا(1/781)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} لنخفِّف عليك أعباء النبوَّة ولكن لم نفعل ذلك ليعظم أجرك(1/781)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{فلا تطع الكافرين} في هواهم ولا تداهنهم {وجاهدهم به} وجاهد بالقرآن {جهاداً كبيراً} لا يُخالطه فتورٌ(1/781)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{وهو الذي مرج البحرين} خلطهما {هذا عذب فرات} شديد العذوبة {وهذا ملح أجاج} شديد الملوحة {وجعل بينهما} بين العذب والمالح {برزخاً} حاجزاً من قدرته حتى لا يختلط أحدهما بالآخر {وحجراً محجوراً} حراماً محرَّماً أن يغلب أحدهما صاحبه(1/782)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
{وهو الذي خلق من الماء} النُّطفة {بشراً} آدمياً {فجعله نسباً} لا يحلُّ تزوُّجه {وصهراً} يحلُّ تزوُّجه كابنة العمِّ والخال وابنهما {وكان ربك قديراً} قادراً على ما يشاء وقوله:(1/782)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{وكان الكافر على ربه ظهيراً} معيناً للشَّيطان على معصية الله سبحانه(1/782)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(1/782)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{قل ما أسألكم عليه} على تبليغ الرِّسالة والوحي {من أجر} فيقولون: إنَّه يطلب أموالنا {إلاَّ من شاء} لكن مَنْ شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سبيلا} بإنفاق ماله وقوله:(1/782)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا}(1/782)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{فاسأل به خبيراً} فاسأل أيُّها الإنسان الذي لا تعلم صفته خبيراً يخبرك بصفاته(1/782)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{وإذا قيل لهم} لهؤلاء المشركين: {اسجدوا للرحمن} وهو اسم الله سبحانه كانوا لا يعرفونه لذلك قالوا: {وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا} أنت يا محمد {وزادهم} قول القاتل لهم: اسجدوا للرَّحمن {نفوراً} عن الإِيمان(1/782)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
{تبارك الذي جعل في السماء بروجاً} أَيْ: منازل الكواكب السَّبعة {وجعل فيها سراجاً} وهو الشَّمس(1/783)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} إذا وهب هذا أتى هذا فأحدهما يخلف الآخر فمَنْ فاته عملٌ بالليل فله مُسْتَدْرَكٌ بالنَّهار وهو قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} يذكر الله بصلاةٍ وتسبيحٍ وقراءةٍ {أو أراد شكوراً} شكراًَ لنعمته وطاعته(1/783)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{وعباد الرحمن} يعني: خواصَّ عباده {الذين يمشون على الأرض هوناً} بالسَّكينة والوقار {وإذا خاطبهم الجاهلون} بما يكرهونه {قالوا سلاماً} سداداً من القول يسلمون فيه من الإثم وقوله:(1/783)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
{والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}(1/783)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{غراماً} أيْ: شرَّاً لازماً(1/783)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}(1/783)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} لم يكن إنفاقهم في معصية الله تعالى {ولم يقتروا} لم يمنعوا حقَّ الله سبحانه {وكان} إنفاقهم بين الإِسراف والإِقتار {قواما} قائماً قوله:(1/783)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{يلق أثاماً} أَيْ: عقوبةً وقيل: جزاء الآثام وقوله:(1/783)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مهانا}(1/783)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{يبدّل الله سيئاتهم حسنات} يُبدِّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشِّرك محاسن الأعمال في الإسلام بالشِّرك إيماناً وبالزِّنا عفَّة وإحصاناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين(1/784)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{ومن تاب} أَيْ: عزم على التَّوبة {فإنه يتوب إلى الله متاباً} فينبغي أن يبادر إليها ويتوجَّه بها إلى الله(1/784)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{والذين لا يشهدون الزور} لا يشهدون بالكذب {وإذا مرُّوا باللغو مروا كراماً} سمعوا من الكفار الشَّتم والأذى صفحوا وأعرضوا وهو منسوخ بالقتال على هذا التَّفسير(1/784)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{والذين إذا ذكروا} وُعظوا {بآيات ربهم} بالقرآن {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} لم يتغافلوا عنها كأنَّهم صمٌّ لم يسمعوها وعميٌّ لم يروها(1/784)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذرياتنا قرة أعين} بأَنْ نراهم مطيعين لك صالحين {واجعلنا للمتقين إماماً} أَيْ: اجعلنا ممَّن يهتدي به المُتَّقون ويهتدي بالمتَّقين(1/784)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أولئك يجزون} يثابون {الغرفة} الدرجة في الجنة {بما صبروا} على طاعة الله سبحانه {ويلقون} ويُستقبلون {فيها} في الغرفة بالتحية والسلام(1/785)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}(1/785)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{قل ما يعبأ بكم} أَيْ: ما يفعل ويصنع وأيُّ وزنٍ لكم عنده {لولا دعاؤكم} توحيدكم وعبادتكم إياه {فقد كذبتم} يا أهل مكَّة فخرجتم عن أن يكون لكم عنده مقدار {فسوف يكون} العذاب لازماً لكم(1/785)
طسم (1)
{طسم} أقسم الله بطَوله وسنانه وملكه(1/786)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{تلك} هذه {آيات الكتاب المبين} يعني: القرآن(1/786)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{لعلَّك باخعٌ نفسك} قاتلٌ نفسك {أن لا يكونوا مؤمنين} لتركهم الإِيمان وذلك أنَّه لما كذَّبه أهل مكًّة شقَّ عليه ذلك فأعلمه الله سبحانه أنَّه لو شاء لاضطرهم إلى الإِيمان فقال:(1/786)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فظلت أعناقهم لها خاضعين} يذلُّون بها فلا يلوي أحدٌ منهم عنقه إلى معصية الله تعالى(1/786)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
{وما يأتيهم من ذكرٍ} من وعظٍ {من الرحمن محدث} في الوحي والتَّنزيل(1/786)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} فسيعلمون نبأ ذلك وهو وعيدٌ لهم وقوله:(1/786)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
{كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كلِّ نوع محمودٍ ممَّا يحتاج إليه النَّاس(1/787)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{إنَّ في ذلك لآية} لدلالةً على توحيد الله سبحانه وقدرته {وما كان أكثرهم مؤمنين} لما سبق في علمي وقضائي(1/787)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}(1/787)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{و} اذكر يا محمَّدُ {إذ نادى ربك موسى} ليلة رأى الشَّجرة والنَّار {أن ائت القوم الظالمين} لأنفسهم بالكفر(1/787)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
{قوم فرعون ألا يتقون} ألا يخافون الله سبحانه فيؤمنوا به(1/787)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أخاف أن يكذبون}(1/787)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{وَيَضِيقُ صدري} من تكذيبهم إيَّاي {ولا ينطلق لساني} بأداء الرِّسالة للعقدة التي في فيه {فأرسل إلى هارون} ليظاهرني على التَّبليغ(1/787)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
{ولهم عليَّ ذنب} بقتل القبطيِّ(1/787)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
{قال كلا} لا يقتلونك {إنَّا معكم} بالنُّصرة {مستمعون} نسمع ما تقول ويقال لك(1/787)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
{فأتيا فرعون فقولا إنا رسول} ذوا رسالة {ربّ العالمين}(1/787)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
{أن أرسل معنا بني إسرائيل} مفسَّرٌ في سورة طه فلمَّا أتاه بالرِّسالة عرفه فرعون فقال:(1/787)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{ألم نُربِّك فينا وليداً} صبيّاً {ولبثت فينا من عمرك سنين} ثلاثين سنةً(1/788)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني: قتل القبطيِّ {وأنت من الكافرين} الجاحدين لنعمتي عليك(1/788)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{قَالَ} موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} الجاهلين لم يأتني من الله شيء(1/788)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}(1/788)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{وتلك نعمة تمنُّها عليَّ} أقرَّ بإنعامه عليه فقال: هي نعمةٌ إذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل {عبَّدت} معناه: اتَّخذت عبيداً(1/788)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
{قال فرعون وما ربُّ العالمين} أَيُّ شيءٍ ربُّ العالمين الذي تزعم أنَّك رسوله؟(1/788)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
{قال رب السماوات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أنَّه خالقهما(1/788)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
{قال} فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه مُعجبِّاً لهم: {ألا تستمعون} إلى ما يقوله: موسى؟ ! فقال موسى(1/788)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
{ربكم وربُّ آبائكم الأولين}(1/788)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
{قال} فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} يتكلَّم بكلام لا تعرف صحَّته(1/788)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
{قال} موسى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تعقلون} فقال فرعون حين لزمته الحجَّة(1/788)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} من المحبوسين في السِّجن(1/789)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{قال} موسى: {أو لو جِئِتُكَ بشيء مبين} يعني: أو نفعل ذلك وإن أتيتُك على ما أقول بحجَّةٍ بيِّنةٍ؟(1/789)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
{قال فأت به} مفسَّر أكثره إلى قوله تعالى:(1/789)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}(1/789)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}(1/789)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}(1/789)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تأمرون}(1/789)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}(1/789)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
{يأتوك بكل سحار عليم}(1/789)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}(1/789)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}(1/789)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}(1/789)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
{فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}(1/789)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(1/789)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}(1/789)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لنحن الغالبون}(1/789)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يأفكون}(1/789)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}(1/789)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
{قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ}(1/789)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
{رب موسى وهارون}(1/789)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}(1/789)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
{قالوا لا ضير} لا ضرر {إنا إلى ربنا منقلبون} راجعون إلى ثوابٍ(1/789)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أنْ كنا} لأن كنَّا {أول المؤمنين} من هذه الأُمَّة(1/789)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ متبعون} يتَّبعكم فرعون وقومه(1/789)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
{فأرسل فرعون في المدائن حاشرين} يعني: الشُّرَط ليجمعوا له الجيش وقال لهم:(1/790)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
{إنَّ هؤلاء} يعني: بني إسرائيل {لشرذمة} عصبةٌ {قليلون}(1/790)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
{وإنهم لنا لغائظون} مُغضبون بمخالفتهم إيَّانا(1/790)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
{وإنا لجميع حاذرون} مُستعدّون للحرب بأخذ أداتها و {حذرون} متيقِّظون(1/790)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
{فأخرجناهم من جنات} يعني: حين خرجوا من مصر ليلحقوا موسى وقومه(1/790)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
{ومقام كريم} مجلسٍ حسنٍ(1/790)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{كذلك} كما وصفنا {وأورثناها} بهلاكهم {بني إسرائيل}(1/790)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{فأتبعوهم} لحقوهم {مشرقين} في وقت شروق الشَّمس(1/790)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
{فلما تراء الجمعان} رأى كلُّ واحدٍ الآخر {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} أيْ: سيدركنا جمع فرعون(1/790)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
{قال: كلا} لن يدركونا {إنًّ معي ربي} بالنُّصرة {سيهدين} طريق النَّجاة(1/790)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
{فكان كلُّ فرق} قطعةٍ من الماء {كالطود العظيم} كالجبل(1/790)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{وأزلفنا ثمَّ الآخرين} قرَّبنا قوم فرعون إلى الهلاك وقدمناهم إلى البحر(1/790)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}(1/791)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
{ثم أغرقنا الآخرين}(1/791)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{وما كان أكثرهم مؤمنين} لم يؤمن من أهل مصر إلاَّ رجلٌ وامرأتان وقوله:(1/791)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}(1/791)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}(1/791)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}(1/791)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}(1/791)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}(1/791)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}(1/791)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}(1/791)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}(1/791)
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
{أنتم وآباؤكم الأقدمون}(1/791)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
{فإنَّهم عدوٌّ لي} أَيْ: هذه الآلهة التي تعبدونها عدوٌّ لي أعاديهم أنا ولا أعبدهم {إلاَّ ربَّ العالمين} لكن ربّ العالمين أعبده(1/791)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
{الذي خلقني} ظاهرٌ إلى قوله:(1/791)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}(1/791)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}(1/791)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}(1/791)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين}(1/791)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
{رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين}(1/791)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
{لسان صدقٍ في الآخرين} أَيْ: ذكراً جميلاً وثناءً حسناً في الأمم التي تجيء بعدي(1/791)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
{واجعلني} ممَّن يرث الجنَّة بفضلك ورحمتك وقوله:(1/791)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
{وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}(1/791)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
{وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}(1/791)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}(1/791)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
{إِلا مَنْ أتى الله بقلب سليم} سلم من الشِّرك(1/791)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{وأزلفت الجنة} قرِّبت {للمتقين}(1/791)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
{وبرزت} وأُظهرت {الجحيم للغاوين} للكافرين(1/791)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}(1/791)
مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
{مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}(1/791)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{فكبكبوا فيها} طُرح بعضهم على بعض في الجحيم {هم والغاوون} يعني: الشَّياطين(1/792)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
{وجنود إبليس} أتباعه من الجنِّ والإِنس(1/792)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
{قالوا} للشَّياطين والمعبودين:(1/792)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(1/792)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
{إِذْ نسويكم} نَعْدِلُكُمْ {بربِّ العالمين} في العبادة(1/792)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
{وما أضلّنا} وما دعانا إلى الضَّلال {إلاَّ المجرمون} أوَّلونا الذين اقتدينا بهم(1/792)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}(1/792)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
{ولا صديق حميم} قريبٍ يشفع(1/792)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
{فلو أنَّ لنا كرَّة} رجعةً إلى الدُّنيا تمنَّوا أن يرجعوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا وقوله:(1/792)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{إني لكم رسول أمين} على الوحي والرِّسالة لأنَّكم عرفتموني قبل هذا الأمانة وقوله:(1/792)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(1/792)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}(1/792)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}(1/792)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}(1/792)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/792)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1/792)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
{فاتقوا الله وأطيعون}(1/792)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{واتبعك الأرذلون} يعني: السلفة والحاكة وقوله:(1/792)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1/792)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}(1/792)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}(1/792)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
{إن أنا إلاَّ نذير مبين}(1/792)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{من المرجومين} أَيْ: من المشتومين وقيل: من المقتولين(1/793)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ}(1/793)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي من المؤمنين}(1/793)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
و {الفلك المشحون} المملوء وقوله:(1/793)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}(1/793)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}(1/793)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}(1/793)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}(1/793)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ}(1/793)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}(1/793)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/793)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1/793)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{أتبنون بكلِّ ريع} أَيْ: شَرَفٍ ومكانٍ مرتفعٍ {آية} علماً {تعبثون} تلعبون: يعني: أبنية الحمام وبروجها(1/793)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
{وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أَيْ: تتخذون مباني وقصوراً للخلود لا تُفكِّرون في الموت(1/793)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جبارين} إذا ضربتم بالسوط وإذا عاقبتم قتلتم فعل الجبَّارين الذين يقتلون على الغضب بغير حق وقوله:(1/793)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/793)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}(1/793)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}(1/793)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
{وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}(1/793)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
{إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}(1/793)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ من الواعظين}(1/793)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{إن هذا} ما هذا الذي تدعونا إليه {إلا خَلْق الأوَّلين} كذبهم وافتراؤهم ومَنْ قرأ {خُلق الأولين} فمعناه: عادة الأوَّلين أَيْ: الذي نحن فيه عادة الأوَّلين يعيشون ما عاشوا ثمَّ يموتون ولا بعثٌ ولا حساب وقوله:(1/793)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(1/794)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كان أكثرهم مؤمنين}(1/794)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
{إن رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(1/794)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}(1/794)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ}(1/794)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}(1/794)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/794)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على رب العالمين}(1/794)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{أتتركون في ما هاهنا} أَيْ: في الدُّنيا {آمنين} من الموت والعذاب وقوله:(1/794)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
{في جنات وعيون}(1/794)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
{ونخل طلعها} أَيْ: ثمرها {هضيم} أَيْ: ليِّنٌ نضيجٌ(1/794)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} حاذقين بنحتها و {فارهين} أشرين بطرين وكانوا مُعمَّرين لا يبقى البناء مع عمرهم فنحتوا في الجبال بيوتا وقوله:(1/794)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/794)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
{وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}(1/794)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
{الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}(1/794)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{إنما أنت من المسحرين} أَيْ: من الذين سُحروا مرَّةً بعد أخرى: وقيل ممَّن له سَحر وهو الرِّئة أَيْ: إنَّما أنت بشر مثلنا وقوله:(1/794)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
{مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين}(1/794)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{لها شربٌ} أَيْ: حظٌّ ونصيب من الماء(1/794)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
{ولا تمسوها بسوء} بعقر وقوله:(1/794)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
{فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}(1/794)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}(1/795)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(1/795)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}(1/795)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ}(1/795)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}(1/795)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/795)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على رب العالمين}(1/795)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
{أتأتون الذكران من العالمين} يريد: ما كان من فعل قوم لوطٍ مِنْ إتيان الرِّجال في أدبارهم(1/795)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لكم ربكم من أزواجكم} وتدَعون أن تأتوا نسائكم {بل أنتم قوم عادون} ظالمون غاية الظُّلم(1/795)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
{قَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ من المخرجين} عن بلدنا(1/795)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
{قال: إني لعملكم} يعني: اللِّواط {من القالين} من المبغضين وقوله:(1/795)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}(1/795)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
{فنجيناه وأهله أجمعين}(1/795)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{إلاَّ عجوزاً} يعني: امرأته {في الغابرين} في الباقين في العذاب(1/795)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
{ثم دمرنا} أهلكنا(1/795)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}(1/795)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}(1/795)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}(1/795)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{كذَّب أصحاب الأيكة} وهي الغيضة وهم قوم شعيب(1/795)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ}(1/795)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}(1/795)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(1/795)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على رب العالمين}(1/795)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{أوفوا الكيل} أتمُّوه {ولا تكونوا من المخسرين} النَّاقصين للكيل والوزن وقوله:(1/795)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}(1/795)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرض مفسدين}(1/796)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{والجبلَّة الأولين} أَيْ: الخليقة السابقين(1/796)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}(1/796)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
{وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لمن الكاذبين}(1/796)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{فأسقط علينا كسفاً من السماء} أَيْ: قطعةً(1/796)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
{قال ربي أعلم بما تعملون} فيجازيكم به وما عليَّ إلاَّ الدَّعوة(1/786)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
{فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة} وذلك أنَّ الحرَّ اخذهم فلم ينفعهم ماءٌ ولا كَنٌّ فخرجوا إلى البرِّيَّة وأظلَّتهم سحابةٌ وجدوا لها برداً واجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا به وقوله:(1/796)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}(1/796)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}(1/796)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{وإنه} يعني: القرآن {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1/796)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} جبريل عليه السَّلام(1/796)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
{على قلبك} حتى وعيته(1/796)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
{بلسان عربي مبين}(1/796)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
{وإنه} وإنَّ ذكر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {لفي زبر الأولين} لفي كتب الأوَّلين(1/796)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{أو لم يكن لهم} للمشركين {آية} دلالةً على صدقه {أن يعلمه علماء بني إسرائيل} يعلمون محمدا صلى الله عليه وسلم بالنُّبوَّة والرِّسالة(1/796)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{ولو نزلناه} يعني: القرآن {على بعض الأعجمين} جمع الأعجم وهو الذي لا يحسن العربيَّة(1/797)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
{فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} أنفةً من اتَّباعه(1/797)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{كذلك سلكناه} أدخلنا التَّكذيب {في قلوب المجرمين} فذلك الذي منعهم عن الإِيمان(1/797)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}(1/797)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
{فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}(1/797)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
{فيقولوا هل نحن منظرون} فلمَّا نزلت هذه الآيات قالوا: إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله سبحانه(1/797)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}(1/797)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
{أفرأيت إن متعناهم} بالدُّنيا وأبقيناهم فيها {سنين}(1/797)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
{ثمَّ جاءهم} العذاب لم ينفعهم إمتاعهم بالدُّنيا فيما قبل(1/797)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
{مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}(1/797)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
{وَمَا أهلكنا من قرية إلاَّ لها منذرون} رسلٌ ينذرهم(1/797)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ذكرى} إنذاراً للموعظة {وما كنا ظالمين} في إهلاكهم بعد قيام الحُجَّة عليهم(1/797)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
{وما تَنَزَّلَتْ به} بالقرآن {الشياطين}(1/797)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
{وما ينبغي لهم} ذلك {وما يستطيعون} ذلك(1/797)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
{إنهم} عن استراق من السَّماء {لمعزولون} بالشُّهب(1/797)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ من المعذبين}(1/798)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
{وأنذر} خوِّف {عشيرتك الأقربين} أدنى أهلك وأقاربك(1/798)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{واخفض جناحك} ليِّن جانبك وقوله تعالى:(1/798)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}(1/798)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}(1/798)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
{الذي يراك حين تقوم} أَيْ: إلى صلاتك(1/798)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{وتقلبك} تصرُّفك في أركان الصَّلاة قائماً وقاعداً وراكعاَ وساجداً {في الساجدين} في المصلين(1/798)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
{إنه هو السميع العليم}(1/798)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
{هل أنبئكم} أخبركم {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}(1/798)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
{تنزَّل على كلِّ أفاك} كذَّاب {أثيم} فاجرٍ مثل مسيلمة وغيره من الكهنة(1/798)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{يلقون} إليهم ما سمعوا ويخلطون بذلك كذباً كثيراً وهذا كان قبل أن حجبوا عن السَّماء(1/798)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{والشعراء يتبعهم الغاوون} يعني: شعراء الكفَّار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتَّبعهم الكفَّار(1/798)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} في كلِّ لغوٍ يخوضون يمدحون بباطلٍ ويشتمون بباطلٍ ثمَّ استثنى شعراء المؤمنين فقال:(1/798)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}(1/798)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا} ردُّوا على مَنْ هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين {وسيعلم الذين ظلموا أَيَّ منقلب ينقلبون} أَيَّ مرجعٍ يرجعون إليه بعد مماتهم(1/798)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
{طس تلك آيات القرآن} هذه الآيات التي وُعدتم بها وذلك أنَّهم وُعدوا بالقرآن في كتبهم {وكتاب} أَيْ: وآياتِ كتابٍ {مبين}(1/799)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{هدىً} أَيْ: هو هدىً {وبشرى للمؤمنين}(1/799)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زيَّنا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنةً {فهم يعمهون} يتحيَّرون(1/799)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
{أولئك الذين لهم سوء العذاب} في الدُّنيا القتل ببدرٍ {وهم في الآخرة هم الأخسرون} بحرمان النَّجاة والمنع من الجنان(1/799)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{وإنك لتلقى القرآن} الآية أَيْ: يلقى إليك القرآن وحياً من الله سبحانه(1/799)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}(1/799)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{إذ قال موسى} اذكر يا محمَّد قصَّة موسى حين قال {لأهله} في مسيرة من مدين إلى مصر وقد ضلَّ الطَّريق وأصلد زنده: {إني آنست ناراً} أبصرتها من بعيد {سآتيكم منها بخبر} عن الطَّريق أين هو {أو آتيكم بشهاب قبسٍ} شعلة نار أقتبسها لكم {لعلكم تصطلون} تستدفئون من البرد(1/800)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النار} أَيْ: مَنْ في طلب النَّار وقصدها والمعنى: بورك فيك يا موسى يقال: بورك فلانٌ وبورك له وبورك فيه {ومَنْ حولها} وفيمن حولها من الملائكة وهذا تحيَّةٌ من الله سبحانه لموسى وتكرمةٌ له {وسبحان الله ربِّ العالمين} تنزيهاً لله من السُّوء وقوله:(1/800)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1/800)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{تهتزُّ} أَيْ: تتحرَّك {كأنَّها جانّ} حيَّةٌ خفيفةٌ {ولى مدبراً ولم يعقب} ولم يرجع ولم يلتفت قلنا: {يا موسى لا تخف}(1/800)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
{إلا من ظلم} لكن مَنْ ظلم نفسه {ثمَّ بدَّل حسناً بعد سوء} أَيْ: تاب {فإني غفورٌ رحيم} وقوله:(1/800)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{في تسع آيات} أَيْ: من تسع آيات أنت مرسلٌ بها {إلى فرعون وقومه} وقوله:(1/800)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
{مبصرة} أَيْ: مضيئةً واضحةً(1/800)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} الآية معناها: وجحدوا بها ظلماً وترفُّعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنَّها من عند الله عزَّ وجل(1/801)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المؤمنين}(1/801)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{وورث سليمان داود} نبوَّته وعلمه دون سائر أولاده {وقال: يا أيُّها الناس علِّمنا منطق الطير} فهمنا ما يقوله الطَّير(1/801)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{وحشر} وجُمع {لسليمان جنوده} في مسيرٍ له {فهم يوزعون} يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا(1/801)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{حتى إذا أتوا على واد النمل} كان هذا الوادي بالشَّام وكانت نملة كأمثال الذُّباب {لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده} لا يكسرنَّكم بأن يطؤوكم(1/801)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{فتبسَّم} سليمان عليه السلام لمَّا سمع قولها وتذكَّر ما أنعم الله به عليه فقال: {ربِّ أوزعني} ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي برحمتك في عبادك الصالحين}(1/801)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
{وتفقد الطير} طلبها وبحث عنها {فَقَالَ: مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كان} بل أَكان {من الغائبين} لذلك لم يره(1/801)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{لأعذبنه عذاباً شديداً} لأنتفنَّ ريشه وألقينَّه في الشَّمس {أو ليأتيني بسلطان مبين} حجَّةٍ واضحةٍ في غيبته(1/802)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{فمكث غير بعيدٍ} لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد وقال لسليمان: {أحطتُ بما لم تحط به} علمتُ ما لم تعلمه {وجئتك من سبأ} وهي مدينةٌ باليمن {بنبأ يقين} بخبرٍ لا شكَّ فيه وقوله:(1/802)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{وأوتيت من كلِّ شيء} أَيْ: ممَّا يُعطى الملوك {ولها عرش} سريرٌ {عظيم} وقوله:(1/802)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فهم لا يهتدون}(1/802)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{أن لا يسجدوا} أَيْ: لأنْ لا يسجدوا لله {الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض} القطر من السَّماء والنبات من الأرض وقوله:(1/802)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ العظيم}(1/802)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}(1/802)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{ثمَّ تولَّ عنهم} أَيْ: استأخر غير بعيدٍ {فانظر ماذا يرجعون} ما يردُّون من الجواب فمضى الهدهد وألقى إليها الكتاب ف(1/802)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
{قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتاب كريم} حسنٌ ما فيه ثمَّ بيَّنت ما فيه فقالت:(1/802)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(1/802)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{أن لا تعلوا علي} أَيْ: لا تترفَّعوا عليَّ وإن كنتم ملوكاً {وأتوني مسلمين} طائعين مُنقادين(1/803)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
{قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري} بيِّنوا لي ما أعمل {ما كنت قاطعة} قاضية وفاضلة {أمرا حتى تشهدون} حتى تحضرون أَيْ: لا أقطع أمراً دونكم(1/803)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
{قالوا} مُجيبين لها: {نحن أولو قوَّة} في القتال {وأولو بأس شديد} عند الحرب {والأمر إليك} أيَّتها الملكة {فانظري ماذا تأمرين} نُطِعْك(1/803)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية} عنوةً وغلبةً {أفسدوها} خرَّبوها {وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة} أهانوا أشرافها بها ليستقيم لهم الأمر أشارت إلى أنَّها لو جاءت سليمان محاربة اجتاحت إلى التَّخريب والإِفساد وصدَّقها الله سبحانه في قولها فقال: {وكذلك يفعلون}(1/803)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{وإني مرسلة إليهم بهدية} أُصانعه بها وأختبره أملكٌ هو أم نبيٌّ؟ فإن كان ملكاً قبلها وإن كان نبيا لهم يقبلها {فناظرة بِمَ} بأيِّ شيءٍ {يرجع المرسلون} من عنده(1/803)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
