المقدمة
لا إله إلا الله عدة للقاء الله عز وجل رب بك أستعين
أخبرنا الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي الصاعدي في كتابه إلينا من نيسابور قال:
أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي رضي الله عنه قال: الحمد لله الكريم بآلائه العظيم بكبريائه القادر فلا يمانع والقاهر فلا ينازع والعزيز فلا يضام والمنيع فلا يرام والمليك الذي له الأقضية والأحكام وصلواته على المبعوث بشيرا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا محمد النبي خير الورى وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى ما انبلج الليل عن الصباح ونادى المنادي بحي على الفلاح وسلم كثيرا
أما بعد فإن لكل زمان نشوا ولكل نشو علما يتعاطونه على قدر هممهم وأفهامهم ومددهم في العمر وأيامهم وفيما سلف من الأيام وخلا من الشهور والأعوام كانت الهمم إلى العلوم مصروفة والرغبات عليها موقوفة يتوفر عليها طلاب المراتب في الدنيا والراغبون في مثوبة العقبى ثم لم تزل على مر الليالي تنخفض الهمم وتتراجع حتى عاد وابلها قطرة ولم نشاهد مما كانت عليه ذرة ذلك قضاء الله مبرم ووعد من الرسول صلى الله عليه وسلم محكم بانتزاع العلم وقبضه فيما أخبرناه الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ محمش الزيادي رضي الله عنه قراءة عليه في شهور سنة تسع وأربع مائة قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ المعروف بابن الأخرم قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا جعفر بن عون عن هشام ابن عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا]
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قبضت الفحول وهلكت الوعول وانقرض زمان العلم وخمدت جمرته وهزمته كرة الجهل وعلت دولته ولم يبق إلا صبابة نتجرعها وأطمار نجتابها ونتدرعها وعليها من حال فإني كنت قد ابتدأت بابداع كتاب في التفسير لم أسبق إلى مثله وطال علي الأمر في ذلك لشرائط تقلدتها ومواجب من حق النصيحة لكتاب الله تعالى تحملتها ثم استعجلني قبل إتمامه والتقصي عما لزمني من عهدة أحكامه نفر متقاصرو الرغبات منخفضو الدرجات أولو البضائع المزجاة إلى إيجاز كتاب في التفسير يقرب على من تناوله ويسهل على من تأمله من أوجز ما عمل في بابه وأعظمه فائدة على متحفظيه وأصحابه
وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا تعجيلا لمنفعتهم وتحصيلا للمثوبة في إفادتهم ما تمنوه طويلا فلم يغني عنهم أحد فتيلا وتارك ما سوى قول واحد معتمد لابن عباس رحمه الله أو من هو في مثل درجته كما يترجم عن اللفظ العويص بأسهل منه وهذا حين أفتتحه فأقول: [قوله تعالى من](1/85)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
{بسم الله الرحمن الرحيم} أَيْ: ابدؤوا أوِ افتتحوا بتسمية الله تيمُّناً وتبرُّكاً و {الله} : اسمٌ تفرَّد الباري به سبحانه يجري فِي وصفه مجرى أسماء الأعلام لا يُعرف له اشتقاق وقيل: معناه: ذو العبادة التي بها يُقصد {الرَّحمن الرَّحيم} : صفتان لله تعالى معناهما: ذو الرَّحمة أَي: الرَّحمة لازمةٌ له وهي إرادة الخير ولا فرق بينهما مثل: ندمانٍ ونديم(1/88)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{الحمدُ لله} هو الثَّناء لله والشُّكرُ له بإنعامه {ربِّ العالمين} : مالك المخلوقات كلها(1/88)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
قوله تعالى {الرحمن الرحيم}(1/88)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
{مالك يوم الدِّين} مأخوذٌ من المِلْك والمِلْك مأخوذٌ من المُلْك أَيْ: قاضي يوم الجزاء والحساب لأنَّه متفرِّدٌ في ذلك اليوم بالحكم(1/88)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
{إيَّاك نعبدُ} أَيْ: نخصُّك ونقصدك بالعبادة وهي الطَّاعة مع الخضوع {وإيَّاك نستعين} : ومنك نطلب المعونة(1/89)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
{اهدنا الصراط المستقيم} أَيْ: دُلَّنا عليه واسلكْ بنا فيه وثبِّتنا عليه(1/89)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{صراط الذين أنعمتَ عليهم} بالهداية وهم قومُ موسى وعيسى عليهما السَّلام قبل أن يُغيِّروا نعمَ الله عز وجل وقيل: هم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله تعالى {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} الآية {غير المغضوب عليهم} أَيْ: غير الذين غضبتَ عليهم وهم اليهود ومعنى الغضب من الله تعالى: إرادةُ العقوبة {ولا الضَّالين} أَيْ: ولا الذين ضلُّوا وهم النَّصارى فكأنَّ المسلمين سألوا الله تعالى أن يهديهم طريق الذين أنعم عليهم ولم يغضب عليهم كما غضب على اليهود ولم يضلُّوا عن الحقِّ كما ضلَّت النَّصارى(1/89)
الم (1)
{الم} أنا الله أعلم(1/90)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ذلك الكتاب} أَيْ: هذا الكتاب يعني: القرآن {لا ريب فيه} أي: لاشك فيه أَيْ: إنَّه صدقٌ وحقٌّ وقيل لفظه لفظ خبرٍ ويُراد به النهي عن الارتياب قال: {فلا رفث ولا فسوق} ولا ريب فيه أنَّه {هدىً} : بيانٌ ودلالةٌ {للمتقين} : للمؤمنين الذين يتَّقون الشِّرْك في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم وقد قال: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر}(1/90)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الذين يؤمنون:} يُصدِّقون {بالغيب} : بما غاب عنهم من الجنَّة والنَّار والبعث {ويقيمون الصَّلاة} : يُديمونها ويحافظون عليها {وممَّا رزقناهم} : أعطيناهم ممّا ينتفعون به {ينفقون} : يُخرجونه في طاعة الله تعالى(1/90)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{والذين يؤمنون بما أُنزل إليك} نزلت في (مؤمني) أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن {وما أنزل من قبلك} يعني: التَّوراة {وبالآخرة} يعني: وبالدَّار الآخرة {هم يوقنون} : يعلمونها علماً باستدلالٍ(1/91)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أولئك} يعني: الموصوفين بهذه الصِّفات {على هدىً} : بيانٍ وبصيرةٍ {من ربِّهم} أَيْ: من عند ربِّهم {وأولئك هم المفلحون} : الباقون في النَّعيم المقيم(1/91)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{إنَّ الذين كفروا} : ستروا ما أنعم الله عزَّ وجل به عليهم من الهدى والآيات فجحدوها وتركوا توحيد الله تعالى {سواء عليهم} : معتدلٌ ومتساوٍ عندهم {أأنذرتهم} : أعلمتهم وخوَّفتهم {أم لم تنذرهم} أم تركت ذلك {لا يؤمنون} نزلت فِي أبي جهلٍ وخمسةٍ من أهل بيته ثمَّ ذكر سبب تركهم الإيمان(1/91)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{ختم الله على قلوبهم} أَيْ: طبع الله على قلوبهم واستوثق منها حتى لا يدخلها الإيمان {وعلى سمعهم} : أَيْ: مسامعهم حتى لا ينتفعوا بما يسمعون {وعلى أبصارهم} : على أعينهم {غشاوة} غطاءٌ فلا يبصرون الحقَّ {ولهم عذابٌ عظيمٌ} مُتواصل لا تتخلَّله فُرجةٌ(1/91)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر} نزلت فِي المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان وأسرُّوا الكفر فنفى الله سبحانه عنهم الإِيمان بقوله: {وما هم بمؤمنين} فدلَّ أنَّ حقيقة الإيمان ليس الإِقرار فقط(1/92)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
{يخادعون الله والذين آمنوا} أَيْ: يعملون عمل المخادع بإظهار غير ما هم عليه ليدفعوا عنهم أحكام الكفر {وما يخدعون إلاَّ أنفسهم} لأنَّ وبال خداعهم عاد عليهم بإطلاع الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام والمؤمنين على أسرارهم وافتضاحهم {وما يشعرون} : وما يعلمون ذلك(1/92)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{في قلوبهم مرض} شك ونفاقٌ {فزادهم الله مرضاً} أَيْ: بما أنزل من القرآن فشكُّوا فِيهِ كما شكُّوا في الذي قبله {ولهم عذابٌ أليم} : مؤلمٌ {بما كانوا يكذبون} بتكذيبهم آيات الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم (ومَنْ قرأ يُكذِّبون فمعناه: بكذبهم في ادّعائهم الإيمان)(1/92)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
{وإذا قيل لهم} (لهؤلاء) المنافقين: {لا تفسدوا فِي الأرض} بالكفر وتعويق النَّاس عن الإيمان {قالوا إنما نحن مصلحون} أَي: الذين نحن عليه هو صلاحٌ عند أنفسنا فردَّ الله تعالى عليهم ذلك فقال(1/92)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} : لا يعلمون أنَّهم مُفسدون(1/92)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} أَيْ: لا نفعل كما فعلوا وهذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم فأخبر الله تعالى به عنهم(1/93)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
{وإذا لقوا الذين آمنوا} إذا اجتمعوا مع المؤمنين ورأوهم {قالوا آمنَّا} {وإذا خلوا} من المؤمنين وانصرفوا {إلى شياطينهم} : كبرائِهم وقادتهم {قالوا إنَّا معكم} (أَيْ: على دينكم) {إنَّما نحن مستهزئون} : مُظهرون غير ما نضمره(1/93)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
{الله يستهزئ بهم} : يجازيهم جزاء استهزائهم {ويمدُّهم} : يُمهلهم ويطوِّل أعمارهم {في طغيانهم} : في إسرافهم ومجاوزتهم القدر في الكفر {يعمهون} يتردَّدون مُتحيِّرين(1/93)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} : أخذوا الضَّلالة وتركوا الهدى {فما ربحت تجارتُهم} فما ربحوا في تجارتهم (وإضافة الرِّبح إلى التجارة على طريق الاتساع كإضافة الإيضاء إلى النار) {وما كانوا مهتدين} فيما فعلوا(1/93)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{مثلُهم كمثل الذي استوقد ناراً} أَيْ: حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحالِ مَنْ أَوقد ناراً فاستضاء بها وأضاءت النَّار ما حوله ممَّا يخاف ويحذر وأمن فبينما هو كذلك إذ طُفئت ناره فبقي مُظلماً خائفاً مُتحيِّراً فذلك قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} الآية كذلك المنافقون لمَّا أظهروا كلمة الإيمان اغترُّوا بها وأَمِنُوا فلمَّا ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب(1/93)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{صمٌّ} لتركهم قبول ما يسمعون {بُكْمٌ} لتركهم القول بالخير {عُمْيٌ} لتركهم ما يُبصرون من الهداية {فهم لا يرجعون} عن الجهل والعمى إلى الإسلام ثمَّ ذكر تمثيلاً آخر فقال(1/94)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{أو كصيِّبٍ} أو كأصحاب مطرٍ شديدٍ {من السَّماء} : من السَّحاب {فيه} : في ذلك السَّحاب {ظلماتٌ ورعدٌ} وهو صوت مَلَكٍ مُوكَّلٍ بالسَّحاب {وبرق} وهي النَّار التي تخرج منه {يجعلون أصابعهم في آذانهم} يعني: أهل هذا المطر {من الصواعق} من شدَّة صوت الرَّعد يسدُّون آذانهم بأصابعهم كيلا يموتوا بشدَّة ما يسمعون من الصَّوت فالمطر مَثَلٌ للقرآن لما فيه من حياة القلوب والظُّلماتُ مثل لما في القرآن من ذكر الكفر والشرك وبيان الفتن والأهوال والرعد مَثَلٌ لما خُوِّفوا به من الوعيد وذكر النَّار والبرقُ مثلٌ لحجج القرآن وما فيه من البيان وجعل الأصابع في الآذان حذر الموت مثَلٌ لجعل المنافقين أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا القرآن مخافةَ ميل القلب إلى القرآن فيؤدِّي ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك عندهم كفرٌ والكفر موتٌ {واللَّهُ محيطٌ بالكافرين} مُهلكهم وجامعهم في النَّار(1/94)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{يكاد البرقُ يخطف أبصارهم} هذا تمثيلٌ آخر يقول: يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدَّة إزعاجها إلى النَّظر في أمر دينهم {كلما أضاءَ لهم مشوا فيه} : كُلَّما سمعوا شيئاً ممَّا يُحبّون صدَّقوا وإذا سمعوا ما يكرهون وقفوا وذلك قوله عز وجل: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لذهب بسمعهم وأبصارهم} أَيْ: بأسماعهم الظَّاهرة وأبصارهم الظَّاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة حتى صاروا صُمَّاً عُمياً فليحذروا عاجل عقوبة الله سبحانه وآجلها ف {إنَّ الله على كل شيء قديرٌ} من ذلك(1/94)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
{يا أيها الناس} يعني: أهل مكَّة {اعبدوا ربَّكم} : اخضعوا له بالطَّاعة {الذي خلقكم} : ابتدأكم ولم تكونوا شيئاً {والذين من قبلكم} (آبائكم) (وخاق الذين من قبلكم) أي: إنَّ عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوق وهو الصَّنم {لعلَّكم تتقون} لكي تتقوا بعبادته عقوبته أن تحلَّ بكم(1/95)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{الذي جعل لكم الأرض فراشاً} بساطاً لم يجعلها حَزْنةً غليظةً لا يمكن الاستقرار عليها {والسماء بناءً} سقفاً {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات} يعني: حمل الأشجار وجميع ما ينتفع به ممَّا يخرج من الأرض {فلا تجعلوا لله أنداداً} : أمثالاً من الأصنام التي تعبدونها {وأنتم تعلمون} أنَّهم لا يخلقون والله هو الخالق وهذا احتجاجٌ عليهم في إثبات التَّوحيد ثمَّ احتجَّ عليهم فِي إثبات نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما قطع عذرهم به فقال:(1/95)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} أي: وإن كنتم فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا {فأتوا بسورة} من مثل هذا القرآن فِي الإِعجاز وحسن النَّظم والإِخبار عمَّا كان وما يكون {وادعوا شهداءكم} واستعينوا بآلهتكم التي تدعونها {من دون الله إن كنتم صادقين} أنَّ محمداً تقوَّله من نفسه(1/95)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
{فإنْ لم تفعلوا} هذا فيما مضى {ولن تفعلوا} هُ أيضاً فيما يُستقبل أبداً {فاتقوا} : فاحذروا أن تصلوا {النَّار التي وقودها} ما يُوقد به {الناسُ والحجارة} يعني حجارة الكبريت وهي أشدُّ لاتِّقادها {أعدَّت} (خُلقت وهُيِّئت) جزاءً {للكافرين} بتكذيبهم ثمَّ ذكر جزاء المؤمنين فقال:(1/96)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{وبشر الذين آمنوا} أي: أخبرهم خبراً يظهر به أثر السُّرور على بشرتهم {وعملوا الصالحات} أَي: الأعمال الصَّالحات يعني الطَّاعات فيما بينهم وبين ربِّهم {أنَّ لهم} : بأنَّ لهم {جناتٍ} : حدائق ذات الشِّجر {تجري من تحتها} من تحت أشجارها ومساكنها {الأنهار} {كلما رزقوا} : أُطعموا من تلك الجنَّات ثمرةً {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} لتشابه ما يُؤتون به وأرادوا: هذا من نوع ما رُزقنا من قبل {وأتوا به متشابهاً} في اللَّون والصُّورة مختلفاً في الطَّعم وذلك أبلغ في باب الإِعجاب {ولهم فيها أزواجٌ} : من الحور العين والآدميات {مطهرةٌ} عن كلِّ أذىً وقذرٍ ممَّا في نساء الدُّنيا ومن مساوئ الأخلاق وآفات الشَّيب والهرم {وهم فِيها خالدون} لأنَّ تمام النِّعمة بالخلود(1/96)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
{إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ} الآية لمَّا ضرب الله سبحانه المَثل للمشركين بالذُّباب والعنكبوت في كتابه ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله سبحانه فأنزل الله تعالى: {إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ} لا يترك ولا يخشى {أن يضرب مثلاً} أَنْ يُبيِّنَ شبهاً {ما بعوضةً} ما زائدة مؤكِّدة والبعوض: صغار البق الواحدة: بعوضة {فما فوقها} يعني: فما هو أكبر منها والمعنى: إنَّ الله تعالى لا يترك ضرب المثل ببعوضةٍ فما فوقها إذا علم أنَّ فِيهِ عبرةُ لمن اعتبر وحجَّةً على مَنْ جحد (واستكبر) {فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون} أنَّ المثل وقع في حقِّه {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مثلاً} أَيْ: أَيُّ شيء أرادالله بهذا من الأمثال؟ والمعنى ئئئئانهم يقولون: أَيُّ فائدةٍ في ضرب الله المثل بهذا؟ فأجابهم الله سبحانه فقال {يضلُّ به كثيراًً} أَيْ: أراد الله بهذا المثل أن يضلَّ به كثيراً من الكافرين وذلك أنَّهم يُنكرونه ويُكذِّبونه {ويهدي به كثيراً} من المؤمنين لأنَّهم يعرفونه ويصدِّقونه {وما يضلُّ به إلاَّ الفاسقين} الكافرين الخارجين عن طاعته(1/96)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{الذين ينقضون} يهدمون ويفسدون {عهدَ الله} : وصيته وأمره في الكتب المتقدِّمة بالإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {من بعد ميثاقه} من بعد توكيده عليهم بإيجابه ذلك {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} يعني: الرَّحم وذلك أنَّ قريشاً قطعوا رحم النَّبيِّ صلي الله عليه وسلم بالمعاداة معه {ويفسدون فِي الأرض} بالمعاصي وتعويق النَّاس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {أولئك هم الخاسرون} (مغبونون) بفوت المثوبة والمصيرِ إلى العقوبة(1/97)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{كيف تكفرون بالله} معنى كيف ها هنا استفهامٌ في معنى التَّعجُّب للخلقِ أَي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وحالُهم أنَّهم كانوا تراباً فأحياهم بأَنْ خلق فيهم الحياة فالخطاب للكفَّار والتَّعجب للمؤمنين وقوله تعالى: {ثم يميتكم} أَيْ: في الدُّنيا {ثمَّ يُحييكم} في الآخرة للبعث {ثمَّ إليه ترجعون} تردُّون فيفعل بكم ما يشاء فاستعظم المشركون أمر البعث والإعادة فاحتجَّ الله سبحانه عليهم بخلق السماوات والأرض فقال:(1/98)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
{هو الذي خلق لكم} لأجلكم {ما في الأرض جميعاً} بعضها للانتفاع وبعضها للاعتبار {ثمَّ استوى إلى السَّماء} : أقبل على خلقها وقصد إليها {فسوَّاهنَّ سبع سماوات} فجعلهن سبع سماوات مُستوياتٍ لا شقوق فيها ولا فطور ولا تفاوت {وهو بكلِّ شيءٍ عليم} إذ بالعلم يصحُّ الفعل المحكم(1/98)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{وإذ قال ربك} واذكر لهم يا محمَّدُ إذ قَالَ رَبُّكَ {لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خليفة} يعني: آدم جعله خليفةً عن الملائكة الذين كانوا سكَّان الأرض بعد الجنِّ والمراد بذكر هذه القصَّة ذكرُ بدءِ خلق النَّاس {قالوا أتجعل فِيها مَنْ يفسد فِيها} كما فعل بنو الجانِّ قاسوا (الشَّاهد) على الغائب {ونحن نسبح بحمدك} نُبرِّئُك من كلِّ سوءٍ ونقول: سبحان الله وبحمده {ونقدِّسُ لك} ونُنزِّهك عمَّا لا يليق بك {قال إني أعلم ما لا تعلمون} من إضمار إبليس العزم على المعصية فلمَّا قال الله تعالى هذا للملائكة قالوا فيما بينهم: لن يخلق ربُّنا خلقاً هو أعلمُ منَّا ففضَّل الله تعالى عليهم آدم بالعلم وعلَّمه اسم كلِّ شيء حتى القصعة (والقصيعة) والمِغْرفة وذلك قوله تعالى:(1/98)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
{وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها} أَيْ: خلق فِي قلبه علماً بالأسماء على سبيل الابتداء {ثمَّ عرَضهم} أَيْ: عرض المسمَّيات بالأسماء من الحيوان والجماد وغير ذلك {على الملائكة فقال أنبئوني} أخبروني {بأسماء هؤلاء} وهذا أمرُ تعجيزٍ أراد الله تعالى أن يُبيِّن عجزهم عن علم مايرون ويُعاينون {إن كنتم صادقين} أنِّي لا أخلق خلقاً أعلمَ منكم فقالت الملائكة إقراراً بالعجز واعتذاراً:(1/99)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{سبحانك} تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك فِي حكمك {لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا} اعترفوا العجز عن علم ما لم يُعلَّموه {إنَّك أنت العليم} العالم {الحكيم} الحاكم تحكم بالحق وتقضي به فلمَّا ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى لآدم:(1/99)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
{يا آدم أنبئهم بأسمائهم} أخبرهم بتسمياتهم فسمَّى كلَّ شيءٍ باسمه وألحق كلَّ شيءٍ بجنسه {فلما أنبأهم بأسمائهم} : أخبرهم بمسمَّياتهم {قال} الله تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم} وهذا استفهامٌ يتضمَّن التَّوبيخ لهم على قولهم: {أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها} {إني أعلم غيب السماوات والأرض} أَيْ: ما غاب فيهما عنكم {وأعلم ما تبدون} : علانيتكم {وما كنتم تكتمون} : سرَّكم لا يخفى عليَّ شيءٌ من أموركم(1/99)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} سجود تعظيمٍ وتسليمٍ وتحيَّةٍ وكان ذلك انحناءاً يدلُّ على التَّواضع ولم يكن وضعَ الوجه على الأرض {فسجدوا إلاَّ إبليس أبى} امتنع {واستكبر وكان من الكافرين} في سابق علم الله عز وجل(1/100)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} اتَّخذاها مأوىً ومنزلاً {وكلا منها رغداً} واسعاً {حيث شئتما} ما شئتما إذا شئتما (كيف شئتما) {ولا تقربا هذه الشجرة} لاتحوما حولها بالأكل منها يعني السُّنبلة {فتكونا} فتصيرا {من الظالمين} : العاصين الذين وضعوا أمر الله عز وجل غير موضعه(1/100)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{فأزلهما الشيطان} نحاهما وعدهما {عنها فأخرجهما ممَّا كانا فيه} من الرتبة وليس العيش {وقلنا} لآدم وحواء وإبليس والحيَّة: {اهبطوا} أي: انزلوا إلى الأرض {بعضكم لبعض عدو} يعني: العداوة التي بين آدم وحواء والحيَّة وبين ذرية آدم عليه السَّلام من المؤمنين وبين إبليس لعنه الله {ولكم في الأرض مستقر} موضع قرارٍ {ومتاع إلى حين} ما تتمتَّعون به ممَّا تُنبته الأرض إلى حين االموت(1/100)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
{فتلقى آدم من ربه} أخذ وتلقَّن {كلماتٍ} وهو أنَّ الله تعالى ألهم آدم عليه السَّلام حين اعترف بذنبه وقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية {فتاب عليه} فعاد عليه بالمغفرة حين اعترف بالذَّنب واعتذر {إنَّه هو التواب} يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه(1/100)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرَّر الأمر بالهبوط للتَّأكيد {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَيْ: فإنْ يأتكم مني شريعةٌ ورسولٌ وبيانٌ ودعوةٌ {فَمَنْ تبع هداي} أَيْ: قَبِل أمري واتَّبع ما آمره به {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فِي الآخرة وَلا حزن والخطاب لآدم وحوَّاء وذرِّيتهما أعلمهم الله تعالى أنَّه يبتليهم بالطَّاعة ويجازيهم بالجنَّة عليها ويعاقبهم بالنَّار على تركها وهو قوله تعالى:(1/101)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} أَيْ: بأدلتنا وكتبنا {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(1/101)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
{يا بني إسرائيل} أولاد يعقوب عليه السَّلام {اذكروا} اشكروا وذكر النِّعمة هو شكرها {نعمتي} يعني: نعمي {التي أنعمت عليكم} يعني: فلق البحر والإِنجاء من فرعون وتظليل الغمام إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم والمراد بقوله تعالى: {عليكم} أَيْ: على آبائكم والنِّعمة على آبائهم نعمةٌ عليهم وشكر هذه النِّعم طاعتُه في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ صرَّح بذلك فقال {وأوفوا بعهدي} أَيْ: في محمد صلى الله عليه وسلم {أُوف بعهدكم} أدخلكم الجنَّة {وإيَّاي فارهبون} فخافوني في نقض العهد(1/101)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
{وآمنوا بما أنزلت} يعني: القرآن {مصدقاً لما معكم} موافقاً للتَّوراة فِي التَّوحيد والنُّبوَّة {وَلا تكونوا أوَّل كافر به} أَيْ: أوَّل مَنْ يكفر به من أهل الكتاب لأنَّكم إذا كفرتم كفر أتباعكم فتكونوا أئمةً في الضَّلالة والخطابُ لعلماء اليهود {ولا تشتروا} ولا تستبدلوا {بآياتي} ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته {ثمناً قليلاً} عوضاً يسيراً من الدُّنيا يعني: ما كانوا يصيبونه من سفلتهم فخافوا إنْ هم بينوا صفة محمد صَلَّى الله عليه وسلم أَنْ تفوتهم تلك المآكل والرِّياسة {وإيايَّ فاتقون} فاخشوني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا ما يفوتكم من الرِّياسة(1/102)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
{ولا تلبسوا الحق بالباطل} أَيْ: لا تخلطوا الحقَّ الذي أنزلتُ عليكم من صفة محمد عليه السلام بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وتبديل نعته {وتكتموا الحق} أَيْ: ولا تكتموا الحقَّ فهو جزمٌ عُطِفَ على النَّهي {وأنتم تعلمون} أنَّه نبيٌّ مرسلٌ قد أُنزل عليكم في كتابكم فجحدتم نبوَّته مع العلم به(1/102)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{وأقيموا الصلاة} المفروضة {وآتوا الزكاة} الواجبة في المال {واركعوا مع الراكعين} وصلُّوا مع المصلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأصحابه في جماعةٍ(1/102)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
{أتأمرون الناس بالبرِّ} كانت اليهود تقول لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون به فأنزل الله تعالى توبيخاً لهم: {أتأمرون الناس بالبر} بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {وتنسون} وتتركون {أنفسكم} فلا تأمرونها بذلك {وأنتم تتلون الكتاب} تقرؤون التَّوراة وفيها صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونعته {أفلا تعقلون} أنَّه حقٌّ فتتَّبعونه؟ ! ثمَّ أمرهم الله تعالى بالصَّوم والصَّلاة لأنَّهم إنَّما كان يمنعهم عن الإسلام الشَّره وخوف ذَهاب مأكلتهم وحب الرِّياسة فأُمروا بالصَّوم الذي يُذهب الشَّرَه وبالصًَّلاة التي تُورث الخشوع وتَنفي الكبر وأُريدَ بالصَّلاةِ الصَّلاةُ التي معها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال(1/102)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
{واستعينوا بالصبر} يعني بالصَّوم {والصلاة} لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر {وإنها لكبيرةٌ} لثقيلةٌ (يعني: وإنَّ الإستعانةَ بالصبر والصلاة لثقيلةٌ) {إلاَّ على الخاشعين} السَّاكنين إلى الطَّاعة وقال بعضهم: رجع بهذا القول إلى خطاب المسلمين فأمرهم أَنْ يستعينوا على ما يطلبونه من رضاءِ الله تعالى ونيل جنَّتِهِ بالصَّبر على أداء فرائضه (وهو الصَّوم) والصَّلاة(1/103)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
{الذين يظنون} يستيقنون {أنهم ملاقوا ربِّهم} أنَّهم مبعوثون وأنَّهم محاسبون وأنَّهم راجعون إلى الله تعالى أَيْ: يُصدِّقون بالبعث والحساب(1/103)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عليكم} مضى تفسيره {وأني فضلتكم} أعطيتكم الزِّيادة {على العالمين} : على عالمي زمانكم وهو ما ذكره فِي قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} والمراد بهذا التَّفضيل سلفهم ولكن تفضيل الآباء شرف الأبناء(1/103)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{واتقوا يوماً} واحذروا واجتنبوا عقاب يومٍ {لا تجزي} لا تقضي ولا تُغني {نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة} أَيْ: لا يكون شفاعةٌ فيكون لها قبول وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء فآيسهم الله تعالى عن ذلك {ولا يؤخذ منها عدل} فِداءٌ {ولا هم ينصرون} يُمنعون من عذاب الله تعالى(1/104)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{وإذ نجيناكم} واذكروا ذلك {من آل فرعون} أتباعه ومَنْ كان على دينه {يسومونكم} : يُكلِّفونكم {سوء العذاب} شديد العذاب وهو قوله تعالى: {يذبحون} : ويقتلون {أبناءكم ويستحيون نساءكم} يستبقوهن أحياءً (لقول بعض الكهنة له: إنَّ مولوداً يُولد في بني إسرائيل يكون سببا له ذهاب ملكه) {وفي ذلكم} الذي كانوا يفعلونه بكم {بلاءٌ} : ابتلاءٌ واختبارٌ وامتحانٌ {من ربكم عظيم} وقيل: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمةٌ عظيمة والبلاء: النِّعمة والبلاء: الشِّدَّة(1/104)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{وإذ فرقنا بكم البحر} فجعلناه اثنى عسر طريقاً حتى خاض فيه بنو إسرائيل {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} إلى انطباق البحر عليهم وإنجائكم منهم(1/104)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} أَي: انقضاءَها وتمامَها للتَّكلُّم معه {ثمَّ اتخذتم العجل} معبودا وإلاها {من بعده} من بعد خروجه عنكم للميقات {وأنتم ظالمون} واضعون العبادةَ في غير موضعها وهذا تنبيه على أنَّ كفرهم بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السَّلام(1/105)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
{ثمَّ عفونا} محونا ذنوبكم {عنكم من بعد ذلك} من بعد عبادة العجل {لعلكم تشكرون} لكي تشكروا نعمتي بالعفو(1/105)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} (عطف تفسيري) يعني: التَّوراة الفارق بين (الحق والباطل) والحلال والحرام {لعلكم تهتدون} لكي تهتدوا بذلك الكتاب (من الضلال)(1/105)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{وإذ قال موسى لقومه} الذين عبدوا العجل {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلاها {فتوبوا إلى بارئكم} يعني: خالقكم قالوا: كيف نتوب؟ قال {فاقتلوا أنفسكم} أَيْ: ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ {ذلكم} أَي: التَّوبة {خيرٌ لكم عند بارئكم} من إقامتكم على عبادة العجل ثم فعلتم ما أُمرتم به {فتاب عليكم} قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1/105)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} يعني: الذين اختارهم موسى عليه السَّلام ليعتذروا إلى الله سبحانه من عبادة العجل فلمَّا سمعوا كلام الله تعالى وفرغ موسى من مناجاة الله عز وجل قالوا له: {لن نؤمن لك} لن نصدِّقك {حتى نرى الله جهرةً} أَيْ: عِياناً لا يستره عنا شيءٌ {فأخذتكم الصاعقة} وهي نارٌ جاءت من السَّماء فأحرقتهم جميعاً {وأنتم تنظرون} إليها حين نزلت وإنَّما أخذتهم الصَّاعقة لأنَّهم امتنعوا من الإِيمان بموسى عليه السَّلام بعد ظهور معجزته حتى يُريهم ربَّهم جهرةً والإيمانُ بالأنبياء واجبٌ بعد ظهور معجزتهم ولا يجوز اقتراح المعجزات عليه فلهذا عاقبهم الله تعالى وهذه الآية توبيخٌ لهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مع قيام معجزته كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة(1/106)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
{ثم بعثناكم} نشرناكم وأَعدْناكم أَحياءً {من بعد موتكم لعلكم تشكرون} نعمة البعث(1/106)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{وظللنا عليكم الغمام} سترناكم عن الشَّمس في التِّيه بالسَّحاب الرَّقيق {وأنزلنا عليكم المنَّ} الطُّرَنْجبين كان يقع على أشجارهم بالأسحار {والسَّلوى} وهي طير أمثال السُّمانى وقلنا لهم: {كلوا من طيبات} من حلالات {ما رزقناكم وما ظلمونا} بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول قرية الجبَّارين ولكنَّهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التِّيه فلمَّا انقضت مدَّة حبسهم وخرجوا من التِّيه قال الله تعالى لهم:(1/107)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{ادخلوا هذه القرية} وهي أريحا {وادخلوا الباب} يعني: باباً من أبوابها {سجداً} منحنين متواضعين {وقولوا حطة} وذلك أنَّهم أصابوا خطيئةً بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول القرية فأراد الله تعالى أَنْ يغفرها لهم فقال لهم: قولوا حطَّةٌ أَيْ: مسألتنا حطَّةٌ وهو أن تحط عنا ذنوبنا {وسنزيد المحسنين} الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحساناً وثواباً(1/107)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{فبدَّل الذين ظلموا قولاً} منهم {غير الذي قيل لهم} أَيْ: غيَّروا تلك الكلمة التي أُمروا بها وقالوا: حنطةٌ {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً} : ظلمةً وطاعوناً فهلك منهم فِي ساعة واحدة سبعون ألفاً جزاءً لفسقهم بتبديل ما أُمروا به من الكلمة(1/108)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{وإذ استسقى موسى لقومه} في التِّيه {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} وكان حجراً خفيفاً مربَّعاً مثل رأس الرَّجل {فانفجرت} أيْ: فضربَ فانفجرت يعني: فانشقَّت {منه اثنتا عشرة عيناً} فكان يأتي كلُّ سبط عينَهم التي كانوا يشربون منها فذلك قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مشربهم} وقلنا لهم: {كلوا} من المنِّ والسَّلوى {واشربوا} من الماء فهذا كلُّه {من رزق الله} {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أَيْ: لا تسعوا فيها بالفساد فَمَلُّوا ذلك العيش وذكروا عيشاً كان لهم بمصر فقالوا:(1/108)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} يعني: المنَّ الذي كانوا يأكلونه والسَّلوى فكانا طعاماً واحداً {فادع لنا ربك} سله وقل له: أَخرِجْ {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} وهو كلُّ نباتٍ لا يبقى له ساقٌ {وقثائها} وهو نوعٌ من الخضراوات {وفومها} وهو الحنطة فقال لهم موسى عليه السَّلام: {أتستبدلون الذي هو أدنى} أَيْ: أخسُّ وأوضع {بالذي هو خيرٌ} أَي: أرفع وأجلُّ؟ فدعا موسى عليه السَّلام فاستجبنا له وقلنا لهم: {اهبطوا مصراً} : أنزلوا بلدةً من البلدان {فإنَّ لكم ما سألتم} أَيْ: فإنَّ الذي سألتم لا يكون إلاَّ فِي القرى والأمصار {وضُربت عليهم} أَيْ: على اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم {الذلَّة} يعني: الجزيةَ وزيَّ اليهوديَّة ومعنى ضرب الذِّلة: إلزامهم إيَّاها إلزاماً لا يبرح {والمسكنة} زي الفقر وأثر البؤس {وباءوا} احتملوا وانصرفوا {بغضب من الله ذلك} أَيْ: ذلك الضَّرب والغضب {بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله} التي أنزلت على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {ويقتلون النَّبيين} أَيْ: يتولَّون أولئك الذين فعلوا ذلك {بغير حق} أَيْ: قتلاً بغير حقٍّ يعني: بالظُّلم {ذلك} الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي وتجاوزهم أمر الله تعالى(1/109)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{إن الذين آمنوا} أي: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك {والذين هادوا} دخلوا في دين اليهوديَّة {والنصارى والصابئين} الخارجين من دين إلى دين وهم قومٌ يعبدون النُّجوم {مَنْ آمن} من هؤلاء {بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً} بالإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام لأنَّ الدليل قد قام أنَّ مَنْ لم يؤمن به لا يكون عمله صَالِحًا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنون}(1/110)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
{وإذ أخذنا ميثاقكم} بالطَّاعة لله تعالى والإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام في حال رفع الطُّور فوقكم يعني: الجبل وذلك لأنَّهم أبوا قبول شريعة التَّوراة فأمر الله سبحانه جبلاً فانقلع من اصله حتى قام على رؤوسهم فقبلوا خوفاً من أن يُرضخوا على رؤوسهم بالجبل وقلنا لكم: {خذوا ما آتيناكم} اعملوا بما أُمرتم به {بقوَّةٍ} بجدٍّ ومواظبةٍ على طاعة الله عز وجل {واذكروا ما فِيهِ} من الثَّواب والعقاب {لعلكم تتقون}(1/110)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
{ثم توليتم من بعد ذلك} أعرضتم عن أمر الله تعالى وطاعته من بعد أخذ الميثاق {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتأخير العذاب عنكم {لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسرين} الهالكين في العذاب(1/110)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
{ولقد علمتم} عرفتم حال {الذين اعتدوا} جاوزوا ما حُدَّ لهم من ترك الصَّيد في السَّبت {فقلنا لهم كونوا} بتكويننا إيَّاكم {قردةً خاسئين} مطرودين مبعدين(1/111)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
{فجعلناها} أَيْ: تلك العقوبة والمسخة {نكالاً} عبرةً {لما بين يديها} للأمم التي ترى الفرقة الممسوخة {وما خلفها} من الأمم التي تأتي بعدها {وموعظة} عبرةً {للمتقين} للمؤمنين الذين يتقون من هذه الأمَّة(1/111)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تذبحوا بقرة} وذلك أنَّه وُجد قتيلٌ في بني إسرائيل ولم يدروا قاتله فسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو الله تعالى ليبيِّن لهم ذلك فسأل موسى ربَّه فأمرهم بذبح بقرةٍ فقال لهم موسى عليه السَّلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً {قَالُوا أتتخذنا هزوا} أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل فتأمرنا بذبح البقرة؟ ! {قال أعوذ بالله} أمتنع به أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين فلمَّا علموا أنَّ ذلك عزمٌ من الله عز وجل سألوه الوصف فقالوا:(1/111)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
{ادع لنا ربك} أَيْ: سله بدعائك إيَّأه {يبين لنا ما هي} ما تلك البقرة وكيف هي وكم سنُّها؟ وهذا تشديدٌ منهم على أنفسهم {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} مُسِنَّةٌ كبيرةٌ {ولا بكرٌ} فتيةٌ صغيرةٌ {عوانٌ} نَصَفٌ بين السِّنَّينِ {فافعلوا ما تؤمرون} (فيه تنبيهٌ على منعهم) وقوله تعالى:(1/111)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
{فاقعٌ لونها} أَيْ: شديد الصُّفرة {تسرُّ الناظرين} تعجبهم بحسنها(1/112)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أَسائمةٌ أم عاملةٌ؟ {إنَّ البقر} جنس البقر {تشابه} اشتبه وأشكل {علينا وإنَّا إنْ شاء الله لمهتدون} إلى وصفها [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وايمُ اللَّهِ لو لم يستثنوا لما بُيِّنت لهم آخر الأبد](1/112)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} مُذلَّلةٌ بالعمل {تثير الأرض} تُقلبها للزراعة أَيْ: ليستْ تقلِّب لأنَّها ليست ذلولاً {ولا تسقي الحرث} الأرض المهيَّأة للزِّراعة {مسلَّمة} من العيوب وآثار العمل {لا شية فيها} لا لون فيها يُفارق سائر لونها {قالوا الآن جئت بالحقّ} بالوصف التّام الذي تتميَّز به من أجناسها فطلبوها فوجدوها {فذبحوها وما كادوا يفعلون} لغلاء ثمنها(1/112)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
{وإذ قتلتم نفساً} هذا أوَّل القصَّة ولكنَّه مؤخرَّ في الكلام {فادَّارأتم} فاختلفتم وتدافعتم {والله مخرجٌ} مُظهرٌ {ما كنتم تكتمون} من أمر القتيل(1/112)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{فقلنا اضربوه ببعضها} بلسانها فيحيى فضرب فيحيى {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أَيْ: كما أحيا هذا القتيل {ويريكم آياته} آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات (كما خلق في عاميل)(1/112)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
{ثم قست قلوبكم} يا معشر اليهود أَي: اشتدَّت وصلبت {من بعد ذلك} من بعد هذه الآيات التي تقدَّمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجرِ وإحياء الميت بضرب عضوٍ وهذه الآيات ممَّا يصدِّقون بها {فهي كالحجارة} في القسوة وعدم المنفعة بل {أشد قسوة} وإنَّما عنى بهذه القسوة تركهم الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا صدقه وقدرةَ الله تعالى على عقابهم بتكذيبهم إيَّاه ثمَّ عذر الحجارة وفضَّلها على قلوبهم فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وإنَّ منها لما يهبط} ينزل من علوٍ إلى سفل {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قال مجاهدٌ: كلُّ حجرٍ تفجَّر منه الماء أو تشقَّق عن ماء أو تردَّى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله تعالى نزل به القرآن ثمَّ أوعدهم فقال: {وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون} ثمَّ خاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقطع طمعهم عن إيمانهم فقال:(1/113)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} وحالهم أنَّ طائفةً منهم كانوا {يسمعون كلام الله} يعني التَّوراة {ثم يحرفونه} يُغيِّرونه عن وجهه يعني: الذين غيَّروا أحكام التَّوراة وغيَّروا آية الرَّجم وصفة محمد صلى الله عليه وسلم {من بعد ما عقلوه} أَيْ: لم يفعلوا ذلك عن نسيانٍ وخطأٍ بل فعلوه عن تعمُّدٍ {وهم يعلمون} أنَّ ذلك مَكْسَبةٌ للأوزار(1/113)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{وإذا لقوا الذين آمنوا} يعني: منافقي اليهود {قالوا آمنا} بمحمَّدٍ وهو نبيٌّ صادقٌ نجده في كتبنا {وإذا خلا بعضهم إلى بعض} يعني: إذا رجع هؤلاء المنافقون إلى رؤساهم لاموهم فقالوا: {أتحدثونهم} أتخبرون أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {بما فتح الله عليكم} من صفة النَّبيِّ المُبشَّر به {ليحاجُّوكم} ليجادلوكم ويخاصموكم {به} بما قلتم لهم {عند ربكم} في الآخرة يقولون: كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقة {أفلا تعقلون} أفليس لكم ذهن الإنسانيَّة؟ فقال الله تعالى:(1/113)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
{أو لا يعلمون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من التَّكذيب يعني: هؤلاء المنافقين {وما يعلنون} من التَّصديق(1/114)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{ومنهم} ومن اليهود {أميُّون} لا يكتبون ولا يقرؤون {لا يعلمون الكتاب إلاَّ أمانيّ} إلاَّ أكاذيب وأحاديثَ مُفتعلةً يسمعونها من كبرائهم {وإن هم إلاَّ يظنون} أَيْ: إلاَّ ظانِّين ظنَّاً وتوهُّماً فيجحدون نُبُوَّتَكَ بالظَّنِّ(1/114)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{فويلٌ} فشدَّةُ عذابٍ {للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} أَيْ: من قِبَلِ أنفسهم من غير أن يكون قد أُنزل {ثم يقولون هذا من عند الله} يعني اليهود عمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا صفته على غير ما كانت فِي التَّوراة وأخذوا عليه الأموال فذلك قوله تعالى: {وويلٌ لهم ممَّا يكسبون} (من حُطَام الدُّنيا) فلمَّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّار عند تكذيبهم إيَّاه قالوا:(1/114)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
{لن تمسنا النار إلا أياماً معدودةً} قليلةً ويعنون الأيَّام التي عبد آباؤهم فيها العجل فكذَّبهم الله سبحانه فقال: قل لهم يا محمَّدُ: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عهداً} أخذتم بما تقولون من الله ميثاقاً؟ {فلن يخلف الله عهده} والله لا ينقض ميثاقه {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} الباطلَ جهلاً منكم ثمَّ ردَّ على اليهود قولهم: لن تمسَّنا النَّار فقال {بلى} أُعذِّب(1/115)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{مَنْ كسب سيئة} وهي الشِّرك {وأحاطت به خطيئته} : سدَّت عليه مسالك النَّجاة وهو أّنْ يموت على الشِّرك {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} الذين يُخلَّدون في النَّار ثمَّ أخبر عن أخذ الميثاق عليهم بتبيين نعت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فقال:(1/115)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1/115)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أَيْ: في التَّوراة {لا تعبدون} أَيْ: بأن لا تعبدوا {إلاَّ الله وبالوالدين إحساناً} أَيْ: ووصَّيناهم بالوالدين إحساناً {وذي القربى} أَي: القرابة في الرَّحم {واليتامى} يعني: الذين مات أبوهم قبل البلوغ {وقولوا للناس حسناً} أَيْ: صدقاً وحقَّاً في شأن محمَّدٍ عليه السَّلام وهو خطابٌ لليهود {ثم توليتم} أعرضتم عن العهد والميثاق يعني: أوائلهم {إلاَّ قليلاً منكم} يعني: مَنْ كان ثابتاً على دينه ثمَّ آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم {وأنتم معرضون} عمَّا عُهد إليكم كأوائلكم(1/115)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} بأن لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يُخرج بعضكم بعضاً من داره ولا يغلبه عليها {ثم أقررتم} أَيْ: قبلتم ذلك {وأنتم} اليوم {تشهدون} على إقرار أوائلكم ثمَّ أخبر أنَّهم نقضوا هذا الميثاق فقال:(1/116)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ثم أنتم هؤلاء} أراد: يا هؤلاء {تقتلون أنفسكم} يقتل بعضكم بعضاً {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم} تتعاونون على أهل ملَّتكم {بالإثم والعدوان} : بالمعصية والظُّلم {وإن يأتوكم أسارى} مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم {وهو محرَّم عليكم إخراجهم} أَيْ: وإخراجهم عن ديارهم محَّرمٌ عليكم {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني: فداء الأسير {وتكفرون ببعض} يعني: القتل والإخراج والمظاهرة على وجه الإباحة؟ قال السُّدِّيُّ: أحذ الله تعالى عليهم أربعة عهودٍ: تركَ القتل وترك الإِخراج وترك المظاهرة وفداء أُسرائهم فأعرضوا عن كلِّ ما أُمروا به إلاَّ الفداء {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خزيٌ} فضيحةٌ وهوانٌ {في الحياة الدنيا} وقوله:(1/116)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{فلا يخفف عنهم العذاب} معناه: في الدُّنيا والآخرة وقيل: هذه الحالة مختصَّةٌ بالآخرة(1/116)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرسل} أَيْ: وأرسلنا رسولاً بعد رسول {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} يعني: ما أُوتي من المعجزة {وأيدناه} وقوَّيناه {بِرُوحِ القدس} بجبريل عليه السَّلام وذلك أنَّه كان قرينه يسير معه حيث سار يقول: فعلنا بكم كلَّ هذا فما استقمتم لأنَّكم {كلما جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} ثمَّ تعظَّمتم عن الإِيمان به {ففريقاً كذَّبتم} مثل عيسى ومحمَّدٍ عليهما السَّلام {وفريقاً تقتلون} مثل يحيى وزكريا عليهما السَّلام(1/117)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وقالوا قلوبنا غلفٌ} هو أنَّ اليهود قالوا استهزاءً وإنكاراً لما أتى به محمد عليه السَّلام: قلوبنا غلفٌ عليها غشاوةٌ فهي لا تعي ولا تفقه ما تقول وكلُّ شيءٍ في غلافٍ فهو أغلف وجمعه: غُلْف ثمَّ أكذبهم الله تعالى فقال: {بل لعنهم الله} أَيْ: أبعدهم من رحمته فطردهم {فقليلاً ما يؤمنون} أَيْ: فبقليلٍ يؤمنون بما في أيديهم وقال قتادة: فقليلاً ما يؤمنون أَيْ: ما يؤمن منهم إلاَّ قليلٌ كعبد الله بن سلام(1/117)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{ولما جاءهم كتاب} يعني: القرآن {مصدِّق} موافقٌ {لما معهم} {وكانوا} يعني: اليهود {من قبل} نزول الكتاب {يستفتحون} يستنصرون {على الذين كفروا} بمحمد عليه السَّلام وكتابه ويقولون: اللَّهم انصرنا بالنَّبيِّ المبعوث في آخر الزَّمان {فلما جاءهم ما عرفوا} يعني: الكتاب وبعثة النبيّ {كفروا} ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال:(1/117)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{بئسما اشتروا به أنفسهم} أَيْ: بئس ما باعوا به حظَّ أنفسهم من الثَّواب بالكفر بالقرآن {بغياً} أَيْ: حسداً {أن ينزل الله} أَيْ: إنزال اللَّهُ {مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده} وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شك ولا اشتباهٍ وإنَّما كان حسداً حيث صارت النُّبوَّة في ولد إسماعيل عليه السَّلام {فباءوا} فانصرفوا واحتملوا {بغضب} من الله عليهم لأجل تضييعهم التَّوراة {على غضب} لكفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن(1/117)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{وإذا قيل} لليهود {آمنوا بما أنزل الله} بالقرآن {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعني: التَّوراة {ويكفرون بما وراءه} بما سواه {وهو الحقُّ} يعني: القرآن {مصدِّقاً لما معهم} موافقاً للتَّوراة ثمَّ كذَّبَهم الله تعالى في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا بقوله: {فلمَ تقتلون أنبياء الله} أَيْ: أيُّ كتابٍ جُوِّز فِيهِ قتلُ نبيٍّ؟ ! {إن كنتم مؤمنين} شرطٌ وجوابه ما قبله ثمَّ ذكر أنَّهم كفروا بالله تعالى مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه السَّلام فقال:(1/118)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} يعني: العصا واليد وفلق البحر {ثمَّ اتخذتم العجل من بعده} إلهاً {وأنتم ظالمون}(1/118)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا} مضى تفسيره ومعنى: واسمعوا أَيْ: اقبلوا ما فيه من حلاله وحرامه وأطيعوا {قالوا سمعنا} ما فِيهِ {وعصينا} ما أُمرنا به {وأُشربوا في قلوبهم العجل} وسُقوا حبَّ العجل وخُلطوا بحبِّ العجل حتى اختلط بهم والمعنى: حُبَّب إليهم العجل {بكفرهم} باعتقادهم التَّشبيه لأنَّهم طلبوا ما يُتَصَوَّرُ فِي نفوسهم {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كنتم مؤمنين} هذا تكذيبٌ لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وذلك أن آبائهم ادَّعوا الإِيمان ثمَّ عبدوا العجل فقيل لهم: بئس الإيمان إيمانٌ يأمركم بالكفر والمعنى: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني: آبائهم كذلك أنتم لو كنتم مؤمنين بما أُنزل عليكم ما كذَّبتم محمَّداً(1/118)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إن كنتم صادقين} كانت اليهود تقول: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا فقيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت فإنَّ مَنْ كان لا يشكُّ فِي أنَّه صائر إلى الجنَّةِ فالجنَّةُ آثرُ عنده(1/119)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
{ولن يتمنوه أبداً} لأنَّهم عرفوا أنَّهم كفرةٌ ولا نصيب لهم فِي الجنَّة وهو قوله تعالى: {بما قدَّمت أيديهم} أيْ: بما عملوا من كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتغيير نعته {واللَّهُ عليم بالظالمين} فيه معنى التَّهديد(1/119)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{ولتجدنهم} يا محمَّدُ يعني: علماءَ اليهود {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لأنَّهم علموا أنَّهم صائرون إلى النَّار إذا ماتوا لما أتوا به في أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {ومن الذين أشركوا} أَيْ: وأحرص من منكري البعث ومَنْ أنكر البعث أحبَّ طول العمر لأنَّه لا يرجو بعثاً فاليهود أحرص منهم لأنَّهم علموا ما جنوا فهم يخافون النَّار {يود أحدكم} أَيْ: أحد اليهود {لو يعمَّرُ ألف سنة} لأنَّه يعلم أنَّ آخرته قد فَسَدَتْ عليه {وما هو} أَيْ: وما أحدهم {بِمُزَحْزِحِهِ} بِمُبْعِدِهِ من {العذاب أن يعمَّر} تعميره(1/119)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{قل من كان عدوا لجبريل} سألت اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن مَنْ يأتيه من الملائكة؟ فقال: جبريل فقالوا: هو عدوُّنا ولو أتاك ميكائيل آمنَّا بك فأنزل الله هذه الآية والمعنى: قل من كان عدوا لجبريل فليمت غيظاً {فإنه نزله} أَيْ: نزَّل القرآن {على قلبك بإذن الله} بأمر الله {مصدقاً} موافقاً لما قبله من الكتب {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ردٌّ على اليهود حين قالوا: إنَّ جبريل ينزل بالحرب والشِّدَّة فقيل إنَّه - وإنْ كان ينزل بالحرب والشدَّة على الكفرين - فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين(1/120)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فإن الله عدو للكافرين} أَيْ: مَنْ كان عدوّاً لأحد هؤلاء فإن اللَّهَ عدوٌّ له لأن عدوَّ الواحدِ عدوُّ الجميع وعدوُّ محمَّدٍ عدوُّ الله والواو ها هنا بمعنى أو كقوله: {ومَن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله} لأنَّ الكافر بالواحد كافرٌ بالكلِّ وقوله: {فإنَّ الله عدوٌ للكافرين} أَيْ: إنَّه تولَّى تلك العداوة بنفسه وكفى ملائكته ورسله أمر مَنْ عاداهم(1/120)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
{ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات} دلالاتٍ واضحاتٍ وهذا جوابٌ لابن صوريا حين قال: يا محمد ما أُنزل عليك من آيةٍ بيِّنةٍ فَنَتَّبعكَ بها {وما يكفر بها إلاَّ الفاسقون} الخارجون عن أديانهم واليهود خرجت بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم عن شريعة موسى عليه السَّلام ولمَّا ذكر محمدٌ صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله تعالى عليهم من العهد فيه قال مالك بن الصَّيف: والله ما عُهد إلينا في محمدٍ عهدٌ ولا ميثاق فأنزل الله تعالى:(1/120)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
{أو كلما عاهدوا عهداً} الآية وقوله {نبذة فريق منهم} يعني: الذين نقضوه من علمائهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} لأنهم من بين ناقضٍ للعهد وجاحدٍ لنبوَّته معاندٍ له وقوله:(1/121)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب} يعني: علماء اليهود {كتاب الله} يعني التَّوراة {وراء ظهورهم} أَيْ: تركوا العمل به حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {كأنهم لا يعلمون} أنَّه حقٌّ وأنَّ ما أتى به صدقٌ وهذا إخبارٌ عن عنادهم ثمَّ أخبر أنَّهم رفضوا كتابة واتَّبعوا السِّحر فقال: {واتبعوا} يعني: علماء اليهود(1/121)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{ما تتلوا الشياطين} أَيْ: ما كانت الشَّياطين تُحدِّث وتقصُّ من السِّحر {على ملك سليمان} في عهده وزمان مُلْكه وذلك أنَّ سليمان عليه السلام لما نُزع ملكه دفنت الشَّياطين في خزانته سحراً ونيرنجات فلمَّأ مات سليمان دلَّت الشياطين عليها النَّاس حتى استخرجوها وقالوا للنَّاس: إنَّما مَلَكَكُم سليمان بهذا فتعلَّموه فأقبل بنو إسرائيل على تعلُّمها ورفضوا كتب أنبيائهم فبرَّأ الله سليمان عليه السَّلام فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أَيْ: لم يكن كافراً ساحراً يسحر {ولكنَّ الشياطين كفروا} بالله {يعلمون الناس السحر} يريد: ما كتب لهم الشَّياطين من كُتب السِّحر {وما أنزل على الملكين} أَيْ: ويُعلِّمونهم ما أُنزل عليهما أَيْ: ما علِّما وأُلْهِمَا وقُذِف فِي قلوبهما من علم التَّفرقة وهو رقيةٌ وليس بسحرٍ وقوله: {وما يعلِّمان} يعني: المَلَكَيْن السِّحر {من أحدٍ} أحداً {حتى يقولا إنما نحن فتنة} ابتلاءٌ واختبارٌ {فلا تكفر} وذلك أن الله عز وجل امتحن النَّاس بالملكين فِي ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابلُ تعلُّم السِّحر فيكفر بتعلُّمه ويؤمن بتركه ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء وهذا معنى قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} أَيْ: محنة من الله نحبرك أنَّ عمل السِّحر كفرٌ بالله وننهاك عنه فإنْ أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت وقوله تعالى {فيتعلمون} أَيْ: فيأتون فيتعلَّمون من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهو أن يؤخذ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه ويُبغَّض كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر {وما هم} أَيْ: السَّحَرة الذين يتعلَّمون السِّحر {بضارين به} بالسِّحر {من أحدٍ} أحداً {إلاَّ بإذن الله} بإرادته كون ذلك أَيْ: لا يضرُّون بالسِّحر إلاَّ مَنْ أراد الله أن يلحقه ذلك الضَّرر {ويتعلمون ما يضرُّهم} في الآخرة {ولا ينفعهم} (في الدُّنيا) {ولقد علموا} يعني: اليهود {لمن اشتراه} من اختار السِّحر {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} من نصيب في الجنة ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: بئس شيءٌ باعوا به حظَّ أنفسهم حيث اختاروا السِّحر ونبذوا كتاب الله {لو كانوا يعلمون} كُنه ما يصير إليه مَنْ يخسر الآخرة من العقاب(1/121)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{ولو أنَّهم آمنوا} بمحمَّدٍ عليه السَّلام والقرآن {واتقوا} اليهوديَّة والسِّحر لأثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسِّحر وهو قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يعلمون}(1/123)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: راعنا سمعك وكان هذا بلسان اليهوديَّة سبَّاً قبيحاً فلمَّا سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبتهم فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك وأنزل هذه الآية وأمرهم أن يقولوا بدل راعنا {انظرنا} أَيْ: انظر إلينا حتى نُفهمك ما نقول {واسمعوا} أيْ: أطيعوا واتركوا هذه الكلمة لأنَّ الطَّاعة تجب بالسَّمع {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ من ربكم} أَيْ: خيرٌ من عند ربكم(1/123)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
{والله يختص برحمته} يخصُّ بنبوَّته {مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم}(1/123)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
{ما نَنْسَخْ من آية أو ننسها} أي: مانرفع آيةً من جهة النَّسخ بأن نُبطل حكمها أو بالإِنساءِ لها بأنْ نمحوها عن القلوب {نأت بخير منها} أَيْ: أصلح لمن تُعبِّد بها وأنفع لهم وأسهل عليهم وأكثر لأجرهم {أو مثلها} في المنفعة والمثوبة {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من النِّسخِ والتَّبديل وغيرهما {قدير} نزلت هذه الآية حين قال المشركون: إنَّ محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثمَّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما هذا القرآن إلاَّ كلام محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية وقولَهُ: {وإذا بدَّلنا آية مكان آيةٍ} الآية(1/123)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} يعمل فيهما ما يشاء وهو أعلم بوجه الصَّلاح فيما يتعبَّدهم به من ناسخ ومنسوخ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} أَيْ: والٍ يلي أمركم ويقوم به {ولا نصير} ينصركم وفي هذا تحذيرٌ من عذابه إذ لا مانع منه(1/124)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{أم تريدون} أَيْ: بل أتريدون {أن تسألوا رسولكم} محمدا صلى الله عليه وسلم {كما سئل موسى من قبل} وذلك أنَّ قريشاً قالوا: يا محمَّدُ اجعل لنا الصَّفا ذهباً ووسِّعْ لنا أرض مكَّة فَنُهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه السَّلام حين قالوا: {أرنا الله جهرة} وذلك أنَّ السُّؤال بعد قيام البراهين كفرٌ ولذلك قال: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سواء السبيل} قصده ووسطه(1/124)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
{ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب} نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أُحدٍ: ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فذلك قوله تعالى: {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا من عند أنفسهم} أَيْ: فِي حكمهم وتديّنهم ما لم يؤمروا به {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهم الحق} فِي التَّوراة أنَّ قول محمَّدٍ صدقٌ ودينه حقٌّ {فاعفوا واصفحوا} وأعرضوا عن مساوئ أخلقهم وكلامهم وغلِّ قلوبهم {حتى يأتي الله بأمره} بالقتال(1/125)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بما تعملون بصير}(1/125)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
{وقالوا لن يدخل الجنة} أَيْ: قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة {إلاَّ مَنْ كان هوداً} وقالت النَّصارى: لن يدخلها إلاَّ النَّصارى {تلك أمانيهم} التي تمنَّوها على الله سبحانه باطلاً {قل هاتوا برهانكم} قرِّبوا حجَّتكم على ما تقولون ثمَّ بيَّن مَنْ يدخلها فقال:(1/125)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{بلى} يدخلها {مَنْ أسلم وجهه لله} انقاد لأمره وبذل له وجهه في السُّجود {وهو محسن} مؤمنٌ مصدقٌ بالقرآن(1/125)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} لمَّا قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود وكفَّر كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخر وقوله تعالى: {وهم يتلون الكتاب} يعني: إنَّ الفريقين يتلون التَّوراة وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد فدلَّ بهذا على ضلالتهم {كذلك قال الذين لا يعلمون} يعني: كفَّار الأمم الماضية وكفَّار هذه الأمَّة {مثل قولهم} في تكذيب الأنبياء والاختلاف عليهم فسبيل هؤلاء الذين يتلون الكتاب كسبيل مَنْ لا يعلم الكتاب من المشركين في الإنكار لدين الله سبحانه {فالله يحكم بينهم} أَيْ يُريهم عياناً مَنْ يدخل الجنَّة ومَنْ يدخل النَّار(1/125)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
{ومن أظلم ممن منع مساجد الله} يعني: بيت المقدس ومحاربيه نزلت في أهل الرُّوم حين خرَّبوا بيت المقدس {أولئك} يعني: أهل الرُّوم {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} لم يدخل بيت المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلاَّ خائفاً لو عُلم به قُتل {لهم في الدنيا خزي} يعني: القتل للحربيِّ والجزية للذميِّ(1/126)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
{ولله المشرقُ والمغرب} أَيْ: إنَّه خالقهما نزلت في قوم من الصَّحابة سافروا فأصابهم الضَّباب فتحرَّوا القِبلة وصلَّوا إلى أنحاءٍ مختلفةٍ فلمَّا ذهب الضَّباب استبان أنَّهم لم يصيبوا فلمَّا قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقوله تعالى: {فأينما تولوا} أَيْ: تصرفوا وجوهكم {فثمَّ وجه الله} أَيْ: فهناك قِبلة الله وجهته التي تعبَّدكم الله بالتوجُّه إليها {إنَّ الله واسعٌ عليم} أَيْ: واسع الشَّريعة يُوسِّع على عباده في دينهم (اختلف العلماء في حكم هذه الآية فمنهم مَنْ قال: هي منسوخة الحكم بقوله: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} ومنهم مَنْ قال: حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنَّوافل في السفر وقيل: إنها نزلت في شأن النجاشي حين صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وقولهم له: كيف تُصلِّي على رجل صلَّى إلى غير قبلتنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبيَّن أنَّ النجاشي وإنْ صلَّى إلى المشرق أو المغرب فإنَّما قصد بذلك وجه الله وعبادته ومعنى {فثمَّ وجه الله} أَيْ: فَثَمَّ رضا الله وأمره كما قال: {إنَّما نُطعمكم لوجه الله} والوجهُ والجِهةُ والوِجهةُ: القِبلةُ)(1/126)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
{وقالوا اتخذ الله ولداً} يعني: اليهود في قولهم: {عزير ابنُ الله} والنصارى في قولهم: {المسيح ابنُ الله} والمشركين في قولهم: الملائكة بنات الله ثمَّ نزَّه نفسه عن الولد فقال {سبحانه بل} ليس الأمر كذلك {له ما في السماوات والأرض} عبيداً وملكاً {كلٌّ له قانتون} مطيعون: يعني: أهل طاعته دون النَّاس أجمعين(1/128)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
{بديع السماوات والأرض} خالقهما وموجدهما لا على مثالٍ سبق {وإذا قضى أمراً} قدَّره وأراد خلقه {فإنما يقول له كن فيكون} أَيْ: إنما يُكوِّنه فيكون وشرطه أن يتعلَّق به أمره (وقال الأستاذ أبو الحسن: يُكوِّنه بقدرته فيكون على ما أراد)(1/128)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{وقال الذين لا يعلمون} يعني: مشركي العرب قالوا لمحمَّدٍ: لن نؤمن لك حتى {يكلّمنا الله} أنَّك رسوله {أو تأتينا آية} يعني: ما سألوا من الآيات الأربع في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} ومعنى {لولا يكلِّمنا الله} أَيْ: هلاَّ يُكلِّمنا الله أنَّك رسوله {كذلك قال الذين من قبلهم} يعني: كفَّار الأمم الماضية كفروا بالتَّعنُّتِ بطلب الآيات كهؤلاء {تشابهت قلوبهم} أشبه بعضها بعضاً فِي الكفر والقسوة ومسألة المحال {قد بيَّنا الآيات لقوم يوقنون} أَيْ: مَنْ أيقن وطلب الحقَّ فقد أتته الآيات لأنَّ القرآن برهانٌ شافٍ(1/128)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{إنا أرسلناك بالحق} بالقرآن والإسلام أَيْ: مع الحقِّ {بشيراً} مُبشِّراً للمؤمنين {ونذيراً} مُخوِّفاً ومُحذِّراً للكافرين {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} أَيْ: لست بمسؤولٍ عنهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أنَّ الله عز وجل أنزل بأسه باليهود لآمنوا فأنزل الله تعالى هذه الآية أَيْ: ليس عليك من شأنهم عُهدةٌ ولا تبعة(1/129)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{ولن ترضى عنك اليهود} الآية نزلت في تحويل القبلة وذلك أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يرجون أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم يرجع إلى دينهم فلمَّا صرف الله تعالى القِبلة إلى الكعبة شقَّ عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم} يعني: دينهم وتصلِّي إلى قبلتهم {قل إنَّ هدى الله هو الهدى} أَي: الصِّراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو طريق الحقِّ {ولَئِنِ اتبعت أهواءهم} يعني: ما كانوا يدعونه إليه من المهادنة والإِمهال {بعد الذي جاءك من العلم} أَي: البيان بأنَّ دين الله عز وجل هو الإسلام وأنَّهم على الضلالة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نصير}(1/129)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{الذين آتيناهم الكتاب} يعني: مؤمني اليهود {يتلونه حق تلاوته} يقرؤونه كما أُنزل ولا يُحرِّفونه ويتَّبعونه حقَّ اتباعه(1/129)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
قال تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}(1/130)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قال تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفاعة ولا هم ينصرون}(1/130)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
{وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه} اختبره أَيْ: عامله معاملة المُختبِر {بكلماتٍ} هي عشر خصالٍ: خمسٌ في الرأس وهي الفرق والمضمضة والاستنشاق والسِّواك وقصُّ الشَّارب وخمسٌ في الجسد وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان والاستنجاء ونتف الرفغنين {فأتمهنَّ} أدَّاهنَّ تامَّاتٍ غير ناقصات {قال} الله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} يقتدي بك الصَّالحون فقال إبراهيم: {ومِنْ ذريتي} أَيْ: ومن أولادي أيضاً فاجعل أئمةً يُقتدى بهم فقال الله عز وجل {لا ينال عهدي الظالمين} يريد: مَنْ كان من ولدك ظالماً لا يكون إماماً ومعنى: {عهدي} أَيْ: نُبوَّتي(1/130)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
{وإذ جعلنا البيت} يعني: الكعبة {مثابةً للناس} معاداً يعودون إليه لا يقضون منه وطراً كلَّما انصرفوا اشتاقوا إليه {وأَمْناً} أَيْ ك مؤمناً وكانت العرب يرى الرَّجل منهم قاتل أبيه فِي الحرم فلا يتعرَّض له وأمَّا اليوم فلا يُهاج الجاني إذا التجأ إليه عند أهل العراق وعند الشافعيِّ: الأولى أن لا يُهاج فإنْ أُخيف بإقامة الحدِّ عليه جاز وقد قال كثيرٌ من المفسرين: مَنْ شاء آمن ومَنْ شاء لم يُؤمن كما أنَّه لمَّا جعله مثابةً مَنْ شاء ثاب ومَنْ شاء لم يثب {واتَّخذوا} أَيْ: النَّاس {من مقام إبراهيم} وهو الحجر الذي يُعرف بمقام إبراهيم وهو موضع قدميه {مصلَّى} وهو أنَّه تُسنُّ الصَّلاة خلف المقام قرئ على هذا الوجه على الخبر وقرئ بالكسر على الأمر {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أمرناهما وأوصينا إليهما {أنْ طهِّرا بيتي} من الأوثان والرِّيَب ( {للطائفين} حوله وهم النزائع إليه من آفاق الأرض {والعاكفين} أي: المقيمين فيه وهم سكان الحرم {والركع} جمع راكع و {السجود} جمع ساجد مثله: قاعد وقعود)(1/130)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} أَيْ: هذا المكان وهذا الموضع {بلداً} مسكناً {آمناً} أَيْ: ذا أمنٍ لا يُصاد طيره ولا يُقطع شجره ولا يُقتل فيه أهله {وارزق أهله من الثمرات} أنواع حمل الشَّجر {مَنْ آمن منهم بالله واليوم الآخر} خَصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين قال تعالى: {وَمَنْ كفر فأمتعه قليلا} فسأرزفه إلى منهى أجله {ثمَّ أضطره} أُلجئه فِي الآخرة {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المصير} هي(1/131)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد} أصول الأساس {من البيت وإسماعيل} ويقولان: {ربنا تقبلْ منَّا} تقرُّبنا إليك ببناء هذا البيت {إنك أنت السميع} لدعائنا {العليمُ} بما في قلوبنا(1/131)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ربنا واجعلنا مسلمين لك} مطيعي مُنقادين لحكمك {ومن ذريتنا أمة} جماعةً {مسلمة لك} وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون بإحسان {وأرنا مناسكنا} عرّفنا مُتَعبَّداتنا(1/131)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{ربنا وابعث فيهم} في الأمَّة المسلمة {رسولاً منهم} يريد: محمدا صلى الله عليه وسلم {يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} أَي: القرآن {ويزكيهم} ويُطهِّرهم من الشِّرك {إنك أنت العزيز} الغالب القويُّ الذي لا يعجزه شيءٌ ومضى تفسير الحكيم(1/132)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
{ومَنْ يرغب عن ملة إبراهيم} أَيْ: وما يرغب عنها ولا يتركها {إلاَّ مَنْ سفه نفسه} أَيْ: جهلها بأَنْ لم يعلم أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى يجب عليها عبادة خالقها {ولقد اصطفيناه في الدُّنيا} اخترناه للرِّسالة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أَيْ: من الأنبياء(1/132)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
{إذ قال له ربه أسلم} أخلص دينك لله سبحانه بالتَّوحيد وقيل: أسلم نفسك إلى الله {قال أسلمت} بقلبي ولساني وجوارحي {لرب العالمين}(1/132)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ووصَّى بها} أَيْ: أمر بالملَّة وقيل: بكلمة الإِخلاص {إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ} أراد: أَنْ يَا بَنِيَّ {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أَي: الإِسلام دين الحَنيِفيَّة {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أي: الزموا الإِسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه(1/132)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
{أم كنتم شهداء} ترك الكلام الأوَّل وعاد إلى مُخاطبة اليهود المعنى: بل أكنتم شهداء أَيْ: حضوراً {إذ حضر يعقوب الموت} وذلك أنَّ اليهود قالت النبي صلى الله عليه وسلم: ألستَ تعلم أنَّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهوديَّة؟ فأكذبهم الله تعالى وقال: أكنتم حاضرين وصيته {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}(1/133)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
{تِلْكَ أُمَّةٌ} يعني: إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه {قد خلت} قد مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من العمل {ولكم} يا معشر اليهود {ما كسبتم} أَيْ: حسابهم عليهم وإنَّما تُسألون عن أعمالكم(1/133)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
{وقالوا كونوا هوداً أو نصارى} نزلت فِي يهود المدينة ونصارى نجران قال كلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلاَّ ذلك فقال الله تعالى: {قل بل ملَّة إبراهيم حنيفاً} يعني: بل نتبع ملَّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن الأديان كلِّها إلى دين الإسلام ثمَّ أمر المؤمنين أن يقولوا:(1/133)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{آمنا بالله وما أنزل إلينا} يعني: القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} وهم أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء لذلك قال: وما أنزل إليهم وقوله تعالى: {لا نفرق بين أحد منهم} أَيْ: لا نكفر ببعضٍ ونؤمن ببعضٍ كما فعلت اليهود والنَّصارى(1/133)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} أَيْ: إِنْ أتوا بتصديقٍ مثلِ تصديقكم وكان إيمانُهم كإيمانكم {فقد اهتدوا} فقد صاروا مسلمين {وإن تولوا} أعرضوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} فِي خلافٍ وعداوةٍ {فَسَيَكْفِيْكَهُمُ الله} ثمَّ فعل ذلك فكفاه أمر اليهود بالقتل والسَّبي فِي قريظة والجلاء والنَّفي فِي بني النضير والجزية والذَّلَّة فِي نصارى نجران(1/134)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
{صبغة الله} أَي: الزموا دين الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: ومن أحسن من الله ديناُ؟(1/134)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{قل} يا محمَّدُ لليهود والنَّصارى: {أتحاجوننا في الله} أَتُخاصموننا في دين الله؟ وذلك أنهم قالوا: إن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو كنتَ نبيّاً لكنتَ منَّا {ولنا أعمالنا} نُجازى بحسنها وسيِّئها وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا {ونحن له مخلصون} مُوحِّدون(1/134)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{أم تقولون} إنَّ الأنبياء من قبل أن تنزل التَّوراة والإِنجيل {كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله} أَيْ: قد أخبرنا الله سبحانه أنَّ الأنبياء كان دينهم الإِسلام ولا أحدٌ أعلم منه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله} هذا توبيخٌ لهم وهو أنَّ الله تعالى أشهدهم فِي التِّوراة والإِنجيل أنَّه باعثٌ فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم من ذريَّة إبراهيم عليه السَّلام وأخذ مواثيقهم أَنْ يُبيِّنوه ولا يكتموه ثمَّ ذكر قصَّة تحويل القبلة فقال:(1/134)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعملون}(1/135)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
{سيقول السفهاء من الناس} يعني: مشركي مكَّة ويهود المدينة {ما ولاَّهم} ما صرفهم؟ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي الصَّخرة {قل لله المشرق والمغرب} يأمر بالتَّوجُّه إلى أيٍّ جهةٍ شاء {يَهْدِي من يشاء إلى صراط مستقيم} دينٍ مستقيمٍ يريد: إنِّي رضيتُ هذه القِبلة لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثمَّ مدح أمَّته فقال:(1/135)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{وكذلك} أي: وكما هديناكم صراطاً مستقيماً {جعلناكم أمة وسطاً} عدولاً خياراً {لتكونوا شهداء على الناس} لتشهدوا على الأمم بتبليغ الأنبياء {ويكون الرسول عليكم} على صدقكم {شهيداً} وذلك أنَّ الله تعالى يسأل الأمم يوم القيامة فيقول: هل بلَّغكم الرُّسل الرِّسالة؟ فيقولون: ما بلَّغنا أحدٌ عنك شيئاً فيسأل الرُّسل فيقولون: بلَّغناهم رسالتك فعصوا فيقول: هل لكم شهيدٌ؟ فيقولون: نعم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم بالتِّبليغ وتكذيب قومهم إيَّاهم فتقول الأمم: يارب بمَ عرفوا ذلك وكانوا بعدنا؟ فيقولون: أخبرنا بذلك نبيُّنا في كتابه ثمَّ يزكيهم محمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أَي: التي أنتَ عليها اليوم وهي الكعبةُ قِبلةً {إلاَّ لنعلم} لنرى وقيل: معناه: لنميّز {مَنْ يتبع الرسول} في تصديقه بنسخ القِبلة {ممن ينقلب على عقبيه} يرتدُّ ويرجع إلى الكفر وذلك أنَّ الله تعالى جعل نسخ القبلة عن الصَّخرة إلى الكعبة ابتلاءً لعباده المؤمنين فمَنْ عصمه صدَّق الرَّسول في ذلك ومَنْ لم يعصمه شكَّ في دينه وتردَّد عليه أمره وظنَّ أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم في حيرةٍ من أمره فارتدَّ عن الإِسلام وهذا معنى قوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أَيْ: وقد كانت التَّولية إلى الكعبة لثقيلةً إِلا {عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله} عصمهم الله بالهداية فلمَّا حوِّلت القبلة قالت اليهود: فكيف بمَنْ مات منكم وهو يصلِّي على القبلة الأولى؟ لقد مات على الضَّلالة فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانكم} أَيْ: صلاتكم التي صليتم وتصديقكم بالقِبلة الأولى {إنَّ الله بالناس} يعني: بالمؤمنين {لرؤوف رحيم} والرَّأفة أشدُّ الرَّحمة(1/135)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
{قد نرى تقلب وجهك} كانت الكعبة أحبَّ القبلتين إلى رسول الله ورأى أنَّ الصَّلاة إليها أدعى لقومه إلى الإسلام فقال لجبريل عليه السَّلام: وددتُ أنَّ الله صرفني عن قِبلة اليهود إلى غيرها فقال جبريل عليه السَّلام: إنَّما أنا عبدٌ مثلك وأنت كريم على ربِّك فسله ثمَّ ارتفع جبريل عليه السَّلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُديم النَّظر إلى السَّماء رجاء أَنْ يأتيه جبريل عليه السَّلام بالذي سأل فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} أَيْ: فِي النَّظر إلى السَّماء {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنُصَيِّرَنَّك تستقبل {قبلة ترضاها} تحبُّها وتواها {فَوَلِّ وجهك} أَيْ: أَقبل بوجهك {شطر المسجد الحرام} نحوه وتلقاءه {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} فِي برٍّ أو بحرٍ وأردتم الصَّلاة {فولوا وجوهكم شطره} فلمَّا تحوَّلت القِبلة إِلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد ما أُمرتَ بهذا وإنَّما هو شيءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} أنَّ المسجد الحرام قِبلة إبراهيم وأنَّه لحقٌّ {وما اللَّهُ بغافل عما تعملون} يا معشر المؤمنين مِنْ طلب مرضاتي(1/136)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {بكلِّ آية} (دلالةٍ ومعجزةٍ) {ما تبعوا قبلتك} لأنَّهم مُعاندون جاحدون نبوَّتك مع العلم بها {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسمَ بهذا أطماع اليهود في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم لأنَّهم كانوا يطمعون في ذلك {وما بعضهم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أخبر أنَّهم - وإنِ اتَّفقوا في التَّظاهر على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - مُختلفون فيما بينهم فلا اليهود تتبع قِبلة النَّصارى ولا النَّصارى تتبع قِبلة اليهود {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: صلَّيت إلى قِبلتهم {بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أنَّ قِبلة الله الكعبة {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أيْ: إِنَّك إذاً مثلهم والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهر وهو فِي المعنى لأُمَّته(1/137)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق} من صفته في التَّوراة {وهم يعلمون} لأنَّ الله بيَّن ذلك في كتابهم(1/137)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي: هذا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشَّاكِّين في الجملة التي أخبرتك بها من أمر القِبلة وعناد اليهود وامتناعهم عن الإِيمان بك(1/138)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{ولكلٍّ} أَيْ: ولكلِّ أهل دينٍ {وجهةٌ} قِبلةٌ ومُتوجَّةٌ إليها في الصَّلاة {هو مُوَلِّيْها} وجهَه أَيْ: مستقبلها {فاستبقوا الخيرات} فبادروا إلى القبول من الله عزَّ وجل ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم الله تعالى {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يجمعكم الله تعالى للحساب فيجزيكم بأعمالكم ثم أَكَّد استقبال القبلة أينما كان بآيتين وهما قوله تعالى:(1/138)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بغافل عما تعملون}(1/138)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{ومن حيث خرجت} الآية وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لئلا يكون للناس عليكم حجَّةٌ} يعني: اليهود وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: ما درى محمَّدٌ أين قِبلته حتى هديناه ويقولون: يخالفنا محمَّدٌ فِي ديننا ويتَّبِع قِبلتنا فهذا كان حجِّتهم التي كانوا يحتجُّون بها تمويهاً على الجُهَّال فلمَّا صُرفت القِبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجَّة ثمَّ قال تعالى: {إلاَّ الذين ظلموا منهم} من النَّاس وهم المشركون فإنَّهم قالوا: توجَّه محمدٌ إلى قِبلتنا وعلم أنَّا أهدى سبيلاً منه فهؤلاء يحتجُّون بالباطلِ ثمَّ قال: {فلا تخشوهم} يعني: المشركين في تظاهرهم عليكم فِي المُحاجَّة والمحاربة {واخشوني} فِي ترك القِبلة ومخالفتها {ولأُتمَّ نعمتي عليكم} أَيْ: ولكي أَتمَّ - عطفٌ على {لئلا يكون} - نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بهدايتي إيّاكم إلى قِبلة إبراهيم فَتَتِمُّ لكم الملَّة الحنيفيَّة {ولعلكم تهتدون} ولكي تهتدوا إلى قِبلة إبراهيم(1/138)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{كما أرسلنا فيكم} المعنى: ولأتمَّ نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولاً أَيْ: أتمُّ هذه كما أتممت تلك بإرسالي {رسولاً منكم} تعرفون صدقه ونسبه {يتلو عليكم آياتنا} يعني: القرآن وهذا احتجاجٌ عليهم لأنَّهم عرفوا أنَّه أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب فلمَّا قرأ عليهم تبيَّن لهم صدقه في النُّبوَّة {ويزكيكم} أَيْ: يُعرِّضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله تعالى(1/139)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
{فاذكروني} بالطَّاعة {أذكركم} بالمغفرة {واشكروا لي} نعمتي {ولا تكفرون} أَيْ: لا تكفروا نعمتي(1/139)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{يا أيها الذين آمنوا استعينوا} على طلب الآخرة {بالصبر} على الفرائض {والصلاة} وبالصَّلوات الخمس على تمحيص الذُّنوب {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أَيْ: إنِّي معكم أنصركم ولا أخذلكم(1/139)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات} نزلت في قتلى بدر من المسلمين وذلك أنَّهم كانوا يقولون لمَنْ يُقتل فِي سبيل الله: مات فلانٌ وذهب عنه نعيم الدُّنيا فقال الله تعالى: ولا تقولوا للمقتولين في سبيلي هم أمواتٌ {بل} هم {أحياء} لأنَّ أرواح الشُّهداء فِي أجواف طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنَّة {ولكن لا تشعرون} بما هم فيه من النَّعيم والكرامة(1/139)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