{فلما جاء} البريد أو الرسول {سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} من الدِّين والنُّبوَّة والحكمة {خيرٌ مما آتاكم} من الدُّنيا {بل أنتم بهديتكم تفرحون} لأنَّهم أهل مكاثرة بالدُّنيا ثمَّ قال للرَّسول:(1/803)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ} لا طاقة لهم {بها ولنخرجنَّهم منها} من أرضهم {أذلة} فجاءها الرَّسول وأخبرها بما رأى وشاهد فتجهَّزت للمسير إلى سليمان فلمَّا علم سليمان عليه السَّلام بمسيرها إليه(1/803)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها} سريرها {قبل أن يأتوني مسلمين} لأنَّه حينئذٍ لا يحلُّ أخذ ما في أيديهم(1/804)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} وهو المارد القويُّ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مقامك} من مجلسك الذي جلستَ فيه للحكم {وإني عليه} على حمله {لقويٌّ أمين} على ما فيه من الجواهر فقال سليمان عليه السَّلام: أريد أسرع من هذا ف(1/804)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} وهو آصف بن برخيا وكان قد قرأ كتب الله سبحانه {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طرفك} قبل أن يرجع إليك الشَّخَص من منتهى طرفك {فلما رآه} رأى سليمان عليه السَّلام العرش {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أأشكر} نعمته {أم أكفر} ها {ومَنْ شكر فإنما يشكر لنفسه} لأَنَّ نفع ذلك يعود إليه حيث يستوجب المزيد {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره {كريم} بالإٍفضال على مَنْ يكفر النِّعمة(1/804)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{قال نكروا} غيِّروا لها {عرشها} بتغيير صورته {ننظر أتهتدي} أتعلم أنَّه عرشها فتعرفه(1/804)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هو} شبَّهته به لأنَّه كان مُغيَّراً وأراد سليمان أن يختبر عقلها لأنَّه قيل له: إنَّ في عقلها شيئاً ثمَّ قالت: {وأوتينا العلم} بصحَّة نبوَّة سليمان {من قبلها} من قبل هذه الآية التي رأيتُها في إحضار العرش {وكنا مسلمين} مناقدين له قبل مجيئنا(1/804)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{وصدها} ومنعها عن الإيمان {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كانت من قوم كافرين} فنشأت فيهم ولم تعرف إلاَّ قوماً يعبدون الشَّمس(1/805)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{قيل لها ادخلي الصرح} وذلك أنَّه قيل لسليمان عليه السَّلام: إنَّ قدميها كحافر الحمار فأراد سليمان أن يرى قدميها فاتَّخذ له ساحةً من زجاجٍ تحته الماء والسَّمك وجلس سليمان في صدر الصَّرح وقيل لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماءً وهي معظمه {وكشفت عن ساقيها} لدخول الماء فرأى سليمان قدمها وإذا هي أحسن النَّاس ساقاً وقدماً و {قال} لها: {إنَّه صرح ممرَّد} أملس {من قوارير} ثمَّ إنَّ سليمان عليه السَّلام دعاها إلى الإِسلام فأجابت و {قالت: رب إني ظلمت نفسي} بالكفر {وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين} وقوله:(1/805)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
{فإذا هم فريقان} فإذا قوم صالحٍ فريقان مؤمنٌ وكافرٌ {يختصمون} يقول كلُّ فريقٍ: الحقُّ معي وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح عليه السَّلام العذاب فقال:(1/805)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أَي: لمَ قلتم: إنْ كان ما أتيت به حقاً فأنتا بالعذاب {لولا} هلاَّ {تستغفرون الله} بالتَّوبة من الكفر {لعلكم ترحمون} لكي ترحموا(1/805)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{قالوا اطيرنا بك} تشاءمنا بك {وبمن معك} وذلك إنَّهم قُحطوا بتكذيبهم فقالوا: أصابنا القحط بشؤمك وشؤم أصحابك فقال صالح عليه السَّلام: {طائركم عند الله} أَيْ: ما أصابكم من خيرٍ وشرٍّ فمن الله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشرِّ(1/806)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
{وكان في المدينة} مدينة ثمود {تسعة رهط} كانو عتادة قومِ صالحٍ(1/806)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{قالوا: تقاسموا} احلفوا {بالله لنبيتنَّه وأهله} لنأتينَّ صالحاً ليلا ولنقتلته وأهله {ثم لنقولنَّ} لوليِّ دمه: {ما شهدنا مهلك أهله} ما حضرنا إهلاكهم {وإنا لصادقون} في قولنا(1/806)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
{ومكروا مكراً} لتبييت صالحٍ {ومكرنا مكراً} جازيناهم على ذلك وقوله:(1/806)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
{إنَّا دمرناهم} وذلك أنَّهم لمَّا خرجوا ليلاً لإِهلاك صالحٍ دَمَغتهم الملائكة بالحجارة من حيث لا يرونهم فقتلوهم وقوله: {وقومهم أجمعين} إهلاك قوم ثمود بالصَّيحة(1/806)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{فتلك بيوتهم} مساكنهم {خاوية} ساقطةً خاليةً {بما ظلموا} بكفرهم بالله سبحانه وقوله:(1/806)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}(1/806)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} تعلمون أنَّها فاحشة فهو أعظم لذنوبكم وقوله:(1/806)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
{أإنكم لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أنتم قوم تجهلون}(1/807)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
{إنهم أناس يتطهرون} يتنزهن عن أدبار الرِّجال يقولونه استهزاءً وقوله:(1/807)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
{قدرناها من الغابرين} أَيْ: قضينا عليها أنَّها من الباقين في العذاب(1/807)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{وأمطرنا عليهم} على شُذَّاذهم ومَنْ كان منهم في الأسفار {مطراً} وهو الحجارة(1/807)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
{قل} لهم يا محمد: {الحمد لله} أَيْ: على إهلاك الكفَّار من الأمم الخالية {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} اصطفاهم لرسالته {آلله خير أما يشركون} به من الأصنام وقوله:(1/807)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{حدائق ذات بهجة} أَيْ: بساتين ذات حسنٍ {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أَيْ: ما قدرتم عليه {بل هم قومٌ يعدلون} يشركون(1/807)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{أمن جعل الأرض قراراً} لا تتحرَّك {وجعل خلالها أنهاراً} وسطها أنهاراً جاريةً {وجعل لها رواسي} جبالاً ثوابت {وجعل بين البحرين} العذب والمالح {حاجزاً} مانعاً من قدرته حتى لا يختلطا(1/807)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{أمن يجيب المضطر} المجهود ذا الضرورة {ويكشف السوء} الضُّرَّ {ويجعلكم خلفاء الأرض} سكَّانها بإهلاك من قلبكم(1/807)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مع الله تعالى الله عما يشركون}(1/808)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{ومن يرزقكم من السماء} المطر {و} من {الأرض} النبات وقوله:(1/808)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{قل لا يعلم من في السماوات وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون}(1/808)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{بل ادارك علمهم في الآخرة} أَيْ: لحقهم علمهم بأنَّ السَّاعة والبعث حقٌّ في الآخرة حين لا ينفعهم ذلك ومن قرأ: (إدراك) فمعناه: تدارك أَيْ: تكامل عملهم يوم القيامة لأنَّهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا {بل هم في شك منها} في الدُّنيا {بل هم منها} من علمها {عمون} جاهلون وقوله:(1/808)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون}(1/808)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}(1/808)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين}(1/808)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
{ولا تحزن عليهم} أَيْ: على تكذيبهم وإعراضهم عنك {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} ولا تضيّق قلبك بمكرهم(1/808)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{ويقولون متى هذا الوعد} أَيْ: وعد العذاب {إن كنتم صادقين} أنَّ العذاب نازلٌ بالمكذِّب(1/808)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
{قل عسى أن يكون ردف لكم} أَي: ردفكم والمعنى: تبعكم ودنا منكم {بعض الذي تستعجلون} من العذاب وكان ذلك يوم بدر(1/808)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}(1/809)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يعلنون}(1/809)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{وما من غائبة} أَيْ: جملةٍ غائبةٍ عن الخلق {إلاَّ في كتاب مبين} وهو اللَّوح المحفوظ(1/809)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{إنَّ هذا القرآن يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فيه يختلفون} وذلك أنَّ بني إسرائيل اختلفوا حتى لعن بعضهم بعضاً فقال الله سبحانه: إنَّ هذا القرآن ليقصُّ عليهم الهدى ممَّا اختلفوا فيه لو أخذوا به(1/809)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(1/809)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{إنَّ ربك يقضي بينهم} بين المختلفين في الدِّين {بحكمه} يوم القيامة {وهو العزيز} القويُّ فلا يردُّ له أمرٌ {العليم} بأحوالهم(1/809)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}(1/809)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{إنك لا تسمع الموتى} الكفَّار {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} يعني: الكفَّار الذين هم بمنزلة الصم ولا يسمعون النِّداء إذا أعرضوا(1/809)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} يريد: إنَّه أعمالهم حتى لا يهتدوا فكيف يهدي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضلالتهم قوماً عمياً {إن تُسمع} ما تُسمع سماع إفهام {إِلا مَنْ يؤمن بآياتنا} بأدلَّتنا {فهم مسلمون} في علم الله سبحانه(1/809)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{وإذا وقع القول عليهم} وجب العذاب والسُّخط عليهم وذلك حين لا يقبل الله سبحانه من كافرٍ إيمانه ولم يبق إلاَّ مَنْ يموت كافراً في علم الله سبحانه {أخرجنا لهم دابة من الأرض} وخروجها من أوَّل أشراط القيامة {تكلمهم} تُحدِّثهم بما يسوءهم {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} تخبر الدَّابَّة مَنْ رآها أنَّ أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن لا يوقنون ومَنْ كسر: {إنَّ النَّاس} كان المعنى: تقول لهم: إنَّ الناس(1/809)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{ويوم نحشر} نجمع {من كلِّ أمة فوجاً} جماعةً {ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون} يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا(1/810)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
{حتى إذا جاؤوا قال} الله تعالى لهم: {أكذَّبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً} ولم تعرفوها حقَّ معرفتها وهذا توبيخٌ لهم {أماذا كنتم تعملون} حين لم تتفكَّروا فيها(1/810)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
{ووقع القول} وجبت الحُجَّة {عليهم بما ظلموا} بإشراكهم {فهم لا ينطقون} بحجَّةٍ وعذرٍ ثمَّ ذكر الدَّليل على قدرته وإلهيتَّه سبحانه وتعالى فقال:(1/810)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون} وقوله:(1/810)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{إلا من شاء الله} يعني: الشّهداء {وكلٌّ أتوه} يأتون الله سبحانه {داخرين} صاغرين(1/811)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{وترى الجبال تحسبها جامدة} واقفةً مُستقرَّةً {وهي تمرُّ مرَّ السحاب} وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ عظيمٌ وكلَّ جمع كثيرٌ يقصر عنه الطَّرف لكثرته فهو في حسبان النَّاظر واقفٌ وهو يسير {صنع الله} أَيْ: صنع الله ذلك صنعه {الذي أتقن} أحكم {كلَّ شيء}(1/811)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
{من جاء بالحسنة} وهي كلمة لا إله إلاَّ الله {فله خيرٌ منها} فمنها يصل إليه الخير {ومَنْ جاء بالسيئة} الشِّرك {فَكُبَّت} أُلقيت وطُرحت {وجوههم في النار} وقيل لهم: {هل تجزون إلاَّ ما كنتم} بما كنتم {تعملون}(1/811)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
قل يا محمَّد: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} يعني: مكَّة {الذي حرَّمها} جعلها حرماً آمناً {وله كلُّ شيء} ملكا وخلقا وقوله:(1/811)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أكون من المسلمين}(1/811)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
{وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ: ليس عليَّ إلاَّ البلاغ(1/811)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{وقل الحمد لله سيريكم آياته} أيُّها المشركون يعني: يوم بدر {فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون}(1/811)
طسم (1)
{طسم}(1/812)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{تلك آيات الكتاب المبين} يعني: القرآن وهو مبينٌ للأحكام(1/812)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{نتلو} نقصُّ {عليك من نبأ موسى} خبر موسى {وفرعون بالحق} بالصِّدق الذي لا شكَّ فيه {لقوم يؤمنون} يُصدِّقون أنَّ ما يأتيهم به صدقٌ(1/812)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{إنَّ فرعون علا} استكبر وتعظَّم {في الأرض} أرض مصر {وجعل أهلها شيعاً} فرقاً تتبع بعض تلك الفرق بعضاً في خدمته {يستضعف طائفة منهم} وهم بنو إسرائيل(1/812)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض} ننعم على بني إسرائيل {ونجعلهم أئمّة} قادةً في الخير {ونجعلهم الوارثين} يرثون ملك فرعون وقومه وقوله:(1/812)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{ونمكن لهم في الأرض} أرض مصر والشَّام حتى يغلبوا عليها من غير مُنازعٍ {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يحذرون} وذلك أنَّهم كانوا قد أُخبروا أنَّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجلٍ منهم(1/813)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{وأوحينا إلى أم موسى} قيل: إنَّه وحي إلهام وقيل: وحي إعلام(1/813)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
{فالتقطه} أخذه {آل فرعون} عن الماء {ليكون لهم عدوا وحزنا} أي: ليصبر الأمر إلى ذلك {إنَّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} أَيْ: عاصين آثمين(1/813)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{وقالت امرأة فرعون قرة عين} أَيْ: هو قرَّة عين لي {ولك لا تقتلوه} فإنَّه أتانا به الماء من أرضٍ أخرى وليس هو من بني إسرائيل {وهم لا يشعرون} بما هو كائنٌ من أمرهم وأمره(1/813)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} خالياً عن كلِّ شيء إلاَّ عن ذكر موسى وهمِّه {إن كادت لتبدي به} بأنَّه ابنها {لولا أن ربطنا على قلبها} قوينا وألهمناها الصَّبر {لتكون من المؤمنين} المُصدِّقين بوعد الله سبحانه(1/813)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{وقالت لأخته} لأخت موسى {قصيه} اتَّبعي أثره فاتَّبعته {فبصرت به عن جنب} أبصرته من بعيدٍ {وهم لا يشعرون} أنَّها أخته(1/813)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{وحرمنا عليه المراضع} منعتا موسى أن يقبل ثدي مرضعةٍ {من قبل} أن نردَّه على أُمَّه {فقالت} أخته حين تعذَّر عليهم رضاعة: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} يضمُّونه إليهم {وهم له ناصحون} مخلصون شفقته(1/814)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{فرددناه إلى أمه} وذلك أنَّها دلَّتهم على أمِّ موسى فَدُفِعَ إليها تُربِّيه لهم وقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} آل فرعون كانوا لا يعملون أنَّ الله وعدها ردَّه عليها(1/814)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{ولما بلغ أشدَّه} منتهى قوَّته وهو ما فوق الثَّلاثين {واستوى} وبلغ أربعين سنةً {آتيناه حكماً} عقلاً وفهماً {وعلماً} قبل النُّبوَّة(1/814)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{ودخل المدينة} يعني: مدينةً بأرض مصر {على حين غفلة من أهلها} فيما بين المغرب والعشاء {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أحدهما إسرائيليٌّ وهو الذي من شيعته والآخر قطبي وهو الذي من عدوه {فاستغاثه} الإِسرائيلي على الفرعونيِّ {فوكزه موسى} ضربه بجميع كفِّه {فقضى عليه} فقتله ولم يتعمَّد قتله فندم على ذلك لأنَّه لم يُؤمر بقتله فـ {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مضلٌّ مبين} ثمَّ استغفر فقال:(1/814)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1/814)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{قال رب بما أنعمت عليَّ} بالمغفرة {فلن أكون ظهيراً للمجرمين} لن أُعين بعدها على خطيئة(1/815)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{فأصبح في} تلك {المدينة خائفا} من قتله القطبي {يترقب} ينتظر الأخبار {فإذا} الإسرائيليُّ {الذي استنصره بالأمس يستصرخه} يستغيثه {قال له موسى: إنك لغويٌّ مبين} ظاهر الغواية قد قلت بك بالأمس رجلاً وتدعوني إلى آخر وأقبل إليهما {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عدوٌّ لهما} أَيْ: بالقبطِيِّ فظنَّ الذي من شيعته أنَّه يريده فقال:(1/815)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض} تقتل ظلماً فلمَّا قال الإِسرائيلي هذا علم القبطيِّ بالأمس فأتى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى فأتاه رجلٌ فأخبره بذلك وهو قوله:(1/815)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} وهو مؤمن آل فرعون {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الملأ يأتمرون بك} يأمر بعضهم بعضاً ويتشاورون {ليقتلوك فاخرج} من هذه المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}(1/815)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{فخرج منها خائفاً يترقب} ينتظر الطَّلب {قال: ربّ نجني من القوم الظالمين} قوم فرعون(1/815)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{ولما توجَّه} قصد بوجهه {تلقاء مدين} نحوها {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} قصد الطَّريق وذلك أنَّه لم يكن يعرف الطَّريق(1/816)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
{ولما ورد ماء مدين} وهو بئر كانت لهم {وجد عليه أمة} جماعةً {من الناس يسقون} مواشيهم {ووجد من دُونِهمُ امرأتين تذودان} تحبسان غنمهما عن الماء حتى يصدر مواشي النَّاس {قال} موسى لهما: {ما خطبكما} ؟ ما شأنكما لا تسقيان مع النَّاس؟ {قالتا لا نسقي} مواشينا {حتى يصدر الرعاء} عن الماء لأنا لا نطيق أن نستقي وأن نُزاحم الرِّجال فإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم {وأبونا شيخ كبير} لا يمكنه أن يرد وأن يستقي(1/816)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{فسقى لهما} أغنامهما من بئرٍ أخرى رفع عنها حجراً كان لا يرفعه إلاَّ عشرة أنفس {ثمَّ تولى إلى الظلّ} أَيْ: إلى ظلِّ شجرةٍ {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير} طعامٍ {فقير} محتاجٌ وكان قد جاع فسأل الله تعالى ما يأكل فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بما فعل موسى فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه فذلك قوله:(1/816)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{فجاءته إحداهما} أخذت {تمشي على استحياء} مُستترةً بكُمِّ درعها {قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أخبره بأمره والسَّبب الذي أخرجه من أرضه {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني: من فرعون وقومه فإنَّه لا سلطان له بأرضنا(1/816)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
{قالت إحداهما يا أبت استأجره} ليرعى أغنامنا {إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين} وإنَّما قالت ذلك لأنَّها عرفت قوَّته برفع الحجر من رأس البئر وأمانته بأنَّ موسى قال لها لمَّا دعته إلى أبيها: امشي خلفي فإنَّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النِّساء(1/817)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{قال} عند ذلك الشِّيخ لموسى: {إني أريد أن أنكحك} أزوِّجك {إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجرني} تكون أجيراً لي {ثماني حجج} سنين {فإن أتممت عشراً فمن عندك} وليس بواجبٍ عليك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بأن اشترط العشر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الوافين بالعهد(1/817)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{قال} موسى: {ذلك} الذي وصفت {بيني وبينك} أَيْ: لك ما شرطتَ عليَّ ولي ما شرطتُ من تزويج إحداهما {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ} لا علم عليَّ بأن أُطالب بأكثر منه {والله على ما نقول وكيل} والله شاهدنا على ما عقدنا(1/817)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{فلما قضى موسى الأجل} مفسَّر فيما مضى إلى قوله: {أو جذوة من النار} قطعةٍ وشعلةٍ من النَّار(1/818)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{فلما أتاها نودي من شاطئ} جانب {الواد الأيمن} من يمين موسى {في البقعة} في القطعة من الأرض {المباركة} بتكليم الله سبحانه فيها موسى عليه السَّلام وإتيانه النُّبوَّة {من الشجرة} من جانب الشَّجَرَةِ {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ربُّ العالمين} والباقي مفسَّرٌ فيما سبق إلى قوله:(1/818)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}(1/818)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{واضمم إليك جناحك} أَيْ: يدك {من الرهب} من الخوف والمعنى: سكِّن روعك واخفض عليك جنبيك وذلك أنه كان يرتعد خوفاً {فذانك} اليد والعصا {برهانان من ربك} الآية وقوله:(1/818)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أن يقتلون}(1/818)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
{ردءاً} أَيْ: مُعيناً(1/818)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{قال: سنشدُّ عضدك} أَيْ: نُقوِّيك {بأخيك ونجعل لكما سلطاناً} حُجَّةً بيِّنة {فلا يصلون إليكما} بسوءٍ {بآياتنا} العصا واليد وسائر ما أُعطيا(1/818)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبائنا الأولين}(1/818)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{وقال موسى} لمَّا كُذِّب ونُسب إلى السِّحر: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} يعني: نفسه أَيْ: ربِّي أعلم بي أنَّ الذي جئتُ به مِنْ عِنْدِهِ {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أَيْ: العقبى المحمودة في الدَّار الآخرة وقوله:(1/819)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{فأوقد لي يا هامان على الطين} أَيْ: اطبخ لي الآجر {فاجعل لي صرحاً} بناء طويلاً مشرفاً {لعلي أطلع إلى إله موسى} أنظر إليه وأقف عليه وقوله:(1/819)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}(1/819)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كان عاقبة الظالمين}(1/819)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{وجعلناهم أئمة} قادةً ورؤساء {يدعون إلى النار} أي: إلى الضَّلالة التي عاقبتها النَّار(1/819)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً} وذلك أنَّهم لمَّا هلكوا لُعنوا فهم يُعرضون على النار غدوةً وعشيةً إلى يوم القيامة {ويوم القيامة هم من المقبوحين} الممقوتين المهلكين(1/819)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لعلهم يتذكرون} أَيْ: مبيِّناً لهم(1/820)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{وما كنت بجانب الغربيّ} أَيْ: الجبل الغربيّ الذي هو في جانب الغرب {إذ قضينا إلى موسى الأمر} أحكمناه معه وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا {وما كنت من الشاهدين} الحاضرين هناك(1/820)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{ولكنا أنشأنا} أحدثنا وخلقنا {قروناً} أمماً {فتطاول عليهم العمر} فنسوا عهد الله وتركوا أمره {وما كنت ثاوياً} مُقيماً {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كنا مرسلين} أرسلناك رسولاً وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما عملتها(1/820)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} موسى {ولكن} أوحينا إليك هذه القصص {رحمة من ربك}(1/820)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{ولولا أن تصيبهم مصيبة} عقوبةٌ ونقمةٌ {بما قدَّمت أيديهم} وجواب لولا محذوف وتقديره: لعاجلناهم بالعقوبة(1/820)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{فلما جاءهم الحق} محمد صلى الله عليه وسلم {من عندنا قالوا: لولا أوتي} محمد {مثل ما أوتي موسى} كتاباً جملةً واحدةً {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أَيْ: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم و {قالوا سحران تظاهرا} وذلك حين سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنَّهم يجدونه في كتابهم بنعمته وصفته وقالوا: ساحران تظاهرا يعنون: موسى ومحمداً عليهما السَّلام تعاونا على السِّحر {وقالوا إنَّا بكلٍّ} من موسى ومحمدٍ عليهما السَّلام {كافرون}(1/820)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{قل} لهم: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى منهما} من كتابيهما {أتبعه أن كنتم صادقين} أَنَّهما كانا ساحرين(1/821)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
{فإن لم يستجيبوا لك} أَيْ: لم يجيبوك إلى الإيتان بالكتاب {فاعلم أنَّما يتبعون أهواءهم} أَيْ: يُؤثرون هواهم على الدِّين(1/821)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{ولقد وصلنا لهم القول} أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً {لعلهم يتذكرون} يتَّعظون ويعتبرون(1/821)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
{الذين آتيناهم الكتاب من قبله} من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {هم به يؤمنون} يعني: مؤمني أهل الكتاب(1/821)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{وإذا يُتلى عليهم} القرآن {قالوا آمنا به} صدَّقنا به {إنَّه الحقُّ من ربنا} ذلك أنَّهم عرفوا بما ذُكر في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه {إنَّا كنا من قبله} من قبل القرآن أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {مسلمين} لأنَّا كنَّا نؤمن به وبكتابه(1/821)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{أولئك يؤتون أجرهم مرتين} مرَّةً بإيمانهم بكتابهم ومرَّةً بإيمانهم بالقرآن {بما صبروا} بصبرهم على ما أُوذوا {ويدرؤون بالحسنة السيئةَ} ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدَّم لهم من السَّيئات {ومما رزقناهم ينفقون} يتصدَّقون(1/822)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{وإذا سمعوا اللغو} القبيح من القول {أعرضوا عنه} لم يلتفتوا إليه يعني: إذا شتمهم الكفَّار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشَّتم {وَقَالُوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} ليس هذا تسليم التحيَّة وإنَّما هو تسليم المتاركة أي: بينا وبينكم المتاركة والتَّسليم وهذا قبل أن يُؤمر المسلمون بالقتال {لا نبتغي الجاهلين} لا نصحبهم(1/822)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{إنك لا تهدي مَنْ أحببت} نزلت حين حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمِّه عند موته فلم يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى: لا تهدي مَنْ أحببت هدايته {ولكنَّ الله يهدي من يشاء} هدايته {وهو أعلم بالمهتدين} بمن يهتدي في معلومه(1/822)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{وقالوا} يعني: مشركي مكَّة: {إن نتبع الهدى معك} بالإِيمان بك {نُتخطف} نُسلب ونوخذ {من أرضنا} لإِجماع العرب على خلافنا فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} أخبر سبحانه أنَّه آمنهم بحرمة البيت ومنع منهم العدوَّ فكيف يخافون أن تستحل العرب قتالهم فيه؟ {يجبى} يُجمع {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنَّ ذلك ممَّا تفضَّل الله به سبحانه عليهم(1/822)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} عاشوا في البطر وكفران النِّعمة {فتلك مساكنهم} خاويةً {لم تسكن من بعدهم إلاَّ قليلاً} لا يسكنها إلاَّ المسافر والمارُّ يوماً أو ساعةً(1/823)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أمها} أعظمها والآية(1/823)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تعقلون}(1/823)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{أفمن وعدناه وعداً حسناً} يعني: الجنَّة {فهو لاقيه} مُدركه ومُصيبه {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المحضرين} في النَّار نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل(1/823)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
{ويوم يناديهم} أَيْ: المشركين {فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدُّنيا أنَّهم شركائي(1/823)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{قال الذين حقَّ عليهم القول} وجب عليهم العذاب يعني: الشَّياطين {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} كعادة الشَّيطان في التَّبَرُّؤِ ممَّن يطيعه إذا أورده الهلكة(1/823)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
{وقيل} للكفَّار: {ادعوا شركاءَكم} مَنْ كنتم تعبدون من دون الله {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} لم يجيبوهم بشيءٍ ينفعهم {ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} لما اتَّبعوهم ولما رأوا العذاب(1/823)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}(1/824)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{فَعَمِيَتْ عليهم الأنباء} عميت عليهم الحجج لأنَّ الله تعالى قد أعذر إليهم في الدُّنيا فلا تكون لهم حجة يؤمئذ فسكتوا فذلك قوله: {فهم لا يتساءلون} أَيْ: لا يسأل بعضهم بعضا عم يحتجُّون به(1/824)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{وربك يخلق ما يشاء} كما يشاء {ويختار} ممَّا يشاء فاختار من كلِّ ما خلق شيئاً {ما كان لهم الخيرة} ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى وليس لهم الاختيار والمعنى: لا يرسل الرُّسل إليهم على اختيارهم والباقي ظاهرٌ إلى قوله:(1/824)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1/824)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}(1/824)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ ترجعون}(1/824)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}(1/824)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}(1/824)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}(1/824)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمون}(1/824)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{ونزعنا من كلِّ أمة} أَيْ: أخرجنا {شهيداً} يعني: رسولهم الذي أُرسل إليهم {فقلنا هاتوا برهانكم} أَيْ: اعتقدتم به أنّه برهانٌ لم في أنَّكم كنتم على الحقِّ {فعلموا أنَّ الحق لله} أنَّ الحقَّ ما دعا إليه الله سبحانه وأتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} لم ينتفعوا بما عبدوه من دون الله سبحانه(1/824)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{إنَّ قارون كان من قوم موسى} كان ابن عمِّه {فبغى عليهم} بالكبر والتجبُّر والبذخ وكثرة المال {وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه} جمع المفتح وهو ما يُفتح به {لتنوء بالعصبة} تُثقل الجماعة {أُولِي الْقُوَّةِ} {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تفرح} بكثرة الماء ولا تأشر {إنَّ الله لا يحبُّ الفرحين} الأشرين البطرين(1/825)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} أَيْ: اطلبها بإنفاق مالك في رضا الله تعالى {ولا تنس نصيبك من الدنيا} لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك {وأحسن} إلى الناس {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ في الأرض} العمل بالمعاصي(1/825)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{قال إنما أوتيته على علم عندي} عل فضل علمٍ عندي وكنت بذلك العلم مستحقا لفضل المال وكان أقرأ بني إسرائيل للتَّوراة قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قوة وأكثر جمعاً} للمال منه {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} لأنَّهم يدخلون النَّار بغير حسابٍ(1/825)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{فخرج على قومه في زينته} في ثيابٍ حمرٍ عليه وعلى دوابِّه والرُّكبان الذين معه {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ظاهرٌ إلى قوله:(1/825)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{ولا يلقاها} أَيْ: ولا يُلقَّن ولا يُوفَّق لهذه الكلمة {إلاَّ الصابرون} عن زينة الدنيا(1/826)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}(1/826)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} صار الذين كانوا يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ {يقولون ويكأنَّ الله} ألم تر ألم تعلم أن {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} يوسع لمن يشاء ويُضيِّق {لولا أنْ منَّ الله علينا} عصمنا عن مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي {لخسف بنا} كما خُسف به(1/826)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{تلك الدار الآخرة} يعني: الجنَّة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض} تكبُّراً وتجبُّراً فيها {ولا فساد} عملاً بالمعاصي وأخذاً للمال بغير حقٍّ {والعاقبة} المحمودة {للمتقين}(1/826)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا ما كانوا يعملون}(1/826)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{إن الذي فرض عليك القرآن} أنزله وقيل: فرض عليك العمل بما في القرآن {لرادُّك إلى معاد} إلى مكَّة ظاهراً عليها وذلك حين اشتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مولده(1/826)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إلاَّ رحمة من ربك} لكن رحمك ربُّك فاختارك للنُّبوَّة وأنزل عليك الوحي(1/827)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أنزلت إليك} وهذا حين دُعي إلى دين آبائه وقوله:(1/827)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{كل شيء هالك إلاَّ وجهه} أَيْ: إلاَّ إيَّاه {له الحكم} يحكم بما يريد {وإليه ترجعون}(1/826)
الم (1)
{الم}(1/828)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{أحسب الناس أن يتركوا} الآية نزلت في الذين جزعوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين معناه أحسبوا أن يُقنع منهم بأن يقولوا: إنَّا مؤمنون فقط ولا يُمتحنون بما يُبيِّن حقيقة إيمانهم(1/828)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{ولقد فتنا الذين من قبلهم} اختبرنا وابتلينا {فليعلمنَّ الله} صِدقَ {الذين صدقوا} في قولهم: آمنَّا بوقوعه منهم وهو الصَّبر على البلاء {وليعلمنَّ} كذب {الكاذبين} في قولهم: آمنَّا بارتدادهم إلى الكفر عن الدِّين عند البلاء ومعنى العلم ها هنا العلم به موجوداً كائناً(1/828)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
{أم حسب الذين يعملون السيئات} الشِّرك {أن يسبقونا} يفوتونا {ساء ما يحكمون} بئس حكما يحكمون لأنفسهم بهذا الظَّنِّ(1/828)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{من كان يرجو لقاء الله} يخشى البعث {فإنَّ أجل الله} وعده بالثَّواب والعقاب {لات} لكائن وقوله:(1/829)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لغني عن العالمين}(1/829)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
{ولنجزينَّهم أحسن الذي كانوا يعملون} أَيْ: بأحسن أعمالهم وهو الطَّاعة(1/829)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{ووصينا الإِنسان بوالديه حسناً} أمرناه أن يُحسن إليهما {وإن جاهداك} اجتهدا عليك {لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أنَّه لي شريك {فلا تطعهما} أُنزلت في سعد بن أبي وقَّاص لمَّا أسلم حلفت أمُّه أن لا تأكل ولا تشرب ولا يظلُّها سقف بيت حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجع إلى ما كان عليه فأُمر أن يترضَّاها ويُحسن إليها ولا يُطيعها في الشِّرك وقوله:(1/829)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{لندخلنَّهم في الصالحين} أَيْ: في زمرتهم وجملتهم ومعناه: لنحشرنَّهم معهم وقوله:(1/829)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{جعل فتنة الناس} أَيْ: أذاهم وعذابهم {كعذاب الله} جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذيَّة في الله {ولئن جاء} المؤمنين {نصرٌ من ربك ليقولنَّ} هؤلاء الذين ارتدُّوا حين أُوذوا: {إنا كنَّا معكم} وهم كاذبون فقال الله تعالى: {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} يعني: إنَّه عالم بإيمان المؤمن وكفر الكافر(1/829)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
{وليعلمنَّ الله الذين آمنوا وليعلمنَّ المنافقين} هذا إخبارٌ عن الله تعالى أنَّه يعلم إيمان المؤمن وكفر المنافق(1/830)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{وقال الذين كفروا} من أهل مكَّة {للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا} الطَّريق الذي نسلكه ي ديننا {ولنحمل خطاياكم} أَيْ: إن كان فيه إثمٌ فنحن نحمله قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خطاياهم من شيء} يخفِّف عنهم العذاب {إنهم لكاذبون} في قولهم لأنَّهم في القيامة لا يحملون عنهم خطاياهم ثمَّ أعلم الله عز وجل أنَّهم يحملون أوزار أنفسهم وأثقالاً أخرى بسبب إضلالهم مع أثقال أنفسهم لأنَّ مَنْ دعا إلى ضلالةٍ فاتُّبع فعليه مثل أوزار الذين اتَّبعوه ثمَّ ذكر أنَّه يُوبِّخهم على ما قالوا فقال: {وليسألنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون} أي: سؤال توبيخ وقوله:(1/830)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عما كانوا يفترون}(1/830)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}(1/830)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين}(1/830)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}(1/830)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{وتخلقون إفكاً} أَيْ: تقولون كذبا: إن الأوثان شركاه الله وقوله:(1/830)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وما على الرسول إلا البلاغ المبين}(1/830)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يعيده} كما بدأ وليس المعنى: على أو لم يروا كيف يعيده لأنَّهم لم يروا الإِعادة(1/831)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} يعني: الأمم الماضية كيف قدر الله سبحانه على خلقهم ابتداءً {ثمَّ الله ينشئ النشأة الآخرة} أيْ: يبعثهم ثانية بإنشائه إيلهم(1/831)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تقلبون}(1/831)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السماء} لو كنتم فيها ثمَّ عاد الكلام إلى قصَّة إبراهيم عليه السَّلام فقال:(1/831)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم}(1/831)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
{فما كان جواب قومه} حين دعاهم إلى الله سبحانه {إلاَّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه} الآية(1/831)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{وقال} لهم إبراهيم: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بينكم} أَيْ: ليتوادُّوا بها فهي مودَّة بينكم ما دمتم في هذه الدنيا تنقطع ولا تنفع في الآخرة وهو قوله تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} تتبرَّأُ الأوثان من عابديها وقوله تعالى:(1/831)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{فآمن له لوط} هو أوَّل مَنْ آمن بإبراهيم عليه السَّلام {وقال إني مهاجر إلى ربي} هاجر من سواد الكوفة إلى الشَّام(1/832)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{وآتيناه أجره في الدنيا} قيل: هو الذِّكر الحسن وقيل: هو الوالد الصالح(1/832)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}(1/832)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{وتقطعون السبيل} أَيْ: سبيل الولد وقيل: يأخذون النَّاس من الطُّرق لطلب الفاحشة {وتأتون في ناديكم} مجلسكم {المنكر} كان بعضهم يُجامع بعضاً في مجالسهم {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنًّه نازلٌ بنا وقوله:(1/832)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