{ولنبلونكم} ولنعاملنَّكم مُعاملة المبتلي {بشيء من الخوف} يعني: خوف العدوِّ {والجوع} يعني: القحط {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} يعني: الخسران والنُّقصان فِي المال وهلاك المواشي {والأنفس} يعني: الموت والقتل في الجهاد والمرض والشَّيب {والثمرات} يعني: الجوائح وموت الأولاد فمَنْ صبر على هذه الأشياء استحقَّ الثَّواب ومَنْ لم يصبر لم يستحق يدلُّ على هذا قوله تعالى: {وبشر الصابرين}(1/140)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
{الذين إذا أصابتهم مصيبة} ممَّا ذُكر {قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} أَيْ: أموالنا لله ونحن عبيدة يصنع بنا ما يشاء ثمَّ وعدهم على هذا القول المغفرة(1/140)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{أولئك عليهم صلوات من ربهم} أَيْ: مغفرةٌ {ورحمة} ونعمةٌ {وأولئك هم المهتدون} إلى الجنَّة والثَّواب والحقِّ والصَّواب وقيل: زيادة الهدى وقيل: هم المنتفعون بالهداية(1/140)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
{إنَّ الصفا والمروة} وهما جبلان معروفان بمكَّة {من شعائر الله} أَيْ: مُتعبَّداته {فمن حجَّ البيت} زاره معظِّماً له {أو اعتمر} قصد البيت للزِّيارة {فلا جناح عليه} فلا إثم عليه {إن يطوَّف بهما} بالجبلين وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما فكره المسلمون الطَّواف بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية {ومن تطوَّع خيراً} فعل غير المفترض عليه من طوافٍ وصلاةٍ وزكاةٍ وطاعةٍ {فإنَّ الله شاكر} مجازٍ له بعمله {عليم} بنيَّته(1/140)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
{إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا} يعني: علماء اليهود {من البينات} من الرَّجم والحدود والأحكام {والهدى} أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته {من بعد ما بيناه للناس} لبني إسرائيل {فِي الكتاب} فِي التَّوراة {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} كلُّ شيءٍ إلاَّ الجنَّ والإِنس(1/141)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
{إلاَّ الذين تابوا} رجعوا من بعد الكتمان {وأصلحوا} السَّريرة {وبيَّنوا} صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {فأولئك أتوب عليهم} أعود عليهم بالمغفرة(1/141)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} يعني: المؤمنين(1/141)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
{خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هم ينظرون} أَيْ: ولا هم يُمهلون للرَّجعة والتَّوبة والمعذرة إذ قد زال التَّكليف(1/141)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
{وإلهكم إله واحدٌ} كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى فبيَّن الله سبحانه أنَّه إِلههم وأّنَّه واحدٌ فقال: {وإلهكم إله واحدٌ} أَيْ: ليس له في الإِلهيَّة شريكٌ ولا له في ذاته نظيرٌ {لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} كذَّبهم الله عز وجل في إشراكهم معه آلهةً فعجب المشركون من ذلك وقالوا: إنَّ محمداً يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فلأتنا بآيةٍ إن كان من الصَّادقين فأنزل الله تعالى:(1/142)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{إن في خلق السماوات والأرض} مع عظمهما وكثرة أجزائهما {واختلاف الليل والنهار} ذهابهما ومجيئهما {والفلك} السُّفن {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} من التِّجارات {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} من مطرٍ {فأحيا به الأرض} أخصبها بعد جدوبتها {وبثَّ} وفرَّق {فيها من كلِّ دابة وتصريف الرياح} تقليبها مرَّة جنوباً ومرَّة شمالاً وباردةً وحارَّة {والسحاب المسخَّر} المُذلَّل لأمر الله {بين السماء والأرض لآياتٍ} لدلالاتٍ على وحدانية الله {لقوم يعقلون} فعلمهم الله عز وجل بهذه الآية كيفية الاستدلال على الصَّانع وعلى توحيده وردَّهم إلى التًّفكُّر فِي آياته والنَّظر فِي مصنوعاته ثمَّ أعلم أنَّ قوماً بعد هذه الآيات والبيِّنات يتَّخذون الأنداد مع علمهم أنَّهم لا يأتون بشيءٍ مما ذكر فقال:(1/142)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنداداً} يعني: الأصنام التي هي أندادٌ بعضها لبعضٍ أَيْ: امثال {يحبونهم كحب الله} أي: كحبِّ المؤمنين الله {والذين آمنوا أشد حباً لله} لأنَّ الكافر يُعرِضُ عن معبوده في وقت البلاء والمؤمن لا يُعرض عن الله في السِّراء والضَّراء والشِّدَّة والرَّخاء {ولو يرى الذين ظلموا} كفروا {إذ يرون العذاب} شدَّة عذاب الله تعالى وقوّته لعلموا مضرَّة اتِّخاذ الأنداد وجواب (لو) محذوفٌ وهو ما ذكرنا(1/143)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
{إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا} هذه الآية تتصل بما قبلها لأنَّ المعنى: وإنَّ الله شديد العذاب حين تبرَّأ المُتَّبَعُون في الشِّرك من أتباعهم عند رؤية العذاب يقولون: لم ندعُكم إلى الضَّلالة وإلى ما كنتم {وتقطعت بهم} عنهم {الأسباب} الوصلات التي كانت بينهم في الدُّنيا من الأرحام والموَّدة وصارت مُخالَّتهم عداوةً(1/143)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهم الأتباع {لَوْ أَنَّ لنا كرة} وجعة إلى الدُّنيا تبرَّأنا منهم {كما تبرَّؤوا منا كذلك} أي: كتبرئ بعضهم من بعضٍ {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عليهم} يعني: عبادتهم الأوثان رجاءَ أن تُقرِّبهم إلى الله تعالى فلمَّا عُذِّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسَّروا(1/143)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
{يا أيها النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} نزلت هذه الآية فِي الذين حرَّموا على أنفسهم السَّوائب والوصائل والبحائر فأَعلمَ الله سبحانه أنَّها يَحلُّ أكْلُها وأنَّ تحريمها من عمل الشَّيطان فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أَيْ: سُبله وطرقه ثمَّ بيَّن عداوة الشَّيطان فقال:(1/143)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
{إنما يأمركم بالسوء} بالمعاصي {والفحشاء} البخل وقيل: كلُّ ذنبٍ فيه حدٌّ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} من تحريم الأنعام والحرث(1/144)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء الذين حرَّموا من الحرث والأنعام أشياء: {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفينا} ما وجدنا {عليه آباءنا} فقال الله تعالى مُنكراً عليهم: {أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} يتَّبعونهم؟ والمعنى: أيتبعون آباءهم وإنْ كانوا جهَّالاً؟ ! ثمَّ ضرب للكفَّار مثلاً فقال:(1/144)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
{ومثل الذين كفروا} فِي وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل {كمثل} الرَّاعي {الذي ينعق} يصيح بالغنم وهي لا تعقل شيئاً ومعنى يَنْعِق: يصيح وأراد {بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً} البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الرَّاعي إنَّما تسمع صوتاً لا تدري ما تحته كذلك الذين كفروا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهم كالغنم إذ كانوا لا يستعملون ما أمره به ومضى تفسير قوله: {صم بكم عمي} ثمَّ ذكر أنَّ ما حرَّمه المشركون حلال فقال:(1/144)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أَيْ: حلالات ما رزقناكم من الحرث والنَّعم وما حرَّمه المشركون على أنفسهم منهما {واشكروا لله إنْ كنتم إياه تعبدون} أَيْ: إنْ كانت العبادة لله واجبةً عليكم بأنَّه إلهكم فالشُّكر له واجبٌ بأنه منعمٌ عليكم ثمَّ بيَّن المُحرَّم ما هو فقال:(1/144)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{إنما حرَّم عليكم الميتة} وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبح {والدم} يعني: الدَّم السَّائل لقوله في كوضع آخر: {أو دماً مسفوحاً} وقد دخل هذين الجنسين الخصوصُ بالسُّنَّةِ وهو [قوله صلى الله عليه وسلم: أُحلَّت لنا ميتتان ودمان] وقوله تعالى: {ولحم الخنزير} يعني: الخنزير بجميع أجزائه وخصَّ اللَّحم لأنَّه المقصود بالأكل {وما أُهِلَّ به لغير الله} يعني: ما ذُبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله تعالى {فمن اضطر} أَيْ: أُحوج وألجئ في حال الضَّرورة وقيل: مَنْ أكره على تناوله وأُجبر على تناوله كما يُجبر على التَّلفُّظ بالباطل {غير باغٍ} أَيْ: غير قاطعٍ للطَّريق مفارقٍ للأئمة مُشاقًّ للأمَّة {ولا عادٍ} ولا ظالم متعدٍّ فأكلَ {فلا إثم عليه} وهذا يدلُّ على أنَّ العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضَّرورة {إنَّ الله غفور} للمعصية فلا يأخذ بما جعل فِيهِ الرُّخصة {رحيمٌ} حيث رخَّص للمضطر(1/145)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب} يعني: رؤساء اليهود {ويشترون به} بما أنزل الله من نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم {ثمناً قليلاً} يعني: ما يأخذون من الرُّشى على كتمان نعته {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} إلاَّ ما هو عاقبته النَّار {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} أَيْ: كلاماً يسرُّهم {ولا يزكيهم} ولا يُطهِّرهم من دنس ذنوبهم(1/145)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
{أولئك الذين اشتروا الضلالة} استبدلوها {بالهدى والعذاب بالمغفرة} حين جحدوا أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتموا نعته {فما أصبرهم} أَيْ: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم على النَّار ودعاهم إليها حين تركوا الحقَّ واتبعوا الباطل؟ ! وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ لهم (وقيل: ما أجرأهم على النار)(1/146)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
{ذلك} أَيْ: ذلك العذاب لهم {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكتاب بالحق} يعني: القرآن فاختلفوا فيه {وإنَّ الذين اختلفوا في الكتاب} فقالوا: إنَّه رَجَزٌ وشِعرٌ وكهانةٌ وسحرٌ {لفي شقاق بعيد} لفي خلافٍ للحقِّ طويلٍ(1/146)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ليس البر} كان الرَّجل فِي ابتداء الإِسلام إذا شهد الشَّهادتين وصلَّى إلى أَيٍّ ناحيةٍ كانت ثمَّ مات على ذلك وجبت له الجنَّة فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وصُرفت القِبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية فقال: {ليس البر} كلَّه أن تُصلُّوا ولا تعملوا غير ذلك {ولكنَّ البرَّ} أَيْ: ذا الْبِرَّ {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ والكتاب والنَّبيين وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: على حبِّ المال (وقيل: الضميرُ راجعٌ إلى الإِيتاء) {ذوي القربى} قيل: عنى به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم (وقيل: أراد به قرابة الميت) {وابن السبيل} هو المنقطع يمرُّ بك والضَّيف ينزل بك {وفي الرِّقاب} أَيْ: وفي ثمنها يعني: المكاتبين {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} اللَّهَ أو النَّاسَ {والصابرين في البأساء} الفقر {والضراء} المرض {وحين البأس} وقت القتال في سبيل الله {أولئك} أهل هذه الصفة هم {الذين صدقوا} في إيمانهم(1/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} نزلت في حَيَّينِ من العرب أحدهما أشرف من الآخر فقتل الأوضع من الأشرف قتلى فقال الأشرف: لنقتلنَّ الحرَّ بالعبد والذَّكر بالأنثى ولَنُضاعِفَنَّ الجراح فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {كُتب} : أُوجب وفُرض {عليكم القصاص} اعتبار المماثلة والتَّساوي بين القتلى حتى لا يجوز أن يقتل حرٌّ بعبدٍ أو مسلمٌ بكافرٍ فاعتبارُ المماثلةِ واجبٌ وهو قوله: {الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى} ودلَّ قوله في سورة المائدة: {أنَّ النَّفس بالنَّفس} على أنَّ الذَّكر يُقتل بالأنثى فيقتل الحرُّ بالحرَّة {فمن عفي له} أَيْ: تُرك له {من} دم {أخيه} المقتول {شيءٌ} وهو أن يعفو بعض الأولياء فيسقط القود {فاتباع بالمعروف} أَيْ: فعلى العافي الذي هو ولي الدَّم أن يتبع القاتل بالمعروف وهو أن يطالبه بالمال من غير تشدُّد وأذىً وعلى المطلوب منه المال {أداءٌ} تأدية المال إلى العافي {بإحسانٍ} وهو ترك المطل والتَّسويف {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة} هو أنَّ الله تعالى خَيَّرَ هذه الأمَّة بين القصاص والدية والعفو ولم يكن ذلك إلاَّ لهذه الأُمَّة {فمن اعتدى} أَيْ: ظلم بقتل القاتل بعد أخذ الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1/147)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
{ولكم في القصاص حياة} أَيْ: في إثباته حياةٌ وذلك أنَّ القاتل إذا قُتل ارتدع عن القتل كلُّ مَنْ يهمُّ بالقتل فكان القصاص سبباً لحياة الذي يُهَمُّ بقتله ولحياة الهامِّ أيضاً لأنه إنْ قَتلَ قُتل {يا أولي الألباب} يا ذوي العقول {لعلكم تتقون} إراقة الدِّماء مخافة القصاص(1/148)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{كتب عليكم} كان أهل الجاهليَّة يُوصون بمالهم للبعداء رياءً وسُمعةً ويتركون أقاربهم فقراء فأنزل الله تعالى هذه الآية {كتب عليكم} فُرض عليكم وأُوجب {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أَيْ: أسبابه ومُقدِّماته {إنْ ترك خيراً} مالاً {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} يعني: لا يزيد على الثلث {حقاً} أي: حقَّ ذلك حقَّاً {على المتقين} الذين يتَّقون الشِّرك وهذه الآية منسوخة بآية المواريث ولا تجب الوصية على أحدٍ (ولا تجوز الوصية للوارث)(1/148)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{فَمَنْ بدَّله بعد ما سمعه} أَيْ: بدَّل الإِيصاء وغيَّره من وصيٍّ ووليٍّ وشاهدٍ بعد ما سمعه عن الميت {فإنما إثمه} إثم التَّبديل {عَلَى الَّذِينَ يبدلونه} وبرئ الميِّت {إن الله سميع} سمع ما قاله المُوصي {عليم} بنيَّته وما أراد فكانت الأولياء والأوصياء يمضون وصيه الميت بعد نزول هذه الآية وإن استغرقت المال فأنزل الله تعالى:(1/149)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{فمن خاف} أَيْ: علم {من موصٍ جنفاً} خطأً في التوصية من غير عمدٍ وهو أن يُوصي لبعض ورثته أو يوصي بماله كلِّه خطأً {أو إثماً} أَيْ: قصدا للميل فخاف من الوصية وفعل ما لا يجوز مُتعمِّداً {فأصلح} بعد موته بين ورثته وبين المُوصى لهم {فلا إثم عليه} أَيْ: إِنَّه ليس بمبدلٍ يأثم بل هو متوسطٌ للإِصلاح وليس عليه إثمٌ(1/149)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} يعني صيام شهر رمضان {كما كتب} يعني: كما أُوجب {على الذين من قبلكم} أَيْ: أنتم مُتَعَبِّدون بالصَّيام كما تُعبِّد مَنْ قبلكم {لعلكم تتقون} لكي تتقوا الأكل والشُّرب والجماع في وقت وجوب الصَّوم(1/149)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{أياماً معدودات} يعني: شهر رمضان {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فأفطر {فعدَّةٌ} أَيْ: فعليه عدَّةٌ أَيْ: صوم عدَّةٍ يعني: بعدد ما أفطر {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سوى أيَّام مرضه وسفره {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} هذا كان في ابتداء الإسلام مَنْ أطاق الصوم جاز له أن يُفطر ويُطعم لكلِّ يومٍ مسكيناً مُدَّاً من طعام فَنُسِخ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} {فمن تطوع خيراً} زاد في الفدية على مُدٍّ واحدٍ {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أيْ: والصَّوم خيرٌ لكم من الإِفطار والفدية وهذا (إنَّما) كان قبل النَّسخ(1/150)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{شهر رمضان} أَيْ: هي شهر رمضان يعني: تلك الأيام المعدودات شهر رمضان {الذي أُنزل فيه القرآن} أنزل جُملةً واحدةً من اللَّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزَّة في سماء الدُّنيا ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً عشرين سنةً {هدىً للناس} هادياً للنَّاس {وبينات من الهدى} وآياتٍ واضحاتٍ من الحلال والحرام والحدود والأحكام {والفرقان} الفرق بين الحقِّ والباطل {فمن شهد منكم الشهر} فمَنْ حضر منكم بلده في الشَّهْرَ {فَلْيَصُمْهُ} {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أخر} أعاد هاهنا تخيير المريض والمسافر لأنَّ الآية الأولى وردت في التَّخيير للمريض والمسافر والمقيم وفي هذه الآية نُسخ تخيير المقيم فأُعيد ذكر تخيير المريض والمسافر ليعلم أنَّه باقٍ على ما كان {يريد الله بكم اليسر} بالرُّخصة للمسافر والمريض {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لأنَّه لم يشدِّد ولم يُضيِّق عليكم {ولتكملوا} (عطف على محذوف) والمعنى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العسر لِيَسْهُلَ عليكم {ولتكملوا العدَّة} أَيْ: ولتكملوا عدَّة ما أفطرتم بالقضاء إذا أقمتم وبرأتم {ولتكبروا الله} يعني التَّكبير ليلة الفطر إذا رُئي هلال شوال {على ما هداكم} أرشدكم من شرائع الدِّين(1/150)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{وإذا سألك عبادي عني} الآية سأل بعض الصَّحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أقريبٌ ربُّنا فنناجيَه أم بعيدٌ فنناديَه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله تعالى {فإني قريبٌ} يعني: قربه بالعلم {أجيب} أسمع {دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} أَيْ: فليجيبوني بالطَّاعة وتصديق الرُّسل {وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} ليكونوا على رجاءٍ من إصابة الرُّشد(1/151)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{أحلَّ لكم ليلة الصيام} الآية كان في ابتداء الإسلام لا تحلُّ المجامعة في ليالي الصَّوم ولا الأكل ولا الشُّرب بعد العشاء الآخرة فأحلَّ الله تعالى ذلك كلَّه إلى طلوع الفجر وقوله: {الرفث إلى نسائكم} يعني: الإِفضاء إليهنَّ بالجماع {هنَّ لباسٌ لكم} أَيْ: فراشٌ {وأنتم لباس} لحافٌ {لهنَّ} عند الجماع {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} تخونون أنفسكم بالجماع ليالي رمضان وذلك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وغيره فعلوا ذلك ثمَّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه فنزلت الرُّخصة {فتاب عليكم} فعاد عليكم بالترخيص {وعفا عنكم} ما فعلتم قبل الرُّخصة {فالآن باشروهنَّ} جامعوهنَّ {وابتغوا} واطلبوا {ما كتب الله لكم} ما قضى الله سبحانه لكم من الولد {وكلوا واشربوا} اللَّيل كلَّه {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} يعني: بياض الصُّبح {من الخيط الأسود} من سواد اللَّيل {من الفجر} بيانُ أنَّ هذا الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره {ثمَّ أتموا الصيام إلى الليل} بالامتناع من هذه الأشياء {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد} نهيٌ للمعتكف عن الجماع لأنه يُفسده {تلك} أَيْ: هذه الأحكام التي ذكرها {حدود الله} ممنوعاته {فلا تقربوها} فلا تأتوها {كذلك} أَيْ: مثل هذا البيان {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} المحارم(1/152)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أَيْ: لا يأكل بعضكم مال بعضٍ بما لا يحلُّ في الشَّرع من الخيانة والغضب والسَّرقة والقمار وغير ذلك {وتُدْلُوا بها إلى الحكام} ولا تصانعوا (أي: لاترشوا) بأموالكم الحكَّام لِتقتطعوا حقَّاً لغيركم {لتأكلوا فريقاً} طائفةً {من أموال الناس بالإِثم} بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم {وأنتم تعلمون} أنَّكم مُبطلون وأنَّه لا يحلُّ لكم والأصل في الإِدلاء: الإِرسال من قولهم: أدليتُ الدَّلو(1/153)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{يسألونك عن الأهلة} سأل معاذ بن جبلٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن زيادة القمر ونقصانه فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة} وهي جمع هلال {قل هي مواقيت للناس والحج} أخبر الله عنه أنَّ الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات النَّاس فِي حجِّهم ومَحِلِّ دُيونِهم وعِدَدِ نسائهم وأجور أُجرائهم ومُدَد حواملهم وغير ذلك {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} كان الرَّجل في الجاهلية إذا إذا أحرم نقب من بيته نقباً من مؤخره يدخل فيه ويخرج فأمرهم الله بتر ك سنَّة الجاهليَّة وأعلمهم أنَّ ذلك ليس ببرٍّ {ولكن البرَّ} برُّ {من اتقى} مخالفةَ الله {وأتوا البيوت من أبوابها} الآية(1/153)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{وقاتلوا في سبيل الله} الآية نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صدَّه المشركون عن البيت صالحهم على أن يرجع عامة القابل ويُخَلُّوا له مكَّة ثلاثة أيَّام فلمَّا كان العام القابل تجهزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريشٌ وأن يصدُّوهم عن البيت ويقاتلوهم وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشَّهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} أَيْ: في دين الله وطاعته {الذين يقاتلونكم} يعني: قريشاً {ولا تعتدوا} ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال(1/154)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وجدتموه وأخذتموهم {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} يعني: من مكَّة {والفتنة أشدّ من القتل} يعني: وشركُهم بالله تعالى أعظمُ من قتلكم إيَّاهم في الحرم {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فيه} نُهوا عن ابتدائهم بقتلٍ أو قتالٍ حتى يبتدىء المشركون {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أَيْ: إن ابتدؤوا بقتالكم عند المسجد الحرام فلكم القتال على سبيل المكافأة ثم بيَّن أنهم إن انتهوا أَيْ: كفُّوا عن الشِّرك والكفر والقتال وأسلموا {فإنَّ الله غفور رحيم} أَيْ: يغفر لهم كفرهم وقتالهم من قبل وهو منعمٌ عليهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم(1/154)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
قال تعالى {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1/155)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ: شركٌ يعني: قاتلوهم حتى يُسلموا وليس يُقبل من المشرك الوثنيِّ جزيةٌ {ويكون الدين} أَيْ: الطَّاعة والعبادة {لله} وحده فلا يُعبد دونه شيءٌ {فإن انتهوا} عن الكفر {فلا عدوان} أَيْ: فلا قتل ولا نهب {إلاَّ على الظالمين} والكافرين(1/155)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} أَيْ: إن قاتلوكم في الشَّهر الحرام فقاتلوهم في مثله {والحرمات قصاص} أَي: إن انتهكوا لكم حرمةً فانتهكوا منهم مثل ذلك أَعلمَ الله سبحانه أنَّه لا يكون للمسلمين أنْ ينتهكوها على سبيل الابتداء ولكن على سبيل القصاص وهو معنى قوله: {فمن اعتدى عليكم} الآية(1/155)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{وأنفقوا في سبيل الله} في طاعة الله تعالى من الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ولا تُمسكوا عن الإِنفاق في الجهاد {وأحسنوا} أَيْ: الظنَّ بالله تعالى في الثَّواب والإِخلاف عليكم(1/155)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{وأتموا الحج والعمرة لله} بمناسكها وحدودها وسننها وتأدية كلِّ ما فيهما {فإن أحصرتم} حُبستم ومُنعتم دون تمامهما {فما استيسر} فواجبٌ عليكم ما تيسَّر {من الهدي} وهو ما يُهدى إلى بيت الله سبحانه أعلاه بدنةٌ وأوسطه بقرة وأدناه شاةٌ فعليه ما تيسَّر من هذه الأجناس {ولا تحلقوا رؤوسكم} أَيْ: لا تَحِلُّوا من إحرامكم {حتى يبلغ الهدي محلَّه} حتى يُنحر الهدي بمكَّة في بعض الأقوال وهو مذهب أهل العراق وفي قول غيرهم: مَحِلُّه حيث يَحِلُّ ذبحه ونحره وهو حيث أُحصر وهو مذهب الشَّافعي {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى من رأسه} يعني الهوام تقع في الشَّعر وتكثر فحلق {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} وهو صيام ثلاثة أيَّام {أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين لكلِّ مسكينٍ مُدَّان {أو نسك} ذبيحةٍ {فإذا أمنتم} أَيْ: من العدوِّ أو كان حجٌّ ليس فيه خوفٌ من عدوٍّ {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} أيْ: قدم مكَّة مُحرماً واعتمر في أشهر الحجِّ وأقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحجَّ عامَه ذلك واستمتع بمحظورات الإحرام لأنَّه حلَّ بالعمرة فمن فعل هذا {ف} عليه {ما استيسر من الهدي فمن لم يجد} ثمن الهدي {فصيام ثلاثة أيام في} أشهر {الحج وسبعة إذا رجعتم} أَيْ: بعد الفراغ من الحجِّ {تلك عشرة كاملة ذَلِكَ} أَيْ: ذلك الفرض الذي أُمرنا به من الهدي أو الصِّيام {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَيْ: لمَنْ لم يكن من أهل مكَّة(1/156)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{الحج أشهر} أًيْ: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ {معلوماتٌ} مُوقَّتةٌ معيَّنةٌ وهي شوال وذو القعدة وتسعُ من ذي الحجَّة {فمن فرض} أوجب على نفسه {فيهنَّ الحجَّ} بالإحرام والتَّلبية {فلا رفث} فلا جِماعَ {ولا فسوق} ولا معاصي {ولا جدال} وهو أَنْ يُجادلَ صاحبه حتى يُغضبه والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا {فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} أَيْ: يُجازيكم به الله العالم {وتزوَّدوا} نزلت في قومٍ كانوا يحجُّون بلا زادٍ ويقولون: نحن متوكِّلون ثمَّ كانوا يسألون النَّاس وربَّما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله أَنْ يتزوَّدوا فقال {وتزوَّدوا} ما تتبلَّغون به {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} يعني: ما تكفُّون به وجوهكم عن السُّؤال وأنفسكم عن الظلم(1/157)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{وليس عليكم جناح} كان قومٌ يزعمون أنَّه لا حَجَّ لتاجرٍ ولا جَمَّالٍ فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرِّزق بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم} أَيْ: رزقاً بالتجِّارة في الحجِّ {فإذا أفضتم} أَيْ: دفعتم وانصرفتم من {من عرفات فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدُّعاء والتَّلبية {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ واذكروه كما هداكم} أَيْ: ذكراً مثلَ هدايته إيَّاكم أَيْ: يكون جزاءً لهدايته إيَّاكم {وإن كنتم من قبله} أَيْ: وما كنتم من قبل هُدَاه إلاَّ ضالِّين(1/157)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض الناس} يعني: العرب وعامِّة النَّاس إلاَّ قريشاً وذلك أنَّهم كانوا لا يقفون بعرفات وإنَّما يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه فأمرهم الله أن يقفوا بعرفاتٍ كما يقف سائر النَّاس حتى تكون الإفاضة معهم منها {فإذا قضيتم مناسككم} أَيْ: فرغتم من عبادتكم التي أمرتم بها في الحجِّ {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كذكركم آباءَكم} كانت العرب إذا فرغوا من حجِّهم ذكروا مفاخر آبائهم فأمرهم الله عز وجل بذكره {أو أشدَّ ذكراً} يعني: وأشدَّ ذكراً {فمن الناس} وهم المشركون كانوا يسألون المال والإبل والغنم ولا يسألون حظَّاً في الآخرة لأَنهم لم يكونوا مؤمنين بها والمسلمون يسألون الحظَّ في الدُّنيا والآخرة وهو قوله:(1/157)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
قال تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}(1/158)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حسنة} ومعنى {في الدنيا حسنة} : العمل بما يرضي الله {وفي الآخرة حسنة} : الجنة(1/158)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا} أَيْ: ثوابُ ما عملوا {والله سريعُ الحساب} مع هؤلاء لأنَّه يغفر سيئاتهم ويضاعف حسناتهم(1/158)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{واذكروا الله في أيام معدودات} يعني: التَّكبير أدبار الصَّلوات في أيام التَّشريق {فمن تعجَّل في يومين} من أيام التَّشريق فنفر في اليوم الثّاني من مِنىً {فلا إثم عليه} في تعجُّله {ومن تأخر} عن النَّفر إلى اليوم الثالث {فلا إثم عليه} في تأخُّره {لمن اتقى} أَيْ: طرحُ المأثم يكون لمن اتَّقى في حجِّه تضييعَ شيءٍ ممَّا حدَّه الله تعالى(1/158)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
{ومن الناس مَن يعجبك قوله} يعني: الأخنس بن شريق وكان منافقاً حلو الكلام حسن العلانية سيئ السَّريرة وقوله {في الحياة الدنيا} لأنَّ قوله إنَّما يعجب النَّاس في الحياة الدُّنيا ولا ثواب له عليه في الآخرة {ويشهد الله على ما في قلبه} لأنَّه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ إنِّي بك لمؤمنٌ ولك محبٌّ {وهو ألدُّ الخصام} أَيْ: شديد الخصومة وكان جَدِلاً بالباطل(1/159)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
{وإذا تولى سعى في الأرض} الآية وذلك أنَّه رجع إلى مكَّة فمرَّ بزرعٍ وحُمُرٍ للمسلمين فأحرق الزَّرع وعقر الحُمُر فهو قوله: {ويهلك الحرث والنسل} أَيْ: نسل الدَّوابِّ(1/159)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{وإذا قيل له اتق الله} وإذا قيل له: مهلاً مهلاً {أخذته العزَّةُ بالإِثم} حملته الأنفة وحميَّة الجاهليَّة على الفعل بالإِثم {فحسبه جهنم} كافيه الجحيم جزاءً له {ولبئس المهاد} ولبئس المقرُّ جهنَّم(1/159)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{ومن الناس مَنْ يشري} أَيْ: يبيع {نفسه} يعني: يبذلها لأوامر الله تعالى {ابتغاء مرضاة الله} لطلب رضا الله نزلت في صهيب الرُّوميِّ(1/160)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْمِ} أَيْ: في الإسلام {كافة} أيْ: جميعاً أيْ: في جميع شرائعه نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وذلك أنَّهم بعدما دخلوا في الإِسلام عظَّموا السَّبت وكرهوا لُحمان الإِبل فأُمروا بترك ذلك وإنَّه ليس من شرائع الإِسلام تحريم السَّبت وكراهة لحوم الإبل {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أيْ: آثاره ونزغاته {إنه لكم عدوٌّ مبين}(1/160)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{فإن زللتم} تنحَّيتم عن القصد بتحريم السَّبْت ولحوم الإِبل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات} أَيْ: القرآن {فاعلموا أنَّ الله عزيز} في نقمته لاتعجزونه ولا يُعجزه شيءٌ {حكيم} فيما شرع لكم من دينه(1/160)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{هل ينظرون} أَيْ: هل ينتظرون يعني: التَّاركين الدُّخول في الإِسلام و (هل) استفهامٌ معناه النَّفي أيْ: ما ينتظر هؤلاء في الآخرة {إلاَّ أن يأتيهم} عذاب {اللَّهُ في ظلل من الغمام} والظُّلَل جمع: ظُلَّة وهي كلُّ ما أظلَّك والمعنى: إنَّ العذاب يأتي فيها ويكون أهول {والملائكة} أَيْ: الملائكةُ الذين وُكِّلوا بتعذيبهم {وقضي الأمر} فُرغ لهم ممَّا يوعدون بأنْ قُدِّر ذلك عليهم {وإلى الله ترجع الأمور} يعني: في الجزاء من الثَّواب والعقاب(1/160)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
{سل بني إسرائيل} سؤال توبيخ وتبكيتٍ وتقريعٍ (كما يُقال: سله كم وعظته فلم يقبل) {كم آتيناهم من آية بينةً} من فلق البحر وإنجائهم من عدوِّهم وإنزال المنِّ والسًّلوى وغير ذلك {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءته} يعني: ما أنعم الله به عليهم من العلم بشأن محمِّدٍ عليه السَّلام فبدَّلوه وغيَّروه(1/161)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{زين للذين كفروا} أَيْ: رؤساء اليهود {الحياة الدُّنيا} فهي هِمَّتهم وطِلبتهم فهم لا يريدون غيرها {ويسخرون من الذين آمنوا} أَيْ: فقراء المهاجرين {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} الشِّرك وهم هؤلاء الفقراء {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لأنَّهم في الجنَّة وهي عاليةٌ والكافرين في النَّار وهي هاويةٌ {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يشاء بغير حساب} يريد: إِنَّ أموال قريظة والنَّضير تصيرُ إليهم بلا حسابٍ ولا قتالٍ بل بأسهل شيءٍ وأيسره(1/161)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{كان الناس} على عهد إبراهيم عليه السَّلام {أمة واحدة} كفاراً كلَّهم {فبعث الله النبيين} إبراهيم وغيره {وأنزل معهم الكتاب} والكتابُ اسم الجنس {بالحق} بالعدل والصِّدق {ليحكم بين الناس} أَيْ: الكتابُ {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بغياً} أَيْ: وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغياً وحسداً إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب لأنَّ المشركين - وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام - فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمد عليه السَّلام كما أتت اليهود فاليهود مخصوصون من هذا الوجه {فهدى الله الذين آمنوا} {ل} معرفة {ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} بعلمه وإرادته فيهم(1/161)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} نزلت في فقراء المهاجرين حين اشتدَّ الضُّرُّ عليهم لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ فقال الله لهم - أَيْ لهؤلاء المهاجرين -: أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة من غير بلاءٍ ولا مكروهٍ {ولما يأتكم} أَيْ: ولم يأتكم {مثل الذين خلوا} أَيْ: مثل محنة الذين مضوا {من قبلكم} أَيْ: ولم يُصبكم مثل الذي أصابهم فتصبروا كما صبروا {مَسَّتْهُم البأساء} الشدَّة {والضرَّاء} المرض والجوع {وزلزلوا} أَيْ: حُرِّكوا بأنواع البلاء {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نصر الله} أَيْ: حين استبطؤوا النَّصر فقال الله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أَيْ: أنا ناصر أوليائي لا محالة(1/162)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{يسألونك ماذا ينفقون} نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً وعنده مالٌ عظيمٌ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعُها؟ فنزلت هذه الآية قال كثيرٌ من المفسرين: هذا كان قبل فرض الزكاة فلمَّا فُرضت الزَّكاة نسخت الزَّكاة هذه الآية(1/162)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
{كتب عليكم القتال} فُرض وأوجب عليكم الجهاد {وهو كرهٌ لكم} أَيْ: مشقَّةٌ عليكم لما يدخل منه على النَّفس والمال {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأنَّ في الغزو إحدى الحسنيين إمَّا الظفر والغنيمة وإمَّا الشَّهادة والجنَّة {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً} أَيْ: القعود عن الغزو {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} لما فيه من الذُّل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر {والله يعلم} ما فيه مصالحكم فبادروا إلى ما يأمركم به وإنْ شقَّ عليكم(1/163)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{يسألونك عن الشهر الحرام} نزلت في سريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهلَّ رجب وهم لا يعلمون ذلك فاستعظم المشركون سفك الدِّماء في رجب فأنزل الله تعالى: {يسألونك} يعني: المشركين وقيل: هم المسلمون {عن الشهر الحرام قتالٍ فيه} أَيْ: وعن قتالٍ فيه {قل قتالٌ فيه كبير} ثمَّ ابتدأ فقال: {وصد} ومنعٌ {عن سبيل الله} أَيْ: طاعته يعني: صدَّ المشركين رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية {وكفر به} بالله {والمسجد الحرام} أَيْ: وصدٌّ عن المسجد الحرام {وإخراج أهله} أَيْ: أهل المسجد يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أُخرجوا من مكَّة {منه أكبرُ} وأعظم وِزْراً {عند الله والفتنة} أَيْ: والشِّرك {أكبر من القتل} يعني: قتل السِّرية المشركين في رجب {ولا يزالون} يعني: المشركين {يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم} إلى الكفر {إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الإِسلام أَيْ: يرجع فيموت على الكفر {فأولئك حبطت أعمالهم} (بطلت أعمالهم) فقال هؤلاء السَّرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبنا القوم في رجب أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى:(1/163)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
{إنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا} فارقوا عشائرهم وأوطانهم {وجاهدوا} المشركين {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في نصرة دين الله {أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} غفر لهؤلاء السِّرية ما لم يعلموا ورحمهم والإِجماعُ اليوم منعقدٌ على أنَّ قتال المشركين يجوز في جميع الأشهر حلالها وحرامها(1/164)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{يسألونك عن الخمر والميسر} نزلت في عُمَر ومعاذٍ وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنَّهما مَذْهَبةٌ للعقل مسلبة للمال فنزل قوله عز وجل {يسألونك عن الخمر} وهو كلُّ مسكرٍ مخالطٍ للعقل مُغطٍّ عليه {والميسر} : القمار {قل فيهما إثم كبير} يعني: الإِثم بسببهما لما فيهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزُّور وغير ذلك {ومنافع للناس} ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر والتِّجارة فيها واللَّذَّة عند شربها ومنفعةُ الميسر ما يُصاب من القمار ويرتفق به الفقراء ثمَّ بيَّن أنَّ ما يحصل بسببهما من الإِثم أكبر من نفعهما فقال {وإثمهما أكبر من نفعهما} وليست هذه الآيةُ المُحرِّمةَ للخمر والميسر إنَّما المُحرِّمةُ التي في سورة المائدة وهذه الآية نزلت قبل تحريمها {ويسألونك ماذا ينفقون} نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لمَّا نزل قوله: {فللوالدين والأقربين} في سؤاله أعاد السّؤال وسأل عن مقدار ما ينفق؟ فنزل قوله: {قل العفو} أَيْ: ما فضل من المال عن العيال وكان الرَّجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه وينفق باقيه إلى أن فُرضت الزَّكاة فنسخت آية الزَّكاة التي في براءة هذه الآية وكلَّ صدقةٍ أُمروا بها قبل الزَّكاة {كذلك} أَيْ: كبيانه في الخمر والميسر أو في الإِنفاق {يبين الله لكم الآيات} لتتفكَّروا في أمر الدُّنيا والآخرة فتعرفوا فضل الآخرة على الدُّنيا(1/164)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{ويسألونك عن اليتامى} كانت العرب في الجاهليَّة يُشدِّدون في أمر اليتيم ولا يُؤاكلونه وكانوا يتشاءمون بملابسة أموالهم فلمَّا جاء الإِسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {قل إصلاح لهم خير} يعني: الإِصلاح لأموالهم من غير أجرةٍ خيرٌ وأعظم أجراً {وإن تخالطوهم} تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم {فإخوانكم} أَيْ: فهم إخوانكم والإِخوانُ يُعين بعضهم بعضاً ويُصيب بعضهم من مال بعضٍ {والله يعلم المفسد} لأموالهم {من المصلح} لها فاتقَّوا الله في مال اليتيم ولا تجعلوا مخالطتكم إيَّاهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقٍّ {ولو شاء الله لأعنتكم} لضيَّق عليكم وآثمكم في مخالطتكم ومعناه: التَّذكير بالنِّعمة في التَّوسعة {إِنَّ اللَّهَ عزيزٌ} في ملكه {حكيم} فيما أمر به(1/166)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} نزلت في أبي مرثد الغنويِّ كانت له خليلةٌ مشركةٌ فلمَّا أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحلُّ له أن يتزوَّج بها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية والمشركات ها هنا عامَّة في كلِّ من كفرت بالنبي صلى الله عليه وسلم حرَّم الله تعالى بهذه الآية نكاحهنَّ ثمَّ استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة فبقي نكاح الأَمَة الكتابية على التَّحريم {ولأَمةٌ مؤمنةٌ} نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أَمَةٌ مؤمنةٌ فأعتقها وتزوَّجها فطعن عليه ناسٌ وعرضوا عليه حُرَّةً مشركةً فنزلت هذه الآية وقوله: {ولو أعجبتكم} المشركة بمالها وجمالها {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحالٍ {أولئك} أَي: المشركون {يدعون إلى النَّار} أَي: الأعمال الموجبة للنَّار {وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ والمغفرة} أَيْ: العمل الموجب للجنَّة والمغفرة {بإذنه} بأمره يعني: إنَّه بأوامره يدعوكم(1/166)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{ويسألونك عن المحيض} (ذكر المفسرون أنَّ العرب كانت إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يَسَّاكَنُوا معها في بيت كفعل المجوس) فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف نصنع بالنِّساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية والمحيض: الحيض {قل هو أذىً} أَيْ: قذرٌ ودمٌ {فاعتزلوا النساء في المحيض} أَيْ: مجامعتهنَّ إذا حضن {ولا تقربوهنَّ} أَيْ: ولا تجامعوهنَّ {حتى يَطَّهَّرْنَ} أي: يغتسلن ومَنْ قرأ {يَطْهُرْنَ} بالتَّخفيف أَيْ: ينقطع عنهنَّ الدم أي: توجد طهارة وهي الغسل {فإذا تطهَّرن} اغتسلن {فأتوهنَّ} أَيْ: جامعوهنَّ {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} بتجنُّبه في الحيض - وهو الفرج - {إنَّ الله يحب التوابين} من الذُّنوب و {المتطهرين} بالماء من الأحداث والجنابات(1/167)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{نساؤكم حرثٌ لكم} أَيْ: مزرع ومنب للولد {فأتوا حرثكم أنى شئتم} أَيْ: كيف شئتم ومن أين شئتم بعد أن يكون في صِمام واحدٍ فنزلت هذه الآية تكذيباً لليهود وذلك أنَّ المسلمين قالوا: إِنَّا نأتي النِّساء باركاتٍ وقائماتٍ ومستلقياتٍ ومن بين أيديهم ومن خلفهنَّ بعد أن يكون المأتي واحداً فقالت اليهود: ما أنتم إلاَّ أمثال البهائم لكنَّا نأتيهنَّ على هيئةٍ واحدةٍ وإنَّا لنجد في التَّوراة أنَّ كلَّ إِتيانٍ يؤتى النِّساء غير الاستلقاء دنسٌ عند الله فأكذب الله تعالى اليهود {وقدموا لأنفسكم} أَي: العمل لله بما يحبُّ ويرضى {واتقوا الله} فيما حدَّ لكم من الجماع وأمرِ الحائض {واعلموا أنكم ملاقوه} أَيْ: راجعون إليه {وبشر المؤمنين} الذين خافوه وحذروا معصيته(1/168)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{ولا تجعلوا الله عرضةٌ لأيمانكم} أَيْ: لا تجعلوا اليمين بالله سبحانه علَّةً مانعةً من البرِّ والتَّقوى من حيث تتعمَّدون اليمين لتعتلُّوا بها نزلت في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يُكلِّم ختنه ولا يدخل بينه وبين خصم له وجعل يقول: قد حلفتُ أَنْ لا أفعل فلا يحلُّ لي وقوله {أن تبروا} أَي: في أَنْ لا تبرُّوا أو لدفع أن تبرُّوا ويجوز أن يكون قوله: {أن تبروا} ابتداءً وخبره محذوف على تقدير: أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين النَّاس أولى أَي: البرُّ والتُّقى أولى {والله سميع عليمٌ} يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها(1/168)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} أَيْ: ما يسبق به اللِّسان من غير عقدٍ ولا قصدٍ ويكون كالصِّلة للكلام وهو مِثلُ قول القائل: لا والله وبلى واللَّهِ وقيل: لغو اليمين: اليمينُ المكفَّرة سمِّيت لغواً لأنَّ الكفَّارة تُسقط الإِثم منه {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أَيْ: عزمتم وقصدتم وعلى القول الثاني في لغو اليمين معناه: ولكن يؤاخذكم بعزمكم على ألا تبرُّوا وتعتلُّوا في ذلك بأيمانكم بأنَّكم حلفتم {والله غفورٌ حليم} يؤخِّر العقوبة عن الكفَّار والعُصاة(1/169)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
{للذين يؤلون من نسائهم} أَيْ: يحلفون أن لا يطؤوهنَّ {تربص أربعة أشهر} جعل الله تعالى الأجل في ذلك أربعة أشهر فإذا مضت هذه المدَّة فإمَّا أن يُطلِّق أو يطأ فإن أباهما جميعاً طلَّق عليه الحاكم {فإن فاؤوا} رجعوا عمَّا حلفوا عليه أَيْ: بالجماع {فإنَّ الله غفورٌ رحيم} يغفر له ما قد فعل (ولزمته كفَّارة اليمين)(1/169)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{وإن عزموا الطلاق} أَيْ: طلَّقوا ولم يفيؤوا بالوطء {فإنَّ الله سميع} لما يقوله {عليمٌ} بما يفعله(1/169)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{والمطلقات} أَيْ: المُخلَّيات من حبال الأزواج يعني: البالغات المدخول بهنَّ غير الحوامل لأنَّ في الآية بيان عدتهنَّ {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} أَيْ: ثلاثة أطهار يعني: ينتظرون انقضاء مدة ثلاثة أطهارٍ حتى تمرَّ عليهن ثلاثة أطهارٍ وقيل: ثلاث حيضٍ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أرحامهنَّ} يعني: الولد ليبطلن حقَّ الزوج من الرَّجعة {إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر} وهذا تغليظٌ عليهنَّ في إِظهار ذلك {وبعولتهن} أَيْ: أزواجهنَّ {أحقُّ بردهنَّ} بمراجعتهنَّ {في ذلك} في الأجل الذي أُمرْنَ أن يتربصن فيه {إن أرادوا إصلاحاً} لا إضراراً {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: للنِّساء على الرَّجال مثلُ الذي للرِّجال عليهنَّ من الحقِّ بالمعروف أَيْ: بما أمر الله من حقِّ الرَّجل على المرأة {وللرجال عليهن درجة} يعني: بما ساقوا من المهر وأنفقوا من المال {والله عزيز حكيم} يأمر كما أراد ويمتحن كما أحبَّ(1/169)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{الطلاق مرتان} كان طلاقُ الجاهلية غير محصورٍ بعددٍ فحصر الله الطلاق بثلاثٍ فذكر في هذه الآية طلقتين وذكر الثَّالثة في الآية الأخرى وهي قوله:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فلا تحلُّ له من بعد} الآية وقيل: المعنى في الآية: الطَّلاق الذي يُملك فيه الرَّجعة مرَّتان
{فإمساك بمعروف} يعني: إذا راجعها بعد الطَّلقتين فعليه إمساكٌ بما أمر الله تعالى {أو تسريحٌ بإحسان} وهو أَنْ يتركها حتى تَبِينَ بانقضاء العِدَّة ولا يراجعها ضراراً {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} لا يجوز للزَّوج أن يأخذ من امرأته شيئاً ممَّا أعطاها من المهر ليطلِّقها إلاَّ في الخُلع وهو قوله {إِلا أَنْ يخافا} أي: يعلما {أن لا يُقيما حدود الله} والمعنى: إنَّ المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بُغضاً له وخاف الزَّوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها حلَّ له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك {فإنْ خفتم} أيُّها الولاة والحكَّام {أن لا يقيما حدود الله} يعني: الزَّوجين {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأة لا جُناح عليها فيما أعطته ولا على الرَّجل فيما أخذ {تلك حدود الله} يعني: ما حدَّه من شرائع الدِّين(1/170)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
{فإن طلقها} يعني: الزوج المُطلِّق اثنتين {فلا تحلُّ له} المطلَّقة ثلاثاً {من بعد} أَيْ: من بعد التَّطليقة الثَّالثة {حتى تنكح زوجاً غيره} غير المُطلِّق (ويجامعها) {فإن طلقها} أَيْ: الزَّوج الثَّاني {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} بنكاحٍ جديدٍ {إن ظنا} أَيْ: علما وأيقنا {أَنْ يقيما حدود الله} ما بيَّن الله من حقِّ أحدهما على الآخر(1/171)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ} أَيْ: قاربن انقضاء عدتهنَّ {فأمسكوهنَّ بمعروف} أَيْ: راجعوهنّ بإشهادٍ على الرَّجعة وعقد لها لا بالوَطْء كما يقول أبو حنيفة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَي: اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ ويكنَّ أملك بأنفسهنَّ {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضراراً} أَيْ: لا تُراجعوهنَّ مضارَّةً وأنتم لا حاجة بكم إليهنَّ {لتعتدوا} عليهنَّ بتطويل العِدَّة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الاعتداء {فقد ظلم نفسه} ضرَّها وأثم بينه وبين الله عزَّ وجل {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} كان الرَّجل يُطلِّق في الجاهليَّة ويقول: إنَّما طلَّقت وأنا لاعبٌ فيرجع فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية {واذكروا نعمة الله عليكم} بالإِسلام {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: القرآن {والحكمة} مواعظ القرآن(1/171)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} انقضت عدتهن {فلا تعضلوهنَّ} لا تمنعوهنَّ {أن ينكحن أزواجهنَّ} بنكاحٍ جديدٍ أَي: الذين كانوا أزواجاً لهنَّ نزلت في أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها فلمَّا انقضت عدَّتها جاء يخاطبها فأبى معقلٌ أن يُزوِّجها ومنعها بحقِّ الولاية {إذا تراضوا بينهم بالمعروف} بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائزٍ {ذلك} أَيْ: أَمْرُ اللَّهِ بتَرْكِ العضل {يوعظ به مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى} أَيْ: ترك العضل خير {لكم} وأفضلُ {وأطهر} لقلوبكم من الرِّيبة وذلك أنَّهما إذا كان في قلب كلِّ واحدٍ منهما علاقةُ حبِّ لم يُؤمن عليهما {والله يعلم} ما لكم فيه من الصَّلاح(1/172)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{والوالداتُ يرضعن أولادهن} لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر وهو أمر استحبابٍ لا أمر إيجابٍ يريد: إنهنَّ أحقُّ بالإِرضاع من غيرهنَّ إذا أردن ذلك {حولين} سنتين {كاملين} تامين وهذا تحديدٌ لقطع التَّنازع بين الزَّوجين إذا اشتجرا في مدَّة الرَّضاع يدلُّ على هذا قوله {لمن أراد} أي: هذا التقرير والبيان {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} {وَعَلَى الْمَوْلُودِ له} أَي: الأب {رزقهن وكسوتهنَّ} رزق الوالدات ولباسهنَّ قال المفسرون: وعلى الزَّوج رزق المرأة المُطلَّقة وكسوتها إذا أرضعت الولد {بالمعروف} بما يعرفون أنَّه عدلٌ على قدر الإِمكان وهو معنى قوله: {لا تكلف نفس إلاَّ وسعها} لا تلزم نفسٌ إلاَّ ما يسعها {لا تضار والدة بولدها} لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أَنْ رضيت بإرضاعه وألفها الصَّبيُّ ولا تُلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تُضَارُّه بذلك وهو قوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك} هذا نسقٌ على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} بمعنى: على وارث الصبيِّ - الذي لو مات الصبيُّ وله مالٌ ورثه - مثل الذي كان على أبيه في حياته وأراد بالوارث مَنْ كان من عصبته كائناً من كان من الرِّجال {فإن أرادا} يعني: الأبوين {فصالاً} فطاماً للولد {عن تراضٍ منهما} قبل الحولين {وتشاور} بينهما {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أولادكم} مراضع غير الوالدة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فلا إثم عليكم {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: إذا سلَّمتم إلى الأُمِّ أجرتها بمقدار ما أرضعت(1/172)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{والذين يتوفون منكم} أَيْ: يموتون {ويذرون} ويتركون (ويُخَلِّفُون) {أزواجاً} نساءً {يتربصن بأنفسهنَّ} خبرٌ في معنى الأمر {أربعة أشهر وعشرا} هذه المدَّة عدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إلاَّ أن تكون حاملاً {فإذا بلغن أجلهنَّ} انقضت عدَّتهنَّ {فلا جناح عليكم} أيُّها الأولياء {فيما فعلن في أنفسهنَّ بالمعروف} أَيْ: مِنْ تزوُّج الأكفاء بإذن الأولياء هذا تفسير المعروف ها هنا لأنَّ التي تُزَوِّج نفسها سمَّاها النبي صَلَّى الله عليه وسلم زانية وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية(1/173)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به} أَيْ: تكلَّمتم به من غير تصريح وهو أن يُضمِّن الكلام دلالةً على ما يريد {من خطبة النساء} أَي: التماس نكاحهنَّ في العدَّة يعني: المتوفَّى عنها الزَّوج يجوز التعريض بخطبتها في العدَّة وهو أن يقول لها وهي في العدَّة: إنَّك لجميلةٌ وإنَّك لنافقةٌ وإنَّك لصالحةٌ وإنَّ من عزمي أَنْ أتزوَّج وما اشبه ذلك {أو أَكْنَنْتُمْ} أسررتم وأضمرتم {في أنفسكم} من خطبتهنَّ ونكاحهنَّ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يعني: الخطبة {وَلَكِنْ لا تواعدوهن سراً} أَيْ: لا تأخذوا ميثاقهنَّ أن لا ينكحن غيركم {إلاَّ أن تقولوا قولا معروفا} أي: التعريض بالخطبة كما ذكرنا {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أيْ: لا تصححوا عقدة النِّكاح {حتى يبلغ الكتاب أجله} حتى تنقضي العدَّة المفروضة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: مُطَّلعٌ على ما في ضمائركم {فاحذروه} فخافوه(1/174)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لم تمسوهنَّ} نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأة ولم يسمِّ لها مهراً ثمَّ طلَّقها قبل أن يمسَّها فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز ومعناه: لا سبيل للنِّساء عليكم إنْ طلقتموهنَّ من قبل المسيس والفرض بصداقٍ ولا نفقة وقوله: {أو تفرضوا لهنَّ فريضة} أَيْ: تُوجبوا لهنَّ صداقاً {ومتعوهنَّ} أَيْ: زوِّدوهنَّ وأعطوهنَّ من ما لكم ما يتمتَّعْنَ به فالمرأة إذا طُلِّقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنَّها تستحق المتعة بإجماع العلماء ولا مهرَ لها و {على الموسع} أَي: الغنيِّ الذي يكون في سعةٍ من غناه {قدره} أَيْ: قدر إمكانه {وعلى المقتر} الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلُّها أقلُّ ماله ثمن قال الشافعيُّ: وحسنٌ ثلاثون درهماً {متاعاً} أَيْ: متعوهنَّ متاعاً {بالمعروف} بما تعرفون أنَّه القصد وقدر الإِمكان {حقاً} واجباً {على المحسنين}(1/175)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ} هذا في المُطلَّقة بعد التَّسمية وقبل الدُّخول حكم الله تعالى بنصف المهر وهو قوله: {فنصف ما فرضتم} أَيْ: فالواجبُ نصف ما فرضتم {إلاَّ أن يعفون} أَي: النِّساء أَيْ: إلاَّ أَنْ يتركن ذلك النِّصف فلا يُطالبن الأزواج به {أو يعفو الذي بيده عقده النكاح} أَي: الزَّوج لا يرجع في شيءٍ من المهر فيدع لها المهر الذي وفَّاه عملاً {وأن تعفو} خطابٌ للرِّجال والنِّساء {أقرب للتقوى} أَيْ: أدعى إلى اتِّقاء معاصي الله لأنَّ هذا العفو ندبٌ فإذا انتدب المرء له عُلم إنَّه - لما كان فرضاً - أشدُّ استعمالاً {ولا تنسوا الفضل بينكم} لا تتركوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض هذا أمرٌ للزَّوج والمرأة بالفضل والإِحسان(1/175)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
{حافظوا على الصلوات} بأدائها في أوقاتها {والصلاة الوسطى} أَيْ: صلاة الفجر لأنَّها بين صلاتي ليلٍ وصلاتي نهارٍ أفردها بالذِّكر تخصيصاً {وقوموا لله قانتين} مُطيعين(1/176)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{فإن خفتم فرجالاً} أَيْ: إن لم يمكنكم أن تصلُّوا موفِّين للصَّلاة حقًَّها فصلُّوا مُشاةً على أرجلكم {أو ركباناً} على ظهور دوابِّكم وهذا في المطاردة والمسايفة {فإذا أمنتم فاذكروا الله} أَيْ: فصلُّوا الصَّلوات الخمس تامَّةً بحقوقها {كَمَا عَلَّمَكُمْ ما لم تكونوا تعلمون} كما افترض عليكم في مواقيتها(1/176)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية} فعليهم وصيةٌ {لأزواجهم} لنسائهم وهذا كان في ابتداء الإِسلام لم يكن للمرأة ميراثٌ من زوجها وكان على الزَّوج أن يُوصي لها بنفقة حولٍ فكان الورثة ينفقون عليها حولاً وكان الحول عزيمةً عليها في الصَّبر عن التَّزوُّج وكانت مُخيَّرة في أن تعتدَّ إن شاءت في بيت الزَّوج وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها فذلك قوله: {متاعاً إلى الحول} أَيْ: متعوهنَّ متاعاً يعني: النَّفقة {غير إخراجٍ} أَيْ: من غير إخراج الورثة إيَّاها {فإن خرجن فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميِّت فِي قطع النَّفقة عنهنَّ وترك منعها عن التَّشوف للنَّكاح والتَّصنُّع للأزواج وذلك قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} وهذا كلُّه منسوخٌ بآية المواريث وعدَّةِ المتوفى عنها زوجها(1/176)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} لمَّا ذكر الله تعالى متعة المُطلَّقة في قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قال رجلٌ من المسلمين: إنْ أحسنتُ فعلتُ وإن لم أُرد ذلك لم أفعل فأوجبها الله تعالى على المتقين الذين يتَّقون الشِّرك(1/177)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{كذلك يبين الله لكم آياته} شبّه اللَّهُ البيانَ الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها(1/177)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ ديارهم} ألم تعلم ألم ينته علمك إلى هؤلاء وهم قومٌ من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطاعون حتى نزلوا واديا فأماتهم الله جميعاً فذلك قوله: {حذر الموت} أَيْ: لحذر الْمَوْتِ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبةً لهم ثمَّ بعثهم ليستوفوا بقيَّة آجالهم {إنَّ الله لذو فضل على الناس} أَيْ: تفضُّلٍ عليهم بأَنْ أحياهم بعد موتهم(1/177)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
{وقاتلوا في سبيل الله} يحرِّض المؤمنين على القتال {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقوله المُتعلِّل {عليمٌ} بما يضمره فإيَّاكم والتَّعلُّلَ(1/178)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أَيْ: مَنْ ذا الذي يعمل عمل المُقرض بأن يقدِّم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدَّم وهذا استدعاءٌ من الله تعالى إلى أعمال البرِّ {والله يقبض} أَيْ: يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء {ويبسط} أي: ويوسِّع على من يشاء(1/178)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَي: إلى الجماعة {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} سألوا نبيَّهم أشمويل عليه السَّلام ملكاً تنتظم به كلمتهم ويستقيم حالهم في جهاد عدوِّهم وهو قوله: {نقاتل في سبيل الله} {فقال} لهم ذلك النَّبيُّ: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا} أَيْ: لعلَّكم أَنْ تجبنوا عن القتال {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله} أَيْ: وما يمنعنا عن ذلك؟ {وقد أخرجنا من ديارنا} {و} أُفردنا من {أبنائنا} بالسبي والقتل إذا بلغ الأمر منَّا هذا فلا بدَّ من الجهاد قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا منهم} وهم الذين عبروا النَّهر ويأتي ذكرهم(1/178)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لكم طالوت ملكاً} أَيْ: قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك {قالوا} : كيف يملك علينا؟ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل ولم يكن من سبط المملكة فأنكروا ملكه وقالوا: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من المال} أَيْ: لم يُؤت ما يتملَّك به الملوك {قال} النبيُّ: {إنَّ الله اصطفاه عليكم} (اختاره) بالملك {وزاده بسطة في العلم والجسم} كان طالوت يومئذٍ أعلم رجلٍ في بني إسرائيل وأجمله وأتمَّه والبسطة: الزِّيادة في كلِّ شيء {والله يؤتي ملكه من يشاء} ليس بالوراثة {والله واسع} أَيْ: واسع الفضل والرِّزق والرَّحمة فسألوا نبيَّهم على تمليك طالوت آية فـ(1/179)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يأتيكم التابوت} وكان تابوتاً أنزله الله تعالى على آدم عليه السَّلام فيه صور الأنبياء عليهم السَّلام كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم فغلبتهم العمالقة على التَّابوت فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال: إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت وقوله: {فيه سكينة من ربكم} أَيْ: طمأنينةٌ كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك وكان ذلك من أمر الله تعالى {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} أَيْ: تركاه هما وكانت البقيَّة نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون وقفيزاً من المنِّ الذي كان ينزل عليهم {تحمله الملائكة} أَي: التَّابوت {إنَّ في ذلك لآية} أَيْ: في رجوع التَّابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّك طالوت عليكم {إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين} أَيْ: مصدِّقين(1/179)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{فلما فصل طالوت بالجنود} أَيْ: خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدوِّ {قال} لهم طالوت: {إنَّ الله مبتليكم} أَيْ: مُختبركم ومُعاملكم مُعاملة المختبر {بنهرٍ} أَيْ: بنهر فلسطين ليتميِّز المحقِّق ومَنْ له نيَّةٌ في الجهاد من المُعذِّر {فمن شرب منه} أَيْ: من مائه {فليس مني} أَيْ: من أهل ديني {ومن لم يطعمه} لم يذقه {فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أَيْ: مرَّةً واحدةً أَيْ: أخذ منه بجرَّةٍ أو قِربةٍ وما أشبه ذلك مرَّةً واحدةً قال لهم طالوت: مَنْ شرب من النَّهر وأكثر فقد عصى الله ومن اغترف غرفة بيده أقنعته فهجموا على النَّهر بعد عطش شديد فوقع أكثرهم في النَّهر وأكثروا الشُّرب فهؤلاء جَبُنوا عن لقاء العدو وأطاع قومٌ قليلٌ عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف فقويت قلوبهم وعبروا النَّهر فذلك قوله: {فشربوا منه إلاَّ قليلاً منه} وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً {فلما جاوزه} أَي: النَّهر {هو والذين آمنوا معه قالوا} يعني: الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال} يعني: القليل الذين اغترفوا وهم {الذين يظنون} أَيْ: يعلمون {أنهم ملاقوا الله} أَيْ: راجعون إليه: {كم مِنْ فئة قليلة} أَيْ: جماعةٍ قَلِيلَةٍ {غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مع الصابرين} بالمعونة والنَّصر(1/180)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
{ولما برزوا} أَيْ: خرجوا {لجالوت وجنوده} أَيْ: لقتالهم {قالوا ربنا أفرغ} أصببْ {علينا صبراً وثبت أقدامنا} بتقوية قلوبنا(1/181)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{فهزموهم} فردُّوهم وكسروهم {بإذن الله} بقضائه وقدره {وقتل داود} النَّبيُّ وكان في عسكر بني إسرائيل {جالوت} الكافر {وآتاه الله الملك} (أعطى الله داود ملك بني إسرائيل) {والحكمة} أَيْ: جمع له الملك والنُّبوَّة {وعلَّمه مما يشاء} صنعة الدروع ومنطق الطيور {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لولا دفع الله بجنود المسلين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرَّبوا البلاد والمساجد(1/181)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{تلك آيات الله} أي: هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله أَيْ: علامات توحيده {وإنك لمن المرسلين} أَيْ: أنت من هؤلاء الذين قصصتُ عليك آياتهم(1/181)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
````` {تلك الرسل} أَيْ: جماعة الرُّسل {فضلنا بعضهم على بعض} أَيْ: لم نجعلهم سواءً في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرِّسالة {منهم مَنْ كلَّم الله} وهو موسى عليه السَّلام {ورفع بعضهم درجات} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى النَّاس كافَّةً {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} مضى تفسيره {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بعدهم} أَيْ: من بعد الرُّسل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات} من بعد ما وضحت لهم البراهين {وَلَكِنِ اختلفوا فمنهم مَنْ آمن} ثبت على إيمانه {ومنهم مَنْ كفر} كالنَّصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرقاً ثمَّ تحاربوا {ولو شاء الله ما اقتتلوا} كرَّر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيباً لمن زعم أنَّهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لم يجري به قضاءٌ من الله {ولكنَّ الله يفعل ما يريد} فيوفِّقُ مَنْ يشاء فضلاً ويخذل من يشاء عدلاً(1/182)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ممَّا رزقناكم} أَي: الزَّكاة المفروضة وقيل: أراد النَّفقة في الجهاد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فيه} يعني: يوم القيامة يعني: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدَلٌ ولا فداءٌ {ولا خلة} ولا صداقةٌ {ولا شفاعة} عمَّ نفي الشَّفاعة لأنَّه عنى الكافرين بأنَّ هذه الأشياء لا تنفعهم ألا ترى أنَّه قال: {والكافرون هم الظالمون} أَيْ: هم الذين وضعوا أمر الله فِي غير موضعه(1/182)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{الله لا إله إلاَّ هو الحي} الدَّائم البقاء {القيوم} القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم {لا تأخذه سنة} وهي أوَّل النُّعاس {ولا نوم} وهو الغشية الثَّقيلة {له ما في السماوات وما في الأرض} ملكا وخلقاً {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} أَيْ: لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بأمره إبطالاً لزعم الكفَّار أنَّ الأصنام تشفع لهم {يعلم ما بين أيديهم} من أمر الدُّنيا {وما خلفهم} من أمر الآخرة {ولا يحيطون بشيء من علمه} أَيْ: لا يعلمون شيئاً من معلوم الله تعالى: {إلاَّ بما شاء} إلاَّ بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه {وسع كرسيه السماوات والأرض} أي: احتملهما وأطاقهما يعني: ملكه وسلطانه وقيل: هو الكرسيُّ بعينه وهو مشتمل بعظمته على السماوات والأرض وروي عن ابن عباس أن الكرسي علمه {ولا يَؤُوْدُهُ} أَيْ: لا يُجهده ولا يُثقله {حفظهما} أي: حفظ السماوات والأرض {وهو العليُّ} بالقدرة ونفوذ السُّلطان عن الأشباه والأمثال {العظيم} عظيم الشَّأن(1/182)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{لا إكراه في الدِّين} بعد إسلام العرب لأنهم أُكرهوا على الإِسلام فلم يُقبل منهم الجزية لأنَّهم كانوا مشركين فلمَّا أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية
{قد تبين الرشد من الغي} ظهر الإِيمان من الكفر والهدى من الضَّلالة بكثرة الحجج {فمن يكفر بالطاغوت} بالشَّيطان والأصنام {ويؤمن بالله} واليوم الآخر {فقد استمسك} أَيْ: تمسَّك {بالعروة الوثقى} عقد لنفسه عقداً وثيقاً وهو الإِيمان وكلمة الشَّهادتين {لا انفصام لها} أي: لا انقطاع لها {والله سميع} لدعائك يا محمَّدُ أيَّايَ بإسلام أهل الكتاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة ويسأل الله ذلك {عليم} بحرصك واجتهادك(1/183)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{الله وليُّ الذين آمنوا} أَيْ: ناصرهم ومتولي أمرهم {يخرجهم من الظلمات} من الكفر والضَّلالة إلى الإِيمان والهداية {والذين كفروا} أي: اليهود {أولياؤهم الطاغوت} يعني: رؤساءهم كعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب {يُخْرِجُونَهُمْ من النور} يعني: ممَّا كانوا عليه من الإِيمان بمحمد عليه السلام قبل بعثه {إلى الظلمات} إلى الكفر به بعد بعثه(1/184)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{ألم تر إلى الذي حاجَّ} جادل وخاصم {إبراهيم في ربه} حين قال له: مَنْ ربُّك؟ {أن آتاه الله الملك} أي: الملك الذي آتاه الله يريد: بطرُ الملك حمله على ذلك وهو نمروذ بن كنعان {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فقال عدو الله: {أنا أحيي وأميت} فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياةٍ ولا موتٍ فلما لبَّس في الحجَّة بأنْ قال: أنا أفعل ذلك احتجَّ إبراهيم عليه بحجَّةٍ لا يمكنه فيها أن يقول: أنا أفعل ذلك وهو قوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كفر} أي: انقطع وسكت(1/184)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{أو كالذي مرَّ على قرية} عطفٌ على المعنى لا على اللفظ كأنه قال: أرأيت الذي حاجَّ أو كالذي مرَّ وهو عزيز {على قرية} وهي إيليا {وهي خاوية} ساقطةٌ مُتهدِّمةٌ {على عروشها} أي: سقوفها {قال: أنى يحيي هذه الله} أَيْ: من أين يُحيي هذه الله {بعد موتها} يعمرها بعد خرابها؟ ! استعبد أَنْ يفعل الله ذلك فأحبَّ الله أن يُريه آيةً في نفسه في إحياء القرية {فأماته الله مائة عام} وذلك أنه مرَّ بهذه القرية على حمارٍ ومعه ركوة عصيرٍ وسلةُ تينٍ فربط حماره وألقى الله عز وجل عليه النَّوم فلمَّا نام نزع الله عز وجل روحه مائة سنةٍ فلمَّا مضت مائة سنةٍ أحياه الله تعالى وذلك قوله: {ثمَّ بعثه} {قال كم لبثت} كم أقمت ومكثت ها هنا؟ {قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} أَي: التِّين {و} إلى {شرابك} أي: العصير {لم يتسنَّه} أَيْ: لم يتغيَّر ولم ينتن بعد مائة سنةٍ وأراه علامة مكثه مائة سنةٍ ببلى عظام حماره فقال: {وانظر إلى حمارك} فرأى حماره ميتاً عظامه بيضٌ تلوح {ولنجعلك آية للناس} الواو زائدة والمعنى: لبثتَ مائة عامٍ لنجعلك آيةً للنَّاس وكونه آيةً أَنْ بعثه شابّاً أسود الرَّأس واللِّحية وبنو بنيه شِيبٌ {وانظر إلى العظام} أَيْ: عظام حماره {كيف نُنْشِزُها} أَيْ: نحييها يقال: أَنشرَ اللَّهُ الموتى وقرىء: {ننشزها} أَيْ: نرفعها من الأرض ونشوز كلِّ شيءٍ: ارتفاعه {ثم نكسوها لحماً فلما تبيَّن له} شاهدَ ذلك {قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} أَيْ: أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإِشكال وتأويله: إنِّي قد علمت مُشاهدةً ما كنت أعلمه غيباً(1/185)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} وذلك أنَّه رأى جيفةً بساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودوابُّ البحر ففكَّر كيف يجتمع ما قد تفرَّق منها وأحبَّ أن يرى ذلك فسأل الله تعالى أن يُريه إحياء الموتى فقال الله تعالى: {أولم تؤمن} ألست آمنت بذلك؟ {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} بالمُعاينة بعد الإِيمان بالغيب {قال: فخذ أربعة من الطير} طاوُساً ونسراً وغراباً وديكاً {فصرهنَّ إليك} أَيْ: قطِّعهنَّ كأنَّه قال: خذ إليك أربعة من الطَّير فقطعهنَّ {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} ثمَّ أُمر أن يخلط ريشها ولحومها ثمَّ يفرِّق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبلٍ ففعل ذلك إبراهيم وأمسك رؤوسهنَّ عنده ثمَّ دعاهنَّ فقال: تعالين بإذن الله فجعلت أجزاء الطُّيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها ثمَّ أقبلن على رؤوسهنّ فذلك قوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يمتنع عليه ما يريد {حكيم} فيما يدبِّر فلمَّا ذكر الدَّلالة على توحيده بما أتى الرُّسل من البيِّنات حثٍّ على الجهاد والإنفاق فيه فقال:(1/186)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: مَثلُ صدقاتهم وإنفاقهم {كمثل حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل} يريد أنَّه يضاعف الواحد بسبع مائةٍ وجعله كالحبَّة تنبت سبع مائة حبَّةٍ ولا يشترط وجود هذا على ضرب المثل(1/187)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً} الآية وهو أن يقول: أحسنتُ إلى فلانٍ ونعشته وجبرت خلله يمنُّ بما فعل {ولا أذىً} وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحبُّ الذي أُحسن إليه وقوفه عليه(1/187)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{قول معروفٌ} كلامٌ حسنٌ وردٌّ على السَّائل جميل {ومغفرة} أَيْ: تجاوزٌ عن السَّائل إذا استطال عليه عند ردِّه {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} أَيْ: مَنٌّ وتعييرٌ للسَّائل بالسُّؤال {والله غنيٌّ} عن صدقة العباد {حليم} إذ لم يعجِّل بالعقوبة على مَنْ يمنُّ(1/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم} أَيْ: ثوابها {بالمنِّ} وهو أنْ يمنَّ بما أعطى {والأذى} وهو أن يوبِّخ المُعطي المُعطى له {كالذي ينفق} أَيْ: كإبطاله رياء النَّاس وهو المُنافق يعطي ليوهم أنَّه مؤمنٌ {فمثله} أَيْ: مَثلُ هذا المنافق {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصابه وابل} مطرٌ شديدٌ {فتركه صلداً} برَّاقاً أملس وهذا مَثلٌ ضربه الله تعالى للمانِّ والمنافق يعني: إنَّ النَّاس يرون في الظَّاهر أنَّ لهؤلاء أعمالاً كما يُرى التُّراب على هذا الحجر فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّ كلُّه وبطل كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان فلا يقدر أحدٌ من الخلق على ذلك التُّراب كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربِّهم لم يجدوا شيئاً وهو قوله جلَّ وعزَّ {: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ: على ثواب شَيْءٍ {مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافرين} لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم (ثمَّ ضرب مثلاً لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمنُّ ولا يؤذي فقال) :(1/187)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ومَثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً} أَيْ: يقيناً وتصديقاً {من أنفسهم} بالثَّواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثَّواب {كمثل جنة بربوةٍ} وهي ما ارتفع من الأرض وهي أكثر ريعاً من المستفل {أصابها وابلٌ} وهو أشدُّ المطر {فآتت} أعطت {أكلها} ما يؤكل منها {ضِعْفَيْن} أَيْ: حملت في سنة من الرَّيع ما يحمل غيرها في سنتين {فإن لم يصبها وابلٌ} وهو أشدُّ المطر وأصابها طلٌّ وهو المطر الضعيف فتلك حالها في البركة يقول: كما أنَّ هذه الجنَّة تُثمر في كلِّ حالٍ ولا يخيب صاحبها قلَّ المطر أو كَثُر كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّت نفقته أم كثرت ثمَّ قرَّر مَثَل المُرائي في النَّفقة والمُفرِّط في الطَّاعة إلى أَنْ يموت بقوله:(1/188)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{أيود أحدكم} يقول: مثلُهم كمثل رجلٍ كانت له جنَّةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} فضعف عن الكسب وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه {فأصابها إعصار} وهي ريحٌ شديدةٌ {فيه نارٌ فاحترقت} ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السِّنِّ وكثرة العيال وطفولة الولد فبقي هو وأولاده عجزةً مُتحيِّرين {لا يقدرون على} حيلةٍ كذلك يُبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما {كذلك يبين الله} كمثل بيان هذه الأقاصيص {يبين الله لكم الآيات} في أمر توحيده(1/188)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} نزلت في قومٍ كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم والمراد بالطَّيِّبات هاهنا الجياد الخيار ممَّا كسبتم أَيْ: التِّجارة {وممَّا أخرجنا لكم من الأرض} يعني: الحبوب التي يجب فيها الزَّكاة {ولا تيمموا} أَيْ: لاتقصدوا {الخبيث منه تنفقون} أَيْ: تنفقونه {ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا} أَيْ: بآخذي ذلك الخبيث لو أُعطيتم في حقٍّ لكم إلاَّ بالإِغماض والتَّساهل وفي هذا بيانُ أنَّ الفقراء شركاء ربِّ المال والشَّريك لا يأخذ الرَّديء من الجيِّد إلاَّ بالتَّساهل(1/189)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{الشيطانُ يعدكم الفقر} أَيْ: يُخوِّفكم به يقول: أَمسك مالك فإنَّك إنْ تصدَّقت افتقرت {ويأمركم بالفحشاء} بالبخل ومنع الزَّكاة {والله يعدكم} أَنْ يجازيكم على صدقتكم {مغفرة} لذنوبكم وأَنْ يُخلف عليكم(1/189)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{يؤتي الحكمة} علم القرآن والفهم فيه وقيل: هي النُّبوَّة {من يشاء} {وما يذكر إلا أولو الألباب} أَيْ: وما يتَّعظ إلاَّ ذوو العقول(1/189)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
{وما أنفقتم من نفقة} أدَّيتم من زكاة {أو نذرتم من نذر} في صدقة التَّطوُّع أَيْ: نويتم أن تصَّدَّقوا بصدقة {فإن الله يعلمه} يجازي عليه {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وعيدٌ لمَنْ أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياءٍ أو معصيةٍ أو من مال مغصوبٍ(1/190)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{إن تبدوا الصدقات} سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صدقة السرِّ أفضلُ أم صدقة العلانيَة؟ فنزلت هذه الآية والمفسرون على أنَّ هذه الآية في التَّطوُّع لا في الفرض فإِنَّ الفرضَ إظهاره أفضل وعند بعضهم الآية عامَّةٌ في كلِّ صدقةٍ وقوله: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} أي يغفرها لكم ومن للصلة والتأكيد(1/190)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{ليس عليك هداهم} نزلت حين سألت قُتيلة أمُّ أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئاً وهي مشركةٌ فأبت وقالت: حتى أستأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمزلت هذه الآية والمعنى: ليس عليك هُدى مَن خالفك فمنعهم الصَّدقة ليدخلوا في الإسلام {وما تنفقوا من خيرٍ} أَيْ: مالٍ {فلأنفسكم} ثوابه {وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله} خبرٌ والمراد به الأمر وقيل: هو خاصٌّ في المؤمنين أَي: قد علم الله ذلك منكم {وما تنفقوا من خيرٍ} من مالٍ على فقراء أصحاب الصُّفَّة {يوف إليكم} أًيْ: يوفَّر لكم جزاؤه {وأنتم لا تظلمون} أَيْ: لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً(1/190)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{للفقراء} أَيْ: هذه الصَّدقات والإِنفاق التي تقدَّم ذكرها {للفقراء الذين أحصروا} أَيْ: حُبسوا أَيْ: هم فعلوا ذلك حبسوا أنفسهم {في سبيل الله} في الجهاد يعني: فقراء المهاجرين {لا يستطيعون ضرباً} أَيْ: سيراً {في الأرض} لا يتفرَّغُون إلى طلب المعاش لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التَّصرُّف حثَّ الله تعالى المؤمنين على الإِنفاق عليهم {يحسبهم الجاهل} يخالهم {أغنياء من التعفف} عن السُّؤال {تعرفهم بسيماهم} بعلامتهم التَّخشُّع والتَّواضع وأثر الجهد {لا يسألون الناس إلحافاً} أَيْ: إلحاحاًً إذا كان عندهم غداءٌ لم يسألوا عشاءً وإذا كان عندهم عَشاءٌ لم يسألوا غداءً(1/191)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار} نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فَتَصدَّق بدرهمٍ سرَّاً ودرهمٍ علانيةً ودرهمٍ ليلاً ودرهمٍ نهاراً(1/191)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{الذين يأكلون الربا} أيْ: يُعاملون به فَنَبَّه بالأكل على غيره {لا يقومون} من قبورهم يوم القيامة {إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان} يصيبه بجنونٍ {من المس} من الجنون وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً {ذلك} أَيْ: ذلك الذي نزل بهم {بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} وهو أنَّ المشركين قالوا: الزِّيادة على رأس المال بعد مَحِلِّ الدَّين كالزِّيادة بالرِّبح في أوَّل البيع فكذَّبهم الله تعالى فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جاءه موعظة من ربه} أَيْ: وُعظ {فانتهى} عن أكل الرِّبا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أَّيْ: ما أكل من الرِّبا ليس عليه ردُّ ما أخذ قبل النَّهي {وأمره إلى الله} والله وليُّ أمره {ومَنْ عاد} إلى استحلال الرِّبا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1/192)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أَيْ: ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيراً كما يمحق القمر {ويربي الصدقات} يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله {والله لا يحبُّ كل كفار} بتحريم الرِّبا مستحلٍّ له {أثيم} فاجر بأكله (مصر عليه)(1/192)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}(1/192)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ من الربا} نزلت في العباس وعثمان رضي الله عنهما طلباً رباً لهما كانا قد أسلفنا قبل نزول التَّحريم فلمَّا نزلت هذه الآية سمعها وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما ومعنى الآية: تحريم ما بقي ديناً من الرِّبا وإيجاب أخذ رأس المال دون الزِّيادة على جهة الرِّبا وقوله: {إن كنتم مؤمنين} أَيْ: إنَّ مَنْ كان مؤمناً فهذا حكمه(1/193)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{فإن لم تفعلوا} فإن لم تذروا ما بقي من الرِّبا {فأذنوا} فاعلموا {بحرب من الله ورسوله} أَيْ: فأيقنوا أنَّكم في امتناعكم من وضع ذلك حربٌ لله ورسوله {وإن تبتم} عن الرِّبا {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون} بطلب الزِّيادة {ولا تُظلمون} بالنُّقصان عن رأس المال(1/193)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{وإنْ كان ذو عسرة} أَيْ: وإن وقع غريم ذو عسرة {فنظرةٌ} أَيْ: فعليكم نظرةٌ أَيْ: تأخيرٌ {إلى ميسرة} إلى غنىً ووجود المال {وأن تصدقوا} على المعسرين برأس المال {خيرٌ لكم}(1/193)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} يعني: يوم القيامة تُرَدُّون فِيهِ إِلَى اللَّهِ {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كسبت} أي: جزاء ما كسبت من الأعمال {وهم لا يظلمون} لا ينقصون شيئاً فلمَّا حرَّم الله تعالى الرِّبا أباح السِّلَم فقال:(1/193)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مسمى} أي: تباعيتم بدين {فاكتبوه} أمرَ الله تعالى في الحقوق المؤجَّلة بالكتابة والإِشهاد في قوله: {واشهدوا إذا تبايعتم} حفظاً منه للأموال ثمَّ نسخ ذلك بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية {وليكتب بينكم} بين المُستدين والمدين {كاتب بالعدل} بالحقِّ والإِنصاف ولا يزيد في المال والأجل ولا ينقص منهما: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} أي: لا يمتنع من ذلك إذا أُمر وكانت هذه عزيمةً من الله واجبة على الكاتب والشَّاهد فنسخها قوله: {وَلا يضار كاتب ولا شهيد} ثمَّ قال {كما علَّمه الله فليكتب} أَيْ: كما فضَّله الله بالكتابة {وليملل الذي عليه الحق} أي: الذي عليه الدِّين يملي لأنَّه المشهود عليه فيقرُّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه {ولا يَبْخَسْ منه شيئاً} أُمِرَ أَنْ يُقِرَّ بمبلغ المال من غير نقصان {فإن كان الذي عليه الحق} (أي: الدَّين) {سفيهاً} طفلاً {أو ضعيفاً} عاجزاً أحمق {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو} لخرسٍ أو لعيٍّ {فليملل وليه} وارثه أو مَنْ يقوم مقامه {بالعدل} بالصدق والحقِّ {واستشهدوا} وأشهدوا {شهيدين من رجالكم} أَيْ: من أهل ملَّتكم من الأحرار البالغين وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} أَيْ: من أهل الفضل والدِّين {أن تضلّ أحداهما} تنسى إحداهما {فتذكر إحداهما الأخرى} الشَّهادة {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} لتحمُّل الشَّهادة وأدائها {ولا تسأموا أن تكتبوه} لا يمنعكم الضَّجر والملالة أن تكتبوا ما أشهدتم عليه من الحقِّ {صغيراً أو كبيراً إلى أجله} إلى أجل الحقِّ {ذلكم} أَيْ: الكتابة {أقسط} أعدل {عند الله} في حكمه {وأقوم} أبلغ في الاستقامة {للشهادة} لأنَّ الكتاب يُذكِّر الشُّهود فتكون شهادتهم أقوم {وأدنى أن لا تَرْتَابُوا} أيْ: أقرب إلى أن لا تشكُّوا في مبلغ الحقِّ والأجل {إلاَّ أن تكون} تقع {تجارة حاضرة} أَيْ: متجرٌ فيه حاضر من العروض وغيرها ممَّا يتقابض وهو معنى قوله: {تديرونها بينكم} وذلك أنَّ ما يُخاف في النَّساء والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيدٍ وذلك قوله: {فليس عليكم جناحٌ أن لا تكتبوها وأَشْهِدوا إذا تبايعتم} قد ذكرنا أنَّ هذا منسوخ الحكم فلا يجب ذلك {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} نهى الله تعالى الكاتب والشَّاهد عن الضِّرار وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرِّف وأن يشهد الشَّاهد بما لم يُستشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشَّهادة {وإنْ تفعلوا} شيئاً من هذا {فإنه فسوق بكم}(1/193)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} الآية أمر الله تعالى عند عدم الكاتب بأخذ الرَّهن ليكون وثيقةً بالأموال وذلك قوله: {فَرِهَانٌ مقبوضة} أَيْ: فالوثيقةُ رهنٌ مقبوضةٌ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أَيْ: لم يخف خيانته وجحوده الحقَّ {فليؤدّ الذي اؤتمن} أَيْ: أُمن عليه {أمانته وليتق الله ربه} بأداء الأمانة {ولا تكتموا الشهادة} إذا دُعيتم لإِقامتها {ومن يكتمها فإنه آثمٌ} فاجرٌ {قلبه}(1/195)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{لله ما في السماوات وما في الأرض} ملكا فهو مالك أعيانه {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يحاسبكم به الله} لمَّا نزل هذا جاء ناس من الصَّحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لا يحبُّ أن يثبت في قلبه فنحن نحاسب بذلك؟ فقال النبيُّ: فلعلَّكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا وقولوا: سمعنا وأطعنا فقالوا: سمعنا وأطعنا فأنزل الله تعالى الفرج بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} فنسخت هذه الآية ما قبلها وقيل: إنَّ هذا في كتمان الشَّهادة وإقامتها ومعنى قوله: {يحاسبكم به الله} يخبركم به ويُعرِّفكم إيَّاه(1/196)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{آمن الرسول} الآية لمَّا ذكر الله تعالى في هذه السُّورة الأحكام والحدود وقصص الأنبياء وآيات قدرته ختم السورة بذكر تصديق نبيه عليه السلام والمؤمنين بجميع ذلك {لا نفرق بين أحد} أَيْ: يقولون: لا نفرق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رسله كما فعل أهل الكتاب آمنوا ببعض الرُّسل وكفروا ببعض بل نجمع بينهم في الإِيمان بهم {وقالوا سمعنا} قوله {وأطعنا} أمره {غفرانك} أَيْ: اغفر غفرانك(1/196)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{لا يكلف الله نفسا إلاَّ وسعها} ذكرنا أنَّ هذه الآية نسخت ما شكاه المؤمنين من المحاسبة بالوسوسة وحديث النَّفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ} (من العمل بالطاعة) {وَعَلَيْهَا ما اكتسبت} (من العمل بالإثم) أَيْ: لا يُؤَاخَذ أحدٌ بذنب غيره {ربنا لا تؤاخذنا} أَيْ: قولوا ذلك على التَّعليم للدُّعاء ومعناه: لا تعاقبنا إن نسينا كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممَّا شرع لهم عُجِّلت لهم العقوبة بذلك فأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك {أو أَخْطأْنا} تركنا الصَّواب: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} أَيْ: ثقلاً والمعنى: لا تحمل علينا أمراً يثقل {كما حملته على الذين من قبلنا} نحو ما أُمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا به} أَيْ: لا تعذِّبنا بالنَّار {أنت مولانا} ناصرنا والذي تلي علينا أمورنا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} في إقامة حجَّتنا وغلبتنا إيَّاهم في حربه وسائر أمورهم حتى يظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا(1/197)
الم (1)
{الم}(1/198)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(1/198)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{نزل عليك الكتابَ} أي: القرآن {بالحق} بالصِّدق في إخباره {مصدقاً لما بين يديه} مُوافقاً لما تقدَّم الخبر به في سائر الكتب {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}(1/198)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان} ما فرق به بين الحقِّ والباطل يعني: جميع الكتب التي أنزلها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شديدٌ والله عزيز ذو انتقام} ذو عقوبة(1/198)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}(1/198)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{هو الذي يصوركم} يجعلكم على صورٍ في أرحام الأُمَّهات {كيف يشاء} ذكراً وأنثى قصيراً وطويلاً وأسود وأبيض(1/198)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ محكماتٌ} وهنَّ الثَّلاث الآيات في آخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} إلى آخر الآيات الثَّلاث {هنَّ أمُّ الكتاب} هنَّ أمُّ كلِّ كتاب أنزله الله تعالى على كلِّ نبيٍّ فيهنَّ كلُّ ما أحلَّ وحرَّم ومعناه: أنهنَّ أصل الكتاب الذي يُعمل عليه {وأخر} أَيْ: آياتٌ أُخر {متشابهات} يريد: التي تشابهت على اليهود وهي حروف التَّهجِّي في أوائل السُّور وذلك أنَّهم أوَّلوها على حساب الجُمَّل وطلبوا أن يستخرجوا منها مدَّة بقاء هذه الأُمَّة فاختلط عليهم واشتبه {فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ} وهم اليهود الذين طلبوا علمَ أجل هذه الأمَّة من الحروف المقطَّعة {فيتبعون ما تشابه منه} من الكتاب يعني: حروف التَّهجِّي {ابتغاء الفتنة} طلب اللَّبس ليضلُّوا به جُهَّالهم {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} طلب أجل أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم {وما يعلم تأويله إلاَّ الله} يريد: ما يعلم انقضاء ملك أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاَّ الله لأنَّ انقضاء ملكهم مع قيامِ السَّاعة ولا يعلم ذلك أحد إلاَّ الله ثمَّ ابتدأ فقال: {والراسخون في العلم} أَي: الثَّابتون فيه يعني: علماء مؤمني أهل الكتاب {يقولون آمنا به} أَيْ: بالمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربنا} المحكم والمتشابه وما علمناه وما لم نعلمه {وما يذكر إلا أولو الألباب} ما يتعَّظ بالقرآن إلاَّ ذوو العقول(1/199)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
{ربنا} أي: ويقول الرَّاسخون في العلم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تُملها عن الهدى والقصد كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} للإِيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك(1/200)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ربنا إنك جامع الناس} حاشرهم {ليوم} الجزاء في يوم {لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الميعاد} للبعث والجزاء(1/200)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
{إنَّ الذين كفروا} يعني: يهود قريظة والنَّضير {لن تغني عنهم} أي: لن تنفع ولن تدفع عنهم {أموالهم} {وَلا أولادهم} يعني: التي يتفاخرون بها {من الله} من عذاب الله {شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} هم الذين تُوقد بهم النَّار(1/200)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{كدأب آل فرعون} كصنيع آل فرعون وفعلهم في الكفر والتَّكذيب كفرت اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم(1/200)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{قل للذين كفروا} يعني: يهود المدينة ومشركي مكَّة {ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} بئس ما مُهِّد لكم(1/200)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{قد كان لكم آية} علامة تدلُّ على صدق محمَّدٍ عليه السَّلام {في فئتين} يعني: المسلمين والمشركين {التقتا} اجتمعتا يوم بدرٍ للقتال {فئةٌ تقاتل في سبيل الله} وهم المسلمون {وأخرى كافرة يرونهم مثليهم} وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ولكنَّ الله تعالى قلَّلهم في أعينهم وأراهم على قدر ما أعلمهم أنَّهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم وذلك أن الله عز وجل كان قد أعلم المسلمين أنَّ المائة منهم تغلب المائتين من الكفَّار {رأي العين} أَيْ: من حيث يقع عليهم البصر {والله يؤيد} يقوّي {بنصره} بالغلبة والحجَّة مَنْ يشاء {إنَّ في ذلك لعبرة} وهي الآية التي يُعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم {لأولي الأبصار} لذوي العقول(1/200)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{زُيِّن للناس حبُّ الشهوات} جمع الشَّهوة وهي تَوَقَانُ النَّفس إلى الشَّيء {والقناطير المقنطرة} الأموال الكثيرة المجموعة {والخيل المسوَّمة} الرَّاعية وقيل: المُعلَّمة كالبلق وذوات الشِّياتِ وقيل: الحسان والخيل: الأفراس {والأنعام} الإِبل والبقر والغنم {والحرث} وهو ما يُزرع ويغرس ثمَّ بيَّن أنَّ هذه الأشياء متاع الدُّنيا وهي فانيةٌ زائلةٌ {واللَّهُ عنده حسن المآب} المرجع ثمَّ أعلم أنَّ خيراً من ذلك كلِّه ما أعده لأوليائه فقال(1/201)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{قل أؤنبئكم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الذي ذكرت {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الشِّرك {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بالعباد}(1/201)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
قال تعالى {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذنوبنا وقنا عذاب النار}(1/202)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{الصابرين} على دينهم وعلى ما أصابهم {والصادقين} في نيَّاتهم {والقانتين} المطيعين لله {والمنفقين} من الحلال في طاعة الله {والمستغفرين بالأسحار} المُصلِّين صلاة الصُّبح قيل: نزلت في المهاجرين والأنصار(1/202)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{شهد الله} بيَّن وأظهر بما نصب من الأدلَّة على توحيده {أنَّه لا إله إلاَّ هو والملائكة} أَيْ: وشهدت الملائكة بمعنى: أقرت بتوحيد الله {وأولو العلم} هم الأنبياء والعلماء من مؤمني أهل الكتاب والمسلمين {قائماً بالقسط} أَيْ: قائماً بالعدل يُجري التَّدبير على الاستقامة في جميع الأمور(1/202)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{إنَّ الدين عند الله الإِسلام} افتخر المشركون بأديانهم فقال كلُّ فريقٍ: لا دين إلاَّ ديننا وهو دين الله فنزلت هذه الآية وكذَّبهم الله تعالى فقال: {إنَّ الدين عند الله الإِسلام} الذي جاء به محمد عليه السلام {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أَي: اليهود لم يختلفوا في صدق نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما كانوا يجدونه في كتابهم {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم سمِّي علماً لأنَّه كان معلوماً عندهم بنعته وصفته قبل بعثه فلمَّا جاءهم اختلفوا فيه فآمن به بعضهم وكفر الآخرون {بغياً بينهم} طلباً للرِّياسة وحسداً له على النُّبوَّة {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحساب} أَي: المجازاة له على كفره(1/202)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{فإن حاجوك} أَيْ: جادلوك {فقل أسلمتُ وجهي لله} أَيْ: أخلصت عملي لله وانقدت له {ومن اتبعني} يعني: المهاجرين والأنصار {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين} يعني: العرب {أأسلمتم} استفهامٌ معناه الأمر أَيْ: أسلموا وقوله: {عليك البلاغ} أَي: التَّبليغ وليس عليك هداهم {والله بصيرٌ بالعباد} أيْ: بمَنْ آمن بك وصدَّقك ومَنْ كفر بك وكذَّبك وكان هذا قبل أنْ أُمر بالقتال(1/203)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بغير حق} قد مضى تفسيره في سورة البقرة وقوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يأمرون بالقسط من الناس} قال [رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبياً من أوَّل النَّهار في ساعةٍ واحدةٍ فقام مائةٌ واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل فأمروا مَنْ قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فَقُتلوا جميعاً من آخر النَّهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية] وهؤلاء الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتولَّونهم فهم داخلون في جملتهم(1/203)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{أولئك الذين حبطت أعمالهم} بطلت أعمالهم التي يدَّعونها من التَّمسُّك بالتَّوراة وإقامة شرع موسى عليه السَّلام {في الدنيا} لأنَّها لم تحقن دماءَهم وأموالهم {و} في {الآخرة} لأنهم لم يستحقوا بها ثواباً(1/203)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكتاب} يعني: اليهود {يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} وذلك أنَّهم أنكروا آية الرَّجم من التَّوراة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حدِّ المحصنين إذا زنيا فحكم بالرَّجم فقالوا: جُرْتَ يا محمد فقال: بيني وبينكم التَّوراة ثمَّ أتوا بابن صوريا الأعور فقرأ التَّوراة فلمَّا أتى على آية الرَّجم سترها بكفِّه فقام ابن سلاَّم فرفع كفَه عنها وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود فغضب اليهود لذلك غضباً شديداً وانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية {ثمَّ يتولى فريق منهم} يعني: العلماء والرؤساء {وهم معرضون}(1/204)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ذلك} أَْيْ: ذلك الإِعراض عن حكمك بسبب اغترارهم حيث قَالُوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} افتراؤهم وهو قوله: {لن تمسنا النار} وقد مضى هذا في سورة البقرة(1/204)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{فكيف إذا جمعناهم} أَيْ: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم {ل} جزاء {يومٍ لا ريبَ فيه ووفيت كلُّ نفس} جزاء {ما كسبت وهم لا يظلمون} بنقصان حسناتهم أو زيادة سيئاتهم(1/204)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
{قل اللهم مالك الملك} لمَّا فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مكَّة ووعد أُمَّته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات (الفارس والروم أعزُّ وأمنع من أن يُغْلَبَ على بلادهم) فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} محمداً وأصحابه {وَتَنْزِعُ الملك ممن تشاء} أبي جهلٍ وصناديد قريشٍ {وتعزُّ من تشاء} المهاجرين والأنصار {وتذلُّ مَنْ تشاء} أبا جهلٍ وأصحابه حتى حُزَّت رؤوسهم وأُلْقُوا في القليب {بيدك الخير} أَيْ: عزُّ الدُّنيا والآخرة وأراد: الخير والشَّرَّ فاكتفى بذكر الخير لأنَّ الرغبة إليه في فعل الخير بالعبد دون الشَّر(1/205)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{تولج الليل في النهار} تُدخل اللَّيل في النَّهار أَيْ: تجعل ما نقص من أحدهما زيادةً في الآخر {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحيِّ} تخرج الحيوان من النُّطفة وتخرج النُّطفة من الحيوان وتخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن {وَتَرْزُقُ من تشاء بغير حساب} بغير تقتيرٍ وتضييقٍ(1/205)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤمنين} أَيْ: أنصاراً وأعواناً من غير المؤمنين وسواهم نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يُباطنون اليهود (أي: يألفونهم) ويوالونهم {ومَنْ يفعل ذلك} الاتخِّاذ {فليس من الله في شيء} أَيْ: من دين الله أَيْ: قد برئ من الله وفارق دينه ثمَّ استثنى فقال: {إِلا أَنْ تتقوا منهم تقاة} أَيْ: تقيَّة هذا في المؤمن إذا كان في قومٍ كفَّارٍ وخافهم على ماله ونفسه فله أن يُخالفهم ويُداريهم باللِّسان وقلبُه مطمئنٌّ بالإِيمان دفعاً عن نفسه قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد مدارةً ظاهرةً {ويحذركم الله نفسه} أَيْ: يُخَوِّفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه (يريد: عذابه وخصَّصه بنفسه تعظيماً له) فلمَّا نهى عن ذلك خوَّف وحذَّر عن إبطان موالاتهم فقال:(1/205)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تبدوه} من ضمائركم في موالاتهم وتركها {يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض} إتمامٌ للتَّحذير لأنَّه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضَّمير؟ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تحذيرٌ من عقاب مَنْ لا يعجزه شيء(1/206)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{يوم تجد كلُّ نفسٍ} أَيْ: ويحذّركم الله عذاب نفسه يوم تجد أَيْ: ذلك اليوم وقوله: {ما عملت من خير محضراً} أَيْ: جزاء ما عملت بما ترى من الثَّواب {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً} غاية بعيدةً كما بين المشرق والمغرب(1/207)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
{قل} أي: للكفَّار {إن كنتم تحبون الله} [وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريشٍ وهم يسجدون للأصنام فقال: يا معشر قريش واللَّهِ لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم فقالت قريش: إنَّما نعبد هذه حبّاً لله ليقرِّبونا إلى الله] فأنزل الله تعالى: {قل} يا محمد {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} وتعبدون الأصنام لتقرِّبكم إليه {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فأنا رسوله إليكم وحجَّته عليكم ومعنى محبَّة العبد لله سبحانه إرادته طاعته وإيثاره أمره ومعنى محبَّة الله العبد إرادته لثوابه وعفوه عنه وإنعامه عليه(1/207)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
{قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا} عن الطَّاعة {فإنَّ الله لا يحب الكافرين} لا يغفر لهم ولا يثني عليهم(1/207)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{إنَّ الله اصطفى آدم} بالنُّبوَّة والرِّسالة {ونوحاً وآل إبراهيم} يعني: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط {وآل عمران} موسى وهارون {على العالمين} على عالمي زمانهم(1/207)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ذريةً} أَي: اصطفى ذريَّةً {بعضها من بعض} أَيْ: من ولد بعض لأنَّ الجميع ذريَّة آدم ثمَّ ذريَّة نوح {والله سميع} لما تقوله الذُّريَّة المصطفاة {عليمٌ} بما تضمره فلذلك فضَّلها على غيرها(1/208)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
{إذ قالت امرأة عمران} وهي حنَّة أمُّ مريم: {إني نذرت لك ما في بطني} أيْ: أوجبتُ على نفسي أن أجعل ما في بطني {محرَّراً} عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة مفرَّغاً للعبادة ولخدمة الكنيسة وكان على أولادهم فرضاً أن يُطيعوهم في نذرهم فتصدَّقت بولدها على بيت المقدس(1/208)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} اعتذرت ممَّا فعلت من النَّذر لمَّا ولدت أنثى {وليس الذكر كالأنثى} في خدمة الكنيسة لما يلحقها من الحيض والنِّفاس {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} أَيْ: أمنعها وأجيرها {من الشيطان الرجيم} الملعون المطرود(1/208)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{فتقبلها ربُّها بقبول حسن} أَيْ: رضيها مكان المحرَّر الذي نذرته {وأنبتها نباتاً حسناً} في صلاحٍ وعفَّةٍ ومعرفةٍ بالله وطاعةٍ له {وكفلها زكريا} ضمن القيام بأمرها فبنى لها محراباً في المسجد لا يرتقى إليه إلاَّ بسلَّم والمحراب: الغرفة وهو قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رزقاً} أَيْ: فاكهة الشِّتاء في الصَّيف وفاكهة الصَّيف في الشِّتاء تأتيها به الملائكة من الجنَّة فلمَّا رأى زكريا ما أُوتيت مريم من (فاكهةالصيف في الشتاء وفاكهةالشتاء في الصيف) على خلاف مجرى العادة طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف العادة وذلك قوله:(1/208)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{هنالك} أَيْ: عند ذلك {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قال رب هب لي من لدنك} أَيْ: من عندك {ذريةً طيبةً} أَيْ: نسلاً مباركاً تقيّاً فأجاب الله دعوته وبعث إليه الملائكة مبشرين وهو قوله:(1/209)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله} أَيْ: مُصدِّقاً بعيسى أنَّه روح الله وكلمته وسُمِّي عيسى كلمة الله لأنَّه حدث عند قوله: {كُنْ} فوقع عليه اسم الكلمة لأنَّه بها كان {وسيداً} وكريماً على ربِّه {وحصوراً} وهو الذي لا يأتي النِّساء ولا أرب له فيهنَّ(1/209)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{قال} زكريا لمَّا بُشِّر بالولد: {ربِّ أنى يكون لي غلامٌ} أَيْ: على أيِّ حالٍ يكون ذلك؟ أَتردُّني إلى حال الشَّباب وامرأتي أَمْ مع حال الكبر؟ {وقد بلغني الكبر} أَيْ: بَلغْتُه لأنَّه كان ذلك اليوم ابن عشرين ومائة سنةٍ {وامرأتي عاقر} لا تلد وكانت بنتَ ثمانٍ وتسعين سنةً قيل له: {كذلك} أَيْ: مثل ذلك من الأمر وهو هبة الولد على الكبر يفعل الله ما يشاء فسبحان مَنْ لا يعجزه شيء فلمَّا بُشِّر بالولد سأل الله علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته وذلك قوله(1/209)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{قال رب اجعل لي آية} فقال الله تعالى: {آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام} جعل الله تعالى علامة حمل امرأته أَنْ يُمسك لسانه فلا يقدر أنْ يُكلِّم النَّاس ثلاثة أيَّامٍ {إلاَّ رمزاً} أَيْ: إيماءً بالشَّفتين والحاجبين والعينين وكان مع ذلك يقدر على التَّسبيح وذكر الله وهو قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كثيراً وسبِّح} أَيْ: وصَلِّ {بالعشي} وهو آخر النَّهار {والإِبكار} ما بين طلوع الفجر إلى الضُّحى(1/209)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{وإذ قالت الملائكة} أَيْ: جبريل عليه السَّلام وحده: {يا مريم إن الله اصطفاك} أَيْ: بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته {وطهرك} من ملامسة الرِّجال والحيض {واصطفاك على نساء العالمين} على عالمي زمانك(1/210)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{يا مريم اقنتي لربك} قومي للصَّلاة بين يدي ربكِّ فقامت حتى سالت قدماها قيحاً {واسجدي واركعي} أَي: ائتي بالرُّكوع والسُّجود والواو لا تقتضي الترتيب {مع الراكعين} أَي: افعلي كفعلهم وقال: {مع الراكعين} ولم يقل: مع الرَّاكعات لأنَّه أعمُّ(1/210)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ذلك} أَيْ: ما قصصنا عليك من حديث زكريا ومريم {من أنباء الغيب} أَيْ: من أخباره {نوحيه إليك} أَيْ: نلقيه {وما كنت لديهم} فتعرف ذلك {إذ يلقون أقلامهم} وذلك أنَّ حنَّة لمَّا ولدت مريم أتت بها سدنة بيت المقدس وقالت لهم: دونكم هذه النَّذيرة فتنافس فيها الأحبار حتى اقترعوا عليها فخرجت القرعة لزكريا فذلك قوله: {إذ يلقون أقلامهم} أَيْ: قداحهم التي كانوا يقترعون بها لينظروا أيُّهم تجب له كفالة مريم(1/210)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{إذ قالت الملائكة} يعني: جبريل عليه السَّلام: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} يعني: عيسى عليه السَّلام لأنَّه في ابتداء أمره كان كلمة من الله وكُوِّن بكلمة منه أَيْ: من الله {اسمه المسيح} وهو معرَّب من مشيحا بالسِّريانية لقبٌ لعيسى ثمَّ فَسَّر وبيَّن من هو فقال: {عيسى ابن مريم وجيهاً} أَيْ: ذا جاهٍ وشرفٍ وقدرٍ {في الدنيا والآخرة ومن المقربين} إلى ثواب الله وكرامته(1/210)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{ويكلم الناس في المهد} صغيراً {وكهلاً} أَيْ: يتكلَّم بالنُّبوَّة كهلاً وقيل: بعد نزوله من السَّماء {ومن الصالحين} يريد: مثل موسى ويعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السِّلام(1/211)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
{قالت} مريم مُتعجِّبةً: {أنى يكون لي ولد} من غير مسيس بَشَرٌ؟ {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} مثل ذلك من الأمر وهو خلق الولد من غير مسيس بشرٍ أَي: الأمر كما تقولين ولكنَّ الله {إذا قضى أمراً} ذُكر في سورة البقرة (إلى آخرها)(1/211)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{ويعلمه الكتاب} أراد: الكتابة والخطَّ(1/211)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وقوله: {ورسولاً إلى بني إسرائيل} أَيْ: ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل {أني} أَيْ: بأنِّي {قد جئتكم بآية من ربكم} وهو {أني أخلق} أَيْ: أُقدِّر وأصور {كهيئة الطير} كصورته {وأبرئ الأكمه} وهو الذي وُلد أعمى {والأبرص} أَيْ: الذي به وَضَحٌ أي: بياضٌ {وأُنبئكم بما تأكلون} في غدوكم {وما} كم {تدخرون} لباقي يومكم(1/211)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
{ومصدِّقاً} أَيْ: وجئتكم مُصدِّقاً {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} أَي: الكتاب الذي أنزل من قبلي {ولأُحلَّ لكم بعض الذي حرّم عليكم} أحلَّ لهم على لسان المسيح لحوم الإِبل والثُّروب وأشياء من الطَّير والحيتان ممَّا كان محرَّماً في شريعة موسى عليه السَّلام {وجئتكم بآية من ربكم} أَيْ: ما كان معه من المعجزات الدَّالَّة على رسالته ووحَّدَ لأنَّها كلَّها جنسٌ واحد في الدلالة(1/212)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(1/212)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{فلما أَحسَّ عيسى} علم ورأى {منهم الكفر} وذلك أنَّهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله تعالى فاستنصر عليهم و {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله} أَيْ: مع الله وفي ذات الله {قال الحواريون} وكانوا قصَّارين يحوّرون الثِّياب أَيْ: يُبيِّضونها آمَنوا بعيسى واتَّبعوه: {نحن أنصار الله} أنصار دينه {آمنا بالله واشهد} يا عيسى {بأنا مسلمون} وقوله:(1/212)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} مع الذين شهدوا للأنبياء بالصِّدق والمعنى: أَثْبِتْ أسماءنا مع أسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا(1/212)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{ومكروا} سعوا في قتله بالمكر {ومكر اللَّهُ} جازاهم على مكرهم بإلقاء شبه عيسى على مَنْ دلَّ عليه حتى أحذ وصُلب {والله خير الماكرين} أفضل المجازين بالسيئة العقوبة لأنَّه لا أحد أقدر على ذلك منه(1/212)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{إذ قال الله يا عيسى} والمعنى: ومكر الله إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أَيْ: قابضك من غير موتٍ وافياً تاماً أَيْ: لم ينالوا منك شيئاً {ورافعك إليَّ} أَيْ: إلى سمائي ومحل كرامتي فجعل ذلك رفعاً إليه للتَّفخيم والتَّعظيم كقوله: {إني ذاهبٌ إلى ربي} وإنَّما ذهب إلى الشَّام والمعنى: إلى أمر ربِّي {ومطهِّرك من الذين كفروا} أَيْ: مُخرجك من بينهم {وجاعل الذين اتبعوك} وهم أهل الإِسلام من هذه الأمَّة اتَّبعوا دين المسيح وصدَّقوه بأنَّه رسول الله فواللَّهِ ما اتَّبعه مَنْ دعاه ربّاً {فوق الذين كفروا} بالبرهان والحُجَّة والعز والغلبة(1/213)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}(1/213)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
قال تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ والله لا يحبُّ الظالمين}(1/213)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
{ذلك} أَيْ: ما تقدَّم من النَّبأ عن عيسى ومريم عليهما السَّلام {نتلوه عليك} نخبرك به {من الآيات} أَي: العلامات الدَّالَّة على رسالتك لأنَّها أخبارٌ من أمورٍ لم يشاهدها ولم يقرأها من كتاب {والذكر الحكيم} أَي: القرآن المحكم من الباطل وقيل: الحكيم: الحاكم بمعنى المانع من الكفر والفساد(1/213)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
{إنَّ مثل عيسى} الآية نزلت في وفد نجران حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ولداً من غير ذَكَرٍ؟ فاحتجَّ الله تعالى عليهم بآدم عليه السَّلام أَيْ: إنَّ قياس خلق عيسى عليه السَّلام من غير ذَكَرٍ كقياس خلق آدم عليه السَّلام بل الشأن فيه عجب لأنَّه خُلق من غير ذكر ولا أنثى وقوله: {عند الله} أَيْ: في الإنشاء والخلق وتَمَّ الكلام عند قوله: {كمثل آدم} ثمَّ استأنف خبراً آخر من قصَّة آدم عليه السَّلام فقال: {خلقه من تراب} أَيْ: قالباً من تراب {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} بشراً {فَيَكُونُ} بمعنى فكان(1/213)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{الحق من ربك} أي: الذي أَنْبَأْتُكَ من خبر عيسى الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: من الشاكين ز الخطاب للنبيِّ عليه السَّلام والمرادُ به نهيُ غيره عن الشَّكِّ(1/214)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{فمن حاجَّك} خاصمك {فيه} في عيسى {من بعد ما جاءك من العلم} بأنَّ عيسى عبد الله ورسوله {فقل تعالوا} هلمُّوا {ندع أبناءَنا وأبناءَكم} لمَّا احتجَّ الله تعالى على النَّصارى من طريق القياس بقوله: {إنّ مثل عيسى عند الله} الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتجَّ عليهم من طريق الإِعجاز فلمَّا نزلت هذه الآية دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة وهي الدُّعاء على الظَّالم من الفريقين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وعليٌّ وفاطمة عليهم السَّلام وهو يقول لهم: إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا فذلك قوله: {ندع أبناءَنا} الآية وقوله: {وأنفسنا وأنفسكم} يعني: بني العمِّ {ثمَّ نبتهل} نتضرع في الدُّعاء وقيل: ندعو بالبهلة وهي اللعنة فندعو الله باللَّعنةِ على الكاذبين فلم تُجبه النَّصارى إلى المباهلة خوفاً من اللَّعنه وقَبِلوا الجزية(1/214)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
{إن هذا} الذي أوحيناه إليك {لهو القصص الحق} الخبر الصِّدق(1/215)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{فإن تولوا} أعرضوا عمَّا أتيت به من البيان {فإنَّ الله} يعلمُ مَنْ يفسد من خلقه فيجازيه على ذلك(1/215)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{قل يا أهل الكتاب} يعني: يهود المدينة ونصارى نجران {تعالوا إلى كلمة سواءٍ} معنى الكلمة: كلامٌ فيه شرحُ قصَّةٍ {سواءٍ} عدلٍ {بيننا وبينكم} ثمَّ فسر الكلمة فقال: {أن لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} أَيْ: لا نعبد معه غيره {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بعضاً أرباباً من دون الله} كما اتَّخذت النَّصارى عيسى وبنو إسرائيل عزيزا وقيل: لا نطيع أحداً في معصية الله كما قال الله في صفتهم لمَّا أطاعوا في معصيته علماءهم: {اتخذوا أحبارهم} الآية {فإن تولوا} أعرضوا عن الإِجابة {فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} مُقِرِّون بالتَّوحيد(1/215)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
{يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} نزلت لمَّا تنازعت اليهود والنَّصارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبراهيم عليه السَّلام فقالت اليهود: ما كان إبراهيم إلاَّ يهوديَّاً وقالت النَّصارى: ما كان إلاَّ نصرانيَّاً وقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بعده} أَيْ: إِنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة حدثتا بعد نزول الكتابين وإنَّما نزلا بعد موته بزمانٍ طويلٍ {أفلا تعقلون} فساد هذه الدَّعوى(1/216)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{ها أنتم} أَيْ: أنتم {هؤلاء} أًيْ: يا هؤلاء {حاججتم} جادلتم وخاصمتم {فيما لكم به علم} يعني: ما وجدوه في كتبهم وأُنزل عليهم بيانه وقصَّته {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا ليس لكم به علم} من شأن إبراهيم عليه السَّلام وليس في كتابكم أنَّه كان يهوديَّاً أو نصرانيَّاً {والله يعلمُ} شأن إبراهيم {وَأَنْتُمْ لا تعلمون} ثمَّ بيَّن حاله فقال:(1/216)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كان حنيفاً مسلماً} الآية ثمَّ جعل المسلمين أحقَّ النَّاس به فقال:(1/216)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
{إنَّ أولى الناس بإبراهيم} أَيْ: أقربهم إليه وأحقَّهم به {للذين اتبعوه} على دينه وملَّته {وهذا النبيُّ} محمد صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا} أَيْ: فهم الذين ينبغي أن يقولوا: إنَّا على دين إبراهيم عليه السَّلام(1/216)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أراد اليهود أن يستزلُّوا المسلمين عن دينهم ويردُّوهم إلى الكفر فنزلت هذه الآية {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} لأنَّ المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل الإِثم عليهم بتمنِّيهم إِضلال المؤمنين {وما يشعرون} أَنَّ هذا يضرُّهم ولا يضرُّ المؤمنين(1/217)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} أَيْ: القرآن {وأنتم تشهدون} بما يدلُّ على صحَّته من كتابكم لأنَّ فيه نعتَ محمَّدٍ عليه السَّلام وذكره(1/217)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{يا أهل الكتاب لم تلبسون} ذُكر في سورة البقرة(1/217)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
{وقالت طائفة من أهل الكتاب} أي: وذلك أنَّ جماعةً من اليهود قال بعضهم لعبض: أظهروا الإِيمان بمحمَّدٍ والقرآنِ في أوَّل النَّهار وارجعوا عنه في آخر النهار فإنَّه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينه ويشكُّوا إذا قلتم: نظرنا في كتابكم فوجدنا محمَّداً ليس بذاك فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على سرِّ اليهود ومكرهم بهذه الآية(1/217)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
{ولا تؤمنوا} هذا حكايةٌ من كلام اليهود بعضهم لبعض قالوا: لا تُصدِّقوا ولا تُقِرّوا ب {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من العلم والحكمة والكتاب والحجَّة والمنِّ والسَّلوى والفضائل والكرامات {إلاَّ لمن تبع دينكم} اليهوديَّة وقام بشرائعه وقوله: {قل إنَّ الهدى هدى الله} اعتراضٌ بين المفعول وفعله وهو من كلام الله تعالى وليس من كلام اليهود ومعناه: إنَّ الدِّين دين الله وقوله: {أو يحاجُّوكم} عطف على قوله: {أَنْ يُؤْتَى} والمعنى: ولا تؤمنوا بأن يحاجُّوكم عند ربكم لأنَّكم أصحُّ ديناً منهم فلا يكون لهم الحجَّة عليكم فقال الله تعالى: {قل إنَّ الفضل بيد الله} أَيْ: ما تفضَّل الله به عليك وعلى أُمتِّك(1/217)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{يختصُّ برحمته} بدينه الإِسلام {من يشاء والله ذو الفضل} على أوليائه {العظيم} لأنَّه لا شيءَ أعظمُ عند الله من الإِسلام ثمَّ أخبر عن اختلاف أحوالهم في الأمانة والخيانة بقوله:(1/218)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بقنطارٍ يؤدِّه إليك} يعني: عبد الله بن سلام أُودع ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدَّى الأمانة فيه إلى مَنْ ائتمنه {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إليك} يعني: فنحاص بن عازوراء أودع ديناراً فخانه {إلاَّ ما دمت عليه قائماً} على رأسه بالاجتماع معه فإن أنظرته وأخَّرته أنكر {ذلك} أَيْ: الاستحلال والخيانة {بأنَّهم} يقولون: {ليس علينا} فيما أصبنا من أموال العرب شيءٌ لأنَّهم مشركون فالأميُّون في هذه الآية العرب كلُّهم ثم كذبهم الله تعالى في هذا فقال {ويقولون على الله الكذب} لأنَّهم ادَّعوا أنَّ ذلك في كتابهم وكذبوا فإنَّ الأمانة مؤدَّاة في كلِّ شريعة {وهم يعلمون} أَنَّهم يكذبون ثمَّ ردَّ عليهم قولهم: {ليس علينا في الأُمييِّن سبيل} بقوله:(1/218)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
{بلى} أَيْ: بلى عليهم سبيل (في ذلك) ثمَّ ابتدأ فقال: {مَنْ أوفى بعهده} أَيْ: بعهد الله الذي عهد إليه في التَّوراة من الإِيمان بمحمدٍ عليه السَّلام والقرآن وأَدَّى الأمانة واتَّقى الكفر والخيانة ونَقْضَ العهد {فَإِنَّ الله يحب المتقين} أََيْ: مَنْ كان بهذه الصفة(1/219)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
{إنَّ الذين يشترون بعهد الله} نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم في ضَيعةٍ فهمَّ المدَّعَى عليه أن يحلف فنزلت هذه الآية فنكل (المُدَّعى عليه) عن اليمين وأقرَّ بالحقِّ ومعنى {يشترون} يستبدلون {بعهد الله} بوصيته للمؤمنين أن لا يحلفوا كاذبين باسمه {وأيمانهم} جميع اليمين وهو الحلف {ثمناً قليلأً} من الدُّنيا {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} أَيْ: لا نصيب لهم فيها {ولا يكلِّمهم الله} بكلامٍ يسرُّهم {ولا ينظر إليهم} بالرَّحمة وأكثر المفسرين على أنَّ الآية نزلت في اليهود وكتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانهم الذي بدَّلوه من صفة محمد عليه السلام هو الحقُّ في التَّوراة والدَّليل على صحَّة هذا قوله:(1/219)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{وإنَّ منهم} أَيْ: من اليهود {لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب} يحرِّفونه بالتَّغيير والتَّبديل والمعنى: يلوون ألسنتهم عن سنن الصَّواب بما يأتونه به من عند أنفسهم {لتحسبوه} أَيْ: لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به {من الكتاب}(1/219)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{ما كان لبشرٍ} الآية لمَّا ادَّعت اليهود أنَّهم على دين إبراهيم عليه السَّلام وكذَّبهم الله تعالى غضبوا وقالوا: ما يرضيك منَّا يا محمد إلاَّ أَنْ نتَّخذك ربّاً [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أَنْ نأمر بعبادة غير الله] ونزلت هذه الآية {ما كان لبشر} أن يجمع بين هذين: بين النبوَّة وبين دُعاء الخلق إلى عبادة غير الله {ولكن} يقول: {كونوا ربانيين} الآية أَيْ: يقول: كونوا معلِّمي الناس بعلمكم ودرسكم علِّموا النَّاس وبيِّنوا لهم وكذا كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود لأنَّهم كانوا أهل كتاب يعلمون ما لا تعلمه العرب(1/220)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنِّبِيِّينَ أَرْبَابًا} كما فعلت النَّصارى والصَّابئون {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ} استفهامٌ معناه الإِنكار أَيْ: لا يفعل ذلك {بعد إذ أنتم مسلمون} بعد إسلامكم(1/220)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ من كتاب} ما ها هنا للشرط والمعنى: لئن آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة ومهما آتيتكم {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ به} ويريد بميثاق النَّبييِّن عهدهم ليشهدوا لمحمد عليه السَّلام أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {ثمَّ جاءكم رسول مصدق لما معكم} يريد محمداً {لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه} أَيْ: إن أدركتموه ولم يبعث الله بينا إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد عليه السلام وأمره بأنْ يأخذ العهد على قومه لَيُؤمننَّ به ولئنْ بُعث وهم أحياءٌ لينصرنَّه وهذا احتجاجٌ على اليهود قوله: {أأقررتم} أَيْ: قال الله للنَّبييِّن: أقررتم بالإِيمان به والنُّصرة له {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أَيْ: قبلتم عهدي؟ {قالوا أقررنا قال فاشهدوا} أَي: على أنفسكم وعلى أتباعكم {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشاهدين} عليكم وعليهم(1/220)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
{فَمَن تولى} أعرض من {بعد ذلك} بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبيِّ صَلَّى الله عليه وسلم {فأولئك هم الفاسقون} الخارجون عن الإيمان(1/221)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{أفغير دين الله يبغون} بعد أخذ الميثاق عليهم بالتَّصديق بمحمَّد عليه السَّلام {وله أسلم مَنْ في السماوات والأرض طوعا} الملائكة والمسلون {وكرهاً} الكفَّار في وقت البأس {وإليه يُرجعون} وعيدٌ لهم أَيْ: أيبغون غير دين الله مع أنَّ مرجعهم إليه؟(1/221)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{قل آمنا بالله} أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: آمنَّا بالله وبجميع الرُّسل من غير تفريقٍ بينهم في الإِيمان كما فعلت اليهود والنَّصارى ونظير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة(1/221)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
قال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(1/221)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{كيف يهدي الله} هذا استفهام معنا الإِنكار أَيْ: لا يهدي الله {قوماً كفروا بعد إيمانهم} أَي: اليهود كانوا مؤمنين بمحمَّدٍ عليه السَّلام قبل مبعثه فلمَّا بُعث كفروا به وقوله: {وشهدوا} أَيْ: وبعد أنْ شهدوا {أنَّ الرسول حقٌّ وجاءهم البينات} ما بيِّن في التَّوراة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أَيْ: لا يرشد مَنْ نقض عهود الله بظلم نفسه(1/222)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
{أولئك جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة الله} مثل هذه الآية ذُكر في سورة البقرة(1/222)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
قال تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هم ينظرون}(1/222)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك} أَيْ: راجعوا الإِيمان بالله وتصديق نبيِّه {وأصلحوا} أعمالهم(1/222)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{إنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم} وهم اليهود {ثم ازدادوا كفراً} بالإِقامة على كفرهم {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون إلاَّ عند حضور الموت وتلك التَّوبة لا تُقبل(1/222)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} وهو القدر الذي يملؤها يقول: لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منه(1/222)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{لن تنالوا البر} التقوى وقيل: أَي: الجنَّة {حتى تنفقوا مما تحبون} أَيْ: تُخرجوا زكاة أموالكم(1/223)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{كلُّ الطعام كان حلاً لبني إسرائيل} أَيْ: حلالاً {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قبل أن تنزل التوراة} وذلك أنَّ يعقوب عليه السَّلام مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله تعالى لَيُحرِّمنَّ أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه وكان أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه لحمانُ الإِبل وألبانها فلمَّا ادَّّعى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه علم دين إبراهيم عليه السَّلام قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل وألبانها؟ فقال النَّبيُّ عليه السَّلام: كان ذلك حلالاً لإِبراهيم عليه السَّلام فادَّعت اليهود أنَّ ذلك كان حراماً عليه فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم وبيَّن أنَّ ابتداء هذا التَّحريم لم يكن في التَّوراة إنَّما كان قبل نزولها وهو قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فأتوا بالتَّوراة} الآية(1/223)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
{فمن افترى على الله الكذب} أَيْ: بإضافة هذا التَّحريم إلى الله عزَّ وجل على إبراهيم في التَّوراة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد ظهور الحجَّة بأنَّ التَّحريم إنَّما كان من جهة يعقوب عليه السَّلام {فأولئك هم الظالمون} أنفسهم(1/223)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
{قل صدق الله} في هذا وفي جميع ما أخبر به(1/224)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{إنَّ أوَّل بيتٍ وُضع للناس} يُحَجُّ إليه {للذي ببكة} مكَّة {مباركاً} كثير الخير بأن جُعل فيه وعنده البركة {وهدىً} وذا هدىً {للعالمين} لأنَّه قِبلة صلاتهم ودلالةٌ على الله بما جعل عنده من الآيات(1/224)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{فيه آياتٌ بيناتٌ} أَيْ: المشاعر والمناسك كلُّها ثمَّ ذكر بعضها فقال: {مقام إبراهيم} أَيْ: منها مقام إبراهيم {ومَنْ دخله كان آمناً} أَيْ: مَنْ حجَّه فدخله كان آمناً من الذُّنوب التي اكتسبها قبل ذلك وقيل: من النَّار {ولله على الناس حج البيت} عمَّم الإِيجاب ثمَّ خصَّ وأبدل من النَّاس فقال {من استطاع إليه سبيلاً} يعني: مَنْ قوي في نفسه فلا تلحقه المشقَّة في الكون على الراحة فمَنْ كان بهذه الصِّفة وملك الزَّاد والرَّاحلة وجب عليه الحج {ومَنْ كفر} جحد فرض الحجِّ {فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين}(1/224)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
قال تعالى {قل يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ على ما تعملون}(1/224)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{قل يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمن} كان صدُّهم عن سبيل الله بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنَّ صفته ليست في كتابهم {تبغونها عوجاً} تطلبون لها عوجاً بالشُّبَه التي تلبسونها على سفلتكم {وأنتم شهداء} بما في التَّوراة أنَّ دين الله الإِسلام(1/224)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{يا أيها الذين آمنوا إنْ تطيعوا فريقاً} الآية نزلت في الأوس والخزرج حين أغرى قومٌ من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم ثمَّ خاطبهم فقال:(1/224)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{وكيف تكفرون} أَيْ: على أيِّ حالٍ يقع منكم الكفر وآياتُ الله التي تدلُّ على توحيده تُتلى عليكم {وفيكم رسوله ومَنْ يعتصم بالله} يؤمن بالله(1/225)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} وهو أَنْ يُطاع فلا يُعصى ويُذكر فلا يُنسى ويشكر فلا بكفر فلما نزل هذا قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ومَنْ يقوى على هذا؟ وشقَّ عليهم فأنزل الله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أَيْ: كونوا على الإِسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم عليه وهو في الحقيقةِ نهيٌ عن ترك الإِسلام(1/225)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{واعتصموا بحبل الله جميعاً} أَيْ: تمسَّكوا بدين الله والخطاب للأوس والخزرج {ولا تفرقوا} كما كنتم في الجاهليَّة مُقتتلين على غير دين الله {واذكروا نعمة الله عليكم} بالإِسلام {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} يعني: ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإِسلام فزالت تلك الأحقاد وصاروا إخواناً مُتوادِّين فذلك قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ على شفا حفرة من النار} أَيْ: طرف حفرةٍ من النَّار لو متم على ما كنتم عليه {فأنقذكم} فنجَّاكم {منها} بالإِسلام وبمحمد عليه السَّلام {كذلك} أَيْ: مثل هذا البيان الذي تُلي عليكم {يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}(1/225)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{ولتكن منكم أمة} الآية أَيْ: وليكن كلُّكم كذلك ودخلت مِنْ لتخصيص المخاطبين من غيرهم(1/226)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
{ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا} أَي: اليهود والنَّصارى {واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} أَيْ: إنَّ اليهود اختلفوا بعد موسى فصاروا فرقاً وكذلك النَّصارى(1/226)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
{يومَ تبيض وجوه} أَيْ: وجوه المهاجرين والأنصار ومَنْ آمنَ بمحمدٍ عليه السَّلام {وتسودّ وجوه} اليهود والنَّصارى ومَنْ كفر به {فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم} فيقال لهم: {أكفرتم بعد إيمانكم} لأنَّهم شهدوا لمحمدٍ عليه السَّلام بالنُّبوَّة فلمَّا قدم عليهم كذَّبوه وكفروا به(1/226)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} أَيْ: جنَّته(1/226)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{تلك آيات الله} أي: القرآن {نتلوها عليك} نُبيِّنها {بالحقِّ} بالصِّدق {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} فيعاقبهم بلا جرم(1/226)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}(1/227)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{كنتم خير أمة} عند الله في اللَّوح المحفوظ يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم {أُخرجت للناس} أُظهرت لهم وما أَخرج الله تعالى للنَّاس أُمَّة خيراً من أمة محمد عليه السلام ثمَّ مدحهم بما فيهم من الخصال فقال: {تأمرون بالمعروف} الآية(1/227)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{لن يضرُّوكم} أَي: اليهود {إلاَّ أذىً} إلاَّ ضرراً يسيراً باللِّسان مثل الوعيد والبهت {وَإِنْ يقاتلوكم يولوكم الأدبار} منهزمين وعد الله نبيَّه والمؤمنين النُّصرة على اليهود فصدق وعده فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلاًّ انهزموا(1/227)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ضربت عليهم الذلة} ذكرناه {أينما ثقفوا} وُجدوا وصُودفوا {إلاَّ بحبل من الله} أَيْ: لكن قد يعتصمون بالعهد (إذا أعطوه والمعنى: أنَّهم إذلاء في كلِّ مكان إلاَّ أنَّهم يعتصمون بالعهد) والمراد {بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس} العهد والذِّمَّة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة ثمَّ أخبر أنَّهم غير متساوين في دينهم فقال:(1/227)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{ليسوا سواء} وأخبر أنَّ منهم المؤمنين فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} أَيْ: على الحقِّ {يتلون} يقرؤون {آيات الله} كتاب الله {آناء الليل} ساعاته يعني: عبد الله بن سلام ومَنْ آمن معه من أهل الكتاب {وهم يسجدون} أي: يصلون(1/227)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
قال تعالى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصالحين}(1/228)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} لن تُجحدوا جزاءه(1/228)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
{إنَّ الذين كفروا} الآية سبقت في أوَّل هذه السورة(1/228)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني: نفقة سفلة اليهود على علمائهم {كمثل ريح فيها صرٌّ} بردٌ شديدٌ {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية أعلم الله تعالى أنَّ ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الرِّيح على هذا الزَّرع {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لأنَّ كلَّ ما فعله بخلقه فهو عدلٌ منه {ولكن أنفسهم يظلمون} بالكفر والعصيان ثمَّ نهى المؤمنين عن مباطنتهم فقال:(1/228)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} أَيْ: دخلاً وخواصَّ {من دونكم} من غير أهل ملَّتكم {لا يألونكم خبالاً} أَيْ: لا يدعون جهدهم في مضرَّتكم وفسادكم {ودُّوا ما عنتم} تمنَّوا ضلالكم عن دينكم {قد بدت البغضاء} أَيْ: ظهرت العداوة {من أفواههم} بالشَّتيمة والوقيعة في المسلمين {وما تخفي صدورهم} من العداوة والخيانة {أكبر قد بينا لكم الآيات} أَيْ: علامات اليهود في عداوتهم {إن كنتم تعقلون} موقع نفع البيان(1/228)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{ها أنتم} ها تنبيهٌ دخل على أنتم {أولاء} بمعنى: الذين كأنَّه قيل: الذين {تحبُّونهم ولا يحبُّونكم} أَيْ: تريدون لهم الإِسلام وهم يريدونكم على الكفر {وتؤمنون بالكتاب كلِّه} أَيْ: بالكتب وهو اسم جنس {وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل} أَيْ: أطراف الأصابع {من الغيظ} التَّقدير: عضُّوا الأنامل من الغيظ عليكم وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم {قل موتوا بغيظكم} أمر الله تعالى نبيَّه أن يدعو عليهم بدوام غيظهم إلى أن يموتوا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما فيها من خيرٍ وشرٍّ(1/229)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
{إن تمسسكم حسنةٌ} نصرٌ وغنيمةٌ {تسؤهم} تحزنهم {وإنْ تصبكم سيئة} ضد ذلك وهو كسرٌ وهزيمةٌ {يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا} على ما تسمعون من آذاهم {وتتقوا} مقاربتهم ومخالطتهم {لا يضرُّكم كيدهم} عداوتهم {شيئاً إنَّ الله بما يعملون محيط} عالمٌ به فلن تعدموا جزاءه(1/229)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{وإذ غدوت} يعني: يوم أُحدٍ {من أهلك} من منزل عائشة رضي الله عنها {تبوء} تهيئ للمؤمنين {مقاعد} مراكز ومثابت {للقتال والله سميع} لقولكم {عليم} بما في قلوبكم(1/229)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{إذ همَّت طائفتان منكم} بنو سَلِمة وبنو حارثة {أن تفشلا} أَنْ تجبنا وذلك أنَّ هؤلاء همُّوا بالانصراف عن الحرب فعصمهم الله {والله وليُّهما} ناصرهما وموالٍ لهما {وعلى الله فليتوكل} فليعتمد في الكفاية {المؤمنون}(1/229)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلَّةٌ} بقلَّة العدد وقلَّة السِّلاح {فاتقوا الله لعلكم تشكرون} أَيْ: فاتقونِ فإنه شكر نعمتي(1/230)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
{إذ تقول للمؤمنين} يوم بدرٍ: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ من الملائكة منزلين}(1/230)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{بلى} تصديقٌ لوعد الله {إن تصبروا} على لقاء العدوِّ {وتتقوا} معصية الله ومخالفة النبيِّ عليه السَّلام ( {ويأتوكم من فورهم} قيل: من وجههم وقيل: من غيظهم) {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} مُعلَّمين وكانت الملائكة قد سوِّمت يوم بدر بالصُّوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها ثمَّ صبر المؤمنون يوم بدر فأُمدّوا بخمسة آلاف من الملائكة(1/230)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
{وما جعله الله} أَيْ: ذلك الإِمداد {إلاَّ بشرى} أَيْ: بشارةً لكم {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} فلا تجزع من كثرة العدو {وما النصر إلاَّ مِنْ عند الله} لأنَّ مَن لم ينصره الله فهو مخذولٌ وإنْ كثرت أنصاره(1/230)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
{ليقطع طرفاً} أَيْ: نصركم ببدرٍ (ليقطع طرفاً أي:) ليهدم ركناً من أركان الشِّرك بالقتل والأسر {أو يكبتهم} أَيْ: يخزيهم ويُذلَّهم يعني: الذين انهزموا قوله:(1/231)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{ليس لك من الأمر شيء} الآية لمَّا كان يوم أُحدٍ من المشركين ما كان من كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشجِّه فقال: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيِّهم وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية يُعلمه أنَّ كثيراً منهم سيؤمنون والمعنى: ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيءٌ حتى يقع إنابتهم أو تعذيبهم وهو قوله: {أو يتوب عليهم أو يعذبهم} فلمَّا نفى الأمر عن نبيِّه عليه السَّلام ذكر أنَّ جميع الأمر له فمَنْ شاء عذَّبه ومن شاء غفر له وهو قوله:(1/231)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
{ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء} أَي: الذَّنب العظيم للموحِّدين {ويعذّب من يشاء} يريد: المشركين على الذَّنب الصَّغير {والله غفورٌ} لأوليائه {رحيمٌ} بهم(1/231)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا} الآية هو أنَّهم كانوا يزيدون على المال ويؤخِّرون الأجل كلَّما أُخرِّ أجلٌ إلى غيره زِيد في المال زيادةٌ {لعلكم تفلحون} لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة(1/231)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{واتقوا النَّار} بتحريم الرِّبا وترك الاستحلال له {التي أعدَّت للكافرين} دون المؤمنين(1/232)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
قال تعالى {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}(1/232)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم} أَي: الإِسلامِ الذي يوجب المغفرة وقيل: إلى التَّوبة وقيل: إلى أداء الفرائض {وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت} لكلِّ واحدٍ من أولياء الله(1/232)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
{الذين ينفقون في السراء والضرَّاء} في اليسر والعسر وكثرة المال وقلَّته {والكاظمين الغيظ} الكافيِّن غضبهم عن إمضائه {والعافين عن الناس} أيْ: المماليك وعمَّنْ ظلمهم وأساء إليهم {والله يحبُّ المحسنين} الموحِّدين الذين فيهم هذه الخصال(1/232)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{والذين إذا فعلوا فاحشة} أَي: الزِّنا نزلت في نبهان التَّمَّار أتته امراةٌ حسناء تبتاع منه التمر فضمَّها إلى نفسه وقبَّلها ثمَّ ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية وقوله: {أو ظلموا أنفسهم} يعني: ما دون الزِّنا من قُبلةٍ أو لمسةٍ أو نظرٍ {ذكروا الله} أيْ: ذكروا عقاب الله {ولم يُصرُّوا} أَيْ: لم يقيموا ولم يدوموا {على ما فعلوا} بل أقرُّوا واستغفروا {وهم يعلمون} أن الذي أتوه حرام ومعصية(1/232)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
قال تعالى {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين}(1/232)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{قد خلت من قبلكم سننٌ} قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الكافرة سننٌ بإمهالي إيَّاهم حتى يبلغوا الأجل الذي أجَّلته في إهلاكهم وبقيت لهم آثارٌ في الدنيا فيها أعظم الاعتبار {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} آخرُ أمرِ {المُكذِّبين} منهم نزلت في قصَّة يوم أُحدٍ يقول الله: فأنا أُمهلهم حتَّى يبلغ أجلي الذي أجَّلْتُ في نصرة النبيِّ عليه السَّلام وأوليائه وإهلاك أعدائه(1/233)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{هذا بيانٌ للناس} أي: القرآن بيانٌ للنَّاس عامَّة {وهدىً وموعظة للمتقين} خاصَّة وهم الذين هداهم الله بفضله(1/233)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{ولا تهنوا} ولا تضعفوا عن جهاد عدوِّكم بما نالكم من الهزيمة {ولا تحزنوا} أَيْ: على ما فاتكم من الغنيمة {وأنتم الأعلون} أَيْ: لكم تكون العاقبة بالنَّصر والظَّفر {إن كنتم مؤمنين} أي: إن الإِيمان يُوجب ما ذكر من ترك الوهن والحزن(1/233)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{إن يمسسكم} يصبكم {قرحٌ} جراحٌ وألمها يوم أُحدٍ {فقد مسَّ القوم} المشركين {قرحٌ مثله} يوم بدرٍ {وتلك الأيام} أَيْ: أيَّام الدُّنيا {نداولها} نُصرِّفها {بين الناس} مرَّةً لفرقةٍ ومرَّةً عليها {وليعلم الله الذين آمنوا} مُميَّزين بالإٍيمان عن غيرهم أَيْ: إِنَّما نجعل الدَّولة للكفَّار على المؤمنين ليميَّز المؤمن المخلص ممَّن يرتدُّ عن الدِّين إذا أصابته نكبة والمعنى: ليعلمهم مشاهدةً كما علمهم غيباً {ويتخذ منكم شهداء} أَيْ: ليكرم قوماً بالشَّهادة {والله لا يحبُّ الظالمين} أَي: المشركين أَيْ: إنَّه إنما يُديل المشركين على المؤمنين لما ذُكر لا لأنَّه يحبُّهم(1/234)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{وليمحص الله الذين آمنوا} أَيْ: ليخلِّصهم من ذنوبهم بما يقع عليهم من قتلٍِ وجرحٍ وذهاب مال {ويمحق الكافرين} يستأصلهم إذا أدال عليهم يعني: أنه يُديل على المؤمنين لما ذُكر ويُديل على الكافرين لإِهلاكهم بذنوبهم(1/234)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{أم حسبتم} بل أحسبتم أَي: لا تحسبوا {أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله} الآية أَيْ: ولمَّا يقع العلم بالجهاد مع العلم بصبر الصَّابرين والآية خطابٌ للذين انهزموا يوم أُحدٍ قيل لهم: أحسبتم أن تدخلوا الجنَّة كما دخل الذين قُتلوا وثبتوا على ألم الجرح والضَّرب من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟ !(1/234)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{ولقد كنتم تمنون الموت} كانوا يتمنَّون يوماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: لنفعلنَّ ولنفعلنَّ ثمَّ انهزموا يوم أُحدٍ فاستحقُّوا العقاب وقوله: {من قبل أن تلقوه} أَيْ: من قبل يوم أحدٍ {فقد رأيتموه} رأيتم ما كنتم تتمنُّون من الموت أَيْ: رأيتم أسبابه ولم تثبتوا مع نبيّكم نزلت في معاتبة الرسول إياهم فقالوا: بلغنا أنَّك قد قُتلْتَ لذلك انهزمنا {وأنتم تنظرون} وأنتم بُصراءُ تتأمَّلون الحال في ذلك كيف هي فَلِمَ انهزمتم؟(1/234)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قبله الرسل} أَيْ: يموت كما ماتت الرُّسل قبله {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعقابكم} ارتددتم كفَّاراً بعد إيمانكم وذلك لمَّا نعي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم أُحدٍ وأُشيع أنَّه قد قُتل قال ناس من أهل النِّفاق للمؤمنين: إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأوَّل فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئاً} أَيْ: فإنما يضرُّ نفسه باستحقاق العذاب {وسيجزي الله} بما يستحقون من الثَّواب {الشاكرين} الطَّائعين لله من المهاجرين والأنصار ثمَّ عاتب المنهزمين بقوله:(1/235)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{وما كان لنفس أن تموت} أَيْ: ما كانت نفسٌ لتموت {إلاَّ بإذن الله} بقضائه وقدره كتب الله ذلك {كتاباً مؤجلاً} إلى أجله الذي قدِّر له فلمَ انهزمتم؟ والهزيمة لا تزيد في الحياة {ومَنْ يرد} بعمله وطاعته {ثواب الدنيا} زينتها وزخرفها {نؤته منها} نُعْطه منها ما قدَّرناه له أَيْ: لهؤلاء المنهزمين طلباً للغنيمة {ومن يرد ثواب الآخرة} يعني: الذين ثبتوا حتى قُتلوا {نؤته منها} ثمَّ احتجَّ على المنهزمين بقوله:(1/235)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{وكأين} أَيْ: وكم {من نبي قاتل} في معركةٍ {معه ربيون كثير} جماعاتٌ كثيرةٌ {فما وهنوا لما أصابهم} أَيْ: ما ضعفوا بعد قتل نبيِّهم الآية(1/236)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{وما كان قولهم} أَيْ: قول أصحاب ذلك النبيِّ المقتول عند الحرب بعد قتل نبيِّهم {إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسرافنا} تجاوزنا ما حُدَّ لنا {في أمرنا وثَبِّتْ أقدامَنا} بالقوَّة من عندك والنُّصرة(1/236)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{فآتاهم الله ثواب الدنيا} النَّصر والظَّفر {وحسن ثواب الآخرة} الأجر والمغفرة(1/236)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
{يا أيها الذين آمنوا إِنْ تطيعوا الذين كفروا} أَيْ: اليهود والمشركين حيث قالوا لكم يوم أُحدٍ: ارجعوا إلى دين آبائكم وهو قوله: {يردوكم على أعقابكم} يرجعونكم إلى أوَّل أمركم من الشِّرك بالله(1/236)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{بل الله مولاكم} أَيْ: فاستغنوا عن موالاة الكفَّار فأنا ناصركم فلا تستنصروهم ولمَّا انصرف المشركون من أحدٍ همُّوا بالرُّجوع لاستئصال المسلمين وخاف المسلمون ذلك فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم بقوله:(1/236)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
{سنلقي في قلوب الذين كفروا الرُّعب} الخوف حتى لا يرجعوا إليكم {بما أشركوا} أيْ: بإشراكهم بالله {ما لم ينزل به سلطاناً} حجَّةً وبرهاناً أيْ: الأصنام التي يَعبدونها مع الله بغير حجَّة {ومأواهم النار} أَيْ: مرجعهم النَّار {وبئس مثوى الظالمين} مقامهم(1/237)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{ولقد صدقكم الله وعده} بالنَّصر والظَّفر {إذْ تحسُّونهم} تقتلون المشركين يوم أُحدٍ في أوَّل الأمر {بإذنه} بعلم الله وإرادته {حتى إذا فشلتم} جَبنْتُم عن عدوِّكم {وتنازعتم} اختلفتم في الأمر يعني: قول بعضهم: ما مقامنا وقد انهزم القوم الكافرون وقول بعضهم: لا نجاوز أمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهذا الاختلاف كان بين الرُّماة الذين كانوا عند المركز {وعصيتم} الرَّسول بترك المركز {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تحبُّون} من الظَّفر والنَّصر على أعدائكم {منكم مَنْ يريد الدنيا} وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا إلى الذَّهب {ومنكم مَن يريد الآخرة} أَيْ: الذين ثبتوا في المركز {ثمَّ صرفكم} ردَّكم بالهزيمة {عنهم} عن الكفَّار {ليبتليكم} ليختبركم بما جعل عليكم من الدَّبرة فيتبيَّن الصَّابر من الجازع والمخلص من المنافق {وَلَقَدْ عفا عنكم} ذنبكم بعصيان النبي صلى الله عليه وسلم والهزيمة {والله ذو فضلٍ على المؤمنين} بالمغفرة(1/237)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{إذْ تصعدون} تَبعدون في الهزيمة {ولا تلوون} لا تقيمون {على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم} من خلفكم يقول: إليَّ عبادَ الله (إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله) وأنتم لا تلتفتون إليه {فأثابكم} أَيْ: جعل مكان ما ترجعون من الثَّواب {غمَّاً} وهو غمُّ الهزيمة وظفر المشركين {بغمٍّ} أَيْ: بغمِّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ عصيتموه {لكيلا تحزنوا} أَيْ: عفا عنكم لكيلا تحزنوا {على ما فاتكم} من الغنيمة {ولا ما أصابكم} من القتل والجراح(1/238)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نعاساً} وذلك أنَّهم خافوا كرَّة المشركين عليهم وكانوا تحت الحَجَف مُتأهِّبين للقتال فأمَّنهم الله تعالى أمناً ينامون معه وكان ذلك خاصا بالمؤمنين وهو قوله {يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمَّتهم} وهم المنافقون كان همَّهم خلاص أنفسهم {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أَيْ: يظنون أن أمر محمد عليه السلام مضمحل وأنه لا ينصر {ظنّ الجاهلية} أَيْ: كظنِّ أهل الجاهليَّة وهم الكفَّار {يَقُولُونَ: هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ليس لنا من النصر والظَّفَر شيء كما وُعدنا يقولون ذلك على جهة التكذيب فقال الله تعالى: {إنَّ الأمر كلّه لله} أَيْ: النصر والشهادة والقدر والقضاء {يخفون في أنفسهم} من الشك والنفاق {مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لنا من الأمر شيء} أَيْ: لو كان الاختيار إلينا {ما قتلنا هاهنا} يعنون: أنَّهم أخرجوا كُرهاً ولو كان الأمر بيدهم ما خرجوا وهذا تكذيبٌ منهم بالقدر فردَّ الله عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} مصارعهم ولم يكن لِيُنجيهم قعودُهم {وليبتلي الله ما في صدوركم} أيُّها المنافقون فعلَ الله ما فعلَ يوم أُحدٍ {وليمحِّص} ليظهر ويكشف {ما في قلوبكم} أيُّها المؤمنون من الرِّضا بقضاء الله {والله عليمٌ بذات الصدور} بضمائرها(1/238)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{إنَّ الذين توَّلوا منكم} أيُّها المؤمنون {يوم التقى الجمعان} أَيْ: الذين انهزموا يوم أحد {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} حملهم على الزَّلَّة {ببعض ما كسبوا} يعني: معصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز {ولقد عفا الله عنهم} تلك الخطيئة(1/239)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} أَيْ: المنافقين {وقالوا لإِخوانهم} أَيْ: في شأن إخوانهم في النَّسب {إذا ضربوا في الأرض} أَيْ: سافروا فماتوا وهلكوا {أو كانوا غُزَّىً} جمع غازٍ فقتلوا {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا} تكذيباً منهم بالقضاء والقدر {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} أَيْ: ليجعل ظنَّهم أنَّهم لو لم يحضروا الحرب لاندفع عنهم القتل {حسرة في قلوبهم} ينهى المؤمنين أن يكونوا كهؤلاءِ الكفَّار في هذا القول منهم ليجعل اللَّهُ ذلك حسرةً في قلوبهم دون قلوب المؤمنين {واللَّهُ يحيي ويميت} فليس يمنع الإِنسان تحرُّزه من إتيان أجله(1/239)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{ولئن قتلتم} أي: والله لئن قتلتم {في سبيل الله} في الجهاد أيُّها المؤمنون {أو متم} في سبيل الله ليغفرنَّ لكم وهو {خيرٌ مما يَجمعون} من أعراض الدُّنيا(1/240)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{ولئن متم} مُقيمين على الجهاد {أو قتلْتُم} مجاهدين {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} في الحالين(1/240)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{فبما رحمة من الله} أَيْ: فَبِرَحْمةٍ أَيْ: فبنعمةٍ من الله وإحسانٍ منه إليك {لِنت لهم} يا محمد أَيْ: سهلت أخلاقك لهم وكثر احتمالك {ولو كنت فظاً} غليظاً في القول {غليظ القلب} في الفعل {لانْفَضُّوا} لتفرَّقوا {من حولك فاعف عنهم} فيما فعلوا يومَ أُحدٍ {واستغفر لهم} حتى أشفعك فيهم {وشاورهم في الأمر} تطييباً لنفوسهم ورفعاً من أقدارهم ولتصير سنَّةً {فإذا عزمت} على ما تريد إمضاءه {فتوكل على الله} لا على المشاورة(1/240)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{إنْ ينصركم الله فلا غالب لكم} من النَّاس {وإن يخذلكم} (يوم أُحد) لا ينصركم أحدٌ من بعده والمعنى: لا تتركوا أمري للنَّاس وارفضوا النَّاس لأمري(1/240)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{وما كان لنبيٍّ أن يغلَّ} أَيْ: يخون بكتمان شيءٍ من الغنيمة عن أصحابه نزلت في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدرٍ فقال النَّاس: لعلَّ النَّبيَّ أخذها فنفى الله تعالى عنه الغلول وبيَّن أنَّه ما غلَّ نبيٌّ والمعنى: ما كان لنبيٍّ غلولٌ {ومن يَغْلُلْ يأت بما غلَّ} حاملاً له على ظهره {يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كسبت} أَيْ: تُجازى ثواب عملها {وهم لا يظلمون} لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً(1/240)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{أفمن اتبع رضوان الله} بالإيمان به والعمل بطاعته يعني: المؤمنين {كمَنْ باء بسخطٍ من الله} احتمله بالكفر به والعمل بمعصيته يعني: المنافقين(1/241)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{هم درجاتٌ عند الله} أَيْ: أهل درجات عند الله يريد أنَّهم مختلفو المنازل فَلِمَن اتِّبع رضوان الله الكرامة والثَّواب ولِمَنْ باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعذاب {والله بصيرٌ بما يعملون} فيه حثٌّ على الطَّاعة وتحذيرٌ عن المعصية(1/241)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فيهم رسولاً من أنفسهم} أَيْ: واحداً منهم عُرِف أمره وخبرُ صدقه وأمانته ليس بمَلَك ولا أحدٍ من غير بني آدم وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة {وإن كانوا من قَبْلُ} وقد كانوا من قبل بعثه {لفي ضلالٍ مبين}(1/241)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{أَوَ لَمّا أصابتكم} أَوَ حين أصابتكم مصيبة يعني: ما أصابهم يوم أُحدٍ {قد أصبتم} أنتم {مثليها} يوم بدر وذلك أنَّهم قتلوا سبعين وأسروا سبعين وقُتل منهم يوم أحد سبعون {قلتم أنَّى هذا} من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فينا؟ ! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: إنَّكم تركتم المركز وطلبتم الغنيمة فَمِنْ قِبَلِكُمْ جاءكم الشَّرُّ {إن الله على كل شيء قدير} من النَّصر مع طاعتكم نبيَّكم وترك النَّصر مع مخالفتكم إيَّاه(1/241)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
{وما أصابكم يوم التقى الجمعان} يوم أُحدٍ {فبإذن الله} بقضائه وقدره يُسلِّيهم بذلك {وليعلم المؤمنين} ثابتين صابرين وليعلم المنافقين جازعين ممَّا نزل بهم(1/242)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{وقيل لهم} لعبد الله بن أُبيِّ وأصحابه لمَّا انصرفوا ذلك اليوم عن المؤمنين {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} عنَّا القوم بتكثيركم سوادنا إنْ لم تقاتلوا {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} أَيْ: لو نعلم أنَّكم تقاتلون اليوم لاتَّبعناكم ولكن لا يكون اليوم قتال ونافقوا بهذا لأنَّهم لو علموا ذلك ما اتَّبعوهم قال الله تعالى: {هم للكفر يومئذٍ} بما أظهروا من خذلان المؤمنين {أقربُ منهم للإِيمان} لأنهم كانوا قبل ذلك أقربَ إلى الإِيمان بظاهر حالهم فلمَّا خذلوا المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر من حيث الظَّاهر(1/242)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{الذين قالوا} يعني: المنافقين {لإِِخوانهم} لأمثالهم من أهل النِّفاق {وقعدوا} عن الجهاد الواو للحال {لو أطاعونا} يعنون: شهداء أُحدٍ في الإنصراف عن النبي صلى الله عليه وسلم والقعود {ما قُتلوا} فردَّ الله تعالى عليهم وقال: {قل} لهم يا محمد {فادْرَؤُوا} فادفعوا {عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} إنْ صدقتم أنَّ الحذر ينفع من القدر(1/242)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: شهداء أُحدٍ {أمواتاً بل أحياء} بل هم أحياءٌ {عند ربهم} في دار كرامته لأنَّ أرواحهم في أجواف طيرٍ خضرٍ {يرزقون} يأكلون(1/243)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{فرحين} مسرورين {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لم يلحقوا بهم من خلفهم} ويفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم يرجون لهم الشَّهادة فينالون مثلَ ما نالوا {ألاَّ خوفٌ عليهم} أَيْ: بأن لا خوفٌ عليهم يعني: على إخوانهم المؤمنين إذا لحقوا بهم(1/243)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قال تعالى {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}(1/243)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{الذين استجابوا لله والرسول} أجابوهما {من بعد ما أصابهم القرح} أَيْ: الجراحات {للذين أحسنوا منهم} بطاعة الرَّسول واتَّقوا مخالفته {أجر عظيم} نزلت في الذين أطاعوا الرَّسول حين ندبهم للخروج في طلب أبي سفيان يوم أُحدٍ لمَّا همَّ أبو سفيان بالانصراف إلى محمَّدٍ عليه السَّلام وأصحابه ليستأصلوهم(1/243)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{الذين قال لهم الناس} الآية كان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يوافيه العام المقبل من يوم أُحدٍ بِبَدْرٍ الصُّغرى فلمَّا كان العام المقبل بعث نعيم بن مسعود الأشجعيِّ ليجبِّن المؤمنين عن لقائه وهو قوله: {الذين} يعني: المؤمنين {قال لهم الناس} يعني: نعيم بن مسعود {إنَّ الناس} يعني: أبا سفيان وأصحابه {قد جمعوا} باللطيمة سوق مكة {لكم فاخشوهم} ولا تأتوهم {فزادهم} ذلك القول {إيماناً} أَيْ: ثبوتاً في دينهم وإقامةً على نصرة نبيِّهم {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أَيْ: الذي يكفينا أمرهم هو الله {ونِعْمَ الوكيل} أَيْ: الموكول إليه الأمر(1/243)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل} ربحٍ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لذلك الموعد فلم يلق أحداً من المشركين ووافقوا السُّوق وذلك أنَّه كان موضع سوقٍ لهم فاتَّجروا وربحوا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين وهو قوله: {لم يمسسهم سوءٌ} أَيْ: قتل ولا جراح {واتبعوا رضوان الله} إلى بدر الصغرى في طاعته وفي طاعة رسوله قوله:(1/244)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{إنما ذلكم الشيطان يُخوِّف أولياءَه} أَيْ: يُخوِّفكم بأوليائه يعني: الكفَّار {فلا تخافوهم وخافون} في ترك أمري {إن كنتم مؤمنين} مصدقين لوعدي(1/243)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} أَيْ: في نصرته وهم المنافقون واليهود والمشركون {إنَّهم لن يضرُّوا الله} أََيْ: أولياءَه ودينه {شيئاً} وإنَّما يعود وبال ذلك عليهم {يريد الله أن لا يجعل لهم حظَّاً} نصيباً {في الآخرة} في الجنَّة(1/243)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
{إنَّ الذين اشتروا الكفر بالإِيمان} أَيْ: استبدلوا كرَّر {لن يضروا الله شيئاً} لأنه ذكرن في الأول على طريق العلة لما يجب من التَّسلية عن المسارعة إلى الضَّلالة وذكره في الثاني على طريق العلة لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصي(1/245)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أي: أنَّ إملاءنا - وهو الإِمهال والتأخير - {خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم} أَيْ: نُطوِّل أعمارهم ليزدادوا إثماً لمعاندتهم الحق وخلافهم الرَّسول نزلت الآية في قومٍ من الكفَّار علم الله تعالى أنَّهم لا يؤمنون أبداً وأنَّ بقاءهم يزيدهم كفراً(1/245)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنتم عليه} أَيُّها المؤمنون من التباس المنافق بالمؤمن {حتى يميز الخبيث من الطيب} أََيْ: المنافق من المؤمن ففعل ذلك يوم أُحدٍ لأنَّ المنافقين أظهروا النِّفاق بتخلُّفهم {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} فتعرفوا المنافق من المؤمن قبل التَّمييز {ولكنَّ الله} يختار لمعرفة ذلك مَن يشاء من الرُّسل وكان محمَّد ممَّن اصطفاه الله بهذا العلم(1/245)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ولا يحسبنَّ الذين يبخلون} أَيْ: بخل الَّذِينَ يَبْخَلُونَ {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} بما يجب فيه من الزَّكاة نزلت في مانعي الزَّكاة {هو خيراً لهم} أَيْ: البخلَ خيراً لهم {بل هو شرٌّ لهم} لأَنَّهم يستحقُّون بذلك عذاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القيامة} وهو أنَّه يُجعل ما بَخِل به من المال حيَّةً يُطوَّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه {ولله ميراث السماوات والأرض} أَيْ: إنَّه يُغني أهلهما وتبقى الأملاك والأموال لله ولا مالك لها إلاَّ الله تعالى(1/245)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فقير ونحن أغنياء} نزلت في اليهود حين قالوا - لمَّا نزل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يقرض الله قرضا} -: إنَّ الله فقيرٌ يستقرضنا ونحن أغنياء ولو كان غنيَّاً ما استقرضنا أموالنا {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أَيْ: نأمر الحفظة بإثبات ذلك في صحائف أعمالهم الآية(1/246)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{ذلك} أَيْ: ذلك العذاب {بما قدَّمت أيديكم} بما سلفت من إجرامكم {وأنَّ الله} وبأن الله {ليس بظلام للعبيد} فيعاقبهم بغير جرمٍ(1/246)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