{قال رب انصرني على القوم المفسدين}(1/832)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}(1/832)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ من الغابرين}(1/832)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ من الغابرين}(1/832)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}(1/832)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{ولقد تركنا منها} من قرية قوم لوط {آية بينة} عبرةً ظاهرةً وهي خرابها وآثارها وقوله:(1/832)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(1/832)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}(1/833)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{وكانوا مستبصرين} أَيْ: في ضلالتهم معجبين بها وقيل: حسبوا أنَّهم على الهدى وهم على الباطل وقيل: أتوا ما أتوه وقد بيِّن لهم أنَّ عاقبته العذاب(1/833)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}(1/833)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{فكلاً} من الكفَّار {أخذنا} عاقبنا {بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} وهم قوم لوط {ومنهم من أخذته الصيحة} قوم ثمود {ومنهم مَنْ خسفنا به الأرض} قارون وقومه {ومنهم من أغرقنا} قوم نوح وفرعون {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} لأنَّه قد بيَّن لهم بإرسال الرَّسول {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بكفرهم(1/833)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: الأصنام في قلَّة غنائها عنهم {كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} لا يدفع عنها حراً ولا برداً {وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت} وذلك أنَّه لا بيت أضعف منه فيما يتَّخذه الهوامُّ {لو كانوا يعلمون} موضعَه عند قوله: مثلُ الذين اتخذوا من دونه أولياء لو كانوا يعملون كمثل العنكبوت فهو مؤخَّر معناه التقديم وقوله:(1/833)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1/833)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا العالمون}(1/833)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{خلق الله السماوات وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}(1/833)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يعني: إنَّ في الصَّلاة منهاةً ومزدجراً عن معاصي الله تعالى فمن لم تنهه صلاته عن المنكر فليست صلاته بصلاةٍ {ولذكر الله أكبر} من كلِّ شيء في الدُّنيا وأفضل(1/834)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} وهو الجميل من القول بالدُّعاء إلى الله عزَّ وجل والتَّنبيه على الحجج {إلاَّ الذين ظلموا منهم} أَيْ: إلاَّ الذين ظلموكم بالقتال ومنع الجزية(1/834)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{وكذلك} أَيْ: وكما آتيناهم الكتاب {أنزلنا إليك الكتاب فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يؤمنون به} بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني: مَنْ كانوا قبل عصره كانوا يؤمنون به لما يجدونه من نعته في كتابهم {ومن هؤلاء} الذين هو بين ظهرانيهم {مَنْ يؤمن به}(1/834)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{وما كنت تتلو من قبله} من قبل الكتاب الذي أنزلناه إليك {من كتابٍ ولا تخطُّه} ولا تكتبه {بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} لشكُّوا فيك واتَّهموك لو كنت تكتب وأراد بالمبطلين كفَّار قريش يعني: لقالوا: إنَّه كتبه وتعلَّمه من كتاب(1/834)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{بل هو} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم والعلم بأنَّه أُمِّيٌّ {آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} من أهل الكتاب قرؤوها من التَّوراة وحفظوها(1/834)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} كما أُنزل على مَنْ قبله من الأنبياء {قل إنما الآيات عند الله} إذا شاء أرسلها وليست بيدي(1/835)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} يشهد على صدقي وعلى تكذيبكم وقوله:(1/835)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ ما في السماوات وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هم الخاسرون}(1/835)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}(1/835)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
{يستعجلونك بالعذاب وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين}(1/835)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{ويقول: ذوقوا ما كنتم تعملون} أَيْ: جزاءه من العذاب(1/835)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} نزلت في حثِّ مَنْ كانوا بمكَّة لا يقدرون على إظهار دينهم على الهجرة(1/835)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
{كل نفس ذائقة الموت} أينما كانت فلا تُقيموا بدار الشِّرك وقوله:(1/835)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ من الجنة غرفاً} أَيْ: ولننزلنَّهم منها قصوراً(1/835)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}(1/835)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{وكأين} وكم {من دابَّة لا تحمل رزقها} فتخبئه لغدٍ {الله يرزقها} يوماً بيوم {وإياكم} وذلك أنَّ الذين كانوا بمكَّة من المؤمنين إذا قيل لهم اخرجوا إلى المدينة قالوا: فمَنْ يُطعمنا بها ولا مال لنا هناك فأنزل الله تعالى: {الله يرزقها وإياكم}(1/835)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
{ولئن سالتهم من خلق السماوات وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يؤفكون}(1/836)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
{الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1/836)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قل الحمد لله} على إنزاله الماء لإِحياء الأرض {بل أكثرهم لا يعقلون} العقل الذي يعرفون به الحقَّ من الباطل(1/836)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} لنفادها عن قريب {وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان} الحياة الدَّائمة {لو كانوا يعلمون} أنَّها كذلك ولكنَّهم لا يعلمون(1/836)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{فإذا ركبوا في الفلك} وخافوا الغرق {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(1/836)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{ليكفروا بما آتيناهم} أَيْ: ليجحدوا بما أنعمنا عليهم من إنجائهم والظَّاهر أنَّ هذا لام الأمر أمر التَّهديد ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وليتمتعوا فسوف يعلمون}(1/836)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{أَوَلَمْ يروا} يعني: أهل مكَّة {أنا جعلنا حرماً آمناً} ذا أمنٍ لا يُغار على أهله {ويتخطف الناس من حولهم} بالقتل والنَّهب والسَّبي {أفبالباطل يؤمنون} يعني: الأصنام {وبنعمة الله} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن {يكفرون}(1/836)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جهنَّم مثوى للكافرين}(1/836)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{والذين جاهدوا فينا} أعداء الدِّين والكفَّار {لنهدينَّهم سبلنا} سبل الشًّهادة والمغفرة: وقيل: من اجتهد في عملٍ لله زاده الله تعالى هدىً على هدايته {وإنَّ الله لمع المحسنين} بنصره إيَّاهم(1/837)
الم (1)
{الم}(1/838)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
{غلبت الروم} غلبتها فارس {في أدنى الأرض} أدنى أرض الشَّام من أرض العرب وفارس وهي أذرعات وعسكر {وهم} والرُّوم {من بعد غلبهم} غلبة فارس إيَّاهم {سيغلبون} فارس(1/838)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{في بضع سنين} البضع: ما بين الثّلاث إلى التِّسع {لله الأمر من قبل} من قبل أن تغلب الرُّوم {ومن بعد} ما غلبت {ويومئذٍ يفرح المؤمنون} يوم تغلب الرُّومُ فارسَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {بِنَصْرِ اللَّهِ} الرُّوم لأنَّهم أهل كتاب فهم أقرب إلى المؤمنين وفارس مجوس فكانوا أقرب إلى المشركين فالمؤمنون يفرحون بنصر الله الرُّوم على فارس والمشركون يحزنون لذلك(1/838)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}(1/839)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
{بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}(1/839)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وعد الله} وعد ذلك وعداً {ولكنَّ أكثر الناس} يعني: مشركي مكَّة {لا يعلمون} ذلك ثمَّ بيَّن مقدار ما يعلمون فقال:(1/839)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} يعني: أمر معاشهم وذلك أنَّهم كانوا أهل تجارة وتكسب بها(1/839)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{أولم يتفكروا في أنفسهم} فيعلموا {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق} أَيْ: للحقِّ وهو الدّلالة على توحيده وقدرته {وأجل مسمى} ووقتٍ معلومٍ تفنى عنده يعني: يوم القيامة وقوله:(1/839)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{وأثاروا الأرض} أَيْ: قلبوها للزِّراعة {وعمروها أكثر مما عمروها} يعني: إنَّ الذين أُهلكوا من الأمم الخالية كانوا أكثر حرثاَ وعمارةً من أهل مكَّة(1/839)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ثم كان عاقبة الذين أساؤوا} أشركوا {السوأى} النَّار {أن كذَّبوا} بأن كذَّبوا وقوله:(1/839)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ ترجعون}(1/839)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
{يبلس المجرمون} أَيْ: يسكتون لانقطاع حجَّتهم وليأسهم من الرَّحمة(1/839)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
{ولم يكن لهم من شركائهم} أوثانهم التي عبدوها رجاء الشَّفاعة {شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين} قالوا: ما عبدتمونا وقوله:(1/840)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{يومئذ يتفرَّقون} يعني: المؤمنين والكافرين ثمَّ بيَّن كيف ذلك التفرق فقال:(1/840)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي روضة يحبرون} أَي: يسمعون في الجنَّة(1/840)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فأولئك في العذاب محضرون}(1/840)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
{فسبحان الله} فصلُّوا لله سبحانه {حين تمسون} يعني: صلاة المغرب والعشاء الآخرة {وحين تصبحون} صلاة الفجر {وعشياً} يعني: صلاة العصر {وحين تظهرون} يعني: صلاة الظهر(1/840)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{وله الحمد في السماوات وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}(1/840)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}(1/840)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{ومن آياته أن خلقكم من تراب} يعني: أباكم آدم {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} يعني: ذريته(1/840)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من جنسكم {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} يعني: الأُلفة بين الزَّوجين(1/840)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} وأنتم بنو رجلٍ واحدٍ وامرأةٍ واحدةٍ(1/840)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فضله} أَي: اللَّيل لتناموا فيه والنَّهار لتبتغوا فيه من فضله(1/841)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
{ومن آياته يريكم البرق خوفاً} للمسافر {وطمعاً} للحاضر وقوله:(1/841)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أنتم تخرجون} ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض هكذا تقدير الآية على التَّقديم والتأخير وقوله:(1/841)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{كلٌّ له قانتون} أَيْ: مُطيعون لا طاعة العبادة ولكن طاعة الإرادة خلقهم على ما أراد فكانوا على ما أراد لا يقدر أحدٌ أن يتغيَّر عمَّا خُلق عليه وقوله:(1/841)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{وهو أهون عليه} أَيْ: هيِّنٌ عليه وقيل: هو أهون عليه عندكم وفيما بينكم لأَنَّ الإِعادة عندنا أيسر من الابتداء {وله المثل الأعلى} الصِّفة العليا وهو أنَّه لا إله إلاَّ هو ولا ربَّ غيره(1/841)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{ضرب لكم مثلاً} بيَّن لكم شبهاً في اتِّخاذكم الأصنام شركاء مع الله سبحانه {من أنفسكم} ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والإماء {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من المال والولد أّيْ: هل يشاركونكم فيما أعطاكم الله سبحانه حتى تكونوا أنتم وهم {فيه سواء تخافونهم} أن يرثوكم كما يخاف بعضكم بعضاً أن يرثه ماله والمعنى: كما لا يكون هذا فكيف يكون ما هو مخلوقٌ لله تعالى مثلَه حتى يُعبد كعبادته؟ فلمَّا لزمتهم الحجَّة بهذا ذكر أنَّهم يعبدونها باتَّباع الهوى فقال: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم} في عبادة الأصنام(1/841)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ من ناصرين}(1/842)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{فأقم وجهك للدين حنيفاً} أَيْ: أقبل عليه ولا تُعرض عنه {فطرة الله} أي: اتَّبع فطرة الله أَيْ: خِلقة الله التي خلق النَّاس عليها وذلك أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على ما فطره الله عليه من أنَّه لا ربَّ له غيره كما أقرَّ له لمَّا أُخرج من ظهر آدم عليه السَّلام {لا تبديل لخلق الله} لم يبدَّلِ الله سبحانه دينه فدينُه أنَّه لا ربَّ غيره {ذلك الدين القيم} المستقيم(1/842)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{منيبين إليه} راجعين إلى ما أمر به وهو حالٌ من قوله: {فأقم وجهك} والمعنى: فأقيموا وجوهكم لأنَّ أمره أمرٌ لأمته وقوله:(1/842)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} مفسَّرٌ في سورة الأنعام {كلُّ حزب} كلُّ جماعةٍ من الذين فارقوا دينهم {بما لديهم فرحون} أَيْ: يظنون أنَّهم على الهدى ثمَّ ذكر أنَّهم مع شركهم لا يلتجئون في الشَّدائد إلى الأصنام فقال:(1/842)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إليه} الآية وقوله:(1/843)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{ليكفروا بما آتيناهم} مفسَّرٌ في سورة العنكبوت إلى قوله:(1/843)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
{أم أنزلنا} أَيْ: أَأنزلنا {عليهم سلطاناً} كتاباً {فهو يتكلَّم بما كانوا به يشركون} ينطق بعذرهم في الإِشراك(1/843)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{وإذا أذقْنا الناس رحمة فرحوا بها} الآية هذا من صفة الكافر يبطر عند النِّعمة ويقنط عند الشدة ولا يشكر في الأُولى ولا يحتسب في الثانية(1/843)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون}(1/843)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هم المفلحون}(1/843)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس} يعني: ما يعطونه من الهدية ليأخذوا أكثر منها وهو من الرِّبا الحلال {فلا يربو عند الله} لأنَّكم لم تريدوا بذلك وجه الله وقوله: {فأولئك هم المضعفون} أصحاب الإِضعاف يُضَاعِفُ لهم بالواحدة عشراً(1/843)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون}(1/843)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ظهر الفساد} القحط وذهاب البركة {في البر} القفار {والبحر} القرى والرِّيف {بما كسبت أيدي الناس} بشؤم ذنوبهم {ليذيقهم بعض الذي عملوا} كان ذلك لِيُذَاقوا الشِّدَّة بذنوبهم في العاجل(1/844)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}(1/844)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يأتي يومٌ} القيامةُ فلا ينفع نفساً إيمانها {يومئذٍ يصدَّعون} يتفرَّقون فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير(1/844)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{مَنْ كفر فعليه كفره} أي: وبال كفره وعذابه {ومَنْ عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون} يفرشون ويسؤون المضاجع والمعنى: لأنفسهم يبغون الخير(1/844)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} بالمطر {وليذيقكم من رحمته} نعمته بالمطر يُرسلها {ولتجري الفلك بأمره} وذلك أنَّها تجري بالرِّياح {ولتبتغوا من فضله} بالتِّجارة في البحر وقوله:(1/844)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فضله ولعلكم تشكرون}(1/844)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{فانتقمنا من الذين أجرموا} أَيْ: عاقبنا الذين اشركوا {وكان حقاً عليناً نصر المؤمنين} في العاقبة وكذلك ننصرك في العاقبة على مَنْ عاداك(1/844)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
{الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} تُزعجها وتُخرجها من أماكنها {فيبسطه} الله {في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً} قطعاً يريد أنَّه مرَّةً يبسطه ومرَّةً يقطعه {فترى الودق} المطر {يخرج من خلاله} وسطه وشقوقه {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} بالودق {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده إذا هم يستبشرون} يفرحون(1/844)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} المطر {من قبله} كرَّر من قبل التأكيد {لمبلسين} آيسين(1/845)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{فانظر إلى آثار رحمة الله} يعني: آثار المطر الذي هو رحمة الله تعالى {كيف يحيي الأرض} جعلها تنبت {بعد موتها} يبسطها {إنَّ ذلك} الذي فعل ذلك وهو الله عزَّ وجل {لمحيي الموتى}(1/845)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً} رأوا النَّبت قد اصفرَّ وجفَّ {لظلُّوا من بعده يكفرون} يريد: إنَّ الكفَّار يستبشرون بالغيث فإذا جفَّ النَّبت ولم يحتاجوا إلى الغيث ظلوا يكفوا بنعمة الله عز وجل فلم يؤمنوا ولم يشكروا إنعامه بالمطر(1/845)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
{فإنك لا تسمع الموتى} مضت الاية في سورة الأنبياء والتي بعدها في سورة النمل(1/845)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{وما أنت بهاد الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}(1/845)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
{الله الذي خلقكم من ضعف} من نطفةٍ الآية(1/845)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون} يحلف الكافرون {ما لبثوا} في قبورهم {غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} أَيْ: كذَّبوا في هذا الوقت كما كانوا يُكذِّبون في الدُّنيا(1/845)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كتاب الله} أَيْ: فيما بيَّن في كتابه وهو اللوح المحفوظ {يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} أنَّه يكون وقوله:(1/846)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{ولا هم يستعتبون} أَيْ: لا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله سبحانه(1/846)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل} بيَّنا لهم الأمثال للاعتبار {ولئن جئتهم بآية} لهم فيها بيانٌ واعتبارٌ {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} ما أنتم إلاَّ أصحاب الأباطيل(1/846)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
{كذلك} كما طبع الله على قلوبهم حتى لم يفهموا {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أدلَّة التَّوحيد(1/846)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{فاصبر إنَّ وعد الله} في نصرك وتمكينك {حق ولا يستخفنَّك} لا يستفزنَّك عن دينك {الذين لا يوقنون} أي: الضُّلال الشَّاكُّون(1/846)
الم (1)
{الم}(1/847)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}(1/847)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}(1/847)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هم يوقنون}(1/847)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون}(1/847)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{ومن الناس من يشتري لهو الحديث} يعني: النَّضر بن الحارث كان يخرج تاجراً إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم ثمَّ يأتي بها فيقرؤها في أندية قريش فيستملحونها ويتركون استماع القرآن وقوله: {ويتخذها هزواً} أَيْ: يتَّخذ آيات الكتاب هزوا وقوله:(1/847)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بعذاب أليم}(1/847)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم}(1/847)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم}(1/847)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{خلق السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}(1/847)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(1/847)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أَيْ: وقلنا له: أن اشكر الله وقوله:(1/848)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيم}(1/848)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{حملته أمه وهناً على وهن} أَيْ: لزمها بحملها إيَّاه أن تضعف مرَّةً بعد مرَّةً {وفصاله} وفطامه {في عامين} لأنَّها ترضع الولد عامين {أن اشكر لي ولوالديك} المعنى: وصَّينا الإِنسان أن اشكر لي ولوالديك(1/848)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{وإن جاهداك} مُفسَّرٌ فيما مضى وقوله: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} أَيْ: مُصَاحَباً معروفاً وهو المستحسن {واتبع سبيل من أناب} رجع {إليَّ} يعني: اسلك سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد مرَّ(1/848)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{يا بني إنها إن تك مثقال} رُوي أنَّ ابنه قال له: إنْ علمت بالخطيئة حيث لا يراني أحدٌ كيف يعلمها الله عزوجل؟ فقال: {إنها} أي: الخطيئة {إن تك مثقال حبة من خردل} أو: السَّيِّئة ثمَّ كانت {في صخرة} أي: ي أخفى مكان {أو في السماوات أو في الأرض} أينما كانت أتى الله بها ولن تخفى عليه ومعنى {يأت بها الله} أَيْ: للجزاء عليها {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} باستخراجها {خبير} بمكانها وقوله:(1/848)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{إنَّ ذلك من عزم الأمور} أي: الأمور الواجبة(1/849)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{ولا تصعر خدِّك للناس} لا تُعرض عنهم تكبُّراً {ولا تمش في الأرض مرحاً} مُتَبختراً مختالاً(1/849)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{واقصد في مشيك} ليكن مشيك قصداً لا بِخُيلاء ولا بإسراع {واغضض} واخفض {من صوتك إنَّ أنكر الأصوات} أقبحها {لصوت الحمير}(1/849)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السماوات} من الشَّمس والقمر والنُّجوم لتنتفعوا بها {وما في الأرض} ومن البحار والأنهار والدَّوابِّ {وأسبغ} وأوسعَ وأتمَّ {عليكم نعمة ظاهرة} وهي حسن الصُّورة وامتداد القامة {وباطنة} وهي المعرفة والباقي قد مضى تفسيره إلى قوله تعالى:(1/849)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
{أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} أَيْ: موجباته فيتَّبعونه(1/849)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{ومن يسلم وجهه إلى الله} يُقبل على طاعته وأوامره {وهو محسن} مؤمنٌ موحِّدٌ {فقد استمسك بالعروة الوثقى} بالطَّرفِ الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه {وإلى الله عاقبة الأمور} مرجعها(1/849)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}(1/849)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{نمتعهم قليلاً} بالدُّنيا {ثمَّ نضطرهم} نُلجئهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}(1/849)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله} الذي خلقها {بل أكثرهم لا يعلمون} إذ أشركوا به بعد إقرارهم بأنه خالقها(1/850)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
{لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد}(1/850)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية وذلك أنَّ المشركين قالوا في القرآن: هذا كلام سيفذ وينقطع فأعلم الله سبحانه أن كلامه لا ينفذ {والبحر يمده} أَيْ: يزيد فيه ثمَّ كتبت به كلمات الله {ما نفدت}(1/850)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ: كخلق وكبعث نفسٍ واحدةٍ لأنَّ قدرة الله سبحانه على بعث الخلق كقدرته على بعث نفسٍ واحدةٍ وقوله:(1/850)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ الله بما تعملون خبير}(1/850)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ذلك} أَيْ: فعل الله ذلك لتعلموا {بأن الله هو الحق} الذي لا إله إلا غيره وقوله:(1/850)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شكور} أَيْ: لكلِّ مؤمنٍ بهذه الصِّفة(1/850)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{وإذا غشيهم} علاهم {موج كالظلل} كالجبال وقيل: كالسَّحاب وقوله: {فمنهم مقتصد} أَيْ: مؤمنٌ مُوفٍ بما عاهد الله في البحر وقوله: {كل ختار} عذار {كفور} جحودٍ وقوله:(1/851)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{لا يجزي والد عن ولده} لا يكفي ولا يُغني عنه شيئاً و {الغَرُور} الشَّيطان(1/851)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{إنَّ الله عنده علم الساعة} متى تقوم {وينزل الغيث} المطر {ويعلم ما في الأرحام} ذكرا أو أنثى(1/851)
الم (1)
{الم}(1/852)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ العالمين}(1/852)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ من قبلك لعلهم يهتدون}(1/852)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{الله الذي خلق السماوات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}(1/852)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} يعني: القضاء من السَّماء فينزله إلى الأرض مدَّة أيام الدُّنيا {ثمَّ يعرج إليه} أَيْ: يرجع الأمر والتَّدبير إلى السَّماء ويعود إليه بعد انقضاء الدُّنيا وفنائها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تعدون} وهو يوم القيامة وذلك اليوم يطول على قومٍ ويشتدُّ حتى يكو كخمسين ألف سنة ويقصر على قوم فلا آخر له معلوم وقوله(1/852)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم}(1/853)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{الذي أحسن كلَّ شيء خلقه} أَيْ: أتقنه وأحكمه {وبدأ خلق الإنسان من طين} آدم عليه السَّلام(1/853)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ثم جعل نسله} ذريَّته {من سلالةٍ} نطفةٍ {من ماء مهين} ضعيفٍ حقيرٍ(1/853)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{وقالوا} يعني: منكري البعث {أإذا ضللنا في الأرض} صرنا تراباً وبطلنا {أإنا لفي خلق جديد} نُخلق بعد ذلك خلقاً جديداً(1/853)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كافرون}(1/853)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{قل يتوفاكم} يقبض أرواحكم(1/853)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{ولو ترى} يا محمد {إذ المجرمون} المشركون {ناكسوا رؤوسهم} مُطأطئوها حياءً من ربهم عز وجل ويقولون: {ربنا أبصرنا} ما كنا به مُكذِّبين {وسمعنا} منك صدق ما أتت به الرُّسل {فارجعنا} فارددنا إلى الدُّنيا {نعمل صالحاً}(1/853)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{ولو شئنا لآتينا كلَّ نفس هداها} رشدها الآية ويقال لأهل النَّار:(1/853)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أَيْ: تركتم الإِيمان به {إنا نسيناكم} تركناكم في النَّار(1/853)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} أي: وُعظوا {خرُّوا سجداً} لله سبحانه خوفاً منه {وسبحوا بحمد ربهم} نزَّهوا الله تعالى بالحمد لله {وهم لا يستكبرون} عن الإيمان به والسُّجود له(1/853)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{تتجافى جنوبهم} ترتفع أضلاعهم {عن المضاجع} الفرش ومواضع النَّوم {يدعون ربهم خوفاً} من النَّار {وطمعاً} في الجنَّة {وَمِمَّا رزقناهم ينفقون} يصَّدَّقون(1/854)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{فلا تعلم نفس} من هؤلاء {ما أخفي لهم} ما أعد لهم {من قرة أعين} ممَّا تقرُّ به عينه إذ رآه(1/854)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط(1/854)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1/854)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}(1/854)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى} قيل: المصيبات في الدُّنيا وقيل: القتل ببدر وقيل: عذاب القبر وقيل: الجوع سبع سنين والأولى المُصيبات والجوع لقوله: {لعلهم يرجعون} وقوله:(1/855)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون}(1/855)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{فلا تكن في مرية من لقائه} أَيْ: من لقاء موسى عليه السَّلام ليلة المعراج وعده الله تعالى أن يريه موسى عليه السَّلام ليلة الإِسراء به(1/855)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
{وجعلنا منهم} من بني إسرائيل {إئمة} قادة {يهدون} يدعون الخلق {بأمرنا لما صبروا} حين صبروا على الحقِّ(1/855)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{إنَّ ربك هو يفصل} يحكم {بينهم يوم القيامة} بين المُكذِّبين بك {فيما كانوا فيه يختلفون} من أمرك(1/855)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{أولم يهد لهم} يتبيَّن لهم صدقك {كم أهلكنا} إهلاكنا مَنْ كذَّب الرُّسل منهم وهم {يمشون في مساكنهم} إذا سافروا فيرون خرابَ منازلهم {إنَّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون} آيات الله وعظاته(1/855)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجرز} الغليظة التي لا نبأت فيها {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أفلا يبصرون} هذا فيلعموا أنَّا نقدر على إعادتهم(1/855)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وذلك أنَّ المؤمنين قالوا للكفَّار: إنَّ لنا يوماً يحكم الله بيننا وبينكم فيه يريدون يوم القيامة فقالوا: متى هذا الفتح؟ فقال الله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمانهم ولا هم ينظرون} يمهلون للتوبة(1/856)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمانهم ولا هم ينظرون}(1/856)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{فأعرض عنهم} منسوخٌ بآية السَّيف {وانتظر} عذابهم {إنهم منتظرون} هلاكك في زعمهم الكاذب(1/856)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{يا أيها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} اثبت على تقوى الله ودُمْ عليه {ولا تطع الكافرين والمنافقين} وذلك أنَّ الكافرين قالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنَّ لها شفاعةً ومنفعةً لمن عبدها ووازَرَهم المنافقون على ذلك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بما يكون قبل كونه {حكيماً} فيما يخلق(1/857)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(1/857)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
{وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}(1/857)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه} هذا تكذيبٌ لبعض مَنْ قال من الكافرين: إنَّ لي قلبين أفهم بكلِّ واحدٍ منهما أكثر ممَّا يفهم محمد فأكذبه الله تعالى قيل: إنَّه ابن خطل {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} لم يجعل نسائكم اللائي تقولون: هنَّ علينا كظهور أمهاتنا في الحرام كما تقولون وكان هذا من طلاق الجاهليَّة فجعل الله في ذلك كفَّارة {وما جعل أدعياءكم} مَنْ تبنَّيتموه {أبناءكم} في الحقيقة كما تقولون {ذلكم قولكم بأفواهكم} قولٌ بالفم لا حقيقة له {وَاللَّهُ يَقُولُ الحق} وهو أنَّ غير الابن لا يكون ابناً {وهو يهدي السبيل} أَيْ: السَّبيل المستقيم(1/857)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ادعوهم لآبائهم} أَيْ: انسبوهم إلى الذين ولدوهم {هو أقسط عند الله} أعدل عند الله {فإن لم تعلموا آباءهم} مَنْ هم {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي: فهم إخوانكم في الدين {ومواليكم} وبنو عمّكم وقيل: أولياؤكم في الدِّين {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ به} وهو أن يقول لغير ابنه: يا بنيَّ من غير تَعَمُّدٍ أن يجريه مجرى الولد في الميراث وهو قوله: {ولكن ما تعمَّدت قلوبكم} يعني: ولكنَّ الجُناح في الذي تعمَّدت قلوبكم(1/858)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} إذا دعاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى شيءٍ ودعتهم أنفسهم إلى شيءٍ كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى {وأزواجه أمهاتهم} في حرمة نكاحهن عليهم {وأولو الأرحام} والأقارب {بعضهم أولى ببعض} في الميراث {في كتاب الله} في حكمه {من المؤمنين والمهاجرين} وذلك أنَّهم كانوا في ابتداء الإِسلام يرثون بالإِيمان والهجرة {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} لكن إن يوصوا بهم بشيءٍ من الثُّلث فهو جائزٌ {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} كان هذا الحكم في اللَّوح المحفوظ مكتوبا(1/858)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{وإذ أخذنا} واذكر إذ أخذنا {من النبيّين ميثاقهم} على الوفاء بما حملوا وأن يُصدِّق بعضهم بعضاً(1/859)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{ليسأل الصادقين عن صدقهم} المُبلِّغين من الرُّسل عن تبليغهم وفي تلك المسألة تبكيتٌ للكفَّار {وأعدَّ للكافرين} بالرُّسل {عذاباً أليماً}(1/859)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءتكم جنود} يعني: الأحزاب وهم قريش وغطفان قريظة والنَّضير حاصروا المسلمين أيَّام الخندق {فأرسلنا عليهم ريحاً} وهي الصَّبا كفأت قدورهم وقلعت فساطيطهم {وجنوداً لم تروها} وهم الملائكة {وكان الله بما يعملون} من حفر الخندق {بصيراً}(1/859)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{إذ جاءوكم من فوقكم} من قبل المشرق يعني: قُريظة والنَّضير {ومن أسفل منكم} قريشٌ من ناحية مكَّة {وإذ زاغت الأبصار} مالت وشخصت وتحيَّرت لشدَّة الأمر وصعوبته عليكم {وبلغت القلوب الحناجر} ارتفعت إلى الحلوق لشدَّة الخوف {وتظنون بالله الظنونا} ظنَّ المنافقون أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون بنصر اللَّهِ(1/859)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{هنالك} في تلك الحال {ابتلي المؤمنون} اختبروا ليتبيَّن المخلص من المنافق {وزلزلوا} وحرِّكوا وخُوِّفوا(1/860)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك ونفاقٌ: {ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غرورا} إذْ وعدنا أنَّ فارس والرُّوم يُفتحان علينا(1/860)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{وإذ قالت طائفة منهم} من المنافقين: {يا أهل يثرب} يعني: المدينة {لا مُقَامَ لَكُمْ} لا مكان لكم تُقيمون فيه {فارجعوا} إلى منازلكم بالمدينة أمروهم بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله كان قد خرج من المدينة إلى سلع لقتال القوم {ويستأذن فريقٌ منهم} من المنافقين {النبيَّ} في الرُّجوع إلى منازلهم {يقولون: إنَّ بيوتنا عورة} ليست بحصينةٍ نخاف عليها العدوِّ قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فراراً} من القتال(1/860)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{ولو دخلت عليهم} لو دخل عليهم هؤلاء الذين يريدون قتالهم المدينة {من أقطارها} جوانبها {ثمَّ سئلوا الفتنة} سألتهم الشِّرك بالله {لأتوها} لأعطوا مرادهم {وما تلبثوا بها إلاَّ يسيراً} وما احتبسوا عن الشِّرك إلا يسيراً أَيْ لأسرعوا الإجابة إليه(1/860)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل} عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة الخندق {لا يولون الأدبار} لا ينهزمون عن العدوِّ {وكان عهد الله مسؤولاً} والله تعالى يسألهم عن ذلك العهد يوم القيامة(1/860)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الموت أو القتل} الذي كُتب عليكم {وإذاً لا تمتعون إلاَّ قليلاً} لا تبقون في الدُّنيا إلاَّ إلى آجالكم(1/861)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ولا نصيرا}(1/861)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
{قد يعلم الله المعوقين منكم} الذين يُعوِّقون النَّاس عن نصرة محمَّد عليه السَّلام {والقائلين لإِخوانهم هلمَّ إلينا} يقولون لهم: خلُّوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنَّه مغرورٌ وتعالوا إلينا {ولا يأتون البأس إلاَّ قليلاً} لا يحضرون الحرب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ تعذيراً وتقصيراً يرى أنَّ له عذراً ولا عذر له يوهمونهم أنَّهم معهم(1/861)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{أشحة عليكم} بخلاء عليكم بالخير والنَّفقة {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أعينهم} في رؤوسهم من الخوف كدوران عين الذي {يُغشى عليه من الموت} قَرُبَ أن يموت فانقلبت عيناه {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} آذوكم بالكلام وجادلوكم في الغنيمة {أشحة} بخلاء {على الخير} الغنيمة(1/861)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} لجبنهم وشدَّة خوفهم يظنون أنَّهم بعد انهزامهم لم ينصرفوا بعد {وإن يأت الأحزاب} يرجعوا كرَّةً ثانية {يودوا لو أنَّهم بادون في الأعراب} خارجون من المدينة إلى البادية في الأعراب {يسألون عن أنبائكم} أَيْ: يودوا لو أنَّهم غائبون عنكم يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} رياءً من غير حِسْبَةٍ ولمَّا وصف الله تعالى حال المنافقين في الحرب وصف حال المؤمنين فقال:(1/861)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
{لقد كان لكم} أيُّها المؤمنون {في رسول الله أسوة حسنة} سنَّةٌ صالحةٌ واقتداءٌ حسنٌ حيث لم يخذلوه ولم يتولَّوا عنه كما فعل هو صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ شُجَّ حاجبه وكسرت رباعيته فوقف صلى الله عليه وسلم ولم يمهزم ثمَّ بيَّن لمَنْ كان هذا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} أَيْ: يخافهما(1/862)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
{ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا} تصديقاً لوعد الله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ ورسوله} ووعدُ الله تعالى إيَّاهم في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قريبٌ} فعلموا بهذه الآية أنَّهم يُبتلون فلمَّا ابتلوا بالأحزاب علموا أنَّ الجنَّة والنَّصر قد وجبا لهم إن سلَّموا وصبروا وذلك قوله: {وما زادهم إلاَّ إيماناً} وتصديقاً بالله ورسوله {وتسليماً} لله أمره(1/862)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ} كانوا صادقين في عهودهم بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم {فمنهم من قضى نحبه} فرغٍ من نذره واستُشهد يعني: الذين قُتلوا بأُحدٍ {ومنهم مَنْ ينتظر} أن يقتل شهيداً {وما بدلوا تبديلاً} عهدهم ثمَّ ذكر جزاء الفريقين فقال:(1/862)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{ليجزي الله الصادقين بصدقهم} الآية(1/863)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
{وردَّ الله الذين كفروا} قريشاً والأحزاب {بغيظهم} على ما فيهم من الغيظ {لم ينالوا خيراً} لم يظفروا بالمسلمين {وكفى الله المؤمنين القتال} بالرِّيح والملائكة(1/863)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
{وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب} الذين عاونوا الأحزاب من يقظة {من صياصيهم} حصونهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم واشتدَّ ذلك عليهم حتى نزلوا على حكمه وذلك قوله تعالى: {وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون} يعني: الرِّجال {وتأسرون فريقاً} يعني: النِّساء والذُّريَّة وقوله:(1/863)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وأرضا لم تطئوها} يعني: خيبر ولم يكونوا نالوها فوعدهم الله تعالى إيَّاها(1/863)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