{الذين قالوا إنَّ الله عهد إلينا} أَيْ: اليهود وذلك أن أمر بني إسرائيل في التَّوراة ألا يُصدقوا رسولاً جاءهم حتى يأتيهم بقربانٍ تأكله النَّار إلاَّ المسيحَ ومحمداً عليهما السَّلام فكانوا يقولون لمحمَّد عليه السَّلام: لا نُصدِّقك حتى تأتينا بقربان تأكله النَّار لأنَّ الله عهد إلينا ذلك فقال الله تعالى لمحمد عليه السَّلام إقامةً للحجَّة عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ من قبلي} ثم عزى النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم بقوله:(1/246)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بالبينات والزبر} أَيْ: الكتب {والكتاب المنير} أَيْ: الهادي إلى الحقِّ(1/246)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أَيْ: ظفر بالخير ونجا من الشَّرِّ {وما الحياة الدنيا} أَيْ: العيش في هذه الدَّار الفانية {إلاَّ متاع الغرور} لأنَّه يغرُّ الإِنسان بما يُمنِّيه من طول البقاء وهو ينقطع عن قريب(1/247)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{لتبلونَّ} لتختبرُنَّ أيُّها المؤمنون {في أموالكم} بالفرائض فيها {وأنفسكم} بالصَّلاة والصَّوم والحجِّ والجهاد {ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب} وهم اليهود {ومنَ الذين أشركوا} وهم المشركون {أذىً كثيراً} بالشَّتم والتَّعيير {وإن تصبروا} على ذلك الأذى بترك المعارضة {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} من حقيقة الإِيمان(1/247)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أخذ الله ميثاق اليهود في التَّوراة ليبيننَّ شأن محمَّد ونعته ومبعثه ولا يخفونه فنبذوا الميثاق ولم يعملوا به وذلك قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلاً} أَيْ: ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم {فبئس ما يشترون} قُبِّح شراؤهم وخسروا(1/247)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{لا تحسبنَّ الذين يفرحون} هم اليهود فرحوا بإضلال النَّاس وبنسبة النَّاس إيَّاهم إلى العلم وليسوا كذلك وأَحبُّوا أن يحمدوا بالتَّمسُّك بالحقِّ وقالوا: نحن أصحاب التَّوراة وأولو العلم القديم {فلا تحسبنَّهم بمفازة} بمنجاةٍ {من العذاب}(1/247)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
{ولله ملك السماوات والأرض} أَيْ: يملك تدبيرهما وتصريفهما على ما يشاء الآية والتي بعدها ذُكرت في سورة البقرة(1/248)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
قول تعالى {إنَّ في خلق السماوات وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}(1/248)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} أَيْ: يصلُّون على هذه الأحوال على قدر إمكانهم {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} فيكون ذلك أزيد في بصيرتهم {ربنا} أَيْ: ويقولون: {ربنا ما خلقت هذا} أَيْ: هذا الذي نراه من خلق السماوات والأرض {باطلاً} أَيْ: خلقاً باطلاً يعني: خلقته دليلاً على حكمتك وكمال قدرتك(1/248)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
{ربَّنا إنَّك مَنْ تدخل النار} للخلود فيها {فقد أخزيته} : أهلكته وأهنته {وما للظالمين} أَيْ: الكفَّار {من أنصار} يمنعونهم من عذاب الله(1/249)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{ربنا إننا سمعنا منادياً} أَيْ: محمَّداً عليه السَّلام والقرآن {ينادي للإِيمان} أَيْ: إلى الإِيمان {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذنوبنا وكَفِّرْ عنّا سيئاتنا} أَيْ: غطِّ واستر عنا ذنوبنا بقبول الطَّاعات حتى تكون كفَّارةً لها {وتوفنا مع الأبرار} يعني: الأنبياء أَيْ: في جملتهم حتى نصير معهم(1/249)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} أَيْ: على ألسنتهم من النَّصر لنا والخذلان لعدِّونا {ولا تُخْزِنَا يوم القيامة} أَيْ: لا تهلكنا بالعذاب قولة(1/249)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{بعضكم من بعض} أَيْ: حكمُ جميعكم حكمُ واحدٍ منكم فيما أفعل بكم من مجازاتكم على أعمالكم وترك تضييعها لكم(1/249)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} تصرُّفهم للتِّجارات في البلاد وذلك أنَّهم كانوا يتَّجرون ويتنعَّمون في البلاد فقال بعض المؤمنين: إنَّ أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت هذه الآية قواة(1/249)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{متاعٌ قليل} أَيْ: ذلك الكسب والرِّبح متاعٌ قليل لأنَّه فانٍ منقطعٌ وقوله:(1/250)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{نزلاً} النُّزُل: ما يُهيَّأ للضَّيف ومعناه هاهنا الجزاء والثَّواب {وما عند الله خيرٌ للأبرار} ممَّا يتقلَّب فيه الكفَّار ثمَّ ذكر مؤمني أهل الكتاب فقال:(1/250)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية(1/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا} أَيْ: اصبروا على دينكم فلا تَدعوه لشدِّةٍ نزلت بكم وقيل: على الجهاد {وصابروا} عدوَّكم فلا يكوننَّ أصبر منكم {ورابطوا} أَيْ: اقيموا على جهاد عدوِّكم بالحرب والحجَّة(1/250)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
{يا أيها الناس} يا أهل مكة {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم {وخلق منها زوجها} حوَّاء خُلقت من ضلع من أضلاعه {وبث} أَيْ: فرَّق ونشر {منهما} {واتقوا الله} أَيْ: خافوه وأطيعوه {الذي تساءلون به} أَيْ: تتساءلون فيما بينكم حوائجكم وحقوقكم به وتقولون: أسألك بالله وأنشدك الله وقوله: {والأرحام} أيْ: واتَّقوا الأرحام أن تقطعوها {إنَّ الله كان عليكم رقيباً} أَيْ: حافظاً يرقب عليكم أعمالكم فاتَّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه(1/251)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{وآتوا اليتامى أموالهم} الخطاب للأولياء والأوصياء أَيْ: أعطوهم أموالهم إذا بلغوا {وَلا تَتَبَدَّلُوا الخبيث} من أموالهم الحرام (عليكم) {بالطيب} الحلال من مالكم وهو أنَّه كان وليُّ اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الرَّديء {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} لا تضيفوها في الأكل إلى أموالكم إذا احتجتم إليها {إنَّه} أَيْ: إنَّ أكل أموالهم {كان حوباً كبيراً} أيْ: إثماً كبيراً(1/251)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{وإن خفتم أن لا تُقسطوا} : ألا تعدلوا {في اليتامى} (أي: في نكاح اليتامى) وهمَّكم ذلك {فانكحوا ما طاب} أَي: الطَّيِّب {لكم من النساء} يعني: من اللاتي تحلُّ دون المحرَّمات والمعنى: أنَّ الله سبحانه قال لنا: فكما تخافون ألا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم فخافوا أيضاً ألا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن قانكحوا من النِّساء {مثنى} أَي: اثنتين اثنتين {وثلاث} ثلاثاً ثلاثاً {ورباع} أربعاً أربعاً {فإن خفتم أن لا تعدلوا} أَيْ: في الأربع {فواحدة} أَيْ: فلينكح كلُّ واحدٍ منكم واحدةً و {ذلك} أنَّ نكاح هؤلاء النِّسوة على قلَّة عددهنَّ {أدنى} أَيْ: أقربُ إلى العدل وهو قوله: {أن لا تعدلوا} أَيْ: تميلوا وتجوروا(1/252)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{وآتوا النساء} أَيُّها الأزواج {صدقاتهنَّ} مهورهنَّ {نحلة} فريضةً وتديُّناً {فإنْ طبن لكم} أَيْ: إنْ طابت لكم أنفسهنَّ {عن شيء} من الصَّداق {فكلوه هنيئاً} في الدُّنيا لا يقضي به عليكم سلطانٌ {مريئاً} في الآخرة لا يؤاخذكم الله به(1/252)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{ولا تؤتوا السفهاء} أَي: النِّساء والصِّبيان {أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} لمعايشتكم وصلاح دنياكم يقول: لا تعمدْ إلى مالك الذي خوَّلك الله وجعله لك معيشةً فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثمَّ تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم وهو قوله: {وارزقوهم فيها} (أي: اجعلوا لهم فيها رزقاً) {واكسوهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} أَيْ: عِدَةً جميلةً من البرِّ والصِّلة(1/252)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{وابتلوا اليتامى} أَيْ: اختبروهم في عقولهم وأديانهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أَيْ: حال النِّكاح من الاحتلام {فإن آنستم} أبصرتم {منهم رشداً} صلاحاً للعقل وحفظاً للمال {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا} أَيْ: لا تبادروا بأكل مالهم كبرَهم ورشدهم حذر أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم {وَمَنْ كان غنيّاً} من الأوصياء {فليستعف} عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً {ومَنْ كان فقيراً فليأكل بالمعروف} يقدِّر أجرة عمله {فإذا دفعتم} أَيُّها الأولياء {إليهم} إلى اليتامى {أموالهم فأشهدوا عليهم} لكي إنْ وقع اختلافٌ أمكن الوليِّ أن يقيم البيِّنة على ردِّ المال إليه {وكفى بالله حسيباً} محاسباً ومجازياً للمحسن والمسيء(1/252)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
{للرجال نصيب} الآية كانت العرب في الجاهليَّة لا تورث النِّساء ولا الصِّغار شيئاً فأبطل الله ذلك وأعلم أنَّ حقَّ الميراث على ما ذكر في هذه الآية من الفرض(1/253)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{وإذا حضر القسمة} أَيْ: قسمة المال بين الورثة {أولو القربى} أَي: الذين يُحجبون ولا يرثون {واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وهذا على النَّدب والاستحباب يستحبُّ للوارث أن يرضخ لهؤلاء إذا حضروا القسمة من الذَّهب والفضَّة وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً إذا كان الميراث ممَّا لا يمكن أن يرضخ منه كالأرضين والرَّقيق(1/253)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{وليخش الذين لو تركوا} الآية أَيْ: وليخش مَنْ كان له وُلدٌ صغارٌ خاف عليهم من بعده الضَّيعة أن يأمر الموصي بالإِسراف فيما يعطيه اليتامى والمساكين وأقاربه الذين لا يرثون فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميِّت وهذا قبل أن تكون الوصية في الثُّلث وقوله: {ذرية ضعافاً} أَيْ: صغاراً {خافوا عليهم} أي: الفقر {فليتقوا الله} فيما يقولون لمن حضره الموت {وليقولوا قولاً سديداً} عدلاً وهو أن يأمره أن يخلِّف ماله لولده ويتصدَّق بما دون الثُّلث أو الثُّلث ثمَّ ذكر الوعيد على أكل مال اليتيم ظلماً فقال:(1/253)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يأكلون في بطونهم ناراً} الآية تؤول عاقبته إلى النَّار {وسيصلون سعيراً} ناراً ذات تلهُّب أَيْ: يُقاسون حرَّها وشدَّتها(1/254)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{يوصيكم الله} أَيْ: يفرض عليكم لأنَّ الوصية من اللَّه فرضٌ {في أولادكم} الذُّكور والإِناث {للذكر مثل حظ الأنثيين فإنْ كُنَّ} أَي: الأولاد {نساءً فوق اثنتين} فوق ها هنا صلة لأ الثِّنتين يرثان الثُّلثين بإجماعٍ اليوم وهو قوله: {فلهن ثلثا ما ترك} ويجوز تسمية الاثنين بالجمع {وإن كانت} المتروكة المُخلًّفة {واحدة فلها النصف} وتمَّ بيان ميراث الأولاد ثمَّ قال {ولأبويه} أَيْ: ولأبوي الميِّت {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ له} أي: الميت {إخوة} يعني أخوين لأنَّ الأُمَّة أجمعت أنَّ الأخوين يحجبان الأمَّ من الثُّلث إلى السُّدس وقوله: {من بعد وصية} أَيْ: هذه الأنصباء إِنَّمَا تُقسم بعد قضاء الدَّين وإنفاذ وصية الميت {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نفعاً} فِي الدُّنْيَا فتعطونه من الميراث ما يستحقُّ ولكنَّ الله قَدْ فرض الفرائض عَلَى ما هو عِنْده حكمة ولو وكل ذَلِكَ إليكم لَمْ تعلموا أيُّهم أنفع لكم فأفسدتم وضيَّعتم {إنَّ الله كان عليماً} بالأشياء قبل خلقها {حكيماً} فيما دبرَّ من الفرائض وقوله:(1/254)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{وإن كان رجل يورث كلالة} الكلالة: مَنْ لا ولد له ولا والد وكلُّ وارثٍ ليس بوالدٍ ولا ولد للميِّت فهو كلالة أيضاً والكلالة في هذه الآية الميِّت أَيْ: وإن مات رجلٌ ولا ولد له ولا والد {وله أخٌ أو أخت} يريد: من الأمِّ بإجماع من الأُمَّة {فلكلِّ واحدٍ منهما السدس} وهو فرضُ الواحد من ولد الأمِّ {فَإِن كانوا أكثر من} واحدٍ اشتركوا فِي الثُّلث الذَّكر والأنثى فيه سواءٌ وقوله: {غير مضارٍّ} أَيْ: مُدخلٍ الضَّرر عَلَى الورثة وَهُوَ أَنْ يُوصي بدين لَيْسَ عَلَيْه يريد بِذَلِك ضرر الورثة {والله عليمٌ} فيما دبَّر من هَذِهِ الفرائض {حليمٌ} عمَّن عصاه بتأخير عقوبته(1/255)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم}(1/255)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
قال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارا خالدا فيها وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}(1/255)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{واللاتي يأتين الفاحشة} يفعلن الزِّنا {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أَيّ: من المسلمين {فإن شهدوا} عليهنَّ بالزِّنا {فأمسكوهنَّ} فاحبسوهنَّ {في البيوت} في السجون وهذا كلام في أوَّل الإِسلام إذا كان الزَّانيان ثَيِّبين حُبسا ومُنعا من مخالطة النَّاس ثمَّ نُسخ ذلك بالرَّجم وهو قوله: {أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً} وهو سبيلهنَّ الذي جعله الله لهنَّ(1/255)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
{واللذان يأتيانها} أَي: البكرين يزنيان ويأتيان الفاحشة {فآذوهما} بالتَّعنيف والتَّوبيخ وهو أنْ يقال لهما: انتهكتما حرمات الله وعصيتماه واستوجبتما عقابه {فَإِن تابا} من الفاحشة {وأصلحا} العمل فيما بعد فاتركوا أذاهما وهذا كان في ابتداء الإِسلام ثمَّ نسخه قوله: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ} الآية(1/256)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{إنما التوبةُ على الله} أَي: إنما التوبة التي أوجبت الله على نفسه بفضله قَبولَها {للذين يعملون السوء بجهالة} أي: إنّ ذنبَ المؤمن جهلٌ منه والمعاصي كلُّها جهالة ومَنْ عصى ربَّه فهو جاهل {ثم يتوبون من قريب} أَيْ: من قبل الموت ولو بِفُواق ناقة {فأولئك يتوب الله عليهم} يعود عليهم بالرحمة {وكان اللَّهُ عليماً حكيماً} علم ما في قلوب المؤمنين من التصديق فحكم لهم بالتوبة قبل الموت بقدر فُواق ناقة(1/256)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
{وليست التوبة للذين يعملون السيئات} أَي: المشركين والمنافقين {ولا الذين يموتون وهم كفار} يعني: ولا توبة لهؤلاء إذا ماتوا على كفرهم لأنَّ التَّوبة لَا تُقبل فِي الآخرة {أُولَئِكَ أعتدنا} أَيْ: هيَّأنا وأعددنا(1/257)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{يا أيها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم} الآية كان الرَّجل إذا ماتَ ورث قريبُه من عصبته امرأتَه وصار أحقَّ بها من غيره فأبطل الله ذلك وأعلم أنَّ الرَّجل لايرث المرأة من الميت وقوله {أن ترثوا النساء كرهاً} يريد: عين النِّساء كرهاً أَيْ: نكاح النساء وهنَّ كارهاتٌ {ولا تعضلوهنَّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} كان الرجل يمسك المرأة ةليس له فيها حاجةٌ إضراراً بها حتى تفتدي بمهرها فَنُهوا عن ذلك ثمَّ استثنى فقال: {إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة} أيْ: الزِّنا فإذا رأى الرَّجل من امرأته فاحشةً فلا بأس أن يضارَّها حتى تختلع منه {وعاشروهنَّ بالمعروف} أَيْ: بما يجب لهنَّ من الحقوق وهذا قبل أن يأتين الفاحشة {فإن كرهتموهن} الآية أَيْ: فيما كرهتم ممَّا هو لله رضى خيرٌ كثيرٌ وثوابٌ عظيمٌ والخير الكثير في المرأة المكروهة أن يرزقه الله منها ولداً صالحاً(1/257)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{وإن أردتم} الآية أي: إذا أراد الرَّجل طلاق امرأته وتزوَّج غيرها لم يكن له أن يرجع فيما آتاها من المهر وهو قوله: {وآتيتم إحداهنَّ قنطاراً} أَيْ: مالاً كثيراً {فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً} ظلماً {وإثماً مبيناً} وفي هذا نَهْيٌّ عن الضِّرار في غير حال الفاحشة وهو أنْ يضارَّها لتفتدي منه من غير أَنْ أتت بفاحشة(1/258)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
{وكيف تأخذونه} أَي: المهر أو شيئاً منه {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَيّ: وصل إليه بالمجامعة ولا يجوز الرُّجوع في شيءٍ من المهر بعد الجماع {وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} وهو ما أخذه الله على الرِّجال للنِّساء من إمساكٍ بمعروفٍ أَوْ تسريحٍ بإحسانٍ(1/258)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} الآية كان الرَّجل من العرب يتزوَّج امرأة أبيه من بعده وكان ذلك نكاحاً جائزاً في العرب فحرَّمه الله تعالى ونهى عنه وقوله: {إلاَّ ما قد سلف} يعني: لكن ما قَدْ سلف فَإِن اللَّه تجاوز عَنْهُ {إنَّه} أَي: إنَّ ذَلِكَ النِّكاح {كان فاحشة} زنا عند الله {ومقتاً} بغضاً شديداً {وساء سبيلاً} وقَبُحَ ذلك الفعل طريقاً ثمَّ ذكر المحرَّمات من النِّساء فقال:(1/258)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم} جمع الرَّبيبة وهِيَ بِنْت امرأة الرَّجُل من غيره {اللاتي في حجوركم} أيْ: في ضمانكم وتربيتكم {وحلائل} وأزواج {أبنائكم الذين من أصلابكم} لا مَنْ تبنَّيتموه {وأن تجمعوا} أَيْ: الجمع {بين الأختين إلاَّ ما قد سلف} مضى منكم في الجاهلية فلا تُؤاخذون به بعد الإِسلام(1/258)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{والمحصنات} وذوات الأزواج {من النساء} وهنَّ مُحرَّمات على كلِّ أحدٍ غير أزواجهنَّ إِلَّا ما ملكتموهنَّ بالسَّبي من دار الحرب فإنَّها تحلُّ لمالكها بعد الاستبراء بحيضة {كتاب الله عليكم} كتب تحريم ما ذِكْرُ مَنْ النِّساء عليكم {وأحلَّ لكم ما وراء ذلك} أَيْ: ما سوى ذلكم من النِّساء {أن تبتغوا} أَيّ: تطلبوا بأموالكم إمَّا بنكاحٍ وصداقٍ أو بملكِ يمينٍ {محصنين} ناكحين {غير مسافحين} زانين {فما استمتعتم} فما انتفعتم وتلذَّذتم {به منهنَّ} أي: من النساء بالنِّكاح الصَّحيح {فآتوهنَّ أجورهنَّ} أَيْ: مهورهنَّ {فريضة} فَإِن استمتع بالدُّخول بها آتى المهر تامّاً وإن استمتع بعقد النِّكاح آتى نصف المهر {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بعد الفريضة} من حطِّ المهر أو إبراءٍ من بعض الصَّداق أو كلِّه {إنَّ الله كان عليماً} بما يصلح أمر العباد {حكيماً} فيما بيَّن لهم من عقد النِّكاح(1/259)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{ومَنْ لم يستطع منكم طولاً} أَيْ: قدرةً وغنىً {أن ينكح المحصنات} الحرائر {المؤمنات فمن مّا ملكت أيمانكم} أَيْ: فليتزوَّج ممَّا ملكت أيمانكم يعني: جارية غيره {من فتياتكم} أَيْ: مملوكاتكم {المؤمنات والله أعلم بإيمانكم} أَي: اعملوا على الظَّاهر في الإِيمان فإنَّكم مُتعبَّدون بما ظهر والله يتولَّى السَّرائر {بعضكم من بعض} أَيْ: دينكم واحدٌ فأنتم متساوون من هذه الجهة فمتى وقع لأحدكم الضَّرورة جاز له تزوُّج الأَمَة {فانكحوهنَّ بإذن أهلهن} أَي: اخطبوهنَّ إلى ساداتهنَّ {وآتوهنَّ أجورهنَّ} مهورهنَّ {بالمعروف} من غير مطلٍ وضرارٍ {محصنات} عفائفَ {غير مسافحات} غير زوانٍ علانيةً {ولا متخذات أخدان} زوانٍ سرَّاً {فإذا أُحصن} تزوَّجن {فإن أتين بفاحشة} بزنا {فعليهنَّ نصف ما على المحصنات} الأبكار الحرائر {من العذاب} أَي: الحدِّ {ذلك} أَيْ: ذلك النِّكاح نكاح الأَمَة {لمن خشي العنت منكم} أَيْ: خاف أن تحمله شدَّة الغِلمة على الزنا قيلقى العنت أَي: الحدَّ في الدُّنيا والعذاب في الآخرة أَباحَ الله نكاح الأمَة بشرطين: أحدهما: عدم الطَّول الثاني: خوف العَنَت ثُمّ قَالَ: {وأن تصبروا} أَيّ: عن نكاح الإِماء {خيرٌ لَكُمْ} لئلا يصير الولد عبداً(1/259)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
{يريدُ الله ليبيِّن لكم} شرائع دينكم ومصالح أمركم {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام وهو دين الحنيفيَّة {ويتوب عليكم} يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته(1/260)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{واللَّهُ يريد أن يتوب عليكم} أَيْ: يُخرجكم من كُلّ ما يكره إلى ما يحبُّ ويرضى {ويريد الذين يتبعون الشهوات} وهم الزُّناة وأهل الباطل في دينهم {أن تميلوا} عن الحقِّ وقصد السِّبيل بالمعصية {ميلاً عظيماً} فتكونوا مثلَهم(1/260)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{يريد الله أن يخفف عنكم} في كلِّ أحكام الشَّرع {وخلق الإِنسان ضعيفاً} يضعف من الصَّبر عن النِّساء(1/261)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وهو كلُّ ما لا يحلُّ في الشَّرع كالرِّبا والغصب والقمار والسَّرقة والخيانة {إلاَّ أن تكون تجارةً} لكن إن كانت تجارة {عن تراضٍ منكم} برضى البَيِّعْين فهو حلال {ولا تقتلوا أنفسكم} لا يقتل بعضكم بعضاً(1/261)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ومَنْ يفعل ذلك} أَيْ: أكل المال بالباطل وقتل النَّفس {عدواناً} وهو أن يعدوَ ما أُمر به {وظُلماً فسوف نصليه} أَيْ: نُدخله ناراً {وكان ذلك على الله يسيراً} أَيْ: هو قادر على ذلك ولا يتعذَّر عليه(1/261)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} وهي كُلّ ذنبٍ ختمه اللَّه بنارٍ أَوْ غضبٍ أو لعنةٍ أو عذابٍ أو وعيدٍ في القرآن {نكفر عنكم سيئاتكم} التي هي دون الكبائر بالصَّلوات الخمس {وندخلكم مدخلاً كريماً} أَيْ: الجنَّة(1/261)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بعض} الآية قالت أمُّ سلمة: يا رسول الله ليتنا كُنَّا رجالاً فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرِّجال فنزلت هذه الآية {للرجال نصيب} ثواب {مما اكتسبوا} من الجهاد {وللنساء نصيبٌ} (ثوابٌ) {ممَّا اكتسبن} من حفظ فروجهنَّ وطاعة أزواجهنَّ {واسألوا الله من فضله} إن احتجتم إلى مَا لِغَيركم فيعطيكم من فضله(1/261)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{ولكلٍّ} أَيْ: ولكلِّ شخصٍ من الرِّجال والنِّساء {جعلنا موالي} عصبة وورثة {ممَّا ترك الوالدان والأقربون} أَيْ: ممَّن تركهم والداه وأقربوه أَيْ: تشعَّبت العصبة والورثة عن الوالدين والأقربين ثمَّ ابتدأ فقال: {والذين عقدت أيمانكم} وهو الحلفاء أَيْ: عاقدت حلفَهم أيمانُكم وهي جمع يمين من القَسَم وكان الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يعاقد الرَّجُل وَيَقُولُ له: دمي دمُّك وحربي حربُك وسلمي سلمُك فَلَمَّا قام الْإِسْلَام جعل للحليف السُّدس وَهُوَ قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثُمّ نسخ ذَلِكَ بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهَ} {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أَيْ: لم يغب عنه علم ما خلق(1/262)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{الرجال قوَّامون على النساء} على تأديبهنَّ والأخذ فوق أيديهنَّ {بما فضَّل الله} الرِّجال على النِّساء بالعلم والعقل والقوَّة في التَّصرف والجهاد والشَّهادة والميراث {وبما أنفقوا} عليهنَّ {من أموالهم} أَي: المهر والإِنفاق عليهنَّ {فالصالحات} من النِّساء اللواتي هنَّ مطيعاتٌ لأزواجهنَّ وهو قوله: {قانتات حافظاتٌ للغيب} يحفظن فروجهنَّ فِي غيبة أزواجهنَّ {بِمَا حَفِظَ الله} بما حفظهنَّ اللَّه فِي إيجاب المهر والنَّفقة لهنَّ وإيصاء الزَّوج بهنَّ {واللاتي تخافون} تعلمون {نشوزهنَّ} عصيانهنَّ {فعظوهنَّ} بكتاب اللَّه وذكِّروهنَّ اللَّه وما أمرهنَّ به {واهجروهن في المضاجع} فرِّقوا بينكم وبينهم في المضاجع (في الفرش) {واضربوهنَّ} ضرباً غير مبرِّح شديد وللزَّوج أن يتلافى نشوز امرأنه بما أذن الله تعالى فيه يعظها بلسانه فإنْ لم تنتهِ هجر مضجعها فإنْ أبت ضربها فإن أبت أن تتَّعظ بالضرب بُعثَ الحكمان {فإن أطعنكم} فيما يُلتمس منهنَّ {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} لا تتجنَّوا عليهنَّ من العلل(1/262)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{وإنْ خفتم} (علمتم) {شقاق بينهما} علمتم خلافاً بين الزَّوجين {فابعثوا حكماً} أَيْ: حاكماً وهو المانع من الظُّلم من أقاربه {وحَكَماً من أهلها} حتى يجتهدا وينظرا الظَّالم منهما فيأمراه بالرجوع إلى أمر الله أو يُفرِّقا إنْ رأيا ذلك {إن يريدا} أَي: الحكمان {إصلاحاً يوفق الله بينهما} مِن الزوج والمرأة بالصَّلاح {إنَّ الله كان عليماً خبيراً} بما في قلوب الزوجين والحكمين قوله:(1/263)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{وبالوالدين أحساناً} أَيْ: أحسنوا بهما إحساناً وهو البرُّ مع لين الجانب {وبذي القربى} وهو ذو القرابة يصله ويتعطَّف عليه {واليتامى} يرفق بهم ويُدنيهم {والمساكين} ببذلٍ يسيرٍ أو ردٍّ جميلٍ {وَالْجَارِ ذي القربى} وهو الذي له مع حقِّ الجوار حقُّ القرابة {والجار الجنب} البعيد عنك في النَّسب {والصاحب بالجنب} وهو الرَّفيق في السَّفر {وابن السبيل} عابر الطَّريق (وقيل الضيف) يؤويه ويطعمه حتى يرحل {وما ملكت أيمانهم} أَيْ: المماليك {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا} عظيماً في نفسه لا يقوم بحقوق الله {فخوراً} على عباده بما خوَّله الله من نعمته(1/264)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
{الذين يبخلون} أي: اليهود بخلوا بأموالهم أن ينفقوها في طاعة الله تعالى {ويأمرون الناس بالبخل} أمروا الأنصار ألا ينفقوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنَّا نخشى عليكم الفقر {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} أَيْ: ما في التَّوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته(1/264)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} أَيْ: المنافقين {ومَنْ يكن الشيطانُ له قريناً} يسوِّل له ويعمل بأمره {فساء قريناً} بئس الصَّاحب الشَّيطان(1/264)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
{وماذا عليهم} أَيْ: على اليهود والمنافقين أَيْ: ما كان يضرُّهم {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رزقهم الله وكان الله بهم عليماً} لا يُثيبهم بما ينفقون رئاء الناس(1/264)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{إنَّ الله لا يظلم} لا ينقص أحداً {مثقال} مقدار {ذرة} إن كان مؤمناً أثابه عليها الرِّزق في الدُّنيا والأجر في الآخرة وإنْ كان كافراً أطعمه بها في الدُّنيا {وإن تك حسنة} من مؤمن {يضاعفها} لعشرة أضعافها {ويؤتِ مِنْ لدنه} من عنده {أجراً عظيماً} وهو الجنَّة(1/265)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
{فكيف} أَيْ: فكيف يكون حال هؤلاء اليهود والمنافقين يوم القيامة؟ وهذا استفهامٌ ومعناه التَّوبيخ {إذا جئنا من كلِّ أُمَّة بشهيدٍ} أَيْ: بِنبيِّ كلِّ أُمَّةٍ يشهد عليها ولها {وجئنا بك} يا محمَّد {على هؤلاء شهيداً} على هؤلاء المنافقين والمشركين شهيداً تشهد عليهم بما فعلوا(1/265)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{يومئذٍ} أَيْ: في ذلك اليوم {يودُّ الذين كفروا وعصوا الرسول} وقد عصوه في الدُّنيا {لو تسوَّى بهم الأرض} أَيْ: يكونون تراباً فيستوون مع الأرض حتى يصيروا وهي شيئاً واحداً {ولا يكتمون الله حديثاً} لأنَّ ما عملوه ظاهرٌ عند الله لا يقدرون على كتمانه(1/265)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة} أَيْ: مواضع الصَّلاة أيْ: المساجد {وأنتم سكارى} نُهوا عن الصَّلاة وعن دخول المسجد في حال السُّكْر وكان هذا قبل نزول تحريم الخمر وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السُّكْر والمُسكر أوقات الصَّلاة والسَّكران: المُختلط العقل الذي يهذي ولا يستمرُّ كلامه ألا ترى أنَّ الله تعالى قال: {حتى تعلموا ما تقولون} فإذا علم ما يقول لم يكن سكران ويجوز له الصَّلاة ودخول المسجد {ولا جُنباً} أَيْ: ولا تقربوها وأنتم جنبٌ {إلاَّ عابري سبيل} إلاَّ إذا عبرتم المسجد فدخلتموه من غير إقامةٍ فيه {حتى تغتسلوا} من الجنابة {وإنْ كنتم مرضى} أَيْ: مرضاً يضرُّه الماء كالقروح والجُدّري والجراحات {أو على سفر} أَيْ: مسافرين {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أَوْ الحدث {أو لامستم النساء} أَيْ: لمستموهنَّ بأيديكم {فلم تجدوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صعيداً طيباً} تمسَّحوا بترابٍ طيِّبٍ مُنبتٍ(1/265)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكتاب} وهم اليهود {يشترون الضلالة} أَيْ: يختارونها على الهدى بتكذيب محمد عليه السلام {ويريدون أن تضلوا السبيل} أن تضلُّوا أيُّها المؤمنون طريق الهدى(1/266)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
{والله أعلم بأعدائكم} فهو يُعْلِمكم ما هم عليه {وَكَفَى بِاللَّهِ ولياً وكفى بالله نصيراً} أَيْ: إنَّ ولايته ونصرته إيَّاكم تُغنيكم عن غيره من اليهود ومن جرى مجراهم(1/267)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{من الذين هادوا} أَيْ: قومٌ {يحرِّفون الكلم عن مواضعه} أَيْ: يُغيِّرون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وزمانه ونبوَّته في كتابهم {ويقولون سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمع ويقولون في أنفسهم: لا سمعت {وراعنا ليَّاً بألسنتهم} أَيْ: ويقولون راعنا ويوجِّهونها إلى شتم محمَّد عليه السَّلام بالرُّعونة وذكرنا أنَّ هذا كان سبَّاً بلُغتهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} مكان قولهم: سمعنا وعصينا وقالوا {واسمع وانظرنا} أَيْ: انظر إلينا بدل قولهم: راعنا {لكان خيراً لهم} عند الله {ولكن لَعَنَهُمُ الله بكفرهم} فلذلك لا يقولون ما هو خيرٌ لهم {فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً} أَيْ: إيماناً قليلاً وهو قولهم: اللَّهُ ربُّنا والجنَّةُ حقٌّ والنَّارُ حقٌّ وهذا القليل ليس بشيءٍ مع كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وليس بمدحٍ لهم(1/267)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{يا أيها الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} أَيْ: نمحو ما فيها من عينٍ وفم وأنفٍ ومارن وحاجب فنجعلها كخفِّ البعير أو كحافز الدَّابة {فنردها على أدبارها} نُحوِّلها قبل ظهورهم {أو نلعنهم} أو نجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأوائلهم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} لا رادَّ لحكمه ولا ناقض لأمره(1/267)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية وعد الله تعالى في هذه الآية مغفرة ما دون الشِّرك فيعفو عن مَنْ يشاء ويغفر لمِنْ يشاء إلاَّ الشِّرك تكذيباً للقدريَّة وهو قوله: {ويغفر ما دون ذلك} أَيْ: الشِّرك {لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أَيْ: اختلق ذنباً غير مغفور(1/268)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} أَيْ: اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وما عملناه باللَّيل كُفِّر عنَّا بالنَّهار وما عملناه بالنَّهار كُفِّر عنَّا باللَّيل {بل الله يزكِّي من يشاء} أَيْ: يجعل مَنْ يشاء زاكياً طاهراً نامياً في الصَّلاح يعني: أهل التَّوحيد {ولا يُظلمون فتيلاً} لا ينقصون من الثواب قدر الفتيل وهو القشرة الرَّقيقة التي حول النَّواة ثمَّ عجَّب نبيَّه عليه السَّلام من كذبهم فقال:(1/268)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
{انظر كيف يفترون على الله الكذب} يعني: قولهم: يكفِّر عنَّا ذنوبنا {وكفى به} بافترائهم {إثماً مبيناً} أَيْ: كفى ذلك في التَّعظيم(1/268)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكتاب} يعني: علماء اليهود {يؤمنون بالجبت} أَيْ: الأصنام {والطاغوت} سدنتها وتراجمتها وذلك أنَّهم حالفوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجدوا لأصنام قريش وقالوا لهم: أنتم أهدى من محمَّدٍ عليه السَّلام وأقوم طريقةً وديناً وهو قوله: {ويقولون للذين كفروا} يعني: قريشاً {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} وقوله:(1/268)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
قال تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}(1/269)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{أم لهم نصيبٌ} أَيْ: بل أَلهم نصيب من الملك؟ يعني: ليس لليهود ملك ولو كان إذاً لهم لم يُؤتوا أحداً شيئاً وهو قوله: {فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً} أَيْ: لضنُّوا بالقليل وصفهم الله بالبخل في هذه الآية والنَّقير يُضرب مثلاً للشَّيء القليل وهو نقرةٌ في ظهر النَّواة (منها) تبنت النَّخلة(1/269)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
{أم يحسدون الناس} يعني: محمَّداً عليه السَّلام {على ما آتاهم الله من فضله} حسدت اليهود محمَّداً عليه السَّلام على ما آتاه من النُّبوَّة وما أباح له من النِّساء وقالوا: لو كان نبيَّاً لشغله أمر بالنُّبوَّة عن النِّساء فقال الله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني: النُّبوَّة {وآتيناهم ملكاً عظيماً} يعني: ملك داود وسليمان عليهما السَّلام وما أُوتوا من النِّساء فكان لداود تسعٌ وتسعون ولسليمان ألفٌ من بين حُرَّةٍ ومملوكةٍ والمعنى: أيحسدون النَّبيَّ عليه السَّلام على النُّبوَّة وكثرة النِّساء وقد كان ذلك في آله لأنَّه من آل إبراهيم عليه السَّلام(1/269)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{فمنهم} من أهل الكتاب {من آمن به} بمحمَّدٍ عليه السَّلام {ومنهم مَن صدَّ عنه} أعرض عنه فلم يؤمن {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} عذاباً لمَنْ لا يؤمن وقوله:(1/269)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} يعني: أنَّ جلودهم إذا نضجت واحترقت جُدِّدت بأن تُردَّ إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة {ليذوقوا العذاب} ليقاسوه وينالوه {إنَّ الله كان عزيزاً} قوياً لا يغلبه شيء {حكيماً} فيما دبَّر وقوله:(1/269)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
{وندخلهم ظلاً ظليلاً} يعني: ظلَّ هواء الجنَّة وهو ظليلٌ أَيْ: دائمٌ لا تنسخه الشَّمس(1/270)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} نزلت في ردِّ مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة الحجبيِّ حين أُخذ منه قسراً يوم فتح مكة فأمره الله تعالى بردِّه عليه ثمَّ هذه الآية عامَّةٌ في ردِّ الأمانات إلى أصحابها كيف ما كانوا {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ: نِعمَ شيئاً يعظكم به وهو القرآن {إنَّ الله كان سميعاً} لمقالتكم في الأمانة والحكم {بصيراً} بما تعملون فيها قال أبو مرزوق: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: أعطني المفتاح فقال: هاكَ بأمانة الله ودفعه إليه فأراد عليه السَّلام أن يدفعه إلى العباس فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: هاك بأمانة الله خالدةً تالدةً لا ينزعها عنكم إلاَّ ظالم ثمَّ إنَّ عثمان هاجر ودفع إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم(1/270)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر منكم} وهم العلماء والفقهاء وقيل: الأمراء والسَّلاطين وتجب طاعتهم فيما وافق الحقَّ {فإن تنازعتم} اختلفتم وتجادلتم وقال كلُّ فريق: القولُ قولي فَرُدُّوا الأمر في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة رسوله {ذلك خيرٌ} أََيْ: ردُّكُمُ ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة وردُّك التجادل {وأحسن تأويلاً} وأحمدُ عاقبةً(1/271)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{ألم تر إلى الذين يزعمون} الآية وقع نزاعٌ بين يهوديِّ ومنافق فقال اليهوديُّ: بيننا أبو القاسم وقال المنافق: لا بل نُحكِّم بيننا كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية وهو قوله: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} ومعناه: ذو الطُّغيان {وقد أمروا أن يكفروا به} أَيْ: أُمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم {ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالاً بعيداً} لا يرجعون عنه إلى دين الله أبداً وهذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم مِن جهل مَن يعدل عن حكم الله إلى حكم الطَّاغوت مع زعمه بأنَّه يؤمن بالله ورسوله(1/271)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
{وإذا قيل لهم} أي: للمنافقين {تعالوا إلى ما أنزل الله} أَيْ: في القرآن من الحكم {وإلى الرسول} وإلى حكم الرَّسول {رأيت المنافقين يَصُدُّون عنك صدوداً} يُعرضون عنك إعراضاً إلى غيرك عداوةً للدِّين(1/271)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
{فكيف} أَيْ: فكيف يصنعون ويحتالون {إذا أصابتهم مصيبة} مجازاةً لهم على ما صنعوا وهو قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم} وتمَّ الكلام ههنا ثمَّ عطف على معنى ما سبق فقال: {ثم جاؤوك يحلفون بالله} أَيْ: تحاكموا إلى الطَّاغوت وصدُّوا عنك ثمَّ جاؤوك يحلفون وذلك أنَّ المنافقين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وحلفوا أنَّهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة إلاَّ توفيقاً بين الخصوم أَيْ: جمعاً وتأليفاً وإحساناً بالتَّقريب في الحكم دون الحمل على مُرِّ الحقِّ وكلُّ ذلك كذبٌ منهم لأنَّ الله تعالى قال:(1/271)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ: من الشِّرك والنِّفاق {فأعرض عنهم} أيْ: اصفح عنهم {وعظهم} بلسانك {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بليغاً} أَيْ: خوِّفهم بالله وازجرهم عمَّا هم عليه بأبلغ الزَّجر كيلا يستسِرُّوا الكفر(1/272)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{وما أرسلنا من رسول إلاَّ ليطاع} فيما يأمرُ به ويحكم لا ليُعصى ويُطلب الحكم من غيره وقوله: {بإذن الله} أَيْ: لأنَّ الله أذن في ذلك وأمر بطاعته {ولو أنهم} أَيْ: المنافقين {إذ ظلموا أنفسهم} بالتَّحاكم إلى الكفَّار {جاؤوك فاستغفروا الله} فزعوا وتابوا إلى الله وقوله:(1/272)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{فلا} أَيْ: ليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك {وربك لا يؤمنون} حقيقة الإِيمان {حتَّى يحكموك فيما شجر} اختلف واختلط {بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضيقاً وشكَّاً {ممَّا قضيت} أَيْ: أوجبتَ {ويسلموا} الأمر إلى الله وإلى رسوله من غير معارضةٍ بشيءٍ(1/272)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
{ولو أنَّا كتبنا عليهم} أَيْ: على هؤلاء المنافقين من اليهود {أن اقتلوا أنفسكم} كما كتبنا ذلك على بني إسرائيل {أو اخرجوا من دياركم} كما كتبنا على المهاجرين {ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم} للمشقَّة فيه مع أنَّه كان ينبغي أن يفعلوه {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون} ما يُؤمرون به من أحكام القرآن {لكان خيراً لهم} في معاشرتهم وفي ثوابهم {وأشدَّ تثبيتاً} منهم لأنفسهم في الدِّين وتصديقاً بأمر الله(1/272)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
{وإذاً لآتيناهم من لدنَّا} أَيْ: ممَّا لا يقدر عليه غيرنا {أجراً عظيماً} أَيْ: الجنَّة(1/273)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
{ولهديناهم} أرشدناهم {صراطاً مستقيماً} إلى دينٍ مستقيمٍ وهو دين الحنيفيَّة لا دين اليهوديَّة(1/273)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{ومَن يطع الله} الآية قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا منك إلاَّ الدُّنيا فإذا كانت الآخرة رُفِعَت في الأعلى فحزن وحزنوا فنزلت {ومَنْ يطع الله} في الفرائض {والرسول} في السُّنن {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبيين} أَيْ: إنَّه يستمتع برؤيتهم وزيارتهم فلا يتوهمنَّ أنَّه لا يراهم {والصديقين} أفاضل أصحاب الأنبياء {والشهداء} القتلى في سبيل الله {والصالحين} أَيْ: أهل الجنَّة من سائر المسلمين {وحسن أولئك} الأنبياء وهؤلاء {رفيقاً} أَيْ: أصحاباً ورفقاء(1/273)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
{ذلك} أَيْ: ذلك الثَّواب وهو الكون مع النَّبييِّن {الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} تفضَّل به على مَنْ أطاعه {وكفى بالله عليماً} بخلقه أي: إنه عالم لا يخفى عليه شيء ولا يضيع عنده عمل ثمَّ حثَّ عباده المؤمنين على الجهاد فقال:(1/273)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} سلاحكم عند لقاء العدوِّ {فانفروا} أَيْ: فانهضوا إلى لقاء العدوِّ {ثباتٍ} جماعاتٍ مُتفرِّقين إذا لم يكن معكم الرَّسول {أو انفروا جميعاً} إذا خرج الرَّسول إلى الجهاد(1/274)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
{وإنَّ منكم لَمَنْ ليُبطئنَّ} أَيْ: ليتخلفنَّ ويتثاقلنَّ عن الجهاد وهم المنافقون وجعلهم من المؤمنين من حيث إنَّهم أظهروا كلمة الإِسلام فدخلوا تحت حكمهم في الظَّاهر {فإن أصابتكم مصيبةٌ} من العدوِّ وجهدٌ من العيش {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ} بالقعود حيث لم أحضر فيصيبني ما أصابكم(1/274)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{ولئن أصابكم فضلٌ من الله} فتحٌ وغنيمة {ليقولنَّ} هذا المنافق قولَ نادمٍ حاسدٍ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي: لأسعد بمثل ما سعدوا به من الغنيمة وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} متصلٌ في المعنى بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ} {كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة} أَيْ: كأنْ لم يعاقدكم على الإِسلام ويعاضدكم على قتال عدوٍّكم ولم يكن بينكم وبينه مودة في الظَّاهر ثمَّ أمر المؤمنين بالقتال فقال:(1/274)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
{فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون} أَيْ: يبيعون {الحياة الدُّنيا بالآخرة} أَيْ: بالجنَّة أَيْ: يختارون الجنَّة على البقاء في الدُّنيا {ومَنْ يُقاتل في سبيل الله فيقتل} فيستشهد {أو يغلب} فيظفر فكلاهما سواءٌ وهو معنى قوله: {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} ثواباً لا صفة له ثمَّ حضَّ المؤمنين على الجهاد في سبيله لاستنقاذ ضعفة المؤمنين من أيدي المشركين فقال:(1/274)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان} وهم قومٌ بمكَّة استُضعفوا فَحُبسوا وعُذِّبوا {الذين يقولون ربنا أخرجنا} إلى دار الهجرة {من هذه القرية} مكَّة {الظالم أهلها} أَيْ: جعلوا لله شركاء {واجعل لنا من لَدُنْكَ ولياً} أَيْ: ولِّ علينا رجلاً من المؤمنين يوالينا {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} ينصرنا على عدوِّك فاستجاب الله دعاءَهم وولَّى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أسيد وأعانهم (الله) به فكانوا أعزَّ بها من الظَّلمة قبل ذلك(1/275)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعة اللَّهِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أَيْ: في طاعة الشَّيطان {فقاتلوا أولياء الشيطان} عبدة الأصنام {إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً} يعني: خذلانه إيَّاهم يوم قُتلوا ببدرٍ(1/275)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيديكم} عن قتال المشركين وأَدُّوا ما فُرض عليكم من الصَّلاة والزَّكاة نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم بمكَّة في قتال المشركين فلم يأذن لهم {فلما كتب عليهم القتال} بالمدينة {إذا فريقٌ منهم يخشون الناس} أَيْ: عذاب النَّاس بالقتل {كخشية الله} كما يخشى عذاب الله {أو أشدَّ} أكبرَ {خشية} وهذه الخشية إنَّما كانت لهم من حيث طبع البشريَّة لا على كراهية أمر الله بالقتال {وقالوا} جزعاً من الموت وحرصاً على الحياة: {ربنا لمَ كتبت} فرضتَ {علينا القتال لولا} هلاًّ {أخرتنا إلى أجل قريب} وهو الموت أَيْ: هلاَّ تركتنا حتى نموت بآجالنا وعافيتنا من القتل {قل} لهم يا محمَّدُ: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قليل} أجل الدُّنيا قريبٌ وعيشها قليلٌ {والآخرة} الجنَّةُ {خيرٌ لمن اتقى} ولم يُشرك به شيئاً {ولا تظلمون فتيلاً} أَيْ: لا تُنقصون من ثواب أعمالكم مثل فتيل النَّواة ثمَّ أعلمهم أنَّ آجالهم لا تخطئهم ولو تمنَّعوا بأمنع الحصون فقال:(1/275)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بروج} حصونٍ وقصور {مشيدة} مطوَّلة مرفوعة وقيل: بروج السَّماء {وإن تصبهم} يعني: المنافقين واليهود {حسنة} خصب ورخص سعر {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سيئة} جدبٌ وغلاءٌ {يقولوا هذه من عندك} من شؤم محمد وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة وكفرت اليهود أمسك الله عنهم ما كان قد بسط عليهم فقالوا: ما رأينا أعظم شؤماً من هذا نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم علينا فقال الله تعالى: {قل كلٌّ} أًي: الخصب والجدب {من عند الله} من قِبَل اللَّهِ {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حديثاً} لا يفهمون القرآن(1/276)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
{ما أصابك} يا ابن آدم {من حسنة} فتح وغنيمةٍ وخصبٍ فمن تفضُّل الله {وما أصابك من سيئة} من جدبٍ وهزيمةٍ وأمرٍ تكرهه {فمن نفسك} فبذنبك يا ابن آدم {وأرسلناك} يا محمدُ {للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً} على رسالتك(1/277)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} يعني: إنَّ طاعتكم لمحمد طاعةٌ لله {ومَنْ تولى} أعرض عن طاعته {فما أرسلناك عليهم حفيظاً} أَيْ: حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع أَيْ: ليس عليك بأسٌ لتولِّيه لأنَّك لم ترسل عليهم حفيظاً من المعاصي(1/277)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{ويقولون} أَي: المنافقون {طاعةٌ} أَيْ: طاعةٌ لأمرك {فإذا برزوا} خرجوا {من عندك بيَّت} قدَّر وأضمر {طائفة منهم غير الذي تقول} لك من الطَّاعة أَيْ: أضمروا خلاف ما أظهروا وقدَّروا ليلاً خلاف ما أعطوك نهاراً {واللَّهُ يكتب ما يبيِّتون} أَيْ: يحفظ عليهم ليُجَازَوا به {فأعرض عنهم} أَيْ: فاصفح عنهم وذلك أنه نُهي عن قتل المنافقين في ابتداء الإِسلام ثمَّ نُسخ ذلك بقوله: {جاهِد الكفَّار والمنافقين}(1/277)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{أفلا يتدبرون القرآن} أَي: المنافقون (أفلا) يتأمَّلون ويتفكرون فيه {ولو كان} القرآن {مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كثيراً} بالتَّناقض والكذب والباطل وتفاوت الألفاظ(1/278)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن} نزلت في أصحاب الأراجيف وهم قومٌ من المنافقين كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُخبرون بما وقع بها قبل أن يُخبرَ به النبي صلى الله عليه وسلم فَيُضعفون قلوب المؤمنين بذلك ويُؤذون النبيَّ عليه السَّلام بسبقهم إيَّاه بالإِخبار وقوله: {أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ} حديثٌ فيه أمنٌ {أو الخوف} يعني: الهزيمة {أذاعوا به} أَيْ: أفشوه {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ منهم} ولو سكتوا عنه حتى يكون الرَّسول هو الذي يفشيه وأولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وقيل: أمراء السَّرايا {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يتبعونه ويطلبون علمَ ذلك {منهم} من الرسول وأولي الأمر {ولولا فضلُ الله} أي: الإِسلام {ورحمته} القرآن {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} ممَّن عصم الله كالذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان بغير رسولٍ ولا كتابٍ نحو زيد بن عمرو وورقة بن نوفل وطُلاَّب الدِّين وهذا تذكيرٌ للمؤمنين بنعمة الله عليهم حتى سلموا من النِّفاق وما ذُمَّ به المنافقون(1/278)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نفسك} أَيْ: إلاَّ فعلَ نفسك على معنى: أنَّه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتمَّ بتخلُّف مَنْ يتخلَّف عن الجهاد {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} حُضَّهم على القتال {عَسَى اللَّهُ} واجبٌ من الله {أن يكفَّ} يصرف ويمنع {بأس الذين كفروا} شدَّتهم وشوكتهم {واللَّهُ أشدُّ بأساً} عذاباً {وأشدُّ تنكيلاً} عقوبة(1/278)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
{مَنْ يشفع شفاعة حسنةً} هي كلُّ شفاعة تجوز في الدِّين {يكن له نصيبٌ منها} كان له فيها أجر {ومَنْ يشفع شفاعة سيئة} أَيْ: ما لا يجوز في الدين أن يشفع فيه {يكن له كفلٌ منها} أيْ: نصيبٌ من الوِزر والإِثم {وكان الله على كلِّ شيءٍ مقيتاً} مقتدراً(1/279)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
{وإذا حييتم بتحيَّةٍ} أَيْ: إذا سُلِّم عليكم بسلامٍ {فحيوا بأحسن منها} أَيْ: أجيبوا بزيادةٍ على التحيَّة إذا كان المُسَلِّم من أهل الإِسلام {أو ردُّوها} إذا كان من أهل الكتاب (فقولوا: عليكم ولا تزيدوا على ذلك) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (حفيظاً) مجازياً(1/279)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{الله لا إله إلاَّ هو ليجمعنَّكم} أَيْ: واللَّهِ ليجمعنَّكم في القبور {إلى يوم القيامة لا ريبَ فيه} لا شكَّ فيه {ومَنْ أصدقُ من الله حديثاً} أَيْ: قولاً وخبراً يريد: أنَّه لا خُلفَ لوعده(1/279)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
{فما لكم في المنافقين فئتين} نزلت في قومٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة فأقاموا ما شاء الله ثمَّ قالوا: إنَّا اجتوينا المدينة فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أَنْ يخرجوا فلمَّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المؤمنون فيهم فقال بعضهم: إنَّهم كفار مرتدُّون وقال آخرون: هم مسلمون حتى تعلم أنَّهم بدَّلوا فبيَّن الله كفرهم في هذه الآية والمعنى: ما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين على فئتين على فرقتين {والله أركسهم} ردَّهم إلى حكم الكفَّار من الذُّلِّ والصَّغار والسَّبي والقتل {بما كسبوا} بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النِّفاق {أتريدون} أيُّها المؤمنون {أن تهدوا} أَيْ: ترشدوا {مَنْ أضلَّ الله} لم يرشده الله أَيْ: يقولون: هؤلاء مهتدون والله قد أضلَّهم {وَمَنْ يُضْلِلِ الله فلن تجد له سبيلاً} أَيْ: ديناً وطريقاً إلى الحجَّة(1/279)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
{ودُّوا} أَيْ: هؤلاء {لو تكفرون كما كفروا فتكونون} أنتم وهم {سواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} أَيْ: لا تُوالوهم ولا تُباطنوهم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حتى يرجعوا إلى رسول الله {فإن تولوا} عن الهجرة وأقاموا على ما هم عليه {فخذوهم} بالأسر {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نصيراً} أيْ: لا تتولوهم ولا تستنصروا بهم على عدوِّكم(1/280)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{إلاَّ الذين يصلون} أَيْ: فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلاَّ الذين يتصلون ويلتجئون {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} فيدخلون فيهم بالحلف والجوار {أو جاؤوكم حصرت صدورهم} يعني: أو يتصلون بقوم جاؤوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وهم بنو مدلجٍ كانوا صلحا للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا بيان أنَّ مَن انضمَّ إلى قومٍ ذوي عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فله مثلُ حكمهم في حقن الدم والمال ثمَّ نُسخ هذا كلُّه بآية السَّيف ثمَّ ذكر الله تعالى مِنَّته بكفِّ بأس المعاهدين فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} يعني: إن ضيق صدوركم عن قتالهم إنَّما هو لقذف الله تعالى الرُّعب في قلوبهم ولو قوَّى الله تعالى قلوبهم على قتالكم لقاتلوكم {فإن اعتزلوكم} أَيْ: في الحرب {وألقوا إليكم السلم} أَي: الصُّلح {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} في قتالهم وسفك دمائهم ثمَّ أمره بقتال مَنْ لم يكن على مثل سبيل هؤلاء فقال:(1/280)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{ستجدون آخرين} الآية هؤلاء قومٌ كانوا يظهرون الموافقة لقومهم من الكفَّار ويظهرون الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يريدون بذلك الأمن في الفريقين فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على نفاقهم وهو قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} وقوله: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} كلَّما دُعوا إلى الشِّرك رجعوا فيه {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} أَيْ: حجَّة بيِّنةً في قتالهم لأنَّهم غَدَرةٌ لا يُوفون لكم بعهدٍ(1/281)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً} ألْبَتَّةَ {إلاَّ خطأ} إلاَّ أنَّه قد يخطئ المؤمن بالقتل {ومَنْ قتل مؤمناً خطأ} مثل أن يقصد بالرَّمي غيره فأصابه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى جميع ورثته {إلاَّ أن يصدقوا} أَيْ: يعفوا ويتركوا الدية {فإن كان} المقتول {من قوم} حربٍ لكم وكان مؤمناً {فتحرير رقبة مؤمنة} كفارةً للقتل ولا دية لأنَّ عصبته وأهله كفَّار فلا يرثون ديته {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} كأهل الذِّمة فتجب فيه الدِّية والكفَّارة {فمن لم يجد} الرَّقبة {فصيام شهرين متتابعين توبة من الله} أَيْ: ليقبل الله توبة القاتل حيث لم يبحث عن المقتول وحاله وحيث لم يجتهد حتى لا يخطئ(1/281)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
{ومَنْ يقتل مؤمناً متعمداً} الآية غلَّظ الله وعيد قاتل المؤمن عمداً للمبالغة في الرَّدع والزَّجر(1/282)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم} أَيْ: سرتم في الأرض {فتبيَّنوا} أَيْ: تأنَّوا وتثَّبتوا نزلت في رجلٍ كان قد انحاز بغنمٍ له إلى جبلٍ فلقي سريةً من المسلمين عليهم أسامة ين زيد فأتاهم وقال: السَّلام عليكم لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله وكان قد أسلم فقتله أسامة واستاقوا غنمه فنزلت نهياً عن سفك دم مَنْ هو على مثل هذه الحالة وذلك أنَّ أسامة قال: إنَّما قالها مُتعوِّذاً فقال الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} أَيْ: حيَّاكم بهذه التَّحيَّة {لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} أَيْ: متاعها من الغنائم {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعني: ثواباً كبيراً لمَنْ ترك قتل مَنْ ألقى إليه السَّلام {كذلك كنتم من قبل} كُفَّاراً ضُلالاً كما كان هذا المقتول قبل إسلامِهِ ثمَّ منَّ الله عليكم بالإِسلام كما منَّ على المقتول أَيْ: إنَّ كلَّ مَنْ أسلم ممَّن كان كافراً فبمنزلة هذا الذي تعوَّذ بالإِسلام قُبِلَ منه ظاهرُ الإِسلام ثمَّ أعاد الأمر بالتبيُّن فقال: {فَتَبَيَّنُوا إِنَّ الله كان بما تعملون خبيراً} أَي: علم أنَّكم قتلتموه على ماله ثمَّ حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله وردَّ عليهم غنمه واستغفر لأسامة وأمره بعتق رقبةٍ(1/282)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضرر} أي: الأصحَّاء الذين لا علَّة بهم تضرُّهم وتقطعهم عن الجهاد لا يستوي هؤلاء {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} من أهل العذر {درجةً} لأنَّ المجاهدين باشروا الطَّاعة والقاعدين من أهل العذر قصدوها وإن كانوا في الهمَّة والنيَّة على قصد الجهاد فمباشرة الطَّاعة فوق قصدها بالنِّيّة {وكلاً} من المجاهدين والقاعدين المعذورين {وعد الله الحسنى} الجنَّة {وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين} من غير عذرٍ {أجراً عظيماً}(1/283)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
{درجاتٍ منه} أَيْ: منازلَ بعضُها فوقَ بعضٍ من منازل الكرامة(1/283)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
{إنَّ الذين توفاهم الملائكة} أَيْ: قبضت أرواحهم نزلت في قومٍ كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا حتى خرج المشركون إلى بدر فخرجوا معهم فقتلوا يوم بدرٍ فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وقوله: {ظالمي أنفسهم} بالمقام في دار الشِّرك والخروج مع المشركين لقتال المسلمين {قالوا فيم كنتم} أَيْ: قالت الملائكة لهؤلاء سؤال توبيخٍ وتقريع: أكنتم في المشركين أم كنتم في المسلمين؟ فاعتذروا بالضَّعف عن مقاومة أهل الشِّرك في دارهم فـ {قالوا كنا مستضعفين في الأرض} أَيْ: في مكة فحاجَّتهم الملائكة بالهجرة إلى غير دارهم و {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} أخبر الله تعالى أنَّ هؤلاء من أهل النَّار ثمَّ استثنى من صدق في أنَّه مستضعفٌ فقال:(1/283)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
{إلاَّ المستضعفين} أي: الذين يوجدون ضعفاء {لا يستطيعون حيلة} لا يقدرون على حيلةٍ ولا نفقةٍ ولا قوَّةٍ للخروج {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} لا يعرفون طريقاً إلى المدينة(1/284)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
قال تعالى {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(1/284)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مراغماً} أَيْ: مهاجراً ومتحوَّلاً {كثيراً وسعة} في الرِّزق {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} الآية نزلت في حبيب بن ضمرة اللَّيثي وكان شيخاً كبيراً خرج متوجِّهاً إلى المدينة فمات في الطَّريق فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو وافى المدينة لكان أتمَّ أجراً فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبر أنَّ مَنْ قصد طاعةً ثمَّ أعجزه العذر عن تمامها كتب الله ثواب تمام تلك الطَّاعة ومعنى {وقع أجره على الله} وجب ذلك بإيجابه(1/284)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تقصروا} الآية نزلت في إباحة قصر الصَّلاة في السَّفر وظاهر القرآن يدل على أنَّ القصر يستباح بالسَّفر والخوف لقوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أَيْ: يقتلكم والإِجماع منعقدٌ على أنَّ القصر يجوز في السَّفر من غير خوف وثبتت السنَّة بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ذكر الخوف في الآية على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت ثمَّ ذكر صلاة الخوف فقال:(1/285)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{وإذا كنت فيهم} أَيْ: إذا كنت أيُّها النبيُّ مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم {فأقمت لهم الصلاة} أَي: ابتدأت بها إماماً لهم {فلتقم طائفة منهم معك} نصفهم يصلُّون معك {وليأخذوا} أَيْ: وليأخذ الباقون أسلحتهم {فإذا سجدوا} فإذا سجدت الطَّائفة التي قامت معك {فَلْيَكُونُوا من ورائكم} أَي: الذين أمروا بأخذ السِّلاح {ولتأت طائفة أخرى} أَي: الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم {لم يصلوا} (معك الركعة الأولى) {فليصلوا معك} (الركعة الثانية) {وليأخذوا حذرهم} (من عدوهم) {وأسلحتهم} (سلاحهم معهم) يعني: الذين صلوا أول مرة {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأمتعتكم} في صلاتكم {فيميلون عليكم ميلة واحدة} بالقتال {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تضعوا أسلحتكم} ترخيصٌ لهم في ترك حمل السِّلاح في الصَّلاة وحملُه فرضٌ عند بعضهم وسنة مؤكدة عند بعضهم فرخص الله لهم في تركه لعذر المطر والمرض لأنَّ السِّلاح يثقل على المريض ويفسد في المطر {وخذوا حذركم} أَيْ: كونوا على حذرٍ في الصَّلاة كيلا يتغفَّلكم العدوُّ(1/285)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{فإذا قضيتُمُ الصلاة} فرغتم من صلاة الخوف {فاذكروا الله} بتوحيده وشكره في جميع أحوالكم {فإذا اطمأننتم} رجعتم إلى أهلكم وأقمتم {فأقيموا الصلاة} أتموها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} مفروضاً موقَّتاً فرضه(1/286)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{ولا تهنوا} أَيْ: لا تضعفوا {في ابتغاء القوم} يعني: أبا سفيان ومَنْ معه حين انصرفوا من أُحدٍ أمر الله تعالى نبيه أن يسير في آثارهم بعد الوقعة بأيَّام فاشتكى أصحابه ما بهم من الجراحات فقال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} أَيْ: إنْ ألمتم من جراحكم فهم أيضاً في مثل حالتكم من ألم الجراح {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} من نصر الله إيَّاكم وإظهار دينكم (في الدنيا) وثوابه في العقبى {مَا لا يَرْجُونَ} هم {وكان الله عليماً} بخلقه {حكيماً} فيما حكم(1/286)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة طعمة بن أُبيرق سرق درعاً ثمَّ رمى بها يهودياً فلما طُلبت منه الدِّرع أحال على اليهوديِّ ورماه بالسَّرقة فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهوديِّ وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل قوم طعمة النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل عن صاحبهم وأن يُبرِّيَه وقالوا: إنك إنْ لم تفعل افتضح صاحبنا وبرئ اليهودي فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزل فوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} في الحكم لا بالتَّعدي فيه {لتحكم بين الناس بما أراك الله} أَيْ: فيما علَّمك الله {ولا تكن للخائنين} طعمة وقومه {خصيماً} مخاصماً عنهم(1/287)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
{واستغفر الله} من جدالك عن طعمة وهمِّك بقطع اليهوديِّ(1/287)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يخونونها بالمعصية لأنَّ وبال خيانتهم راجعٌ عليهم يعني: طعمة وقومه {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أثيماً} أَيْ: طعمة لأنَّه خان في الدِّرع وأَثِم في رميه اليهوديَّ(1/287)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{يستخفون} يستترون بخيانتهم {مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ معهم} علم بما يخفون {إذ يبيِّتون} يُهيِّئون ويُقدِّرون ليلاً {ما لا يرضى من القول} وهو أنَّ طعمة قال: أرمي اليهوديَّ بأنَّه سارق الدِّرع وأحلف أنِّي لم أسرق فيقبل يميني لأنِّي على دينهم {وكان الله بما يعملون محيطا} علاما ثمَّ خاطب قوم طعمة فقال:(1/288)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
{ها أنتم هؤلاء جادلتم} خاصمتم {عنهم} عن طعمة وذويه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: لا أحد يفعل ذلك ولا يكون في ذلك اليوم عليهم وكيلٌ يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم ثمَّ عرض التَّوبة على طعمة وقومه بقوله:(1/288)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
{ومَنْ يعمل سوءاً} معصيةً كما عمل قوم طعمة {أو يظلم نفسه} بذنبٍ كفعل طعمة {ثم يستغفر الله} الآية ثمَّ ذكر أنَّ ضرر المعصية إنَّما يلحق العاصي ولا يلحق الله من معصيته ضررٌ فقال:(1/288)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بالسَّارق {حكيماً} حكم بالقطع على طعمة(1/288)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{ومَنْ يكسب خطيئةً} ذنباً بينه وبين الله تعالى يعني: يمينه الكاذبة أنَّه ما سرق {أو إثماً} ذنباً بينه وبين النَّاس يعني: سرقته {ثمَّ يرمِ به} أَيْ: بإثمه {بريئاً} كما فعل طعمة حين رمى اليهوديَّ بالسَّرقة {فقد احتمل بهتانا} برمي البرئ {وإثماً مبيناً} باليمين الكاذبة والسَّرقة(1/288)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{ولولا فضلُ الله عليك ورحمته} بالنبوَّة والعصمة {لهمَّت} لقد همَّت {طائفة منهم} من قوم طعمة {أن يضلوك} أَيْ: يُخطِّئوك في الحكم وذلك أنَّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنهم ويقطع اليهوديَّ {وما يضلون إلاَّ أنفسهم} بتعاونهم على الإِثم والعدوان وشهادتهم الزُّور والبهتان {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} لأنَّ الضَّرر على مَنْ شهد بغير حقٍّ ثمَّ منَّ الله عليه فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أَي: القضاء بالوحي وبيَّن لك ما فيه الحكمة فلمَّا بان أنَّ السَّارق طعمة تناجى قومه في شأنه فأنزل الله تعالى:(1/289)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{لا خير في كثير من نجواهم} أَيْ: مسارَّتهم {إلاَّ مَنْ أمر} أَيْ: إلاَّ في نجوى من أمر {بصدقةٍ} وقال مجاهد: هذه الآية عامَّةٌ للناس يريد أنَّه لا خير فيما يتناجى فيه النَّاس ويخوضون فيه من الحديث إلاَّ ما كان من أعمال البرِّ ثمَّ بيَّن أن ذلك إنما ينفع مَن ابتغى به ما عند الله فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الآية ثمَّ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعمة بالقطع فخاف على نفسه الفضيحة فهرب إلى مكة ولحق بالمشركين فمزل قوله:(1/289)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{ومَنْ يشاقق الرسول} أَيْ: يخالفه {من بعد ما تبيَّن له الهدى} الإِيمان بالله ورسوله وذلك أنَّه ظهر له من الآية ما فيه بلاغ بما أطلع الله سبحانه على أمره فعادى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحجَّة وقيام الدليل {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} غير دين الموحِّدين {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ندعه وما اختار لنفسه {ونصله جهنم} ندخله إيَّاها ونلزمه النَّار ثمَّ أشرك بالله طعمة فكان يعبد صنماً إلى أن مات فأنزل الله فيه:(1/289)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية ثمَّ نزل في أهل مكة:(1/290)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{إن يدعون من دونه} أَيْ: ما يعبدون من دون الله {إلاَّ إناثاً} أَيْ: أصنامهم اللاَّت والعزَّى ومناة {وإن يدعون إلاَّ شيطاناً مريداً} ما يعبدون بعبادتهم لها إلاَّ شيطاناً خارجاً عن طاعة الله تعالى يعني: إبليس لأنَّهم أطاعوه فيما سوَّل لهم من عبادتها(1/290)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
{لعنه الله} دحره وأخرجه من الجنَّة {وقال} يعني إبليس: {لأَتَّخِذَنَّ من عبادك} بإغوائي وإضلالي {نصيباً مفروضاً} معلوماً أَيْ: مَن اتَّبعه وأطاعه(1/290)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{ولأُضلنَّهم} عن الحقِّ {ولأمنينَّهم} أن لا جنَّة ولا نار وقيل: ركوب الأهواء {ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام} أي: فليقطعنَّها يعني: البحائر وسيأتي بيان ذلك فيما بعد في سورة المائدة {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} أَيْ: دينه يكفرون ويحرِّمون الحلال ويحلون الحرام {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيْ: (مَنْ) يُطعه فيما يدعو إليه من الضَّلال {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} خسر الجنَّة ونعيمها(1/290)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
{يعدهم} طول العمر في الدُّنيا {ويمنيهم} نيل المراد منها {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أَيْ: إلاَّ ما يغرُّهم من إيهام النفع فيما فيه ضرر(1/291)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{أولئك} أَي: الذين اتَّخذوا الشَّيطان وليَّاً {مأواهم} مرجعهم ومصيرهم {جهنم ولا يجدون عنها محيصاً} معدلاً(1/291)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي من تحتها الأنهار} الآية(1/291)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} نزلت في كفَّار قريش واليهود قالت قريش: لا نُبعث ولا نُحاسب وقالت اليهود: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودةً} فنزلت هذه الآية أَيْ: ليس الأمر بأمانيِّ اليهود والكفَّار {مَنْ يعمل سوءاً} كفراً وشركاً {يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله ولياً} يمنعه {ولا نصيراً} ينصره ثمَّ بيَّن فضيلة المؤمنين على غيرهم بقوله:(1/291)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
{ومن يعمل من الصالحات} الآية وبقوله:(1/291)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{ومَنْ أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه} أَيْ: توجَّه بعبادته إلى الله خاضعاً له {وهو محسنٌ} مُوَحِّدٌ {واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفاً} ملَّةُ إبراهيم داخلةٌ في ملَّة محمد عليهما السَّلام فمَنْ أقرَّ بملَّة محمَّدٍ فقد اتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} صفيَّاً بالرِّسالة والنُّبوَّة مُحبَّاً له خالص الحب(1/292)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ محيطا}(1/292)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{ويستفتونك} يطلبون منك الفتوى {في النساء} في توريثهنَّ كانت العرب لا تورث النِّساء والصِّبيان شيئاً من الميراث {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَي: القرآن يُفتيكم أيضاً يعني: آية المواريث في أوَّل هذه السورة {في} ميراث {يتامى النساء} لأنَّها في قصَّة أم كجَّة وكانت لها بنات {اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهنَّ} أَيْ: فُرض لهن من الميراث {وترغبون} عن {أن تنكحوهنَّ} لدمامتهنَّ قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في اليتيمة يرغب وليها عن نكاحها ولا ينكحها فيعضلها طعما في ميراثها فنُهي عن ذلك {والمستضعفين من الولدان} أَيْ: يُفتيكم في الصِّغار من الغلمان والجواري أن تعطوهنَّ حقهنَّ {وأن تقوموا} أَيْ: وفي أن تقوموا {لليتامى بالقسط} أَي: بالعدل في مهورهنَّ ومواريثهنَّ {وما تفعلوا من خير} من حسنٍ فيما أمرتكم به {فَإِنَّ اللَّهَ كان به عليماً} يجازيكم عليه(1/292)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{وإن امرأة خافت} علمت {من بعلها} زوجها {نشوزاً} ترفُّعاً عليها لبغضها وهو أن يترك مجامعتها {أو إعراضاً} بوجهه عنها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} في القسمة والنَّفقة وهي أن ترضى هي بدون حقِّها أو تترك من مهرها شيئاً ليسوِّي الزَّوج بينها وبين ضرَّتها في القسمة وهذا إذا رضيت بذلك لكراهة فراق زوجها ولا تجبر على هذا لأنَّها إنْ لم ترض بدون حقِّها كان الواجب على الزَّوج أن يوفيها حقَّها من النَّفقة والمبيت {والصلحُ خيرٌ} من النُّشوز والإِعراض أَيْ: إنْ يتصالحا على شيءٍ خيرٌ من أن يُقيما على النُّشوز والكراهة بينهما {وأحضرت الأنفس الشح} أَيْ: شحَّت المرأة بنصيبها من زوجها وشحَّ الرَّجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحبَّ إليه منها {وإن تحسنوا} العشرة والصُّحبة {وتتقوا} الجور والميل {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تعملون خبيراً} لا يضيع عنده شيء(1/293)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حرصتم} لن تقدروا على التَّسوية بينهنَّ في المحبَّة ولو اجتهدتم {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} إلى التي تحبُّون في النَّفقة والقسمة {فتذروها كالمعلقة} فتدعوا الأخرى كأنَّها معلَّقةٌ لا أيِّماً ولا ذات بعل {وإن تصلحوا} بالعدل في القسم {وتتقوا} الجور {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} لما ملت إلى التي تحبُّها بقلبك ولمَّا ذكر جواز الصُّلح بينهما إنْ أحبَّا أن يجتمعا ذكر بعده الافتراق فقال:(1/293)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
{وإن يتفرقا} أَيْ: إنْ أبت المرأة الكبيرة الصُّلْح وأبت إلاَّ التَّسوية بينها وبين الشَّابَّة فتفرَّقا بالطَّلاق فقد وعد الله لهما أن يُغني كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بعد الطَّلاق من فضله الواسع بقوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسعاً} لجميع خلقه في الرِّزق والفضل {حكيماً} فيما حكم ووعظ(1/294)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وإن تكفروا فإنَّ لله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}(1/294)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}(1/294)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{إنْ يشأ يذهبكم أيها الناس} يعني: المشركين والمنافقين {ويأت بآخرين} أمثل وأطوع لله منكم(1/294)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{مَنْ كان يريد ثواب الدنيا} أَيْ: متاعها {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} أَيْ: خير الدُّنيا والآخرة عنده فليطلب ذلك منه وهذا تعريضٌ بالكفَّار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث وكانوا يقولون: ربنا آتنا في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق(1/294)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} قائمين بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ والأقربين} أَي: اشهدوا لله بالحقِّ وإن كان الحقُّ على نفس الشَّاهد أو على والديه أو أقربيه {إن يكن} المشهود عليه {غنياً أو فقيراً} فلا تحابوا غنياً لغناه ولا تحيفوا على الفقير لفقره {فالله أولى بهما} أَيْ: أعلمُ بهما منكم لأنَّه يتولَّى علم أحوالهما {فلا تتبعوا الهوى} في الشَّهادة واتقوا {إن تعدلوا} أَيْ: تميلوا وتجوروا {وإنْ تلووا} أَيْ: تدّافعوا الشَّهادة {أو تعرضوا} تجحدوها وتكتموها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته(1/295)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله} أَي: اثبتوا على الإِيمان {والكتاب الذي نزَّل على رسوله} القرآن {والكتاب الذي أنزل من قبل} أَيْ: كلِّ كتاب أنزل على نبيٍّ قبل القرآن(1/295)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
{إن الذين آمنوا} أي: اليهود آمنوا بالتَّوراة {ثمَّ كفروا} بمخالفتها {ثم آمنوا} بالإِنجيل {ثمَّ كفروا} بمخالفته {ثم ازدادوا كفراً} بمحمدٍ {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ما أقاموا على ما هم عليه {ولا ليهديهم سبيلاً} سبيل هدى ثمَّ ألحق المنافقين بهم لأنهم كانوا يتولونهم فقال:(1/295)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(1/296)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
{الَّذِينَ يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} هذه الآية من صفة المنافقين وكانوا يُوالون اليهود مخالفةً للمسلمين يتوهَّمون أنَّ لهم القوَّة والمنعة وهو معنى قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أَي: القوَّة بالظهور على محمد صلى الله عليه وسلم {فإنَّ العزة} أَي: الغلبة والقوَّة {لله جميعاً}(1/296)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{وقد نزل عليكم} أيها المؤمنون {في الكتاب} في القرآن {أنْ إذا سمعتم} الكفر بآيات الله والاستهزاء بها {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ} غير الكفر والاستهزاء يعني: قوله في سورة الأنعام {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} هذه كانت مما نزل عليهم في الكتاب وقوله: {إنكم إذاً مثلهم} يعني: إنْ قعدتم معهم راضين بما يأتون من الكفر بالقرآن والاستهزاء به وذلك أنَّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله سبحانه المسلمين عن مجالستهم {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جميعاً} يريد: أنَّهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات يجتمعون في جهنَّم على العذاب(1/296)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{الذين يتربصون بكم} يعني: المنافقين ينتظرون بكم الدَّوائر {فإن كان لكم فتحٌ من الله} ظهورٌ على اليهود {قالوا ألم نكن معكم} فأعطونا من الغنيمة {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} من الظَّفر على المسلمين {قالوا} لهم {ألم نستحوذ} نغلب {عليكم} نمنعكم عن الدُّخول في جملة المؤمنين {ونمنعكم من المؤمنين} بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إيَّاكم بأخبارهم {فالله يحكم بينكم} يعني: بين المؤمنين والمنافقين {يوم القيامة} يعني: أنَّه أخَّر عقابهم إلى ذلك اليوم ورفع عنهم السَّيف (في الدُّنيا) {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أَيْ: حجَّةً يوم القيامة لأنَّه يفردهم بالنَّعيم وما يشاركونهم فيه من الكرامات بخلاف الدُّنيا(1/296)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{إنَّ المنافقين يخادعون الله} أَيْ: يعملون عمل المخادع بما يظهرونه ويبطنون خلافه {وهو خادعهم} مجازيهم جزاءَ خداعهم وذلك أنَّهم يُعطون نوراً كما يُعطى المؤمنون فإذا مضوا قليلاً أطفىء نورهم وبقوا في الظُّلمة {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصلاة} مع النَّاس {قاموا كسالى} متثاقلين {يراؤون الناس} ليرى ذلك النَّاس لا لاتِّباع أمر الله يعني: ليراهم النَّاس مُصلِّين لا يريدون وجه الله {ولا يذكرون الله إلاَّ قليلاً} لأنَّهم يعملونه رياءً وسمعةً ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيراً(1/297)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
{مذبذبين بين ذلك} مُردَّدين بين الكفر والإِيمان ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرِّحين بالشِّرك {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} لا من الأنصار ولا من اليهود {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} من أضلَّه الله فلن تجد له ديناً(1/297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دون المؤمنين} يعني: الأنصار يقول: لا توالوا اليهود من قريظة والنَّضير {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} حجَّة بيِّنة في عقابكم بموالاتكم اليهود أيْ: إنَّكم إذا فعلتم ذلك صارت الحجُّة عليكم في العقاب(1/298)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أَيْ: في أسفل درج النَّار {ولن تجد لهم نصيراً} مانعاً يمنعهم من عذاب الله(1/298)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{إلاَّ الذين تابوا} من النِّفاق {وأصلحوا} العمل {واعتصموا بالله} التجأوا إليه {وأخلصوا دينهم لله} من شائب الرِّياء {فأولئك مع المؤمنين} أَيْ: هم أدنى منهم بعد هذا كلِّه ثمَّ أوقع أجر المؤمنين في التَّسويف لانضمامهم إليهم فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عظيماً}(1/298)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{ما يفعل الله بعذابكم} بعذاب خلقه {إن شكرتم} اعترفتم بإحسانه {وآمنتم} بنبيِّه {وكان الله شاكراً} للقليل من أعمالكم {عليماً} بنيَّاتكم(1/298)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} نزلت ترخيصاً للمظلوم أنْ يجهر بشكوى الظَّالم وذلك أنَّ ضيفاً نزل بقوم فأساؤوا قِراه فاشتكاهم فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا وقوله: {إلاَّ من ظلم} لكن من ظلم فإنَّه يجهر بالسُّوء من القول وله ذلك {وكان الله سميعاً} لقول المظلوم {عليماً} بما يضمره أَيْ: فليقل الحقِّ ولا يتعدَّ ما اُذن له فيه(1/298)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{إن تبدوا خيراً} من أعمال البرِّ {أو تخفوه أو تعفوا عن سوء} يأتيك من أخيك المسلم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عفواً} لمَنْ عفا {قديراً} على ثوابه(1/299)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
{إنَّ الذين يكفرون بالله ورسله} هم اليهود كفروا بعيسى عليه السَّلام والإِنجيل ومحمدٍ عليه السَّلام والقرآن {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرُّسل {ويقولون نؤمن ببعض} الرّسل {ونكفر} ببعضهم {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} بيْن الإِيمان بالبعض والكفر بالبعض ديناً يدينون به(1/299)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
{أولئك هم الكافرون حقاً} أَيْ: إنَّ إيمانهم ببعض الرُّسل لا يُزيل عنهم اسم الكفر ثمَّ نزل في المؤمنين(1/299)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{والذين آمنوا بالله ورسله} الآية(1/299)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{يسألك أهل الكتاب} سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنْ يأتيهم بكتابٍ جُمْلَةً من السَّماء كما أتى به موسى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ من ذلك} يعني: السَّبعين الذين ذكروا في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني: الذين خلَّفهم موسى مع هارون {من بعد ما جاءتهم البينات} العصا واليد وفلق البحر {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} لم نستأصل عبدة العجل {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} حجَّةً بيِّنةً قوي بها على مَنْ ناوأه(1/299)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
{ورفعنا فوقهم الطور} حين امتنعوا من قبول شريعة التَّوراة {بميثاقهم} أَيْ: بأخذ ميثاقهم {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} لا تعتدوا باقتناص السَّمك فيه {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} عهداً مؤكَّداً في النبيِّ صلى الله عليه وسلم(1/300)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{فبما نقضهم ميثاقهم} أَيْ: فبنقضهم و (ما) زائدةٌ للتَّوكيد وقوله {بل طبع اللَّهُ عليها بكفرهم} أَيْ: ختم الله على قلوبهم فلا تعي وَعْظاً مجازاةً لهم على كفرهم {فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً} يعني: الذين آمنوا(1/300)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