{يأ أيها النبي قل لأزواجك} الآية نزلت حين سألت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من عرض الدُّنيا وآذينه بزيارة النَّفقة فأنزل الله سبحانه هذه الآيات وأمره أن يخبرهن بين الإِقامة معه على طلب ما عند الله أو السِّراح إن أردْنَ الدُّنيا وهو قوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أمتعكنَّ} متعة الطَّلاق فقرأ عليهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات فاخترن الآخرة على الدُّنيا والجنَّة على الزِّينة فرفع الله سبحانه درجتهنَّ على سائر النِّساء بقوله:(1/864)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}(1/864)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مبيِّنة} بمعصيةٍ ظاهرةٍ {يضاعف لها العذاب ضعفين} ضعفي عذاب غيرها من النِّساء(1/864)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
{ومن يقنت} يطع {نؤتها أجرها مرَّتين} مثلي ثواب غيرها من النِّساء {وأَعتدنا لها رزقاً كريماً} يعني: الجنَّة وقوله:(1/864)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مرض} أَيْ: لا تقلن قولاَ يجد منافقٌ به سبيلاً إلى أن يطمع في موافقتكنَّ له وقوله: {وقلن قولا معروفا} أي: فلن بما يوجبه الدِّين والإِسلام بغير خضوعٍ فيه بل بتصريحٍ(1/864)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{وقرن في بيوتكن} أمرٌ لهنَّ من الوقار والقرار جميعاً {ولا تبرجن} ولا تُظهرن المحاسن كما كان يفعله أهل الجاهليَّة وهو ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} وهو كلُّ مُستَنكرٍ ومُستقذَرٍ من عملٍ {أهل البيت} يعني: نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجال أهل بيته(1/865)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله} يعني: القرآن {والحكمة} يعني: السُّنَّة(1/865)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
{إنَّ المسلمين والمسلمات} الآية قالت النِّساء: ذكر الله تعالى الرِّجال بخيرٍ في القرآن ولم يذكر النِّساء بخيرٍ فما فينا خيرٌ يُذكر فأنزل الله تعالى هذه الآية(1/865)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة وظنَّت أنَّه خطبها لنفسه فلمَّا علمت أنًّه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن} يعني: عبد الله بن جحش {ولا مؤمنة} يعني: أخته زينب {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لهم الخيرة من أمرهم} أَيْ: الاختيار فأعلم أنَّه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله وزوَّجها من زيدٍ ومكثت عنده حيناً ثمَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يومٍ لحاجة فأبصرها قائمةً في درع وخمار فأعجبه وكأنَّها وقعت في نفسه وقال: سبحان الله مُقلِّب القلوب فلمَّا جاء زيدٌ أخبرته بذلك وأُلقي في نفس زيدٍ كراهتها فأراد فراقها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي فإنَّها تؤذيني بلسانها فذلك قوله:(1/865)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه} بالإسلام يعني: زيداً {وأنعمت عليه} بالإِعتاق: {أمسك عليك زوجك واتق الله} فيها وكان صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يتزوَّج بها إلا أنَّه آثر ما يجب من الأمر بالمعروف وقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} أن لو فارقها تزوجها وذلك أن الله تعالى كان قضى ذلك وأعلمه أنَّها ستكون من أزواجه وأن زيداً يُطلِّقها {وتخشى الناس} تكره قالة النَّاس لو قلت: طَلِّقْها فيقال أمر رجلاً بطلاق امرأته ثمَّ تزوَّجها {والله أحقُّ أن تخشاه} في كلِّ الأحوال ليس أنَّه لم يَخْشَ الله في شيءٍ من هذه القضيَّة ولكن ذكر الكلام ها هنا على الجملة وقيل والله أحقُّ أن تستحيي منه فلا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد إعلام الله سبحانه إياك أنها ستكون زوجتك وأنت تستحيي من النَّاس وتقول: أمسك عليك زوجك {فلما قضى زيد منها وطراً} حاجته من نكاحها {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية لكيلا يظنَّ ظانٌّ أنَّ امرأة المتبنَّى لا تحلُّ للمتبنِّي وكانت العرب تظنُّ ذلك وقوله: {وكان أمر الله مفعولاً} كائناً لا محالة وكان قد قضى في زينب أن يتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/866)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فرض الله له} فيما أحلَّ له من النِّساء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} يقول: هذه السُّنَّة قد مضت أيضاً لغيرك يعني: كثرة أزواج داود وسليمان عليهما السَّلام والمعنى: سنَّ الله له سنَّةٌ واسعةً لا حرج عليه فيها {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} قضاءً مقضياً(1/867)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
{الذين يبلغون رسالات الله} الذين نعت قوله: {في الذين خلوا من قبل} {ويخشونه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} لا يخشون قالة النَّاس ولائمتهم فيما أحلَّ الله لهم {وكفى بالله حسيباً} حافظاً لأعمال خلقه(1/867)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} فتقولوا: إنَّه تزوجَّ امرأة ابنه يعني: زيداً ليس له بابنٍ وإن كان قد تبنَّاه {ولكن} كان {رسول الله وخاتم النبيين} لا نبيَّ بعده(1/868)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} وهو أن لا يُنسى على حالٍ(1/868)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
{وسبحوه} صلُّوا له {بكرة} صلاة الفجر {وأصيلاً} صلاة العصر والعشاءين(1/868)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
{هو الذي يصلي عليكم} يغفر لكم ويرحمكم {وملائكته} يستغفرون لكم {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من ظلمات الجهل والكفر إلى نور اليقين والإسلام(1/868)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{تحيتهم} تحيَّةُ الله للمؤمنين {يوم يلقونه} يرونه {سلام} يسلِّم عليهم {وأعدَّ لهم أجراً كريماً} وهو الجنَّة(1/868)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً} على أُمَّتك بإبلاغ الرِّسالة(1/868)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{وداعياً إلى الله} إلى ما يُقرب منه من الطَّاعة والتَّوحيد {بإذنه} بأمره أَيْ: إنَّه أمرك بهذا لا أنَّك تفعله من قبلك {وسراجاً منيراً} يُستضاء به من ظلمات الكفر وقوله:(1/868)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كبيرا}(1/868)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
{ودع أذاهم} لا تُجازهم عليه إلى أن تُؤمر فيهم بأمرنا(1/869)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} تزوجتموهنَّ {ثمَّ طلقتموهنَّ من قبل أن تمسوهن} تجامعوهن {فما لكم عليهن من عدَّة تعتدونها} تحصونها عليهن بالأفراد والأشهر لأنَّ المُطلَّقة قبل الجماع لا عدَّة عليها {فمتعوهنَّ} أعطوهنَّ ما يستمتعن به وهذا أمر ندب لأنَّ الواجب لها نصف الصَّداق {وسرحوهن سَراحاً جميلاً} بالمعروف كما أمر الله تعالى ثمَّ ذكر ما يحلُّ من النِّساء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:(1/869)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
{يا أيها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أجورهن} مهورهنَّ {وما ملكت يمينك} من الإِماء {ممَّا أفاء الله عليك} جعلهنَّ غنيمة تُسبى وتُسترقُّ بحكم الشَّرع {وبنات عمك وبنات عماتك} أن يتزوجهنَّ يعني: نساء بني عبد المطلب {وبنات خالك وبنات خالاتك} يعني: نساء بني زُهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فمن لمن يهاجر منهنَّ لم يحلَّ له نكاحها {وامرأة} وأحللنا لك امرأةً {مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبيُّ أن يستنكحها} فله ذلك {خالصة لك من دون المؤمنين} فليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبيح وطء امرأةٍ بلفظ الهبة من غير ولي ولا مهر ولا شاهدٍ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وهو أن لا نكاح إلاَّ بوليٍّ وشاهدين {وما ملكت أيمانهم} يريد أنَّه لا يحلُّ لغير النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربع ولي وشاهدين وإلا ملك اليمين والنبي صلى الله عليه وسلم يحلُّ له ما ذكر في هذه الآية {لكيلا يكون عليك حرج} في النِّكاح(1/869)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ترجي من تشاء منهن} تُؤخِّر {وتؤوي} وتضمُّ {إليك مَنْ تشاء} أباح الله سبحانه له أن يترك القسمة والتَّسوية بين أزواجه حتى إنَّه ليؤخِّر مَنْ شاء منهنَّ عن وقت نوبتها ويطأ مَنْ يشاء من غير نوبتها ويكون الاختيار في ذلك إليه يفعل فيه ما يشاء وهذا من خصائصه {ومن ابتغيت} طلبتَ وأردتَ إصابتها {ممن عزلت} هجرتَ وأخَّرت نوبتها {فلا جناح عليك} في ذلك كلِّه {ذلك أدنى أن تقرَّ أعينهنَّ} الآية إذا كانت هذه الرُّخصة مُنزَّلة من الله سبحانه عليك كان أقرب إلى أن {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من أمر النِّساء والميل إلى بعضهنَّ ولمَّا خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ورضين به قصره الله سبحانه عليهنَّ وحرَّم عليه طلاقهنَّ والتَّزوُّج بسواهنَّ وجعلهنَّ أُمَّهات المؤمنين وهو قوله:(1/870)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{لا يحلُّ لك النساء من بعد} أَيْ: من بعد هؤلاء التِّسع {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أعجبك حسنهنَّ} ليس لك أن تطلِّق واحدةً من هؤلاء ولا تتزوَّج بدلها أخرى أعجبتك بجمالها {إلاَّ ما ملكت يمينك} من الإِماء فإنهنَّ حلالٌ لك(1/871)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{يا أَيُّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية نزلت في ناسٍ من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطَّعام إلى أن يدرك ثمَّ يأكلون ولا يخرجون فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذَّى بهم وهو قوله: {غير ناظرين إناه} أيْ: منتظرين إدراكه {ولا مُسْتأنِسِين لحديث} طالبين الأنس {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقِّ {وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهنَّ من وراء حجاب} إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أمرٍ فخاطبوهنَّ من وراء حجابٍ وكانت النِّساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرِّجال فلمَّا نزلت هذه الآية ضرب عليهنَّ الحجاب فكانت هذا آية الحجاب بينهنَّ وبين الرِّجال {ذلكم} أَيْ: الحجاب {أطهر لقلوبكم وقلوبهن} فإنَّ كلَّ واحدٍ من الرَّجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قبله {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أَيْ: ما كان لكم أذاه في شيءٍ من الأشياء {وَلا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً} وذلك أنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: لئن قبض رسول الله صلى عليه وسلم لأنكحن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فأعلم الله سبحانه أنَّ ذلك محرَّمٌ بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عند الله عظيماً} أَيْ: ذنباً عظيماً(1/871)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
{إن تبدوا شيئاً أو تخفوه} الآية نزلت في هذا الرَّجل الذي قال: لأنكحنَّ عائشة أخبر الله أنَّه عالمٌ بما يُظهر ويُكتم فلمَّا نزلت آية الحجاب قالت الآباء والأنباء لرسول الله صلى عليه وسلم: ونحن أيضاً نُكلِّمهنَّ من وراء الحجاب؟ فأنزل الله سبحانه:(1/872)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أَيْ: في ترك الاحتجاب من هؤلاء(1/872)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيِّ} الله تعالى يثني على النبيِّ ويرحمه والملائكة يدعون له {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} قولوا: اللهم صلى على محمدٍ وسلِّمْ(1/873)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
{إن الذين يؤذون الله ورسوله} يعني: اليهود والنَّصارى والمشركين في قولهم: {يد الله مغلولةٌ} و {إنَّ الله فقيرٌ} و {المسيحُ ابنُ الله} والملائكة بنات الله وشجُّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ساحرٌ وشاعرٌ(1/873)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} يرمونهم بغير ما عملوا(1/873)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
{يأ أيها النبي قل لأزواجك} الآية كان قومٌ من الزُّناة يتَّبعون النِّساء إذا خرجن ليلاً ولم يكونوا يطلبون إلاَّ الإِماء ولم يكن يومئذ تُعرفْ الحرَّة من الأمة لأنَّ زِيَّهُنَّ كان واحداً إنما يخرجون في درع وخمار فنهيى الله سبحانه الحرائر أن يتشبَّهنَّ بالإماء وأنزل قوله تعالى: {يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ} أَيْ: يرخين أرديتهنَّ وملاحفهنَّ ليعلم أنهنَّ حرائر فلا يتعرض لهنَّ وهو قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يؤذين وكان الله غفوراً} لما سلف من ترك السِّتر {رحيماً} بهنَّ إذ يسترهنَّ(1/873)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض} يعني: الزُّناة {والمرجفون في المدينة} الذين يوقعون أخبار السَّرايا بأنهم هُزموا بالكذب والباطل {لنغرينَّك بهم} لنسلطنَّك عليهم {ثم لا يجاورونك فيها} لا يساكنونك في المدينة {إلاَّ قليلاً} حتى خرجوا منها(1/874)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
{ملعونين} مطرودين {أينما ثقفوا} وُجدوا {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا}(1/874)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} سنَّ الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقتلوا حيث ما ثقفوا وقوله:(1/874)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قريبا}(1/874)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}(1/874)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نصيرا}(1/874)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا}(1/874)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
{إنا أطعنا سادتنا} أَيْ: قادتنا ورؤساءنا في الشِّرك والضَّلالة(1/874)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
{ربنا آتهم ضعفين من العذاب} مثلي عذابنا(1/874)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} لا تؤذوا نبيَّكم كما آذَوا هم موسى عليه السَّلام وذلك أنَّهم رموه بالبرص والأدرة حتى برَّأه الله مما رموه به بآيةٍ معجزةٍ {وكان عند الله وجيهاً} ذا جاهٍ ومنزلةٍ وقوله:(1/875)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
{وقولوا قولاً سديداً} أَيْ: حقَّاً وصواباً قيل: هو لا إله إلا الله(1/875)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(1/875)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
{إنا عرضنا الأمانة} الفرائض التي افترض الله سبحانه على العباد وشرط عليهم أنَّ مَنْ أدَّاها جُوزي بالإِحسان ومَنْ خان فيها عوقب {على السماوات والأرض والجبال} أفهمهنَّ الله سبحانه خطابه وأنطقهنَّ {فأبين أن يحملْنَها} مخافةً وخشيةً لا معصيةً ومخالفةً وهو قوله: {وأشفقن منها} أَيْ: خشين منها {وحملها الإِنسان} آدم عليه السَّلام {إنَّه كان ظلوماً} لنفسه {جهولاً} غِرَّاً بأمر الله سبحانه وما احتمل من الأمانة ثمَّ بيَّن أنَّ حمل آدم عليه السَّلام هذه الأمانة كان سبباً لتعذيب المنافقين والمشركين في قوله:(1/875)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله على المؤمنين والمؤمنات} يعني: إذا خانوا في الأمانة بمعصية أمر الله سبحانه تاب عليهم بفضله {وكان الله غفوراً رحيماً}(1/876)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
{الحمد لله} على جهة التَّعظيم {الذي له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} لأنَّ أهل الجنَّة يحمدونه(1/877)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
{يعلم ما يلج في الأرض} يدخل فيها من الماء والأموات {وما يخرج منها} من النَّبات {وما ينزل من السماء} من الأمطار {وما يعرج} يصعد {فيها} من الملائكة(1/877)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
{وقال الذين كفروا} يعني: منكري البعث: {لا تأتينا الساعة} أَيْ: لا نبعث {قل} لهم يا محمد: {بلى وربي لتأتينكم عالمِ الغيب} بالخفض من نعت قوله: {وربي} وبالرَّفع على معنى: هو عالم الغيب وقوله: {لا يعزب} مفسَّرٌ في سورة يونس وقوله:(1/877)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{ليجزي} يعود إلى قوله: {لتأتينكم} معناه: لتأتينَّكم السَّاعة {ليجزي الذين آمنوا} الآية(1/878)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
{والذين سعوا في آياتنا} مفسَّر في سورة الحج(1/878)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{ويرى الذين أوتوا العلم} يعني: مؤمني أهل الكتاب {الذي أنزل إليك من ربك} وهو القرآن {هو الحقَّ ويهدي إلى صراط العزيز} القرآن(1/878)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{وقال الذين كفروا} إنكاراً للبعث وتعجُّباً منه: {هل ندلكم على رجل} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {ينبئكم إذا مزقتم كلَّ ممزق} أَيْ: فُرِّقتم وصرتم رُفاتاً {إنكم لفي خلق جديد} أَيْ: تُبعثون(1/878)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
{افترى على الله كذبا} فيما يُخبر به من البعث {أم به جنة} حالةُ جنونٍ قال الله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ والضلال البعيد}(1/878)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خلفهم من السماء والأرض} يقول: أما يعلمون أنَّهم حيث ما كانوا فهم يرون ما بين أيديهم من الأرض والسَّماء مثل الذي خلقهم وأنَّهم لا يخرجون منها فكيف يأمنون؟ ! {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عليهم كسفاً من السماء} عذاباً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} لعلامةً تدلُّ على قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى لكلِّ مَنْ أناب إلى الله تعالى وتأمَّل ما خلق الله سبحانه(1/879)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
{ولقد آتينا داود منَّا فضلاً} ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {يا جبال} أَيْ: قلنا يا جبال {أوّبي معه} سبِّحي معه {والطير} كان إذا سبَّح جاوبته الجبال بالتَّسبيح وعكفت عليه الطَّير من فوقه تسعده على ذلك {وألنا له الحديد} جعلناه ليِّناً في يده كالطِّين المبلول والعجين وقلنا له:(1/879)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{أن اعمل سابغات} دروعاً كوامل {وقدِّر في السرد} لا تعجل مسمار الدِّرع دقيقاً فيفلق ولا غيظا فيفصم الحلق اجعله على قدر الحاجة والسَّرْد: نسج الدُّروع {واعملوا} يعني: داود وآله {صالحاً} عملاً صالحاً من طاعة الله تعالى(1/879)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
{ولسليمان الريح} وسخرنا له الرِّيح {غدوها شهر} مسيرها إلى انتصاف النَّهار مسيرة شهر ومن انتصاف النَّهار إلى اللَّيل مسيرة شهر وهو قوله: {ورواحها شهر وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أذبنا له عين النُّحاس فسالت له كما يسيل الماء {ومن الجنِّ} أَيْ: سخَّرنا له من الْجِنِّ {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} بأمر ربه {ومَنْ يزغ} يمل ويعدل {منهم عن أمرنا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان {نذقه من عذاب السعير} وذلك أنَّ الله تعالى وكَّل بهم ملكاً بيده سوطٌ من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربةً أحرقته(1/879)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{يعملون له ما يشاء من محاريب} مجالس ومساكن ومساجد {وتماثيل} صورة الأنبياء إذ كانت تصوَّر في المساجد ليراها النَّاس ويزدادوا عبادة {وجفانٍ} قصاعٍ كبارٍ {كالجوابِ} كالحياض التي تجمع الماء {وقدور راسيات} ثوابت لا تحرَّكن عن مكانها لعظمها وقلنا: {اعملوا} بطاعة الله يا {آل داود شكراً} له على نعمه(1/880)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
{فلما قضينا عليه الموت ما دلَّهم} الآية كان سليمان عليه السَّلام يقول: اللَّهم عمِّ على الجنِّ موتي ليعلم الإِنس أنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيب فمات سليمان عليه السَّلام مُتوكِّئاً على عصاه سنةً ولم تعلم الجنُّ ذلك حتى أكلت الأرضةُ عصاه فسقط ميِّتاً وهو قوله: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تأكل منسأته} عصاه {فلما خرَّ} سقط {تبينت الجن} علمت {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا} بعد موت سليمان {في العذاب المهين} فيما سخَّرهم فيه سليمان عليه السَّلام واستعملهم(1/880)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
{لقد كان لسبأ} وهو اسم قبيلةٍ {في مساكنهم} باليمن {آية} دلالةٌ على قدرتنا {جنتان} أَيْ: هي جنَّتان {عن يمين وشمال} بستانٌ يمنةً وبستانٌ يسرةً وقيل لهم: {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} على ما أنعم عليكم {بلدة طيبة} أَيْ: بلدتكم بلدةٌ طيِّبةٌ ليست بسبخةٍ {و} الله {ربٌّ غفور} والمعنى: تمتَّعوا ببلدتكم الطَّيِّبة واعبدوا ربَّاً يغفر ذنوبكم(1/881)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{فأعرضوا} عن أمر الله تعالى بتكذيب الرُّسل {فأرسلنا عليهم سيل العرم} وهو السِّكْر الذي يحبس الماء وكان لهم سِكْرٌ يحبس الماء عن جنَّتيهم فأرسل الله تعالى فيه جرذاناً ثقبته فانبثق الماء عليهم فغرق جنَّاتهم {وبدلناهم بجنَّتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} أَيْ: ثمرٍ مُرٍّ {وأثل} وهو الطَّرفاء {وشيء من سدر قليل} وذلك أنَّ الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر(1/881)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أَيْ: جزيناهم ذلك الجزاء بكفرهم {وهل نجازي إلاَّ الكفور} بسوء عمله وذلك أنَّ المؤمن تُكفَّر عنه سيئاته والكافر يُجازى بكلِّ سوءٍ يعمله(1/882)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني: قرى الشَّام {قرى ظاهرة} متواصلةً يُرى من هذه القرية القرية الأخرى فكانوا يخرجون من سبأ إلى الشَّام فيمرُّون على القرى العامرة {وقدرنا فيها السير} جعلنا سيرَهم بمقدارٍ إذا غدا أحدهم من قريةٍ قال في أخرى وإذا راح من قريةٍ أوى إلى أخرى وقلنا لهم: {سيروا فيها} في تلك القرى {ليالي وأياماً} أَيَّ وقت شئتم من ليلٍ أو نهارٍ {آمنين} لا تخافون عدوَّاً ولا جوعاً ولا عطشاً(1/882)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} وذلك أنَّهم سئموا الرَّاحة وبطروا النِّعمة فتمنَّوا أن تتباعد قراهم ليبعد سفرهم بينها {وظلموا أنفسهم} بالكفر والبطر {فجعلناهم أحاديث} لمَنْ بعدهم يتحدَّثون بقصَّتهم {ومزَّقناهم كلَّ ممزق} وفرَّقناهم في البلاد فصاروا يُتمثَّل بهم في الفُرقة وذلك أنَّهم ارتحلوا عن أماكنهم وتفرَّقوا في البلاد {إنَّ في ذلك} الذي فعلنا {لآيات لكل صبار شكور} أَيْ: لكلِّ مؤمنٍ لأنَّ المؤمن هو الذي إذا ابتُليَ صبر وإذا أُعطيَ شكر(1/882)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
{ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه} الذي ظن من إغوائهم {فاتبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين} أَيْ: وجدهم كما ظنَّ بهم إلاَّ المؤمنين(1/883)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
{وما كان له عليهم من سلطان} من حجَّةٍ يستتبعهم بها {إلاَّ لنعلم} المعنى: لكن امتحانهم بإبليس لِنَعْلَمَ {مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شك} عُلِمَ وقوعه منه(1/883)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
{قل} يا محمد لمشركي قومك: {ادعوا الذين زعمتم} أنَّهم آلهةٌ {من دون الله} وهذا أمرُ تهديدٍ ثمَّ وصفهم فقال: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما} في السماوات ولا في الأرض {من شرك} شركةٍ {وما له} لله {منهم من ظهير} عونٍ يريد: لم يُعنِ الله على خلق السماوات والأرض آلهتُهم فكيف يكونون شركاء له؟ ثمَّ أبطل قولهم أنَّهم شفعاؤنا عند الله فقال:(1/883)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ له} أَيْ: أذن الله له أن يشفع {حتى إذا فزّع} أذهب الفزع {عن قلوبهم} يعني: كشف الفزع عن قلوب المشركين بعد الموت إقامةً للحجَّة عليهم وتقول لهم الملائكة: {ماذا قال ربكم} ؟ فيما أوحى إلى أنبيائه {قالوا الحق} فأقرُّوا حين لا ينفعهم الإِقرار(1/883)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{قل من يرزقكم من السماوات} المطر {و} من {الأرض} النَّبات ثمَّ أمره أن يخبرهم فقال: {قل الله} أَيْ: الذي يفعل ذلك الله وهذا احتجاجٌ عليهم ثمَّ أمره بعد إقامة الحجَّة عليهم أن يُعرَّض بكونهم على الضَّلال فقال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} أَيْ: نحن أو أنتم إمَّا على هدىً أو ضلالٍ والمعنى: أنتم الضَّالون حيث أشركتم بالذي يرزقكم من السماء والأرض وهذا كما تقول لصاحبك إذا كذب: أحدنا كاذبٌ وتعنيه ثمَّ بيَّن براءته منهم ومن أعمالهم فقال:(1/884)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
{قل لا تسألون عما أجرمنا} الآية وهذا كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} ثمَّ أخبر أنَّه يجمعهم في القيامة ثمَّ يحكم بينهم وهو قوله تعالى:(1/884)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}(1/884)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء} ألحقتموهم بالله تعالى في العبادة يعني: الأصنام أَيْ: أرونيهم هل خلقوا شيئاً وهذه الآية مختصرةٌ تفسيرها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لهم شرك في السماوات} ثمَّ قال: {كلا} أيْ: لبس الأمر على ما يزعمون {بل هو الله العزيز الحكيم}(1/884)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
{وما أرسلناك إلاَّ كافَّة للناس} جامعا صلهم كلَّهم بالإِنذار والتَّبشير {ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون} ذلك وقوله تعالى:(1/885)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(1/885)
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعة ولا تستقدمون}(1/885)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
{ولا بالذي بين يديه} أَيْ: من الكتب المُتقدِّمة وقوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} أَيْ: في التَّلاوم ثمَّ ذكر إيش يرجعون فقال: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لكنا مؤمنين}(1/885)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مجرمين}(1/885)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} أَيْ: مكركم بنا فيهما {إذ تأمروننا أن نكفر بالله} {وأسروا} : وأظهروا(1/885)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
{وما أرسلنا في قرية من نذير} نبيٍّ يُنذرهم {إلاَّ قال مترفوها} رؤساؤها وأغنياؤها {إنَّا بما أُرسلتم به كافرون}(1/885)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
{وقالوا} للرُّسل: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} منكم يعنون أنَّ الله سبحانه رضي منَّا حيث أعطانا المال {وما نحن بمعذبين} كما تقولون(1/885)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويقدر} وليس ذلك ممَّا يدلُّ على العواقب {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ذلك(1/886)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زلفى} أَيْ: قُربى يعني: تقريباً {إلاَّ من آمن} لكنْ مَنْ آمَنَ {وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضعف} من الثَّواب بالواحد عشرة {وهم في الغرفات آمنون} قصور الجنة(1/886)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي العذاب محضرون}(1/886)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{وما أنفقتم من شيء} ما تصدَّقتم من صدقةٍ {فهو يخلفه} يعطي خلقه إمَّا عاجلاً في الدُّنيا وإمَّا آجلاً في الآخرة(1/886)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
{ويوم نحشرهم جميعاً} العابدين والمعبودين {ثم يقول للملائكة} توبيخاً للكفَّار: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون}(1/886)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
{قالوا سبحانك} تنزيهاً لك {أنت ولينا} الذي نتولاَّه ويتولاَّنا {من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} يُطيعون إبليس وأعوانه {أكثرهم بهم مؤمنون} مُصدِّقون ما يمنُّونهم ويعدونهم وقوله تعالى:(1/886)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ التي كنتم بها تكذبون}(1/887)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ}(1/887)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إليهم قبلك من نذير} يعني: مشركي مكَّة لم يكونوا أهل كتابٍ ولا بُعث إليهم نبيٌّ قبل محمد صلى الله عليه وسلم(1/887)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
{وكذب الذين من قبلهم} من الأمم {وما بلغوا} يعني: مشركي مكَّة {معشار} عشر {ما آتيناهم} من القُوَّة والنِّعمة {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} إنكاري عليهم ما فعلوا بالإِهلاك والعقوبة؟(1/887)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{قل إنما أعظكم بواحدة} بخصلةٍ واحدةٍ وهي الطَّاعة لله تعالى {أن تقوموا} لأن تقوموا {لله مثنى وفرادى} مُجتمعين ومُنفردين {ثم تتفكروا} فتعلموا {ما بصاحبكم} محمد {من جنة} من جنونٍ {إنْ هو إلاَّ نذير لكم} ما هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شديد} إنْ عصيتموه(1/887)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
{قل ما سألتكم من أجر} على تبليغ الرِّسالة {فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} يعني: إنَّما أطلب الثَّواب من الله لا عَرضاً من الدُّنيا(1/887)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{قل إنَّ ربي يقذف بالحق} يُلقيه إلى أنبيائه(1/887)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
{قل جاء الحق} جاء أمر الله الذي هو الحق {وما يبدئ الباطل وما يعيد} أَيْ: ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه إنَّما يفعل ذلك الله تعالى(1/887)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أَيْ: على نفسي يكون وبال ضلالي وهذا إخبارٌ أنَّ مَنْ ضلَّ فإنما يضرُّ نفسه {وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي} يعني: لولا الوحيُ ما كنت أهتدي(1/888)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
{ولو ترى} يا محمد {إذ فزعوا} عن البعث {فلا فوت} لهم منَّا {وأخذوا من مكان قريب} على الله وهو القبور(1/888)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{وقالوا} حين عاينوا العذاب {آمنا به} بالله {وأنى لهم التناوش} أَيْ: كيف يتناولون التَّوبة وقيل: الرَّجعة وقد بعدت عنهم يريد إنَّ التَّوبة كانت تُقبل عنهم في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا وبعدت عن الآخرة(1/888)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
{وقد كفروا به} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {من قبل} أَيْ: في الدُّنيا {ويقذفون بالغيب} يرمون محمدا صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان ظنَّاً لا يقيناً {من مكان بعيد} وهو أنَّ الله تعالى أبعدهم قبل أن يعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم(1/888)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{وحيل بينهم} مُنعوا ممَّا يشتهون من التَّوبة والإِيمان والرُّجوع إلى الدنيا {كما فُعل بأشياعهم} ممَّن كانوا على مثل دأبهم من تكذيب الرُّسل قبلهم حين لم يقبل منهم الإِيمان والتَّوبة {إنهم كانوا في شك} من أمر الرُّسل والبعث {مريب} موقعٍ للرِّيبة والتُّهمة(1/888)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{الحمد لله فاطر السماوات والأرض} خالقهما على ابتداء {جاعل الملائكة رسلاً أولي} أصحاب {أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ} في خلق الملائكة وأجنحتها {ما يشاء}(1/889)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
{ما يفتح الله للناس من رحمة} رزقٍ ومطرٍ فلا يقدر أحدٌ أن يمسكه والذي يمسك لا يرسله أحد(1/889)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
{يا أيها الناس} خطاب أهل مكَّة {اذكروا نعمة الله عليكم} بالرِّزق والمطر وسائر ذلك {هل من خالق غير الله} هل يخلق أحدٌ سواه ثُمَّ {يرزقكم من السماء} المطر {و} من {الأرض} النَّبات {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تؤفكون} من أين يقع لكم الإِفك والكذب بتوحيد الله؟ ! ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام بقوله:(1/889)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وإلى الله ترجع الأمور}(1/890)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{يا أيها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1/890)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1/890)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير}(1/890)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{أفمن زين له سوء عمله} بإضلال الله تعالى إيَّاه فرأى قبيح ما يعمله حَسَنًا {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} لا تغتمَّ لكفرهم ولا تتحسَّر على تركهم الإيمان(1/890)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}(1/890)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
{مَنْ كان يريد العزة} أَيْ: عِلْمَ العزَّةِ لمَنْ هي {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} إليه يصل الكلام الذي هو توحيده وهو قول لا إله إلا الله {والعمل الصالح} يرفع ذلك الكلم الطَّيَّب والكلم الطَّيَّب: ذكر الله تعالى والعمل الصَّالح: أداء فرائضه فمن كان حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ومعنى الرَّفع رفعه إلى محل القبول {والذين يمكرون السيئات} يعني: الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة {ومكر أولئك هو يبور} أي: يفسد ويبطل وقوله تعالى:(1/890)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{وما يعمَّر من معمَّر} أي: يُطوَّل عُمر أحدِ {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ولا يكون أحدٌ ناقص العمر وهو مُحصىً في الكتاب يعني: عدد عمر الطَّويل العمر وعمر القصير العمر(1/891)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{وما يستوي البحران هذا عذب فرات} شديد العذوبة {وهذا ملح أجاج} شديد المرارة {ومن كلٍّ} من الملح والعذب {تأكلون لحماً طرياً} من السَّمك {وتستخرجون} منه من الملح {حلية تلبسونها} يعني: المرجان وإنَّما ذكر هذا للدَّلالة على قدرته وقوله:(1/891)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{من قطمير} يعني: لفافة النَّواة(1/891)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{ويوم القيامة يكفرون بشرككم} أَيْ: يقولون: ما كنتم إيَّانا تعبدون {ولا ينبئك مثل خبير} وهو الله عز وجل وقوله:(1/891)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
{يا أيها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(1/891)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}(1/891)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(1/891)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
{ولا تزرُ وازِرَةٌ} أَيْ: لا تحمل نفسٌ حاملةٌ {وزِرْ أخرى} حِمل نفسٍ أخرى {وإن تدع مثقلة} نفس بالذنوب {إلى حملها} ذبوبها {لا يحمل منه شيء ولو كان} المدعو {ذا قربى} مثل الأب والابن {إنما تنذر الذين يخشون ربَّهم بالغيب} إنَّما ينفع إنذارك الذين يخافون الله تعالى ولم يروه {ومَنْ تزكَّى} عمل خيراً(1/891)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)
{وما يستوي الأعمى} عن الحقِّ وهو الكافر {والبصير} الذي يبصر رشده وهو المؤمن(1/892)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
{ولا الظلمات ولا النور} يعني: الكفر والإيمان(1/892)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
{وَلا الظِّلُّ وَلا الحرور} يعني: الجنَّة التي فيها ظلٌّ دائمٌ والنَّار التي لها حرارةٌ شديدةً(1/892)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ ولا الأموات} يعني: المؤمنين والكفَّار {إنَّ الله يُسمع من يشاء} فينتفع بذلك {وما أنت بمسمع مَنْ في القبور} يعني: الكفَّار شبَّههم بالأموات أيْ: كما لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع الكفار وقوله:(1/892)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
{إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ}(1/892)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}(1/892)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}(1/892)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}(1/892)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
{ومن الجبال جدد بيض وحمر} أَيْ: طرائق تكون في الجبال كالعروق بيض وحمر {وغرابيب سود} وهي الجبال ذات الصُّخور السُّود(1/892)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أَيْ: كاختلاف الجبال والثَّمرات في اختلاف الألوان {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أَيْ: مَنْ كان عالماً بالله اشتدَّت خشيته وقوله:(1/892)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
{يرجون تجارة لن تبور} يعني: لن تكسد ولن تفسد(1/893)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
{إنه غفور} لذنوبهم {شكور} لحسناتهم(1/893)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لخبير بصير}(1/893)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{ثمَّ أورثنا} أعطينا بعد هلاك الأمم {الكتاب} القرآن لـ {الذين اصطفينا من عبادنا} وهم أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ ذكر أصنافهم فقال: {فمنهم ظالم لنفسه} وهو الذي زادت سيئاته على حسناته {ومنهم مقتصد} وهو الذي استوت حسناته وسيِّئاته {ومنهم سابق بالخيرات} وهو الذي رجحت حسناته {بإذن الله} بقضائه وإرادته {ذلك هو الفضل الكبير} يعني: إيتاء الكتاب: وقوله تعالى:(1/893)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير}(1/893)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
{الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَنَ} يعني: كلَّ ما يحزن له الإنسان من أمر المعاش والمعاد(1/894)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
{الذي أحلنا} أنزلنا {دار المقامة} دار الخلود {من فضله} أَيْ: ذلك بتفضُّله لا بأعمالنا {لا يمسنا فيها نصب} تعبٌ {ولا يمسنا فيها لغوب} إعياءٌ(1/894)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عليهم فيموتوا}(1/894)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{وهم يصطرخون} يستغيثون وقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أَيْ: العمر الذي يتَّعظ فيه ويرجع فيه إلى الله مَنْ يتَّعظ وهو ستون سنةً {وجاءكم النذير} يعني: الرَّسول: وقيل: الشيب(1/894)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
{إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور}(1/894)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} أَيْ: جعلكم أمة خلفت مَنْ قبلها من الأمم(1/894)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله أروني} أخبروني عنهم {ماذا خلقوا من الأرض} أَيْ: بأيِّ شيءٍ أوجبتم لهم الشِّركة مع الله أَلخلقٍ خلقوه من الأرض {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي} خلق {السماوات أم آتيناهم} أعطينا المشركين {كتاباً} بما يدَّعونه من الشِّرك {فهم على بيَّنةٍ} من ذلك الكتاب {بل إن يعد الظالمون} ما بعد بعض الظالمين بعضاً {إلاَّ غروراً} أباطيل(1/894)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
{إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} لئلا تزولا وتتحرَّكا {ولئن زالتا} ولو زالتا {إن أمسكهما} ما أمسكهما {من أحدٍ من بعده} سوى الله تعالى(1/895)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} يعني: المشركين كانوا يقولون قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لئن أتانا رسولٌ {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} أَيْ: من اليهود والنَّصارى والمجوس {فلما جاءهم نذير} هو النبي صلى الله عليه وسلم {ما زادهم} مجيئه {إلاَّ نفوراً} عن الحقِّ(1/895)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