{وبكفرهم} بالمسيح {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حين رموها بالزِّنا(1/300)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شبه لهم} أَيْ: ألقي لهم شبه عيسى على غيره حتى ظنُّوه لمَّا رأوه أنَّه المسيح {وإنَّ الذين اختلفوا فيه} أَيْ: في قتله وذلك أنَّهم لمَّا قتلوا الشَّخص المشَبَّه به كان الشَّبَه أُلقي على وجهه ولم يُلق على جسده شبهُ جسدِ عيسى فلمَّا قتلوه ونظروا إليه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فاختلفوا فقال بعضهم: هذا عيسى وقال بعضهم: ليس بعيسى وهذا معنى قوله: {لفي شك منه} أَيْ: مِنْ قتله {ما لهم به} بعيسى {من علم} قُتِل أو لم يقتل {إلاَّ اتباع الظن} لكنَّهم يتَّبعون الظَّنَّ {وما قتلوه يقيناً} وما قتلوا المسيح على يقين من أنَّه المسيح(1/300)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{بل رفعه الله إليه} أَيْ: إلى الموضع الذي لا يجري لأحدٍ سوى الله فيه حكمٌ وكان رفعُه إلى ذلك الموضع رفعاً إليه لأنَّه رُفع عن أن يجري عليه حكم أحدٍ من العباد {وكان الله عزيزاً} في اقتداره على نجاة مَنْ يشاء من عباده {حكيماً} في تدبيره في النَّجاة(1/301)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أَيْ: ما مِن أهل الكتاب أحدٌ إلاَّ ليؤمننَّ بعيسى {قبل موته} إذا عاين المَلَك ولا ينفعه حينئذٍ إيمانه ولا يموت يهوديٌّ حتى يؤمن بعيسى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} على أنْ قد بلَّغ الرِّسالة وأقرَّ بالعبوديَّة على نفسه(1/301)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
{فبظلم من الذين هادوا} عاقب الله اليهود إلى ظلمهم وبغيهم بتحريم اشياء عليهم وهي ما ذُكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذي ظفر} ثمَّ استثنى مؤمنيهم فقال:(1/301)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
قال تعالى {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(1/301)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{لكن الراسخون} يعني: المبالغين في علم الكتاب منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه {والمؤمنون} من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً} ظاهر إلى قوله:(1/302)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
قال تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وسليمان وآتينا داود زبورا}(1/302)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
قال تعالى {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}(1/302)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
{رسلاً مبشرين} أَيْ: بالثَّواب على الطَّاعة {ومنذرين} بالعقاب على المعصية {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسولاً يعلّمنا دينك فبعثنا الرُّسل قطعاً لعذرهم(1/302)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
{لكن الله يشهد} نزلت حين قالت اليهود - لما سئلوا عن نبؤة محمَّدٍ - ما نشهد له بذلك فقال الله تعالى: {لكن الله يشهد} أَيْ: يبيِّن نبوَّتك {بما أنزل إليك} من القرآن ودلائله {أنزله بعلمه} أَيْ: وهو يعلم أنَّك أهلٌ لإِنزاله عليك لقيامك به {والملائكة يشهدون} لك بالنُّبوَّة إنْ جحدت اليهود وشهادة الملائكة إنَّما تُعرف بقيام المعجزة فمَنْ ظهرت معجزته شهدت الملائكة بصدقه {وكفى بالله شهيداً} أَيْ: كفى الله شهيدا(1/302)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا}(1/302)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{إنَّ الذين كفروا} يعني اليهود {وظلموا} محمداً عليه السَّلام بكتمان نعته {لم يكن الله ليغفر لهم} هذا فيمن علم أنَّه يموت على الكفر {ولا ليهديهم طريقاً} ولا ليرشدهم إلى دين الإِسلام(1/303)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
{إلاَّ طريق جهنم} يعني: طريق اليهوديَّة وهو الطَّريق الذي يقودهم إلى جهنَّم {خالدين فيها أبداً وكان ذلك} أَيْ: خلودهم {على الله يسيراً} لأنَّه لا يتعذَّر عليه شيءٌ(1/303)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{يا أيها الناس} يعني: المشركين {قد جاءكم الرسول بالحق} بالهدى والصِّدق {من ربكم فآمنوا خيراً لكم} أَيْ: ايتوا خيراً لكم من الكفر بالإِيمان به {وإن تكفروا} تكذبوا محمد وتكفروا نعمة الله عليكم به {فإنَّ لله ما في السماوات والأرض} أَيْ: لا تضرُّون إلاَّ أنفسكم لأنَّ الله غنيٌّ عنكم {وكان الله عليماً} بما تصيرون إليه من إيمان أو كفر {حكيماً} في تكليفه مع علمه بما يكون منكم(1/303)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{يا أهل الكتاب} يريد: النَّصارى {لا تغلوا} لا تتجاوزوا الحدَّ ولا تتشدَّدوا {فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الحق} فليس له ولدٌ ولا زوجة ولا شريك وقوله: {وكلمته ألقاها} يعني: أنَّه قال له: كن فيكون {وروحٌ منه} أَيْ: روحٌ مخلوقٌ من عنده {ولا تقولوا ثلاثة} أَيْ: لا تقولوا: آلهتنا ثلاثة يعني قولهم: اللَّهُ وصاحبته وابنه تعالى الله عن ذلك {انتهوا خيراً لكم} أَي: ائتوا بالانتهاء عن هذا خيراً لكم مما أنتم عليه(1/303)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{لن يستنكف المسيح} لن يأنف الذي تزعمون أنَّه إِلهٌ {أن يكون عبداً لله وَلا الملائكة المقربون} من كرامة الله تعالى وهم أكثرُ من البشر(1/304)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ولا نصيرا}(1/304)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم} يعني: النبيَّ عليه السَّلام {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} وهو القرآن(1/304)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{فأمَّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به} أَي: امتنعوا بطاعته من زيغ الشَّيطان {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} يعني: الجنَّة {وفضل} يتفضَّل عليهم بما لم يخطر على قلوبهم {ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} ديناً مستقيماً(1/304)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فيمن مات ولا ولد له ولا والد {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أراد: ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما لأنَّه الكلالة {وله أختٌ} يعني: من أبٍ وأمٍّ أو أبٍٍ لأنَّ ذكر ولد الأم قد مضى في أوَّل السُّورة {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وهو يرثها} الأخ يرث الأخت جميع المال {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا} أَيْ: الأختان ( {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رجالاً ونساءً} من أب وأمّ أو من أبٍ {فللذكر مثل حظ الأنثيين} ) وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا ( {والله بكل شيء عليم} من قسمة المواريث)(1/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} يعني: بالعهود المؤكَّدة التي عاهدتموها مع الله والنَّاس ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بهيمة الأنعام} قيل: هي الأنعام نفسها وهي الإِبلُ والبقر والغنم وقيل: بهيمة الأنعام: وحشِيُّها كالظِّباء وبقر الوحش وحمر الوحش {إلاَّ ما يتلى عليكم} (أي: ما يقرأ عليكم في القرآن) يعني: قوله {حرمت عليكم الميتة} الآية {غير محلي الصيد} يعني: إلاَّ أن تحلُّوا الصَّيد في حال الإِحرام فإنَّه لا يحلُّ لكم {إنَّ الله يحكم ما يريد} يحلُّ ما يشاء ويحرِّم ما يشاء(1/306)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} يعني: الهدايا المُعلَمة للذَّبح بمكة نزلت هذه الآية في الحُطَم بن ضبيعة أغار على سرح المدينة فذهب به إلى اليمامة فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجَّاج اليمامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا الحطم فدونكم وكان قد قلَّد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة فلمَّا توجَّهوا في طلبه أنزل الله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} يريد: ما أُشعر لله أَيْ: أُعْلِمَ {ولا الشهر الحرام} بالقتال فيه {ولا الهدي} وهي كلُّ ما أُهدي إلى بيت الله من ناقةٍ وبقرةٍ وشاةٍ {ولا القلائد} يعني: الهدايا المقلَّدة من لحاء شجر الحرم {ولا آمِّين البيت الحرام} قاصديه من المشركين
قال المفسرون: كانت الحروب في الجاهليَّة قائمة بين العرب إلاَّ في الأشهر الحرم فمَن وُجد في غيرها أُصيب منه إلاَّ أنْ يكونَ مُشعراً بدنه أو سائقاً هدايا أو مُقلِّداً نفسه أو بعيره من لحاء شجر الحرم أو مُحرماً فلا يُتعرَّض لهؤلاء فأمر الله سبحانه وتعالى المُسْلمين بإقرار هذه الأَمنة على ما كانت لضربِ من المصلحة إلى أنْ نسخها بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله: {يبتغون فضلاً من ربهم} أَيْ: ربحاً بالتِّجارة {ورضواناً} بالحجِّ على زعمهم {وإذا حللتم} من الإحرام {فاصطادوا} أمرُ إباحةٍ {ولا يجرمنَّكم} ولا يحملنَّكم {شنآن قومٍ} بُغض قومٍ يعني: أهل مكَّة {أن صدوكم عن المسجد الحرام} يعني: عام الحديبية {أَنْ تَعْتَدُوا} على حُجَّاج اليمامة فتستحلُّوا منهم مُحرَّماً {وتعاونوا} لِيُعِنْ بعضكم بعضاً {على البر} وهو ما أمرتُ به {والتقوى} ترك ما نهيتُ عنه {ولا تعاونوا على الإثم} يعني: معاصي الله {والعدوان} التَّعدي في حدوده ثمَّ حذَّرهم فقال: {واتقوا الله} فلا تستحلوا محرَّماً {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذا عاقب(1/306)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{حرِّمت عليكم الميتة} سبق تفسير هذه الاية في سورة البقرة إلى قوله: {والمنخنقة} وهي التي تختنق فتموت بأس وجهٍ كان {والموقوذة} المقتولة ضرباً {والمتردية} التي تقع من أعلى إلى أسفل فتموت {والنطيحة} التي قُتلت نطحا {وما أكل} منه {السبع} فالباقي منه حرامٌ ثمَّ استثنى ما يُدرك ذكاته من جميع هذه المحرَّمات فقال: {إلا ما ذكيتم} أَيْ: إلاَّ ما ذبحتم {وما ذبح على النصب} أَيْ: على اسم الأصنام فهو حرام {وأن تستقسموا بالأزلام} تطلبوا على ما قُسم لكم من الخير والشَّرِّ من الأزلام: القداح التي كان أهل الجاهليَّة يُجيلونها إذا أرادوا أمراً {ذلكم} أَيْ: الاستقسامُ من الأزلام {فسق} خروجٌ عن الحلال إلى الحرام {اليوم} يعني: يوم عرفة عام حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح {يئس الذين كفروا} أن ترتدُّوا راجعين إلى دينهم {فلا تخشوهم} في مظاهرة محمد واتِّباع دينه {واخشون} في عبادة الأوثان {اليوم} يعني: يوم عرفة {أكملتُ لكم دينكم} أحكام دينكم فلم ينزل بعد هذه الآية حلالٌ ولا حرامٌ {وأتممت عليكم نعمتي} يعني: بدخول مكَّة آمنين كما وعدتكم {فمن اضطر} إلى ما حُرِّم ممَّا ذُكر في هذه الآية {في مخمصة} مجاعةٍ {غير متجانفٍ لإِثم} غير متعرِّضٍ لمعصيةٍ وهو أن يأكل فوق الشيع أو يكون عاصياً بسفره {فإنَّ الله غفورٌ} له ما أكل ممَّا حرَّم عليه {رحيم} بأوليائه حيث رخَّص لهم(1/308)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{يسألونك ماذا أحلَّ لهم} سأل عديُّ بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّا نصيد بالكلاب والبُزاة وقد حرَّم الله الميتة فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية {قل أحلَّ لكم الطيبات} يعني: ما تستطيبه العرب وهذا هو الأصل في التَّحليل فكل حيوان استطابه العرب كالضِّباب واليرابيع والأرانب فهو حلال وما استخبثه العرب فهو حرام {وما علَّمتم} يعني: وصيد ما علَّمتم {من الجوارح} وهي الكواسب من الطَّير والكلاب والسِّباع {مكلِّبين} مُعلِّمين إيَّاها الصَّيد {تعلمونهن مما علمكم الله} تؤدبوهنَّ لطلب الصَّيد {فكلوا ممَّا أمسكن عليكم} هذه الجوارح وإنْ قتلن إذا لم يأكلن منه فإذا أكلن فالظَّاهر أنَّه حرام {واذكروا اسم الله عليه} عند إرسال الجوارح(1/309)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{اليوم أحلَّ لكم الطيبات} التي سألتم عنها {وطعام الذين أوتوا الكتاب} وهو اسمٌ لجميع ما يؤكل {حلٌّ لكم وطعامكم حل لهم} أَيْ: حلٌّ لكم أن تطعموهم {والمحصنات} العفائف {من المؤمنات والمحصنات} الحرائر {من الذين أوتوا الكتاب} من أهل الكتاب {إذا آتيتموهنَّ أجورهنَّ} يعني: مهورهنَّ {محصنين} مُتزوِّجين {غير مسافحين} معالنين بالزِّنا {ولا متخذي أخدان} مُسرّين بالزِّنا بهنَّ {ومَنْ يكفر بالإِيمان} بالله الذي يجب الإِيمان به {فقد حبط عمله} إذا مات على ذلك {وهو في الآخرة من الخاسرين} ممَّنْ خسر الثَّواب(1/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أَيْ: إذا أردتم القيام إليها {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} يعني: مع المرفقين {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} وهما النَّاشزان من جانبي القدم {وإن كنتم جنباً فاطَّهَروا} فاغتسلوا {وإن كنتم مرضى} مفسَّرٌ في سورة النساء إلى قوله: {مَا يُرِيدُ الله ليجعل عليكم من حرج} من ضيقٍ في الدِّين ولكنْ جعله واسعاً بالرُّخصة في التَّيمُّم {ولكن يريد ليطهركم} من الأحداث والجنابات والذُّنوب لأنَّ الوضوء يكفِّر الذُّنوب {وليتم نعمته عليكم} ببيان الشَّرائع و {لعلكم تشكرون} نعمتي فتطيعوا أمري(1/310)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{واذكروا نعمة الله عليكم} بلإسلام {وميثاقه الذي واثقكم به} يعني: حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في كلِّ ما أمر ونهى وهو قوله: {إذ قلتم} حين قُلْتُمْ {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عليم بذات الصدور} بخفيَّات القلوب(1/310)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله} تقومون لله بكلِّ حقٍّ يلزمكم القيام به {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قوم} لا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل {اعدلوا} في الوليِّ والعدوِّ {هو} أَيْ: العدل {أقرب للتقوى} أَيْ: لاتِّقاء النار(1/311)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم}(1/311)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(1/311)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} الآية يعني: ما أنعم الله على نبيِّه حين أتى اليهودَ هو وجماعة من أصحابه يستعينون بهم في دية فتآمروا بينهم أن يطرحوا عليهم رحىً فأعلمهم الله بذلك على لسان جبرائيل حتى خرجوا ثمَّ أخبر عن نقض بني إسرائيل عهد الله كما نقضت هذه الطَّبقة العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله حين هموا بالاغتيال به فقال:(1/311)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} على أن يعلموا بما في التَّوراة {وبعثنا} وأقمنا بذلك {منهم اثني عشر نقيباً} كفيلاً وضميناً ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد {وقال الله} لهم: {إني معكم} بالعون والنُّصرة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وعزرتموهم} أَيْ: وقَّرتموهم {وأقرضتم الله قرضاً حسناً} يريد: الصَّدقات للفقراء والمساكين {فمن كفر بعد ذلك} أَيْ: بعد هذا العهد والميثاق {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أخطأ قصد الطَّريق(1/311)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
{فبما نقضهم} فبنقضهم {ميثاقهم} وهو أنَّهم كذَّبوا الرُّسل بعد موسى فقتلوا الأنبياء وضيَّعوا كتاب الله {لعنَّاهم} أخرجناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} يابسة عن الإِيمان {يُحَرِّفُونَ الكلم} يغيِّرون كلام الله {عن مواضعه} من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وآية الرَّجم {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} وتركوا نصيباً ممَّا أمروا به في كتابهم من اتِّبَاع محمَّدٍ {ولا تزال} يا محمد {تطلع على خائنة} خيانة {منهم} مثل ما خانوك حين همُّوا بقتلك {إلاَّ قليلاً منهم} يعني: مَنْ أسلم {فاعفُ عنهم واصفح} منسوخٌ بآية السَّيف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} المتجاوزين(1/312)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} كما أخذنا ميثاق اليهود {فنسوا حظا مما ذكروا به} فتركوا ما أُمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {فأغرينا بينهم} فألقينا بين اليهود والنصارى {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بما كانوا يصنعون} وعيدٌ لهم ثمَّ دعاهم إلى الإِيمان بمحمَّدٍ عليه السلام فقال:(1/312)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{يا أهل الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {قد جاءكم رسولنا} محمَّد {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} تكتمون ممَّا في التَّوراة والإِنجيل كآية الرَّجم وصفة محمَّد عليه السَّلام {ويعفو عن كثير} يتجاوز عن كثير فلا يخبركم بكتمانه {قد جاءكم من الله نور} يعني: النبيَّ {وكتاب مبين} القرآن فيه بيانٌ لكلِّ ما تختلفون فيه(1/313)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{يهدي به الله} يعني: بالكتاب المبين {مَنِ اتبع رضوانه} اتَّبع ما رضيه الله من تصديق محمَّد عليه السَّلام {سُبُل السلام} طرق السَّلامة التي مَنْ سلكها سلم في دينه {ويخرجهم من الظُّلمات} الكفر {إلى النور} الإِيمان {بإذنه} بتوفسقه وإرادته {ويهديهم إلى صراط مستقيم} وهو الإِسلام(1/313)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المسيح ابن مريم} يعني: الذين اتَّخذوه إِلهاً {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} فمَنْ يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئاً {إن أراد أن يهلك المسيح} أَيْ: يُعذِّبه ولو كان إلهاً لقدر على دفع ذلك(1/313)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أَمَّا اليهود فإنّهم قالوا: إنَّ الله من حِنَّتِهِ وعطفه علينا كالأب الشفيق وأمَّا النصارى فإنهم تأولو قول عيسى: إذا صلَّيتم فقولا: يا أبانا الذي في السَّماء تقدَّس اسمه وأراد أنَّه في برِّه ورحمته بعباده الصالحين كالأب الرحيم وقيل: أرادوا نحن أبناء رسل الله وإنما قالوا هذا حين حذَّرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عقوبة الله فقال الله: {قل فلمَ يعذِّبكم بذنوبكم} أَيْ: فلمَ عذَّب مَنْ قبلكم بذنوبهم كأصحاب السَّبت وغيرهم {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم {يغفر لمن يشاء} لَمنْ تاب من اليهودية {ويعذب من يشاء} مَنْ مات عليها وقوله:(1/314)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{على فترة من الرسل} على انقطاع من الأنبياء {أن تقولوا} لئلا تقولوا {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نذير} وقوله:(1/314)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{وجعلكم ملوكاً} أَيْ: جعل لكم الخدم والحشم وهم أوَّل مَن ملك الخدم والحشم من بني آدم {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} من فلق البحر لكم وإغراق عدوِّكم والمنِّ والسَّلوى وغير ذلك(1/314)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
{يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة} المطهَّرة يعني: الشَّام وذلك أنَّها طُهِّرت من الشِّرك وجُعلت مسكناً للأنبياء {التي كتب الله لكم} أمركم الله بدخولها {ولا ترتدوا على أدباركم} لا ترجعوا إلى دينكم الشِّركِ بالله(1/314)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} طوالاً ذوي قوَّة وكانوا من بقايا عادٍ يقال لهم العمالقة(1/315)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
{قال رجلان} وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا {من الذين يخافون} اللَّهَ في مخالفة أمره {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالفضل واليقين: {ادخلوا عليهم الباب} الآية وإنَّما قالا ذلك تيقُّناً بنصر الله وإنجاز وعده لنبيِّه فخالفوا نبيَّهم وعصوا أمر الله وأتوا من القول بما فسقوا به وهو قوله:(1/315)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنا هاهنا قاعدون} فقال موسى عند ذلك:(1/315)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
{لا أملك إلاَّ نفسي وأخي} يقول: لم يُطعني منهم إلاَّ نفسي وأخي {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} فاقض بيننا وبين القوم العاصين فحرَّم الله على الذين عصوا دخول القرية وحبسهم في التِّيه أربعين سنةً حتى ماتوا ولم يدخلها أحدٌ من هؤلاء وإنَّما دخلها أولادهم وهو قوله:(1/315)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{فإنها محرَّمة عليهم} الآية وقوله: {يتيهون في الأرض} يتحيَّرون فلا يهتدون للخروج منها {فلا تأس على القوم الفاسقين} لا تحزن على عذابهم(1/315)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{واتل عليهم} يعني: على قومك {نبأ} خبر {ابني آدم} هابيل وقابيل {إذ قرَّبا قرباناً} تقرَّب إلى الله هابيل بخيرِ كبشٍ في غنمه فنزلت من السَّماء نارٌ فاحتملته فهو الكبش الذي فُدي به إسماعيل وتقرَّب إلى الله قابيل بأردأ ما كان عنده من القمح وكان صاحب زرع فلم تحمل النَّار قربانه والقربان: اسمٌ لكلِّ ما يُتقرَّب به إلى الله فقال الذي لم يُتقبَّلْْ منه: {لأقتلنك} حسداً له فقال هابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين} للمعاصي (لا من العاصين)(1/316)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
{لئن بَسَطتَ إليَّ يدك} لئن بدأتني بالقتل فما أنا بالذي أبدؤك بالقتل {إني أخاف الله} في قتلك(1/316)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
{إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} أن تحمل إثم قتلي وإثم الذي كان منك قبل قتلي(1/316)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{فَطَوَّعَتْ له نفسه قتل أخيه} سهَّلته وزيَّنت له ذلك {فقتله فأصبح من الخاسرين} خسر دنياه بإسخاط والديه وآخرته بسخط الله عليه فلمَّا قتله لم يدرِ ما يصنع به لأنَّه كان أوَّل ميِّت على وجه الأرض من بني آدم فحمله في جرابٍ على ظهره(1/316)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} يثير التُّراب من الأرض على غرابٍ ميِّتٍ {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} يستر {سوآة} جيفة {أخيه} فلمَّا رأى ذلك قال: {يا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سوآة أخي فأصبح من النادمين} على حمله والتَّطوف به(1/316)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{من أجل ذلك} من سبب ذلك الذي فعل قابيل {كتبنا} فرضنا {على بني إسرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نفساً بغير نفسٍ} بغير قَوَدٍ {أو فسادٍ} شركٍ {في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} يُقتل كما لو قتلهم جميعاً ويصلى النَّار كما يصلاها لو قتلهم {ومَن أحياها} حرَّمها وتورَّع عن قتلها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} لسلامتهم منه لأنَّه لا يستحلُّ دماءهم {ولقد جاءتهم} يعني: بني إسرائيل {رسلنا بالبينات} بأنَّ لهم صدق ما جاؤوهم به {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرض لمسرفون} أَيْ: مجاوزون حدَّ الحقِّ(1/317)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} أَيْ: يعصونهما ولا يطيعونهما يعني: الخارجين على الإِمام وعلى الأمَّة بالسَّيف نزلت هذه الآية في قصة العُرَنيين وهي معروفةٌ تعليماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة مَن فعل مثل فعلهم وقوله: {ويسعون في الأرض فساداً} بالقتل وأخذ الأموال {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} معنى أو ها هنا الإباحة فللإمام أن يفعل ما أراد من هذه الأشياء ومعنى النَّفي من الأرض الحبسُ في السجن لأن المجون بمنزلة المخرج من الدني {ذلك لهم خزي} هوانٌ وفضيحةٌ {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا للكفَّار الذين نزلت فيهم الآية لأنَّ العُرنيين ارتدُّوا عن الدِّين والمسلم إذا عوقب في الدُّنيا بجنايته صارت مكفَّرةً عنه(1/317)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم} آمنوا من قبل أن تعاقبوهم فالله غفورٌ رحيمٌ لهم هذا في المشرك المحارب إذا آمن قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود فأمَّا المسلم المحارب إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه سقط عنه حدود الله ولا تسقط حقوق بني آدم(1/318)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا} عقاب {الله} بالطَّاعة {وابتغوا إليه الوسيلة} تقرَّبوا إليه بطاعته {وجاهدوا} العدوَّ {فِي سَبِيلِهِ} في طاعته {لعلكم تفلحون} كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة(1/318)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
{إنَّ الذين كفروا} الآية ظاهرة(1/318)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{يريدون} يتمنَّون بقلوبهم {أن يخرجوا من النار}(1/318)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{والسارق والسارقةُ فاقطعوا أيديهما} يمينَ هذا ويمين هذه فجمع {جَزَاءً بما كسبا} أَيْ: بجزاء فعلهما {نكالاً} عقوبةً {من الله والله عزيز} في انتقامه {حكيم} فيما أوجب من القطع(1/318)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
{فمن تاب من بعد ظلمه} النَّاس {وأصلح} العمل بعد السَّرقة {فإنَّ الله يتوب عليه} يعود عليه بالرَّحمة(1/319)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب مَنْ يشاء} على الذَّنب الصَّغير {ويغفر لمن يشاء} الذَّنب العظيم(1/319)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{يا أيها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إذ كنت موعودَ النَّصر عليهم وهم المنافقون وبان لهم ذلك بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون} أَيْ: فريقٌ سمَّاعون {للكذب} يسمعون منك ليكذبوا عليك فيقولون: سمعنا منه كذا وكذا لما لمْ يسمعوا {سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} أَيْ: هم عيونٌ لأولئك الغُيَّبِ ينقلون إليهم أخبارك {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} من بعد أن وضعه الله مواضعه يعني: آية الرَّجم {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يعني: يهود خيبر بالجلد وهم الذين ذكروا في قوله: {لقوم آخرين لم يأتوك} وذلك أنَّهم بعثوا إلى قريظة ليستفتوا محمداً صلى الله عليه وسلم في الزانيين المحصنيين وقالوا لهم: إنْ أفتى بالجلد فاقبلوا وإن أفتى بالرَّجم فلا تقبلوا فذلك قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} يعني: الجلد {فخذوه} فاقبلوه {وإن لم تؤتوه فاحذروا} أن تعملوا به {ومن يرد الله فتنته} ضلالته وكفره {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لن تدفع عنه عذاب الله {أولئك الذين} أَيْ: مَنْ أراد الله فتنته فهم الَّذِينَ {لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أن يُخلِّص نيَّاتهم {لهم في الدنيا خزيٌ} بهتك ستورهم {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وهو النَّار(1/319)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{سماعون للكذب أكالون للسحت} وهو الرِّشوة في الحكم يعني: حكَّام اليهود يسمعون الكذب ممَّنْ يأتيهم مُبطلاً ويأخذون الرِّشوة منه فيأكلونها {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} خيَّر الله نبيَّه في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ثمَّ نسخ ذلك بقوله: {وأن احكم بينهم} الآية(1/320)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{وكيف يحكمونك} عجَّب الله نبيه عليه السلام من تحكيم اليهود إيَّاه بعد علمهم بما في التَّوراة من حكم الزَّاني وحدِّه وقوله: {فيها حكم الله} يعني: الرَّجم {ثمَّ يتولون من بعد ذلك} التَّحكيم فلا يقبلون حكمك بالرَّجم {وما أولئك} الذين يُعرِضون عن الرَّجم {بالمؤمنين}(1/320)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى} بيان الحكم الذي جاؤوك يستفتوك فيه {ونور} بيانٌ إنَّ أمرك حَقٌّ {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} من لدن موسى إلى عيسى وهم {الذين أسلموا} أَي: انقادوا لحكم التَّوراة {للذين هادوا} تابوا من الكفر وهم بنو إسرائيل إلى زمن عيسى {والربانيون} العلماء {والأحبار} الفقهاء {بما استحفظوا} استرعوا أَيْ: بما كُلِّفُوا حفظه من كتاب الله وقيل: العمل بما فيه وذلك حفظه {من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أنَّه من عند الله ثمَّ خاطب اليهود فقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والرَّجم {واخشون} في كتمان ذلك {ولا تشتروا بآياتي} بأحكامي وفرائضي {ثمناً قليلاً} يريد: متاع الدُّنيا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الكافرون} نزلت في مَنْ غيرَّ حكم الله من اليهود وليس في أهل الإسلام منها ومن اللتين بعدها شيءٌ(1/320)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{وكتبنا عليهم فيها} وفرضنا عليهم في التَّوراة {أنَّ النفس} تُقتل {بالنفس والعين بالعين} الآية كلُّ شخصين جرى القصاص بينهما في النَّفس جرى القصاص بينهما في جميع الأعضاء والأطراف إذا تماثلا في السَّلامة وقوله: {والجروح قصاص} في كلِّ ما يمكن أن يُقتصَّ فيه مثل الشَّفتين والذَّكَر والأُنثيين والأليتين والقدمين واليدين وهذا تعميمٌ بعد التفصيل بقوله: {والعين بالعين والأنف بالأنف} {فمن تصدَّق به فهو كفارة له} مَنْ عفا وترك القصاص فهو مغفرةٌ له عند الله وثواب عظيم(1/321)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
{وقفينا على آثارهم بعيسى} أَيْ: جعلناه يقفو آثار النَّبيِّين يعني: بعثناه بعدهم على آثارهم {مصدقاً لما بين يديه من التوراة} يُصدِّق أحكامها ويدعو إليها {وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة} معناه: وهادياً وواعظاً(1/321)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{وليحكم أهل الإِنجيل} أَيْ: وقلنا لهم: ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت(1/322)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} أَيْ: شاهداً وأميناً وحفيظاً ورقيباً على الكتب التي قبله فما أخبر أهل الكتاب بأمرٍ فإنْ كان في القرآن فصقوا وإلأَّ فكذِّبوا {فاحكم بينهم} بين اليهود {بما أنزل الله} بالقرآن والرَّجم {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} يقول: لا تتَّبعهم عمَّا عندك من الحق قتتركه وتتَّبعهم {لكلٍّ جعلنا منكم} من أُمَّة موسى وعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهم أجمعين {شرعة ومنهاجاً} سبيلاً وسنَّة فللتَّوراة شريعة وللإِنجيل شريعة وللقرآن شريعة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على أمرٍ واحدٍ ملَّة الإِسلام {ولكن ليبلوكم} ليختبركم {فِي مَا آتَاكُمْ} أعطاكم من الكتاب والسُّنن {فاستبقوا الخيرات} سارعوا إلى الأعمال الصَّالحة (الزَّاكية) {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أنتم وأهل الكتاب {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} من الدِّين والفرائض والسُّنن يعني: إنَّ الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الشُّكوك بما يحصل من اليقين(1/322)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إليك} أَيْ: يَسْتَزِلُّوكَ عن الحقِّ إلى أهوائهم نزلت حين قال رؤساء اليهود بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه فنرده عمَّا هو عليه فأتوه وقالوا له: قد علمت أنَّا إن اتَّبعناك اتَّبعك النَّاس ولنا خصومةٌ فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك ونحن نؤمن بك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله هذه الآية: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يصيبهم ببعض ذنوبهم} (أي: فإن أعرضوا عن الإِيمان والحكم بالقرآن فاعلم أنَّ ذلك من أجل أنَّ الله يريد أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم) ويجازيهم في الآخرة بجميعها ثمَّ كان تعذيبهم في الدُّنيا الجلاء والنَّفي {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} يعني: اليهود(1/323)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{أفحكم الجاهلية يبغون} أَيْ: أيطلب اليهود في الزَّانيين حكماً لم يأمر الله به وهم أهل كتاب كما فعل أهل الجاهليَّة؟ ! {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَي: مَنْ أيقن تبيَّن عدل الله في حكمه ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود وأوعد عليها بقوله:(1/323)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية(1/323)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه {يسارعون فيهم} في مودَّة أهل الكتاب ومعاونتهم على المسلمين بإلقاء أخبارهم إليهم {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} أَيْ: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها يعنون: الجدب فتنقطع عنا الميرة والقرض {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني: لمحمدٍ على جميع مَنْ خالفه {أو أمرٍ من عنده} بقتل المنافقين وهتك سترهم {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم} يعني: أهل النِّفاق على ما أضمروا من ولاية اليهود ودسِّ الأخبار إليهم {نادمين}(1/323)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{ويقول الذين آمنوا} المؤمنون إذا هتك الله ستر المنافقين: {أهؤلاء} يعنون: المنافقين {الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} حلفوا بأغلظ الأيمان {إنهم لمعكم} إنَّهم مؤمنون وأعوانكم على مَنْ خالفكم {حبطت أعمالهم} بطل كلُّ خيرٍ عملوه بكفرهم {فأصبحوا خاسرين} صاروا إلى النَّار وورث المؤمنون منازلهم من الجنَّة(1/324)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} علم الله تعالى أنَّ قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيِّهم صلى الله عليه وسلم فأخبرهم تعالى أنَّه س {يأتي اللَّهُ بقوم يحبهم ويحبونه} وهم أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة {أذلة على المؤمنين} كالولد لوالده والعبد لسيِّده {أعزة على الكافرين} غلاظٍ عليهم كالسَّبع على فريسته {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} كالمنافقين الذين كانوا يرقبون الكافرين ويخافون لومهم في نصرة الدِّين {ذلك فضل الله} أَيْ: محبَّتهم لله عز وجل ولين جانبهم للمسلمين وشدَّتهم على الكفَّار بفضلٍ من الله عليهم(1/324)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
{إنما وليكم الله ورسوله} نزلت لمَّا هجر اليهود مَنْ أسلم منهم فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله إنَّ قومنا قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا فنزلت هذه الآية فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء وقوله: {وهم راكعون} يعني: صلاة التَّطوع(1/325)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{ومن يَتَوَلَّ الله ورسوله} يتولَّى القيام بطاعته ونصرة رسوله والمؤمنين {فإنَّ حزب الله} جند الله وأنصار دينه {هم الغالبون} غلبوا اليهود فأجلوهم من ديارهم وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولَّوا اللَّهَ ورسوله(1/325)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا} الآية نزلت في رجالٍ كانوا يوادُّون منافقي اليهود ومعنى قوله: {اتَّخذوا دينكم هزواً ولعباً} إظهارهم ذلك باللِّسان واستبطانهم الكفر تلاعباً واستهزاءً {والكفار} يعني: مشركي العرب وكفَّار مكَّة {واتقوا الله} فلا تتَّخذوا منهم أولياء {إن كنتم مؤمنين} بوعده ووعيده(1/325)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{وإذا ناديتم إلى الصلاة} دعوتم الناس بالأذان {اتخذوها هزواً ولعباً} تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السُّخف والمجون تجهيلاً لأهلها {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} مالهم في إجابتها لو أجابوا إليها وما عليهم في استهزائهم بها(1/325)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
{قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا} الآية (أي: هل تنكرون وتكرهون) [أتي نفرٌ من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمَّن يُؤمن به من الرُّسل؟ فقال: أؤمنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ منهم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] فلمَّا ذكر عيسى جحدوا نبوَّته وقالوا: ما نعلم ديناً شرَّاً من دينكم فأنزل الله تعالى: {هل تنقمون} أَي: هل تكرهون وتنكرون منا إلا إيمانا وفسقكم أَيْ: إنَّما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حقٍّ لأنَّكم قد فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبَّتكم الرِّئاسة وكسبكم بها الأموال وتقدير قوله: {وأنًّ أكثركم فاسقون} ولأنَّ أكثركم والواو زائدةٌ والمعنى: لفسقكم نقمتم علينا الإِيمان وقوله:(1/325)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
{قل هل أنبئكم} أخبركم جوابٌ لقول اليهود: ما نعرف أهل دين شراً منكم فقال الله: {هل أنبئكم} أخبركم {بشرٍّ من} ذلكم المسلمون الذين طعنتم عليهم {مثوبة} جزاءً وثواباً {عند الله مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ: هو مَنْ لعنه الله: أبعده عن رحمته {وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} يعني: أصحاب السَّبت {وعبد الطاغوت} نسقٌ على {لعنه الله} وعبد الطاغوت أطاع الشَّيطان فيما سوَّله له {أولئك شر مكاناً} لأنَّ مكانهم سَقَر {وأضل عن سواء السبيل} قصد الطَّريق وهو دين الحنيفيَّة فلمَّا نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير فسكتوا وافتضحوا(1/326)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} يعني: منافقي اليهود {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أَيْ: دخلوا وخرجوا كافرين والكفر معهم في كِلْتي حالهم(1/326)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يجترئون على الخطأ والظُّلم ويبادرون إليه {وأكلهم السُّحت} ما كانوا يأخذونه من الرَّشا على كتمان الحقِّ ثمَّ ذمَّ فعلهم بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يعملون}(1/327)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{لولا} هلاَّ {ينهاهم} عن قبح فعلهم {الربانيون والأحبار} علماؤهم وفقهاؤهم {لبئس ما كانوا يصنعون} حين تركوا النَّكير عليهم(1/327)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{وقالت اليهود يد الله مغلولة} مقبوضةٌ عن العطاء وإسباغ النِّعم علينا قالوا هذا حين كفَّ الله تعالى عنهم بكفرهم بمحمَّد عليه السَّلام ما كان يسلِّط عليهم من الخِصب والنِّعمة فقالوا - لعنهم الله على جهة الوصف بالبخل -: {يد الله مغلولة} وقوله: {غلت أيديهم} أَيْ: جعلوا بخلاء وأُلزموا البخل فهم أبخل قوم {ولعنوا بما قالوا} عُذِّبوا في الدُّنيا بالجِزية (والذلَّة والصَّغار والقحط والجلاء) وفي الآخرة بالنَّار {بل يداه مبسوطتان} قيل: معناه: الوصف بالمبالغة في الجود والإِنعام وقيل معناه: نعمه مبسوظة ودلَّت التَّثنية على الكثرة كقولهم: (لبيك وسعديك) وقيل: معمتاه: أَيْ: نعمة الدُّنيا ونعمة الآخرة {مبسوطتان ينفق كيف يشاء} يرزق كما يريد إن شاء قتَّر وإنْ شاء وسَّع {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربك طغياناً وكفراً} كلَّما أنزل عليك شيءٌ من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} بين طوائف اليهود وجعلهم الله مختلفين متباغضين كما قال {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى} {كلما أَوْقَدُوا ناراً للحرب أطفأها الله} كلَّما أرادوا محاربتك ردَّهم الله وألزمهم الخوف {ويسعون في الأرض فساداً} يعني: يجتهدون في دفع الإِسلام ومحو ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم(1/327)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
{ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {واتقوا} اليهوديَّة والنصرانيَّة {لكفَّرنا عنهم سيئاتهم} كلَّ ما صنعوا قبل أن تأتيهم(1/328)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل} عملوا بما فيهما من التَّصديق بك {وما أنزل إليهم} من كتب أنبيائهم {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} لأنزلتُ عليهم القطر وأخرجتُ لهم من نبات الأرض كلَّما أرادوا {منهم أمة مقتصدة} مؤمنةٌ(1/328)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: لا تراقبنَّ أحداً ولا تتركنَّ شيئاً ممَّا أُنزل إليك تخوُّفاً مِنْ أَنْ ينالك مكروهٌ بلِّغ الجميع مجاهراً به {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} إنْ كتمت آية ممَّا أنزلتُ إليك لم تبلِّغ رسالتي يعني: إنَّه إنْ ترك بلاغ البعض كان كمَنْ لم يُبلِّغ {والله يعصمك من الناس} أن ينالوك بسوء قال المفسرون: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفَّار وكان لا يُجاهرهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فقال: يارب كيف أصنع وأنا واحدٌ أخاف أن يجتمعوا عليَّ؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القوم الكافرين} لا يرشد مَنْ كذَّبك(1/328)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} من الدِّين {حتى تُقيموا} حتى تُعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته وباقي الآية مضى تفسيره إلى قوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إنْ كذَّبوك(1/329)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا} سبق تفسيره في سورة البقرة(1/329)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قال تعالى {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}(1/329)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{وحسبوا أن لا تكون فتنة} ظنُّوا وقدَّروا إلا تقع بهم عقوبة وعذابٌ في الإِصرار على الكفر بقتل الأنبياء وتكذيب الرُّسل {فعموا وصموا} عن الهدى فلم يعقلوه {ثمَّ تاب الله عليهم} بإرسال محمدا صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الصِّراط المستقيم {ثمَّ عموا وصموا كثيرٌ منهم} بعد تبيُّن الحقِّ لهم بمحمَّد عليه السَّلام {والله بصيرٌ بما يعملون} من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل(1/329)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}(1/329)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} أَيْ: ثالث ثلاثةٍ من الآلهة والمعنى: أنَّهم قالوا: اللَّهُ واحدُ ثلاثةِ آلهة: هو والمسيح ومريم فزعموا أنَّ الإِلهيَّة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة فكفروا بذلك(1/330)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خلت من قبله الرسل} أَيْ: إنه رسول ليس بآلهة كما أنَّ مَنْ قبله كانوا رسلاً {وأمه صديقة} صدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه {كانا يأكلان الطعام} يريد: هما لحمٌ ودمٌ يأكلان ويشربان ويبولان ويتغوَّطان وهذه ليست من أوصاف الإِلهيَّة {انظر كيف نبيِّن لهم الآيات} نفسِّر لهم أمر ربوبيتي {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يؤفكون} يُصرفون عن الحقِّ الذي يؤدِّي إليه تدبُّر الآيات(1/330)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قال تعالى {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثم انظر أنى يؤفكون}(1/330)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
{قل} للنَّصارى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} يعني: المسيح لأنَّه لا يملك ذلك إلاَّ الله عز وجل {والله هو السميع} لكفركم {العليم} بضميركم(1/330)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{قل يا أهل الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {لا تغلوا في دينكم} لا تخرجوا عن الحدِّ في عيسى وغُلوُّ اليهود فيه بتكذيبهم إيَّاه ونسبته إلى أنه لغير رشدة وغلوا النصارى فيه ادِّعاؤهم الإِلهيَّة له وقوله: {غير الحق} أَيْ: مخالفين للحق {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قبل} يعني: رؤساهم الذين مضوا من الفريقين أَيْ: لا تتبعوا أسلافكم فيما ابتدعوه بأهوائهم {وضلوا عن سواء السبيل} عن قصد الطَّريق بإضلالهم الكثير(1/330)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل} يعني: أصحاب السَّبت وأصحاب المائدة {على لسان داود} لأنَّهم لمَّا اعتدوا قال داود عليه السَّلام: اللَّهم العنهم واجعلهم آيةً لخلقك فمسخوا قردة على لسان داود {وعيسى ابن مريم} عليه السَّلام لأنَّه لعن مَنْ لم يؤمن من أصحاب المائدة فقال: اللهم العنهم كما لعنتَ السَّبت فمسخوا خنازير(1/331)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
{كانوا لا يتناهون} لا ينتهون {عن منكر فعلوه}(1/331)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{ترى كثيراً منهم} من اليهود {يتولون الذين كفروا} كفَّار مكة {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله عليهم} بئسما قدَّموا من العمل لمعادهم في الآخرة سُخطَ الله عليهم(1/331)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
قال تعالى {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فاسقون}(1/331)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{لتجدنَّ} يا محمد {أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} وذلك أنَّهم ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيِّ عليه السَّلام {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنا نصارى} يعني: النَّجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يرد جميع النَّصارى {ذلك} يعني: قرب المودَّة {بأنَّ منهم قسيسين ورهباناً} أَيْ: علماء بوصاة عيسى بالإِيمان بمحمَّد عليه السَّلام {وأنهم لا يستكبرون} عن اتِّباع الحقِّ كما يستكبر اليهود وعبدة الأوثان(1/331)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} يعني: النجاشيَّ وأصحابه قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة (كهعيص) فما زالوا يبكون وهو قوله: {ترى أعينهم تَفيضُ من الدمع ممَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} يريد: الذي نزل على محمَّد وهو الحقُّ {يقولون ربنا آمنا} وصدَّقنا {فاكتبنا مع الشاهدين} مع أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق(1/332)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
{وما لنا لا نؤمن بالله} أَيْ: أيُّ شيءٍ لنا إذا تركنا الإِيمان بالله {وما جاءنا من الحق} أَيْ: القرآن {و} نحن {نطمع أن يدخلنا ربنا} الحنة مع أمَّة محمَّد عليه السَّلام يعنون: أنَّهم لا شيء لهم إذا لم يؤمنوا بالقرآن ولا يتحقق طمعهم في دخول الجنَّة(1/332)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
{فأثابهم الله بما قالوا} يعني: بما سألوا الله من قولهم: {فاكتبنا مع الشاهدين} وقولهم: {ونطمع أن يدخلنا ربنا} الآية {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذلك} أي: الثَّواب {جزاء المحسنين} الموحِّدين ثمَّ ذكر الوعيد لمَنْ كفر من أهل الكتاب وغيرهم فقال:(1/332)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(1/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لكم} هَمَّ قومٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم تعاهدوا أن يحرِّموا على أنفسهم المطاعم الطَّيِّبة وأن يصوموا النَّهار ويقوموا اللَّيل ويُخْصُوا أنفسهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وسمَّى الخِصاء اعتداءً فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله إنَّا كنَّا قد حلفنا على ذلك فنزلت:(1/333)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قال تعالى {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا الله الذي أنتم به مؤمنون}(1/333)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وفسَّرْنا هذا في سورة البقرة {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} وهو أن يقصد الأمر فيحلف بالله ويعقد عليه اليمين بالقلب متعمِّداً {فكفارته} إذا حنثتم {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} لكلِّ مسكين مدٌّ وهو رطلٌ وثلث وهو قوله: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} لأنَّ هذا القدر وسط في الشِّبع وقيل: من خير ما تطعمون أهليكم كالحنطة والتمر {أو كسوتهم} وهو أقلُّ ما يقع عليه اسم الكسوة من إزارٍ ورداءٍ وقميصٍ {أو تحرير رقبة} يعني: مؤمنة والمُكفِّر في اليمين مُخيَّر بين هذه الثَّلاث {فمن لم يجد} يعني: لم يفضل من قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم عشرة مساكين {ف} عليه {صيام ثلاثة أيام} {واحفظوا أيمانكم} فلا تحلفوا واحفظوها عن الحنث(1/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر} يعني: الأشربة التي تخمَّر حتى تشتدَّ وتُسْكِر {والميسر} القمار بجميع أنواعه {والأنصاب} الأوثان {والأزلام} قداح الاستقسام التي ذُكرت في أوَّل السُّورة {رجسٌ} قذرٌ قبيحٌ {من عمل الشيطان} ممَّا يسِّوله الشِّيطان لبني آدم {فاجتنبوه} كونوا جانباً منه(1/334)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء في الخمر والميسر} وذلك لما يحصل بين أهلها من العداوة والمقابح والإِقدام على ما يمنع منه العقل {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} لأنَّ مَن اشتغل بهما منعاه عن ذكر الله والصَّلاة {فهل أنتم منتهون} (استفهامٌ بمعنى الأمر) قالوا: انتهينا ثم أمر بالطاعة فقال:(1/334)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} المحارم والمناهي {فإن توليتم} عن الطَّاعة {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} فليس عليه إلاَّ البلاغ فإن أطعتم وإلاَّ استحققتم العقاب فلمَّا نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربونها ويأكلون الميسر؟ فنزل:(1/335)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فيما طعموا} من الخمر والميسر قبل التحريم {إذا ما اتقوا} المعاصي والشِّرك {ثمَّ اتقوا} داموا على تقواهم {ثم اتقوا} ظلم العباد مع ضمِّ الإِحسان إليه(1/335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} كان هذا عام الحديبية كانت الوحش والطيَّر تغشاهم في رحالهم كثيرة وهم مُحْرِمون ابتلاءً من الله تعالى {تناله أيديكم} يعني: الفراخ والصِّغار {ورماحكم} يعني: الكبار {ليعلم الله} ليرى الله {مَنْ يخافه بالغيب} أَيْ: مَنْ يخاف الله ولم يره {فمن اعتدى} ظلم بأخذ الصَّيد {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد النَّهي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1/335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حرم الله الصَّيد على المُحْرِم فليس له أن يتعرَّض للصَّيد بوجهٍ من الوجوه ما دام مُحرماً {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أَيْ: فعليه جزاءٌ مماثل للمقتول من النَّعم في الخِلقة ففي النَّعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الضَّبع كبش على هذا التَّقدير {يحكم به ذوا عدل} يحكم في الصيد رجلان صالحان {منكم} من أهل ملَّتكم فينظران إلى أشبه الأشياء به من النَّعم فيحكمان به {هدياً بالغ الكعبة} أَيْ: مثل ذلك {صياماً} والمُحرِم إذا قتل صيداً كان مخيَّراً إن شاء جزاه بمثله من النَّعم وإن شاء قوَّم المثل دراهم ثمَّ الدراهم طعاماً ثمَّ يتصَّدق به وإن شاء صام عن كلِّ مدٍّ يوماً {ليذوق وبال أمره} جزاء ما صنع {عفا الله عما سلف} قبل التَّحريم {ومن عاد فينتقم الله منه} مَنْ عاد إلى قتل الصَّيد مُحرماً حُكم عليه ثانياً وهو بصدد الوعيد {والله عزيز} منيع {ذو انتقام} من أهل معصيته(1/335)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{أحلَّ لكم صيد البحر} ما أُصيب من داخله وهذا الإِحلالُ عامٌّ لكلِّ أحد مُحرِماً كان أو مُحِلاًّ {وطعامه} وهو ما نضب عنه الماء ولم يُصَد {متاعاً لكم وللسيارة} منفعة للمقيم والمسافر يبيعون ويزودون منه ثمَّ أعاد تحريم الصَّيد في حال الإِحرام فقال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا واتقوا الله الذي إليه تحشرون} خافوا الله الذي إليه تبعثون(1/336)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{جعل الله الكعبة البيت الحرام} يعني: البيت الذي حرَّم أن يصاد عنده ويختلى للحجِّ وقضاء النُّسك {والشهر الحرام} يعني: الأشهر الحرم فذكر بلفظ الجنس {والهدي والقلائد} ذكرناه في أولَّ السورة وهذه الجملة ذُكرت بعد ذكر البيت لأنَّها من أسباب الحج فذكرت معه {ذلك} أَيْ: ذلك الذي أنبأتكم به في هذه السُّورة من أخبار الأنبياء وأحوال المنافقين واليهود وغير ذَلِكَ {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات} الآية أَيْ: يدلُّكم ذلك على أن لا يخفى عليه شيء(1/336)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غفور رحيم}(1/336)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قال تعالى {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تبدون وما تكتمون}(1/336)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{قل لا يستوي الخبيث والطيب} أَيْ: الحرام والحلال {ولو أعجبك كثرة الخبيث} وذلك عن أهل الدُّنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدُّنيا(1/337)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبدَ لكم تسؤكم} نزلت حين سُئل النبيُّ حتى أحفوه بالمسألة فقام مُغضباً خطيباً وقال: لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلاَّ أخبرتكموه فقام رجلٌ من بني سهم يطعن في نسيه فقال: مَنْ أبي؟ فقال: أبوك حذافة وقام آخر فقال: أين أنا؟ فقال: في النَّار فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهاهم أن يسألوه عمَّا يُحزنهم جوابه وإبداؤه كسؤالِ مَنْ سأل عن موضعه فقال: في النَّار {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} أيْ عن أشياء {حِينَ ينزل القرآن} فيها {تُبدَ لكم} يعني: ما ينزل فيه القرآن من فرضٍ أو نهيٍ أو حكمٍ ومسَّت الحاجة إلى بيانه فإذا سالتم عنها حينئذٍ تبدى لكم {عفا الله عنها} أَيْ: عن مسألتكم ممَّا كرهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا حاجة بكم إلى بيانه نهاهم أن يعودوا إلى مثل ذلك وأخبر أنَّه عفا عمَّا فعلوا {والله غفورٌ حليم} لا يعجل بالعقوبة ثمَّ أخبرهم عن حال مَنْ تكلَّف سؤال ما لم يُكلَّفوا فقال:(1/337)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{قد سألها} أَي: الآيات {قومٌ من قبلكم} الآية يعني: قوم عيسى سألوا المائدة ثمَّ كفروا بها وقوم صالح سألوا النَّاقة ثمَّ عقروها(1/338)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} أَيْ: ما أوجبها ولا أمر بها والبحيرة: النَّاقة إذا نُتجت خمسة أبطن شقُّوا أُذنها وامتنعوا من ركوبها وذبحها {ولا سائبة} هو ما كانوا يُسيبِّونه لآلهتهم في نذرٍ يلزمهم إنْ شفي مريض أو قضيت لهم حاجة {ولا وصيلة} كانت الشَّاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذَّكر لآلهتهم {ولا حامٍ} إذا نُتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلم يُركب ولم يُنتفع وسيِّب لأصنامهم فلا يُحمل عليه {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} يتقوَّلون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام وهم جعلوها مُحرَّمة لا الله {وأكثرهم} يعني: أتباع رؤسائهم الذين سنُّوا لهم تحريم هذه الأنعام {لا يعقلون} أنَّ ذلك كذبٌ وافتراءٌ على الله من الرُّؤساء(1/338)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في القرآن من تحليل ما حرَّمتم {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} من الدين {أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} مفسَّرة في سورة البقرة(1/338)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} احفظوها من ملابسة المعاصي والإِصرار على الذّنوب {لا يضرُّكم مَنْ ضلَّ} من أهل الكتاب {إذا اهتديتم} أنتم {إلى الله مرجعكم جميعاً} مصيركم ومصير مَنْ خالفكم {فينبئكم بما كنتم تعملون} يُجازيكم بأعمالكم(1/338)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} نزلت هذه الآية في قصّة تميمٍ وعديٍّ وبُديلٍ خرجوا تجاراً إلى الشَّام فمرض بُديل ودفع إليهما متاعه وأَوصى إليهما أن يدفعاه إلى أهله إذا رجعا فأخذا من متاعه إناءً من فِضَّة وردَّا الباقي إلى أهله فعلموا بخيانتهما ورفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية: ليشهدكم {إذا حضر أحدكم الموت} وأردتم الوصية {اثنان ذوا عدل منكم} من أهل ملَّتكم تشهدونهما على الوصية {أو آخران من غيركم} من غير دينكم إذا {ضربتم} سافرتم {في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} علم الله أنَّ من النَّاس مَنْ يسافر فيصحبُهُ في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ويحضره الموت فلا يجد مَنْ يُشهده على وصيته من المسلمين فقال: {أو آخران من غيركم} فالذِّميان في السَّفر (خاصَّة) إذا لم يوجد غيرهما (تُقبل شهادتهما في ذلك) وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارتبتُمْ لا نشتري به ثمنا} أي: ارتبتم في شهادتهما وشككتم وخشيتم أن يكونا قد خانا حبستموهما على اليمين بعد صلاة العصر فيحلفان بالله ويقولان في يمينهما: لا نبيع الله بعرضٍ من الدُّنيا ولا نُحابي أحداً في شهادتنا {ولو كان ذا قربى} ولو كان المشهود له ذا قربى {ولا نكتم شهادة الله} أَيْ: الشَّهادة التي أمر الله بإقامتها {إنا إذاً لمن الآثمين} إنْ كتمناها ولمًّا رفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما وذلك أنَّهما كانا نصرانيين وبُديل كان مسلماً فحلفا أنَّهما ما قبضا غير ما دفعا إلى الورثة ولا كتما شيئاً وخلَّى سبيلهما ثمَّ اطُّلِع على الإِناء في أيديهما فقالا: اشتريناه منه فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل قوله:(1/339)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{فإن عثر} أَيْ: ظهر واطلع {على أنهما استحقا إثماً} أَيْ: استوجباه بالخيانة والحنث في اليمين {فآخران يقومان مقامهما} من الورثة وهم الذين {استحق عليهم} أَيْ: استحق عليهم الوصية أو الإِيصاء وذلك أنَّ الوصية تستحق على الورثة {الأوليان} بالميت أَيْ: الأقربان إليه والمعنى: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذِّميِّيْن وكذبهما وتبديلهما وهو قوله: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحقٌّ من شهادتهما} أَيْ: يميننا أحقُّ من يمينهما {وما اعتدينا} فيما قلنا فلمَّا نزلت هذه الآية قام اثنان من ورثة الميِّت فحلفا بالله أنَّهما خانا وكذبا فدفع الإناء إلى أولياء الميت(1/340)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ذلك} أَيْ: ما حَكم به في هذه القصَّة وبيَّنه من ردِّ اليمين {أدنى} إلى الإِتيان بالشَّهادة على ما كانت {أو يخافوا} أَيْ: أقرب إلى أن يخافوا {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} على أولياء الميِّت بعد أيمان الأوصياء فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا {واتقوا الله} أن تحلفوا أيماناً كاذبةً أو تخونوا أمانةً {واسمعوا} الموعظة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي القوم الفاسقين} لايرشد مَنْ كان على معصيته(1/340)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{يوم يجمع الله الرسل} أَيْ: اذكروا ذلك اليوم {فيقول} لهم: {ماذا أُجِبْتُمْ} ما أجابكم قومكم في التَّوحيد؟ {قالوا لا علم لنا} من هول ذلك اليوم يذهلون عن الجواب ثمَّ يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيشهدون لمن صدَّقهم وعلى مَنْ كذَّبهم(1/341)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} مضى تفسير الآية إلى قوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} أَيْ: عن قتلك(1/341)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
{وإذ أوحيت إلى الحواريين} أَيْ: ألهمتهم(1/341)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هل يستطيع ربك} لم يشكُّوا في قدرته ولكنْ معناه: هل يقبل ربُّك دعاءَك وهل يسهل لك إنزال مائدة علينا من السَّماء عَلَماً لك ودلالةً على صدقك؟ فقال عيسى: {اتقوا الله} أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم(1/341)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أَيْ: نريد السُّؤال من أجل هذا {وتطمئن قلوبنا} نزداد يقيناً بصدقك {ونكون عليها من الشاهدين} لله بالتَّوحيد ولك بالنُّبوة وقوله(1/342)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} أَيْ: نتّخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً نُعظِّمه نحن ومَنْ يأتي بعدنا {وآيةً منك} دلالةً على توحيدك وصدق نبيِّك {وارزقنا} عليها طعاماً نأكله وقوله:(1/342)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} أَيْ: بعد إنزال المائدة {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا من العالمين} أراد: جنساً من العذاب لا يُعذَّب به غيرهم من علمي زمانهم(1/342)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} واذكر يا مُحمَّدُ حين يقول الله تعالى يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دون الله} هذا استفهامٌ معناه التُّوبيخ لمن ادَّعى ذلك على المسيح ليكِّذبهم المسيح فتقوم عليهم الحجَّة {قال سبحانك} أَيْ: براءتك من السُّوء {تعلم ما في نفسي} أَيْ: ما في سرِّي وما أضمره {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أَيْ: ما تخفيه أنت وما عندك علمه ولم تُطلعنا عليه وقوله:(1/342)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{وكنتُ عليهم شهيداً} أَيْ: كنت أشهد على ما يفعلون ما كنتُ مقيماً فيهم {فلما توفيتني} يعني: رفعتني إلى السَّماء {كنت أنت الرقيب} الحفيظ {عليهم وأنت على كلِّ شيء شهيد} أَيْ: شهدت مقالتي فيهم وبعد ما رفعتني شهدتَ ما يقولون من بعدي(1/343)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
{إن تعذبهم} أَيْ: من كفر بك {فإنهم عبادك} وأنت العادل فيهم {وإن تغفر لهم} أَيْ: مَنْ تاب منهم وآمن فأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد حكيم في ذلك(1/343)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{قال الله هذا يوم} يعني: يوم القيامة {ينفع الصادقين} في الدُّنيا {صدقهم} لأنَّه يوم الإِثابة والجزاء {رضي الله عنهم} بطاعته {ورضوا عنه} بثوابه {ذلك الفوز العظيم} لأنهم فازوا بالجنَّة(1/343)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{لله ملك السماوات والأرض} عظَّم نفسه عمَّا قالت النصارى: إنَّ معه إلهاً(1/343)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} وخلق اللَّيل والنَّهار {ثمًّ الذين كفروا} بعد قيام الدَّليل على وحدانيَّته بما ذكر من خلقه {بربهم يعدلون} الحجارةَ والأصنام فيعبدونها معه 0(1/344)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{هو الذي خلقكم من طين} يعني: آدم أبا البشر {ثُمَّ قَضَى أَجَلا} يعني: أجل الحياة إلى الموت {وأجل مسمى عنده} من الممات إلى البعث {ثم أنتم} أيُّها المشركون بعد هذا {تمترون} تشكُّون وتكذِّبون بالبعث يريد إنَّ الذي ابتدأ الخلق قادرٌ على إعادته(1/344)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{وهو الله} أَي: المعبود المعظَّم المتفرِّد بالتَّدبير {في السماوات وفي الأرض}(1/344)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} الدَّالَّة على وحدانيَّته كما ذكر من خلق آدم وخلق اللَّيل والنَّهار {إلاَّ كانوا عنها معرضين} تاركين التًّفكُّر فيها(1/344)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{فقد كذبوا} يعني: مشركي أهل مكة {بالحق لما جاءهم} يعني: القرآن {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: أخبار استهزائهم وجزاؤه(1/345)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{ألم يروا} يعني: هؤلاء الكفَّار {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} من جيلٍ وأمَّةٍ {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أعطيناهم من المال والعبيد والأنعام ما لم نُعطكم {وأرسلنا السماء} المطر {عليهم مدراراً} كثير الدَّرِّ وهو إقباله ونزوله بكثرة {فأهلكناهم بذنوبهم} بكفرهم {وأنشأنا} أوجدنا {من بعدهم قرناً آخرين} وهذا احتجاجٌ على منكري البعث(1/345)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ولو نزلنا عليك} قال مشركو مكَّة: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من السَّماء جملةً واحدة معاينة فقال الله: {ولو نزلنا عليك كتاباً} أَيْ: مكتوباً {في قرطاس} يعني: الصَّحيفة {فلمسوه بأيديهم} فعاينوا ذلك مُعاينةً ومسُّوه بأيديهم {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أخبر الله تعالى أنَّهم يدفعون الدَّليل حتى لو رأوا الكتاب ينزل من السَّماء لقالوا: سحر(1/345)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{وقالوا: لولا أنزل عليه ملك} طلبوا ملكاً يرونه يشهد له بالرِّسالة فقال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} لأُهلكوا بعذاب الاستئصال كسُنَّة مَنْ قبلهم ممَّن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا {ثم لا ينظرون} لا يُمهلون لتوبةٍ ولا لغير ذلك(1/345)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{ولو جعلناه ملكاً} أيْ: ولو جعلنا الرَّسول الذي ينزل عليهم ليشهدوا له بالرِّسالة مَلَكاً كما يطلبون {لجعلناه رجلاً} لأنَّهم لا يستطيعون أن يروا المَلَك في صورته لأنَّ أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة ولذلك كان جبريل عليه السَّلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيِّ {وللبسنا عليهم ما يلبسون} ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكُّوا فلا يدروا أمَلَكٌ هو أم آدميٌّ أَيْ: فإنَّما طلبوا حال لبسٍ لا حال بيانٍ ثمَّ عزَّى الله نبيَّه عليه السَّلام بقوله:(1/346)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ولقد استهزئ برسل من قبلك} وكُذِّبوا ونُسبوا إلى السّحر {فحاق} فحلَّ ونزل {بالذين سخروا} من الرُّسل {ما كانوا به يستهزئون} من العذاب وينكرون وقوعه(1/346)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
{قل} لهم يا محمد: {سيروا في الأرض} سافروا في الأرض {ثم انظروا} فاعتبروا {كيف كان عاقبة} مُكذِّبي الرُّسل يعني: إذا سافروا رأوا آثار الأمم الخالية المهلكة يحذِّرهم مثلَ ما وقع بهم(1/346)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{قل لمن ما في السماوات والأرض} فإن أجابوك وإلاَّ {قل لله كتب على نفسه الرحمة} أوجب على نفسه الرَّحمة وهذا تلطُّفٌ في الاستدعاء إلى الإنابة {ليجمعنكم} أي: والله ليجمعنكم {إلى يوم القيامة} أَيْ: ليضمنَّكم إلى هذا اليوم الذي أنكرتموه وليجمعنَّ بينكم وبينه ثمَّ ابتدأ فقال: {الذين خسروا أنفسهم} أهلكوها بالشِّرك {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(1/346)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{وله ما سكن في الليل والنهار} أَيْ: ما حلَّ فيهما واشتملا عليه يعني: جميع المخلوقات(1/346)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
{قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض} خالقهما ابتداءً {وهو يطعم ولا يطعم} يَرزق ولا يرزق(1/347)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يوم عظيم}(1/347)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
{من يصرف عنه} أَي: العذاب {يومئذ} يوم القيامة {فقد رحمه} فقد أوجب الله له الرَّحمة لا محالة(1/347)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{وإن يمسسك الله بضر} أيْ: إنْ جعل الضُّرَّ وهو المرض والفقر يمسُّك(1/347)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{وهو القاهر} القادر الذي لا يعجزه شيء {فوق عباده} أَيْ: إنَّ قهره قد استعلى عليهم فهم تحت التَّسخير(1/347)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{قل أي شيء أكبر شهادة} قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بمَنْ يشهد لك بالنُّبوَّة فإنَّ أهل الكتاب ينكرونك فنزلت هذه الآية أمر الله تعالى محمداً عليه السَّلام أن يسألهم ثمَّ أمر أن يخبرهم فيقول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بيني وبينكم} أَي: الله الذي اعترفتم بأنه خالق السماوات والأرض والظُّلمات والنُّور يشهد لي بالنُّبوَّة بإقامة البراهين وإنزال القرآن عليَّ {وأوحي إلي هذا القرآن} المُعجز بلفظه ونظمه وأخباره عمَّا كان ويكون {لأنذركم} لأخوِّفكم {به} عقاب الله على الكفر {ومَنْ بلغ} يعني: ومَنْ بلغه القرآن من بعدكم فكلُّ مَنْ بلغه القرآن فكأنما رأى محمد عليه السَّلام قل {أإنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أخرى} استفهام معناه الجحد والإِنكار {قل لا أشهد} الآية(1/347)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{الذين آتيناهم الكتاب} مفسَّرة في سورة البقرة(1/348)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم ممَّن اختلق على الله كذباً يعني: الذين ذكرهم في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة} الآية {أو كذَّب بآياته} بالقرآن وبمحمد عليه السَّلام {إنه لا يفلح الظالمون} لا يسعد مَنْ جحد ربوبيَّة ربِّه وكذَّب رسله وهم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب(1/348)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
{ويوم} واذكر يوم {نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شركاؤكم} أصنامكم وآلهتكم {الذين كنتم تزعمون} أنَّها تشفع لكم وهذا سؤال توبيخ(1/348)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
{ثم لم تكن فتنتهم} أَيْ: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان وحبِّهم لها {إلاَّ أن} تبرَّؤوا منها فـ {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(1/348)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{انظر} يا محمد {كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بجحد شركهم في الآخرة {وضلَّ} وكيف ضلَّ ذلك: زال وبطل {عنهم ما كانوا يفترون} بعبادته من الأصنام(1/348)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
{ومنهم} ومن الكفَّار {من يستمع إليك} إذا قرأت القرآن {وجعلنا على قلوبهم أكنَّة} أغطيةً {أن يفقهوهُ} لئلا يفهموه ولا يعلموا الحقَّ {وفي آذانهم وقراً} ثِقلاً وصمماً فلا يعون منه شيئاً ولا ينتفعون به {وإن يروا كلَّ آية} علامة تدل على صدقك {لا يؤمنوا بها} هذا حالهم في البعد عن الإِيمان {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} مخاصمين معك في الدِّين {يقول الذين كفروا} مَنْ كفر منهم: {إن هذا} ما هذا {إلاَّ أساطير الأوَّلين} أحاديث الأمم المتقدمة التي كانوا يسطرونها في كتبهم(1/348)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{وهم ينهون} النَّاس عن اتَّباع محمد {وينأون} ويتباعدون {عنه} فلا يؤمنون به {وإنْ} وما {يهلكون إلاَّ أنفسهم} بتماديهم في معصية الله تعالى {وما يشعرون} وما يعلمون ذلك(1/349)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا على النار} أَيْ: حُبسوا على الصِّراط فوق النَّار {فقالوا يا ليتنا نرد} تمنَّوا أن يردُّوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا وهو قوله: {ولا نكذب} أَيْ: ونحن لا نكذِّب {بآيات ربنا} بعد المعاينة {ونكون من المؤمنين} ضمنوا أنْ لا يُكذِّبوا ويؤمنوا فقال الله تعالى:(1/349)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{بل} ليس الأمر على ما تمنَّوا في الردِّ {بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} وهو أنَّهم أنكروا شركهم فأنطق الله سبحانه جوارحهم حتى شهدت عليهم بالكفر والمعنى: ظهرت فضيحتهم في الآخرة وتهتكت أستارهم {ولو ردوا لعادوا لما نهوا} إلى ما نُهوا {عنه} من الشِّرك للقضاء السَّابق فيهم بذلك وأنَّهم خلقوا للشَّقاوة {وإنهم لكاذبون} في قولهم: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ ربنا}(1/349)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
{وقالوا} يعني: الكفار {إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا} أنكروا البعث(1/350)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} عرفوا ربَّهم ضرورة وقيل: وقفوا على مسألة ربِّهم وتوبيخه إيَّاهم ويؤكِّد هذا قوله: {أليس هذا بالحق} أَيْ: هذا البعث فيقرُّون حين لا ينفعهم ذلك ويقولون: {بلى وربنا} فيقول الله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كنتم تكفرون} بكفركم(1/350)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} بالبعث والمصير إلى الله {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} فجأة {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} قصَّرنا وضيَّعنا عمل الآخرة في الدُّنيا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أثقالهم وآثامهم {على ظهورهم} وذلك أنَّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله عمله أقبح شيءٍ صورةً وأخبثه ريحاً فيقول: أنا عملك السَّيِّىء طال ما ركبتني في الدُّنيا فأنا أركبك اليوم {ألا ساء ما يزرون} بئس الحمل ما حملوا(1/350)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{وما الحياة الدنيا إلاَّ لعبٌ ولهو} لأنَّها تفنى وتنقضي كاللَّهو واللَّعب تكون لذَّةً فانيةً عن قريبٍ {وللدار الآخرة} الجنَّة {خير للذين يتقون} الشِّرك {أفلا تعقلون} أنَّها كذلك فلا تَفْتُروا في العمل لها ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم على تكذيب قريش إيَّاه فقال:(1/350)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} في العلانيَة: إنَّك كذَّابٌ ومُفترٍ {فإنهم لا يكذبونك} في السرِّ قد علموا صدقك {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بالقرآن بعد المعرفة نزلت في المعاندين الذين تركوا الانقياد للحقِّ كما قال عز وجل: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} افلآيه(1/351)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} رجاء ثوابي {وأوذوا} حتى نشروا بالمناشير وحرِّقوا بالنَّار {حتى أتاهم نصرنا} معونتنا إيَّاهم بإهلاكِ مَنْ كذَّبهم {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لا ناقِضَ لحكمه وقد حكم بنصر الأنبياء في قوله: {كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي} {وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ: خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودَمَّرنا قومهم(1/351)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{وإن كان كبر} عَظُمَ وثَقُل {عليك إعراضهم} عن الإيمان بك وبالقرآن وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان قومه فكانوا إذا سألوه آيةً أحبًّ أن يريهم ذلك طمعاً في إيمانهم فقال الله عز وجل: {فإن استطعت أن تبتغي} تطلب {نفقاً} سرباً {في الأرض أو سلماً} مصعداً {في السماء فتأتيهم بآية} فافعل ذلك والمعنى: أنَّك بشرٌ لا تقدر على الإِتيان بالآيات فلا سبيل لك إلاَّ الصَّبر حتى يحكم الله {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أَيْ: إنَّما تركوا الإِيمان لسابق قضائي فيهم لو شئت لاجتمعوا على الإِيمان {فلا تكوننَّ من الجاهلين} بأنّه يؤمن بك بعضهم دون بعض وأنَّهم لا يجتمعون على الهدى وغلَّظ الجواب زجراً لهم عن هذه الحال(1/351)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
{إنما يستجيب} أَيْ: يُجيبك إلى الإيمان {الذين يسمعون} وهم المؤمنون الذين يستمعون الذِّكر فيقبلونه وينتفعون به والكافر الذي ختم الله على سمعه كيف يصغى إلى الحقِّ؟ {والموتى} يعني: كفَّار مكة {يبعثهم الله ثمَّ إليه يرجعون} يردُّون فيجازيهم بأعمالهم(1/352)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{وقالوا} يعني: رؤساء قريش {لولا} هلاَّ {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يعنون: نزول ملك يشهد له بالنُّبوَّة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} ما عليهم في ذلك من البلاء وهو ما ذكرنا في قوله: {ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر}(1/352)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يطير بجناحيه} يعني: جميع الحيوانات لأنها لا تخلوا من هاتين الحالتين {إلاَّ أمم أمثالكم} أصناف مصنَّفة تُعرف بأسمائها فكلُّ جنس من البهائم أُمَّةٌ كالطَّير والظِّباء والذُّباب والأُسود وكلُّ صنفٍ من الحيوان أُمَّةٌ مثل بني آدم يعرفون بالإِنس {ما فرَّطنا في الكتاب من شيء} ما تركنا في الكتاب من شيءٍ بالعباد إليه حاجةٌ إلاَّ وقد بيَّناه إمَّا نصّاً وإمَّا دلالة وإمَّا مجملاً وإمَّا مفصَّلاً كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أَيْ: لكلِّ شيء يحتاج إليه من أمر الدِّين {ثم إلى ربهم} أَيْ: هذه الأمم {يحشرون} للحساب والجزاء(1/352)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
{والذين كذَّبوا بآياتنا} بما جاء به محمد عليه السَّلام {صمٌّ} عن القرآن لا يسمعونه سماع انتفاع {وبكم} عن القرآن لا ينطقون به ثمَّ أخبر أنَّهم بمشيئته صاروا كذلك فقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراطٍ مستقيم}(1/353)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله {أرأيتكم} معناه: أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} يريد: الموت {أَوْ أتتكم الساعة} القيامة {أغير الله تدعون} أَيْ: أتدعون هذه الأصنام والأحجار التي عبدتموها من دون الله {إن كنتم صادقين} جوابٌ لقوله: {أرأيتكم} لأنَّه بمعنى أخبروني كأنَّه قيل: إنْ كنتم صادقين أخبروا مَنْ تدعون عند نزول البلاء بكم(1/353)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{بل} أَيْ: لا تدعون غيره {إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه} أَيْ: يكشف الضُّرَّ الذي من أجله دعوتموه {إِنْ شَاءَ وتنسون} وتتركون {ما تشركون} به من الأصنام فلا تدعونه(1/353)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} رسلاً فكفروا بهم {فأخذناهم بالبأساء} وهو شدَّة الفقر {والضرَّاء} الأوجاع والأمراض {لعلهم يتضرعون} لكي يتذللَّوا ويتخشعوا(1/353)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
{فلولا} فهلاَّ {إذ جاءهم بأسنا} عذابنا {تضرعوا} تذلَّلوا والمعنى: لم يتضرعوا {ولكن قست قلوبهم} فأقاموا على كفرهم {وزيَّن لهم الشيطان} الضَّلالة التي هم عليها فأصروا(1/353)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
{فلما نسوا ما ذكروا به} تركوا ما وُعظوا به {فتحنا عليهم أبواب كلِّ شيء} من النِّعمة والسُّرور بعد الضُّرِّ الذي كانوا فيه {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم} في حال فرحهم ليكون أشدَّ لتحسُّرهم {بغتةً فإذا هم مبلسون} آيسون من كلِّ خير(1/354)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
{فقطع دابر القوم الذين ظلموا} أنفسهم أَيْ: غابرهم الذي يتخلَّف في آخر القوم والمعنى: استؤصلوا بالهلاك فلم يبق منهم باقية {والحمد لله رب العالمين} على نصر الرُّسل وإهلاك الظَّالمين(1/354)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} أَيْ: أصمكم وأعمالكم {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} حتى لا تعرفوا شيئاً يعني: أذهب هذه الأعضاء عنكم أصلاً {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أَيْ: بما أخذ عنكم {انظر كيف نصرف} نبين لهم في القرآن {الآيات ثم هم يصدفون} يعرضون عمَّا ظهر لهم(1/354)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أو جهرة} ليلاً أو نهاراً {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظالمون} الذين جعلوا لله شركاء(1/354)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحزنون}(1/354)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يفسقون}(1/354)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} التي منها يرزق ويعطي {ولا أعلم الغيب} فأخبركم بعاقبة ما تصيرون إليه {ولا أقول لكم إني ملك} أشاهد من أمر الله ما لا يشاهده البشر {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ: ما أخبركم إلاَّ بما أنزل الله عليَّ {قل هل يستوي الأعمى والبصير} الكافر والمؤمن {أفلا تتفكرون} أَنَّهما لا يستويان(1/354)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{وأنذر به} خوِّف بالقرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} يريد: المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من أهوال {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} يعني: إنَّ الشفاعة إنَّما تكون بإذنه ولا شفيعٌ ولا ناصرٌ لأحدٍ في القيامة إلاَّ بإذن الله {لعلهم يتقون} كي يخافوا في الآخرة وينتهوا عمَّا نهيتهم(1/355)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم} نزلت في فقراء المؤمنين لمَّا قال رؤساء الكفَّار للنبي صلى الله عليه وسلم: نَحِّ هؤلاء عنك لنجالسك ونؤمن بك ومعنى: {يدعون ربهم بالغداة والعشي} يعبدون الله بالصَّلوات المكتوبة {يريدون وجهه} يطلبون ثواب الله {ما عليك من حسابهم} من رزقهم {من شيء} فَتَمَلُّهم وتطردهم {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك وإنَّما يرزقك وإياهم الله الرزاق فدعهم يدنوا منك ولا تطردهم {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} لهم بطردهم(1/355)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض} ابتلينا الغنيّ بالفقير والشَّريف بالوضيع {ليقولوا} يعني: الرُّؤساء {أهؤلاء} الفقراء والضُّعفاء {منَّ الله عليهم من بيننا} أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلةٍ أو خصُّوا بنعمةٍ فقال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أيْ: إنَّما يهدي إلى دينه مَنْ يعلم أنَّه يشكر(1/355)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} يعني: الصَّحابة وهؤلاء الفقراء {فقل سلام عليكم} سلّم عليهم بتحيَّة المسلمين {كتب ربكم على نفسه الرحمة} أوجب الله لكم الرَّحمة إيجاباً مُؤكَّداً {أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة} يريد: إن ذنوبكم حهل ليس بكفرٍ ولا جحود لأنَّ العاصي جاهلٌ بمقدار العذاب في معصيته {ثم تاب من بعده} رجع عن ذنبه {وأصلح} عمله {فأنَّه غفور رحيم}(1/356)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
{وكذلك} وكما بينَّا لك في هذه السُّورة دلائلنا على المشركين {نفصل} نبيِّن لك حجَّتنا وأدلتنا ليظهر الحقُّ ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين في شركهم بالله في الدُّنيا وما يصيرون إليه من الخزي يوم القيامة بإخباري إيَّاك(1/356)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله} الأصنام التي يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} أَيْ: إنَّما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البرهان فلا أتَّبعكم على هواكم {قد ضللت إذاً} إنْ أنا فعلت ذلك {وما أنا من المهتدين} الذين سلكوا سبيل الهدى(1/356)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{قل إني على بينة} يقينٍ وأمرٍ بيِّنٍ {من ربي} لا مُتَّبع لهوىً {وكذبتم به} أَيْ: بربِّي {ما عندي ما تستعجلون به} يعني: العذاب أو الآيات التي اقترحتموها ثمَّ أعلم أنَّ ذلك عنده فقال: {إن الحكم إلاَّ لله يقص الحق} أَيْ: يقول القصص الحقّ ومَنْ قرأ: {يقص الحق} فمعناه: يقضي القضاء الحق {وهو خير الفاصلين} الذين يفصلون بين الحقِّ والباطل(1/356)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب لعجلت لكم ولانفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة وهو معنى قوله: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} هو أعلم بوقت عقوبتهم فهو يؤخِّرهم إلى وقته وأنا لا أعلم ذلك قوله:(1/357)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{وعنده مفاتح الغيب} خزاءن ما غاب عن بني آدم من الرزق ولامطر ونزول العذاب والثَّواب والعقاب {لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر} القفار {والبحر} كلُّ قرية فيها ماءٌ لا يحدث فيهما شيء إلاَّ بعلم الله {وما تسقط من ورقة إلاَّ يعلمها} ساقطة وقبل أنْ سقطت {ولا حبة في ظلمات الأرض} في الثرى تحت الأرض {ولا رطب} وهو ما ينبت {ولا يابس} وهو ما لا ينبت {إلاَّ في كتاب مبين} أثبت الله ذلك كلَّه في كتابٍ قبل أن يخلق الخلق(1/357)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{وهو الذي يتوفاكم بالليل} يقبض أرواحكم في منامكم {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} ما كسبتم من العمل {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فيه} يردُّ إليكم أرواحكم في النَّهار {ليقضى أجل مسمى} يعني: أجل الحياة إلى الموت أَيْ: لتستوفوا أعماركم المكتوبة(1/358)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{وهو القاهر فوق عباده} مضى هذا {ويرسل عليكم حفظة} من الملائكة يحصون أعمالكم {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أعوان ملك الموت {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} لا يعجزون ولا يُضيِّعون(1/358)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ثم ردوا} يعني: العباد يُردُّون بالموت {إلى الله مولاهم الحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ} أَي: القضاء فيهم {وَهُوَ أسرع الحاسبين} أقدر المجازين(1/358)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
{قل من ينجيكم} سؤال توبيخٍ وتقريرٍ أَيْ: إنَّ الله يفعل ذلك {من ظلمات البر والبحر} أهوالهما وشدائدهما {تدعونه تضرعاً وخفية} علانيَةً وسرَّاً {لئن أنجانا من هذه} أَيْ: من هذه الشَّدائد {لنكوننَّ من الشاكرين} من المؤمنين الطَّائعين وكانت قريش تسافر في البر والبحر فإذا ضلُّوا الطَّريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم وهو قوله:(1/358)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{قل الله ينجيكم منها} الآية أعلم الله سبحانه أنَّ الله الذي دعوه هو ينجِّيهم ثمَّ هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنَّها من صَنعتهم وأنَّها لا تضرُّ ولا تنفع والكرب أشدُّ الغمِّ ثمَّ أخبر أنَّه قادر على تعذيبهم فقال:(1/358)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عذاباً من فوقكم} كالصَّيحة والحجارة والماء {أو من تحت أرجلكم} كالخسف والزَّلزلة {أو يلبسكم شيعاً} يخلطكم فرقاً بأن يبثَّ فيكم الأهواء المختلفة فتخالفون وتقاتلون وهو معنى قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كيف نصرِّف} نُبيِّن لهم {الآيات} في القرآن {لعلهم يفقهون} لكي يعلموا(1/359)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
{وكذَّب به} بالقرآن {قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بمسلَّط أَيْ: إنَّما أدعوكم إلى الله ولم أُومر بحربكم ولا أَخْذكم بالإِيمان وهذا منسوخٌ بآية القتال(1/359)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{لكلِّ نبأ مستقر} لكلِّ خبرٍ يخبره الله وقتٌ ومكانٌ يقع فيه من غير خلف {وسوف تعلمون} ما كان منه في الدنيا فتستعرفونه وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم يعني: العذاب الذي كان يعدهم في الدُّنيا والآخرة(1/359)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} بالتَّكذيب والاستهزاء {فأعرض عنهم} أمر الله تعالى رسوله عليه السَّلام فقال: إذا رأيت المشركين يُكذِّبون بالقرآن وبك ويستهزئون فاترك مجالستهم {حتى يخوضوا في حديث غيره} حتى يكون خوضهم في غير القرآن {وَإِمَّا ينسينَّك الشيطان} إنْ نسيت فقعدت {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} فقم إذا ذكرت فقال المسلمون: لئن كنَّا كلَّما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فرخَّص للمؤمنين في القعود معهن يُذكِّرونهم فقال:(1/360)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{وما على الذين يتقون} الشِّرك والكبائر {من حسابهم} آثامهم {من شيء ولكن ذكرى} يقول: ذكِّروهم بالقرآن وبمحمَّد فرخَّص لهم بالقعود بشرط التَّذكير والموعظة {لعلَّهم يتقون} لِيُرجى منهم التَّقوى(1/360)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً} يعني: الكفَّار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها {وذكِّر به} وعِظْ بالقرآن {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بما كسبت} تُسلم للهلكة وتحبس في جهَّنم فلا تقدر على التَّخلص ومعنى الآية: وذكرِّهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلَّهم يخافون فيتَّقون {وإن تعدل كل عدل} يعني: النَّفس المُبسلة تفدِ كلَّ فداء يعني: تفدِ بالدُّنيا وما فيها {لا يؤخذ منها أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أُسْلِموا للهلاك {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} وهو الماء الحار(1/360)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{قل أندعوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يضرنا} أنعبد ما لا يملك لنا نفعاً ولا ضرَّاً لأنَّه جماد؟ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} نردُّ وراءنا إلى الشِّرك بالله فيكون حالنا كحال {كالذي استهوته الشياطين في الأرض} استغوته واستفزَّته الغِيلان في المهانة {حيران} متردِّداً لا يهتدي إلى المحجَّة {له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا} هذا مثَلُ مَنْ ضلَّ بعد الهدى يجيب الشَّيطان الذي يستهويه في المفازة فيصبح في مضلَّة من الأرض يهلك فيها ويعصي مَنْ يدعوه إلى المحجَّة كذلك مَنْ ضلَّ بعد الهدى {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} ردٌّ على مَنْ دعا إلى عبادة الأصنام أَيْ: لا نفعل ذلك لأنَّ هدى الله هو الهدى لا هدى غيره(1/361)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون}(1/361)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق} أَيْ: بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكلُّ ذلك حقٌّ {ويوم يقول} واذكر يا محمَّد يوم يقول للشَّيء {كن فيكون} يعني: يوم القيامة يقول للخلق انتشروا فينتشرون(1/361)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(1/361)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{وكذلك نري إبراهيم} أَيْ: وكما أرينا إبراهيم استقباح ما كان عليه أبوه من عبادة الأصنام نريه {ملكوت السماوات والأرض} يعني: ملكهما كالشَّمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار أراه الله تعالى هذه الأشياء حتى نظر إليها مُعتبراً مُستدلاًّ بها على خالقها وقوله: {وليكون من الموقنين} عطفٌ على المعنى تقديره: ليستدلَّ بها وليكون من الموقنين(1/361)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{فلما جنَّ} أَيْ: ستر وأظلم {عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} أَيْ: في زعمكم أيُّها القائلون بحكم النَّجم وذلك أنَّهم كانوا أصحاب نجومٍ يرون التدبيرفي الخليقة لها {فلما أفل} أَيْ: غاب {قال لا أحبُّ الآفلين} عرَّفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النُّجوم ودلَّ على أنَّ مَنْ غاب بعد الظُّهور كان حادثاً مُسخَّراً وليس بربٍّ(1/362)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{فلما رأى القمر بازغاً} طالعاً فاحتجَّ عليهم في القمر والشَّمس بمثل ما احتجَّ به عليهم في الكوكب وقوله: {لئن لم يهدني ربي} أَيْ: لئن لم يُثبِّتني على الهدى وقوله للشَّمس:(1/362)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
{هذا ربي} ولم يقل هذه لأنَّ لفظ الشَّمس مذكَّرٌ ولأنَّ الشَّمس بمعنى الضياء والنُّور فحمل الكلام على المعنى {هذا أكبر} أَي: من الكوكب والقمر فلمَّا توجَّهت الحجَّة على قومه قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}(1/362)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{إني وجهت وجهي} أَيْ: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وباقي الآية مفسَّر فيما مضى(1/362)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
{وحاجَّة قومه} جادلوه وخاصموه في تركه آلهتهم وعبادة الله وخوَّفوه أن تصيبه آلهتهم بسوء فقال: {أتحاجوني في الله} أَيْ: في عبادته وتوحيده {وقد هدان} بيَّن لي ما به اهتديت {ولا أخاف ما تشركون به} من الأصنام أن تصيبني بسوء {إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً} إني لا أخاف إلاَّ مشيئة الله أن يعذِّبني {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} علمه علماً تاماً {أفلا تتذكرون} تتعظون وتتركون عبادة الأصنام(1/363)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
{وكيف أخاف ما أشركتم} يعني: الأصنام أنكر أن يخافها {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ ينزل به عليكم سلطاناً} ما ليس لكم في إشراكه بالله حجَّةٌ وبرهانٌ {فإيُّ الفريقين أحق بالأمن} بأن يأمن العذاب الموحِّدُ أم المشرك؟(1/363)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} لم يخلطوا إيمانهم بشركٍ {أولئك لهم الأمن} من العذاب {وهم مهتدون} إلى دين الله(1/363)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{وتلك حجتنا} يعني: ما احتجَّ به عليهم {آتيناها إبراهيم} ألهمنا إبراهيم فأرشدناه إليها {نرفع درجات مَنْ نشاء} مراتبهم بالعلم والفهم ثمَّ ذكر نوحاً ومَنْ هدى من الأنبياء من أولاده إلى قوله:(1/363)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلَّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(1/363)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}(1/363)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
{وكلاً} أَيْ: من المذكورين هاهنا {فضلنا على العالمين} علمي زمانهم(1/364)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
{ومن آبائهم} أَيْ: وهدينا بعض آبائهم {وذرياتهم وإخوانهم} فـ من هاهنا للتبغيض(1/364)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
{ذلك هدى الله} دين الله الذي هم عليه {يَهْدِي بِهِ مَنْ يشاء} يريد: يرشد إليه مَنْ يشاء {من عباده ولو أشركوا} عبدوا غيري {لحبط} بطل عملهم(1/364)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: الكتب التي أنزلها عليهم {والحكم} العلم والفقه {فإن يكفر بها} أي: بآياتنا {هؤلاء} أهل مكَّة {فقد وكلنا بها} أَيْ: أرصدنا لها {قوماً} وفَّقناهم لها وهم المهاجرون والأنصار(1/364)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يعني: النَّبيِّين الذين تقدَّم ذكرهم {فبهداهم اقتده} أَي: اصبر كما صبروا فإنَّ قومهم كذَّبوهم فصبروا {قل لا أسألكم عليه} على القرآن وتبليغ الرِّسالة {أجراً} مالاً تعطونيه {إن هو} يعني: القرآن {إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} موعظة للخلق أجمعين(1/364)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{وما قدروا الله حق قدره} ما عظَّموا الله حقَّ عظمته وما وصفوه حقَّ صفته {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ من شيء} وذلك أن ليهود أنكروا إنزال الله عزَّ وجل من السَّماء كتاباً إنكاراً للقرآن {قل} لهم يا محمد: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} يعني: التَّوراة {تجعلونه قراطيس} مكتوبة وتودعونه إيَّاها {تبدونها} يعني: القراطيس يبدون ما يحبُّون ويكتمون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} في التَّوراة فضيَّعتموه ولم تنتفعوا به {قل الله} أي: الله أنزله {ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوضهم} إفكهم وحديثهم الباطل {يلعبون} يعملون ما لا يُجدي عليهم(1/364)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{وهذا كتاب} يعني: القرآن {أنزلناه مبارك} كثيرٌ خيره دائمٌ نفعه يبشِّر بالثواب ويزجر عن القبيح إلى ما لا يحصى من بركاته {مصدق الذي بين يديه} موافقٌ لما قبله من الكتب {ولتنذر أم القرى} أهل مكة {ومن حولها} يعني: أهل سائر الآفاق {والذين يؤمنون بالآخرة} إيماناً حقيقياً {يؤمنون به} بالقرآن(1/365)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} نزلت في مسيلمة والأسود العنسي ادَّعيا النُّبوَّة وأنَّ الله قد أوحى إليهما وهذا معنى قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله} يعني: المستهزئون الذين قالوا: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} {ولو ترى} يا محمد {إذ الظالمون} يعني: الذين ذكرهم {في غمرات الموت} شدائده وأهواله {والملائكة باسطوا أيديهم} إليهم بالضَّرب والتَّعذيب {أخرجوا أنفسكم} أَيْ: يقولون ذلك ونفس الكافر تخرج بمشقةٍ وكُرهٍ لأنَّها تصير إلى أشدِّ العذاب والملائكة يكرهونهم على نزع الرُّوح ويقولون: {أخرجوا أنفسكم} كرهاً {اليوم تجزون عذاب الهون} أَي: العذاب الذي يقع به الهوان الشَّديد {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} من أنَّه أوحي إليكم ولم يوح {وكنتم عن آياته تستكبرون} عن الإِيمان بها تتعظَّمون(1/365)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ولقد جئتمونا فرادى} يقال للكفَّار في الآخرة: جئتمونا فرادى بلا أهل ولا مالٍ ولا شيءٍ قدَّمتموه {كما خلقناكم أول مرة} كما خرجتم من بطون أُمَّهاتكم {وَتَرَكْتُمْ مَا خوَّلناكم} ملَّكناكم وأعطيناكم من المال والعبيد والمواشي {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زعمتم أنَّهم فيكم شركاء} وذلك أنَّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام على أنَّهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده {لقد تقطع بينكم} وصلكم ومودتكم {وضلَّ عنكم} ذهب عنكم {ما كنتم تزعمون} تُكذِّبون في الدُّنيا(1/366)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{إنَّ الله فالق الحبّ} شاقُّة بالنَّبات {والنوى} بالنَّخلة {يخرج الحي من الميت} يخرج النُّطفة بشراً حيّاً {ومُخرج الميت} النُّطفة {من الحيّ} وقيل: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن {ذلكم الله} الذي فعل هذه الأشياء التي تشاهدونها ربكم {فأنى تؤفكون} فمن أين تُصرفون عن الحقِّ بعد البيان!(1/366)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{فالق الإِصباح} شاقُّ عمود الصُّبح عن ظلمة اللَّيل وسواده على معنى أنَّه خالقه ومبديه {وجعل الليل سكناً} للخلق يسكنون فيه سكون الرَّاحة {والشمس والقمر حسباناً} وجعل الشَّمس والقمر بحسبانٍ لا يجاوزانه فيما يدوران في حسابٍ {ذلك تقدير العزيز} في ملكه يصنع ما أراد {العليم} بما قدَّر من خلقهما(1/366)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لقوم يعلمون}(1/367)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} يعني: آدم {فمستقر} أَيْ: فلكم مستقرٌّ في الأرحام {ومستودع} في الأصلاب(1/367)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني: المطر {فأخرجنا به نبات كلٍّ شيء} يَنبت {فأخرجنا} من ذلك النَّبات {خضراً} أخضر كالقمح والشَّعير والذُّرة وما كان رطباً أخضر مما ينبت من الحبوب {نخرج منه} من الخضر {حباً متراكباً} بعضه على بعض في سنبلةٍ واحدةٍ {ومن النخل من طلعها} أوَّل ما يطلع منها {قنوان} يعني: العراجين التي قد تدلَّت من الطَّلع {دانية} ممَّن يجتنيها يعني: قصار النَّخل اللاَّحقة عذوقها بالأرض {وجنات} أَيْ: وأخرجنا بالماء جنَّات {من أعناب والزيتون} وشجر الزَّيتون {والرمان} وشجر الرُّمان {مشتبهاً} في اللون يعني: الرُّماني {وغير متشابه} في الطَّعم أي: مختلفة في الطَّعم وقيل: مُشتبهاً ورقها مُختلفاً ثمرها {انظروا إلى ثمره} نظر الاستدلال والعبرة أوَّل ما يعقد {وينعه} نضجه {إنَّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} يصدِّقون أنَّ الذي أخرج هذا النَّبات قادرٌ على أن يحيي الموتى(1/367)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{وجعلوا لله شركاء الجن} أطاعوا الشَّياطين في عبادة الأوثان فجعلوهم شركاء لله {وخرقوا له بنين وبنات} افتعلوا ذلك كذباً وكفراً يعني: الذين قالوا: الملائكة بنات الله واليهود والنَّصارى حين دعوا لله ولداً {بغير علم} لم يذكروه عن علمٍ إنَّما ذكروه تكذُّباً وقوله:(1/368)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحبة} أَيْ: مِنْ أين يكون له ولدٌ؟ ولا يكون الولد إلاَّ من صاحبةٍ ولا صاحبة له {وخلق كلَّ شيء} أَيْ: وهو خالق كل شيء(1/368)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء وكيل}(1/368)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{لا تدركه الأبصار} في الدُّنيا لأنَّه وعد في القيامة الرُّؤية بقوله: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} الآية والمُطلق يحمل على المقيد وقيل: لا يحيط بكنهه وحقيقته الأبصار وهي تراه فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به {وهو يدرك الأبصار} يراها ويحيط بها علماً لا كالمخلوقين الذين لا يدركون حقيقة البصر وما الشَّيء الذي صار به الإِنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما {وهو اللطيف} الرَّفيق بأوليائه {الخبير} بهم(1/368)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{قد جاءكم بصائر من ربكم} يعني: بيِّنات القرآن {فمن أبصر} اهتدى {فلنفسه} عمل {ومن عمي فعليها} فعلى نفسه جنى العذاب {وما أنا عليكم بحفيظ} برقيب على أعمالكم حتى أجازيكم بها(1/369)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{وكذلك} وكما بيَّنا في هذه السُّورة {نصرِّف} نبيِّن {الآيات} في القرآن ندعوهم بها ونخوِّفهم {وليقولوا درست} عطف على المضمر في المعنى والتقدير: نصرِّف الآيات لتلزمهم الحجَّة وليقولوا درست أَيْ: تعلَّمت مِن يسار وجبر واليهود ومعنى درس: قرأ على غيره ومعنى هذه اللام في قوله: {وليقولوا} معنى لم العاقبة أَيْ: نصرِّف الآيات ليكون عاقبة أمرهم تكذيباً للشَّقاوة التي لحقتهم {ولنبينه لقوم يعلمون} يعني: أولياءه الذين هداهم والذين سعدوا بتبيين الحق(1/369)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين}(1/369)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
{ولو شاء الله ما أشركوا} أَيْ: ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حفيظاً} لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب إنَّما بُعثت مُبَلِّغاً فلا تهتمَّ لشركهم فإنَّ ذلك لمشيئة الله(1/369)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: أصنامهم ومعبوديهم وذلك أنَّ المسلمين كانوا يسبُّون أصنام الكفَّار فنهاهم الله عزَّ وجل عن ذلك لئلا يسبُّوا {الله عدواً بغير علم} أَيْ: ظُلماً بالجهل {كذلك} أَيْ: كما زيَّنا لهؤلاء عبادة الآوثان وطاعة الشَّيطان بالحرمان والخذلان {زينا لكلِّ أمة عملهم} من الخير والشَّرِّ(1/369)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} اجتهدوا في المبالغة في اليمين {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آية ليؤمنن بها} وذلك أنَّه لمَّا نزل: {إن نشأ ننزل عليهم} الآية أقسم المشركون بالله لئن جاءنهم آية ليؤمننَّ بها وسأل المسلمون ذلك وعلم الله سبحانه أنَّهم لا يؤمنون فأنزل الله هذه الآية {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} هو القادر على الإتيان بها {وما يشعركم} وما يدريكم إيمانهم أَيْ: هم لا يؤمنون مع مجيء الآيات إيَّاهم ثمَّ ابتدأ فقال: {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} ومَنْ قرأ أنَّها بفتح الألف كانت بمعنى لعلَّها ويجوز أن تجعل لا زائدة مع فتح أنَّ(1/370)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية بتقليب قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن تكونَ عليه فلا يؤمنون {كما لم يؤمنوا به} بالقرآن أو بمحمَّدٍ عليه السَّلام {أوَّل مرَّة} أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون(1/370)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فرأوهم عياناً {وكلمهم الموتى} فشهدوا لك بالصِّدق والنُّبوَّة {وحشرنا عليهم} وجمعنا عليهم {كلَّ شيء} في الدُّنيا {قُبلاً} و {قِبَلاً} أَيْ: مُعاينةً ومُواجهةً {ما كانوا ليؤمنوا} لما سبق لهم من الشَّقاء {إلا أن يشاء الله} أن يهديهم {ولكنَّ أكثرهم يجهلون} أنَّهم لو أُوتوا بكلِّ آيةٍ ما آمنوا(1/370)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{وكذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوّاً} كما ابتليناك بهؤلاء القوم كذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ قبلك أعداءً ليعظم ثوابه والعدو هاهنا يُراد به الجمع ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال: {شياطين الإِنس} يعني: مردة الإِنس والشَّيطان: كلُّ متمرِّدٍ عاتٍ من الجنَّ والإِنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} يعني: إنَّ شياطين الجنِّ الذين هم من جند إبليس يوحون إلى كفار الإِنس ومردتهم فيغرونهم بالمؤمنين وزخرف القول: باطله الذي زُيِّن ووُشِّي بالكذب والمعنى أنَّهم يُزيِّنون لهم الأعمال القبيحة غروراً {ولو شاء ربك ما فعلوه} لَمَنع الشَّياطين من الوسوسة للإِنس(1/371)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ولتصغى إليه} ولتميل إلى ذلك الزُّخرف والغرور {أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} قلوب الذين لا يصدِّقون بالبعث {وليرضوه} ليحبُّوه {وليقترفوا} ليعملوا ما هم عاملون(1/371)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{أفغير الله} أَيْ: قل لأهل مكَّة: أفغير الله {أبتغي حكماً} قاضياً بيني وبينكم {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} القرآن {مفصلاً} مُبَيِّناً فيه أمره ونهيه {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من اليهود والنَّصارى {يعلمون} أنَّ القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تكونن من الممترين} من الشَّاكين أنَّهم يعلمون ذلك(1/371)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{وتمت كلمة ربك} أقضيته وعِداته لأوليائه في أعدائه {صدقاً} فيما وعد {وعدلاً} فيما حكم والمعنى: صادقةً عادلةً {لا مبدل لكلماته} لا مغير لحكمه ولا خلف لوعده {وهو السميع} لتضرُّع أوليائه ولقول أعدائه {العليم} بما في قلوب الفريقين(1/372)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{وإن تطع أكثر من في الأرض} يعني: المشركين {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} دين الله الذي رضيه لك وذلك أنَّهم جادلوه في أكل الميتة وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟ {إن يتبعون إلا الظن} في تحليل الميتة {وإن هم إلاَّ يخرصون} يكذبون في تحليل ما حرَّمه الله(1/372)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1/372)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} أَيْ: ممَّا ذكِّي على اسم الله {إن كنتم بآياته مؤمنين} تأكيدٌ لاستحلال ما أباحه الشَّرع ثمَّ أبلغَ في إباحة ما ذبح على اسم الله بقوله:(1/372)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{وما لكم أنْ لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} عند الذَّبح {وقد فصَّل} بيَّن {لكم ما حرَّم عليكم} في قوله: {حرمت عليكم الميتة} الآية {إلاَّ ما اضطررتم إليه} دعتكم الضَّرورة إلى أكله ممَّا لا يحلُّ عند الاختيار {وإنَّ كثيراً ليضلون بأهوائهم} أَيْ: الذين يُحلُّون الميتة ويناظرونكم في إحلالها ضلُّوا باتِّباع أهوائهم {بغير علمٍ} إنَّما يتَّبعون فيه الهوى ولا بصيرة عندهم ولا علم {إنَّ ربك هو أعلم بالمعتدين} المتجاوزين الحلال إلى الحرام(1/372)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{وذروا ظاهر الإِثم وباطنه} سرَّه وعلانيته ثمَّ أوعد بالجزاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}(1/373)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه} ممَّا لم يُذَكَّ ومات {وإنه} وإنَّ أكله {لفسقٌ} خروجٌ عن الحقِّ {وإنَّ الشياطين} يعني: إبليس وجنوده وسوسوا {إلى أوليائهم} من المشركين ليخاصموا محمداً وأصحابه في أكل الميتة {وإن أطعتموهم} في استحلال الميتة {إنكم لمشركون} لأنَّ مَنْ أحلَّ شيئاً ممَّا حرَّمه الله فهو مشركٌ(1/373)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{أَوْ مَنْ كان ميتاً فأحييناه} ضالاًّ كافراً فهديناه {وجعلنا له نوراً} ديناً وإيماناً {يمشي به في الناس} مع المسلمين مُستضيئاً بما قذف الله في قلبه من نور الحكمة والإِيمان {كمَنْ مثله} كمَن هو {في الظلمات} في ظلمات الكفر والضَّلالة {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} ليس بمؤمن أبداً نزلت في أبي جهلٍ وحمزة بن عبد المطلب {كذلك} كما زُيِّن للمؤمنين الإِيمان {زين للكافرين ما كانوا يعملون} من عبادة الأصنام(1/373)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} يعني: كما أنَّ فسَّاق مكَّة أكابرها كذلك جعلنا فسَّاق كلِّ قرية أكابرها يعني: رؤساءَها ومترفيها {ليمكروا فيها} بصدِّ النَّاس عن الإِيمان {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ} لأنَّ وبال مكرهم يعود عليهم {وما يشعرون} أنَّهم يمكرون بها(1/374)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{وإذا جاءتهم آية} ممَّا أطلع الله عليه نبيَّه عليه السَّلام ممَّا يخبرهم به {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أوتي رسل الله} حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فنصدِّق به وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من القوم سأل أن يُخصَّ بالوحي كما قال الله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صحفا مُنشَّرة} فقال الله سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} يعني: أنَّهم ليسوا بأهل لها هو أعلم بمَنْ يختصُّ بالرِّسالة {سيصيب الذين أجرموا صغار} مذلَّةٌ وهوانٌ {عند الله} أَيْ: ثابت لهم عند الله ذلك(1/374)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسلام} يوسِّعْ قلبه ويفتحه ليقبل الإِسلام {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حرجاً} شديد الضِّيق {كأنما يصَّعد في السماء} إذا كُلَّف الإِيمان لشدَّته وثقله عليه {كذلك} مثل ما قصصنا عليك {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} العذاب {على الذين لا يؤمنون}(1/374)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
{وهذا صراط ربك} هذا الذي أنت عليه يا محمد دين رَبِّكَ {مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} وهم المؤمنون(1/375)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{لهم دار السلام} الجنة {عند ربهم} مضمونةً لهم حتَّى يُدخلهموها {وهو وليهم} يتولَّى إيصال الكرامات إليهم {بما كانوا يعملون} من الطَّاعات(1/375)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ويوم يحشرهم جميعاً} الجنّ والإِنس فيقال لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ من الإِنس} أَيْ: من إغوائهم وإضلالهم {وقال أولياؤهم} الذين أضلَّهم الجنُّ {مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بعضنا ببعض} يعني: طاعة الإِنس للجنِّ وقبولهم منهم ما كانوا يغرونهم به من الضَّلالة وتزيين الجنِّ للإِنس ما كانوا يهوونه حتى يسهل عليهم فعله {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} يعني: الموت والظَّاهر أنَّه البعث والحشر {قال النار مثواكم} فيها مقامكم {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ الله} مَنْ شاء الله وهم مَنْ سبق في علم الله أنَّهم يُسلمون {إنَّ ربك حكيم} حكم للذين استثنى بالتَّوبة والتَّصديق {عليم} علم ما في قلوبهم من البرِّ(1/375)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً} كما خذلنا عُصاة الجنِّ والإنس نَكِلُ بعض الظَّالمين إلى بعض حتى يضلَّ بعضهم بعضاً(1/375)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكم} الرُّسل كانت من الإنس والذين بلَّغوا الجنَّ منهم عن الرُّسل كانوا من الجنِّ وهم النُّذر كالذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم من الجنِّ فأبلغوه قومهم(1/375)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ذلك} الذي قصصنا عليك من أمر الرُّسل لأنَّه {لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أَيْ: بذنوبهم ومعاصيهم من قبل أن يأتيهم الرَّسول فينهاهم وهو معنى قوله: {وأهلها غافلون} أَيْ: لكلِّ عاملٍ بطاعة الله درجات في الثَّواب ثمَّ أوعد المشركين فقال: {وما ربك بغافل عما يعملون}(1/376)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عما يعملون}(1/376)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
{وربك الغني} عن عبادة خلقه {ذو الرحمة} بخلقه فلا يعجل عليهم بالعقوبة {إن يشأ يذهبكم} يعني: أهل مكَّة {ويستخلف من بعدكم} وينشئ من بعدكم خلقاَ آخر {كما أنشأكم} خلقكم ابتداءً {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} يعني: آباءهم الماضين(1/376)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين}(1/376)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} على حالاتكم التي أنتم عليها {إني عامل} على مكانتي وهذا أمرُ تهديدٍ يقول: اعملوا ما أنتم عاملون إنِّي عاملٌ ما أنا عَامِلٌ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} أيُّنا تكون له الجنَّة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لا يسعد مَنْ كفر بالله وأشرك بالله(1/376)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ} كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم {نصيباً} وللأوثان نصيباً فما كان للصَّنم أُنْفِقَ عليه وما كان لله أُطعم الضِّيفان والمساكين فما سقط ممَّا جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إنَّ الله غنيٌّ عن هذا وإن سقط ممَّا جعلوه للأوثان من نصيب الله التقطوه وردُّوه إلى نصيب الصَّنم وقالوا: إنَّه فقير فذلك قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شركائهم} ثمَّ ذمَّ فعلهم فقال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: ساء الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوه لله على جهة التَّبرُّز إلى الأوثان(1/376)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{وكذلك} ومثل ذلك الفعل القبيح {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} يعني: الشَّياطين أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العَيْلَة {ليردوهم} ليهلكوهم في النَّار {وليلبسوا عليهم دينهم} ليخلطوا ويُدخلوا عليهم الشَّكَّ في دينهم ثمَّ أخبر أنَّ جميع ما فعلوه كان بمشيئته فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فعلوه فذرهم وما يفترون} من أنَّ لله شريكاً(1/377)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} حرَّموا أنعاماً وحرثاً وجعلوها لأصنامهم فقالوا: {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بزعمهم} أعلم الله سبحانه أنَّ هذا التَّحريم كذبٌ من جهتهم {وأنعام حرّمت ظهورها} كالسَّائبة والبحيرة والحامي {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} يقتلونها لآلتهم خنقاً أو وقذاً {افتراءً عليه} أَيْ: يفعلون ذلك للافتراء على الله وهو أنَّهم زعموا أنَّ الله أمرهم بذلك(1/377)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} يعني: أجِنَّة ما حرَّموها من البحائر والسَّوائب {خالصةٌ لذكورنا} حلالٌ للرِّجال خاصَّة دون النِّساء هذا إذا خرجت الأجنَّة أحياء وإن كان ميتةً اشترك فيها الرِّجال والنِّساء {سيجزيهم وصفهم} سيجزيهم الله جزاء وصفهم الذي هو كذبٌ أَيْ: سيعذِّبهم الله بما وصفوه من التَّحليل والتَّحريم الذي كلُّه كذبٌ {إنه حكيم عليم} أَيْ: هو أعلم وأحكم من أن يفعل ما يقولون(1/378)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{قد خسر الذين قتلوا أولادهم} بالوأد {سفهاً} للسَّفه {وحرَّموا ما رزقهم الله} من الأنعام يعني: البحيرة وما ذُكر معها(1/378)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{وهو الذي أنشأ} أبدع وخلق {جنات معروشات} يعني: الكرم {وغير معروشات} ما قام على ساق ولم يُعرش له كالنَّخل والشَّجر {والنخل والزرع مختلفاً أكله} أُكُلُ كلِّ واحدٍ منهما وكلِّ نوعٍ من الثَّمر له طعمٌ غير طعم النَّوع الآخر وكلُّ حبٍّ من حبوب الزَِّرع له طعمٌ غير طعم الآخر {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أمر إباحة {وآتوا حقه يوم حصاده} يعني: العشر ونصف العشر {ولا تسرفوا} فتعطوا كلَّه حتى لا يبقى لعيالكم شيء {إنه لا يحب المسرفين} يعني: المجاوزين أمر الله(1/378)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
{ومن الأنعام} وأنشأ من الأنعام {حمولة} وهي كلُّ ما حمل عليها ممَّا أطاق العمل والحمل {وفرشاً} وهو الصِّغار التي لا يحمل عليها كالغنم والبقر والإِبل الصِّغار {كلوا مما رزقكم الله} أَيْ: أحلَّ لكم ذبحه {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} في تحريم شيءٍ ممَّا أحله الله {إنه لكم عدو مبين} بيِّنُ العداوة أخرج أباكم من الجنَّة وقال: لأحتنكنَّ ذريته ثمَّ فسر الحمولة والفرش فقال:(1/378)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ثمانية أزواج} الذَّكر زوجٌ والأنثى زوجٌ وهي الضَّأن والمعز وقد ذُكرا في هذه الآية والإِبل والبقر ذُكرا فيما بعد وجعلها ثمانيةً لأنَّه أراد الذَّكر والأُنثى من كلِّ صنفٍ وهو قوله: {من الضَّأن اثنين ومن المعز اثنين} والضَّأن: ذوات الصُّوف من المعز والغنم: ذوات الشَّعر {قل} يا محمد للمشركين الذين يُحرِّمون على أنفسهم ما حرَّموا من النَّعم: {آلذكرين} من الضَّأن والمعز {حرَّم} الله عليكم {أم الأُنثيين} فإن كان حرَّم من الغنم ذكورها فكلُّ ذكورها حرام وإن كان حرَّم الأنثيين فكلُّ الإِناث حرام {أمَّا اشتملت عليه أرحام الأُنثيين} وإن كان حرَّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضَّأْنِ والمعز فقد حرَّم الأولاد كلَّها وكلُّها أولادٌ فكلُّها حرام {نبئُوني بعلم} أَيْ: فسِّروا ما حرَّمتم بعلمٍ إن كان لكم علمٌ في تحريمه وهو قوله: {إن كنتم صادقين}(1/379)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا إذْ كنتم لا تؤمنون برسول الله؟ ! فلمَّا لزمتهم الحجَّة بيَّن الله تعالى أنَّهم فعلوا ذلك كذباً على الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ليضلَّ الناس بغير علم} الآية يعني: عمرو بن لحي وهو الذي غيَّر دين إسماعيل وسنَّ هذا التَّحريم ثمَّ ذكر المحرَّمات بوحي الله فقال:(1/379)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ ميتة أو دماً مسفوحاً} يعني: سائلاً {أو فسقاً أهلَّ لغير الله به} يعني: ما ذًبح على النُّصب(1/380)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} يعني: الإِبل والنَّعامة {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ ما حملت ظهورهما أو الحوايا} وهي المباعر {أو ما اختلط بعظم} فإنِّي لم أحرّمه يعني: ما تعلَّق من الشَّحم بهذه الأشياء {ذلك} التَّحريم {جزيناهم ببغيهم} عاقبناهم بذنوبهم {وإنا لصادقون} في الإِخبار عن التَّحريم وعن بغيهم فلمَّا ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حُرِّم على المسلمين وما حرِّم على اليهود قالوا له: ما أصبت وكذَّبوه فأنزل الله تعالى:(1/380)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} ولذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه إذا جاء الوقت {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يعني: الذين كذَّبوك بما تقول(1/380)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
{سيقول الذين أشركوا} إذا لزمتهم الحجة وتيقَّنوا باطل ما هم عليه: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ولا حرَّمنا من شيء كذلك كذَّب} جعلوا قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} حجَّةً لهم على إقامتهم على الشِّرك وقالوا إنَّ الله رضي منَّا ما نحن عليه وأراده منَّا وأمرنا به ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه ولا حجة لهم في هذا لأنَّهم تركوا أمر الله وتعلَّقوا بمشيئته وأمرُ الله بمعزلٍ عن إرادته لأنَّه مريدٌ لجميع الكائنات غير آمرٍ بجميع ما يريد فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتَّبعه وليس له أن يتعلَّق بالمشيئة بعد ورود الأمر فقال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أَيْ: كما كذَّبك هؤلاء كذَّب كفَّار الأمم الخالية أنبياءهم ولم يتعرَّض لقولهم: {لو شاء الله} بشيءٍ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} من كتابٍ نزل في تحريم ما حرَّمتم {إن تتبعون إلاَّ الظن} ما تتَّبعون فيما أنتم عليه إلاَّ الظَّنَّ لا العلم واليقين {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} وما أنتم إلاَّ كاذبين(1/381)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{قل فللَّه الحجة البالغة} بالكتاب والرَّسول والبيان {فَلَوْ شَاءَ لهداكم أجمعين} إخبار عن تعلُّق مشيئة الله تعالى بكفرهم وأنَّ ذلك حصل بمشيئته إذ لو شاء الله لهداهم(1/381)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{قل هلم شهداءكم} أَيْ: هاتوا شهداءكم وقرِّبوهم وباقي الآية ظاهر(1/381)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أَقرأ عليكم الذي حرَّمه الله ثم ذكر فقال: {أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} وأوصيكم بالوالدين إحساناً {ولا تقتلوا أولادكم} من أولادكم من مخافة الفقر {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطن} يعني: سر الزِّنا وعلانيته {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالحق} يريد القصاص(1/381)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} وهو أن يصلح ماله ويقوم فيه بما يثمره ثمَّ يأكل بالمعروف إن احتاج إليه {حتى يبلغ أشده} أَي: احفظوه عليه حتى يحتلم {وأوفوا الكيل} أتِمُّوه من غير نقصٍ {والميزان} أَيْ: وزن الميزان {بالقسط} بالعدل لا بخسٍ ولا شططٍ {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إلاَّ ما يسعها ولا تضيق عنه وهو أنَّه لو كلَّف المعطي الزِّيادة لضاقت نفسه عنه وكذلك لو كلَّف الآخذ أن يأخذ بالنُّقصان {وإذا قلتم فاعدلوا} إذا شهدتم أو تكلَّمتم فقولوا الحقَّ {وَلَوْ} كان المشهود له أو عليه {ذا قربى}(1/382)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{وأنًّ هذا} ولأنَّ هذا {صراطي مستقيماً} يريد: ديني دين الحنفية أقومُ الأديان {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} اليهوديَّة والنصرانيَّة والمجوسية وعبادة الأوثان {فتفرَّق بكم عن سبيله} فتضلَّ بكم عن دينه {ذلكم} الذي ذكر {وصَّاكم} أمركم به في الكتاب {لعلكم تتقون} كي تتقوا السُّبل(1/382)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ثم آتينا} أَيْ: ثمَّ أُخبركم أنَّا آتَيْنَا {مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أَيْ: على الذي أحسنه موسى من العلم والحكمة وكتب الله المتقدِّمة أَيْ: علمه ومعنى: {تماماً} على ذلك أَيْ: زيادة عليه حتى تمَّ له العلم بما آتيناه {وتفصيلاً} أَيْ: آتيناه للتَّمام والتفصيل وهو البيان {لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون} لكي يُؤمنوا بالبعث ويُصدِّقوا بالثَّواب والعقاب(1/382)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{وهذا كتاب} يعني: القرآن {أنزلناه مبارك} مضى تفسيره في هذه السُّورة(1/383)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
{أن تقولوا} لئلا تَقُولُوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} يعني: اليهود والنَّصارى {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دراستهم لغافلين} وما كنَّا إلاَّ غافلين عن تلاوة كتبهم والخطابُ لأهل مكَّة والمرادُ: إثبات الحجَّة عليهم بإنزال القرآن على محمَّد عليه السَّلام كيلا يقولوا يوم القيامة: إنَّ التَّوراة والإِنجيل أُنزلا على طائفتين من قبلنا وكنَّا غافلين عمَّا فيهما وقوله:(1/383)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{وصدف عنها} أَيْ: أعرض(1/383)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{هل ينظرون} إذا كذَّبوك {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} عند الموت لقبض أرواحهم وذكرنا معنى {ينظرون} في سورة البقرة {أو يأتي ربك} أَيْ: أمره فيهم بالقتل {أو يأتي بعض آيات ربك} يعني: طلوع الشَّمس من مغربها والمعنى: إن هؤلاء الذي كذَّبوك إمَّا أن يموتوا فيقعوا في العذاب أو يؤمر فيهم بالسَّيف أو يمهلون قدر مدَّة الدُّنيا فيتوالدون ويتنعَّمون فيها فإذا ظهرت أمارات القيامة {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} قدَّمت طاعةً وهي مؤمنةٌ {قل انتظروا} أحد هذه الأشياء {إنا منتظرون} بكم أحدها(1/383)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{إن الذين فرقوا دينهم} يعني: اليهود والنَّصارى أخذوا ببعض ما أُمروا وتركوا بعضه كقوله إخباراً عنهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} {وكانوا شيعاً} أحزاباً مختلفة بعضهم يُكفِّر بعضاً {لست منهم في شيء} يقول: لم تؤمر بقتالهم فلمَّا أُمر بقتالهم نُسخ هذا(1/384)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{من جاء بالحسنة} من عمل من المؤمنين حسنةً {فله عشر أمثالها} كتبت له عشر حسناتٍ {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} الخطيئة {فلا يجزى إلاَّ مثلها} أَيْ: جزاءً مثلها لا يكون أكثر منها {وهم لا يظلمون} لا ينقص ثواب أعمالهم(1/384)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ديناً} أَيْ: عرَّفني ديناً {قيماً} مستقيماً(1/384)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{قل إنَّ صلاتي ونسكي} عبادتي من حجِّي وقرباني {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} أَيْ: هو يحييني وهو يميتني وأنا أتوجَّه بصلاتي وسائر المناسك إلى الله لا إلى غيره وقوله:(1/384)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{وبذلك أمرت} بذلك أوحي إليَّ {وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة(1/385)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{قل أغير الله أبغي رباً} سيِّداً وإلهاً {وهو ربُّ كلِّ شيء} مالكه وسيِّده {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} لا تجني نفسٌ ذنباً إلاَّ أُخذت به {ولا تزر وازرة وزر أخرى} يعني: الوليد بن المغيرة كان يقول: اتَّبعوا سبيلي أحمل أوزاركم فأنزل الله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لا يحمل أحدٌ جناية غيره حتى لا يُؤَاخذ بها الجاني(1/385)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{وهو الذي جعلكم} يا أُمَّةَ محمَّدٍ {خلائف} الأمم الماضية في {الأرض} بأنْ أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} بالغنى والرِّزق {ليبلوكم في ما آتاكم} ليختبركم فيما رزقكم {إنَّ ربك سريع العقاب} لأعدائه {وإنه لغفور} لأوليائه {رحيم} بهم(1/385)
المص (1)
{المص} أنا الله أعلم وأفضل(1/386)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{كتاب} أَيْ: هذا كتابٌ {أنزل إليك} من ربك {فلا يكن في صدرك حرج منه} فلا يضيقنَّ صدرك بإبلاغ ما أرسلت به {لتنذر به} أَيْ: أُنزل لتنذر به النَّاس {وذكرى للمؤمنين} مواعظ للمصدِّقين(1/386)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} يعني: القرآن {ولا تتبعوا من دونه أولياء} لا تتخذوا غير الله أولياء {قليلاً ما تذكرون} قليلاً يا معشر المشركين اتَّعاظكم(1/386)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{وكم من قرية أهلكناها} يعني: أهلها {فجاءها بأسنا} عذابنا {بياتاً} ليلاً {أو هم قائلون} نائمون نهاراً بعنب: جاءهم بأسنا وهم غير متوقِّعين له(1/386)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{فما كان دعواهم} دعاؤهم وتضرُّعهم {إذ جاءهم بأسنا إلاَّ أن} أقرُّوا على أنفسهم بالشِّرك و {قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}(1/387)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
{فلنسألن الذين أرسل إليهم} نسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرُّسل ونسأل الرُّسل هل بلَّغوا ما أُرسلوا به(1/387)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{فلنقصنَّ عليهم بعلم} لنخبرنَّهم بما عملوا بعلمٍ منَّا {وما كنا غائبين} عن الرُّسل والأمم ما بلَّغت وما ردَّ عليهم قومهم(1/387)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{والوزن يومئذ} يعني: وزن الأعمال يوم السُّؤال الذي ذُكر في قوله: {فلنسألنَّ} {الحق} العدل وذلك أنَّ أعمال المؤمنين تتصوَّر في صورةٍ حسنةٍ وأعمال الكافرين في صورةٍ قبيحة فتوزن تلك الصُّورة فذلك قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} النَّاجون الفائزون وهم المؤمنون(1/387)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} صاروا إلى العذاب {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} يجحدون بما جاء به محمد عليه السَّلام(1/387)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{ولقد مكنَّاكم في الأرض} ملَّكناكم فيما بين مكَّة إلى اليمن وإلى الشَّام يعني: مشركي مكَّة {وجعلنا لكم فيها معايش} ما تعيشون به من الرِّزق والمال والتجارة {قليلاً ما تشكرون} أَيْ: إنَّكم غير شاكرين لما أنعمت عليكم(1/387)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ولقد خلقناكم} يعني: آدم {ثم صوَّرناكم} في ظهره(1/387)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{قال ما منعك أن لا تسجد} لا زائدة معناها: ما منعك أن تسجد؟ وهو سؤالُ التَّوبيخ والتَّعنيف {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} معناه: منعني من السُّجود له أنِّي خيرٌ منه إذ كنتُ ناريَّاً وكان طينيَّاً فترك الأمر وقاس فعصى(1/387)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{قال فاهبط منها} فانزل من الجنَّة وقيل: من السَّماء {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فيها} عن أمري وتعصيني {فأخرج إنك من الصاغرين} الأذلاء بترك الطَّاعة(1/388)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{قال انظرني} أمهلني {إلى يوم يبعثون} يريد: النَّفخة الثَّانية(1/388)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}(1/388)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{قال: فبما أغويتني} يريد: فبما أضللتني أيْ: بإغوائك إيَّاي {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} على الطَريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنَّة بأن أُزيِّن لهم الباطل(1/388)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ثم لآتينَّهم من بين أيديهم} يعني: آخرتهم التي يردون عليها فَأُشكِّكهم فيها {ومن خلفهم} دنياهم التي يُخَلِّفونها فأُرغِّبهم فيها {وعن أيمانهم} أُشبِّه عليهم أمر دينهم {وعن شمائلهم} أُشهِّي لهم المعاصي(1/388)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{قال اخرج منها} من الجنَّة {مذؤوماً} مذموماً بأبلغ الذَّمِّ {مدحوراً} مطروداً ملعوناً {لمن تبعك منهم} من أولاد آدم {لأَمْلأَنَّ جهنم منكم} يعني: من الكافرين وقرنائهم من الشَّياطين(1/388)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
{ويا آدم اسكن} سبق تفسيره في سورة البقرة(1/388)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{فوسوس لهما الشيطان} أَيْ: حدَّث لهما في أنفسهما {ليبدي لهما} هذه اللام لام العاقبة وذلك أنَّ عاقبة تلك الوسوسة أدَّت إلى أن بدت لهما سوآتهما يعني: فروجهما بتهافت اللَّباس عنهما وهو قوله {ما وري} أَيْ: سُتر {عنهما من سوآتهما} {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} أَيْ: عن أكلها {إلاَّ أن تكونا} لا هاهنا مضمرة أَيْ: إلاَّ أن لا تكونا {ملكين} يبقيان ولا يموتان كما لا تموت الملائكة يدلُّ على هذا المعنى قوله: {أو تكونا من الخالدين}(1/389)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{وقاسمهما} حلف لهما {إني لكما لمن الناصحين}(1/389)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{فدلاهما بغرور} غرَّهما باليمين ومعنى دلاَّهما: جَرَّأَهُما على أكل الشَّجرة بما غرَّهما به من يمينه {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} تهافت لباسهما عنهما فأبصر كلُّ واحدٍ منهما عورة صاحبه فاستحييا {وطفقا يخصفان} أقبلا وجعلا يُرقِّعان الورق كهيئة الثواب ليستترا به {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}(1/389)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1/389)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مستقر} موضع قرار ثم فسر ذلك بقوله:(1/389)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{فيها تحيون} ولمَّا ذكر عُريَّ آدم وحواء منَّ علينا بما خلق لنا من اللِّباس فقال:(1/390)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم} أَيْ: خلقنا لكم {لباساً يواري سوآتكم} يستر عوراتكم {وريشاً} أَيْ: مالاً وما تتجمَّلون به من الثِّياب الحسنة {ولباس التقوى} أَيْ: ستر العورة لمَنْ يتَّقي الله فيواري عورته {ذلك خيرٌ} لصاحبه إ ذا أخذ به أو خيرٌ من التَّعري وذلك أنَّ جماعةً من المشركين كانوا يتعبَّدون بالتَّعريِّ وخلع الثَّياب في الطواف بالبيت {ذلك من آيات الله} أَيْ: من فرائضه التي أوجبها بآياته يعني: ستر العورة {لعلهم يذكرون} لكي يتَّعظوا(1/390)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان} لا يخدعنَّكم ولا يُضلنَّكم {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لباسهما} أضاف النَّزع إليه وإن لم يتولَّ ذلك لأنَّه كان بسببٍ منه {إنَّه يراكم هو وقبيله} يعني: ومَنْ كان من نسله {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} سلَّطناهم عليهم ليزيدوا في غيِّهم كما قال: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ على الكافرين}(1/390)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
{وإذا فعلوا فاحشة} يعني: طوافهم بالبيت عارين(1/391)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{قل أمر ربي بالقسط} ردٌّ لقولهم: (والله أمرنا به) والقسط: العدل {وأقيموا وجوهكم عند كلِّ مسجد} وجِّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصَّلاة إلى الكعبة {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وحِّدوه ولا تشركوا به شيئاًَ {كما بدأكم} في الخلق شقيا وسعيداً فكذلك {تعودون} سعداء وأشقياء يدلُّ على صحَّة هذا المعنى قوله:(1/391)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{فريقاً هدى} أرشد إلى دينه وهم أولياؤه {وَفَرِيقًا حَقَّ عليهم الضلالة} أَضَلَّهُمْ وهم أولياء الشيطان {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ويحسبون أنهم مهتدون} ثمَّ أمرهم أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا فقال:(1/391)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{يا بني آدم خذوا زينتكم} يعني: ما وارى العورة {عند كلِّ مسجد} لصلاةٍ أو طواف {وكلوا واشربوا} كان أهل الجاهليَّة لا يأكلون أيَّام حجِّهم إلاَّ قوتاً ولا يأكلون دسماً يُعظِّمون بذلك حجِّهم فقال المسلمون: نحن أحقُّ أن نفعل فأنزل الله تعالى: {وكلوا} يعني: اللَّحم والدَّسم {واشربوا} اللَّبن والماء وما أحلَّ لكم {ولا تسرفوا} بحظركم على أنفسكم ما قد أحللته لكم من اللَّحم والدَّسم {إِنَّهُ لا يُحِبُّ} مَنْ فعل ذلك أي: لايثيبه ولا يدخله الجنَّة(1/391)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لعباده} مَنْ حرَّم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم {والطيبات من الرزق} يعني: ما حرَّموه على أنفسهم أيَّام حجِّهم {قل هي} أَي: الطَّيِّبات من الرِّزق {للذين آمنوا في الحياة الدنيا} مباحةٌ لهم مع اشتراك الكافرين معهم فيها في الدُّنيا ثمَّ هي تخلص للمؤمنين يوم القيامة وليس للكافرين فيها شيء وهو معنى قوله: {خالصة يوم القيامة} {كذلك نفصل الآيات} نُفسِّر ما أحللت وما حرَّمت {لقومٍ يعلمون} أنِّي أنا الله لا شريك لي(1/392)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{قل إنما حرَّم ربي الفواحش} الكبائر والقبائح {ما ظهر منها وما بطن} سرَّها وعلانيتها {والإِثم} يعني: المعصية التي توجب الإِثم {والبغي} ظلم النَّاس وهو أن يطلب ما ليس له {وأن تشركوا بالله} تعدلوا به في العبادة {ما لم ينزل به سلطاناً} لم ينزل كتاباً فيه حجَّةٌ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} من أنَّه حرَّم الحرث والأنعام وأنَّ الملائكة بنات الله(1/392)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{ولكلِّ أمة أجل} وقتٌ مضروبٌ لعذابهم وهلاكهم {فإذا جاء أجلهم} بالعذاب {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} لا يتأخَّرون ولا يتقدَّمون حتى يُعذَّبوا(1/392)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يقصون عليكم آياتي} فرائضي وأحكامي {فمن اتقى} اتَّقاني وخافني {وأصلح} ما بيني وبينه {فَلا خوف عليهم} إذا خاف الخلق في القيامة {ولا هم يحزنون} إذا حزنوا(1/392)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1/392)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فجعل له ولداًَ أو شريكاً {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} ما كُتب لهم من العذاب وهو سواد الوجه وزرقة العيون {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} يريد: الملائكة يقبضون أرواحهم {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تدعون من دون الله} ؟ سؤال توبيخ وتبكيت وتقريع {قالوا ضلوا عنا} بطلوا وذهبوا {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كافرين} اعترفوا عند مُعاينة الموت وأقروا على أنفسهم بالكفر(1/393)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
{قال ادخلوا} أَيْ: قال الله تعالى لهم: ادخلوا النَّار {في أمم} أَيْ: مع {أمم قد خلت من قبلكم} {كلما دخلت أمة} النَّار {لعنت أختها} يعني: الأمم التي سبقتها إلى النَّار لأنَّهم ضلوا باتِّباعهم {حتى إذا ادَّاركوا فيها} أَيْ: تداركوا وتلاحقوا جميعاً في النَّار {قالت أخراهم} أَيْ: أُخراهم دخولاً إلى النَّار {لأولاهم} دخولاً يعني: قالت الأتباع للقادة: {ربنا هؤلاء أضلونا} لأَنَّهم شرعوا لنا أن نتَّخذ من دونك إلهاً {فآتهم عذاباً ضعفاً} أَضْعِفْ عليهم العذاب بأشدَّ ممَّا تعذِّبنا به {قال} الله تعالى: {لكلٍّ ضعف} للتَّابع والمتبوع عذابٌ مضاعفٌ {ولكن لا تعلمون} يا أهل الكتاب في الدًّنيا مقدار ذلك وقوله:(1/393)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{فما كان لكم علينا من فضل} لأنَّكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواءٌ(1/393)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{إنَّ الذين كذبوا بآياتنا} بحججنا التي تدلُّ على توحيد الله ونبوَّة الأنبياء {واستكبروا عنها} ترفَّعوا عن الإِيمان بها والانقياد لأحكامها {لا تفتح لهم أبواب السماء} لا تصعد أرواحهم ولا أعمالهم ولا شيء ممَّا يريدون الله به إلى السَّماء {ولا يدخلون الجنة حتى يلج} يدخل {الجمل في سم الخياط} ثقب الإِبرة يعني: أبدأً {وكذلك} وكما وصفنا {نجزي المجرمين} أَي: المكذِّبين بآيات الله ثمَّ أخبر عن إحاطة النَّار بهم من كلِّ جانبٍ فقال:(1/394)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} يعني: لهم منها غطاءٌ ووطاءٌ وفراشٌ ولحافٌ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} يعني: الذين أشركوا بالله(1/394)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وسعها} أَيْ: إلاَّ ما تطيقه ولا تعجز عنه والمعنى: لا نكلِّف نفساً منهم إلاَّ وسعها ثمَّ أخبر بباقي الآية عن مآلهم(1/394)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{ونزعنا ما في صدورهم من غل} أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدُّنيا {تجري من تحتهم الأنهار} من تحت منازلهم وقصورهم فإذا استقرُّوا في منازلهم {قالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لهذا} أَيْ: هدانا لما صيرَّنا إلى هذا الثَّواب من العمل الذي أدَّى إليه وأقرُّوا أنَّ المهتدي مَنْ هدى الله بقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} فحين رأوا ما وعدهم الرُّسل عياناً قالوا: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكُم الْجَنَّةُ} قيل لهم: هذه تلكمُ الجنَّة التي وُعدتم {أورثتموها} أُورثتم منازل أهل النَّار فيها لو عملوا بطاعة الله {بما كنتم تعملون} توحِّدون الله وتطيعونه(1/394)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وجدنا ما وعدنا ربنا} في الدُّنيا من الثَّواب {حقاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من العذاب {حقاً} وهذا سؤال تعييرٍ وتقريرٍ فأجاب أهل النَّار و {قالوا نعم فأذَّن مؤذنٍ بينهم} نادى منادٍ وسطهم نداءً يُسمع الفريقين وهو صاحب الصُّور {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(1/395)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{الذين يصدون} يمنعون {عن سبيل الله} دين الله وطاعته {ويبغونها عوجاً} ويطلبونها بالصَّلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظِّمه الله(1/395)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{وبينهما} بين أهل الجنَّة وبين أهل النَّار {حجاب} حاجزٌ وهو سور الأعراف {وعلى الأعراف} يريد: سور الجنَّة {رجال} وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم {يعرفون كلاً بسيماهم} يعرفون أهل الجنَّة ببياض الوجوه وأهل النَّار بسوادها وذلك لأنَّ موضعهم عالٍ مرتفع فهم يرون الفريقين {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أن سلام عليكم} إذا نظروا إلى الجنَّة سلَّموا على أهلها {لم يدخلوها} يعني: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنَّة {وهم يطمعون} في دخولها(1/395)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار} أَيْ: جهة لقائهم(1/395)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} من أهل النَّار {يعرفونهم بسيماهم} من رؤساء المشركين فيقولون لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جمعكم} المال واستكثارهم منه {وما كنتم تستكبرون} عن عبادة الله ثمَّ يقسم أصحاب النَّار أنَّ أصحاب الأعراف داخلون معهم النَّار فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف:(1/396)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
{أهؤلاء الذين أقسمتم} يا أصحاب النَّار {لا ينالهم الله برحمة} يقولون لأصحاب الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ولا أنتم تحزنون}(1/396)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يعني: الطَّعام وهذا يدلُّ على جوعهم وعطشهم {قالوا إنَّ الله حرمهما على الكافرين} تحريم منع لا تحريم تعبُّدٍ(1/396)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{الذين اتخذوا دينهم} الذي شُرع لهم {لهواً ولعباً} يعني: المستهزئين المُقتسمين {فاليوم ننساهم} نتركهم في جهنَّم {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذا} كما تركوا العمل لهذا اليوم {وما كانوا بآياتنا يجحدون} أَيْ: وكما جحدوا بآياتنا ولم يُصدِّقوها(1/396)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{ولقد جئناهم} يعني: المشركين {بكتاب} هو القرآن {فصلناه} بيّناه {على علم} فيه يعني: ما أُودع من العلوم وبيان الأحكام {هدى} هادياً {ورحمة} وذا رحمةٍ {لقوم يؤمنون} لقومٍ أريد به هدايتهم وإيمانهم(1/396)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{هل ينظرون} ينتظرون أَيْ: كأنَّهم ينتظرون ذلك لأنَّه يأتيهم لا محالة {إلاَّ تأويله} عاقبة ما وعد الله في الكتاب من البعث والنُّشور {يوم يأتي تأويله} وهو يوم القيامة {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} تركوا الإِيمان به والعمل له من قبل إتيانه: {قد جاءت رسل ربنا بالحق} بالصِّدق والبيان {فهل لنا من شفعاء} هل يشفع لنا شافعٌ؟ {أو} هل {نردُّ} إلى الدُّنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كنا نعمل} نوحِّد الله ونترك الشِّرك يقول الله: {قد خسروا أنفسهم} حين صاروا إلى الهلاك {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} سقط عنهم ما كانوا يقولونه مِنْ أنَّ مع الله إلهاً آخر(1/396)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{إنَّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} أَيْ: في مقدار ستة أيَّامٍ من الأحد إلى السَّبت واجتمع الخلق في الجمعة {ثم استوى على العرش} أقبل على خلقه وقصد إلى ذلك بعد خلق السماوات والأرض {يغشي الليل النهار} يُلبسه ويُدخله عليه {يطلبه حثيثاً} يطلب اللَّيل دائباً لا غفلة له {والشمس} وخلق الشَّمس {والقمر والنجوم مسخرات} مُذلَّلاتٍ لما يُراد منها من طلوعٍ وأُفولٍ وسيرٍ ورجوعٍ {بأمره} بإذنه {ألا له الخلق} يعني: إنَّ جميع ما في العالم مخلوق له {و} له {الأمر} فيهم يأمر بما أراد {تبارك الله} تمجد وارتفع وتعالى(1/397)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
{ادعوا ربكم تضرُّعاً} أَيْ: تملُّقاً {وخفية} سرَّاً {إنه لا يحب المعتدين} المجاوزين ما أُمروا به(1/397)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ولا تفسدوا في الأرض} بالشِّرك والمعاصي وسفك الدِّماء {بعد} إصلاح الله إياها ببعث الرَّسول {وادعوه خوفاً} من عقابه {وطمعا} في ثوابه {إِنَّ رحمة الله} ثوابَ الله {قريب من المحسنين} وهم الذين يطيعون الله فيما أمر(1/398)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
{وهو الذي يرسل الرياح بشرا} طيِّبة ليِّنة من النَّشر وهو الرَّائحة الطَّيِّبة وقيل: مُتفرِّقةً في كلِّ جانبٍ بمعنى المنتشرة {بين يدي رحمته} قدَّام مطره {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} أَيْ: حملت هذه الرِّياح {سحاباً ثقالاً} بما فيها من الماء سُقنا السَّحاب {لبلد ميت} إلى مكان ليس فيه نباتٌ {فأنزلنا به} بذلك البلد {الماء فأخرجنا} بذلك الماء {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الموتى} أَيْ: نحيي الموتى مثل ذلك الإِحياء الذي وصفناه في البلد الميت {لعلكم تذكرون} لعلَّكم بما بيَّنا تتَّعظون فتستدلُّون على توحيد الله وقدرته على البعث ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال:(1/398)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{والبلد الطيب} يعني: العذبُ التُّراب {يخرج نباته بإذن ربه} وهذا مثل المؤمن يسمع القرآن فينتفع به ويحسن أثره غليه {والذي خبث} ترابه وأصله {لا يخرج} نباته {إلاَّ نكداً} عسراً مُبطئاً وهو مثل الكافر يسمع القرآن ولا يُؤثِّر فيه أثراً محموداً كالبلد الخبيث لا يُؤثِّر فيه المطر {كذلك نصرِّف الآيات} نبيِّنها {لقوم يشكرون} نِعَمَ الله ويطيعونه(1/398)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} ظاهرٌ إلى قوله:(1/399)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مبين}(1/399)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رسول من رب العالمين}(1/399)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
{وأنصح لكم} أَيْ: أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه {وأعلم من الله ما لا تعلمون} من أنَّه غفورٌ لمَنْ رجع عن معاصيه وأنَّ عذابه أليمٌ لمن أصرَّ عليها(1/399)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم} موعظةٌ من الله {على رجل} على لسان رجل {منكم} تعرفون نسبه وقوله:(1/399)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{إنهم كانوا قوماً عمين} عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى وقدرته(1/399)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
{وإلى عاد أخاهم} وأرسلنا إلى عادٍ أخاهم ابن أبيهم {هوداً قال يا قوم اعبدوا الله} وحِّدوا اللَّهَ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تتقون} أفلا تخافون نقمته(1/399)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
{قال الملأ} الرُّؤساء والجماعة {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سفاهة} حمقٍ وجهلٍ {وإنا لنظنك من الكاذبين} فيما جئت به من ادِّعاء النُّبوَّة وقوله:(1/399)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رسول من رب العالمين}(1/399)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
{ناصح أمين} أَيْ: على الرِّسالة لا أكذب فيها(1/399)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ} أَيْ: استخلفكم في الأرض بعد هلاكهم {وزادكم في الخلق بسطة} فضيلةً في الطُّول {فاذكروا آلاء الله} نِعَمَ الله عليكم {لعلكم تفلحون} كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة وقوله:(1/399)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
{فأتنا بما تعدنا} أَيْ: من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنَّ العذاب نازلٌ بنا(1/400)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{قال: قد وقع} وجب {عليكم من ربكم رجس وغضب} عذابٌ وسخطٌ {أتجادلونني في أسماء سَمَّيْتُموها} كانت لهم أصنام سمَّوها أسماءً مختلفةً فلمَّا دعاهم الرَّسول إلى التَّوحيد استنكروا عبادة الله وحده {ما نَزَّلَ الله بها من سلطان} من حجةٍ وبرهانٍ لكم في عبادتها {فَانْتَظِرُوا} العذاب {إني معكم من المنتظرين} ذلك في تكذيبهم إياي وقوله:(1/400)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}(1/400)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{فذروها تأكل في أرض الله} أَيْ: سهَّل الله عليكم أمرها فليس عليكم رزقها ولا مؤونتها وقوله:(1/400)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{وبوَّأكم في الأرض} أَيْ: أسكنكم وجعل لكم فيها مساكن {تتخذون من سهولها قصوراً} تبنون القصور بكلِّ موضعٍ {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} يريد: بيوتاً في الجبال تُشققونها وكانوا يسكنونها شتاءً ويسكنون القصور بالصَّيف(1/400)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
{قال الملأ} وهم الأشراف {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} عن عبادة الله {للذين استضعفوا} يريد المساكين {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ من قوله: {للذين استضعفوا} لأنَّهم المؤمنون(1/401)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافرون}(1/401)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
{فعقروا الناقة} نحروها {وعتوا عن أمر ربهم} عصوا الله وتركوا أمره في النَّاقة {وقالوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب(1/401)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{فأخذتهم الرجفة} وهي الزَّلزلة الشَّديدة {فأصبحوا في دارهم} بلدهم {جاثمين} خامدين مَيِّتين(1/401)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{فتولى عنهم} أعرض عنهم صالحٌ بعد نزول العذاب بهم {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ونصحت لكم} خوَّفتكم عقاب الله وهذا كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر(1/401)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
{ولوطاً} وأرسلنا لوطاً أَيْ: واذكر لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني: إتيان الذُّكور {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قالوا: ما نزا ذَكَرٌ على ذَكَرٍ حتى كان قوم لوطٍ(1/401)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
{إنكم لتأتون الرجال} الآية(1/401)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أخرجوهم من قريتكم} يعني: لوطاً وأتباعه {إنهم أناس يتطهرون} عن إتيان الرِّجال في أدبارهم(1/402)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
{فأنجيناه وأهله} ابنتيه {إلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في عذاب الله(1/402)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{وأمطرنا عليهم مطراً} يعني: حجارةً(1/402)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{وإلى مدين} وهم قبيلةٌ من ولد إبراهيم عليه السَّلام {قد جاءتكم بينة من ربكم} موعظةٌ {فأوفوا الكيل والميزان} أَتِمُّوهُمَا وكانوا أهلَ كفرٍ وبخسٍ للمكيال والميزان {ولا تفسدوا في الأرض} لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثه شعيبٍ والأمر بالعدل(1/402)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{ولا تقعدوا بكلِّ صراط توعدون} لا تقعدوا على طريق النَّاس فتخوِّفون أهل الإِيمان بشعيبٍ بالقتل ونحو ذلك وتأخذون ثياب من مرَّ بكم من الغرباء {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} وتصرفون عن الإسلام مَنْ آمن بشعيب {وتبغونها عوجاً} تلتمسون لها الزَّيغ {واذكروا إذْ كنتم قليلاً فكثَّركم} بعد القلَّة وأعزَّكم بعد الذِّلة وذلك أنَّه كان مدين بن إبراهيم وزوجه ريثا بنت لوط فولدت حتى كثر عدد أولادها(1/402)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}(1/403)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا او لتعودنَّ في ملتنا} معناه أنَّهم قالوا لشعيب وأصحابه: ليكوننَّ أحد الأمرين إمَّا الإِخراج من القرية أو عودكم في ملَّتنا ولا نفارقكم على مخالفتنا فقال شعيب: {أَوَ لَوْ كُنَّا كارهين} أَيْ: تجبروننا على العود في ملَّتكم وإنْ كرهنا ذلك؟ وقوله:(1/403)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{وما يكون لنا أن نعود فيها إلاَّ أن يشاء الله ربنا} أَيْ: إلاَّ أن يكون قد سبق في علم الله وفي مشيئته أن نعود فيها {وَسِعَ ربنا كلَّ شيء علماً} علم ما يكون قبل أن يكون {ربنا افتح} احكم واقضِ {بيننا وبين قومنا بالحق} وقوله:(1/403)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
{وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}(1/403)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين}(1/403)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{كأن لم يغنوا فيها} أَيْ: لم يقيموا فيها ولم ينزلوا وقوله:(1/403)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{فكيف آسى على قوم كافرين} أَيْ: كيف يشتدُّ حزني عليهم ومعناه: الإِنكار أَيْ: لا آسى(1/403)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{وما أرسلنا في قرية} في مدينةٍ {من نبي} فكذَّبه أهلها {إلاَّ أخذنا} هم {بالبأساء والضراء} بالفقر والجوع {لعلهم يضَّرَّعون} كي يستكينوا ويرجعوا(1/404)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ثمَّ بدلنا مكان السيئة الحسنة} بدل البؤسِ والمرضِ الغنى والصحَّة {حتى عفوا} كثروا وسمنوا وسمنت أموالهم {وقالوا} من غِرَّتهم وجهلهم: {قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء} قد أصاب آباءنا في الدَّهر مثل ما أصابنا وتلك عادة الدَّهر ولم يكن ما مسَّنا عقوبة من الله فكونوا على ما أنتم عليه فلمَّا فسدوا على الأمرين جميعاً أخذهم الله بغتة {وهم لا يشعرون} بنزول العذاب وهذا تخويفٌ لمشركي قريش(1/404)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
{ولو أنَّ أهل القرى آمنوا} وحَّدوا الله {واتقوا} الشِّرك {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ من السماء} بالمطر {و} من {الأرض} بالنَّبات والثِّمار {ولكن كذبوا} الرسلَ {فأخذناهم} بالجدوبة والقحط {بِمَا كانوا يكسبون} من الكفر والمعصية(1/404)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
{أفأمن أهل القرى} يعني: أهل مكَّة وما حولها ومعنى هذه الآية وما بعدها: أنَّه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلاً ولا نهاراً بعد تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وقوله:(1/404)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
{وهم يلعبون} أَيْ: وهم في غير ما يُجدي عليهم(1/404)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{أفأمنوا مكر الله} عذاب الله أن يأتيهم بغتةً(1/404)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{أَوَلَمْ يهد} يتبيَّن {للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} كفار مكَّة ومَنْ حولهم {أن لو نشاء أصبناهم} عذَّبناهم {بذنوبهم} ثمَّ {ونطبع على قلوبهم} حتى يموتوا على الكفر فيدخلوا النَّار والمعنى: ألم يعلموا أنَّا لو نشاء فعلنا ذلك(1/400)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{تلك القرى} التي أهلكتُ أهلها {نقص عليك من أنبائها} نتلو عليك من أخبارها كيف أُهلكت {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} يعني: الذين أُرسلوا إليهم {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عندإرسال الرُّسل بما كذَّبوا يوم أخذ ميثاقهم فأقرُّوا بلسانهم وأضمروا التَّكذيب {كذلك} أَيْ: مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفَّار الأمم {يطبع الله على قلوب الكافرين} الذين كتب عليهم ألاَّ يؤمنوا أبداً(1/405)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد} يعني: الوفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق(1/405)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
{ثم بعثنا من بعدهم} الأنبياء الذين جرى ذكرهم {مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} فجحدوا بها وكذَّبوا {فانظر} بعين قلبك {كيف كان} عاقبتهم وكيف فعلنا بهم وقوله:(1/405)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رب العالمين}(1/405)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
{حقيق على أن لا أقول} أَيْ: أنا حقيق بأن لا أقول {على الله إلاَّ} ما هو {الحق} وهو أنَّه واحدٌ لا شريك له {قد جئتكم ببينة من ربكم} أي: بأمرٍ من ربِّكم وهو العصا {فأرسل معي بني إسرائيل} أي: أطلق عليهم وخلِّهم وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة وقوله:(1/405)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إن كنت من الصادقين}(1/405)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
{فإذا هي} أَيْ: العصا {ثعبان} وهو أعظم ما يكون من الحيَّات {مبين} بيِّنٌ أنَّه حيَّة لا لبس فيه(1/406)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
{ونزع يده} أخرجها من جيبه(1/406)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}(1/406)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
{يريد أن يخرجكم من أرضكم} هذا قول الأشراف من قوم فرعون قالوا: يريد موسى أن يخرجكم معشرَ القبط من أرضكم ويزيل ملككم بتقوية عدوِّكم بني إسرائيل فقال فرعون لهم: {فماذا تأمرون} أَيش تُشيرون به عليَّ؟(1/406)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
{قالوا أرجه وأخاه} أَخِّرْ أمره وأمر أخيه ولا تعجل {وأرسل في المدائن} في مدائن صعيد مصر {حاشرين} رجالاً يحشرون إليك مَنْ في الصَعيد من السَّحرة فأرسل {وجاء السحرة فرعون} وطالبوه بالمال والجوائز إنْ غلبوه فأجابهم فرعون إلى ذلك وهو قوله:(1/406)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}(1/406)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}(1/406)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
{قال نعم وإنكم لمن المقربين} أَيْ: ولكم من الأجر المنزلة الرَّفيعة عندي(1/406)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
{قالوا يا موسى إمَّا إن تلقي} عصاك {وإمَّا أن نكون نحن الملقين} ما معنا من الحبال والعصي(1/406)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسترهبوهم} قلبوها عن صحَّة إدراكها حيث رأوها حيَّات {وجاؤوا بسحر عظيم} وذلك أنَّهم ألقوا حبالاً غلاظاً فإذا هي حيَّاتٌ قد ملأت الوادي(1/407)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هي تلقف} تبتلع {ما يأفكون} يكذبون فيه وذلك أنَّهم زعموا أنَّ عصيَّهم وحبالهم حَيّاتٍ وَكذبوا في ذلك(1/407)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
{فوقع الحق} ظهر وغلب(1/407)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
{فغلبوا هنالك وانقلبوا} وانصرفوا {صاغرين} ذليلين(1/407)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{وألقي السحرة ساجدين} خرُّوا لله عابدين سامعين مطيعين(1/407)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
{قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ}(1/407)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}(1/407)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أصدَّقتم موسى من قبل أمري إيَّاكم؟ ! {إنَّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة} لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع {لتخرجوا منها أهلها} لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها وتتغلبوا عليها بسحركم {فسوف تعلمون} ما يظهر لكم(1/407)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} على مخالفة وهو أن يقطع من كلِّ شقٍّ طرف(1/407)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
{قالوا إنا إلى ربنا منقلبون} راجعون بالتَّوحيد والإِخلاص(1/407)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
{وما تنقم منا} وما تطعن علينا ولا تكره منَّا {إلاَّ أن آمنا بآيات ربنا} ما أتى به موسى من العصا واليد {ربنا أفرغ علينا صبراً} اصبب علينا الصَّبر عند الصَّلب والقطع حتى لا نرجع كفَّاراً {وتوفنا مسلمين} على دين موسى ثمَّ أغرى الملأ من قوم فرعون بموسى فقالوا:(1/408)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} ليدعوا النَّاس إلى مخالفتك وعبادة غيرك {ويذرك وآلهتك} وذلك أنَّ فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها وقال: أنا ربُّكم ورب هذه الأصنام فلذلك قوله: {أنا ربُّكم الأعلى} فقال فرعون: {سنقتل أَبْناءَهم} وكان قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل فلمَّا كان من أمر موسى ما كان أعاد عليهم القتل فذلك قوله: {سنقتل أبناءهم ونَسْتَحْيِيَ نساءهم} للمهنة والخدمة {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} وإنَّا على ذلك قادرون فشكا بنو إسرائيل إلى موسى إعادة القتل على أبنائهم فقال لهم موسى:(1/408)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} على ما يُفعل بكم {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده} أطمعهم موسى أن يعطيهم الله ملكهم ومالهم {والعاقبة للمتقين} أَيْ: الجنَّة لمن اتَّقى وقيل النَّصر والظَّفر(1/408)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{قالوا أوذينا} بالقتل الأوَّل {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بالرِّسالة {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادة القتل علينا والإِتعاب في العمل {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون وقومه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} يُملِّككم ما كان يملك فرعون {فينظر كيف تعملون} فيرى ذلك لوقوع ذلك منكم(1/408)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{ولقد آخذنا آل فرعون بالسنين} بالجدوب لأهل البوادي {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأهل القرى وصرَّفنا الآيات: بيَّناها لهم من كلِّ نوعٍ {لعلهم يذكرون} كي يتَّعظوا(1/409)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{فإذا جاءتهم الحسنة} الخصب وسعة الرِّزق {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أَيْ: إنَّا مستحقُّوه على العادة التي جرت لنا من النِّعمة ولم يعلموا أنَّه من الله فيشكروا عليه {وإن تصبهم سيئة} قحط وجدب {يطيروا} يتشاءموا {بموسى} وقومه وقالوا: إنَّما أصابنا هذا الشرُّ بشؤمهم {ألا إنَّما طائرهم عند الله} شؤمهم جاءهم بكفرهم بالله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنَّ الذي أصابهم من الله(1/409)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