{استكباراً في الأرض} أَيْ: استكبروا عن الإيمان استكباراً {ومكر السيئ} ومكروا المكر السيئ وهو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه {ولا يحيق} أَيْ: يحيط {المكر السيئ إلاَّ بأهله} فحاق بهم مكرهم يوم بدرٍ {فهل ينظرون} بعد تكذيبك {إلاَّ سنة الأولين} يعني: العذاب(1/895)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ في السماوات وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}(1/895)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا} من الجرائم {ما ترك على ظهرها} على ظهر الأرض {من دابة} من الإنس والجنِّ وكلِّ ما يعقل {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أجلهم فإنَّ الله كان بعباده بصيراً}(1/895)
يس (1)
{يس} يا إنسان(1/896)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
{والقرآن الحكيم} أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين وهو قوله:(1/896)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
{إنك لمن المرسلين}(1/896)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
{على صراط مستقيم} على طريق الأنبياء الذين تقدَّموك(1/896)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
{تنزيل} أَيْ: القرآن تَنْزِيلَ {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}(1/896)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آباؤهم} في الفترة {فهم غافلون} عن الإيمان والرُّشد(1/896)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
{لقد حقَّ القول} وجبت عليهم كلمة العذاب {فهم لا يؤمنون} ثمَّ بيَّن سبب تركهم الإيمان فقال:(1/896)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} أراد: في أعناقهم وأيديهم لأنَّ الغلَّ لا يكون في العنق دون اليد {فهي إلى الأذقان} أَيْ: فأيديهم مجموعةٌ إلى أذقانهم لأنَّ الغلَّ يجعل في اليد ممَّا يلي الذقن {فهم مقمحون} رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه وهذا مَثَلٌ معناه: أمسكنا أيديهم عن النَّفقة في سبيل الله بموانعَ كالأغلال(1/897)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سداً} هذا وصف إضلال الله تعالى إياهم فهم بمنزلة مَنْ سُدَّ طريقه من بين يديه ومن خلقه يريد: إنَّهم لا يستطيعون أن يخرجوا من ضلالهم {فأغشيناهم} فأعميناهم عن الهدى {فهم لا يُبصرون} هـ ثم ذكر أنَّ هؤلاء لا ينفعهم الإِنذار فقال:(1/897)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(1/897)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
{إنما تنذر من اتبع الذكر} إنما إنذارك من ابتع القرآن فعمل به {وخشي الرحمن بالغيب} خاف اله تعالى ولم يره(1/897)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
{إنا نحن نحيي الموتى} عند البعث {ونكتب ما قدَّموا} من الأعمال {وآثارهم} ما استُنَّ به بعدهم وقيل: خطاهم إلى المساجد {وكلَّ شيء أحصيناه} عددناه وبيَّناه {في إمام مبين} وهو اللَّوح المحفوظ(1/897)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
{واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية} وهي أنطاكية {إذ جاءها المرسلون} رسل عيس عليه السَّلام(1/897)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
{إذْ أرسلنا إليهم اثنين} من الحوارييِّن {فكذبوهما فَعَزَّزْنا بثالث} قوَّينا الرِّسالة برسولٍ ثالث وقوله:(1/898)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ}(1/898)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}(1/898)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
{وَمَا علينا إلا البلاغ المبين}(1/898)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
{إنّا تطيرنا بكم} أَيْ: تشاءمنا وذلك أنَّهم حُبس عنهم المطر فقالوا: هذا بشؤمكم {لئن لم تنتهوا لَنَرْجُمَنَّكم} لنقتلنَّكم رجماً بالحجارة(1/898)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
{قالوا طائركم معكم} شؤمكم معكم بكفركم {أَإِنْ ذكرتم} وُعظتم وخُوِّفتم تطيَّرتم {بل أنتم قوم مسرفون} مُجاوزون الحدّ بشرككم(1/898)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
{وجاء من أقصى المدينة رجل} وهو حبيب النَّجار كان قد آمن بالرُّسل وكان منزله في أقصى البلد فلمَّا سمع أنَّ القوم كذَّبوهم وهمُّوا بقتلهم أتاهم يأمرهم بالإيمان فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}(1/898)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
{اتبعوا مَنْ لا يسألكم أَجْراً} على أداء النُّصح وتبليغ الرِّسالة {وهم مهتدون} يعني: الرُّسل فقيل له: أنت على دين هؤلاء؟ فقال:(1/898)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
{وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ ترجعون}(1/898)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنَ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا ينقذون}(1/898)
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(1/898)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
{إني آمنت بربكم فاسمعون} فلمَّا قال ذلك وثبوا إليه فقتلوه فأدخله الله تعالى الجنَّة فذلك قوله تعالى:(1/899)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
{قيل ادخل الجنَّة} فلمَّا شاهدها قَالَ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}(1/899)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أَيْ: بمغفرة ربي(1/899)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
الجزء الثالث والعشرون:
{ما أنزلنا على قومه} يعني: على قوم حبيب {من جند من السماء} لنصرة الرُّسل الذين كذَّبوهم يريد: لم نحتج في إهلاكهم إلى إرسال جند(1/899)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{إن كانت} ما كانت عقوبتهم {إلاَّ صيحة واحدة} صاح بهم جبريل عليه السَّلام فماتوا عن آخرهم وهو قوله: {فإذا هم خامدون} ساكنون قد ماتوا(1/899)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
{يا حسرة على العباد} يعني: هؤلاء حين استهزؤوا بالرُّسل فتحسَّروا عند العقوبة(1/899)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
{ألم يروا} يعني: أهل مكَّة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يرجعون} يعني: ألم يروا أنَّ الذين أهلكناهم قبلهم لا يرجعون إليهم(1/899)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
{وإن كل} وما كلُّ مَنْ خُلق مِن الخلق إلاَّ {جميع لدينا محضرون} عند البعث يوم القيامة يحضرهم ليقفوا على ما عملوا(1/899)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
{وآية لهم} على البعث {الأرض الميتة أحييناها} وقوله:(1/899)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فيها من العيون}(1/900)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
{وما عملته أيديهم} أَيْ: لم تعمله ولا صنع لهم في ذلك(1/900)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
{سبحان الذي خلق الأزواج كلها} أَيْ: الأجناس من النَّبات والحيوان {وممَّا لا يعلمون} ممَّا خلق الله سبحانه من جميع الأنواع والأشباه(1/900)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
{وآية لهم} ودلالةٌ لهم على توحيد الله سبحانه وقدرته {الليل نسلخ} نُخرج {منه النهار} إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النَّهار والمعنى: ننزع النَّهار فنذهب به ونأتي باللَّيل {فإذا هم مظلمون} داخلون في الظَّلام(1/900)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
{والشمس} أَيْ: وآيةٌ لهم الشَّمس {تجري لمستقرٍ لها} عند انقضاء الدُّنيا(1/900)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
{والقمر قدرناه منازل} ذا منازلٍ {حتى عاد} في آخر منزله {كالعرجون القديم} وهو عود الشِّمراخ إذا يبس اعوجَّ(1/900)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فيجتمعا معاً {ولا الليل سابق النهار} يسبقه فيأتي قبل انقضاء النَّهار {وكلٌّ} من الشَّمس والقمر والنُّجوم {فِي فَلَكٍ يسبحون} يسيرون(1/900)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} أباهم {في الفلك المشحون} يعني: سفينة نوحٍ عليه السَّلام(1/900)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
{وخلقنا لهم من مثله} من مثل جنس سفينة نوح {ما يركبون} في البحر(1/901)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
{وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم} فلا مُغيث لهم {ولا هم يُنقذون} ينجون(1/901)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
{رحمةً منا ومتاعاً إلى حين} أَيْ: إلا أن نَرحمهم ونُمتِّعهم إلى انقضاء آجالهم(1/901)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} العذاب الذي عُذِّب به الأمم قبلكم {وما خلفكم} يعني: عذاب الآخرة {لعلكم ترحمون} لكي تكونوا على رجاء الرَّحمة وجواب {إذا} محذوف تقديره: وإذا قيل لهم هذا أعرضوا ودلَّ على هذا قوله تعالى:(1/901)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}(1/901)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
{وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم ال} كان فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون للمشركين: أعطونا من أموالكم ما زعمتم أنَّها لله تعالى فكانوا يقولون استهزاءً: {أنطعم مَن لو يشاء الله أطعمه} فقال الله تعالى: {إن أنتم إلاَّ في ضلال مبين}(1/901)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنَّا نُبعث(1/901)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
{ما ينظرون} ما ينتظرون {إلاَّ صيحة واحدة} وهي نفخة إسرافيل {تأخذهم وهم يخصمون} يختصمون يُخاصم بعضهم بعضاً يعني: يوم تقوم الساعة وهم في غفلةٍ عنها(1/901)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
{فلا يستطيعون} بعد ذلك أن يُوصوا في أمورهم بشيءٍ {ولا إلى أهلهم يرجعون} لا ينقلبون إلى أهليهم من الأسواق ويموتون في مكانهم(1/902)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
{ونفخ في الصور} يعني: نفخة البعث {فإذا هم من الأجداث} القبور {إلى ربهم ينسلون} يخرجون بسرعة(1/902)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
{قَالُوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} أَيْ: منامنا وذلك أنَّهم كانوا قد رفع عنه العذاب فيا بين النَّفختين فيرقدون ثم يقولون: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} أقرُّوا حين لم ينفعهم(1/902)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
{إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جميع لدينا محضرون} يريد: إنَّ بعثهم وإحياءهم كان بصيحة تُصاح بهم وهو قول إسرافيل عليه السَّلام: أيَّتها العظام البالية(1/902)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
{فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إلاَّ ما كنتم تعملون}(1/902)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل} بافتضاض الأبكار {فاكهون} ناعمون فرحون مُعجبون(1/902)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}(1/902)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
{ولهم ما يدعون} يتمنَّون(1/902)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{سلام} أَيْ: لهم سلامٌ {قولاً} يقوله الله عزَّ وجل قولاً(1/902)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
{وامتازوا اليوم أيها المجرمون} أَيْ: انفردوا عن المؤمنين(1/902)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} ألم آمركم {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(1/903)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(1/903)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{ولقد أضل منكم جبلاً} خلقاً {كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} عدوانه وإضلاله(1/903)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}(1/903)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
{اصلوها اليوم} اُدخلوها وقاسوا حرَّها {بما كنتم تكفرون} بكفركم(1/903)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1/903)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
{ولو نشاء لطمسنا على أعينهم} لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم {فاستبقوا الصراط} فتبادروا إلى الطَّريق {فأنى} يبصرون حينئذٍ وقد طمسنا أعنيهم؟(1/903)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
{ولو نشاء لمسخناهم} حجارةً وقردةً وخنازير {على مكانتهم} في منازلهم {فما استطاعوا مُضيّاً ولا يرجعون} أَيْ: لم يقدروا على ذهابٍ ولا مجيءٍ(1/903)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
{ومَنْ نعمره ننكسه في الخلق} مَنْ أطلنا عمره نكَّسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفا وبدل الشَّباب هرماً {أفلا يعقلون} أنَّا نفعل ذلك(1/903)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
{وما علمناه الشعر} لم نعلم محمدا صلى الله عليه وسلم قول الشِّعر {وما ينبغي له} وما يتسهَّل له ذلك {إن هو} أَيْ: ليس الذي أتى به {إلاَّ ذكرٌ وقرآن مبين}(1/903)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{لينذر مَنْ كان حيَّاً} عاقلاً فلا يغفل ما يُخاطب به لأنَّ الكافر كالميِّت {ويحق القول على الكافرين} تجب الحُجَّة عليهم(1/903)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أيدينا أنعاماً} أَيْ: عملناه من غير واسطةٍ ولا توكيلٍ ولا شريكٍ أعاننا {أنعاماً فهم لها مالكون} ضابطون(1/904)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{وذللناها} سخَّرناها {لهم فمنها ركوبهم} ما يركبون(1/904)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
{ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون}(1/904)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} يُمنعون من عذاب الله تعالى(1/904)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
{لا يستطيعون نصرهم} لا تنصرهم آلهتهم {وهم لهم جند محضرون} في النار لأنَّ أوثانهم معهم فيها(1/904)
فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
{فلا يحزنك قولهم} فيك بالسُّوء والقبيح {إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} فنجازيهم بذلك(1/904)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: العاص بن وائل وقيل: أبي بن خلف {فإذا هو خصيم مبين} جَدِلٌ بالباطل خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث وهو قوله:(1/904)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
{وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه} وهو أنَّه قال: متى يحيي الله العظم البالي المتفتِّت؟ ونسي ابتداء خلقه لأنَّه لو علم ذلك ما أنكر الإِعادة وهذا معنى قوله: {قال من يحيي العظام وهي رميم} أَيْ: باليةٌ(1/904)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
{قل يحييها الذي أنشأها} خلقها {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ} من الابتداء والإِعادة {عليم}(1/905)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} يعني: المرخ والعفار ومنهما زنود الأعراب {فإذا أنتم منه توقدون} تورون النَّار ثمَّ احتج عليهم بخلق السماوات والأرض فقال:(1/905)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
{وليس الذي خلق السماوات وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وهو الخلاق العليم} ثمَّ ذكر كمال قدرته فقال:(1/905)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
{إنما أمره إذا أراد شيئاً} أَيْ: خلق شيءٍ {أن يقول له كن فيكون} ذلك الشَّىء(1/905)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{فسبحان} تنزيهاً لله سبحانه من أن يُوصف بغير القدرة على الإعادة {الذي بيده ملكوت كلِّ شيء} أَيْ: القدرة على كلِّ شيء {وإليه ترجعون} تُردُّون في الآخرة(1/905)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
{والصافات صفاً} يعني: صفوف الملائكة في السَّماء(1/906)
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
{فالزاجرات زجراً} يعني: الملائكة تزجر السَّحاب وتسوقه(1/906)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
{فالتاليات ذكراً} جماعة قرَّاء القرآن(1/906)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
{إن إلهكم لواحد} أقسم الله سبحانه بهؤلاء أنَّ إلهكم لواحد(1/906)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
{وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} مطالع الشمس(1/906)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} بضوئها {و} حفظناها(1/906)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
{حفظاً من كلِّ شيطان مارد} متمرِّدٍ خبيثٍ(1/906)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
{لا يَسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى} يعني: الملائكة {ويقذفون من كلّ جانب} ويُرمون(1/907)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
{دحوراً} يُدحرون دحوراً أَيْ: يُباعدون {ولهم عذاب واصب} دائم(1/907)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{إلاَّ من خطف الخطفة} سمع الكلمة من الملائكة فأخذها بسرعة {فأتبعه} لحقه {شهاب ثاقب} كوكبٌ مضيءٌ(1/907)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
{فاستفتهم} فسلهم يعني: أهل مكَّة {أهم أشد خلقاً أم من خلقنا} من الأمم السَّالفة قبلهم وغيرهم من السماوات والأرض {إنا خلقناهم من طين لازب} لاصقٍ لازمٍ(1/907)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
{بل عجبت} يا محمَّد من تكذيبهم إيَّاك {و} هم {يسخرون} من تعجُّبك(1/907)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
{وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ}(1/907)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
{وإذا رأوا آية} معجزةً سخروا(1/907)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
{وقالوا إن هذا إلاَّ سحر مبين}(1/907)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
{أإذا متنا وكنا تراباً وعظاما أإنا لمبعوثون}(1/907)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
{أو آباؤنا الأولون}(1/907)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
{قل: نعم} تبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون أذلاَّء(1/907)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
{فإنما هي} يعني: القيامة {زجرة} صحية {واحدة فإذا هم} أحياءٌ {ينظرون} سوء أعمالهم وقيل: ما كذَّبوا به(1/907)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
{وقالوا: يا ويلنا هذا يوم الدين} يوم نُجازى فيه بما عملنا(1/907)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
{هذا يوم الفصل} بين الحقِّ والباطل {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}(1/907)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
{احشروا الذين ظلموا} كفروا {أزواجهم} قرناءهم من الشَّياطين وأوثانهم(1/908)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
{فاهدوهم} دلُّوهم إلى النار(1/908)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
{وقفوهم} احسبوهم {إنهم مسؤولون} عن أقوالهم وأفعالهم(1/908)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
{ما لكم لا تناصرون} لا ينصر بعضكم بعضاً(1/908)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مستسلمون} مُنقادون(1/908)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
{وأقبل بعضهم على بعض} يعني: الأتباع والرُّؤساء {يتساءلون} يتخاصمون(1/908)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
{قالوا} يعني: الأتباع للرُّؤساء {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} تقهروننا بالقوَّة من قبل الدين فتضلوننا عنه(1/908)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
{قالوا بل لم تكونوا مؤمنين} أَيْ: إنَّما الكفر من قبلكم(1/908)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كنتم قوما طاغين}(1/908)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
{فحق علينا} جميعاً {قول ربنا} كلمة العذاب(1/908)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}(1/908)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}(1/908)
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}(1/908)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إلا الله يستكبرون}(1/908)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
{ويقولون أإنا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}(1/908)
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المرسلين}(1/908)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
{إنكم لذائقوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ}(1/908)
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(1/908)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
{إِلا عباد الله المخلصين} المؤمنين لكن عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(1/908)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ معلوم} بكرة وعشيا(1/908)
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ}(1/908)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
{في جنات النعيم}(1/908)
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)
{عَلَى سرر متقابلين}(1/908)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
{بكأس من معين} خمرٍ تجري على وجه الأرض(1/909)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
{بيضاء لذة للشَّاربين} ذات لذاة(1/909)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
{لا فيها غولٌ} داءٌ ولا وجعٌ {ولا هم عنها ينزفون} لا تذهب بعقولهم(1/909)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
{وعندهم قاصرات الطرف} نساء لا ينظرن إلى غير أزواجهنَّ {عين} نُجْل العيون(1/909)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{كأنهن بيض} في صفاء لونها {مكنون} يستره ريش النَّعام(1/909)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
{فأقبل بعضهم} يعني: أهل الجنَّة {على بعض يتساءلون} عمَّا مرَّ بهم(1/909)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} يعني: الذين قصَّ الله خبرهما في سورة الكهف كان يقول له قرينه:(1/909)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
{أَإِنّك لمن المصدقين} ممَّن يصدِّق بالبعث والجزاء؟ وقوله:(1/909)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
{أإنَّا لمدينون} أَيْ: مجزيون(1/909)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
{قال} الله سبحانه لأهل الجنَّة: {هل أنتم مطلعون} إلى النَّار(1/909)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
{فاطلع} المسلم فرأى قرينه الكافر {في سواء الجحيم} وسطه فقال له:(1/909)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{تالله إن كدت لَتُرِديْنَ} تهلكني وتضلُّني(1/909)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
{ولولا نعمة ربي} عصمته ورحمته {لكنت من المحضرين} في النَّار(1/910)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
{أفما نحن بميتين} {إلاَّ موتتنا الأولى} يقوله أهل الجنَّة للملائكة حين يُذبح الموت فتقول الملائكة: لا فيقولون: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {لِمِثْلِ هَذَا فليعمل العاملون}(1/910)
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
{إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(1/910)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1/910)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{لمثل هذا فليعمل العاملون}(1/910)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
{أذلك} الذي ذكرتُ من نعيم أهل الجنَّة {خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}(1/910)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
{إنا جعلناها فتنة للظالمين} افتتنوا بها وكذَّبوا بكونها فصارت فتنةً لهم وذلك أنَّهم أنكروا أن يكون في النَّار شجرة قال الله تعالى:(1/910)
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أصل الجحيم} أصلها في قعر جهنَّم(1/910)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
{طلعها} ثمرها {كأنَّه رؤوس الشياطين} في القبح وكراهية المنظر(1/910)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
{فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}(1/910)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
{ثُمَّ إنَّ لهم عليها} على شجرة الزَّقوم {لشوباً} خلطاً ومزاجاً {من حميم} ماءٍ حارٍ(1/910)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
{ثم إنَّ مرجعهم} مرجع الكفَّار {لإِلى الجحيم} الذي يجمع هذه الأشياء وقوله:(1/910)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)
{إنهم ألفوا آباءهم ضالين}(1/910)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
{يهرعون} أَيْ: يزعجون إلى أتباعهم(1/910)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ}(1/910)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ}(1/910)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ}(1/910)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
{إلاَّ عباد الله المخلصين}(1/910)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
{ولقد نادانا نوح} يعني: قوله: {إنِّي مغلوبٌ فانتصر} {فلنعم المجيبون} نحن(1/911)
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} يعني: الغرق(1/911)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
{وجعلنا ذريته هم الباقين} لأنَّ الخلق كلَّهم أُهلكوا إلاَّ مَنْ كان معه في سفينته وكانوا من ذرِّيَّته(1/911)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} فيمن يأتي بعده ثناءً حسناً وهو أن يُصلَّى عليه ويُسلَّم وهو معنى قوله: {سلام على نوح في العالمين}(1/911)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ في العالمين}(1/911)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(1/911)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(1/911)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
{ثم أغرقنا الآخرين}(1/911)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
{وإن من شيعته} أهل دينه وملَّته {لإِبراهيم}(1/911)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
{إذ جاء ربه بقلب سليم} من الشرك(1/911)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ}(1/911)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}(1/911)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
{فما ظنكم برب العالمين} قال إبراهيم عليه السَّلام لقومه وهم يعبدون الأصنام: أَيُّ شيءٍ ظنُّكم بربِّ العالمين وأنتم تعبدون غيره؟(1/911)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
{فنظر نظرة في النجوم} وذلك أنَّه كان لقومه من الغد عيدٌ يخرجون إليه ويضعون أطعمتهم بين يدي أصنامهم لتبرِّك عليها زعموا فقالوا لإِبراهيم: ألا تخرج معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى نجم وقال:(1/911)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
{إني سقيم} وكانوا يتعاطون علم النُّجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه واعتلَّ في التَّخلُّف عن عيدهم بأنَّه يعتلُّ وتأوَّل في قوله: {سقيم} سأسقم(1/912)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
{فتولوا عنه مدبرين} أدبروا عنه إلى عيدهم وتركوه(1/912)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
{فراغ} فمال {إلى آلهتهم فقال} إظهار لضعفها وعجزها: {ألا تأكلون} من هذه الأطعمة(1/912)
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
{ما لكم لا تنطقون}(1/912)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
{فراغ} فمال {عليهم} يضربهم {ضرباً باليمين} بيده اليمنى(1/912)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
{فأقبلوا إليه} من عيدهم {يزفون} يسرعون فقال لهم إبراهيم محتجاً:(1/912)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} من نحتكم وجميع أعمالكم(1/912)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(1/912)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
{قالوا ابنوا له بنياناً} حظيرة واملؤوه ناراً وألقوا إبراهيم في تلك النَّار(1/912)
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
{فأرادوا به كيداً} حين قصدوا إحراقه بالنَّار {فجعلناهم الأسفلين} المقهورين لأنَّه علاهم بالحجَّة والنُّصرة(1/912)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
{وقال إني ذاهب إلى ربي} إلى المكان الذي أمرني بالهجرة إليه {سيهدين} يثبتني على الهدى(1/912)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
{رب هب لي} ولداً {من الصالحين}(1/912)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
{فبشرناه بغلام حليم} سيِّدٍ يُوصف بالحلم(1/912)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
{فلما بلغ} ذلك الغلام {معه السعي} أَيْ: أدرك معه العمل {قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أني أذبحك} وذلك أنَّه أُمر في المنام بذبح ولده {فانظر ماذا ترى} ما الذي تراه فيما أقول لك هل تستسلم له؟ فاستسلم الغلام و {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(1/912)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
{فلما أسلما} انقادا لأمر الله {وتلَّه للجبين} صرعه على أحد جنبيه(1/913)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنا كذلك نجزي المحسنين}(1/913)
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(1/913)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
{إنّ هذا لهو البلاء المبين} الاختيار الظاهر يعني: حين اختبره بذبح ولده فانقاد وأطاع(1/913)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
{وفديناه بذبحٍ} بكبشٍ {عظيم} لأنَّه رعى في الجنَّة أربعين خريفاً وكان الكبش الذي تُقبِّل من ابن آدم عليه السلام(1/913)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}(1/913)
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
{سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(1/913)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)
{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(1/913)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(1/913)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}(1/913)
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لنفسه مبين}(1/913)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
{ولقد مننا على موسى وهارون} بالنُّبوَّة(1/913)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
{ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم} يعني: الغرق وقوله:(1/913)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}(1/913)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ}(1/913)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(1/913)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ}(1/913)
سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)
{سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}(1/913)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(1/913)
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
{إنهما من عبادنا المؤمنين}(1/913)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}(1/913)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ}(1/913)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{أتدعون بعلاً} يعني: صنماً كان لهم(1/914)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
{الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}(1/914)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
{فكذبوه فإنهم لمحضرون} في النَّار(1/914)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
{إلاَّ عباد الله المخلصين} من قومه(1/914)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}(1/914)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
{سلام على إِلْ ياسين} يعني: إلياس عليه السَّلام وقيل: يعني قومه ممَّن ينتسب إلى إتباعه(1/914)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ز(1/914)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
{إنه من عبادنا المؤمنين}(1/914)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}(1/914)
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)
{إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}(1/914)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
{إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}(1/914)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ}(1/914)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ}(1/914)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
{وبالليل أفلا تعقلون}(1/914)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
{وإن يونس لمن المرسلين}(1/914)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
{إذ أبق} هرب {إلى الفلك المشحون} السَّفينة المملوءة حين ذهب مغاضبا فوقعت السَّفينة ولم تجرِ فقارعه أهل السَّفينة فخرجت القرعة عليه فخرج منها وألقى نفسه في البحر فذلك قوله:(1/914)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
{فساهم} فقارع {فكان من المدحضين} المغلوبين بالقرعة(1/914)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
{فالتقمه} فابتلعه {الحوت وهو مليم} أتى بما يُلام عليه(1/914)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
{فلولا أنَّه كان من المسبحين} من المُصلِّين قبل ذلك(1/914)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
{للبث في بطنه} في بطن الحوت إلى يوم القيامة(1/914)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
{فنبذناه} طرحناه {بالعراء} وجه الأرض {وهو سقيم} عليلٌ كالفرخ الممعَّط(1/914)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
{وأنبتنا عليه} عنده {شجرة من يقطين} وهو القرع ليستظلَّ بها(1/915)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} بل يزيدون(1/915)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
{فآمنوا فمتعناهم إلى حين} إلى انقضاء آجالهم(1/915)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
{فاستفتهم} فسل يا محمَّد أهلَ مكَّة {ألربك البنات ولهم البنون} وذلك أنَّهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بنات الله(1/915)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
{أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون} حاضرون خلقنا إياهم(1/915)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)
{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ}(1/915)
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
{وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1/915)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
{أَصطفى البنات على البنين} أتَّخذ البنات دون البنين فاصطفاها وجعل لكم البنين؟ كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا}(1/915)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تحكمون}(1/915)
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)
{أفلا تتذكرون}(1/915)
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)
{أم لكم سلطان} برهانٌ {مبين} على أنَّ لله ولداً(1/915)
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
{فأتوا بكتابكم} الذي فيه حُجَّتكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(1/915)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{وجعلوا بينه وبين الجنة} يعني: الملائكة {نسباً} حين قالوا: إنَّهم بنات الله {ولقد علمت الجنة} الملائكة {إنهم لمحضرون} أنَّ الذين قالوا هذا القول محضرون في النار(1/915)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(1/916)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
{إلاَّ عباد الله المخلصين} فإنهم ناجون من النَّار(1/916)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)
{فإنكم وما تعبدون} من الأصنام(1/916)
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
{ما أنتم عليه بفاتنين} لا تفتنون أحداً على ما يعبدون ولا تضلونه(1/916)
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
{إِلا مَنْ هُوَ صال الجحيم} أَيْ: إلا مَنْ هو في معلوم الله أنَّه يدخل النَّار(1/916)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
{وما منا إلاَّ له} هذا من قول الملائكة والمعنى: ما منَّا مَلَكٌ إلاَّ له {مقام معلوم} من السَّماء يعبد الله سبحانه هناك(1/916)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
{وإنا لنحن الصافون} في الصَّلاة(1/916)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
{وإنا لنحن المسبحون} المُصلُّون(1/916)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)
{وإن كانوا ليقولون} كان كفار مكَّة يقولون: لو جاءنا كتابٌ كما جاء غيرنا من الأوَّلين لأخلصنا عبادة الله سبحانه فلمَّا جاءهم كفروا به(1/916)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ}(1/916)
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
{لَكُنَّا عباد الله المخلصين}(1/916)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
{فسوف يعلمون} عاقبة كفرهم(1/916)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}(1/916)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ}(1/916)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
{وإن جندنا لهم الغالبون} أَيْ: تقدَّم الوعد بنصرتهم وهو قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}(1/916)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حين} حتى تنقضي المدة التي أمهلوا فيها(1/917)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
{وأَبْصرْهم} انظر إليهم إذا عذِّبوا {فسوف يبصرون} ما أنكروا(1/917)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
{أفبعذابنا يستعجلون} وذلك أنَّهم كانوا يقولون: متى هذا الوعد؟(1/917)
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
{فإذا نزل} العذاب {بساحتهم} بِفِنائهم {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ}(1/917)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
{وتول عنهم حتى حين}(1/917)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
{وأبصر} انظر فبئس ما يصبحون عند ذلك(1/917)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}(1/917)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
{وَسَلامٌ على المرسلين}(1/917)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{والحمد لله رب العالمين}(1/917)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
{ص} صدق الله {والقرآن ذي الذكر} ذي الشَّرف(1/918)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
{بل الذين كفروا في عزَّة} امتناعٍ من الدِّين {وشقاق} خلافٍ وعداوةٍ(1/918)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
{كم أهلكنا} هذا جواب القسم واعترض بينهما قوله: {بل الذين كفروا} {فنادوا} بالاستغاثة عند الهلاك {ولات حين مناص} وليس حين منجىً وفوت(1/918)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