{وقالوا} بموسى: {مهما تأتنا به} أَيْ: متى ما تَأْتِنَا بِهِ {مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نحن لك بمؤمنين} فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم السَّماء بالماء حتى امتلأت بيوت القِبْطِ ماءً ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة فذلك قوله:(1/409)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{فأرسلنا عليهم الطوفان} ودام ذلك سبعة أيَّام فقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} يكشف عنا فنؤمن لك فدعا ربَّه فكشف فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامَّة زروعهم وثمارهم فوعدوه أن يؤمنوا إن كشف عنهم فكشف فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم القمَّل وهو الدّباء الصِّغار البق التي لا أجنحة لها فتتبَّعَ ما بقي من حروثهم وأشجارهم فصرخوا فكشف عنهم فلم يؤمنوا فعادوا بكفرهم فأرسل الله عليهم الضَّفادع تدخل في طعامهم وشرابهم فعاهدوا موسى أن يؤمنوا فكشف عنهم فعادوا لكفرهم فأرسل الله عليهم الدَّم فسال النِّيل عليهم دماً وصارت مياههم كلُّها دماً فذلك قوله: {آيات مفصلات} مبيَّنات {فاستكبروا} عن عبادة الله(1/409)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
{ولما وقع عليهم الرجز} أَيْ: العذاب وهو ما كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده {قَالُوا يَا مُوسَى ادع لنا ربك بما عهد عندك} بما أوصاك به وتقدَّم إليك أن تدعوه به {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل} وقوله:(1/410)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
{إلى أجل هم بالغوه} يعني: إلى الأجل الذي غَرَّقهم فيه {إذا هم ينكثون} ينقضون العهد ولا يوفون(1/410)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{فانتقمنا منهم} سلبنا نعمتهم بالعذاب {فأغرقناهم في اليم} في البحر {بأنهم كذبوا بآياتنا} جزاء تكذيبهم {وكانوا عنها غافلين} غير معتبرين بها(1/410)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{وأورثنا القوم} ملَّكناهم {الذين كانوا يستضعفون} بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم {مشارق الأرض ومغاربها} جهات شرق أرض الشَّام وجهات غربها {التي باركنا فيها} بإخراج الزُّروع والثِّمار والأنهار والعيون {وتمت كلمة ربك الحسنى} مواعيده التي لا خلف فيها بما كانوا يحبُّون وذلك جزاء صبرهم على صنيع فرعون {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه} أهلكنا ما عمل فرعون وقومه في أرض مصر {وما كانوا يعرشون} وما بنوا المنازل والبيوت(1/410)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} عبرنا بهم الْبَحْرَ {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لهم} يعبدونها مقيمين عليها {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً} من دون الله {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} نعمة الله عليكم وما صنع بكم حيث توهَّمتم أنَّه يجوز عبادة غيره(1/411)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{إنَّ هؤلاء} يعني: الذين عكفوا على أصنامهم {متبَّرٌ ما هم فيه} مهلَكٌ ومدَمَّرٌ {وباطل ما كانوا يعملون} يعني: إنَّ عملهم للشَّيطان ليس لله فيه نصيبٌ(1/411)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
{قال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} أطلب لكم {إِلَهًا} معبوداً {وهو فضلكم على العالمين} على عالمي زمانكم بما أعطاكم من الكرامات(1/411)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ ربكم عظيم}(1/411)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} يترقَّب انقضاءها للمناجاة وهي ذو القعدة أمره الله تعالى أن يصوم فيها فلمَّا انسلخ الشَّهر استاك لمناجاة ربِّه يريد إزالة الخلوف فأُمر بصيام عشرةٍ من ذي الحجَّة ليكلِّمه بخُلوفِ فيه فذلك قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} أَيْ: الوقت الذي قدَّره الله لصوم موسى {أربعين ليلة} فلمَّا أراد الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومه وهو معنى قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأصلح} أَيْ: وارفق بهم {ولا تتبع سبيل المفسدين} لا تطع مَنْ عصى الله ولا توافقه على أمره(1/411)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} أَيْ: في الوقت الذي وقَّتنا له {وكلمه ربُّه} فلمَّا سمع كلام الله {قال ربِّ أرني} نفسك {أنظر إليك} والمعنى: إنَّي قد سمعتُ كلامك فأنا أحبُّ أن أراك {قال لن تراني} في الدُّنيا {ولكن} اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك وهو الجبل {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} أَيْ: سكن وثبت {فسوف تراني} وإن لم يستقرَّ مكانه فإنَّك لا تطيق رؤيتي كما أنَّ الجبل لا يطيق رؤيتي {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} أَيْ: ظهر وبان {جعله دكاً} أَيْ: مدقوقاً مع الأرض كِسَراً تراباً {وخرَّ} وسقط {موسى صعقاً} مغشياً عليه {فلما أفاق قال سبحانك} تنزيهاً لك من السُّوء {تبتُ إليك} من مسألتي الرُّؤية في الدُّنيا {وأنا أول المؤمنين} أوَّل قومي إيماناً(1/412)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{قال يا موسى إني اصطفيتك} اتَّخذتك صفوةً {على الناس برسالاتي} أَيْ: بوحيي إليك {وبكلامي} كلَّمتك من غير واسطة {فخذ ما آتيتك} من الشَّرف والفضيلة {وكن من الشاكرين} لأنعمي في الدنيا والآخرة(1/412)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{وكتبنا له في الألواح} يعني: ألواح التَّوراة {من كل شيء} يحتاج إليه في أمر دينه {موعظة} نهياً عن الجهل {وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ} من الحلال والحرام {فخذها} أَيْ: وقلنا له: فخذها {بقوة} بجدٍّ وصحِّةٍ وعزيمةٍ {وأمر قومك} أن {يأخذوا بأحسنها} أَيْ: بحسنها وكلُّها حسن {سأريكم دار الفاسقين} يعني: جهنَّم أَيْ: ولتكن على ذكرٍ منكم لتحذروا أن تكونوا منهم(1/412)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
{سأصرف عن آياتي} يعني: السماوات والأرض أصرفهم عن الاعتبار بما فيها {الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} يعني: المشركين يقول: أعاقبهم بحرمان الهداية {وإن يروا سبيل الرشد} الهدى والبيان الذي حاء من الله {لا يتخذوه سبيلاً} ديناً {وإن يروا سبيل الغي} طاعة الشَّيطان {يتخذوه سبيلاً} ديناً {ذلك} فعل الله بهم {بأنهم كذبوا بآياتنا} جحدوا الإِيمان بها {وكانوا عنها غافلين} غير ناظرين فيها ولا معتبرين بها(1/413)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} يريد: الثَّواب والعقاب {حبطت أعمالهم} ضلَّ سعيهم {هل يجزون إلاَّ ما} أَيْ: جزاء ما {كانوا يعملون}(1/413)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
{واتخذ قوم موسى مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ: من بعد انطلاقه إلى الجبل {من حليِّهم} التي بقيت في أيديهم ممَّا استعاروه من القبط {عجلاً جسداً} لحماً ودما {له خوار} صوت {الم يروا} يعني: قوم موسى {أنه} أنَّ العجل {لا يكلَِّمهم ولا يهديهم سبيلاً} لا يرشدهم إلى دينٍ {اتخذوه} أَيْ: إلهاً ومعبوداً {وكانوا ظالمين} مشركين(1/413)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{ولما سُقط في أيديهم} أَيْ: ندموا على عبادتهم العجل {ورأوا أنهم قد ضلوا} قد ابتلوا بمعصية الله وهذا كان بعد رجوع موسى إليهم(1/414)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان} عليهم {أسفاً} حزيناً لأنَّ الله تعالى فتنهم {قال بئسما خلفتموني من بعدي} بئسما عملتم من بعدي حين اتَّخذتم العجل إلهاً وكفرتم بالله {أعجلتم أمر ربكم} أسبقتم باتخاذ العجل ميعاد ربِّكم؟ يعني: الأربعين ليلة وذلك أنَّه كان قد وعدهم أن يأتيهم بعد ثلاثين ليلةَ فلمَّا لم يأتيهم على رأس الثَّلاثين قالوا: إنَّه قد مات {وألقى الألواح} التي فيها التَّوراة {وأخذ برأس أخيه} بذؤابته وشعره {يجرُّه إليه} إنكاراً عليه إذ لم يلحقه فَيُعرِّفه ما فعل بنو إسرائيل كما قال في سورة طه: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أن لا تتبعنِ} الآية فأعلمه هارون أنَّه أَنَّما أقام بين أظهرهم خوفاً على نفسه من القتل وهو قوله: {قال ابن أمَّ} وكان أخاه لأبيه وأُمِّه ولكنَّه قال: يا ابنَ أمَّ ليرقِّقه عليه {إنَّ القوم استضعفوني} استذلُّوني وقهروني {وكادوا} وهمُّوا أن {يقتلونني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} يعني: أصحاب العجل بضربي وإهانتي {ولا تجعلني} في موجدتك وعقوبتك لي {مع القوم الظالمين} الذين عبدوا العجل فلمَّا عرف براءة هارون ممَّا يوجب العتب عليه إذ بلغ من إنكاره على عبدة العجل ما خاف على نفسه القتل(1/414)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
{قال ربِّ اغفر لي} ما صنعتُ إلى أخي {ولأخي} إن قصَّر في الإِنكار {وأدخلنا في رحمتك} جنَّتك(1/414)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني: اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أبناء الذين اتَّخذوا العجل إلهاً فأضيف إليهم تعييراً لهم بفعل آبائهم {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} عذابٌ في الآخرة {وذلة في الحياة الدنيا} وهي الجزية {وكذلك نجزي المفترين} كذلك أعاقب مَن اتَّخذ إلهاً دوني(1/415)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
{والذين عملوا السيئات} الشِّرك {ثم تابوا} رجعوا عنها {وآمنوا} صدَّقوا أنَّه لا إله غيري {إنَّ ربك من بعدها} من بعد التَّوبة {لغفور رحيم}(1/415)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{ولما سكت} سكن {عن موسى الغضب أخذ الألواح} التي كان ألقاها {وفي نسختها} وفيما كُتب فيها: {هدىً} من الضَّلالة {ورحمة} من العذاب {لِلَّذِينَ هم لربهم يرهبون} للخائفين من ربِّهم(1/415)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{واختار موسى قومه} من قومه {سبعين رجلاً لميقاتنا} أمره الله تعالى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعده لذلك موعداً فاختار موسى سبعين رجلاً ليعتذروا فلمَّا سمعوا كلام الله قالوا لموسى: أرنا الله جهرةٌ فأخذتهم {الرَّجفة} وهي الحركة الشَّديدة فماتوا جميعاً فقال موسى: {رب لو شئت أهلكتهم} وإيَّاي قبل خروجنا للميقات وكان بنو إسرائيل يُعاينون ذلك ولا يتهمونني وظن أنَّهم أهلكوا باتِّخاذ أصحابهم العجل فقال: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} وإنَّما أُهلكوا لمسألتهم الرُّؤية {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أَيْ: تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لو تكن إلاَّ فتنتك أي: اختبارك وابتلاؤك أضللتَ بها قوماً فافتتنوا وعصمتَ آخرين وهذا معنى قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تشاء}(1/415)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{واكتب لنا} أوجب لَنَا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} أَي: اقبل وفادتنا ورُدَّنا بالمغفرة والرَّحمة {إنا هُدْنا إليك} تبنا ورجعنا إليك بالتَّوبة {قال عذابي أصيب به من أشاء} يعني: إنَّ رحمته في الدُّنيا وسعت البرَّ والفاجر وهي في الآخرة للمؤمنين خاصَّةً وهذا معنى قوله: {فسأكتبها} فسأوجبها في الآخرة {للذين يتقون} يريد: أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم {ويؤتون الزكاة} صدقات الأموال عند محلها {والذين هم بآياتنا يؤمنون} يصدِّقون بما أنزل على محمد والنَّبييِّن(1/416)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ} وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وكانت هذه الخلَّة مؤكِّدة لمعجزته في القرآن {الذي يجدونه} بنعته وصفته {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بالتَّوحيد وشرائع الإِسلام {وينهاهم عن المنكر} عبادة الأوثان وما لا يُعرف في شريعة {ويحلُّ لهم الطيبات} يعني: ما حرَّم عليهم في التَّوراة من لحوم الإِبل وشحوم الضَّأن {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الميتة والدَّم وما ذُكر في سورة المائدة {ويضع عنهم إصرهم} ويُسقط عنهم ثقل العهد الذي أُخذ عليهم {والأغلال التي كانت عليهم} الشَّدائد التي كانت عليهم كقطع أثر البول وقتل النَّفس في التَّوبة وقطع الأعضاء الخاطئة {فالذين آمنوا به} من اليهود {وعزَّروه} ووقَّروه {ونصروه} على عدوه {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} يعني: القرآن الآيتين(1/416)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
{قل يا أيها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي له ملك السماوات وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}(1/417)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق} يدعون إلى الحقِّ {وبه يعدلون} وبالحقِّ يحكمون وهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يصل إلينا منهم أحد ولا منَّا إليهم وقوله:(1/417)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{فانبجست} أَي: انفجرت وهذه الآية مفسرة في سورة اليقرة إلى قوله:(1/417)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}(1/418)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بما كانوا يظلمون}(1/418)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{واسألهم} يعني: سؤال توبيخٍ وتقريرٍ {عن القرية} وهي أيلة {التي كانت حاضرة البحر} مُجاورته {إذ يعدون في السبت} يظلمون فيه بصيد السَّمك {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} ظاهرة على الماء {ويوم لا يسبتون} لا يفعلون ما يفعل في السَّبت يعني: سائر الأيام {لا تأتيهم} الحيتان {كذلك} مثل هذا الاختبار الشَّديد {نبلوهم} نختبرهم {بما كانوا يفسقون} بعصيانهم الله أَيْ: شدَّدتُ عليهم المحنة لفسقهم ولمَّا فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاث فلاق: فرقةٌ صادت وأكلت وفرقةٌ نهت وزجرت وفرقةٌ أمسكت عن الصَّيد وهم الذين قال الله تعالى:(1/418)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
{وإذ قالت أمة منهم} قالوا للفرقة النَّاهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنَّهم غير مُقلعين فقالت الفرقة النَّاهية للذين لاموهم: {معذرة إلى ربكم} أَي: الأمر بالمعروف واجبٌ علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله {ولعلهم يتقون} فيتركون الصَّيد في السَّبت(1/418)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{فلما نسوا ما ذكروا به} تركوا ما وُعظوا به {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} اعتدوا في السَّبت {بعذاب بئيس} شديدٍ وهو المسخ جزاءً لفسقهم وخروجهم عن أمر الله(1/418)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
{فلما عتوا} أَيْ: طغوا واستكبروا {عن ما نهوا عنه} أَيْ: عن ترك ما نُهوا عنه من صيد الحيتان يوم السَّبت {قلنا لهم} الآية مفسرة في سورة البقرة(1/419)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{وإذ تأذَّن ربك} قالَ وأعلم ربُّك {ليبعثنَّ} ليرسلنَّ {عليهم} على اليهود {مَنْ يسومهم} أَيْ: يذيقهم {سوء العذاب} إلى يوم القيامة يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم وأُمَّته يقاتلونهم أو يعطون الجزية {إنَّ ربك لسريع العقاب} لمن استحقَّ تعجيله(1/419)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{وقطعناهم في الأرض أمماً} فرَّقناهم في البلاد فلم يجتمع لهم كلمة {منهم الصالحون} وهم الذين آمنوا {ومنهم دون ذلك} الذين كفروا {وبلوناهم} عاملناهم معاملة المختبر {بالحسنات} بالخِصب والعافية {والسيئات} الجدب والشَّدائد {لعلهم يرجعون} كي يتوبوا(1/419)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{فَخَلَفَ من بعدهم خلف} من بعد هؤلاء الذين قطَّعناهم خلفٌ من اليهود يعني: أولادهم {ورثوا الكتاب} أخذوه عن آبائهم {يأخذون عرض هذا الأدنى} يأخذون ما أشرف لهم من الدُّنيا حلالاً أو حراماً {ويقولون سيغفر لنا} ويتمنَّون على الله المغفرة {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} وإن أصابوا عرضاً أيْ: متاعاً من الدُّنيا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه وهذا إخبارٌ عن حرصهم على الدُّنيا {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يقولوا على الله إلاَّ الحق} وأكَّد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلاَّ الحق فقالوا الباطل وهو قولهم: {سيغفر لنا} وليس في التَّوراة ميعاد المغفرة مع الإِصرار {ودرسوا ما فيه} أَيْ: فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من الميثاق لأنهم قد قرؤوه(1/419)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{والذين يمسكون بالكتاب} يؤمنون به ويحكمون بما فيه يعني: مؤمني أهل الكتاب {وأقاموا الصلاة} التي شرعها محمد صلى الله عليه وسلم {إنا لا نضيع أجر المصلحين} منهم(1/420)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم} رفعناه باقتلاع له من أصله يعني: ما ذكرنا عند قوله: {ورفعنا فوقكم الطور} الآية {وظنوا} وأيقنوا {أنَّه واقع بهم} إن خالفوا وباقي الآية فيما سبق(1/420)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظهورهم ذريتهم} أخرج الله تعالى ذريَّة آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء وجميعُ ذلك أخرجه من صلب آدم مثل الذَّرِّ وأخذ عليهم الميثاق أنَّه خالقهم وأنَّهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك بعد أن ركَّب فيهم عقولاً وذلك قوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} أي: قال: ألستُ بربكم {قالوا بلى} فأقرُّوا له بالربوبيَّة فقالت الملائكة عند ذلك {شهدنا} أَيْ: على إقراركم {أن} لا {تقولوا} لئلا تقولوا أي: لئلا يقول الكفار {يوم القيامة إنا كنا عن هذا} الميثاق {غافلين} لم نحفظه ولم نذكره ويذكرون الميثاق ذلك اليوم فلا يمكنهم الإنكار مع شهادة الملائكة وهذه الآية تذكيرٌ لجميع المكلَّفين ذلك الميثاق لأنَّها وردت على لسان صاحب المعجزة فقامت في النُّفوس مقام ما هو على ذكرٍ منها(1/420)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
{أو تقولوا} أَيُّها الذُّريَّة محتجِّين يوم القيامة: {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أَيْ: قبلنا ونقضوا العهد {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} صغاراً فاقتدينا بهم {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أَفَتُعَذَّبنا بما فعل المشركون المكذِّبون بالتَّوحيد وإَّنما اقتدينا بهم وكنا في غفلةٍ عن الميثاق وهذه الآية قطعٌ لمعذرتهم فلا يمكنهم الاحتجاج بكون الآباء على الشِّرك بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتَّوحيد على كلِّ واحدٍ من الذُّريَّة(1/421)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
{وكذلك} وكما بيَّنا في أمر الميثاق {نفصل الآيات} نبينها ليتدبها العباد {ولعلهم يرجعون} ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر(1/421)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{واتل عليهم} واقرأ واقصص يا محمَّد على قومك {نبأ} حبر {الذي آتيناه آياتنا} علَّمناه حجج التَّوحيد {فانسلخ} خرج {منها فأتبعه الشيطان} أدركه {فكأن من الغاوين} الضَّالين يعني: بلعم بن باعوراء أعان أعداء الله على أوليائه بدعائه فَنُزِعَ عنه الإِيمان(1/421)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{ولو شئنا لرفعناه بها} بالعمل بها يعني: وفَّقناه للعمل بالآيات وكنَّا نرفع بذلك منزلته {ولكنه أخلد إلى الأرض} مال إلى الدُّنيا وسكن إليها وذلك أنَّ قومه أهدوا له رشوة ليدعوَ على قوم موسى فأخذها {واتبع هواه} انقاد لما دعاه إليه الهوى {فمثله كمثل الكلب} أراد أنَّ هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر وإن تركته لم يهتدِ فالحالتان عنده سواءٌ كحالتي الكلب اللاهث فإنَّه إنْ حُمل عليه بالطَّرد كان لاهثاً وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً كهذا الكافر في الحالتين ضالٌّ وذلك أنَّه زُجر في المنام عن الدُّعاء على موسى فلم ينزجر وتُرك عن الزَّجر فلم يهتد فضرب الله له أخسَّ شيءٍ في أخسّ أحواله وهو حال اللَّهث مثلاً وهو إدلاع اللِّسان من الإِعياء والعطش والطلب يفعل ذلك في حال الكلال وحال الرَّاحة ثمَّ عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذِّبين بآيات الله فقال: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كذبوا بآياتنا} يعني: أهل مكَّة كانوا يتمنَّون هادياً يهديهم فلما جاءهم مَنْ لا يشكُّون في صدقه كذَّبوه فلم يهتدوا لمَّا تُركوا ولم يهتدوا أيضاً لمَّا دُعوا بالرَّسول فكانوا ضالِّين عن الرُّشد في الحالتين {فاقصص القصص} يعني: قصص الذين كذَّبوا بآياتنا {لعلهم يتفكرون} فيتَّعظون ثمَّ ذمَّ مَثلَهم فقال:(1/421)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي: بئس مثلُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} بذلك التَّكذيب يعني: إنما يخسرون حظهم(1/422)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فأولئك هم الخاسرون}(1/422)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{ولقد ذَرَأْنا} خلقنا {لجهنم كثيراً من الجن والإِنس} وهم الذين حقَّت عليهم الشَّقاوة {لهم قلوب لا يفقهون بها} لا يعقلون بها الحير والهدى {ولهم أعين لا يبصرون بها} سبل الهدى {ولهم آذان لا يسمعون بها} مواعظ القرآن {أولئك كالأنعام} يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة {بل هم أضلُّ} لأنَّ الأنعام مطيعةٌ لله والكافر غير مطيع {أولئك هم الغافلون} عمَّا في الآخرة من العذاب(1/422)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{ولله الأسماء الحسنى} يعني: التِّسعة والتِّسعين {فادعوه بها} كقولك: يا اللَّهُ يا قديرُ يا عليمُ {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} يميلون عن القصد وهم المشركون عدلوا بأسماء الله عمّا هي عليه فسمُّوا بها أوثانهم وزادوا فيها ونفصوا واشتقوا اللاَّت من الله والعُزَّى من العزيز ومناة من المنَّان {سيجزون ما كانوا يعملون} جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة(1/423)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{وممن خلقنا أمة} الآية يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال في قوم موسى عليه السلام: {ومن قوم موسى أمةٌ} الآية(1/423)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
{والذين كذبوا بآياتنا} محمدٍ والقرآن يعني: أهل مكَّة {سنستدرجهم} سنمكر بهم {من حيث لا يعلمون} كلما جدَّدوا لنا معصية جدَّّدنا لهم نعمةً(1/423)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
{وأملي لهم} أُطيل لهم مدَّة عمرهم ليتمادوا في المعاصي {إِنَّ كيدي متين} مكري شديد نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلةٍ واحدةٍ بعد أن أمهلهم طويلاً(1/423)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{أَوَلَم يتفكروا} فيعلموا {ما بصاحبهم} محمَّدٍ {من جنة} من جنون(1/424)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
{أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} ليستدلُّوا بها على توحيد الله وفسَّرنا ملكوت السماوات والأرضِ في سورة الأنعام {وما خلق الله من شيء} وفيما خلق الله من الأشياء كلها {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} وفي أنْ لعلَّ آجالهم قريبة فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النَّار {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يؤمنون} فبأيِّ قرآنٍ غير ما جاء به محمَّد يُصدِّقون؟ يعني: إنَّه خاتم الرُّسل ولا وحي بعده ثمَّ ذكر علَّة إعراضهم عن الإيمان فقال:(1/424)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ في طغيانهم يعمهون}(1/424)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{يسألونك عن الساعة} أَي: السَّاعة التي يموت فيها الخلق يعني: القيامة نزلت في قريش قالت لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: أسرَّ إلينا متى السَّاعة {أيَّان مرساها} متى وقوعها وثبوتها؟ {قل إنما علمها} العلم بوقتها ووقوعها {عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لوقتها إلاَّ هو} لا يظهرها في وقتها إلاَّ هو {ثقلت في السماوات والأرض} ثقل وقوعها وكَبًُر على أهل السماوات والأرض لما فيها من الأهوال {لا تأتيكم إلاَّ بغتة} فجأة {يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها} عالمٌ بها مسؤول عَنْهَا {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يعلمون} أنَّ علمها عند الله حين سألوا محمداً عن ذلك(1/424)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{قل لا أملك لنفسي} الآية إنَّ أهل مكة قالوا: يا محمَّد ألا يخبرك ربُّك بالسِّعر الرَّخيص قبل أن يغلو فنستري من الرَّخيص لنربح عليه؟ وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل عنها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى قوله: {لا أملك لنفسي نفعاً} أي: اجتلاب نفع بأن أربح {ولا ضرَّاً} دفع ضرٍّ بأن أرتحل من الأرض التي تريد أن تجدب {إلاَّ ما شاء الله} أن أملكه بتمليكه {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ما يكون قبل أن يكون {لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} لادَّخرت في زمانِ الخِصْبِ لزمن الجدب {وما مسني السوء} وما أصابني الضرُّ والفقر {إن أنا إلاَّ نذير} لمَنْ يصدِّق ما جئت به {وَبَشِيرٌ} لمن اتَّبعني وآمن بي(1/425)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم {وجعل منها زوجها} حوَّاء خلقها من ضلعه {ليسكن إليها} ليأنس بها فيأوي إليها {فلما تغشاها} جامعها {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} يعني: النُّطفة والمنيِّ {فمرَّت به} استمرَّت بذلك الحمل الخفيف وقامت وقعدت ولم يُثْقِلها {فلما أثقلت} صار إلى حال الثِّقل ودنت ولادتها {دَعَوَا اللَّهَ ربهما} آدم وحواء {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} بشراً سويَّاً مثلنا {لَنَكُونَنَّ من الشاكرين} وذلك أنَّ إبليس أتاها في غير صورته التي عرفته وقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري قال: إنِّي أخاف أن يكون بهيمةً أو كلباً أو خنزيراً وذكرت ذلك لآدم فلم يزالا في همٍّ من ذلك ثمَّ أتاها وقال: إن سألتُ الله أن يجعله خلقاً سويَّاً مثلك أَتُسمِّينه عبد الحارث؟ وكان إبليس في الملائكة الحارث ولم يزل بها حتى غرَّها فلمَّا ولدت ولداً سويَّ الخلق سمَّته عبد الحارث فرضي آدم فذلك قوله:(1/425)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{فلما آتاهما صالحاً} ولداً سويّاً {جعلا له} لله {شركاء} يعني: إبليس فأوقع الواحد موقع الجميع {فيما آتاهما} من الولد إذ سمَّياه عبد الحارث ولا ينبغي أن يكون عبداً إلاَّ لله ولم تعرف حوَّاء أنَّه إبليس ولم يكن هذا شركاً بالله لأنَّهما لم يذهبا إلى أنَّ الحارث ربَّهما لكنهما قصدا إلى أنَّه كان سبب نجاته وتم الكلام عند قوله: فيما {آتاهما} ثمَّ ذكر كفَّار مكة فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1/426)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يريد: أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئاً وهم مخلوقون! على الأصنام(1/426)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{ولا يستطيعون لهم نصراً} لا تنصر مَنْ أطاعها {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه مَنْ أرادهم بكسرٍ أو نحوه ثمَّ خاطب المؤمنين فقال:(1/426)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
{وإن تدعوهم} يعني: المشركين {إلى الهدى لا يتبعوكم} الآية(1/427)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام {عباد} مملوكون مخلوقون {أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم} فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم! ؟ {إِنْ كُنْتُمْ صادقين} أن لكم عند الأصنام منفعةً أو ثواباً أو شفاعةً ثمَّ بيَّن فضل الآدميِّ عليهم فقال:(1/427)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} مشيَ بني آدم {أَمْ لهم أيدٍ يبطشون بها} يتناولون بها مثل بطش بني آدم {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم} الذين تعبدون من دون الله {ثمَّ كيدون} أنتم وشركاؤكم {فلا تنظرون} لا تُمهلون واعجلوا في كيدي(1/427)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
{إنَّ وليي الله} الذي يتولَّى حفظي ونصري {الذي نزل الكتاب} القرآن {وهو يتولى الصالحين} الذين لا يعدلون بالله شيئا وقوله:(1/427)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هم الغافلون}(1/427)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{وتراهم ينظرون إليك} تحسبهم يرونك {وهم لا يبصرون} وذلك لأنَّ لها أعيناً مصنوعةً مركَّبةً بالجواهر حتى يحسب الإِنسان أنَّها تنظر إليه(1/427)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{خذ العفو} اقبل الميسور من أخلاق النَّاس ولا تستقصِ عليهم وقيل: هو أن يعفو عمَّنْ ظلمه ويصل مَنْ قطعه {وأمر بالعرف} المعروف الذي يعرف حسنه كلُّ أحدٍ {وأعرض عن الجاهلين} لا تقابل السَّفيه بسفهه فلمَّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا ربِّ والغضب؟ فنزل:(1/427)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} يعرض لك من الشيطان عارضٌ ونالك منه أدنى وسوسة {فاستعذ بالله} اطلب النَّجاة من تلك البليَّة بالله {إنَّه سميع} لدعائك {عليم} عالمٌ بما عرض لك(1/428)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{إنَّ الذين اتقوا} يعني: المؤمنين {إذا مسَّهم} أصابهم {طائف من الشيطان} عارضٌ من وسوسته {تذكَّروا} استعاذوا بالله {فإذا هم مبصرون} مواقع خَطَئِهِمْ فينزعون من مخالفة الله(1/428)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{وإخوانهم} يعني: الكفَّار وهم إخوان الشَّياطين {يمدونهم} أَي: الشَّياطين يطوِّلون لهم الإِغواء والضَّلالة {ثم لا يقصرون} عن الضلالة ولا يبصرونها كما أقصر المُتَّقي عنها حين أبصرها(1/428)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{وإذا لم تأتهم} يعني: أهل مكَّة {بآية} سألوكها {قالوا لولا اجتبيتها} اختلقتها وأنشأتها من قبل نفسك {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ ربي} أَيْ: لستُ آتي بالآيات من قبل نفسي {هذا} أَيْ: هذا القرآن الذي أتيتُ به {بصائر من ربكم} حججٌ ودلائلُ تعود إلى الحق(1/428)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الآيةُ نزلت في تحريم الكلام في الصَّلاة وكانوا يتكلَّمون في الصَّلاة في بدء الأمر وقيل: نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإِمام وقيل: نزلت في السُّكوت للخطبة وقوله: {وأنصتوا} أَيْ: عمَّا يحرم من الكلام في الصَّلاة أو عن رفع الصَّوت خلف الإِمام أو اسكتوا لاستماع الخطبة(1/429)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
{واذكر ربك في نفسك} يعني: القراءة في الصَّلاة {تضرُّعاً وخيفة} استكانةًَ لي وخوفاً من عذابي {ودون الجهر} دون الرَّفع {من القول بالغدو والآصال} بالبُكُر والعشيَّات أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإِسرار ودون الجهر فيما يرفع به الصَّوت {ولا تكن من الغافلين} الذين لا يقرؤون في صلاتهم(1/429)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{إنَّ الذين عند ربك} يعني: الملائكة وهم بالقرب من رحمة الله {لا يستكبرون عن عبادته} أَيْ: هم مع منزلتهم ودرجتهم يعبدون الله كأنَّه قيل: مَنْ هو أكبر منك أيُّها الإِنسان لا يستكبر عن عبادة الله {ويسبحونه} يُنزِّهونه عن السُّوء {وله يسجدون}(1/429)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
{يسألونك عن الأنفال} الغنائم لمن هي؟ نزلت حسن اختلفوا في غنائم بدر فقال الشُّبان: هي لنا لأنَّا باشرنا الحرب وقالت الأشياخ: كنا رداءا لكم لأنَّا وقفنا في المصافِّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا فأنزل الله تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها فقسمها بينهم على السَّواء {فاتقوا الله} بطاعته واجتناب معاصية {وأصلحوا ذات بينكم} حقيقة وصلكم أَيْ: لا تَخَالفوا {وأطيعوا الله ورسوله} سلِّموا لهما في الأنفال فإنَّهما يحكمان فيها ما أرادا {إن كنتم مؤمنين} ثمَّ وصف المؤمنين فقال:(1/430)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قلوبهم} أَيْ: المؤمن الذي إذا خُوِّف بالله فرق قلبه وانقاد لأمره {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} تصديقاً ويقيناً {وعلى ربهم يتوكلون} بالله يثقون لا يرجون غيره(1/430)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(1/431)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{أُولَئِكَ هم المؤمنون حقاً} صدقاً من غير شكٍّ لا كإيمان المنافقين {لهم درجات عند ربهم} يعني: درجات الجنَّة {ومغفرة ورزق كريم} وهو رزق الجنَّة(1/431)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{كما أخرجك} أيْ: امض لأمر الله في الغنائم وإن كره بعضهم ذلك لأنَّ الشُّبان أرادوا أن يستبدُّوا به فقال الله تعالى: أعط مَنْ شئت وإن كرهوا كما مضيت لأمر الله في الخروج وهم له كارهون ومعنى {كما أخرجك ربُّك من بيتك} أمرك بالخروج من المدينة لعير قريش {بالحقِّ} بالوحي الذي أتاك به جبريل {وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون} الخروج معك كراهة الطَّبع لاحتمال المشقَّة لأنَّهم علموا أنَّهم لا يظفرون بالعير دون القتال(1/431)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
{يجادلونك في الحق بعد ما تبيَّن} في القتال بعد ما أُمرت به وذلك أنَّهم خرجوا للعير ولم يأخذوا أُهبة الحرب فلمَّا أُمروا بحرب النَّفير شقَّ عليهم ذلك فطلبوا الرُّخصة في ترك ذلك فهو جدالهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أَيْ: لشدَّة كراهيتهم للقاء القوم كأنَّهم يُساقون إلى الموت عياناً(1/431)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
{وإذْ يعدكم الله إحدى الطائفتين} العير أو النَّفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تكون لكم} أَيْ: العير التي لا سلاح فيها تَكُونُ لَكُمْ {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} يُظهره ويُعليَه {بكلماته} بِعِدَاتِه التي سبقت بظهور الإِسلام {ويقطع دابر الكافرين} آخر مَنْ بقي منهم يعني: إنَّه إنَّما أمركم بحرب قريشٍ لهذا(1/431)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{ليحقَّ الحق} أَيْ: ويقطع دابر الكافرين ليُظهر الحقَّ ويُعليَه {ويبطل الباطل} ويُهلك الكفر ويُفنيه {ولو كره المجرمون} ذلك(1/432)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
{إذ تستغيثون ربكم} تطلبون منه المغفرة بالنَّصر على العدوِّ لقلَّتكم {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مردفين} متتابعين جاؤوا بعد المسلمين ومَنْ فتح الدَّال أراد: بألفٍ أردف الله المسلمين بهم(1/432)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{وما جعله الله} أَيْ: الإِرداف {إلاَّ بشرى} الآية ماضية في سورة آل عمران(1/432)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} وذلك أنَّ الله تعالى أمَّنهم أمناً غشيهم النُّعاس معه وهذا كما كان يوم أُحدٍ وقد ذكرنا ذلك في سورة آل عمران {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وذلك أنَّهم لمَّا بايتوا المشركين ببدرٍ أصابت جماعة منهم جنابات وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء فوسوس إليهم الشَّيطان وقال لهم: كيف ترجون الظَّفر وقد غلبوكم على الماء؟ وأنتم تُصلُّون مُجنِبين ومُحدِثين وتزعمون أنَّكم أولياء الله وفيكم نبيُّه؟ فأنزل الله تعالى مطراً سال منه الوادي حتى اغتسلوا وزالت الوسوسة فذلك قوله: {ليطهركم به} أَيْ: من الأحداث والجنابات {ويذهب عنكم رجز الشيطان} وسوسته التي تكسب عذاب الله {وليربط} به {على قلوبكم} باليقين والنَّصر {ويثبت به الأقدام} وذلك أنَّهم كانوا قد نزلوا على كثيبٍ تغوص فيه أرجلهم فلبَّده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام(1/432)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الذين أمدَّ بهم المسلمين {إني معكم} بالعون والنُّصرة {فثبتوا الذين آمنوا} بالتَّبشير بالنَّصر وكان المَلَك أمام الصَّف على صورة رجلٍ ويقول: أبشروا فإنَّ الله ناصركم {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} الخوف من أوليائي {فاضربوا فوق الأعناق} أَيْ: الرُّؤوس {واضربوا منهم كلَّ بنان} أَيْ: الأطراف من اليدين والرِّجلين(1/433)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
{ذلك} الضَّرب {بأنهم شاقوا الله ورسوله} باينوهما وخالفوهما(1/433)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ذلكم} القتل والضَّرب ببدرٍ {فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النار} بعدما نزل بهم من ضرب الأعناق(1/433)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} مُجتمعين مُتدانين إليكم للقتال {فلا تولوهم الأدبار} لا تجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم(1/433)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{ومن يُوَلَّهِمْ يومئذٍ} أَيْ: يوم لقاء الكفَّار {دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} مُنعطفاً مُستَطرداً يطلب العودة {أو متحيزاً} مُنضمَّاً {إلى فئة} لجماعةٍ يريدون العود إلى القتال {فقد باء بغضب من الله} الآية وأكثر المفسرين على أنَّ هذا الوعيد إنَّما كان لمَنْ فرَّ يوم بدرٍ وكان هذا خاصَّاً للمنهزم يوم بدرٍ(1/433)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{فلم تقتلوهم} يعني: يوم بدرٍ {ولكنَّ الله قتلهم} بتسبيبه ذلك من المعونة عليهم وتشجيع القلب {وما رميت إذ رميت} وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام قال للنبيِّ عليه السَّلام يوم بدرٍ: خذ قبضةً من تراب فارمهم بها فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من حصى الوادي فرمى بها في وجوه القوم فلم يبقَ مشركٌ إلاَّ دخل عينيه منها شيء وكان ذلك شبب هزيمتهم فقال الله تعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أَيْ: إنَّ كفَّاً من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بَشرٍ ولكنَّ الله تعالى تولَّى إيصال ذلك إلى أبصارهم {وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً} وينعم عليهم نعمةً عظيمةً بالنَّصر والغنيمة فعل ذلك {إنَّ الله سميع} لدعائهم {عليم} بنيَّاتهم(1/434)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
{ذلكم وأنَّ الله موهن كيد الكافرين} يُهنِّىء رسوله بإيهانه كيد عدوِّه حتى قُتلت جبابرتهم وأُسِر أشرافهم(1/434)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{إن تستفتحوا} هذا خطابٌ للمشركين وذلك أنَّ أبا جهلٍ قال يوم بدرٍ: اللَّهم انصر أفضل الدِّينَيْن وأهدى الفئتين فقال الله تعالى: {إن تستفتحوا} تستنصروا لأَهْدى الفئتين {فقد جاءكم الفتح} النَّصر {وإن تنتهوا} عن الشِّرك بالله {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تعودوا} لقتال محمَّدٍ {نعد} عليكم بالقتل والأسر {ولن تغني عنكم} تدفع عَنْكُمْ {فِئَتُكُمْ} جماعتكم {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} في العدد {وأنَّ الله مع المؤمنين} فالنَّصر لهم(1/434)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عنه} لا تُعرضوا عنه بمخالفة أمره {وأنتم تسمعون} ما نزل من القرآن(1/435)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} سماع قابلٍ وليسوا كذلك يعني: المنافقين وقيل: أراد المشركين لأنَّهم سمعوا ولم يتفكَّروا فيما سمعوا فكانوا بمنزلة مَنْ لم يسمع(1/435)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الذين لا يعقلون} يريد نفراً من المشركين كانوا صمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه بُكماً عن التَّكلُّم به بيَّن الله تعالى أنَّ هؤلاء شرُّ ما دبَّ على الأرض من الحيوان(1/435)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{ولو علم الله فيهم خيراً} لو علم أنَّهم يصلحون بما يُورده عليهم من حججه وآياته {لأسمعهم} إيَّاها سماع تفهمٍ {ولو أسمعهم} بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك و {لَتَوَلَّوْا وهم معرضون}(1/435)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} أجيبوا لهما بالطَّاعة {إذا دعاكم لما يحييكم} يعني: لأنَّ به يحيا أمرهم ويقوى ولأنَّه سبب الشَّهادة والشُّهداء أحياءٌ عند ربهم ولأنَّه سببٌ للحياة الدَّائمة في الجنَّة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} يحول بين الإِنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلاَّ بإذنه ولا أن يكفر فالقلوب بيد الله تعالى يُقلِّبها كيف يشاء {وأنَّه إليه تحشرون} للجزاء على الأعمال(1/435)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{واتقوا فتنة} الآية أمر الله تعالى المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمَّهم الله بالعذاب والفتنة ها هنا: إقرار المنكر وترك التَّغيير له وقوله: {لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة} أَيْ: تصيب الظَّالم والمظلوم ولا تكون للظَّلمة وحدهم خاصَّة ولكنَّها عامَّة والتَّقدير: واتَّقوا فتنةً إن لا تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصَّة أَيْ: لا تقع بالظَّالمين دون غيرهم ولكنها تقع بالصَّالحين والطَّالحين {واعلموا إن الله شديد العقاب} حثٌّ على لزوم الاستقامة خوفاً من الفتنة ومن عقاب الله بالمعصية فيها(1/436)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{واذكروا} يعني: المهاجرين {إذ أنتم قليل} يعني: حين كانوا بمكَّة في عنفوان الإسلام قبل أن يكلموا أربعين {مستضعفون في الأرض} يعني: أرض مكَّة {تخافون أن يتخطفكم الناس} المشركون من العرب لو خرجتم منها {فآواكم} جعل لكم مأوىً ترجعون إليه وضمَّكم إلى الأنصار {وأيَّدكم بنصره} يوم بدرٍ بالملائكة {ورزقكم من الطيبات} يعني: الغنائم أحلَّها لكم {لعلكم تشكرون} كي تطيعوا(1/436)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله} بترك فرائضه {والرسول} بترك سنَّته {وتخونوا} أَيْ: ولا تخونوا {أماناتكم} وهي كلُّ ما ائتمن الله عليها العباد وكلُّ أحدٍ مؤتمنٌ على ما افترض الله عليه {وأنتم تعلمون} أنَّها أمانةٌ من غير شبهةٍ وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لُبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم فقالوا له: ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعدٍ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أنَّه الذَّبح فلا تفعلوا وكانت منه خيانةً لله ورسوله(1/436)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: محنةٌ يظهر بها ما في النَّفس من اتِّباع الهوى أو تجنُّبه ولذلك مال أبو لبابة إلى قُريظة في إطلاعهم على حكم سعد لأنَّ ماله وولده كانت فيهم {وإنَّ الله عنده أجر عظيم} لمن أدى الأمانة ولم يخن(1/437)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله} باجتناب الخيانة فيما ذُكر {يجعل لكم فرقاناً} يفرق بينكم وبين ما تخافون فتنجون {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم {والله ذو الفضل العظيم} لا يمنعكم ما وعدكم على طاعته(1/437)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{وإذ يمكر بك الذين كفروا} وذلك أنَّ مشركي قريش تآمروا في دارة النَّدوة في شأن محمَّد عليه السًّلام فقال بعضهم: قيدوه نترص به ريب المنون وقال بعضهم: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه وقال أبو جهل - لعنه الله -: ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كلِّ بطنٍ رجلٌ فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلِّها فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه بذلك وأمره بالهجرة فذلك قوله: {ليثبتوك} أَيْ: ليوثقوك ويشدُّوك {أو يقتلوك} بأجمعهم قتلةَ رجلٍ واحدٍ كما قال اللَّعين أبو جهل {أو يخرجوك} من مكَّة إلى طرفٍ من أطراف الأرض {ويمكرون ويمكر الله} أَيْ: يجازيهم جزاء مكرهم بنصر المؤمنين عليهم {والله خير الماكرين} أفضل المجازين بالسيئة العقوبة وذلك أنَّه أهلك هؤلاء الذين دبَّروا لنبيِّه الكيد وخلَّصه منهم(1/437)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} الآية كان النَّضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجراً واشترى أحاديث كليلة ودمنة فكان يقعد به مع المستهزئين فيقرأ عليهم فلمَّا قصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضرُ بن الحارث: لو شئتُ لقلتُ مثل هذا إنْ هذا إلاَّ ما سطَّر الأوَّلون في كتبهم وقال النَّضر أيضاً:(1/438)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
{اللهم إن كان هذا} الذي يقوله محمَّدٌ حقَّاً {من عندك فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السماء} كما أمطرتا على قوم لوط {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: ببعض ما عذَّبت به الأمم حمله شدَّة عداوة النبي صلى الله عليه وسلم على إظهار مثل هذا القول ليوهم أنَّه على بصيرةٍ من أمره وغاية الثِّقة في أمر محمَّد أنَّه ليس على حقٍّ(1/438)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} وَمَا كان الله ليعذِّب المشركين وأنت مقيمٌ بين أظهرهم لأنَّه لم يعذِّب الله قريةً حتى يخرج النبيُّ منها والذين آمنوا معه {وما كان الله} معذِّبَ هؤلاء الكفَّار وفيهم المؤمنون {يستغفرون} يعني: المسلمين ثمَّ قال:(1/439)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
{وما لهم أن لا يعذبهم الله} أي: ولمَ لا يعذِّبهم الله بالشيف بعد خروج مَنْ عنى بقوله: {وهم يستغفرون} من بينِهم {وهم يصدون} يمنعون النبيِّ والمؤمنين {عن المسجد الحرام} أن يطوفوا به {وما كانوا أولياءه} وذلك أنَّهم قالوا: نحن أولياء المسجد فردَّ الله عليهم بقوله: {إن أولياؤه إلاَّ المتقون} يعني: المهاجرين والأنصار {ولكن أكثرهم لا يعلمون} غيبَ علمي وما سبق في قضائي(1/439)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وتصديةً} أي: صفيرا وتصفيفا وكانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً يُصفِّرون ويُصفِّقون جعلوا ذلك صلاةً لهم فكان تقربهم إلى الله بالتصفير والصَّفيق {فذوقوا العذاب} ببدرٍ {بما كنتم تكفرون} تجحدون توحيد الله تعالى(1/439)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
{إنَّ الذين كفروا} نزلت في المُنفقين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيَّام بدرٍ وكانوا اثني عشر رجلاً قال تعالى: {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة} بذهاب الأموال وفوات المراد(1/439)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
{ليميز الله الخبيث من الطيب} أي: إنما تحشرون إلى جهنَّم ليميِّز بين أهل الشَّقاوة وأهل السَّعادة {ويجعل الخبيث} أي: الكافر وهو اسم الجنس {بعضه على بعض} يلحق بعضهم ببعض {فيركمه جميعاً} أَيْ: يجمعه حتى يصير كالسَّحاب المركوم ثمَّ {فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} لأنَّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة(1/440)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
{قل للذين كفروا} أبي سفيان وأصحابه: {إن ينتهوا} عن الشِّرك وقتال المؤمنين {يغفر لهم ما قد سلف} تقدَّم من الزِّنا والشِّرك لأنَّ الحربيَّ إذا أسلم عاد كَمِثْلِهِ يوم ولدته أمه {وإن يعودوا} للقتال {فقد مضت سنَّة الأولين} بنصر اللَّهِ رسلَه ومَنْ آمن على مَنْ كفر(1/440)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} كفرٌ {ويكون الدين كله لله} لا يكون مع دينكم كفرٌ في جزيرة العرب {فإن انتهوا} عن الشِّرك {فإنَّ الله بما يعملون بصير} يُجازيهم مُجازاة البصير بهم وبأعمالهم(1/440)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{وإن تولوا} أَبَوا أن يدعوا الشِّرك وقتال محمد {فاعلموا أنَّ الله مولاكم} ناصركم يا معشر المؤمنين(1/441)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{واعلموا أنما غنمتم من شيء} أخذتموه قسراً من الكفَّار {فَأَنَّ لله خمسه} هذا تزيينٌ لافتتاح الكلام ومصرف الخمس إلى حيث شكر وهو قوله: {وللرسول} كان له خمس الخمس يصنع فيه ما يشاء واليوم يُصرف إلى مصالح المسلمين {ولذي القربى} وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين حُرِّمت عليهم الصَّدقات المفروضة لهم خمس الخمس من الغنيمة {واليتامى} وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم يُنفق عليهم من خُمس الخمس {والمساكين} وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين لهم أيضاً خمس الخمس {وابن السبيل} المنقطع به في سفره فخمس الغنيمة يقسم على خمسة أخماس كما ذكره الله تعالى وأربعة أخماسها تكون للغانمين وقوله: {إن كنتم آمنتم بالله} أَيْ: فافعلوا ما أُمرتم به في الغنيمة إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عبدنا} يعني: هذه السُّورة {يوم الفرقان} اليوم الذي فرَّقت به بين الحقِّ والباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} حزب الله وحزب الشَّيطان {والله على كل شيء قدير} إذ نصركم الله وأنتم قلة أذلَّةٌ(1/441)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{إذ أنتم بالعدوة الدنيا} نزولٌ بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكَّة {والركب} أبو سفيان وأصحابه وهم أصحاب الإِبل يعني: العير {أسفل منكم} إلى ساحل البحر {ولو تواعدتم} للقتال {لاختلفتم في الميعاد} لتأخَّرتم فنقضتم الْمِيعَادِ لكثرتهم وقلَّتكم {ولكن} جمعكم الله من غير ميعاد {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} في علمه وحكمه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة} أي: فعل ذلك ليضلَّ ويكفر مَنْ كفر من بعد حجَّةٍ قامت عليه وقطعت عذره ويؤمن من آمن على مثل ذلك وأراد بالبيِّنة نصرة المؤمنين مع قلَّتهم على ذلك الجمع الكثير مع كثرتهم وشوكتهم {وإنَّ الله لسميع} لدعائكم {عليمٌ} بنيَّاتكم(1/441)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{إذ يريكهم الله في منامك} عينك وهو موضع النَّوم {قليلاً} لتحتقروهم وتجترؤوا عليهم {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم} لجّبُنْتُم ولَتأخَّرتم عن حربهم {ولتنازعتم في الأمر} واختلفت كلمتكم {ولكنَّ الله سلَّم} عصمكم وسلَّمكم من المخالفة فيما بينكم {إنه عليم بذات الصدور} علم ما في صدوركم من اليقين ثمَّ خاطب المؤمنين جميعأً بهذا المعنى فقال:(1/442)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا} قال ابن مسعودٍ: لقد قُلَّلوا في أعيننا يوم بدرٍ حتى قلت لرجلٍ إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة وأسرنا رجلاً فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً {ويقللكم في أعينهم} ليجترئوا عليكم ولا يرجعوا عن قتالكم {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} في علمه بنصر الإسلام وأهله وذلِّ الشِّرك وأهله {وإلى الله ترجع الأمور} وبعد هذا إليَّ مصيركم فأكرم أوليائي وأعاقب أَعدائي(1/442)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} جماعةً كافرةً {فاثبتوا} لقتالهم ولا تنهزموا {واذكروا الله كثيراً} ادعوه بالنَّصر عليهم {لعلكم تفلحون} كي تسعدوا وتبقوا في الجنة فإنَّهما خصلتان إمَّا الغنيمة وإمَّا الشَّهادة(1/443)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا} ولا تختلفوا {فتفشلوا} تجبنوا {وتذهب ريحكم} جَلَدكم وجرأتكم ودولتكم(1/443)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم} يعني: النَّفير {بطراً} طُغياناً في النِّعمة للجميل مع إبطان القبيح {ويصدون عن سبيل الله} لمعاداة المؤمنين وقتالهم {والله بما يعملون محيط} عالم فيجازيهم به(1/443)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} الآية وذلك أنَّ قريشا لما اجتمعت المسير خافت كنانة وبني مدلج لطوائلَ كانت بينهم فتبدَّى لهم إبليس في جنده على صورة سُراقة بن مالك بن جشعم الكنانيِّ ثمَّ المدلجيِّ فقالوا له: نحنُ نريد قتال هذا الرَّجل ونخاف من قومك فقال لهم: أنا جارٌ لكم أَيْ: حافظٌ من قومي فلا غالب لكم اليوم من النَّاس {فلما تراءت الفئتان} التقى الجمعان {نكص على عقبيه} رجع مولياً فقيل له: يا سراقة أفراراً من غير قتال؟ ! فقال: {إني أرى ما لا ترون} وذلك أنَّه رأى جبريل مع الملائكة جاؤوا لنصر المؤمنين {إني أخاف الله} أن يهلكني فيمن يهلك {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1/443)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهم قومٌ أسلموا بمكة ولم يهاجروا فلمَّا خرجت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجوا معهم وقالوا: نكون مع أكثر الفئتين فلمَّا رأوا قلَّة المسلمين قالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} إذ خرجوا مع قلَّتهم يقاتلون الجمع الكثير ثمَّ قُتلوا جميعاً مع المشركين قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يُسلم أمره إلى الله {فإنَّ الله عزيز} قويٌّ منيع {حكيم} في خلقه(1/444)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
{ولو ترى} يا محمد {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كفروا الملائكة} يأخذون أرواحهم يعني: مَنْ قُتلوا ببدرٍ {يضربون وجوههم وأدبارهم} مقاديمهم إذا أقبلوا إلى المسلمين ومآخيرهم إذا ولًّوا {وذوقوا} أَيْ: ويقولون لهم بعد الموت: ذوقوا بعد الموت {عذاب الحريق}(1/444)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ذلك} أَيْ: هذا العذاب {بما قدَّمت أيديكم} بما كسبتم وجنيتم {وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد} لأنَّه حكم فيما يقضي(1/444)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
{كدأب آل فرعون} الآية يريد: عادة هؤلاء في التَّكذيب كعادة آل فرعون فأنزل الله تعالى بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} قادرٌ لا يغلبه شيء {شديد العقاب} لمَنْ كفر به وكذَّب رسله(1/444)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
{ذلك بأنَّ الله} الآية إنَّ الله تعالى أطعم أهل مكَّة من جوعٍ وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمداً رسولاً وكان هذا كلُّه ممَّا أنعم عليهم ولم يكن يُغيِّر عليهم لو لم يُغيِّروا هم وتغييرهم كفرهم بها وتركهم شكرها فلمَّا غيَّروا ذلك غيَّر اللهُ ما بهم فسلبهم النِّعمة وأخذهم ثمَّ نزل في يهود قريظة:(1/444)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وكل كانوا ظالمين}(1/445)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فهم لا يؤمنون}(1/445)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
{الذين عاهدت منهم} الآية وذلك أنَّهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه مشركي مكَّة بالسِّلاح ثمَّ اعتذروا وقالوا: أخطأنا فعاهدهم ثانيةً فنقضوا العهد يوم الخندق وذلك قوله: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يتقون} عقاب الله في ذلك(1/445)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{فإمَّا تثقفنَّهم في الحرب} فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خلفهم} فافعل بهم فعلاً من التَّنكيل والعقوبة يفرق به جمعُ كلِّ ناقضِ عهدٍ فيعتبروا بما فعلت بهؤلاء فلا ينقضوا العهد فذلك قوله تعالى: {لعلهم يذكرون}(1/445)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{وإمَّا تخافنَّ من قوم} تعلمنَّ من قومٍ {خيانة} نقضاً للعهد بدليلٍ يظهر لك {فانبذ إليهم على سواء} أَي: انبذ عهدهم الذي عاهدتهم عليه لتكون أنت وهم سواءً في العداوة فلا يتوهموا أنَّك نقضت العهد بنصب الحرب أَيْ: أعلمهم أنَّك نقضت عهدهم لئلا يتوهَّموا بك الغدر {إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين} الذين يخونون في العهود وغيرها(1/445)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا} وذلك أنَّ مَنْ أفلت من حرب بدرٍ من الكفَّار خافوا أن ينزل بهم هلكة في الوقت فلمَّا لم ينزل طغوا وبغوا فقال الله: لا تحسبنَّهم سبقونا بسلامتهم الآن فـ {إنهم لا يعجزون} نا ولا يفوتوننا فيما يستقبلون من الأوقات(1/446)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{وأعدوا لهم} أَيْ: خذوا العُدَّة لعدوِّكم {ما استطعتم من قوة} ممَّا تتقوون به على حربهم من السِّلاح والقسي وغيرهما {ومن رباط الخيل} ممَّا يرتبط من الفرس في سبيل الله {ترهبون به} تخوِّفون به بما استطعتم {عدو الله وعدوكم} مشركي مكَّة وكفَّار العرب {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} وهم المنافقون {لا تعلمونهم الله يعلمهم} لأنَّهم معكم يقولون: لا إله إلاَّ الله ويغزون معكم والمنافق يريبه عدد المسلمين {وما تنفقوا من شيء} من آلةٍ وسلاحٍ وصفراء وبيضاء {في سبيل الله} طاعة الله {يوف إليكم} يخلف لكم في العاجل ويوفَّر لكم أجره في الآخرة {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون من الثَّواب(1/446)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
{وإن جنحوا للسلم} مالوا إلى الصُّلح {فاجنح لها} فملْ إليها يعني: المشركين واليهود ثمَّ نسخ هذا بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} {وتوكَّل على الله} ثق به {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولكم {الْعَلِيمُ} بما في قلوبكم(1/446)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} بالصُّلح لتكفَّ عنهم {فإنَّ حسبك الله} أَيْ: فالذي يتولَّى كفايتك الله {هو الذي أيدك} قوَّاك {بِنَصْرِهِ} يوم بدرٍ {وبالمؤمنين} يعني: الأنصار(1/447)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{وألف بين قلوبهم} بين قلوب الأوس والحزرج وهم الأنصار {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم} للعداوة التي كانت بينهم {ولكنَّ الله ألف بينهم} لأنَّ قلوبهم بيده يُؤلِّفها كيف يشاء {إنَّه عزيز} لا يمتنع عليه شيء {حكيم} عليمٌ بما يفعله(1/447)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{يا أيها النبيُّ حسبك الله} الآية أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثمَّ أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت هذه الآية والمعنى: يكفيك الله ويكفي من اتَّبعك من المؤمنين(1/447)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
{يا أيها النبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال} حُضَّهم على نصر دين الله {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} يريد: الرَّجل منكم بعشرة منهم في الحرب {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون} أَيْ: هم على جهالةٍ فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خلاف مَنْ يقاتل على بصيرةٍ يرجو ثواب الله وكان الحكم على هذا زماناً يُصابر الواحد من المسلمين العشرة من الكفَّار فتضرَّعوا وشكوا إلى الله عز وجل ضعفهم فنزل:(1/447)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{الآن خفف الله عنكم} هوَّن عليكم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألف يغلبوا ألفين} فصار الرَّجل من المسلمين برجلين من الكفَّار وقوله: {بإذن الله} أَيْ: بإرادته ذلك(1/448)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية نزلت في فداء أسارى بدر فادوهم بأربعة ألاف ألف فأنكر الله عزَّ وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: لم يكن لنبيِّ أن يحبس كافراً قَدَر عليه للفداء فلا يكون له أيضاً حتى يُثخن في الأرض: يُبالغ في قتل أعدائه {تريدون عرض الدنيا} أي: الفِداء {والله يريد الآخرة} يريد لكم الجنة بقتلهم وهذه الآية بيان عمَّا يجب أن يجتنب من اتِّخاذ الأسرى للمنِّ أو الفِداء قبل الإِثخان في الأرض بقتل الأعداء وكان هذا في يوم بدر ولم يكونوا قد أثخنوا فلذلك أنكر الله عليهم ثمَّ نزل بعده: {فإمَّا منَّاً بعدُ وإمَّا فداءً}(1/448)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
{لولا كتاب من الله سبق} يا محمَّد أنَّ الغنائم وفداء الأسرى لك ولأمَّتك حلال {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفِداء {عذاب عظيم} فلمَّا نزل هذا أمسكوا أيديهم عمَّا أخذوا من الغنائم فنزل:(1/449)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ} بطاعته {إنَّ الله غفور} غفر لكم ما أخذتم من الفِداء {رحيم} رحمكم لأنَّكم أولياؤه(1/449)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{يأ أيها النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} إرادةً للإِسلام {يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} من الفِداء يعني: إِنْ أسلمتم وعلم الله إسلام قلوبكم أخلف عليكم خيراً ممَّا أُخذ منكم {ويغفر لكم} ما كان من كفركم وقتالكم رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/449)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{وإن يريدوا خيانتك} وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنَّا بك ونشهد أنَّك رسول الله فقال الله تعالى: إن خانوك وكان قولهم هذا خيانة {فقد خانوا الله من قبل} كفروا به {فأمكن منهم} المؤمنين ببدرٍ وهذا تهديدٌ لهم إن عادوا إلى القتال {والله عليم} بخيانةٍ إن خانوها {حكيم} في تدبيره ومجازاته إيَّاهم(1/449)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{إنَّ الذين آمنوا وهاجروا} الآية نزلت في الميراث كانوا في ابتداء الإسلام يتوارثون بالهجرة والنُّصرة فكان الرَّجل يُسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فذلك قوله: {الذين آمنوا وهاجروا} هجروا قومهم وديارهم وأموالهم {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} يعني: الأنصار أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم {أولئك بعضهم أولياء بعض} أيْ: هؤلاء الذين يتوارثون بعضهم من بَعْضٍ
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ من ولايتهم من شيء} أَيْ: ليسوا بأولياء ولا يثبت التَّوارث بينكم وبينهم {حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين} يعني: هؤلاء الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم وانصروهم {إلاَّ} أن يستنصروكم {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} عهدٌ فلا تغدروا ولا تعاونوهم(1/449)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} أَيْ: لا توارث بينكم وبينهم ولا ولاية والكافر وليُّ الكافر دون المسلم {إلاَّ تفعلوه} إلاَّ تعاونوا وتناصروا وتأخذوا في الميراث بما أمرتكم به {تكن فتنة في الأرض} شركٌ {وفساد كبير} وذلك أنَّ المسلم إذا هجر قريبه الكافر كان ذلك أدعى إلى الإسلام فإن لم يهجره وتوارثه بقي الكافر على كفره وقوله:(1/450)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أَيْ: هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنُّصرة خلاف من أقام بدار الشِّرك(1/450)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأولئك منكم} يعني: الذين هاجروا بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} نسخ الله الميراث بالهجرة والحِلْفِ بعد فتح مكَّة ردَّ الله المواريث إلى ذوي الأرحام: ابن الأخ والعمِّ وغيرهما {في كتاب الله} في حكم الله {إن الله بكل شيء عليم}(1/450)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
{براءة من الله ورسوله} الآية أخذت المشركون ينقضون عهوداً بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وينبذها إليهم وأنزل هذه الآية والمعنى: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا ثمَّ خاطب المشركين فقال:(1/452)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} سيروا فيها آمنين حيث شئتم يعني: شوالاً إلى صفر وهذا تأجيلٌ من الله سبحانه للمشركين فإذا انقضت هذه المدَّة قُتلوا حيثما أُدركوا {واعلموا أنكم غير معجزي الله} لا تفوتونه وإنْ أُجِّلتم هذه المدَّة {وأنَّ الله مُخْزي الكافرين} مذلُّهم في الدُّنيا بالقتل والعذاب في الآخرة(1/452)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{وأذان من الله} إعلامٌ منه {ورسوله إلى الناس} يعني: العرب {يوم الحج الأكبر} يوم عرفة وقيل: يوم النَّحر والحجُّ الأكبر الحجُّ بجميع أعماله والأصغر العمرة {أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ} أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُعلم مشركي العرب في يوم الحجِّ الأكبر ببراءته من عهودهم فبعث عليا رضي الله عنه حيث قرأ صدر براءة عليهم يوم النَّحر ثمَّ خاطب المشركين فقال: {فإن تبتم} رجعتم عن الشِّرك {فهو خيرٌ لكم} من الإِقامة عليه {وإن توليتم} عن الإِيمان {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ معجزي الله} لا تفوتونه بأنفسكم عن العذاب ثمَّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كفروا بعذاب أليم} ثمَّ استثنى قوماً من براءة العهود فقال:(1/452)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
{إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ ينقصوكم} من شروط العهد {شيئاً} وهم بني ضمرة وبنو كنانة {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} لم يعاونوا عليكم عدوَّاً {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم} إلى انقضاء مدَّتهم وكان قد بقي لهم من مدَّتهم تسعة أشهر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامها لهم {إنَّ الله يحب المتقين} مَنِ اتَّقاه بطاعته(1/453)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{فإذا انسلخ الأشهر الحرم} يعني: مدَّة التَّأجيل {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} في حلٍّ أو حرمٍ {وخذوهم} بالأسر {واحصروهم} إنْ تحصَّنوا {واقعدوا لهم كلَّ مرصد} على كلِّ طريقٍ تأخذون فيه {فإنْ تابوا} رجعوا عن الشرك {وأقاموا الصلاة} المفروضة {وآتوا الزكاة} من العين والثِّمار والمواشي {فخلوا سبيلهم} فدعوهم وما شاؤوا {إن الله غفور رحيم} لمَنْ تاب وآمن(1/454)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرتك بقتلهم {استجارك} طلب منك الأمان من القتل {فأجره} فاجعله في أمنٍ {حتى يسمع كلام الله} القرآن فتقيم عليه حجَّةَ الله وتبيِّن له دين الله {ثمَّ أبلغه مأمنه} إذا لم يرجع عن الشِّرك لينظر في أمره {ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون} يفعلونَ كلَّ هذا لأنَّهم قومٌ جهلةٌ لا يعلمون دين الله وتوحيده(1/454)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رسوله} مع إضمارهم الغدر ونكثهم العهد {إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} يعني: الذين استثناهم من البراءة {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم(1/454)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{كيف} أَيْ: كيف يكون لهم عهدهم {و} حالُهم أنهم {إن يظهروا عليكم} يظفروا بكم ويقدروا عليكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ} لا يحفظوا فيكم {إلاًّ ولا ذمَّةً} قرابةً ولا عهداً {يرضونكم بأفواههم} يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً {وتأبى قلوبهم} الوفاء به {وأكثرهم فاسقون} غادرون ناقضون للعهد(1/454)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} استبدلوا بالقرآن متاع الدُّنيا {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} فأعرضوا عن طاعته {إنهم ساء} بئس {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من اشترائهم الكفر بالإِيمان(1/455)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
{لا يرقبون} يعني: هؤلاء النَّاقضين للعهد {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد(1/455)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{فإن تابوا} عن الشِّرك {وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم} أَيْ: فهم إخوانكم {في الدين ونفصِّل الآيات} نبيِّن آيات القرآن {لقوم يعلمون} أنَّها من عند الله(1/455)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{وإن نكثوا أيمانهم} نقضوا عهودهم {وطعنوا في دينكم} اغتابوكم وعابوا دينكم {فقاتلوا أئمة الكفر} رؤساء الضَّلالة يعني: صناديد قريش {إنهم لا أيمان لهم} لا عهود لهم {لعلهم ينتهون} كي ينتهوا عن الشِّرك بالله ثمَّ حرَّض المؤمنين عليهم فقال:(1/455)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} يعني: كفَّار مكَّة نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة {وهموا بإخراج الرسول} من مكَّة {وهم بدؤوكم} بالقتال {أول مرة} حين قاتلوا حلفاءكم خزاعة فبدؤوا بنقض العهد {أتخشونهم} أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم {فالله أحق أن تخشوه} فمكروهُ عذابِ الله أحقُّ أن يُخشى في ترك قتالهم {إن كنتم مؤمنين} مصدِّقين بعقاب الله وثوابه(1/455)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} يقتلهم بسيوفكم ورماحكم {ويخزهم} يُذلُّهم بالقهر والأسر {ويشف صدور قوم مؤمنين} يعني: بني خزاعة أعانت قريشٌ بني بكر عليهم حتى نكثوا فيهم فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ والمؤمنين(1/456)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{ويذهب غيظ قلوبهم} كَرْبَها ووَجْدَها بمعونة قريش بكراً عليهم {وَيَتُوبُ الله على من يشاء} من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو هداهم الله للإسلام(1/456)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{أم حسبتم} أيُّها المنافقون {أن تتركوا} على ما أنتم عليه من التَّلبيس وكتمان النفاق {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} بنيَّةٍ صادقةٍ يعني: العلم الذي يتعلَّق بهم بعد الجهاد وذلك أنَّه لما فُرض القتال تبيَّن المنافق من غيره ومَنْ يوالي المؤمنين ممَّن يوالي أعداءهم {ولم يتخذوا} أَيْ: ولمَّا يعلم الله الذين لم يَتَّخِذُوا {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا المؤمنين وليجة} أولياء ودُخُلاً(1/456)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} نزلت في العباس بن عبد المطلب حين عير بالكفر لمَّا أُسر فقال: إنَّا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاجَّ فردَّ الله ذلك عليه بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} بدخوله والتعوُّذ فيه لأنَّهم ممنوعون عن ذلك {شاهدين على أنفسهم بالكفر} بسجودهم للأصنام واتِّخاذها آلهة {أولئك حبطت أعمالهم} لأنَّ كفرهم أذهب ثوابها(1/456)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{إنما يعمر مساجد الله} بزيارتها والقعود فيها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزكاة} والمعنى: إنَّ مَنْ كان بهذه الصفة فهو من أهل عمارة المسجد {ولم يخش} في باب الدِّين {إلاَّ الله فعسى أولئك} أَيْ: فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدِّي إلى الجنَّة(1/457)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
{أجعلتم سقاية الحاج} قال المشركون: عمارة بيت الله وقيامٌ على السِّقاية خيرٌ من الإِيمان والجهاد فأنزل الله تعالى هذه الآية وسقاية الحاج: سقيهم الشَّراب في الموسم وقوله: {وعمارة المسجد الحرام} يريد: تجميره وتخليقه {كمَنْ آمن} أَيْ: كإيمان من آمن {بالله} ؟ {لا يستون عند الله} في الفضل {والله لا يهدي القوم الظالمين} يعني: الذين زعموا أنَّهم أهل العمارة سمَّاهم ظالمين بشركهم(1/457)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاجِّ {وأولئك هم الفائزون} الذين ظفروا بأمنيتهم(1/458)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
{يبشرهم ربهم برحمة منه} الآية أَيْ: يعلمهم في الدُّنيا ما لهم في الآخرة(1/458)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عظيم}(1/458)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم} الآية لمَّا أُمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالهجرة إلى المدينة كان من النَّاس مَنْ يتعلَّق به زوجته وولده وأقاربه ويقولون: ننشدك بالله أن تضيِّعنا فيرقُّ لهم ويدع الهجرة فأنزل الله تعالى: {لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} أصدقاء تُؤثرون المقام بين أظهرهم على الشجرة {إن استحبوا} اختاروا {الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هم الظالمون} أَيْ: مشركون مثلهم فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا: يا نبيَّ الله إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدِّين نقطع آباءنا وعشائرنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا فأنزل الله تعالى:(1/458)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وعشيرتكم وأموال اقترفتموها} أَيْ: اكتسبتموها {فتربصوا} مقيمين بمكَّة {حتى يأتي الله بأمره} فتح مكَّة فيسقط فرض الهجرة وهذا أمر تهديد {والله لا يهدي القوم الفاسقين} تهديدٌ لهؤلاء بحرمان الهداية(1/458)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حنين} وهو وادٍ بين مكَّة والطَّائف قاتل عليه نبيُّ الله عليه السَّلام هوازن وثقيفاً {إذ أعجبتكم كثرتكم} وذلك أنَّهم قالوا: لن نُغلب اليوم من قلَّةٍ وكانوا اثني عشر ألفاً {فلم تغن} لم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رحبت} لشدَّة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لقراركم {ثم وليتم مدبرين} انهزمتم أعلمهم الله تعالى أنَّهم ليسوا يغلبون بكثرتهم إنَّما يَغلبون بنصر الله(1/459)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ثم أنزل الله سكينته} وهو ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تروها} يريد: الملائكة {وعذب الذين كفروا} بأسيافكم ورماحكم {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(1/459)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى من يشاء} فيهديهم إلى الإِسلام من الكفَّار {والله غفور رحيم} بمَنْ آمن(1/459)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} لا يغتسلون من جنابةٍ ولا يتوضؤون من حدثٍ {فلا يقربوا المسجد الحرام} أَيْ: لا يدخلوا الحرم مُنعوا من دخول الحرم فالحرمُ حرامٌ على المشركين {بعد عامهم هذا} يعني: عام الفتح فلمَّا مُنعوا من دخول الحرم قال المسلمون: إنَّهم كانوا يأتون بالميرة فالآن تنقطع عنا المتاجر فأنزل الله تعالى: {وإن خفتم عيلة} فقراً {فسوف يغنيكم الله من فضله} فأسلم أهل جدَّة وصنعاء وجرش وحملوا الطَّعام إلى مكَّة وكفاهم الله ما كانوا يتخوَّفون {إنَّ الله عليم} بما يصلحكم {حكيم} فيما حكم في المشركين ثمَّ نزل في جهاد أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى قوله:(1/459)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} يعني: كإيمان الموحِّدين وإيمانُهم غيرُ إيمانٍ إذا لم يؤمنوا بمحمد {ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله} يعني: الخمر والميسر {ولا يدينون دين الحق} لا يتدينون بدين الإِسلام {حتى يعطوا الجزية} وهي ما يعطي المعاهِد على عهده {عن يد} يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركباناً ولا يرسلون بها {وهم صاغرون} ذليلون مقهورون يُجَرُّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف حتى يؤدُّوها من يدهم(1/460)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم} ليس فيه برهانٌ ولا بيانٌ إنَّما هو قولٌ بالفم فقط {يُضاهئون} يتشبَّهون بقول المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله وقد أخبر الله عنهم بقوله: {وخرقوا له بنين وبناتٍ} {قاتلهم الله} لعنهم الله {أنى يؤفكون} كيف يُصرفون عن الحقِّ بعد وضوح الدَّليل حتى يجعلوا لله الولد وهذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين(1/460)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم} علماءهم وعُبَّادهم {أرباباً} آلهةً {من دون الله} حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله {والمسيح ابن مريم} اتخذوه ربَّاً {وما أمروا} في التَّوراة والإِنجيل {إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً} وهو الذي لا إله غيره {سبحانه عمَّا يشركون} تنزيهاً له عن شركهم(1/461)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} يخمدوا دين الإِسلام بتكذيبهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} إلاَّ أَنْ يُظهر دينه(1/461)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{هو الذي أرسل رسوله} محمداً {بالهدى} بالقرآن {ودين الحق} الحنيفيَّة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ليعليَه على جميع الأديان(1/461)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} من فقهاء أهل الكتاب وعلمائهم {ليأكلون أموال الناس بالباطل} يعني: ما يأخذونه من الرُّشا في الحكم {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ويصرفون النَّاس عن الإِيمان بمحمد عليه السلام ثم أنزل في مانعي الزَّكاة من أهل القبلة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} لا يُؤَدُّون زكاتها {فبشرهم بعذاب أليم} أخبرهم أنَّ لهم عذاباً أليماً(1/462)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