{وعجبوا} يعني: أهل مكَّة {أن جاءهم منذر منهم} محمد صلى الله عليه وسلم(1/918)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
{أجعل الآلهة إلهاً واحداً} وذلك أنَّهم اجتمعوا عند أبي طالب يشكون إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إني أدعوكم إلى كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله فقالوا: كيف يسع الخلق كلَّهم إلهٌ واحد؟ {إنَّ هذا} الذي يقوله {لشيء عجاب} عجب(1/918)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
{وانطلق الملأ منهم} نهضوا من مجلسهم ذلك يقول بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هذا} الذي يقوله محمَّد {لشيءٌ يراد} أَيْ: لأَمرٌ يُراد بنا ومكرٌ يمكر علينا(1/919)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
{ما سمعنا بهذا} الذي يقوله {في الملَّة الآخرة} فيما أدركنا عليه آباءنا {إن هذا إلاَّ اختلاق} زورٌ وكذب(1/919)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
{أَأنزل عليه الذكر من بيننا} كيف خُصَّ بالوحي من جملتنا؟ قالوا هذا حسداً له على النُّبوَّة قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذكري} أَيْ: وَحْيِي أَيْ: حين قالوا: اختلاق {بل لما يذوقوا عذاب} ولو ذاقوه لأيقنوا وصدَّقوا(1/919)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
{أم عندهم خزائن رحمة ربك} أَيْ: مفاتيح النُّبوَّة حتى يعطوا النُّبوَّة مَن اختاروا(1/919)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
{أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما} يعني: إنَّ ذلك لله عزَّ وجل فيصطفي مَنْ يشاء {فليرتقوا في الأسباب} أَيْ: إن ادَّعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا فيما يوصلهم إلى السَّماء وليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارون ثمَّ وعد نبيَّه النَّصر فقال:(1/920)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{جند ما هنالك} أَيْ: هم جندٌ هنالك {مهزوم} مغلوبٌ {من الأحزاب} كالقرون الماضية الذين قُهروا وأُهلكوا وهذا إخبارٌ عن هزيمتهم ببدرٍ ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام فقال:(1/920)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد}(1/920)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} ذو الملك الشَّديد(1/920)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
{إن كل} ما كل من هؤلاء {إلاَّ كذَّب الرسل فحقَّ} فوجب {عقاب}(1/920)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
{وما ينظر هؤلاء} أَيْ: ما ينتظر هؤلاء كفار مكَّة {إلاَّ صيحة واحدة} وهي نفخة القيامة {ما لها من فواق} رجوعٌ ومردٌّ(1/920)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
{وقالوا ربنا عجِّلْ لنا قطنا} كتابنا وصحيفة أعمالنا {قبل يوم الحساب} وذلك لمَّا نزل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَأَمَّا مَنْ أوتي كتابه بشماله} سألوا ذلك فنزلت هذه الآية وقوله:(1/920)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
{داود ذا الأيد} أي: ذا القوة في العبادة {إنَّه أوَّابٌ} رجَّاع إلى الله سبحانه(1/920)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} يجاوبنه بالتَّسبيح {بالعشي والإِشراق} يعني: الضُّحى(1/921)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
{والطير} أَيْ: وسخَّرنا الطَّير {محشورة} مجموعةً {كلٌّ له} لداود {أواب} مطيعٌ يأتيه ويسبِّح معه(1/921)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{وشددنا ملكه} بالحرس وكانوا ثلاثةً وثلاثين ألف رجلٍ يحرسون كلَّ ليلةٍ محرابه {وآتيناه الحكمة} الإِصابة في الأمور {وفصل الخطاب} بيان الكلام والبصر في القضاء وهو الفصل بين الحقِّ والباطل(1/921)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
{وهل أتاك نبأ الخصم} يعني: الملكين اللذين تصوَّرا في صورة خصمين من بني آدم {إذ تسوروا المحراب} علوا غرفة داود عليه السَّلام(1/921)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
{إذ دخلوا على داود ففزع منهم} لأنَّهما دخلا بغير إذنٍ في غير وقت دخول الخصوم {قالوا لا تخف خصمان} أَيْ: نحن خَصْمَانِ {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أَيْ: ظلم بعضنا بعضاً {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} ولا تَجُرْ {واهدنا إلى سواء الصراط} إلى طريق الحقِّ(1/921)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} يعني: امرأة {ولي نعجة واحدة} أَي: امرآةٌ {فقال أكفلنيها} أَي: انزل عنها واجعلني أنا أكلفها {وعزَّني في الخطاب} غلبني في الاحتجاج لأنَّه أقوى مني وأقدر على النُّطق وهذا القول من الملكين على التّمثيل لا على التَّحقيق كأنَّ القائل منهما قال: نحن كخصمين هذه حالهما فلمَّا قال هذا أحد الخصمين اعترف له الآخر(1/921)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
{قال} داود عليه السَّلام: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك} أَيْ: بسؤاله إيَّاك نعجتك: امرأتك أن يضمَّها {إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء} الشُّركاء {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم} وقليلٌ هم {وظنَّ داود} علم عند ذلك {إنّما فتناه} ابتليناه بتلك المرأة التي أحبَّ أن يتزوَّجها ثمَّ تزوَّجها {فاستغفر ربه} ممَّا فعل وهو محبته أن يتزوَّج امرأةَ مَنْ له امرأةٌ واحدةٌ وله تسع وتسعون امرأةً {وخرَّ راكعاً} سقط للسُّجود بعد ما كان راكعاً {وأناب} رجع إلى الله سبحانه بالتَّوبة(1/922)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
{فغفرنا له ذلك وإنَّ له عندنا} بعد المغفرة {لزلفى} قربةً {وحسن مآب} مرجع(1/922)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أَيْ: عن قبلك من الأنبياء وقوله: {بما نسوا يوم الحساب} أَيْ: تركوا الإِيمان به والعمل له(1/922)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا} إلاَّ لأمرٍ صحيحٍ وهو الدَّلالة على قدرة خالقهما وتوحيده وعبادته وقوله:(1/923)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}(1/923)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أولو الألباب}(1/923)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(1/923)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
{الصافناتُ الجياد} أي: الخيل القائمة(1/923)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
{فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ ربي} آثرت حبَّ الخير أي: الخيل على ذكر الله حتى فاتني في وقته {حتى توارت} الشَّمس {بالحجاب} أَيْ: غربت وقوله:(1/923)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
{فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} أَيْ: أقبل يقطع سوقها وأعناقها ولم يفعل ذلك إلاَّ لإِباحة الله عزَّ وجل له ذلك وقوله:(1/923)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
{ولقد فتنا سليمان} ابتليناه {وألقينا على كرسيِّه جسداً} شيطاناً تصوَّر في صورته وذلك أنَّه تزوَّج امرأة وهويها وعبدت الصَّنم في داره بغير علمه فنزع الله ملكه أيَّاماً وسلَّط شيطاناً على مملكته ثمَّ تاب سليمان وأعاد الله عليه ملكه فسأل الله أن يهب له ملكاً يدلُّ على أنَّه غفر له وردَّ عليه ما نزع منه وهو قوله:(1/923)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
{وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بعدي} وقوله:(1/924)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
{رخاءً} أي: ليِّنةً مُطيعةً سريعةً {حيث أصاب} أراد وقصد سليمان عليه السَّلام(1/924)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
{والشياطين} أَيْ: وسخَّرنا له {كلَّ بناء} من الشَّياطين مَنْ يبنون له {وغوَّاص} يغوصون في البحر فيستخرجون ما يريد(1/924)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
{وآخرين مقرنين في الأصفاد} وسخَّرنا له مردة الشَّياطين حتى قرنهم في السَّلاسل من الحديد وقلنا له:(1/924)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
{هذا} الذي أعطيناك {عطاؤنا فامنن} أَيْ: أعطِ {أو أمسك بغير حساب} عليك في إعطائه ولا إمساكه وهذا مما خصَّ به وقوله:(1/924)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}(1/924)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
{بنصب} أَيْ: بتعبٍ ومشقَّةٍ في بدني {وعذاب} في أهلي ومالي فقلنا له:(1/924)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
{اركض برجلك} أَيْ: دُسْ وحرِّك برجلك في الأرض فداس فنبعت عين ماءٍ فاغتسل به حتى ذهب الدّاء من ظاهره ثمَّ شرب منه فذهب الدَّاء من باطنه(1/924)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وذكرى لأولي الألباب} مُفسَّرةٌ في سورة الأنبياء عليهم السَّلام(1/924)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{وخذ بيدك ضغثاً} حزمةً من الحشيش {فاضرب به} امرأتك {ولا تحنث} في يمينك وقوله:(1/925)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
{أولي الأيدي} أَيْ: ذوي القوَّة في العبادة {والأبصار} البصائر في الدِّين(1/925)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
{إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} أَيْ: جعلناهم يُكثرون ذكر الدَّار الآخرة والرُّجوع إلى الله تعالى وقوله:(1/925)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
{وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار}(1/925)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
{من الأخيار} جمع خيِّر(1/925)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
{هذا ذكر} شرفٌ وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً {وإنَّ للمتقين} مع ذلك {لحسن مآب} مرجعٍ في الآخرة ثمَّ بيَّن ذلك المرجع فقال:(1/925)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
{جنات عدن} وقوله:(1/925)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}(1/925)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
{أتراب} أقرانٌ وأمثالٌ أسنانهنَّ واحدة(1/925)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}(1/925)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}(1/925)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
{هذا وإنَّ للطاغين} أي: الأمر هذا الذي ذكرت وقوله:(1/925)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1/925)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
{هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق} أي: حميمٌ وغسَّاقٌ فليذوقوه والغسَّاق: ما سال من جلود أهل النَّار(1/925)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
{وآخر} أَيْ: وعذابٌ آخر {من شكله} من مثل ذلك الأوَّل {أزواج} أنواع فإذا دخلت الرُّؤساء النَّار ثمَّ دخل بعدهم الأتباع قالت الملائكة:(1/926)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
{هذا فوج} جماعةٌ {مقتحمٌ معكم} داخلوا النَّار فقال الرُّؤساء: {لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} كما صليناها فقال الأتباع(1/926)
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
{بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لنا} شرعتم وسننتم الكفر لنا {فبئس القرار} قرارنا وقراركم(1/926)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
{قالوا} أي: الأتباع {ربنا مَنْ قدَّم لنا هذا} شرعه وسنَّه {فزده عذاباً ضعفاً في النار} كقوله: {ربنا آتهم ضعفين من العذاب}(1/926)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
{وقالوا} يعني: صناديد قريش: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ من الأشرار} أي: فقراء المسلمين(1/926)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
{أتخذناهم سخرياً} كنَّا نسخر بهم في الدَّنيا أَمفقودون هم؟ {أم زاغت عنهم الأبصار} فلا نراهم ها هنا(1/926)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
{إن ذلك} الذي ذكرنا عن أهل النَّار {لحق} ثمَّ بيَّن ما هو فقال: {تَخَاصُمُ أهل النار}(1/926)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا الله الواحد القهار}(1/926)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
{رب السماوات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}(1/926)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
{قل هو نبأٌ عظيم} أي: القرآن الذي أنباتكم به وجئتكم فيه بما لا يُعلم إلاَّ بوحي وهو قوله:(1/926)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}(1/927)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى} وهم الملائكة {إذ يختصمون} في شأن آدم عليه السَّلام يعني: قولهم: {أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها} الآية وقوله:(1/927)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مبين}(1/927)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا من طين}(1/927)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا له ساجدين}(1/927)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}(1/927)
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
{إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين}(1/927)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
{لما خلقت بيدي} أَيْ: تولَّيت خلقه وهذا اللَّفظ ذُكر تخصيصاً وتشريفاً لآدم عليه السَّلام وإن كان كلُّ شيءٍ يتولَّى الله خلقه دون غيره وقوله:(1/927)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخلقته من طين}(1/927)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}(1/927)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(1/927)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1/927)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}(1/927)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}(1/927)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(1/927)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(1/927)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
{قال فالحقُّ والحقَّ أقول} أَيْ: فبالحقِّ أقول وأقول الحقَّ قَسمٌ جوابه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}(1/927)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}(1/927)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
{قل ما أسألكم عليه} على تبليغ الرِّسالة {من أجر وما أنا من المتكلفين} المنقولين للقرآن من تلقاء نفسي(1/927)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)
{إن هو} ليس القرآن {إلا ذكر} عظة {للعالمين}(1/927)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{ولتعلمنَّ} أنتم أيُّها المشركون {نبأه} ما أخبرتكم فيه من البعث والقيامة {بعد حين} بعد الموت(1/927)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
{تنزيل الكتاب} ابتداء وخبره قوله: {من الله العزيز الحكيم} وقوله:(1/928)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
{مخلصا له الدين} أي: الطَّاعة والمعنى: اعبده مُوحِّداً لا إله إلا هو(1/928)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
{ألا لله الدين الخالص} أَيْ: الطَّاعة لا يستحقُّها إلاَّ الله تعالى ثمَّ ذكر الذين يعبدون غيره فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} أَيْ: ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أَيْ: قربى {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فيه يختلفون} من أمر الدين ثم أنَّه لا يهدي هؤلاء فقال {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذب} في إضافة الولد إلى الله تعالى {كفار} يكفر نعمته بعبادة غيره ثمَّ ذكر براءته عن الولد فقال:(1/928)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
{لو أراد الله أن يتخذ ولداً} كما يزعم هؤلاء {لاصطفى} لاختار {ممَّا يخلق ما يشاء سبحانه} تنزيهاً له عن الولد وقوله:(1/929)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
{يكور الليل على النهار} أَيْ: يدخل أحدهما على الآخر(1/929)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{خلقكم من نفس واحدة} يعني: آدم عليه السَّلام {ثمَّ جعل منها زوجها} حوَّاء {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} مشروحٌ في سورة الأنعام وقوله: {خلقاً من بعد خلق} أَيْ: نطفةً ثمَّ علقةً ثمَّ مضغةً {في ظلمات ثلاث} ظلمة البطن وظلمة الرَّحم وظلمة المشيمة {فأنى تُصرفون} عن عبادته إلى عبادة غيره بعد هذا البيان! وقوله:(1/929)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ولا يرضى لعباده الكفر} أَيْ: المؤمنين المخلصين منهم كقوله: {عيناً يشرب بها عباد الله} {وإن تشكروا} أَيْ: إن تطيعوا ربَّكم {يرضه لكم} يرض الشُّكر لكم ويُثبكم عليه(1/929)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{وإذا مس الإنسان} يعني: الكافر {ضرٌّ دعا ربَّه منيباً إليه} راجعاً {ثمَّ إذا خَوَّلَهُ} أعطاه {نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل} نسي الله الذي كان يتضرَّع إليه من قبل النِّعمة وترك عبادته {قل} يا محمَّد عليه السَّلام لمن يفعل ذلك: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} وهذا تهديدٌ(1/930)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{أمن هو قانت} قائمٌ مطيعٌ لله {آناء الليل} أوقاته {يحذر} عذاب {الآخرة} كمَنْ هو عاص؟ ثمَّ ضرب لهما مثلاً فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أَيْ: هل يستوي العالم والجاهل؟ كذلك لا يستوي المطيع والعاصي {إنما يتذكر أولو الألباب} إنَّما يتَّعظ بوعظ الله ذوو العقول وقوله:(1/930)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
{للذين أحسنوا في هذه الدنيا} وحَّدوا الله تعالى وعملوا بطاعته {حسنة} وهي الجنَّة {وأرض الله واسعة} فهاجروا فيها واخرجوا من بين الكفَّار {إنما يوفى الصابرون} على طاعة الله تعالى وما يبتليهم به {أَجْرَهُمْ بغير حساب} بغير مكيالٍ ولا ميزان(1/930)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا له الدين} أَيْ: مُوحِّداً(1/930)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
{وأمرت لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة(1/930)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(1/930)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
{قل الله أعبد مخلصا له ديني}(1/930)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
{قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم} بالتَّخليد في النَّار {وأهليهم} لأنَّهم لم يدخلوا مدخلِ المؤمنين الذين لهم أهل في الجنَّة(1/931)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
{لهم من فوقهم ظللٌ} هذا كقوله {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم} الآية وكقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} {ذلك} الذي وصفت من العذاب {يخوِّف الله به عباده}(1/931)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
{والذين اجتنبوا الطاغوت} أَيْ: الأوثان {أن يعبدوها وأنابوا إلى الله} رجعوا إليه بالَّطاعة {لهم البشرى} بالجنَّة {فَبَشِّرْ عباد}(1/931)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
{الذين يستمعون القول} القرآن وغيره {فيتبعون أحسنة} وهو القرآن(1/931)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
{أفمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت} يا محمَّدُ {تنقذ} هـ أَيْ تُخرجه من النَّار أيْ: إنَّه لا يقدر على هدايته وقوله:(1/931)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{لهم غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية} أَيْ: لهم منازل في الجنَّة رفيعةٌ وفوقها منازل أرفع منها(1/931)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ماء فسلكه} أدخل ذلك الماء {ينابيع في الأرض} وهي المواضع التي ينبع منها الماء وكلُّ ماءٍ في الأرض فن السَّماء نزل {ثم يخرج به} بذلك الماء {زرعاً مختلفا ألوانه} خضرة وصفرةً {ثمَّ يهيج} ييبس {فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً} دُقاقاً فتاتاً {إنَّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب} يذكرون ما لهم من الدَّلالة في هذا على توحيد الله تعالى وقدرته(1/931)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{أفمن شرح الله صدره} وسَّعه {للإِسلام فهو على نور من ربه} أَيْ: فاهتدى إلى دين الإِسلام كمَنْ طبع على قلبه ويدل على هذا المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ من ذكر الله}(1/932)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
{اللَّهُ نزَّل أَحسنَ الحَديثِ} أي: القرآن {كتاباً متشابهاً} يشبه بعضه بعضاً من غير اختلاف ولا تناقص {مثاني} يثني فيه الأخبار والقصص وذكر الثَّواب والعقاب {تقشعر} تضطرب وتتحرَّك بالخوف {منه جلود الذين يخشون ربهم} يعني: عند ذكر آية العذاب {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: من آية الرَّحمة {ذلك هدى الله} أَيْ: ذلك الخشية من العذاب ورجاء الرَّحمة هدى الله(1/932)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
{أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب} وهو الكافر يُلقي في النَّار مغلولاً فلا يتهيَّأ له أن يتَّقي النَّار إلاَّ بوجهه ومعنى الآية: أفمن هذا حاله كمَن يدخل الجنَّة؟ وقوله:(1/932)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}(1/932)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}(1/932)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل لعلهم يتذكرون}(1/932)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
{غير ذي عوج} أَيْ: ليس فيه اختلافٌ وتضادٌّ ثمَّ ضرب مثلاً للموحِّد والمشرك فقال:(1/933)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} متنازعون سيِّئةٌ أخلاقهم وكلُّ واحدٍ يستخدمه بقدر نصيبه وهذا مَثَلُ المشرك الذي يعبد آلهة شتى {ورجلا سلما} خالصاً لرجل وهو الذي يعيد اله وحده {هل يستويان مثلاً} أَيْ: هل يستوي مَثَل الموحِّد ومَثَل المشرك؟ {الحمد لله} وحده دون غيره من المعبودين {بل أكثرهم لا يعلمون} مفسَّر في سورة النَّحل ثمَّ ذكر أنهم يموتون ويرجعون إلى الله فيختصمون عنده فقال:(1/933)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عند ربكم تختصمون} يعني: المؤمن والكافر والمظلوم والظَّالم(1/933)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عند ربكم تختصمون}(1/933)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
{فمن أظلم ممن كذب على الله} وزعم أنَّ له ولداً وشريكاً {وكذَّب بالصدق} بالقرآن {إذ جاءه} على لسان الرَّسول {أليس في جهنَّم مثوى} مقامٌ ومنزلٌ لهؤلاء(1/933)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
{والذي جاء بالصدق} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن {وصدَّق} أبو بكر رضي الله عنه ثم المؤمنين بعده وقوله:(1/933)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
{لهم ما يشاؤون عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}(1/934)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون}(1/934)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{أليس الله بكافٍ عبده} يعني: محمدا صلوات الله عليه ينصره ويكفيه أمر مَنْ يُعاديه {ويخوفونك بالذين من دون} أَيْ: يُخوِّفونك بأوثانهم يقولون: إنَّك لتعيبها وإنَّها لتصيبنَّك بسوء ثمَّ بيَّن أنَّهم مع عبادتهم الأوثان يُقرُّون بأنَّ الخالق هو الله فقال:(1/934)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أليس الله بعزيز ذي انتقام}(1/934)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
{ولئن سالتهم من خلق السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ من دون الله} الأوثان {إن أرادني الله بضرٍّ} بلاءٍ وشدَّةٍ هل يكشفنَ ذلك عني {أو أرادني برحمة} نعمةٍ هل يمسكن ذلك عني؟ وهذا بيان أنَّها لا تنفع ولا تدفع(1/934)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}(1/934)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
{مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مقيم}(1/934)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}(1/934)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{الله يتوفى الأنفس} يقبض الأرواح {حين} عند {موتها والتي لم تمت} أَيْ: ويقبض روح التي لَمْ تَمُتْ {فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عليها الموت} أَيْ: يمسك أنفس الأموات عنده {ويرسل الأخرى} أنفس الأحياء إذا انتهبوا من منامهم يردُّ عليهم أرواحهم {إلى أجل مسمى} وهو أجل الموت(1/934)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
{أم اتخذوا من دون الله شفعاء} أَيْ: الأوثان التي عبدوها لتشفع لهم {قل أو لو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} من الشَّفاعة {ولا يعقلون} أنَّهم يعبدونهم لا يتركون عبادتهم(1/935)
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
{قل لله الشفاعة جميعاً} فليس يشفع أحدٌ إلاَّ بإذنه(1/935)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يؤمنون بالآخرة} كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له نفروا من ذلك وإذا ذكر الأوثان فرحوا و {اشمأزَّت} : نفرت وقوله:(1/935)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
{قل اللهم فاطر السماوات وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عبادك في ما كانوا فيه يختلفون}(1/935)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يحتسبون} في الدُّنيا أنَّه نازلٌ بهم في الآخرة وقوله:(1/935)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ ما كانوا به يستهزئون}(1/935)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
{إنما أوتيته على علم} أُعطيته على شرفٍ وفضلٍ وكنت علمتُ أنِّي سأُعطى هذا باستحقاقي {بل هي فتنة} أي: تلكم العطيَّة فتنةٌ من الله تعالى يبتلي به العبد ليشكر أو يكفر(1/935)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{قد قالها الذين من قبلهم} يعني: قارون حين قال: {إنما أوتيته على علم عندي}(1/936)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بمعجزين}(1/936)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون}(1/936)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بارتكاب الكبائر والفواحش نزلت في قومٍ من أهل مكَّة همُّوا بالإسلام ثمَّ قالوا: إنَّ محمداً يقول: إنَّ مَنْ عبد الأوثان واتَّخذ مع الله آلهةً وقتل النَّفس لا يُغفر له وقد فعلنا كلَّ هذا فأعلم الله تعالى أنَّ مَنْ تاب وآمن غفر اله له كلَّ ذنب فقال: {لا تقنطوا من رحمة الله} اللآيه(1/936)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
{وأنيبوا إلى ربكم} أَيْ: ارجعوا إليه بالطاعة {وأسلموا} وأطيعوا {له}(1/936)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم} أَيْ: القرآن كقوله: {اللَّهُ نزَّل أَحسنَ الحَديثِ} وقوله:(1/936)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
{أن تقول نفس يا حسرتى} أَيْ: افعلوا ما أمرتكم به من الإنابة وابتاع القرآن خوفَ أن تصيروا إلى حالةٍ تقولون فيها هذا القول وقوله: {على ما فرطت في جنب الله} أَيْ: قصَّرت في طاعة الله وسلوك طريقة {إن كنت لمن الساخرين} أَيْ: ما كنت إلاَّ من المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه(1/937)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ من المتقين}(1/937)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(1/937)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وكنت من الكافرين}(1/937)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}(1/937)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
{وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} بمناجتهم من العذاب والمفازة ها هنا بمعنى الفوز وقوله:(1/937)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء وكيل}(1/937)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
{له مقاليد السماوات والأرض} أَيْ: مفاتيح خزائنها فكل شيء في السماوات والأرض الله فاتحُ بابه(1/937)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} هذا جواب الذين دعوه إلى دين آبائه وقوله:(1/937)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1/937)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
{بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}(1/937)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
{والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} أَيْ: ملكه من غير منازعٍ كما يقال: هو في قبضة فلان: إذا ملك التَّصرُّف فيه وإن لم يقبض عليه بيده {والسماوات مطويات} كقوله: {يوم نطوي السَّماء} {بيمينه} أَيْ: بقوَّته وقيل: بقسمه لأنَّه حلف أنَّه يطويها(1/937)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{ونفخ في الصور فصعق} أَيْ: مات {مَنْ في السماوات وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قيل: هم الشُّهداء وهم أحياءٌ عند ربِّهم وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش عليهم السَّلام {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون} ينتظرون أمر الله فيهم(1/938)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
{وأشرقت الأرض} أُلبست الإِشراق عَرَصَاتُ القيامة {بنور ربها} وهو نورٌ يخلقه الله في القيامة يلبسه وجه الأرض {ووضع الكتاب} أَيْ: الكتب التي فيها أعمال بني آدم {وجيء بالنبيين والشهداء} الذين يشهدون للرُّسل بالتبليغ(1/939)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بما يفعلون}(1/939)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً} جماعاتٍ وأفواجاً وقوله:(1/939)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مثوى المتكبرين}(1/939)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
{طبتم} أَيْ: كنتم طيِّبين في الدُّنيا وقوله:(1/939)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
{وأورثنا الأرض} أَيْ: أرض الجنَّةَ {نتبوَّأ من الجنة} نتَّخذ منها منازل {حيث نشاء فنعم أجر العاملين} ثواب المطيعين(1/939)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{وترى الملائكة حافين من حول العرش} محيطين به {وقضي بينهم} أيْ: حُكم بين أهل الجنَّة والنَّار {وقيل الحمد لله رب العالمين}(1/939)
حم (1)
{حم} قُضي ما هو كائن(1/940)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
{تنزيل الكتاب} ابتداء وخبره: {من الله العزيز العليم}(1/940)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{غافر الذنب} لمن قال لا إله إلا الله {وقابل التوب} ممن قال: لا إله إلا الله {شديد العقاب} لمَنْ لم يقل لا إله إلاَّ الله {ذي الطول} الغنى والسَّعة(1/940)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
{ما يجادل في آيات الله} أي: في دفعها وإبطالها {فلا يغررك تقلبهم} تصرفهم {في البلاد} للتجارات أَيْ: سلامتهم بعد كفرهم حتى إنَّهم يتصرَّفون حيث شاؤوا فإنَّ عاقبتهم كعاقبة من الكفَّار وهو قوله:(1/940)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
{كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم} أي: الذين تحزَّبوا على انبيائهم بالمخافة والعداوة كعادٍ وثمود {وهمَّت كلُّ أمة برسولهم ليأخذوه} أَيْ: قصدت كلُّ أمة رسولها ليتمكَّنوا منه فيقتلوه {وجادلوا} بباطلهم {ليدحضوا} ليدفعوا {به الحق فأخذتهم} فعاقبتهم {فكيف كان عقاب} استفهام تقرير(1/940)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{وكذلك} ومثل ما ذكرنا {حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} يعني: قوله: {لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك} الآية ثمَّ أخبر بفضل المؤمنين وأنَّ الملائكة يستغفرون لهم فقال:(1/941)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{الذين يحملون العرش ومَنْ حوله} من الملائكة وقوله: {ربنا وسعت كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً} أَيْ: وسعت رحمتك كلَّ شيء وعلمتَ كل شيء(1/941)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
{ربَّنا وأَدْخِلْهم جنَّاتِ عدنٍ التي وَعَدْتَهُم ومَنْ صلَحَ من آبائِهم وأزوَاجِهم وذُرِّيَّاتهم إنك أنت العزيز الحكيم}(1/941)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}(1/941)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{إن الذين كفروا ينادون} وهم في النَّار وقد مقتوا أنفسهم حين وقعوا في العذاب: {لمقت الله} إيَّاكم في الدُّنيا إذ تُدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبرُ من مقتكم أنفسكم(1/941)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
{قالوا ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وذلك أنَّهم كانوا أمواتاً نُطفاً فأُحيوا ثمَّ أُميتوا في الدُّنيا ثمَّ أُحيوا للبعث {فاعترفنا بذنوبنا} أي: أريتنا من الآيات ما أوجب علينا الإقرار بذنوبنا {فهل إلى خروج} من الدُّنيا {من سبيل} فقيل لهم:(1/941)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
{ذلكم} العذاب {بأنَّه إذا دعي الله وحده كفرتم} نكرتم وحدانيته {وإن يشرك به تؤمنوا} تُصدِّقوا ذلك الشِّرك {فالحكم لله} في إنزال العذاب بكم لا يمنعه عن ذلك مانع(1/942)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
{هو الذي يريكم آياته} دلائل توحيده {وينزل لكم من السماء رزقاً} بالمطر {وما يتذكر} وما يتَّعظ بآيات الله {إلاَّ مَنْ ينيب} يرجع إلى الله بالإيمان(1/942)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
{فادعوا الله مخلصين له الدين} الطَّاعة(1/942)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
{رفيع الدرجات} رافعها لأهل الثَّواب في الجنَّة {ذو العرش} مالكه وخالقه {يلقي الروح} الوحي الذي تحيا به القلوب من موت الكفر {من أمره} من قوله {على مَنْ يشاء من عباده} على مَنْ يختصه بالرِّسالة {لينذر يوم التلاق} ليخوِّف الخلق يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السَّماء أَيْ: يوم القيامة(1/942)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{يوم هم بارزون} خارجون من قبورهم {لا يخفى على الله} من أعمالهم وأموالهم {شيء} يقول الله في ذلك اليوم: {لمن الملك اليوم} ثمَّ يجيب نفسه {لله الواحد القهار}(1/942)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب}(1/943)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
{وأنذرهم يوم الآزفة} خوّفهم بيوم القيامة والآزقة: القريبة {إذ القلوب لدى الحناجر} وذلك أنَّ القلوب ترتفع من الفزع إلى الحناجر {كاظمين} ممتلئين غمّاً وخوفاً وحزناً {ما للظالمين} أي: الكافرين {من حميم} قريبٍ {ولا شفيع يطاع} فيشفع فيهم(1/943)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
{يعلم خائنة الأعين} خيانة الأعين وهي مسارقتها النَّظر إلى ما لا يحلُّ(1/943)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير}(1/943)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق}(1/943)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
{ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب}(1/943)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} بعلاماتنا التي تدلُّ على صحة نبوّته {وَسُلْطَانٍ مبين} أي: حجة ظاهرة(1/943)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
{إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب}(1/943)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} وذلك أَنَّ فرعون أمر بإعادة القتل على الذُّكور من أولاد بني إسرائيل لمَّا أتاه موسى عليه السَّلام ليصدَّهم بذلك عن متابعة موسى {وما كيد الكافرين} مكر فرعون وسوء صنيعه {إلاَّ في ضلال} زوالٍ وبطلانٍ وذهابٍ(1/943)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{وقال فرعون} لملَئهِ: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه} الذي أرسله إلينا فمنعه {إني أخاف أن يبدل دينكم} الذي أنتم عليه ويبطله {أو أن يظهر في الأرض الفساد} أو يفسد عليكم دينكم إن لم يبطله فلمَّا توعَّده بالقتل قال موسى:(1/944)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
{إني عذت بربي وربكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} وقوله:(1/944)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{يصبكم بعض الذي يعدكم} قيل: كلُّ الذي يعدكم(1/944)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض} هذا من قول مؤمن آل فرعون أعلمهم أنَّ لهم الملك ظاهرين عالين عل بني إسرائيل في أرض مصر ثمَّ أعلمهم أنَّ عذاب الله لا يدفعه دافع فقال: {فمن ينصرنا من بأس الله} أَيْ: مَنْ يمنعنا من عذابه {إن جاءنا} ؟ فـ {قال فرعون} حين منع قتله: {ما أُريكُمْ} من الرَّأي والنَّصيحة {إلاَّ ما أرى} لنفسي(1/944)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
{وقال الذي آمن} يعني: مؤمن آل فرعون: {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} ثمَّ فسَّر ذلك فقال:(1/944)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
{مثل دأب قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} خوَّفهم إن أقاموا على كفرهم مثل حال هؤلاء حين عذِّبوا ثمَّ خوَّفهم بيوم القيامة وهو قوله:(1/944)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
{إني أخاف عليكم يوم التناد} وذلك أنَّه يكثر النِّداء في ذلك اليوم يُنادى بالسَّعادة والشَّقاوة ويُنادى فيُدعى كلُّ أناسٍ بإمامهم(1/945)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{يوم تولون مدبرين} مُنصرفين عن موقف الحساب إلى النَّار {ما لكم من الله} من عذاب الله {من عاصم} مانعٍ يمنعكم من عذاب الله(1/945)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{ولقد جاءكم يوسف من قبل} أي: من قبل موسى {بالبينات} بالآيات المعجزات {كذلك} مثل ذلك الضَّلال {يضل الله مَنْ هو مسرف} مشركٌ {مرتاب} شاكٌّ فيما أتى به الأنبياء(1/945)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{الذين يجادلون في آيات الله} أَيْ: في إبطالها ودفعها {بغير سلطان} أَيْ: حُجَّةٍ {أتاهم كبر} ذلك الجدال {مقتاً} بغضاً(1/945)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً} قصراً طويلاً {لعلي أبلغ الأسباب} أبواب السماوات وأطرافها التي تُوصلني إليها(1/945)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
{وإني لأظنه كاذباً} في ادِّعائه إلهاً دوني {وكذلك} مثل ما وصفنا {زين لفرعون سوء عمله وصدَّ عن السبيل} ومُنع عن الإيمان {وما كيد فرعون إلاَّ في تباب} خسارٍ يريد: أنه خسر كيده ولم ينفعه ذلك(1/945)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)
{وقال الذي آمن} من قوم فرعون: {يا قوم اتَّبِعُون أهدكم سبيل الرشاد} طريق الصَّواب(1/946)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
{يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} متعةٌ ينتفعون بها مدَّة ولا تبقي وقوله:(1/946)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{من عمل سيئة فلا يجزى إلاَّ مثلها ومن عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}(1/946)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار}(1/946)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
{وأشرك به ما ليس لي به علم} أيْ: أشرك بالله شيئاً لا علم لي به أنَّه شريك له(1/946)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
{لا جرم} حقا {أنما تدعونني إليه ليس له دعوة} إجابة دعوة أَيْ: لا يستجيب لأحدٍ {في الدنيا ولا في الآخرة وأنَّ مردَّنا} مرجعنا {إلى الله}(1/946)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
{فستذكرون} إذا عاينتم العذاب {ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله} وذلك أنهم تدعوه لمخالفته دينهم(1/946)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
{فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب}(1/946)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{النار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً} وذلك أنَّهم يُعرضون على النَّار صباحاً ومساءً ويقال لهم: هذه منازلكم إذا بعثتم(1/946)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
{وإذ يتحاجون في النار فيقول الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار}(1/947)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
{قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}(1/947)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
{وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}(1/947)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{قالوا: أَوَلَمْ تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا: بلى قالوا: فادعوا} أَيْ: فادعوا أنتم إذاً فإنَّا لن ندعو الله لكم {وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلال} هلاكٍ وبطلانٍ لأنَّه لا ينفعهم(1/947)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} بظهور حجتهم والانتصار ممَّن عاداهم بالعذاب في الدُّنيا والآخرة {ويوم يقوم الاشهاد} الملائكةُ الذين يكتبون أعمال بني آدم(1/947)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
{يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}(1/947)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)
{ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب}(1/947)
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
{هدى وذكرى لأولي الألباب}(1/947)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
{فاصبر} يا محمَّدُ {إنَّ وعد الله} في نصرتك وإهلاك أعدائك {وسبح بحمد ربك} صل بالشُّكر منك لربِّك {بالعشي والإِبكار} أَيْ: طرفي النَّهار وقوله:(1/947)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
{إن في صدورهم إلاَّ كبر ما هم ببالغيه} أَيْ: تكبُّرٌ وطمعٌ أن يعلوا على محمدٍ عليه السلام وما هم ببالغي ذلك {فاستعذ بالله} أي: فامتنع بالله من شرِّهم(1/947)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} أي: في القدرة من إعادة الناس للبعث(1/948)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
{وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون}(1/948)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}(1/948)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} اعبدوني أُثبكم وأغفر لكم وقوله: {داخرين} أي: صاغرين وقوله:(1/948)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
{الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مبصراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون}(1/948)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
{ذلكم الله ربكم خالق كلِّ شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون}(1/948)
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
{كذلك يؤفك} أَيْ: كما صُرفتم عن الحقِّ مع قيام الدلائل يُصرف عن الحقِّ {الذين كانوا بآيات الله يجحدون} وقوله:(1/948)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
{الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين}(1/948)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
{هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}(1/948)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين}(1/948)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{ولتبلغوا أجلاً مسمَّى} أَيْ: وقتاً محدوداً لا تجاوزونه {ولعلكم تعقلون} ولكي تعقلوا أنَّ الذي فعل ذلك لا إله غيره(1/949)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{هو الذي يحيي ويميت فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1/939)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله} أي: في دفعها وإبطالها {أنى يصرفون} عن الحقِّ وقوله:(1/949)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
{الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون}(1/949)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
{والسلاسل يسحبون} يُجَرُّون(1/949)
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
{في الحميم ثم في النار يسجرون} يُصيَّرون وقوداً للنَّار(1/949)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
{ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون}(1/949)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
{من دون الله} أي: الأصنام {قالوا ضلوا عنا} زالوا عنَّا وبطلوا فلا نراهم {بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً} أَيْ: ضاعت عبادتنا فلم تكن تصنع شيئاً {كذلك} كما أضلَّهم {يضل الله الكافرين}(1/949)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
{ذلكم} العذاب الذي نزل بكم {بما كنتم تفرحون} بالباطل وتبطرون(1/949)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}(1/949)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{فإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم} من العذاب في حياتك {أو نتوفينك} قبل أن ينزل بهم ذلك {فإلينا يرجعون} وقوله:(1/949)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{فإذا جاء أمر الله} بعذاب الأمم المُكذِّبة {قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون} أَيْ: تبيَّن خسران أصحاب الباطل فقوله:(1/950)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
{الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون}(1/950)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
{ولكم فيها منافع} من الصُّوف والوبر والدَّرِّ والنَّسل {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} من حلم أثقالكم إلى البلاد وقوله:(1/950)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
{ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}(1/950)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}(1/950)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
{فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} رضوا بما عندهم من العلم وقالوا: نخن أعلم منهم لن نُبعث ولن نعذب قوله:(1/950)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
{فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين}(1/950)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{سنة الله} أَيْ: سنَّ الله هذه السُّنَّةَ في الأمم كلِّها أن لا ينفعهم الإِيمان إذا رأوا العذاب {وخسر هنالك الكافرون} تبيَّن لهم الخسران(1/950)
حم (1)
{حم}(1/951)
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
{تنزيلُ من الرحمن الرحيم} ابتداءٌ وخبره قوله:(1/951)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
{كتابٌ فصلت آياته} بُيِّنت {لقوم يعلمون} لمَنْ يعلم ذلك ممَّن يعلم العربيَّة(1/951)
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
{بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}(1/951)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
{وقالوا قلوبنا في أكنَّة} أغطيةٍ {وفي آذاننا وقر} صممٌ أَيْ: نحن في ترك القبول منك بمنزلة مَن لا يفقه ولا يسمع {ومن بيننا وبينك حجاب} خلافٌ في الدِّين فلا نجتمع معك ولا وافقك {فاعمل} على دينك فـ {إننا عاملون} على ديننا وقوله:(1/951)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
{فاستقيموا إليه} وجِّهوا إليه وجوهكم بالطَّاعة {وويلٌ للمشركين}(1/952)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
{الذين لا يؤتون الزكاة} لا يؤمنون بوجوبها فلا يؤدونها(1/952)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
{إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}(1/952)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
{قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} الأحد والأثنين(1/952)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
{وبارك فيها} بما خلق فيها من المنافع {وقدَّر فيها أقواتها} أرزاق أهلها وما يصلح لمعاشهم في البحار والأنهار والأشجار والدَّوابِّ {في أربعة أيام} في تتمة أربعة أَيَّامٍ وهو يوم الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أربعة أيَّام خلق الله الأرض وما فيها من سبب الأقوات والمنافع والتجارات فتمَّ أمرها في أربعة أيَّام {سواء} أَيْ: استوت استواء وسواءً {للسائلين} عن ذلك أَيْ: لمَنْ سأل في كم خُلقت السماوات والأرض؟ فيقال: في أربعة أيام(1/952)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
{ثم استوى} قصد وعمد {إلى} خلق {السماء وهي دخان} بخارٌ مرتفعٌ عن الماء {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً} بما خلقت فيكما من المنافع وأَخْرِجاها لمنافع خلقي قال للسماوات: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك وقال للأرض: أخرجي ماءك وثمارك طائعةً أو كارهةً ففعلتا ما أمرهما طوعاً وهو قوله: {قالتا أتينا طائعين}(1/952)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{فقضاهن} صنعهنَّ وأحكمهنَّ {سبع سماوات في يومين وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} أوحى في أهل كلِّ سماءٍ بما أراد من الأمر والنَّهي وقوله: {وحفظاً} أَيْ: حفظناها من استماع الشَّياطين بالكواكب حفظاً(1/953)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
{فإن أعرضوا} عن الإِيمان بعد هذا البيان {فقل أنذرتكم} خوَّفتكم {صاعقة} مهلكةً تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم {إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم} أتت الرُّسل إيَّاهم ومَنْ كان قبلهم {ومن خلفهم} ومن بعد الرُّسل الذين أُرسلوا إلى آبائهم جاءتهم الرسل أنفسهم وقوله:(1/953)
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلاَّ الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون}(1/953)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
{فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون}(1/953)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{ريحاً صرصراً} أي: لها صوتٌ شديدٌ {في أيام نحسات} مشؤومات عليهم وقوله:(1/953)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
{وأما ثمود فهديناهم} دعوناهم ودللناهم {فاستحبوا العمى على الهدى} فاختاروا الكفر على الإيمان {فأخذتهم صاعقة} مهلكةُ {العذاب} ذي {الهون} وهو الهوان أي: العذاب الذي يهينهم وقوله:(1/953)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
{ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}(1/954)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
{ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون}(1/954)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
{حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}(1/954)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
{وهو خلقكم أوَّل مرة} ابتداءُ إخبارٍ عن الله تعالى وليس من كلام الجلود(1/954)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
{وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم} أي مِنْ أن يشهد عليكم سمعكم أي: لم تكونوا تخافون أن يشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها {ولكن ظننتم أنَّ الله} أي: ظننتم أنَّ ما تُخفون {لا يعلم} اللَّهُ ذلك ولا يطَّلع عليه وذلك الظَّنُّ منكم بربِّكم(1/954)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{أرداكم} أهلككم(1/954)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{فإن يصبروا} في جهنَّم {فالنار مثوىً لهم} أي: مقامهم لا يخرجون منها {وإن يستعتبوا} يطلبوا الصلح {فما هم من المعتبين} أَيْ: ممَّن يُصالح ويرضى(1/954)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
{وقيضنا لهم} أيْ: سبَّبنا لهم {قرناء} من الشَّياطين {فزينوا لهم ما بين أيديهم} من أمر الدُّنيا حتى آثروه {وما خلفهم} من أمر الآخرة فدعوهم إلى التَّكذيب به وأن لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب {وحقَّ عليهم القول في أمم} مع أممٍ بالخسران والهلاك وقوله:(1/954)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{والغوا فيه} أَيْ: عارضوه بكلامٍ لا يُفهم من المُكاء والصَّفير وباطل الكلام {لعلكم تغلبون} هـ على قراءته فيترك القراءة وقوله:(1/955)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
{فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون}(1/955)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
{ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون}(1/955)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس} يعنون: إبليس وقابيل لأنًّهما أوَّل مَنْ سنَّ الضَّلالة {نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا} في الدرك الأسفل من النَّار(1/955)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
{إنَّ الذين قالوا ربنا الله} أَيْ: وحَّدوه {ثمَّ استقاموا} على التَّوحيد فلم يشركوا به شيئاً {تتنزل عليهم الملائكة} عند الموت {أن لا تخافوا} ذنوبكم {ولا تحزنوا} عليها فإنَّ الله يغفرها لكم(1/955)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
{نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أَيْ: أنصاركم وأحباؤكم وهم قرناؤهم الذين كانوا معهم في الدُّنيا من الحفظة يقولون لهم: لن نُفارقكم في القيامة حتى ندخلكم الجنَّة {ولكم فيها ما تدَّعون} تمنون وتسألون(1/955)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{نزلاً} أيْ: جعل الله ذلك رزقا لهم مُهيَّئاً(1/956)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
{ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} الآية قيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّه دعا إلى توحيد الله وقيل: إنَّها نزلت في المُؤّذِّنين(1/956)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} لا زائدة {ادفع} السَّيئة {بالتي هي أحسن} كالغضب يُدفع بالصَّبر والجهل والحلم والإِساءة بالعفو {فإذا الذي بينك وبينه عداوة} يصير لك كأنًّه صديقٌ قريبٌ إذا فعلت ذلك(1/956)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
{وما يلقاها} أي: ما يُلقَّى هذه الخصلة {إلاَّ الذين صبروا} بكظم الغيظ واحتمال الأذى {وما يلقَّاها إلاَّ ذو حظ عظيم} وهو الجنَّة(1/956)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} أَيْ: إنْ صرفك عن الاحتمال نَزْغُ الشَّيطان {فاستعذ بالله} من شرِّه وامض على حلمك(1/956)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
{ومن آياته} علاماته التي تدلُّ على أنَّه واحدٌ {الليل والنهار والشمس والقمر} الآية(1/956)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{فإن استكبروا} أي: الكفَّار يقول: إن استكبروا عن السُّجود لله {فالذين عند ربك} وهم الملائكة {يسبحون له} يُصلُّون له {بالليل والنهار وهم لا يسأمون} لا يملُّون(1/956)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة} مُغبَّرةً لا نبات فيها {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} تحرَّكت بالنًّبات {وربت} انتفخت وعلت ثمَّ تصدَّعت عن النَّبات(1/957)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
{إنَّ الذين يلحدون في آياتنا} يجعلون الكلام فيها على غير جهته بأن ينسبوها إلى الكذب والسِّحر {لا يخفون علينا} بل نعلمهم ونجازيهم بذلك(1/957)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
{إنَّ الذين كفروا بالذكر} أَيْ: بالقرآن {لما جاءهم وإنَّه لكتاب عزيز} منيعٌ من الشَّيطان والباطل(1/957)
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} أي: الكُتب التي تقدَّمت لا تبطله ولا يأتي كتابٌ بعده يبطله وقيل: إنَّه محفوظٌ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلقه(1/957)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{ما يقال لك إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك} أَيْ: إنْ كذَّبك قومك فقد كذَّب الذين من قبلك(1/957)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
{ولو جعلناه قرآناً أعجمياً} لا بلسان العرب {لقالوا لولا فصلت} بُيِّنت {آياته} بلغتنا حتى نعرفها {أأعجمي وعربي} أي: القرآنُ أعجميٌّ ونبيٌّ عربيٌّ {قل هو} أي: القرآن {للذين آمنوا هدى} من الضَّلالة {وشفاء} من الجهل {والذين لا يؤمنون} في ترك قبوله بمنزلة مَنْ {في آذانهم وقرٌ وهو} أي: القرآن {عليهم} ذو {عمى} لأنَّهم لا يفقهونه {أولئك ينادون من مكان بعيد} أَيْ: كأنهم لقلَّة استماعهم وانتفاعهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة(1/957)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} بالتَّكذيب والتَّصديق والإِيمان به والكفر كما فعل قومك {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير العذاب عن قومك {لقضي بينهم} لفرغ من هلاكهم {وإنهم لفي شك منه} من القرآن {مريب}(1/958)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد}(1/958)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
{إليه يردُّ علم الساعة} لأنَّه لا يعلمه غيره {وما تخرج من ثمرات من أكمامها} أوعيتها {ويوم يناديهم أين شركائي} الذين كنتم تزعمون {قالوا آذناك} أعلمناك {ما منا من شهيد} شاهدٍ أنَّ لك شريكاً لمَّا عاينوا القيامة تبرَّؤوا من معبوديهم(1/958)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
{وضلَّ عنهم} زال وبطل {ما كانوا يدعون من قبل} يثقون به ويعبدون قبل يوم القيامة {وظنوا} علموا {ما لهم من محيص} من مهربٍ(1/958)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير} لا يَمَلُّ الكافر من الدُّعاء بالصحَّة والمال {وإن مسَّه الشرُّ} الفقر والضرُّ {فيؤوس} من روح الله {قنوط} من رحمته وقوله:(1/958)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
{ليقولنَّ هذا لي} أَيْ: هذا واجبٌ لي بعملي استحققه {وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} أَيْ: لستُ أوقن بالبعث وقيام السَّاعة فإن كان الأمر على ذلك إنَّ لي عنده لثواباً(1/959)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
{وإذا أنعمنا على الإنسان} الآية يقول: إذا كان الكافر في نعمةٍ تباعد عن ذكر الله وإذا مسَّته الحاجة أكثر الدُّعاء(1/959)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
{قل أرأيتم إن كان} القرآن {من عند الله ثم كفرتم به من أضلُّ} منكم لأنَّهم في {شقاق بعيد} أيْ: في خلافٍ بعيدٍ عن الحقّ بكفرهم بالقرآن(1/959)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
{سنريهم آياتنا في الآفاق} ما يفتح على محمَّد صلى الله عليه وسلم من القرى {وفي أنفسهم} فتح مكة {حتى يتبين لهم} أنَّ القرآن حقٌّ وصدقٌ منزلٌ من عند الله تعالى {أَوَلَمْ يكف بربك أنَّه على كل شيء شهيد} وهو يشهد لمحمَّد عليه السَّلام ولكتابه بالصِّدق(1/959)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{ألا إنهم في مرية} شكٍّ {من لقاء ربهم} من البعث والمصير إليه {ألا إنَّه بكلِّ شيء محيط} عالمٌ(1/959)
حم (1)
{حم} ح: حكم الله م: مجده(1/960)
عسق (2)
{عسق} ع: علمه س: سناؤه ق: قدرته أقسم الله تعالى بها(1/960)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{كذلك يوحي إليك} ما من نبيٍّ صاحب كتابٍ إلاَّ وقد أوحى الله إليه: حم عسق فهو معنى قوله: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك}(1/960)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
{له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم}(1/960)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
{تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن} تكاد كلُّ واحدة منها تتفطَّر فوق التي تليها من قول المشركين: اتَّخذ الله ولداً {والملائكة يسبحون بحمد ربهم} يُنزِّهون الله تعالى عن السُّوء {ويستغفرون} اللَّهَ {لمن في الأرض} من المؤمنين(1/960)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
{والذين اتخذوا من دونه أولياء} أَيْ: آلهةً {الله حفيظ عليهم} يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها {وما أنت عليهم بوكيل} لم تُوكَّل عليهم وما عليك إلاَّ البلاغ(1/961)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
{وكذلك} وهكذا {أوحينا إليك قرآناً عربياً} بلفظ العرب {لتنذر أمَّ القرى} أهل مكَّة {ومَنْ حولها} سائر النَّاس {وتنذر يوم الجمع} تخوِّفهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الخلق {لا ريب فيه} كما يرتاب الكافرون {فريق في الجنة وفريق في السعير} إخبارٌ عن اختلاف حال النَّاس في ذلك اليوم(1/961)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
{ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة} لجعل الفريقين فريقاً واحداً {ولكن يدخل من يشاء في رحمته} بيَّن أنَّه إنَّما يُدخل الجنة مَنْ يشاء فهو فضلٌ منه {والظالمون} والكافرون {ما لهم من وليٍّ ولا نصير} ناصرٍ يمنعهم من العذاب(1/961)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
{أم اتخذوا} بل اتَّخذوا {من دونه أولياء فاللَّهُ هو الوليُّ} لا ما اتَّخذوه من دونه(1/961)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
{وما اختلفتم فيه من شيء} من أمر الدِّين {فحكمه إلى الله} لا إليكم وقد حكم أنَّ الدِّين هو الإِسلام لا غيره وقوله:(1/961)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
{جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} حلائل {ومن الأنعام أزواجاً} أَيْ: خلق الذَّكر والأنثى {يذرؤكم فيه} أيْ: يكثركم بجعله لم حلائل لأنهنَّ سبب النَّسل وفيه بمعنى: به {ليس كمثله شيء} الكافُ زائدةٌ أَيْ: ليس مثله شيء(1/961)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
{له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم}(1/961)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{شرع لكم} بيَّن وأظهر لكم {من الدين ما وصى به} أمر {زوجا} ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} والله يبعث الأنبياء كلَّهم بإقامة الدِّين وترك الفرقة {كبر} عَظُمَ وشقَّ {على المشركين ما تدعوهم إليه} من التَّوحيد وترك الأوثان {الله يجتبي إليه مَنْ يشاء} يصطفي مَنْ يشاء لدينه فيهديه إليه(1/962)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
{وما تفرَّقوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بينهم} ما تفرَّق أهل الكتاب إلاَّ عن علمٍ بأنَّ الفرقة ضلالةٌ ولكنَّهم فعلوا ذلك للبغي {ولولا كلمة سبقت من ربك} في تأخيرهم إلى السَّاعة {لقضي بينهم} لجوزوا بأعمالهم {وإنَّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم} يعني: هذه الأمَّة أعطوا الكتاب من بعد اليهود والنَّصارى {لفي شك منه مريب} يعني: كفَّار هذه الأمَّة ومشركيها(1/962)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{فلذلك فادع} أَيْ: إلى ذلك يعني: إلى إقامة الدِّين فادع النَّاس {واستقم كما أمرت} اثبت على الدِّين الذي أُمرتَ به {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} أَيْ: بجميع كتب الله المنزلة {وأمرت لأعدل بينكم} لأسوِّي بينكم في الإيمان بكتبكم وقيل: لأعدل بينكم في القضية وقوله: {لا حجة} أَيْ: لا خصومة {بيننا وبينكم} وهذا منسوخٌ بآية القتال(1/962)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
{والذين يحاجون في الله} يُخاصمون في دين الله نبيه عليه السلام {من بعد ما استجيب له} أجيب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدِّين فأسلموا ودخلوا في دينه {حجتهم داحضةٌ عند ربهم} أَيْ: باطلةٌ زائلةٌ لأنَّهم يخاصمون صادقاً في خبره قد ظهرت معجزته(1/963)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} أَيْ: العدل والمعنى: إنَّ الله تعالى أمر أن يقتدي بكتابه في أوامره ونواهيه وأن يعامل بالنَّصفة والسَّويَّة وآلةُ ذلك الميزان ثمَّ قال: {وما يدريك لعلَّ الساعة قريب} أَيْ: فاعمل بالعدل والكتاب فلعلَّ السَّاعة قد قربت منك وأنت لا تدري(1/963)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} ظنَّاً منهم أنَّها غير كائنة {والذين آمنوا مشفقون} خائفون منها لأنَّهم يعلمون أنَّهم مبعوثون ومحاسبون {ألا إنَّ الذين يمارون} تدخلهم المِرية والشَّكُّ {في الساعة لفي ضلال بعيد} لأنَّهم لو فكَّروا لعلموا أنَّ الذي أنشأهم أوَّلاً قادرٌ على إعادتهم(1/963)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
{الله لطيف بعباده} حفيٌّ بارٌّ بهم بَرِّهم وفاجرِهم حيث لم يقتلهم جُوعاًَ بمعاصيهم(1/963)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
{مَنْ كان يريد حرث الآخرة} من أراد بعمله الآخرة {نزد له في حرثه} أَيْ: كسبه بالتَّضعيف بالواحدة عشراً {ومَنْ كان يريد حرث الدنيا} بعمله الدنيا {نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} أَيْ: مَنْ آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة(1/964)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
{أم لهم} بل أَلهم {شركاء} آلهةٌ {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل} أَيْ: القَدَر السَّابق بأنَّ القضاء والجزاء يوم القيامة {لقضي بينهم} في الدُّنيا(1/964)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{ترى الظالمين} المشركين يوم القيامة {مشفقين} خائفين {ممَّا كسبوا} أَيْ: من جزائه {وهو واقع بهم} لا محالة وقوله:(1/964)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أَيْ: على تبليغ الرِّسالة {أجراً إلاَّ المودَّة في القربى} أيْ: إلاَ أن تحفظوا قرابتي وتَوَدُّوني وتصلوا رحمي وذلك أنَّه لم يكن حيٌّ من قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابةٌ فكأنًّه يقول: إذا لم تؤمنوا بي فاحفظوا قرابتي ولا تُؤذوني وقيل: معناه: إلاَّ أَنْ تتودَّدُوا إلى الله عزَّ وجل بما يُقرِّبكم منه وقوله: {إلاَّ المودة} استثناءٌ ليس من الأوَّل {ومن يقترف} يعمل {حسنة نزدْ له فيها حسناً} نضاعفها له(1/964)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{أم يقولون} بل أيقولون يعني: أهل مكَّة {افترى على الله كذباً} تقوَّل القرآن من قبل نفسه {فإنْ يشأ اللَّهُ يختم على قلبك} يربط على قلبك بالصَّبر على أذاهم ثم ابتدأ فقال {ويمح الله الباطل} أَيْ: الشِّرك {ويحق الحق بكلماته} بما أنزله الله من كتابه على لسان نبيِّه عليه السَّلام وهو القرآن(1/964)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} إذا رجع العبد عن معصية الله تعالى إلى طاعته قَبِلَ ذلك الرُّجوع وعفا عنه ما سلف وهو قوله: {ويعفو عن السيئات}(1/965)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
{ويستجيب الذين آمنوا} أَيْ: يُجيبهم إلى ما يسألون(1/965)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{ولو بسط الله الرزق لعباده} أَيْ: وسَّع عليهم الرِّزق {لبغوا في الأرض} لطغوا وعصوا {ولكن ينزِّل بقدر ما يشاء} فيجعل واحداً فقيراً وآخر غنيَّاً {إنَّه بعباده خبيرٌ بصير}(1/965)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{وهو الذي ينزل الغيث} المطر {من بعد ما قنطوا} من بعدِ يأسِ العباد من نزوله {وينشر رحمته} ويبسط مطره(1/965)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
{ومن آياته} دلائل قدرته {خلق السماوات والأرض وما بثَّ} فرَّق ونشر {فيهما من دابة وهو على جمعهم} للحشر {إذا يشاء قدير}(1/966)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
{وما أصابكم من مصيبة} بليَّةٍ وشدَّةٍ {فبما كسبت أيديكم} فهي جزاء ما اكتسبتم من الإِجرام {ويعفو عن كثير} فلا يُجازي عليه(1/966)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
{وما أنتم بمعجزين في الأرض} هرباَ اَيْ: إنِْ هربتم لم تعجزوا الله في أخذكم(1/966)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
{ومن آياته الجوار} السُّفن التي تجري {في البحر كالأعلام} كالجبال في العظم(1/966)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
{إن يشأ يسكن الريح فيظللن} فيصرن {رواكد} ثوابت على ظهر البحر لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لكلِّ مؤمنٍ(1/966)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
{أو يوبقهن} يُهلكهنَّ يعني: أهلها {بما كسبوا} من الذُّنوب {ويعف عن كثير} فلا يعاقب عليها(1/966)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{ويعلم الذين يجادلون في آياتنا} أَيْ: في دفعها وإبطالها {ما لهم من محيص} مهربٍ من عذاب الله(1/966)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
{فما أوتيتم من شيء} من أثاثِ الدُّنيا {فمتاع الحياة الدنيا} يتمتَّع به في هذه الدَّار {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثَّواب {خير وأبقى للذين آمنوا} نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله وتصدَّق به فلامه النَّاس(1/966)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
{والذين يجتنبون} عطفٌ على قوله: {للذين آمنوا} {كبائر الإِثم والفواحش} الشِّرك وموجبات الحدود {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} يتجاوزون ويحملون(1/967)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
{والذين استجابوا لربهم} أجابوه بالإِيمان والطَّاعة {وأمرهم شورى بينهم} لا ينفردون برأيهم بل يتشاورون(1/967)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
{والذين إذا اصابهم البغي} الظُّلم {هم ينتصرون} ينتقمون ممَّن ظلمهم ثمَّ بيَّن حدَّ الانتصار فقال:(1/967)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} أَيْ: إنما يُجازى السُّوء بمثله فيقتصُّ من الجاني بمقدار جنايته {فمن عفا} ترك الانتقام {وأصلح} بينه وبين الظَّالم عليه بالعفو {فأجره على الله} أَيْ: إنَّ الله يأجره على ذلك {إنَّه لا يحب الظالمين} الذين يبدؤون بالظُّلم(1/967)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
{ولمن انتصر بعد ظلمه} أَيْ: بعد أنْ ظُلم {فأولئك ما عليهم من سبيل} باللَّوم ولا القصاص لأنه أخذ حقه(1/967)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}(1/967)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{ولمن صبر} على الأذى {وغفر} ولم يكافئ {إن ذلك} أَيْ: الصَّبر والغفران {لمن عزم الأمور} لأنَّه يوجب الثَّواب فهو أتم عزم وقوله:(1/967)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل}(1/967)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
{وتراهم يعرضون عليها} على النَّار {خاشعين من الذل} مُتواضعين ساكنين {ينظرون} إلى النَّار {من طرف خفي} مسارقة(1/968)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
{وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل}(1/968)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{استجيبوا لربكم} بالإيمان والطَّاعة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ له من الله} أَيْ: إنَّ الله تعالى إذا أتى به لم يرده {ما لكم من ملجأ يومئذٍ} مهربٍ من العذاب {وما لكم من نكير} إنكارٌ على ما ينزل بكم من العذاب لا تقدرون أن تنكروه فتغيروه وقوله:(1/968)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
{فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فإن الإنسان كفور}(1/968)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
{لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور}(1/968)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
{أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} أَيْ: يجعل ما يهب من الولد بعضه ذكوراً وبعضه إناثاً {ويجعل من يشاء عقيماً} لا يُولد له(1/968)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً} بأن يوحي إليه في منامه {أو من وراء حجاب} كما كلَّم موسى عليه السَّلام {أو يرسل رسولاً} مَلَكاً {فيوحيَ بإذنه ما يشاء} فيكلِّمه عنه بما يشاء(1/968)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
{وكذلك} وكما أوحينا إلى سائر الرُّسل {أوحينا إليك روحاً} ما يحيا به الخلق أَيْ: يهتدون به وهو القرآن {من أمرنا} : أَيْ: فِعْلِنا في الوحي إليك {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} قبل الوحي ويعني بالإيمان شرائعه ومعالمه {ولكن جعلناه} جعلنا الكتاب {نوراً} وقوله: {وإنك لتهدي} بوحينا إليك {إلى صراط مستقيم} يعني الإسلام(1/968)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}(1/969)
حم (1)
{حم}(1/970)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{والكتاب المبين} الذي أبان الهدى وما تحتاج إليه الأُمَّة {إنا جعلناه} بيَّناه {قرآنا عربيا} بلغة العرب {لعلكم تعقلون} تعرفون أحكامه ومعانيه(1/970)
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(1/970)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
{وإنه} أَيْ: القرآن {في أمِّ الكتاب} أَيْ: اللَّوح المحفوظ {لدينا لعليٌّ حكيم} يريد: إنَّه مثبتٌ عند الله تعالى في اللَّوح المحفوظ بهذه الصِّفة(1/970)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
{أفنضرب عنكم الذكر صفحاً} أَفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنَّكم لا تؤمنون به وهو قوله: {أن كنتم قوماً مسرفين} أَيْ: لأن كنتم قوماً مُشركين مُجاوزين أمر الله قال قتادة رضي الله عنه: واللَّهِ لو أنَّ هذا القرآنَ رُفع حين ردَّه أوائل هذا الأمة لهلكوا(1/970)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)
{وكم أرسلنا من نبي في الأولين}(1/971)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
{وما يأتيهم من نبي إلاَّ كانوا به يستهزئون}(1/971)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{فأهلكنا أشد منهم} من قومك {بطشاً} قوَّة {ومضى مثل الأولين} سنَّتهم في العقوبة(1/971)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
{ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم}(1/971)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
{الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون}(1/971)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
{والذي نزل من السماء ماء بقدر} بمقدار معلوم عند الله {فأنشرنا} فأحيينا {به} بذلك الماء {بلدة ميتاً كذلك تخرجون} من قبوركم أحياء(1/971)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
{والذي خلق الأزواج} الأصناف {كلها} وقوله:(1/971)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
{وما كنَّا له مقرنين} أي: مطيقين(1/971)
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{وإنا إلى ربنا لمنقلبون}(1/971)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
{وجعلوا له من عباده جزءاً} أَيْ: الذين جعلوا الملاكة بنات الله(1/971)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
{أم اتخذ ممَّا يخلق بنات وأصفاكم} أخلصكم وخصَّكم {بالبنين} كقوله: {أفأصفاكم ربُّكم بالبنين} الآية(1/971)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
{وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاَ} بما وصفه به من اتِّخاذ البنات(1/972)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{أو مَنْ يُنشَّأ في الحلية} أَيْ: أَنسبوا إليه مَنْ يُنشَّأ في الحلية؟ يعني: البنات {وهو في الخصام غير مبين} وذلك أنَّ المرأة لا تكاد تقوم بحجَّةٍ في الخصومة(1/972)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
{وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} أَيْ: حكموا بأنَّهم إناثٌ حين قالوا: إنَّهم بنات الله {أشهدوا} أَحضروا {خلقهم} حين خُلقوا؟ {ستكتب شهادتهم} على الملائكة بأنَّهم بنات الله {ويسألون} عنها(1/972)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
{وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم} أَيْ: الملائكة وذلك أنَّهم قالوا: لو لم يرض منَّا بعبادتنا إيَّاها لعجَّل عقوبتنا {ما لهم بذلك من علم} ما لهم بقولهم: الملائكة بناتُ الله من علمٍ {إن هم إلاَّ يخرصون} يكذبون(1/972)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
{أم آتيناهم كتاباً من قبله} من قبل القرآن فيه عبادة غير الله {فهم به مستمسكون} بذلك الكتاب ثمَّ بيَّن أنَّهم اتَّبعوا ضلالة آبائهم فقال:(1/972)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
{بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة} دينٍ(1/972)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
{وكذلك ما أرسلنا من قبلك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}(1/972)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
{قال أو لو جئتكم بأهدى} بدينٍ أهدى {ممَّا وجدتم عليه آباءكم} أَتتبعونهم؟ {قالوا} أَيْ: الأمم للرُّسل: {إنا بما أرسلتم به كافرون}(1/972)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
{فانتقمنا منهم} بالعقوبة(1/973)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
{وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إنني براء} أي: بريء(1/973)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
{إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}(1/973)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
{وجعلها كلمة} أَيْ: كلمة التَّوحيد {باقية في عقبه} عقب إبراهيم عليه والسلام لا يزال من ولده مَنْ يوحِّدُ الله عزَّ وجل {لعلهم يرجعون} كي يرجعوا بها من الكفر إلى الإيمان(1/973)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
{بل متعتُ هؤلاء وآباءهم} في الدُّنيا ولم أهلكهم {حتى جاءهم الحق} القرآن(1/973)
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
{ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون}(1/973)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من} إحدى {القريتين} مكَّة والطَّائف {عظيم} أَيْ: الوليد بن المغيرة من أهل مكَّة وعروة بن مسعود الثقفيِّ من الطَّائف قال الله تعالى:(1/973)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
{أهم يقسمون رحمة ربك} نبوَّته وكرامته فيجعلونها لمن يشاؤون؟ {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} فجعلنا بعضهم غنيَّاً وبعضهم فقيراً {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} بالمال {ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} ليُسخِّر الأغنياء بأموالهم الفقراء ويستخدموهم فيكون بعضهم لبعض سببَ المعاش في الدُّنيا هذا بماله وهذا بأعماله فكما قسمنا هذه القسمة كذلك اصطفينا للرِّسالة مَنْ نشاء ثمَّ بيَّن أنَّ الآخرة أفضل من الدُّنيا فقال: {ورحمة ربك} أَيْ: الجنَّة {خيرٌ ممَّا يجمعون} في الدُّنيا ثمَّ ذكر قلَّة خطر الدُّنيا عنده فقال:(1/973)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} مجتمعين على الكفر وقوله: و {معارج} : مراقي {عليها يظهرون} يعلون يصعدون(1/974)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
{ولبيوتهم أبواباً وسرراً} من فضَّةٍ {عليها يتكئون}(1/974)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{وزخرفاً} أَيْ: ومن زخرفٍ وهو الذَّهب {وإن كلُّ ذلك لما متاع الحياة الدنيا} لمتاع الحياة الدُّنيا(1/974)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
{ومَنْ يعش} يُعرض {عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} نسبِّب له شيطاناً {فهو له قرين} لا يُفارقه(1/974)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
{وإنهم} أَيْ: الشَّياطين {ليصدونهم} يمنعون الكافرين {ويحسبون} الكفَّار {أنهم مهتدون}(1/974)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
{حتى إذا جاءنا} يعني: الكافر {قال} لقرينه: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} أَيْ: بُعد ما بين المشرق والمغرب {فبئس القرين} أنت ثم لا يفارقه حتى يصيروا إلى النار وقال الله تعالى:(1/974)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم} أشركتم في الدُّنيا {أنكم في العذاب مشتركون} إشراككم في العذاب لأنَّ لكلِّ واحدٍ نصيبَه الأوفرَ منه(1/975)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
{أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين}(1/975)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
{فإما نذهبن بك} تميتك قبل أن نعذِّبهم {فإنا منهم منتقمون} بعد موتك(1/975)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
{أو نرينك} في حياتك {الذي وعدناهم} من العذاب(1/975)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
{فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}(1/975)
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
{وإنه} أَيْ: القرآن {لذكر} لَشرفٌ {لك ولقومك} إذ نزل بلغتهم ونزل عليك وأنت منهم {وسوف تسألون} عن شكر ما جعلنا لكم من الشَّرف(1/975)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{واسأل من أرسلنا} أَيْ: أمم مَنْ أرسلنا {من قبلك} يعني: أهل الكتابين هل في كتاب أحدٍ الأمرُ بعبادة غير الله تعالى؟ ومعنى هذا السُّؤال التَّقرير لعبدة الأوثان أنَّهم على الباطل(1/975)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين}(1/975)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
{فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون}(1/975)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
{وما نريهم من آية إلاَّ هي أكبرُ من أختها} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها {وأخذناهم بالعذاب} بالسِّنين والطُّوفان والجراد {لعلهم يرجعون} عن كفرهم(1/975)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
{وقالوا يا أيها الساحر} خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسَّاحر: {ادع لنا ربك بما عهد عندك} فيمن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه {إننا لمهتدون} أَيْ: مؤمنون(1/975)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
{فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون} ينقصون عهدهم وقوله:(1/976)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
{وهذه الأنهار تجري من تحتي} بأمري: وقيل: من تحت قصوري(1/976)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
{أم أنا} بل أنا {خير من هذا الذي هو مهين} حقيرٌ ضعيفٌ يعني: موسى {ولا يكاد يبين} يُفصح بكلامه لِعِيِّه(1/976)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
{فلولا} فهلاًّ {ألقي عليه أسورة من ذهب} حليٌّ بأساور الذَّهب إن كان رئيساً مُطاعاً؟ والطَّوق والسِّوار من الذَّهب كان من علامة الرِّئاسة عندهم {أو جاء معه الملائكة مقترنين} مُتتابعين يشهدون له(1/976)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
{فاستخف قومه} وجد قومه القبط جُهَّالاً(1/976)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
{فلما آسفونا} أغضبونا بكفرهم {انتقمنا منهم}(1/976)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
{فجعلناهم سلفاً} مُتقدِّمين في الهلاك ليتَّعظ بهم مَنْ بعدهم {ومثلاً للآخرين} عبرةً لن يجيء بعدهم(1/976)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
{ولما ضرب ابن مريم مثلاً} نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفَّار لما نزل قوله تعالى: {إنَّكم وما تعبدون من دون الله} الآية فقالوا: رضينا أن يكون آلهتنا بمنزلة عيسى فجعلوا عيسى عليه السَّلام مثلاً لآلهتهم فقال الله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يَصِدًّون} أَيْ: يضجُّون وذلك أنَّ المسلمين ضجُّوا من هذا حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مُبعدون} وذكر الله تعالى في هذه السُّورة تلك القصَّة وهو قوله:(1/976)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
{وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو} يعني: عيسى عليه السَّلام {ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً} أَيْ: إلاَّ الإرادة للمجادلة لأنَّهم علموا أنَّ المراد بحصب جهنم ما اتَّخذوه من الموات {بل هم قوم خصمون} يجادلون بالباطل ثمَّ بيَّن حال عيسى عليه السَّلام فقال:(1/977)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{إن هو إلاَّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} آيةً تدلُّ على قدرة الله(1/977)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
{ولو نشاء لجعلنا منكم} بدلكم {ملائكة في الأرض يخلفون} بأن نهلككم ونأتي بهم بدلاً منكم يكونون خلفاء منكم(1/977)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وإنه} أَي: وإنَّ عيسى {لعلم للساعة} بنزوله يُعلم قيام السَّاعة {فلا تمترنَّ بها} لا تشكُّوا فيها(1/977)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
{ولا يصدنكم الشيطان إنَّه لكم عدوٌ مبين}(1/977)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
{ولما جاء عيسى} إلى بني إسرائيل {بالبينات} بالآيات التي يعجز عنها المخلوقون {قال قد جئتكم بالحكمة} أَيْ: الإنجيل {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه} أي: كله(1/977)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
{إن الله هو رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(1/978)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
{فاختلف الأحزاب} الآية مفسَّرةٌ في سورة مريم(1/978)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
{هل ينظرون} أَيْ: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك {إلاَّ} أن يَفْجَأَهُمْ قيام {السَّاعة} ثمَّ ذكر أنَّ مخالَّتهم في الدُّنيا تبطل في ذلك اليوم وتنقلب عداوة فقال:(1/978)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
{الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} وهم المؤمنون وقوله:(1/978)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
{يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}(1/978)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
{الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين}(1/978)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
{تحبرون} تُكرمون وتسرُّون(1/978)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
{يطاف عليهم بصحاف} بقصاع وأكوابٍ وهي الأواني التي لا عُرى لها {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} أَيْ: تستلذًّ وهذا وصفٌ لجميع ما في الجنَّة من الطيبات وقوله:(1/978)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
{وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}(1/978)
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
{لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}(1/978)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)
{إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}(1/978)
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
{لا يفتر عنهم} أَيْ: لا يخفف عنهم العذاب {وهم فيه مبلسون} ساكنون سكوت يأس(1/978)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
{وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين}(1/979)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
{ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك} ليمتنا فنستريح {قال: إنكم ماكثون} مُقيمون في العذاب(1/979)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
{لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}(1/979)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
{أم أبرموا أمراً} أحكموا الأمر في المكر بمحمَّد عليه السَّلام {فإنا مبرمون} مُحكمون أمراً في مجازاتهم(1/979)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
{أم يحسبون أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}(1/979)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
{قل: إن كان للرحمن ولد} الآية معناها: إنْ كنتم تزعمون أنَّ للرحمن ولداً فأنا أوَّل الموحِّدين لأنَّ مَنْ عبد الله واعترف بأنَّه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد وقيل: {فأنا أول العابدين} الآنفين من هذا القول(1/979)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
{سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون}(1/979)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
{فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون}(1/979)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
{وهو الذي في السماء إله} يُعبد {وفي الأرض إله} يُعبد أيْ: هو المعبود فيهما {وهو الحكيم} في تدبير خلقه {العليم} بصلاحهم(1/979)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
{وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون}(1/979)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
{ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} أَيْ: الأوثان لا يشفعون لعابديها {إلاَّ مَنْ شهد بالحق} يعني: عيسى وعزيزا والملائكة فلهم الشَّفاعة في المؤمنين لا في الكفَّار وهم يشهدون بالحقِّ بالوحدانيَّة لله {وهم يعلمون} حقيقة ما شهدوا به(1/979)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون}(1/980)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وقيله} أَيْ: ويسمع قول محمَّد عليه السَّلام شاكياًَ إلى ربِّه وهو راجعٌ إلى قوله {أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم}(1/980)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{فاصفح عنهم} أَيْ: أعرض عنهم وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم {وقل سلام} أيْ: سلامةٌ لنا منكم {فسوف تعلمون} تهديدٌ لهم(1/980)
حم (1)
{حم}(1/981)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{والكتاب المبين}(1/981)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
{إنا أنزلناه} أَيْ: القرآن {في ليلة مباركة} قيل: هي ليلة القدر في رمضان أنزل الله القرآن فيها من أمِّ الكتاب إلى سماء الدُّنيا ثمَّ أنزله على نبيِّه عليه السَّلام نجوماَ وقيل: ليلة النِّصف من شعبان {إنا كنا منذرين} مُحذِّرين عبادنا العقوبة بإنزال الكتاب(1/981)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
{فيها يفرق} يُفصل {كلُّ أمر حكيم} مُحكمٍ من أرزاق العباد وآجالهم وذلك أنَّه يُدبِّر في تلك الليلة أمر السَّنة(1/981)
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
{أمراً من عندنا} معناه: يُفْرق كلُّ أمرٍ حكيمٍ فرقاً من عندنا فوضع الأمر موضع الفرق لأنَّه أمرٌ {إنا كنا مرسلين} محمَّداً إلى قومه(1/981)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
{رحمةً} أَيْ: للرًّحمة وقوله:(1/982)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
{إن كنتم موقنين} أَيْ: إن أيقنتم بأنَّه ربُّ السماوات والأرض فأيقنوا أنَّ محمداً رسوله لأنه أرسله(1/982)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
{لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم وربُّ آبائكم الأولين}(1/982)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
{بل هم في شك} من البعث والنَّشر {يلعبون} مُشتغلين بالدُّنيا(1/982)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
{فارتقب} فانتظر {يوم تأتي السماء بدخان مبين} وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه بالقحط فمنع القطر وأجدبت الأرض وانجرَّت الآفاق وصار بين السَّماء والأرض كالدُّخان(1/982)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
{يغشى الناس} ذلك الدخان وهم يقولون: {هذا عذاب أليم}(1/982)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
{ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} مُصدِّقون بنبيِّك قال الله تعالى:(1/982)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
{أنى لهم الذكرى} من أين لهم التَّذكُّر والاتِّعاظ {و} حالهم أنَّهم {قد جاءهم رسول مبين} يبيِّن لهم أحكام الدِّين يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم(1/982)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
{ثمَّ تولوا} أعرضوا {عنه وقالوا معلَّم} أَيْ: إنَّه معلَّم يُعلِّمه ما يأتي به بشر(1/982)
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
{إنا كاشفوا العذاب قليلاً} أَيْ: يكشف عنكم عذاب الجوع في الدُّنيا ثمَّ تعودون في العذاب وهو قوله: {إنكم عائدون}(1/982)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{يوم نبطش البطشة الكبرى} أَيْ: يوم القيامة وقيل: يوم بدرٍ(1/982)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
{ولقد فتنا} بلونا {قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم} على الله تعالى يعني: موسى عليه السَّلام(1/983)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
{أن أدوا إليَّ عباد الله} أَيْ: سلِّموهم إليَّ ولا تُعذِّبوهم يعني: بني إسرائيل كما قال: {فأرسل معي بني إسرائيل} {إني لكم رسول أمين} على وحي الله عز وجل(1/983)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
{وأن لا تعلوا على الله} لا تعصوه ولا تخالفوا أمره {إني آتيكم بسلطان مبين} بحجة واضحة تدلُّ على أنَّني نبيٌّ(1/983)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
{وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون} أَن تقتلون وذلك أنَّهم توعَّدوه بالقتل(1/983)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
{وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أَيْ: لا تكونوا عليَّ ولا لي وخلُّوا عني(1/983)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
{فدعا ربَّه أنَّ} أَيْ: بأنَّ {هؤلاء} أَيْ: يا ربِّ هؤلاء {قوم مجرمون} مشركون فقال الله تعالى:(1/983)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
{فأسرِ بعبادي} بني إسرائيل {ليلاً إنكم متبعون} يتَّبعكم فرعون وقومه(1/984)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
{واترك البحر رهواً} خلِّفه وراءك ساكناً غير مضطربٍ وذلك أنّ الماء وقف له كالطود العظيم حين جاوز البحر {إنهم جندٌ مغرقون} نغرقهم في ذلك البحر الذي تجاوزوه رهواً(1/984)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
{كم تركوا} بعد هلاكهم {من جنات وعُيُون} الآية مُفسَّرةٌ في سورة الشُّعراء(1/984)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
{وزروع ومقام كريم}(1/984)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
{ونعمة كانوا فيها فاكهين}(1/984)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
{كذلك} أَيْ: الأمر كما وصفنا {وأورثناها} أعطيناها {قوماً آخرين} يعني: بني إسرائيل(1/984)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
{فما بكت عليهم السماء والأرض} لأنَّهم ماتوا كفَّاراً والمؤمن يبكي عليه مصعد عمله ومُصلاَّه من الأرض {وما كانوا منظرين} مؤخَّرين حين أخذناهم بالعذاب(1/984)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)
{ولقد نجينا بني إسرائيل} بإهلاك فرعون وقومه {من العذاب المهين} يعني: قتل الأبناء واستخدام النِّساء(1/984)
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
{من فرعون إنه كان عالياً} مستكبراً مُتعظِّماً {من المسرفين} الكافرين المُتجاوزين حدِّهم(1/984)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
{ولقد اخترناهم} بني إسرائيل {على علمٍ} منَّا بهم {على العالمين} عالمي زمانهم(1/985)
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
{وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} نعمةٌ ظاهرةٌ من فلق البحر وإنزال المنِّ والسَّلوى(1/985)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
{إنَّ هؤلاء} أَيْ: مشركي مكَّة {ليقولون:}(1/985)
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
{إن هي إلاَّ موتتنا الأولى} أَيْ: ليس إلاَّ الموت ولا نشر بعده وهو قوله: {وما نحن بمنشرين}(1/985)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
{فأتوا بآبائنا} الذين ماتوا {إن كنتم صادقين} أنَّا نُبعث بعد الموت(1/985)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
{أهم خير} أَيْ: أقوى وأشدُّ {أم قوم تبع} الحِميريِّ {والذين من قبلهم} من الكفَّار {أهلكناهم}(1/985)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} ونحن نلعب في خلقهما أَيْ: إنَّما خلقناهما لأمرٍ عظيم وهو قوله: {ما خلقناهما إلاَّ بالحق} أَيْ: لإقامة الحقِّ وإظهاره من توحيد الله وإلزام طاعته(1/985)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
{ما خلقناهما إلاَّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون}(1/985)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
{إنَّ يوم الفصل} وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين العباد {ميقاتهم} الذي وقَّتنا لعذابهم {أجمعين}(1/985)
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
{يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} قريبٌ عن قريبٍ {ولا هم ينصرون} يُمنعون من عذاب الله(1/985)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
{إلا من رحم} لكن مَنْ رحم الله فإنَّه يُنصر(1/986)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)
{إنَّ شجرة الزَّقوم}(1/986)
طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
{طعام الأثيم} أَيْ: صاحب الإثم وهو أبو جهل(1/986)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)
{كالمهل} أَيْ: كالذَّائب من الفضَّة والنُّحاس في الحرارة {يَغلي في البطون} في بطون آكليه(1/986)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
{كغلي الحميم} وهو الماء الحارُّ(1/986)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
{خذوه} يعني: الأثيم {فاعتلوه} سوقوه سوقاً بالعنف {إلى سواء الجحيم} وسط الجحيم(1/986)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
{ثمَّ صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} كما قال: {يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم} ويقال له:(1/986)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
{ذق إنك أنت العزيز الكريم} بزعمك وعلى قولك وذلك أنَّه قال: ما بين جبليها أعزُّ ولا أكرم مني(1/986)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
{إنَّ هذا} الذي ترون من العذاب {ما كنتم به تمترون} فيه تشكُّون(1/987)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
{إنَّ المتقين في مقام أمين} أمنوا فيه من الغير(1/986)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
{في جنات وعيون}(1/986)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
{يلبسون من سندس} وهو ما رقَّ من الثّياب {وإستبرق} وهو ما غلظ منه {متقابلين} متواجهين(1/986)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
{كذلك} كما وصفنا {وزوجناهم بحور} وهنَّ النِّساء النَّقيات البياض {عين} واسعة الأعين(1/987)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
{يدعون فيها بكلِّ فاكهة آمنين} من الموت(1/987)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
{لا يذوقون فيها الموت إلاَّ} سوى {الموتة الأولى} الموتة التي ذاقوها في الدنيا(1/987)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
{فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم}(1/987)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
{فإنما يسرناه} سهَّلنا القرآن {بلسانك لعلهم يتذكرون} يتَّعظون(1/987)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{فارتقب} فانتظر الفتح والنَّصر {إنهم مرتقبون} مُنتظرون قهرك وهلاكك(1/987)
حم (1)
{حم}(1/988)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}(1/988)
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
{إن في السماوات والأرض} أَيْ: إنَّ في خلقهما {لآيات} لدلالاتٍ على قدرة الله وتوحيده وقوله:(1/988)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
{وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون}(1/988)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
{واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون}(1/988)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
{فبأيِّ حديث بعد الله} أَيْ: بعد حديث الله وكتابه {يؤمنون}(1/988)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
{ويلٌ لكلِّ أفاك أثيم} كذَّاب صاحب إثمٍ(1/988)
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
{يسمع آيات الله تتلى عليه ثمَّ يصرُّ} يُقيم على كفره {مستكبراً} مُتعظِّماً عن الإيمان به(1/988)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
{وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً} استهزأ بها(1/989)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
{ومن ورائهم} أمامهم {جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا} من الأموال {شيئاً}(1/989)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{هذا هدى} أَيْ: هذا القرآن هدىً {والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذابٌ من رجز أليم} مُؤلمٌ مرجع وقوله:(1/989)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}(1/989)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
{جميعاً منه} أيْ: كلُّ ذلك تفضُّلٌ منه وإحسانٌ(1/989)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} نزلت قبل الأمر بالقتال يقول: قل لهم يصفحوا عن المشركين الذين لا يخافون عقوبة الله وعذابه {ليجزي قوماً} أَيْ: ليجزيهم {بما كانوا يكسبون} من سوء أعمالهم وقوله:(1/989)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون}(1/989)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
{ورزقناهم من الطيبات} أَيْ: المنِّ والسَّلوى(1/990)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
{وآتيناهم بينات من الأمر} يعني: أحكام التَّوراة وبيان أمر النبيِّ عليه السَّلام {فما اختلفوا} في نبوَّته {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يعني: ما عملوه من شأنه {بغياً بينهم} حسداً منهم له(1/990)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
{ثم جعلناك على شريعة} مذهبٍ وملَّةٍ {من الأمر} من الدِّين {فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} مراد الكافرين(1/990)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
{إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً} لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتَّبعت أهواءهم(1/990)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
{هذا} إشارةٌ إلى القرآن {بصائر} معالم {للناس} في الحدود والأحكام يبصرون بها(1/990)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
{أم حسب الذين اجترحوا السيئات} اكتسبوا الكفر والمعاصي {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم} مُستوياً حياتهم وموتهم أَيْ: المؤمنُ مؤمنٌ حياً وميتاً والكافر كافرٌ حياً وميتاً فلا يستويان {ساء ما يحكمون} بئس ما يقضون إذ حسبوا أنَّهم كالمؤمنين: نزلت هذه الآية حين قال المشركون: لئن كان ما تقولون حقا لنفضلنَّ عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا(1/990)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
{وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}(1/991)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} أَيْ: الكافر اتَّخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه {وأضله الله على علم} على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنَّه ضالٌّ وباقي الآية مُفسَّر في أوَّل سورة البقرة(1/991)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{وقالوا} يعني: منكري البعث: {ما هي إلاَّ حياتنا الدنيا} أَيْ: ما الحياة إلاَّ هذه الحياة في دار الدُّنيا {نموت} نحن {ونحيا} أولادنا {وما يهلكنا إلاَّ الدهر} أَيْ: ما يفنينا إلاَّ مرُّ الزَّمان {وما لهم بذلك من علم} أَيْ: الذين يقولون {إن هم إلاَّ يظنون} ما هم إلاَّ ظانِّين ما يقولون(1/991)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} أَدلَّتنا في قدرتنا على البعث {بينات} واضحات {ما كان حجَّتهم إلاَّ أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أن نُبعث بعد الموت وقوله:(1/991)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
{ثمَّ يجمعكم إلى يوم القيامة} أَيْ: مع ذلك اليوم(1/992)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
{ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون}(1/992)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{وترى كل أمة} كلم أهلِ دينٍ {جاثية} مُجتمعةً للحساب وقيل: جالسةً على الرُّكَب من هول ذلك اليوم(1/992)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
{هذا كتابنا ينطق} أَيْ: ديوان الحفظة {إنا كنا نَستنسِخُ} نأمر بنسخ {ما كنتم تعملون}(1/992)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين}(1/992)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
{وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين}(1/992)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
{وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}(1/992)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
{وبدا لهم سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا به يستهزئون}(1/992)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
{وقيل اليوم ننساكم} نترككم في العذاب كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم هذا وقوله:(1/992)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
{ولا هم يستعتبون} أَيْ: لا يُلتمس منهم عمل ولا طاعة(1/992)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)
{فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين}(1/992)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{وله الكبرياء} العظمة {في السماوات والأرض} أَيْ: إنَّه يُعظَّم بالعبادة في السموات والأرض {وهو العزيز الحكيم}(1/992)
حم (1)
{حم}(1/993)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}(1/993)
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
{ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق} أَيْ: للحقِّ ولإِقامة الحقِّ {وأجل مسمَّى} تفنى عند انقضاء ذلك الأجل {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} أعرضوا بعدما قامت عليهم الحجَّة بخلق الله السماوات والأرض ثمَّ طالبهم بالدَّليل على عبادة الأوثان فقال:(1/993)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
{قل أرأيتم ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات} أَيْ: مشاركةٌ مع الله في خلقهما لذلك أشركتموهم في عبادته {ائتوني بكتاب من قبل هذا} أَيْ: من قبل القرآن فهي بيان ما تقولون {أو أثارة من علم} روايةٍ عن الأنبياء أنَّهم أَمروا بعبادة غير الله فلمَّا قامت عليهم الحجَّة جعلهم أضلَّ الخلق فقال:(1/993)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
{ومَنْ أضلُّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} أَيْ: أبداً الآية(1/994)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
{وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً} عادوا معبوديهم لأنهم بسبهم وقعوا في الهلكة وجحد المعبودون عبادتهم وهو قوله: {وكانوا بعبادتهم كافرين} كقوله: {تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} وقوله:(1/994)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين}(1/994)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
{قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} أي: إن عذَّبني على افترائي لم تملكوا دفعه وإذا كنتم كذلك لم أفتر على الله من أجلكم {هو أعلم بما تفيضون فيه} تخوضون فيه من الإفك {وهو الغفور} لمَنْ تاب {الرحيم} به(1/994)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
{قل ما كنت بدعاً} بديعاً {من الرسل} أَيْ: لستُ بأوَّل مرسل فتنكروا نبوَّتي {وما أدري ما يفعل بي} إلى إيش يصير أمري معكم أتقتلونني أم تخرجونني {ولا بكم} أَتُعذِّبون بالخسف أم الحجارة والمعنى: ما أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدُّنيا(1/994)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{قل أرأيتم إن كان} القرآن {من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل} يعني: عبد الله بن سلام {على مثله} على مثل ما شهد عليه القرآن من تصديق محمَّد عليه السَّلام {فآمن} ذلك الرَّجل {واستكبرتم} عن الإيمان(1/995)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
{وقال الذين كفروا} من اليهود: {لو كان} دين محمَّدٍ {خيراً ما سبقونا إليه} يعنون: عبد الله بن سلام وأصحابه {وإذ لم يهتدوا به} بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان {فسيقولون هذا إفكٌ قديم} كما قالوا: أساطير الأوَّلين(1/995)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
{ومن قبله} ومن قبل القرآن {كتاب موسى} التَّوراة {إماماً ورحمة وهذا كتاب} أَيْ: القرآن {مصدق} أَيْ: مصدِّقٌ لما بين يديه لما تقدَّم من الكتب {لساناً عربياً} نصب على الحال وقوله:(1/995)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
{إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}(1/995)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
{أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون}(1/995)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
{حملته أمه كرهاً} على مشقَّةٍ {ووضعته كرهاً} أَيْ: على مشقَّةٍ {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} أقلُّ الحمل ستة أشهر والفِصال: الفِطام ويكون ذلك بعد حولين {حتى إذا بلغ أشده} غاية شبابه وهي ثلاثٌ وثلاثون سنةً {وبلغ أربعين سنةً قال: ربِّ أوزعني} الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وذلك أنَّه لمَّا بلغ أربعين سنةً آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وآمن أبوه فذلك قوله: {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى والدي} أَيْ: بالإِيمان {وأصلح لي في ذريتي} بأن تجعلهم مؤمنين فاستجاب الله له في أولاده فأسلموا ولم يكن أحدٌ من الصَّحابة أسلم هو وأبوه وبنوه وبناته إلاَّ أبو بكر رضي الله عنه(1/995)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
{أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}(1/996)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
{والذي قال لوالديه} نزلت في كافرٍ عاقٍّ قال لوالديه: {أَتَعِدانِني أن أخرج} من قبري حيَّاً {وقد خلت القرون من قبلي} فلم يُبعث منهم أحدٌ {وهما يستغيثان الله} يعني: والديه يستغيثان بالله على إيمان ولدهما ويقولان له: {ويلك آمن إنَّ وعد الله حق فيقول ما هذا} الذي تتدعونني إليه {إلاَّ أساطير الأولين}(1/996)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
{أولئك الذين} أَيْ: مَنْ كان بهذه الصِّفة فهم الذين {حق عليهم القول} وجب عليهم العذاب {في أمم} كافرةٍ {من الجن والإِنس}(1/996)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
{ولكلٍّ} من المؤمنين والكافرين {درجات} منازل ومراتب من الثَّواب والعقاب {ممَّا عملوا}(1/996)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{ويوم يعرض الذين كفروا على النار} فيقال لهم: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وذلك أنَّهم يفعلون ما يشتهون لا يتوفون حراما ولا يجتنبون مأئما {فاليوم تجزون عذاب الهون} الآية(1/996)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
{واذكر أخا عاد} يعني: هوداً {إذ أنذر قومه بالأحقاف} أَيْ: منازلهم {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} أَيْ: قد أُنذروا بالعذاب أنْ عَبَدوا غيرَ الله قبل إنذار هو وبعده(1/997)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
{قالوا أجئتنا لتأفكنا} لتصرفنا {عن آلهتنا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين}(1/997)
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
{قال: إنما العلم عند الله} هو يعلم متى يأتيكم العذاب {و} إنما أنا مُبلِّغٌ {أبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً تجهلون} مراشدكم حين أدلُّكم على الرَّشاد وأنتم تُعرضون(1/997)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
{فلما رأوه} أَيْ: السَّحاب {عارضاً} قد عرض في السماء {مستقبل أوديتهم} يأتي من قبلها {قالوا هذا عارض ممطرنا} سحابٌ يمطر علينا قال الله تعالى: {بل هو ما أستعجلتم به} من العذاب(1/997)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
{تدمّر} تُهلك {كلَّ شيء} مرَّت به من الرِّجال والدَّوابِّ {فأصبحوا لا يُرى} أشخاصهم {إلاَّ مساكنهم} لأنَّ الرِّيح أهلكتهم وفرَّقتهم وبقيت مساكنهم خاليةً(1/997)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
{ولقد مكَّناهم} من القوَّة والعمر والمال {فيما إن مكَّناكم فيه} في الذي ما مكَّنَّاكم فيه(1/997)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
{ولقد أهلكنا ما حولكم} يا أهل مكَّة {من القرى} كحجر ثمود وقرى قوم لوط {وصرَّفنا الآيات} بيَّنا الدَّلالات {لعلهم يرجعون} عن كفرهم يعني: الأمم المهلكة(1/998)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
{فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة} يعني: أوثانهم الذين اتَّخذوها آلهةَ يتقرَّبون بها إلى الله {بل ضلوا عنهم} بطلوا عند نزول العذاب {وذلك إفكهم} أَيْ: كذبهم وكفرهم يعني: قولهم: إنَّها تُقرِّبنا إلى الله(1/998)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن} كانوا تسعة نفرٍ من الجنِّ من نينوى من أرض الموصل وذلك أنَّه عليه السَّلام أُمر أن يُنذر الجنَّ فصرف إليه نفرٌ منهم ليتسمعوا ويبلِّغوا قومهم {فلما حضروه} قال بعضهم لبعض: {أنصتوا} أَيْ: اسكتوا {فلما قضي} أَيْ: فرغ من تلاوة القرآن رجعوا {إلى قومهم منذرين} وقالوا لهم ما قصَّ الله في كتابه وقوله:(1/998)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
{قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم}(1/998)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم}(1/998)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
{ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين}(1/998)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
{ولم يعي بخلقهن} أَيْ: لمن يضعف عن إبداعهن(1/998)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}(1/998)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} أَيْ: ذوو الرَّأي والجدِّ وكلّهم أولو العزم إلاَّ يونس وقيل: هم أصحاب الشَّرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد منهم صلى الله عليه وسلم أجمعين {ولا تستعجل لهم} العذاب {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} من العذاب في الآخرة {لم يلبثوا} في الدُّنيا {إلاَّ ساعة من نهار} لهولِ ما عاينوا ونسوا قدره مكثهم في الدُّنيا {بلاغ} أَيْ: هذا القرآن بلاغٌ أَيْ: تبْليغٌ من الله تعالى إليكم على لسان محمَّد عليه السَّلام {فهل يهلك إلاَّ القوم الفاسقون} أَيْ: لا يُهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلاَّ الكافرون(1/999)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
{الذين كفروا} أهل مكَّة {وصدوا عن سبيل الله} ومنعوا النَّاس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {أضلَّ أعمالهم} أحبطها فلا يرون في ألآخرة لها جزاءً وقوله:(1/1000)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
{كفَّر عنهم سيئاتهم} أَيْ: سترها وغفرها لهم {وأصلح بالهم} أمرهم وحالهم(1/1000)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
{ذلك} الإِضلال والتَّكفير لاتِّباع الكافرين الباطل وهو الشَّيطان واتِّباع المؤمنين الحقَّ وهو القرآن {كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} أَيْ: كالبيان الذي ذُكر يُبيِّن الله للنَّاس أمثال سيئات الكافرين وحسنات المؤمنين(1/1000)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} فاضربوا رقابهم أَيْ: فاقتلوهم {حتى إذا أثخنتموهم} أكثرتم فيهم القتل {فشدوا} وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم {فإمَّا منَّاً بعد} أَيْ: بعد أن تأسروهم إما منتم عليهم فأطلقتموهم وإمَّا أن تُفادوهم بمالٍ {حتى تَضَعَ الحرب أوزارها} أَيْ: اقتلوهم وأسروهم حتى لا يبقى كافر يقاتلكم فتسكن الحر وتنقطع وهو معنى قوله: {تضع الحرب أوزارها} أي: يضع أهلها آلة الحر من السِّلاح وغيره ويدخلوا في الإِسلام أو الذِّمَّة {ذلك} أَيْ: افعلوا ذلك الذي ذكرت {ولو يشاء الله لانتصر منهم} أهلكهم بغير قتالٍ {ولكن ليبلو بعضكم ببعض} يمحِّص المؤمنين بالجهاد ويمحق الكافرين {والذين قتلوا في سبيل الله} وهم أهل الجهاد(1/1000)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
{سيهديهم} في الدُّنيا إلى الطَّاعات وفي الآخرة إلى الدَّرجات {ويصلح بالهم} أمر معاشهم(1/1001)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
{ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم} بيَّن لهم مساكنهم فيها وعرَّفهم منازلهم(1/1001)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله} أَيْ: رسوله ودينه {ينصركم ويثبت أقدامكم} في مواطن القتال(1/1001)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
{والذين كفروا فتعساً لهم} أَيْ: سقوطاً وهلاكاً {وأضلَّ أعمالهم} أبطلها لأنَّها كانت للشَّيطان ثمَّ توعَّدهم فقال:(1/1001)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
{ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}(1/1001)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} أَيْ: أمثال تلك العاقبة التي كانت لمَنْ قبلهم(1/1001)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
{ذلك} أَيْ: ذلك النَّصر للمؤمنين والهلاك للكافرين {بأنَّ الله مولى الذين آمنوا} وليُّهم وناصرهم {وأن الكافرين لا مولى لهم} لا ولي ينصرهم من الله(1/1001)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
{والذين كفروا يتمتعون} في الدُّنيا {ويأكلون كما تأكل الأنعام} ليس لهم همَّةٌ إلاَّ بطونهم وفروجهم ثمَّ يصيرون إلى النَّار(1/1002)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
{وكأين من قرية هي أشدُّ قوة من قريتك التي أخرجتك} يعني: مكَّة أخرجك أهلها {أهلكناهم} بتكذيبهم الرُّسل {فلا ناصر لهم}(1/1002)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
{أفمن كان على بينة من ربه} وهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون {كمَنْ زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} وهم أبو جهل والكفَّار(1/1002)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
{مثل} صفة {الجنَّة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسن} غير متغيِّرِ الرَّائحة {وأنهار من خمر لذة للشاربين} لذيذة(1/1002)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
{ومنهم مَنْ يستمع إليك} يعني: المنافقين {حتى إذا خرجوا من عندك} كانوا يستمعون خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذاخرجوا سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً وإعلاماً أنَّهم لم يلتفتوا إلى ما قال يقولون: {ماذا قال آنفاً} أَيْ: الآن وقوله:(1/1002)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
{وآتاهم تقواهم} أَيْ: ثواب تقواهم ويجوز أن يكون المعنى: وألهمهم تقواهم ووفَّقهم لها(1/1002)