{يوم يحمى عليها} يوم تدخل كنوزهم النَّار حتى تحمى وتشتدَّ حرارتها {فتكوى بها} أي: فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم ويقال لهم: هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم وبخلتم به عن حقِّ الله {فذوقوا} العذاب بـ {ما كنتم تكنزون}(1/462)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهراً} عدد شهور المسلمين التي تُعبِّدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهراً على منازل القمر واستهلال الأهلَّة لا كما يعدُّه أهل الرُّوم وفارس {في كتاب الله} في الإِمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السماوات والأرض {منها أربعة حرم} رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم يعظم انتهاك المحارم فيها بأشدَّ ممَّا يعظم في غيرها {ذلك الدين القيم} الحساب المستقيم {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} تحفَّظوا من أنفسكم في الحرم فإنَّ الحسنات فيهن تضعف وكذلك السيئات {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} قاتلوهم كلَّهم ولا تحابوا بترك القتال كما إنَّهم يستحلُّون قتال جميعكم {واعلموا أنَّ الله مع المتقين} مع أوليائه الذين يخافونه(1/462)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{إنما النسيء} تأخير حرمةِ شهرٍ حرَّمه الله إلى شهرٍ آخر لم يحرِّمه وذلك أنَّ العرب في الجاهليَّة ربما كانت تستحلُّ المحرم وتحرِّم بدله صفر فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك كلَّه {زيادة في الكفر} حيث أحلُّوا ما حرَّم الله وحرَّموا ما أحلَّ الله {يضل به} بذلك التَّأخير {الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} إذا قاتلوا فيه أحلُّوه وحرَّموا مكانه صفر وإذا لم يقاتلوا فيه حرَّموه {ليواطئوا} ليوافقوا {عدَّة ما حرم الله} وهو أنَّهم لم يُحلُّوا شهراً من الحرم إلاَّ حرَّموا مكانه شهراً من الحلال ولم يحرِّموا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرم لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرَّم الله فيكون موافقة للعدد {زين لهم سوء أعمالهم} زيَّن لهم الشَّيطان ذلك(1/463)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم} نزلت في حثِّ المؤمنين على غزوة تبوك وذلك أنَّهم دُعوا إليها في زمان عسرةٍ من النَّاس وجدبٍ من البلاد وشدةٍ من الحرِّ فشقَّ عليهم الخروج فأنزل الله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سبيل الله} أخرجوا في الجهاد لحرب العدوِّ {اثاقلتم إلى الأرض} أَحْبَبْتُمْ المقام {أرضيتم بالحياة الدنيا} بدلاً {من الآخرة} يعني: الجنَّة {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة} يريد: الدُّنيا كلَّها {إلاَّ قليل} عند شئ من الجنَّة(1/463)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{إلاَّ تنفروا} تخرجوا مع نبيِّكم إلى الجهاد {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أليماً} بالقحط وحبس المطر {ويستبدل قوماً غيركم} يأت بقومٍ آخرين ينصرُ بهم رسوله {ولا تضرّوه شيئاً} لأنَّ الله عصمه عن النَّاس ولا يخذله أَنْ تثاقلتم كما لم يضرَّه قلَّة ناصريه حين كان بمكَّة وهم به الكفَّار فتولَّى الله نصره وهو قوله:(1/464)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كفروا} أَيْ: اضطروه إلى الخروج لمَّا همُّوا بقتله فكانوا سبباً لخروجه من مكَّة هارباً منهم {ثاني اثنين} أَيْ: واحد اثنين هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه والمعنى: مصره الله منفرداً إلاَّ من أبي بكر: {إذْ هما في الغار} هو غارٌ في جبل مكة يقال له: ثور {إذْ يقول لصاحبه} أبي بكر: {لا تحزن} وذلك أنَّه خاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطَّلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إنَّ الله معنا} يمنعهم منَّا وينصرنا {فأنزل الله سكينته} ألقى في قلب أبي بكر ما سكن به {وأيده} أَيْ: رسوله {بجنود لم تروها} قوَّاه وأعانه بالملائكة يوم بدر أخبر أنَّه صرف عنه كيد أعدائه ثمَّ أظهره: نصره بالملائكة يوم بدر {وجعل كلمة الذين كفروا} وهي كلمة الشِّرك {السفلى وكلمة الله هي العليا} يعني: كلمة التَّوحيد لأنَّها علت وظهرت وكان هذا يوم بدر(1/464)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{انفروا خفافاً وثقالاً} شباباً وشيوخاً {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خير لكم} من التَّثاقل إلى الأرض {إن كنتم تعلمون} ما لكم من الثَّواب والجزاء ثمَّ نزل في المنافقين الذين تخلَّفوا عن هذه الغزوة:(1/465)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{لو كان عرضاً قريباً} أَيْ: لو كان ما دُعوا إليه غنيمةً قريبةً {وَسَفَرًا قَاصِدًا} قريباً هيِّناً {لاتَّبَعُوكَ} طمعاً في الغنيمة {ولكن بعدت عليهم الشقة} المسافة {وسيحلفون بالله} عندك إذا رجعت إليهم {لو استطعنا لخرجنا معكم} لو قدرنا وكان لنا سعةٌ من المال {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بالكذب والنِّفاق {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنهم لكاذبون} لأنَّهم كانوا يستطيعون الخروج(1/465)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{عفا الله عنك لم أذنت لهم} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لطائفةٍ في التَّخلُّف عنه من غير مؤامرةٍ ولم يكن له أن يمضي شيئاً إلاَّ بوحي فعاتبه الله سبحانه وقال: لم أَذنت لهم في التَّخلُّف {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} حتى تعرف مَنْ له العذر منهم ومَنْ لا عذر له فيكون إذنك لمَنْ له العذر(1/465)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} في القعود والتَّخلُّف عن الجهاد كراهة {أن يجاهدوا} في سبيل الله {بأموالهم وأنفسهم} الآية(1/465)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
{إنما يستأذنك} في التَّخلُّف {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قلوبهم} شكُّوا في دينهم {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} في شكِّهم يتمادون(1/466)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدَّة} من الزَّاد والركوب لأنَّهم كانوا مياسير {ولكن كره الله انبعاثهم} لم يرد خروجهم معك {فثبطهم} فخذلهم وكسَّلهم {وقيل اقعدوا} وحياً إلى قلوبهم يعني: إنَّ الله ألهمهم أسباب الخذلان {مع القاعدين} الزَّمنى وأولي الضَّرر ثمَّ بّيَّنَ لِمَ كره خروجهم فقال:(1/466)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} يقول: لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم {ولأوضعوا خلالكم} لأسرعوا بالنَّميمة في إفساد ذاتِ بينكم {يبغونكم الفتنة} يُثبِّطونكم ويفرِّقون كلمتكم حتى تنازعوا فتفتتنوا {وفيكم سماعون لهم} مَنْ يسمع كلامهم ويطيعهم ولو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم {والله عليم بالظالمين} المنافقين(1/466)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{لقد ابتغوا الفتنة من قبل} طلبوا لك الشَّرَّ والعنتَ قبل تبوك وهو أنَّ جماعةً منهم أرادوا الفتك به ليلة العقبة {وقلَّبوا لك الأمور} اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك {حتى جاء الحق} الآية أَيْ: حتى أخزاهم الله بإظهار الحقِّ وإعزاز الدِّين على كُرهٍ منهم(1/466)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} نزلت في جدِّ بن قيس المنافق قال لرسول الله رسول صلى الله عليه وسلم: هل لك في جلاد بني الأصفر تتحذ منهم سراري وُصفاءَ فقال: ائذن لي يا رسول الله في القعود عنك وأُعينك بمالي {ولا تفتني} ببنات بني الأصفر فإني مُسْتَهترٌ بالنِّساء إني أخشى إن رأيتهنَّ ألا أصبر عنهنَّ فقال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أَيْ: في الشِّرك وقعوا بنفاقهم وخلفهم أمرك {وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين} لمحدقةٌ بمَنْ كفر جامعةٌ لهم(1/467)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{إن تصبك حسنة} نصرٌ وغنيمةٌ {تسؤهم وإن تصبك مصيبة} من قتلٍ وهزيمةٍ {يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} قد أخذنا حذرنا وعملنا بالحزم حين تخلَّفنا {ويتولوا} وينصرفوا {وهم فرحون} معجبون بذلك وبما نالك من السُّوء(1/467)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
{قُلْ لن يصيبنا} خيرٌ ولا شرٌّ {إلاَّ} وهو مقدَّرٌ مكتوبٌ علينا {هو مولانا} ناصرنا {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وإليه فليفوِّض المؤمنون أمورهم على الرِّضا بتدبيره(1/467)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{قل هل تربصون بنا} هل تنتظرون أن يقع بنا {إِلا إِحْدَى الحسنيين} الغنيمة أو الشَّهادة {ونحن نتربص} ننتظر {بكم أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عنده} بقارعةٍ من السَّماء {أو بأيدينا} يأذن لنا في قتلكم فنقتلكم {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} فانتظروا مواعيد الشَّيطان إنَّا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه وهلاك مَنْ خالفه ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية والثَّالثة أنَّه لا يقبل منهم ما أنفقوا في الجهاد لأنَّ منهم مَنْ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد وأُعينك بمالي فأخبر الله تعالى أنه لا يقبل ذلك فعلوه طائعين أو مكرهين وبيَّن أنَّ المانع لقبول ذلك كفرهم بالله ورسوله وكسلهم في الصَّلاة لأنَّهم لا يرجون لها ثواباً وكراهتهم الإِنفاق في سبيل الله لأنَّهم يعدونه مغرما(1/467)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}(1/468)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كارهون}(1/468)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال الكثيرة والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدنيا} يعني: بالمصائب فيها فهي لهم عذابٌ وللمؤمن أجر {وتزهق أنفسهم} وتخرج أرواحهم {وهم} على الكفر(1/468)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
{ويحلفون بالله إنهم لمنكم} أَيْ: إنَّهم مؤمنون وليسوا مؤمنين {ولكنهم قوم يفرقون} يخافون فيحلفون تقيَّةً لكم(1/468)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{لو يجدون ملجأً} مهرباً {أو مغارات} سراديب {أو مدخلاً} وجهاً يدخلونه {لوَلَّوا إليه} لرجعوا إليه {وهم يجمحون} يُسرعون إسراعاً لا يردُّ وجوهَهم شيءٌ أَيْ: لو أمكنهم الفرار من بين المسلمين بأيِّ وجهٍ كان لفروا لوم يُقيموا بينهم(1/468)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{ومنهم} ومن المنافقون {من يلمزك} يعيبك وطعن عليك {في} أمر {الصدقات} يقول: إنَّما يعطيها محمَّد مَنْ أحبَّ فإنْ أكثرت لهم من ذلك فرحوا وإنْ أعطيتهم قليلاً سخطوا ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية أنَّهم لو رضوا بذلك وتوكَّلوا على الله لكان خيراً لهم وهو قوله:(1/469)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ورسوله إنا إلى الله راغبون} ثمَّ بيَّن لمن الصَّدقات فقال:(1/469)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{إنما الصدقات للفقراء} وهم المُتعفِّفون عن السُّؤال {والمساكين} الذين يسألون ويطوفون على النَّاس {والعاملين عليها} السُّعاة لجباية الصَّدَقة {والمؤلفة قلوبهم} كانوا قوماً من أشراف العرب استألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليردُّوا عنه قومهم ويُعينوه على عدوِّه {وفي الرقاب} المكاتبين {والغارمين} أهل الدِّيْن {وفي سبيل الله} الغزاة والمرابطون {وابن السبيل} المنقطع في سفره {فريضة من الله} افترضها الله على الأغنياء في أموالهم(1/469)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{ومنهم الذين يؤذون النبيَّ} بنقل حديثه وعيبه {ويقولون هو أذنٌ} أنَّهم قالوا فيما بينهم: نقول ما شئنا ثمَّ نأتيه فَنَحْلِفُ له فيصدِّقنا لأنَّه أُذنٌ والأُذن: الذي يسمع كلَّ ما يُقال له فقال الله تعالى {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أَيْ: مستمعُ خيرٍ وصلاح لا مستمع شرٍّ وفسادٍ ثمَّ أَكَّد هذا وبيَّنه فقال: {يؤمن بالله} أَيْ: يسمع ما ينزله الله عليه فيصدِّق به {ويؤمن للمؤمنين} ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه لا الكافرين {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أَيْ: وهو رحمةٌ لأنَّه كان سبب إيمانهم(1/469)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
{يحلفون بالله لكم ليرضوكم} يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى الرَّسول والطَّعن عليه أنَّهم ما أتوا ذلك ليرضوكم بيمينهم {والله ورسوله أحقُّ أن يرضوه} فيؤمنوا بهما ويصدِّقوهما إن كانوا على ما يظهرون(1/470)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الخزي العظيم}(1/470)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{يحذر المنافقون أن تنزل عليهم} على المؤمنين {سورة} تخبرهم {بما في قلوبهم} من الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك أنَّهم كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} أمرُ وعيدٍ {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} مظهرٌ {ما تحذرون} ظهوره(1/470)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
{ولئن سَأَلْتَهُمْ} عمَّا كانوا فيه من الاستهزاء {ليقولنَّ إنما كنا نخوض ونلعب} وذلك أنَّ رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك: ما رأيتُ مثل هؤلاء أرغبَ بطوناً ولا أكذبَ أَلْسُناً ولا أجبنَ عند اللِّقاء يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فأُخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك فجاء هذا القائل ليعتذر فوجد القرآن قد سبقه فقال: يا رسول الله إنما كنَّا نخوض ونلعب ونتحدَّث بحديث الرَّكب نقطع به عنا الطريق وهو معنى قوله: {إنَّما كنا نخوض} أَيْ: في الباطل من الكلام كما يخوض الرَّكب فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}(1/470)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
{لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} أَيْ: ظهر كفركم بعد إظهاركم الإِيمان {إِنْ نَعْفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة} وذلك أنَّهم كانوا ثلاثة نفر فهزئ اثنان وضحك واحد وهو المعفو عنه فلمَّا نزلت هذه الآية برئ من النِّفاق(1/471)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
{المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} على دين بعض {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم {وينهون عن المعروف} عن اتِّباعه {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن النَّفقة في سبيل الله {نسوا الله فنسيهم} تركوا أمر الله فتركهم من كلِّ خيرٍ وخذلهم {إنَّ المنافقين هم الفاسقون} الخارجون عمَّا أمر الله(1/471)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{وعد الله المنافقين} الآية ظاهرة ثم خاطبهم فقال:(1/471)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{كالذين من قبلكم} أَيْ: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم {فاستمتعوا بخلاقهم} رضوا بنصيبهم من الدُّنيا ففعلتم أنتم أيضاً مثل ما فعلوا {وخضتم} في الطَّعن على النبي صلى الله عليه وسلم كما خاضوا في الطَّعن على أنبيائهم {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدنيا والآخرة} لأنَّها لا تُقبل منهم ولا يُثابون عليها(1/471)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} ألم يأتهم خبر الذين أُهلكوا في الدُّنيا بذنوبهم فيتَّعظوا ثم ذكرهم {قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم} يعني: نمروذ {وأصحاب مدين} قوم شعيب {والمؤتَفِكاتِ} وأصحاب المؤتفكات وهي قرى قوم لوط {فما كان الله ليظلمهم} ليعذِّبهم قبل بعث الرَّسول {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بتكذيب الرُّسل(1/472)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} في الرَّحمة والمحبَّة {يأمرون بالمعروف} يدعون إلى الإِسلام {وينهون عن المنكر} الشِّرك بالله الآية(1/472)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة} يريد قصور الزَّبرجد والدُّرِّ والياقوت {في جنات عدن} هي قصبة الجنَّة وسقفُها عرش الرَّحمن {ورضوان من الله أكبر} ممَّا يوصف(1/472)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{يا أيها النبيُّ جاهد الكفار} بالسَّيف {والمنافقين} باللِّسان والحُجَّة {واغلظ عليهم} يريد شدَّة الانتهار والنَّظر بالبغضة والمقت(1/472)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{يحلفون بالله ما قالوا} نزلت حين أساء المنافقون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعنوا في الدِّين وقالوا: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله ابن أُبيّ تاجاً يباهي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسُعِي بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فحلفوا ما قالوا {ولقد قالوا كلمة الكفر} سبَّهم الرَّسول وطعنهم في الدِّين {وهموا بما لم ينالوا} من عقدهم التَّاج على رأس ابن أُبيّ وقيل: من الاغتيال بالرَّسول {وما نقموا} كرهوا {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} بالغنيمة حتى صارت لهم الأموال أَيْ: إنَّهم عملوا بضدِّ الواجب فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموه ثمَّ عرض عليهم التَّوبة فقال: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} يعرضوا عن الإِيمان {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالقتل {و} في {الآخِرَةِ} بالنار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} لا يتولاَّهم أحدٌ من المسلمين(1/473)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{ومنهم مَنْ عاهد الله} يعني: ثعلبة بن حاطب عاهد ربَّه لئن وسَّعَ عليه أن يؤتى كلَّ ذي حقٍ حقَّه ففعل الله ذلك فلم يفِ بما عاهد ومنع الزَّكاة فهذا معنى قوله: {لئن آتانا من فضله لنصدقنَّ} لنعطينَّ الصَّدقة {ولنكوننَّ من الصالحين} ولنعملنَّ ما يعمل أهل الصَّلاح في أموالهم(1/473)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
{فلما آتاهم من فضله بخلوا به} الآية(1/474)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
{فأعقبهم نفاقاً} صيَّر عاقبة أمرهم إلى ذلك بحرمان التَّوبة حتى ماتوا على النِّفاق جزاءً لإخلافهم الوعد وكذبهم في العهد وهو قوله: {إلى يوم يلقونه} الآية(1/474)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب}(1/474)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{الذين يلمزون} يعيبون ويغتابون {المطوعين} المتطوعين المُتنفلِّين {من المؤمنين في الصدقات} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثَّ على الصَّدقة فجاء بعض الصحابة بالمال الكثير وبعضهم - وهم الفقراء - بالقليل فاغتابهم المنافقون وقالوا: مَنْ أكثر رياءً ومَنْ أقلَّ أراد أن يذكر نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية: {والذين لا يجدون إلاَّ جهدهم} وهو القليل الذي يتعيَّش به {فيسخرون منهم سخر الله منهم} جازاهم سخريتهم حيث صاروا إلى النَّار ثمَّ آيس الله رسول من إيمانهم ومغفرتهم فقال:(1/474)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وهذا تخييرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ قال: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} أَيْ: إن اسكتثرت من الدُّعاء بالاستغفار للمنافقين لن يغفر الله لهم(1/475)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{فرح المخلفون} يعني: الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين {بمقعدهم} بقعودهم {خلاف رسول الله} مخالفةً له {وقالوا لا تنفروا} مع محمدٍ إلى تبوك {فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لو كانوا يفقهون} يعلمون أنَّ مصيرهم إليها(1/475)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{فليضحكوا قليلاً} في الدُّنيا لأنَّها تنقطع عنهم {وليبكوا كثيراً} في النار بكاءً لا ينقطع {جزاءً بما كانوا يكسبون} في الدُّنيا من النِّفاق(1/475)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{فإن رجعك الله} ردَّك {إلى طائفة منهم} يعني: الذين تخلَّفوا بالمدينة {فاستأذنوك للخروج} إلى الغزو معك {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} إلى غزاةٍ {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} من أهل الكتاب {إنكم رضيتم بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} حين لم تخرجوا إلى تبوك {فاقعدوا مع الخالفين} يعني: النِّساء والصِّبيان والزَّمنى الذين يخلفون الذَّاهبين إلى السَّفر ثمَّ نُهِيّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة عليهم إذا ماتوا والدُّعاء لهم عند الوقوف على القبر فقال:(1/475)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ولا تقم على قبره} الآية(1/476)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
{ولا تعجبك أموالهم} مضى تفسيره(1/476)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم} يعني: أصحاب الغنى والقدرة يستأذنونك في التَّخلُّف(1/476)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} النِّساء اللاتي يخلفن في البيت {وطبع على قلوبهم} بالنِّفاق {فهم لا يفقهون} لا يفهمون الإِيمان وشرائعه وأمر الله(1/476)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1/476)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فيها ذلك الفوز العظيم}(1/476)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{وجاء المعذِّرون} المعتذرون وهم قوم {من الأعراب} اعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في التَّخلُّف فعذرهم وهو قوله {ليؤذن لهم} أَيْ: في القعود {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} لم يُصدِّقوا نبيَّه واتَّخذوا إسلامهم جُنَّة ثمًّ ذكر أهل العذر فقال:(1/476)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
{ليس على الضعفاء} يعني: الزَّمنى والمشايخ والعجزى {وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ ورسوله} أخلصوا أعمالهم من الغِشِّ لهما {ما على المحسنين من سبيل} من طريق بالعقابِ لأنَّه قد سُدَّ طريقه بإحسانه {والله غفور رحيم} لمن كان على هذه الخصال(1/477)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في سبعة نفرٍ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدَّوابِّ فقال: {لا أجد ما أحملكم عليه} فانصرفوا باكين شوقاً إلى الجهاد وحزناً لضيق ذات اليد(1/477)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}(1/477)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} بالأباطيل {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من هذه الغزوة {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدِّقكم {قد نبأنا الله من أخباركم} قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم {وَسَيَرَى الله عملكم ورسوله} فيما تستأنفون تبتم من النِّفاق أم أقمتم عليه {ثمَّ تردون إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إلى مَنْ يعلم ما غاب عنّا من ضمائركم {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كنتم تعملون} فيخبركم بما كنتم تكتمون وتسرون(1/477)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم} إذا رجعتم {إليهم} من تبوك أنَّهم ما قدروا على الخروج {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} إعراض الصَّفح {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} اتركوا كلامهم وسلامهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} إنَّ عملهم قبيح من عمل الشيطان ثمَّ نزل في أعاريب أسد وغطفان:(1/478)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(1/478)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{الأعراب أشدُّ كفراً ونفاقاً} من أهل المدر لأنَّهم أجفى وأقسى {وأجدر} وأولى وأحق {أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله} من الحلال والحرام(1/478)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} لأنَّه لا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} وينتظر أن ينقلب الأمر عليكم بموت الرَّسول عليه السَّلام {عليهم دائرة السوء} عليهم يدور البلاء والخزي فلا يرون في محمد ودينه إلاَّ ما يسوءهم ثمَّ نزل في مَنْ أسلم منهم:(1/478)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} يتقرَّب بذلك إلى الله عز وجل {وصلوات الرسول} يعني: دعاءه بالخير والبركة والمعنى: أنَّه يتقرَّب بصدقته ودعاء الرَّسول إلى الله {ألاَ إنّها قربة لهم} أَيْ: نورٌ ومكرمةٌ عند الله(1/478)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{والسابقون الأولون} يعني: الذين شهدوا بدراً {من المهاجرين والأنصار} يعني: الذين آمنوا منهم قبل قدوم الرَّسول عليهم فهؤلاء السُّبَّاق من الفريقين وقيل: أراد كلَّ مَنْ أدركه من أصحابه فإنَّهم كلَّهم سبقوا هذه الأمة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته {والذين اتبعوهم بإحسان} يعني: ومن اتبعهم على مناهجهم إلى يوم القيامة ممَّن يُحسن القول فيهم(1/479)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{وممن حولكم من الأعراب منافقون} يعني: مزينة وجهينة وغفاراً {ومن أهل المدينة} الأوس والخزرج {مردوا على النفاق} لجُّوا فيه وأبوا غيره {سنعذبهم مرتين} بالأمراض والمصائب في الدُّنيا وعذاب القبر {ثم يردون إلى عذاب عظيم} وهو الخلود في النَّار(1/479)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} في التخلف عن الغزو {خلطوا عملاً صالحاً} وهو جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا {وآخر سيئاً} تقاعدهم عن هذه الغزوة {عَسَى الله} واجبٌ من الله {أَنْ يَتُوبَ عليهم إن الله غفور رحيم} ثمَّ تاب على هؤلاء وعذرهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفَتْنا عنك فخذها منَّا صدقةً وطهِّرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله سبحانه:(1/479)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{خذ من أموالهم صدقة} فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وكانت كفَّارةً للذُّنوب التي أصابوها وهو قوله: {تطهرهم} يعني: هذه الصَّدقة تطهِّرهم من الذُّنوب {وتزكيهم بها} أَيْ: ترفعهم أنت يا محمَّدُ بهذه الصَّدقة من منازل المنافقين {وصل عليهم} ادع لهم {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} إنَّ دعواتك ممَّا تسكن نفوسهم إليه بأن قد تاب الله عليهم {والله سميع} لقولهم {عليم} بندامتهم فلمَّا نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يُكلَّمون ولا يُجالسون فما لهم؟ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم فأنزل الله تعالى سبحانه:(1/480)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} يقبلها {وَأَنَّ اللَّهَ هو التواب الرحيم} يرجع على مَنْ يرجع إليه بالرَّحمة والمغفرة(1/480)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{وقل اعملوا} يا معشر عبادي المحسن والمسيء {فَسَيَرَى اللَّهُ عملكم ورسوله والمؤمنون} أَيْ: إنَّ الله يُطلعهم على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشَّرِّ فيحبون المحسن ويبغضون المسيء بإيقاع الله ذلك في قلوبهم وباقي الآية سبق تفسيره(1/480)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{وآخرون مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} مُؤخَّرون ليقضي الله فيهم ما هو قاضٍ وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع كانوا تخلَّفوا من غير عذر ثمَّ لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أولئك الذين تصدَّقوا بأموالهم فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمرهم وهم مهجورون حتَّى نزل قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآيات {إمَّا يعذبهم} بعقابه جزاءً لهم {وإمَّا يتوب عليهم} بفضله {والله عليم} بما يؤول إليه حالهم {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم(1/480)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{والذين اتخذوا} ومنهم الذين اتَّخذوا مسجداً وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارُّون به مسجد قباء وهو قوله: {ضرارا وكفرا} بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به {وتفريقاً بين المؤمنين} يفرِّقون به جماعتهم لنهم كانوا يصلُّون جميعاً في مسجد قباء فبنوا مسجد الضِّرار ليصلِّي فيه بعضهم فيختلفوا بسبب ذلك {وإرصاداً} وانتظاراً {لمن حارب الله ورسوله من قبل} يعني: أبا عامرٍ الرَّاهب كان قد خرج إلى الشَّام ليأتي بجندٍ يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجداً {وليحلفنَّ إن أردنا} ببنائه {إلاَّ} الفعلة {الحسنى} وهي الرِّفق بالمسلمين والتَّوسعة عليهم فلمَّا بنوا ذلك المسجد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلِّي بهم في ذلك المسجد فنهاه الله عز وجل وقال:(1/481)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} بُنيت جُدُره ورُفعت قواعده على طاعة الله تعالى {من أول يوم} بُني وحَدث بناؤه وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هو مسجد قباء {أحقُّ أن تقوم فيه} للصَّلاة {فيه رجال} يعني: الأنصار {يحبون أن يتطهروا} يعني: غسل الأدبار بالماء وكان من عادتهم في الاستنجاء استعمال الماء بعد الحجر {والله يحب المطهرين} من الشِّرك والنِّفاق(1/481)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{أفمن أسس بنيانه} أَيْ: بناءه الذي بناه {على تقوى من الله} مخافة الله ورجاء ثوابه وطلب مرضاته {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جرف هار} على حرف مهواةٍ {فانهار به} أُوقع بنيانه {في نار جهنم} وهذا مَثَل والمعنى: إنَّ بناء هذا المسجد كبناءٍ على حرفِ جهنَّم يتهوَّر بأهله فيها لأنَّه معصيةٌ وفعلٌ لما كرهه الله من الضِّرار(1/482)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قلوبهم} شكَّاً في قلوبهم {إلاَّ أن تقطَّع قلوبهم} بالموت والمعنى: لا يزالون في شكٍّ منه إلى الموت يحسبون أنَّهم كانوا في بنائه محسنين {والله عليم} بخلقه {حكيم} فيما جعل لكلِّ أحدٍ(1/482)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية نزلت في بيعة العقبة لمَّا بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وأن يمنعوه ممَّا يمنعون أنفسهم قالوا: فإذا فعلنا ذلك يا رسول الله فماذا لنا؟ قال: الجنَّة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية ومعنى: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} أنَّ المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يُقتل وأنفق ماله في سبيل الله أخذ من الجنَّة في الآخرة جزاءً لما فعل وقوله: {وعداً} أَيْ: وعدهم اللَّهُ الجنَّة وعداً {عليه حقاً} لا خلف فيه {في التوراة والإِنجيل والقرآن} أَيْ: إنَّ الله بيَّن في الكتابين أنَّه اشترى من أمة محمَّدٍ أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة كما بيَّن في القرآن {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: لا أحدٌ أوفى بما وعد من الله ثمًّ مدحهم فقال:(1/482)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{التائبون} أَيْ: هم التَّائبون من الشِّرك {العابدون} يرون عبادة الله واجبةً عليهم {الْحَامِدُونَ} الله على كلِّ حال {السائحون} الصًّائمون {الراكعون الساجدون} في الفرائض {الآمرون بالمعروف} بالإِيمان بالله وفرائضه وحدوده {والناهون عن المنكر} الشِّرك وترك فرائض الله {والحافظون لحدود الله} العاملون بما افترض الله عليهم(1/483)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{ما كان للنبيِّ} الآية نزلت في استغفار النبيِّ عليه السَّلام لعمِّه أبي طالب وأبيه وأُمِّه واستغفار المسلمين لآبائهم المشركين نُهوا عن ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: لأستغفرنَّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فبيَّن الله سبحانه كيف كان ذلك فقال:(1/483)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ موعدة وعدها إياه} وذلك أنَّه كان قد وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه وأن ينقله الله باستغفاره إيَّاه من الكفر إلى الإِسلام وهذا ظاهر في قوله: {سأستغفر لك ربي} وقوله: {لأستغفرنَّ لك} فلمَّا مات أبوه مشركاً تبرَّأ منه وقطع الاستغفار {إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ} دَعَّاءٌ كثير البكاء {حليم} لم يعاقب أحداً إلاََ في الله ولم ينتصر من أحدٍ إلاَّ لله فلمَّا حرَّم الاستغفار للمشركين بين أنهم لم يأخذهم بما فعلوا لأنَّه لم يكن قد بيَّن لهم أنَّه لا يجوز ذلك فقال:(1/484)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هداهم} ليوقع الضَّلالة في قلوبهم بعد الهدى {حتى يبيِّن لهم ما يتقون} فلا يتَّقوه فعند ذلك يستحقُّون الإضلال(1/484)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
{أنَّ الله له ملك السماوات وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير}(1/485)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{لقد تاب الله على النبيِّ} مِنْ إذنه للمنافقين في التَّخلُّف عنه وهو ما ذُكر في قوله: {عفا الله عنك} الآية {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} في زمان عسرة الظَّهر وعسرة الماء وعسرة الزَّاد {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منهم} من بعد ما همَّ بعضهم بالتَّخلُّف عنه والعصيان ثمَّ لحقوا به {ثم تاب عليهم} ازداد عنهم رضا(1/484)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{وعلى الثلاثة الذين خلفوا} أَي: عن التَّوبة عليهم يعني: مَنْ ذكرناهم في قوله: {وأخرون مرجون لأمر الله} {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض} لأَنَّهم كانوا مهجورين لا يُعاملون ولا يُكلَّمون {وضاقت عليهم أنفسهم} بالهمِّ الذي حصل فيها {ظنوا} أيقنوا {أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} أن لا مُعتَصَم من عذاب الله إلاَّ به {ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا} أَيْ: لطف بهم في التَّوبة ووفَّقهم لها(1/485)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{يا أيها الذين آمنوا} يعني: أهل الكتاب {اتقوا الله} بطاعته {وكونوا مع الصادقين} محمدٍ وأصحابه يأمرهم أن يكونوا معهم في الجهاد والشدة والرخاء وقوله:(1/485)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
{ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّة {ذَلِكَ} أَيْ: ذلك النَّهي عن التَّخلُّف {بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو شدَّة العطش {وَلا نصب} إعياء من التَّعب {ولا مخمصة} مجاعةٌ {ولا يطؤون موطئاً} ولا يقفون موقفاً {يغيظ الكفار} يُغضبهم {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا} أسراً وقتلاً إلاَّ كان ذلك قُربةً لهم عند الله(1/485)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
{ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة} تمرةً فما فوقها {ولا يقطعون واديا} يُجاوزونه في سيرهم {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} آثارهم وخُطاهم {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحسن} بأحسن {ما كانوا يعملون} فلمَّا عِيبَ مَنْ تخلَّف عن غزوة تبوك قال المسلمون: والله لا نتخلف من غزوةٍ بعد هذا ولا عن سرية أبداً فلمَّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسَّرايا إلى العدُّو نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة فأنزل الله عز وجل:(1/486)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ليخرجوا جميعاً إلى الغزو {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} فهلاَّ خرج إلى الغزو من كل قبيلةٍ جماعةٌ {ليتفقهوا في الدين} ليتعلَّموا القرآن والسُّنن والحدود يعني: الفرقة القاعدين {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} وليعلِّموهم ما نزل من القرآن ويخوفوهم يه {لعلهم يحذرون} فلا يعملون بخلاف القرآن(1/486)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم} يقربون منكم أُمروا بقتال الأدنى فالأدنى من عدوِّهم من المدينة {وليجدوا فيكم غلظة} شدَّةً وعُنفاً(1/486)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم} من المنافقين {مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيماناً} يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤاً فقال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} تصديقاً لأنَّهم صدَّقوا بالأولى والثَّانية {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بنزول السُّورة(1/487)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{وأما الذين في قلوبهم مرض} شكٌّ ونفاقٌ {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} كفراً إلى كفرهم لأنَّهم كلَّما كفروا بسورةٍ ازداد كفرهم(1/487)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
{أو لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أو مرتين} يُمتحنون بالأمراض والأوجاع وهنَّ روائد الموت {ثمَّ لا يتوبون} من النِّفاق ولا يتَّعظون كما يتَّعظ المؤمن بالمرض(1/487)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{وإذا ما أنزلت سورة} كان إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّ ذلك عليهم و {نظر بعضهم إلى بعض} يريدون الهرب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض: {هل يراكم من أحد} إنْ قمتم فإن لم يرهم أحدٌ خرجوا من المسجد وإنْ علموا أنَّ أحداً يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته {ثم انصرفوا} على عزم الكفر والتَّكذيب {صرف الله قلوبهم} عن كلِّ رشدٍ وهدى {بأنهم قوم لا يفقهون} جزاءً على فعلهم وهو أنَّهم لا يفقهون عن الله دينه وما دعاهم الله إليه(1/487)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} من العرب من بني إسماعيل ليفهموا منه {عزيز عليه ما عنتم} شديدٌ عليه مشقَّتكم وكلُّ مضرَّة تُصيبكم {حريص عليكم} أن تؤمنوا وهذا خطابٌ للكفَّار ومَنْ لم يؤمن به ثمَّ ذكر أنَّه {بالمؤمنين رؤوف رحيم}(1/488)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{فإن تولوا} أعرضوا عن الإِيمان يعني: المشركين والمنافقين {فقل حسبي الله} أَيْ: الذي يكفيني اللَّهُ {لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وبه وثقت {وهو رب العرش العظيم} خصَّ بالذِّكر لأنه أعظم ما خلق الله عز وجل(1/488)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{الر} أنا الله أرى {تلك آيات الكتاب} هذه الآيات التي أنزلتها عليك آيات القرآن {الحكيم} الحاكم بين النَّاس(1/489)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{أكان للناس} أَهلِ مكَّةَ {عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} وذلك أنَّهم قالوا: ما وجدَ الله مَنْ يُرسله إلينا إلاَّ يتيم أبي طالب؟ ! {أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا} أَيْ: بعثناه بشيراً ونذيراً {أنَّ لهم قدم صدق عند ربهم} يعني: الأعمال الصَّالحة {قال الكافرون إنَّ هذا} القرآن {لسحرٌ مبين}(1/489)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{إنَّ ربكم الله} مفسَّرةٌ في سورة الأعراف وقوله: {يدبِّر الأمر} يقضيه {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} ردٌّ لقولهم: الأصنام شفعاؤنا عند الله(1/489)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}(1/490)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
{هو الذي جعل الشمس ضياءً} ذات ضياءٍ {والقمر نوراً} ذا نورٍ {وقدَّره} وقدَّر له {منازل} على عدد أيام الشَّهر {ما خلق الله ذلك} يعني: ما تقدَّم ذكره {إلاَّ بالحق} بالعدل أَيْ: هو عادلٌ في خلقه لم يخلقه ظلما ولا باطلاً {يفصِّل الآيات} يُبيِّنها {لقوم يعلمون} يستدلُّون بها على قدرة الله(1/490)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}(1/490)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بدلاً من الآخرة {وَاطْمَأَنُّوا بها} وركنوا إليها {والذين هم عن آياتنا} ما أنزلتُ من الحلال والحرام والشرائع {غافلون} وقوله:(1/490)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}(1/490)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{يهديهم ربُّهم بإيمانهم} أَيْ: إلى الجنان ثواباً لهم بإيمانهم(1/490)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{دعواهم} دعاؤهم {فيها سبحانك اللهم} وهو أنَّهم كلَّما اشتهوا شيئاً قالوا: سبحانك اللَّهم فجاءهم ما يشتهون فإذا طعموا ممَّا يشتهون قالوا: الحمد لله ربَّ العالمين(1/490)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{ولو يعجل الله للناس الشرَّ} الآية نزلت في دعاء الرَّجل على نفسه وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له والمعنى: لو استجبتُ لهم في الشَّرِّ كما يحبُّون أن يستجاب لهم في الخير {لقضي إليهم أجلهم} لماتوا وفُرغ من هلاكهم نزلت في النَّضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عندك} الآية يدلُّ على هذا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يعني: الكفَّار الذين لا يخافون البعث(1/491)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{وإذا مس الإنسان} يعني: الكافر {الضرُّ} المرض والبلاء {دعانا لجنبه} أَيْ: مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضرَّه مرَّ} طاغياً على ترك الشُّكر {كأن لم يدعنا إلى ضرٍّ مسَّه} لنسيانه ما دعا الله فيه وما صنع الله به {كذلك زين} كما زُيِّن لهذا الكافر الدُّعاء عند البلاء والإِعراض عند الرَّخاء {زين للمسرفين} عملهم وهم الذين أسرفوا على أنفسهم إذ عبدوا الوثن(1/491)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم} يخوِّف كفار مكَّة بمثل عذاب الأمم الخالية {وما كانوا ليؤمنوا} لأنَّ الله طبع على قلوبهم جزاءً لهم على كفرهم {كذلك نجزي القوم المجرمين} نفعل بمَنْ كذَّب بمحمَّدٍ كما فعلنا بمَنْ قبلهم جزاءً لكفرهم(1/491)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: أهل مكَّة {لننظر كيف تعملون} لنختبر أعمالكم(1/492)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{وإذا تتلى عليهم} على هؤلاء المشركين {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث: {ائت بقرآن غير هذا} ليس فيه عيب آلهتنا {أو بدَّله} تكلَّمْ به من ذات نفسك فبدِّل منه ما نكرهه {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تلقاء نفسي} ما ينبغي لي أَنْ أغيِّره من قبل نَفْسِي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ما أُخبركم إلاَّ ما أخبرني الله به أَي: الذي أتيتُ به من عند الله لا من عندي نفسي فأبدِّله(1/492)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} ما قرأتُ عليكم القرآن {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولا أعلمكم الله بِهِ {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أقمتُ فيكم أربعين سنةً لا أُحدِّثكم شيئاً {أفلا تعقلون} أنَّه ليس من قبلي(1/492)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لا أحد أظلم ممَّن يظلم ظلم الكفر أَيْ: إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أنَّ معه شريكاً {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} لا يسعد مَنْ كذَّب أنبياء الله(1/492)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ} إنْ لم يعبدوه {وَلا يَنْفَعُهُمْ} إن عبدوه {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} في إصلاح معاشهم في الدُّنيا لأنَّهم لا يقرُّون بالبعث {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} أتخبرون الله أنَّ له شريكاً ولا يعلم الله سبحانه لنفسه شريكا في السماوات ولا في الأرض ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا افتروه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1/492)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{وما كان الناس إلاَّ أمة واحدة} يعني: من لدن عهد إبراهيم عليه السَّلام إلى أن غيَّر الدِّين عمرو بن لُحي {فاختلفوا} واتَّخذوا الأصنام {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير عذاب هذه الأُمَّة إلى القيامة {لقضي بينهم} بنزول العذاب(1/493)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{ويقولون} يعني: أهل مكَّة: {لولا} هلاَّ {أنزل عليه آية من ربه} مثلُ العصا وما جاءت به الأنبياء {فقل إنما الغيب لله} أَيْ: إنَّ قولكم: هلا أنزل عليه آية غيبٌ وإنَّما الغيب لله لا يعلم أحدٌ لمَ لمْ يفعل ذلك {فَانْتَظِرُوا} نزول الآية {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}(1/493)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{وإذا أذقنا الناس} كفار مكَّة {رحمة} مطراً وخَصْباً {من بعد ضرَّاء مستهم} فقرٍ وبؤسٍ {إذا لهم مكر في آياتنا} قولٌ بالتَّكذيب أَيْ: إذا أخصبوا بطروا فاحتالوا لدفع آيات الله {قل الله أسرع مكراً} أسرع نقمةً يعني: إنَّ ما يأتيهم من العقاب أسرعُ في أهلاكهم ممَّا أتوه من المكر في إبطال آيات الله {إنَّ رسلنا} يعني: الحفظة {يكتبون ما تمكرون} للمجازاة به في الآخرة(1/493)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{هو الذي يسيِّركم في البر} على المراكب والظُّهور {والبحر} على السُّفن {حتى إذا كنتم في الفلك} السُّفن {وجرين بهم} يعني: وجرت السُّفن بمَنْ ركبها في البحر {بريح طيبة} رُخاءٍ ليِّنةٍ {وفرحوا} بتلك الرِّيح للينها واستوائها {جاءتها ريحٌ عاصف} شديدةٌ {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ} وهو ما ارتفع من الماء {من كلِّ مكان} من البحر {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} دنوا من الهلاك {دَعَوُا الله مخلصين له الدين} تركوا الشِّرك وأخلصوا لله الرُّبوبيَّة وقالوا {لَئِنْ أنجيتنا من هذه} الرِّيح العاصفة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الموحِّدين الطَّائعين(1/493)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بغير الحق} يعملون بالفساد والمعاصي والجرأة على الله {يا أيها النَّاسُ} يعني: أهل مكَّة {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أنفسكم} أَيْ: بغي بعضكم على بعضٍ {متاع الحياة الدنيا} أَيْ: ما ينالونه بهذا الفساد والبغي إنَّما يتمتَّعون به في الحياة الدُّنيا {ثم إلينا مرجعكم}(1/494)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{إنما مثل الحياة الدنيا} يعني: الحياة الفانية في هذه الدَّار {كماءٍ} كمطرٍ {أنزلناه من السماء فاختلط به} بذلك المطر وبسببه {نبات الأرض ممَّا يأكل الناس} من البقول والحبوب والثِّمار {والأنعام} من المراعي والكلأ {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} زينتها وحسنتها {وازَّينت} بنباتها {وظنَّ} أهل تلك الأرض {أنهم قادرون} على حصادها والانتفاع بها {أتاها أمرنا} عذابنا {فجعلناها حصيداً} لا شيء فيها {كأن لم تغن} لم تكن بالأمس {كذلك} الحياةُ في الدُّنيا سببٌ لاجتماع المال وزهرة الدُّنيا حتى إذا كثر ذلك عند صاحبه وظنَّ أنَّه ممتَّعٌ به سُلِب ذلك عنه بموته أو بحادثةٍ تهلكه {كذلك نفصل الآيات} كما بيَّنا هذا المثل للحياة الدُّنيا كذلك يُبيِّن الله آيات القرآن {لقوم يتفكرون} في المعاد(1/494)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{والله يدعو إلى دار السلام} وهي الجنَّة ببعث الرَّسول ونصب الأدلة {ويهدي من يشاء} عمَّ بالدَّعوة وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء(1/495)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{للذين أحسنوا} قالوا: لا إله إلاَّ الله {الحسنى} الجنَّة {وزيادة} النَّظر إلى وجه الله الكريم عزَّ وجل {ولا يرهق} يغشى {وجوههم قترٌ} سوادٌ من الكآبة {ولا ذلة} كما يصيب أهل جهنَّم وهذا بعد نظرهم إلى ربِّهم تبارك وتعالى(1/495)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{والذين كسبوا السيئات} عملوا الشِّرك {جزاء سيئة} أَيْ: فلهم جزاء سيئةٍ {بمثلها وترهقهم ذلة} يُصيبهم ذلٌّ وخزيٌ وهوانٌ {ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {من عاصم} من مانعٍ يمنعهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} أُلبست {وُجُوهُهُمْ قطعاً} طائفةً {من الليل} وهو مظلم(1/496)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ويوم نحشرهم جميعاً} نجمعهم جميعاً: الكفَّارَ وآلهتَهم {ثمَّ نقول للذين أشركوا مكانكم} قفوا والزموا مكانكم {أنتم وشركاؤكم فزيلنا} فرَّقنا وميَّزنا {بينهم} بين المشركين وبين شركائهم وانقطع ما كان بينهم من التَّواصل في الدُّنيا {وقال شركاؤهم} وهي الأوثان: {ما كنتم إيانا تعبدون} أنكروا عبادتهم وقالوا: ما كنَّا نشعر بأنَّكم إيَّانا تعبدون والله يُنطقها بهذا(1/496)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
{فكفى بالله شهيداً} الآية هذا من كلام الشُّركاء قالوا: شهد الله على علمه فينا ما {كنا عن عبادتكم} إلاَّ غافلين لأنَّا كنَّا جماداً لم يكن فينا روحٌ(1/496)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{هنالك} في ذلك الوقت {تَبْلُو} تختبر {كُلُّ نَفْسٍ ما أسلفت} جزاء ما قدَّمَتْ من خيرٍ أو شرٍّ {ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحق} أَي: الذي يملك تولِّي أمرهم ويجازيهم بالحقِّ {وضلَّ عنهم} زال وبطل {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} في الدُّنيا من التَّكذيب(1/496)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
{قل من يرزقكم من السماء والأرض} مَنْ يُنزِّل من السماء المكر ويُخرج النَّبات من الأرض؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار} مَنْ جعلها وخلقها لكم؟ على معنى: مَنْ يملك خلقها {ومن يخرج الحيَّ من الميت} المؤمن من الكافر والنَّبات من الأرض والإِنسان من النُّطفة وعلى الضدِّ من ذلك {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحيِّ ومَنْ يدبر} أمر الدُّنيا والآخرة {فَسَيَقُولُونَ الله} أَي: الله الذي يفعل هذه الأشياء فإذا أقرُّوا بعد الاحتجاج عليهم {فقل أفلا تتقون} أفلا تخافون الله فلا تشركوا به شيئاً(1/496)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
{فذلكم الله ربكم الحق} أَي: الذي هذا كلُّه فِعْلُه هو الحقُّ ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء {فماذا بعد الحق} بعد عبادة الله {إلاَّ الضلال} يعني: عبادة الشَّيطان {فأنى تصرفون} يريد: كيف تُصرف عقولكم إلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت(1/497)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{كذلك} هكذا {حقت} صدَّقت {كلمة ربك} بالشَّقاوة والخذلان {على الذين فسقوا} تمرَّدوا في الكفر {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(1/497)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(1/497)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{قل هل من شركائكم} يعني: آلهتكم {من يهدي} يرشد {إلى الحق} إلى دين الإسلام {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أَيْ: إلى الحقِّ {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحق أن يتبع أمن لا يهدي} أَي: الله الذي يهدي ويرشد إلى الحقِّ أهلَ الحقِّ أحقُّ أن يتَّبع أمره أم الأصنام التي لا تهدي أحداً {إلاَّ أن يُهدى} يُرشد وهي - وإنْ هُديت - لم تهتد ولكنَّ الكلام نزل على أنَّها إِن هُديت اهتدت لأنَّهم لمَّا اتخذوها آلهة عبر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم {فما لكم} أيُّ شيءٍ لكم في عبادة الأوثان وهذا كلامٌ تامٌّ {كيف تحكمون} يعني: كيف تقضون حين زعمتم أنَّ مع الله شريكاً(1/497)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{وما يتبع أكثرهم} يعني: الرُّؤساء لأنَّ السَّفلة يتَّبعون قولهم {إلاَّ ظناً} يظنون أنَّها آلهةٌ {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ليس الظنُّ كاليقين يعني: إنَّ الظَّنَّ لا يقوم مقام العلم {إنَّ الله عليم بما يفعلون} من كفرهم(1/498)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} هذا جوابٌ لقولهم: {ائت بقرآن غير هذا} يقول: ما كان هذا القرآن افراء من دون الله {ولكن تصديق} ولكن كان تصديق {الذي بين يديه} من الكتب {وتفصيل الكتاب} يعني: تفصيل المكتوب من الوعد لمَنْ آمن والوعيد لمَنْ عصى {لا ريب فيه} لا شكَّ في نزوله من عند ربِّ العالمين(1/498)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{أم يقولون افتراه} بل أتقولون: افتراه محمد {قل فأتوا بسورة مثله} إن كان مفترىً {وادعوا} إلى معاونتكم على المعارضة كلَّ مَنْ تقدرون عليه {إِنْ كُنْتُمْ صادقين} في أنَّ محمَّداً اختلقه من عند نفسه ونظيرُ هذه الآية في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية(1/498)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} أَيْ: بما في القرآن من الحنة والنَّار والبعث والقيامة {ولما يأتهم تأويله} ولم يأتهم بعدُ حقيقة ما وُعدوا في الكتاب {كذلك كذَّب الذين من قبلهم} بالبعث والقيامة(1/498)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{ومنهم} ومن كفَّار مكَّة {مَنْ يؤمن به} يعني: قوماً علم أنَّهم يؤمنون {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} يريد: المكذِّبين وهذا تهديدٌ لهم(1/499)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{وإن كذبوك فقل لي عملي} الآية نسختها آية الجهاد(1/499)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
{ومنهم مَنْ يستمعون إليك} نزلت في المستهزئين كانوا يستمعون الاستهزاء والتَّكذيب فقال الله تعالى: {أفأنت تُسمع الصمَّ} يريد أنَّهم بمنزلة الصُّمِّ لشدَّة عداوتهم {ولو كانوا لا يعقلون} أَيْ: ولو كانوا مع كونهم صمَّاً جهَّالاً! أخبر الله سبحانه أنَّهم بمنزلة الصُّمِّ الجُهَّال إذْ لم ينتفعوا بما سمعوا(1/499)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{ومنهم مَنْ ينظر إليك} مُتعجِّباً منك غير منتفعٍ بنظره {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} يريد: إنَّ الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون شيئاً من الهدى(1/499)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} لمَّا ذكر أهل الشَّقاوة ذكر أنَّه لم يظلمهم بتقدير الشَّقاوة عليهم لأنَّه يتصرَّف في ملكه {ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون} بكسبهم المعاصي(1/499)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً من النهار} كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاَّ قدر ساعة من النَّهار استقصروا تلك المدَّة من هول ما استُقبلوا من أمر البعث والقيامة {يَتَعَارَفُونَ بينهم} يعرف بعضهم بعضا تعارف تعارف توبيخٍ لأنَّ كلَّ فريق يقول للآخر: أنت أضللتني وما يشبه هذا {قد خسر} ثواب الجنَّة {الذين كذَّبوا} بالبعث(1/499)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{وإما نرينك بعض الذي نعدهم} يريد: ما ابتُلوا به يوم بدرٍ {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإلينا مرجعهم} أَيْ: فنعذِّبهم في الآخرة {ثمَّ الله شهيد على ما يفعلون} من محاربتك وتكذيبك فيجزيهم بها ومعنى الآية: إنْ لم ينتقم منهم في العاجل ينتقم منهم في الآجل(1/500)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ولكلِّ أمة رسول} يُرسل إليهم {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} وهو هلاك مَنْ كذَّبه ونجاة من تبعه {وهم لا يظلمون} لا ينقص ثواب المُصدِّق ويُجازى المكذِّب بتكذيبه(1/500)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{ويقولون متى هذا الوعد} قالوا ذلك حين قيل لهم: {وإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم} الآية فقالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمَّد؟ {إن كنتم} أنت يا محمَّد وأتباعك صادقين(1/500)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إلاَّ ما شاء الله} الآية مفسَّرةٌ في آيتين من سورة الأعراف فلمَّا استعجلوا العذاب قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:(1/500)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{قل أرأيتم} أعلمتم {إن أتاكم عذابُهُ بياتاً} ليلاً {أو نهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أَيٌّ شيءٍ يستعجل المجرمون من العذاب؟ وهذا استفهام معناه التَّهويل والتًّفظيع أَيْ: ما أعظم ما يلتمسون ويستعجلون! كما تقول: أعلمت ماذا تجني على نفسك؟ ! فلمَّا قال لهم النبيُّ عليه السَّلام هذا قالوا: نكذِّب بالعذاب ونستعجله فإذا وقع آمنَّا به فقال الله تعالى:(1/501)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
{أثمَّ إذا ما وقع} وحلَّ بكم {آمنتم به} بعد نزوله فلا يقبل منكم الإِيمان ويقال لكم: {الآنَ} تؤمنون به {وقد كنتم به تستعجلون} في الدنيا مستهزئين(1/501)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}(1/501)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ويستنبئونك} يستخبرونك {أحقٌّ} ما أخبرتنا به من العذاب والبعث؟ {قل إي} نعم {وربي إنه لحق} يعني: العذاب نازلٌ بكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بعد الموت أَيْ: فتجازون بكفركم(1/501)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركت {مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} لبذلته لدفعِ العذاب عنها {وأسروا} أخفوا وكتموا {الندامة} يعني: الرُّؤساء من السَّفلة الذين أضلُّوهم {وقضي بينهم} بين السَّفلة والرُّؤساء {بالقسط} بالعدل فيجازي كلٌّ على صنيعه(1/501)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
{ألاَ إنَّ وعد الله حقٌّ} ما وعد لأوليائه وأعدائه {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} يعني: المشركين(1/501)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}(1/502)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
{يا أيها الناس} يعني: قريشاً {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} القرآن {وشفاءٌ لما في الصدور} ودواءٌ لداء الجهل {وهدىً} وبيانٌ من الضَّلالة {ورحمةٌ للمؤمنين} ونعمةٌ من الله سبحانه لأصحاب محمَّدٍ(1/502)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{قل بفضل الله} الإِسلام {وبرحمته} القرآن {فبذلك} الفضل والرَّحمة {فليفرحوا هو خيرٌ} أَيْ: ما آتاهم الله من الإِسلام والقرآن خيرٌ ممَّا يجمع غيرهم من الدُّنيا(1/502)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
{قل} لكفَّار مكَّة: {أرأيتم ما أنزل الله} خلقه وأنشأه لَكُمْ {مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} يعني: ما حرَّموه ممَّا هو حلالٌ لهم من البحيرة وأمثالها وأحلُّوه ممَّا هو حرامٌ من الميتة وأمثالها {قل الله أذن لكم} في ذلك التَّحريم والتَّحليل {أم} بل {عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(1/502)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يوم القيامة} أَيْ: ما ظنُّهم ذلك اليوم بالله وقد افتروا عليه؟ {إنَّ الله لذو فضل على الناس} أهل مكَّة حين جعلهم في أمنٍ وحرمٍ إلى سائر ما أنعم به عليهم {ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون} لا يُوحدِّون ولا يُطيعون(1/502)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{وما تكون} يا محمَّد {في شأن} أمرٍ من أمورك {وما تتلوا منه} من الله {من قرآنٍ} أنزله عليك {ولا تعملون من عمل} خاطبه وأمَّته {إلاَّ كُنَّا عليكم شهوداً} نشاهد ما تعلمون {إذ تفيضون} تأخذون {فيه وما يعزب} يغيب ويبعد {عن ربك من مثقال ذرة} وزن ذرَّة {إلاَّ في كتاب مبين} يريد: اللَّوح المحفوظ الذي أثبت الله سبحانه فيه الكائنات(1/502)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ألا إنَّ أولياء الله} هم الذين تولَّى الله سبحانه هداهم(1/503)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
{الذين آمنوا} صدَّقوا النبيَّ {وكانوا يتقون} خافوا مقامهم بين يدي الله سبحانه(1/503)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{لهم البشرى في الحياة الدنيا} عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشرى من الله {وفي الآخرة} يُبشَّرون بثواب الله وجنَّته {لا تبديل لكلمات الله} لا خلف لمواعيده(1/503)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
{ولا يحزنك قولهم} تكذيبهم إيَّاك {إنَّ العزة لله} القوَّة لله والقدرة لله {جميعاً} وهو ناصرك {وهو السميع} يسمع قولهم {العليم} بما في ضميركم فيجازيهم بما يقتضيه حالهم(1/503)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{ألاَّ إن لله مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض} يعني: يفعل بهم وفيهم ما يشاء {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} أيْ: ليسوا يتَّبعون شركاء على الحقيقة لأنَّهم يعدُّونها شركاء شفعاء لهم وليست على ما يظنُّون {إِنْ يتبعون إلا الظن} ما يتَّبعون إلاَّ ظنَّهم أنَّها تشفع لهم {وإن هم إلا يخرصون} يقولون ما لا يكون(1/503)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} مُضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم {إِنَّ في ذلك لآيات لقومٍ يسمعون} سَمعَ اعتبار(1/503)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{قالوا اتخذ الله ولدا} يعني: قولهم: الملائكة بنات الله {سبحانه} تنزيهاً له عمل قالوه {هو الغنيُّ} أن يكون له زوجةٌ أو ولدٌ {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} ما عندكم من حجة بهذا وقوله:(1/504)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يفلحون}(1/504)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{متاع في الدنيا} أيْ: لهم متاعٌ في الدُّنيا يتمتَّعون به أيَّاماً يسيراً وقوله:(1/504)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{إن كان كَبُرَ عليكم مقامي} أَيْ: عَظُم وشقَّ عليكم مكثي ولبثي فيكم {وتذكيري بآيات الله} وعظي وتخويفي إيَّاكم عقوبة الله {فَعَلَى اللَّهِ توكلت} فافعلوا ما شئتم وهو قوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءَكم} أَيْ: اعزموا على أمرٍ مُحكمٍ تجتمعون عليه {وشركاءكم} مع شركاءكم وقيل: معناه: وادعوا شركاءكم يعني: آلهتكم {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أَيْ: ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً تتمكنون فيه ممَّا شئتم لا كمَنْ يكتم أمراً ويخفيه فلا يقدر أن يفعل ما يريد {ثمَّ اقضوا إليَّ} افعلوا ما تريدون وامضوا إليَّ بمكروهكم {ولا تنظرون} ولا تُؤخِّروا أمري والمعنى: ولا تألوا في الجمع والقوَّة فإنَّكم لا تقدرون على مساءتي لأنَّ لي إلهاً يمنعني وفي هذا تقويةٌ لقلب محمد صلى الله عليه وسلم لأنَّ سبيله مع قومه كسبيل الأنبياء من قبله(1/504)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإِيمان {فَمَا سَأَلْتُكُمْ من أجر} مالٍ تعطونيه وهذا من قول نوح عليه السلام لقومه وقوله:(1/504)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كان عاقبة المنذرين}(1/505)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{فما كانوا ليؤمنوا} يعني: أمم الأنبياء والرُّسل {بما} كذَّب به قوم نوح أَيْ: هؤلاء الآخرون لم يؤمنوا بما كذَّب به أوَّلُوهم وقد علموا أنَّ الله سبحانه أغرقهم بتكذيبهم ثم قال: {كذلك} كما طبعنا على قلوبهم {نطبع على قلوب المعتدين} المُجاوزين الحق إلى الباطل وقوله:(1/505)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}(1/505)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}(1/505)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ولا يفلح الساحرون}(1/505)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{قالوا أجئتنا لتلفتنا} لتردَّنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ} الملك والعزُّ {في الأرض} في أرض مصر وقوله:(1/505)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}(1/505)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أنتم ملقون}(1/505)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
{إنَّ الله سيبطله} سيهلكه {إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين} لا يجعله ينفعهم(1/505)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{ويحق الله الحق} ويظهره بالدَّلائل الواضحة {بكلماته} بوعده(1/505)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} يعني: من آمن به من بني إسرائيل وكانوا ذرية أولاد يعقوب {على خوفٍ من فرعون ومَلَئِهِمْ} ورؤسائهم {أن يفتنهم} يصرفهم عن دينهم بمحنةٍ وبليَّةٍ يوقعهم فيها {وإنَّ فرعون لعالٍ} متطاولٌ {في الأرض} في أرض مصر {وإنه لمن المسرفين} حيث كان عبداً فادَّعى الربوبية وقوله:(1/505)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}(1/506)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
{لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} أَيْ: لا تُظهرهم علينا فيروا أنَّهم خيرٌ منا فيزدادوا طغياناً ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ ما سُلِّطنا عليهم فَيُفتنوا(1/506)
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(1/506)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{وأوحينا إلى موسى وأخيه} الآية لمَّا أُرسل موسى صلوات الله عليه إلى فرعون أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فَخُرِّبت كلُّها ومُنعوا من الصَّلاة فأُمروا أن يتَّخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّوا فيها خوفاً من فرعون فذلك قوله: {تبوءا لقومكما} أي: اتخذ لهم {بمصر بيوتاً} في دورهم {واجعلوا بيوتكم قبلة} أَيْ: صلُّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف وقوله:(1/506)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
{ربنا ليضلوا عن سبيلك} أَيْ: جعلت هذه الأموال سبباً لضلالهم لأنَّهم بطروا فاستكبروا عن الإِيمان {ربنا اطمس على أموالهم} امسخها وأذهبها عن صورتها فصارت دراهمهم ودنانيرهم حجارةً منقوشةً صحاحاً وأنصافاً وكذلك سائر أموالهم {واشدُدْ على قلوبهم} اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإِيمان {فلا يؤمنوا} دعاءٌ عليهم {حتى يروا العذاب الأليم} يعني: الغرق فاستجيب في ذلك فلم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق(1/506)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{قال قد أجيبت دعوتكما} وذلك أنَّ موسى دعا وأمَّن هارون {فاستقيما} على الرِّسالة والدًّعوة {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي وقوله:(1/507)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
{فأتبعهم فرعون وجنوده} طلبوا أن يلحقوا بهم {بغياً} طلباً للاستعلاء بغير حقٍّ {وعدواً} ظلماً {حتى إذا أدركه الغرق} تلفظ لما أخبر الله عنه حين لم ينفعه ذلك لأنَّه رأى اليأس وعاينه فقيل له: {آلآن وقد عصيت قبل} أَيْ: آلآن تؤمن أو تتوب؟ فلمَّا أغرقه الله جحد بعض بني إسرائيل غَرَقَةُ وقالوا: هو أعظم شأناً من أن يغرق فأخرجه الله سبحانه من الماء حتى رأوه فذلك قوله:(1/507)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
{آلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(1/507)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{فاليوم ننجيك} نخرجك من البحر بعد الغرق {ببدنك} بجسدك الذي لا روح فيه {لتكون لمَنْ خلفك آية} نكالاً وعبرةً {وإنَّ كثيراً من الناس} يريد: أهل مكَّة {عن آياتنا} عمَّا يراد بهم {لغافلون}(1/507)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مبوَّأ صدق} أنزلنا قريظة والنضير منزل صدقٍ أَيْ: محموداً مختاراً يريد: من أرض يثرب ما بين المدينة والشّام {ورزقناهم من الطيبات} من النَّخل والثِّمار ووسَّعنا عليهم الرِّزق {فَمَا اخْتَلَفُوا} في تصديق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنَّه رسولٌ مبعوثٌ {حتى جاءهم العلم} حقيقةُ ما كانوا يعلمونه وهو محمَّد عليه السَّلام بنعته وصفته والقرآن وذلك أنَّهم كانوا يُخبرون عن زمانه ونبوَّته ويؤمنون به فلمَّّا أتاهم اختلفوا فكفر به أكثرهم(1/508)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{فإن كنت في شك} هذا في الظَّاهر خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشَّاكِّين في الدِّين وقوله: {فَاسْأَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} يعني: مَنْ آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه فيشهدون على صدق محمد ويخبرون بنبوَّته وباقي الآية والتي تليها خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره(1/508)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فتكون من الخاسرين}(1/508)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
{إنَّ الذين حقت عليهم كلمة ربك} وجبت عليهم كلمة العذاب(1/508)
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
{لا يؤمنون * ولو جاءتهم كلُّ آية} وذلك أنَّهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا فقال الله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم} فلا ينفعهم حينئذٍ الإِيمان كما لم ينفع فرعون(1/508)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{فلولا كانت قرية} أَيْ: فما كانت قريةٌ {آمنت فنفعها إيمانها} عند نزول العذاب {إلاَّ قوم يونس لما آمنوا} عند نزول العذاب {كشفنا عنهم عذاب الخزي} يعني: سخط الله سبحانه {ومتعناهم إلى حين} يريد: حين آجالهم وذلك أنَّهم لمَّا رأوا الآيات التي تدلُّ على قرب العذاب أخلصوا التَّوبة وترادُّوا المظالم وتضرَّعوا إلى الله تعالى فكشف عنهم العذاب(1/508)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كلهم جميعاً} الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حريصاً على أن يؤمن جميع الناي فأخبره الله سبحانه أنَّه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السَّعادة وهو قوله:(1/509)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ الله} أَيْ: إلاَّ بما سبق لها في قضاء الله وقدره {ويجعل الرجس} العذاب {على الذين لا يعقلون} عن الله تعالى أمره ونهيه وما يدعوهم إليه(1/509)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{قل} للمشركين الذين يسألونك الآيات: {انظروا ماذا} أي: الذي أعظم منها {في السماوات والأرض} من الآيات والعبر التي تدلُّ على وحدانيَّة الله سبحانه فيعلموا أنَّ ذلك كلَّه يقتضي صانعاً لا يشبه الأشياء ولا تشبهه ثمَّ بيَّن أنَّ الآيات لا تُغني عمَّن سبق في علم الله سبحانه أنَّه لا يؤمن فقال: {وما تغني الآيات والنذر} جمع نذير {عن قومٍ لا يؤمنون} يقول: الإنذار غير نافعٍ لهؤلاء(1/509)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
{فهل ينتظرون} أَيْ: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك {إلاَّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} إلاَّ مثل وقائع الله سبحانه فيمَنْ سلف قبلهم من الكفَّار(1/509)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ثمَّ ننجي رسلنا والذين آمنوا} هذا إخبارٌ عن ما كان الله سبحانه يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرُّسل والمُصدِّقين لهم عما يعذِّب به مَنْ كفر {كذلك} أَيْ: مثل هذا الإِنجاء {ننج المؤمنين} بمحمد صلى الله عليه وسلم من عذابي(1/510)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
{قل يا أيها الناس} يريد: أهل مكَّة {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ من ديني} الذي جئت به {فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله} أي: بشكِّكم في ديني لا أعبد غير الله {ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} يأخذ أرواحكم وفي هذا تهديدٌ لهم لأنَّ وفاة المشركين ميعاد عذابهم وقوله:(1/510)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
{وأن أقم وجهك للدين حنيفاً} استقم بإقبالك على ما أُمرت به بوجهك(1/510)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا ينفعك ولا يضرُّك} أَيْ: شيئاً ما لأنَّه لا يتحقق النَّفع والضَّرُّ إلاَّ من الله فكأنَّه قال: ولا تدع من دون الله شيئا(1/510)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
{وإن يمسسك الله بضر} بمرضٍ وفقرٍ {فلا كاشف له} لا مزيل له {إلاَّ هو} {وإن يردك بخيرٍ} يرد بك الخير {فلا رادَّ لفضله} لا مانع لما تفضَّل به عليك من رخاءٍ ونعمةٍ {يُصِيبُ بِهِ} بكلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر {من يشاء من عباده}(1/510)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{قل يا أيها النَّاسُ} يعني: أهل مكَّة {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ} القرآن {من ربكم} وفيه البيان والشِّفاء {فمن اهتدى} من الضَّلالة {فإنما يهتدي لنفسه} يريد: مَنْ صدَّق محمَّداً عليه السَّلام فإنَّما يحتاط لنفسه {ومَنْ ضلَّ} بتكذيبه {فإنما يضلُّ عليها} إنَّما يكون وبال ضلاله على نفسه {وَمَا أنا عليكم بوكيلٍ} بحفيظٍ من الهلاك حتى لا تهلكوا(1/510)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله} نسخته آية السَّيف لأنَّ الله سبحانه حكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب(1/511)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{الر} أنا الله الرَّحمن {كتاب} هذا كتابٌ {أُحْكمتْ آياته} بعجيب النَّظم وبديع المعاني ورصين اللَّفظ {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بُيِّنت بالأحكام من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه من {لدن حكيم} في خلقه {خبير} بمَنْ يُصدِّق نبيَّه وبمَنْ يكذبه(1/512)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
{أن لا تعبدوا} أَيْ: بأن والتَّقدير: هذا كتابٌ بأن لا تعبدوا {إلاَّ الله}(1/512)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{و} بـ {أن استغفروا ربكم} أَيْ: من ذنوبكم السَّالفة {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من المستأنفة متى وقعت {يمتعكم متاعاً حسناً} يتفضَّل عليكم بالرِّزق والسِّعة {إلى أجل مسمى} أجل الموت {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} يؤت كلَّ مَنْ فَضُلَت حسناته على سيئاته فضله يعني: الجنَّة وهي فضل الله سبحانه {وإن تولوا} تتولَّوا عن الإِيمان {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} وهو يوم القيامة(1/512)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}(1/512)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ألا إنهم يثنون صدورهم} نزلت في طائفةٍ من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ربُّنا؟ فأنزل الله تعالى {ألا إنهم يثنون صدورهم} أَيْ: يعطفونها ويطوونها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {ليستخفوا منه} ليتواروا عنه ويكتموا عداوته {ألا حين يستغشون ثيابهم} يتدثَّرون بها {يعلم ما يسرون وما يعلنون} أعلم الله سبحانه أنَّ سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهرهم {إنه عليم بذات الصدور} بما في النُّفوس من الخير والشَّرِّ(1/513)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{وما من دابة} حيوانٍ يدبُّ {في الأرض إلاَّ على الله رزقها} فضلاً لا وجوباً {ويعلم مستقرها} حيث تأوي إليه {ومستودعها} حيث تموت {كلٌّ في كتاب مبين} يريد: اللَّوح المحفوظ والمعنى: أنَّ ذلك ثابتٌ في علم الله(1/513)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} ذكرنا تفسيره في سورة الأعراف {وكان عرشه على الماء} يعني: قبل خلق السماوات والأرض {ليبلوكم} أَيْ: خلقها لكم لكي يختبركم بالمصنوعات فيها من آياته ليعلم إحسان المحسن وإساءة المسيء وهو قوله تعالى {أيكم أحسن عملاً} أَيْ أَعملُ بطاعة الله تعالى {ولئن قلت} للكفَّار بعد خلق الله السماوات والأرض وبيان قدرته {إنكم مبعوثون من بعد الموت} كذَّبوا بذلك وقالوا: {إن هذا إلاَّ سحر مبين} أَيْ: باطلٌ وخداعٌ(1/513)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} إلى أجلٍ وحينٍ معلومٍ {ليقولَّن ما يحبسه} ما يحبس العذاب عنا؟ تكذيباً واستهزاء فقال الله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عنهم} إذا أخذتهم سيوف المسلمين لم تغمد عنهم حتى يُباد الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص {وحاق} نزل وأحاط {بهم} جزاء {ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب والقتل(1/514)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
{ولئن أذقنا الإِنسان} يعني: الوليد بن مغيرة {منَّا رحمة} رزقاً {ثمَّ نزعناها منه إنه ليؤوس} مُؤْيَسٌ قانطٌ {كَفُور} كافرٌ بالنِّعمة يريد: إنَّه لجهله بسعة رحمة الله يستشعر القنوط واليأس عند نزول الشِّدَّة(1/514)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
{ولئن أذقناه نعماء} الآية معناه: إنَّه يبطر فينسى حال الشِّدَّة ويترك حمد الله ما صرف عنه وهو قوله: {ليقولنَّ ذهب السيئات عني} فارقني الضُّرُّ والفقر {إنه لفرحٌ فخورٌ} يُفاخر المؤمنين بما وسَّعَ الله عليه ثمَّ ذكر المؤمنين فقال:(1/514)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{إلاَّ الذين صبروا} والمعنى: لكن الذبن صبروا على الشِّدَّة والمكاره {وعملوا الصالحات} في السَّراء والضراء(1/514)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
{فلعلك تاركٌ} الآية قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتابٍ ليس فيه سبُّ آلهتنا حتى نتَّبعك وقال بعضهم: هلاَّ اُنزل عليك مَلَكٌ يشهد لك بالنُّبوَّة والصِّدق أو تُعطى كنزاً تستغني به أنت وأتباعك فهمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع سبَّ آلهتهم فأنزل الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أَيْ: لعظيم ما يرد على قابك من تخليطهم تتوهَّم أنَّهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربِّك {وَضَائِقٌ به صدرك أن يقولوا} أَيْ: ضائق صدرك بأن يقولوا {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} عليك أن تنذرهم وليس أن تأتيهم بما يقترحون {والله على كل شيء وكيل} حافظٌ لكلِّ شيءٍ(1/514)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{أم يقولون} بل أيقولون {افتراه} افترى القرآن وأتى به من قبل نفسه {قل فأتوا بعشر سورٍ مثله} مثل القرآن في البلاغة {مُفترياتٍ} بزعمكم {وادعوا من استطعتم من دون الله} إلى المعاونة على المعارضة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنه افتراء(1/515)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
{فإلم يستجيبوا لكم} فإن لم يستجب لكم مَنْ تدعونهم إلى المعاونة ولم يتهيَّأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجَّة {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بعلم الله} أَيْ: أُنزل والله عالمٌ بإنزاله وعالمٌ أنَّه من عنده {فهل أنتم مسلمون} استفهامٌ معناه الأمر كقوله: {فهل أنتم منتهون}(1/515)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
{من كان يريد الحياة الدنيا} أَيْ: مَنْ كان يريدها من الكفَّار ولا يؤمن بالبعث ولا بالثَّواب والعقاب {نوف إليهم أعمالهم} جزاء أعمالهم في الدُّنيا يعني: إنَّ مَنْ أتى من الكافرين فِعلاً حسناً من إطعام جائعٍ وكسوة عارٍ ونصرة مظلومٍ من المسلمين عُجِّل له ثواب ذلك في دنياه بالزِّيادة في ماله {وهم فيها} في الدُّنيا {لا يُبخسون} لا يُنقصون ثواب ما يستحقُّون فإذا وردوا الآخرة وردوا على عاجل الحسرة إذ لا حسنة لهم هناك وهو قوله تعالى:(1/515)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النار} الآية(1/516)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{أفمن كان} يعني: النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم {على بينة من ربه} بيانٍ من ربِّه وهو القرآن {ويتلوه شاهد} وهو جبريل عليه السَّلام {منه} من الله عز وجل يريد أنَّه يتَّبعه ويؤيِّده ويشهده {ومن قبله} ومن قبل القرآن {كتاب موسى} التَّوراة يتلوه أيضاً في التَّصديق لأنّ موسى عليه السلام بشر في التوراة فالتوراة تتلو النبي صلى الله عليه وسلم في التصديق وقوله: {إماماً ورحمة} يعني أنَّ كتاب موسى كان إماماً لقومه ورحمة وتقدير الآية: أفمَنْ كان بهذه الصِّفة كمَنْ ليس يشهد بهذه الصِّفة؟ فترك ذكر المضادِّ له {أولئك يؤمنون به} يعني: من آمن به من أهل الكتاب {ومن يكفر به من الأحزاب} أصنافِ الكفَّار {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} من هذا الوعد {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يؤمنون} يعني: أهل مكَّة(1/516)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أنَّ له ولداً وشريكاً {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ على ربهم} يوم القيامة {ويقول الأشهاد} وهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون {هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم ألا لعنةُ اللَّهِ} إبعاده من رحمته {على الظالمين} المشركين(1/516)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
{الذين يصدون عن سبيل الله} تقدَّم تفسير هذه الآية(1/517)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أَيْ: سابقين فائتين لم يعجزونا أن نعذِّبهم في الدُّنيا ولكن أخَّرْنا عقوبتهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أولياء} يمنعونهم من عذاب الله {يضاعف لهم العذاب} لإِضلالهم الأتباع {ما كانوا يستطيعون السمع} لأني حُلْتُ بينهم وبين الإِيمان فكانوا صُمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه وعمياً عنه فلا يبصرونه ولا يهتدون(1/517)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
{أولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بأن صاروا إلى النَّار {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} بطل افتراؤهم في الدنيا فلم يبفعهم شيئاً(1/517)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{لا جرم} حقَّاً {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ}(1/517)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى ربهم} اطمأنُّوا وسكنوا وقيل: تابوا(1/517)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
{مثل الفريقين} فريق الكافرين وفريق المسلمين {كالأعمى والأصم} وهو الكافر {والبصيرِ والسميع} وهو المؤمن {هل يستويان مثلاً} أَيْ: في المَثل أَيْ: هل يتشابهان؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أفلا تتعظون يا أهل مكَّة(1/517)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} فقال لهم: يا قومي {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(1/518)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
{أن لا تعبدوا إلاَّ الله} أَيْ: أُنذركم لِتُوحِّدوا الله وتتركوا عبادة غيره {إني أخاف عليكم} بكفركم {عذاب يومٍ أليم} مؤلمٍ(1/518)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} وهم الأشراف والرُّؤساء: {ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا} إنساناً مثلنا لا فضل لك علينا {وَمَا نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا} أخسَّاؤنا يعنون: مَنْ لا شرفَ لهم ولا مال {بادي الرأي} اتَّبعوك في ظاهر الرَّأي وباطنهم على خلاف ذلك {وما نرى لكم} يعنون لنوحٍ وقومه {علينا من فضل} وهذا تكذيبٌ منهم لأنَّ الفضل كلَّه في النُّبوَّة {بل نظنُّكم كاذبين} ليس ما أتيتنا به من الله(1/518)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{قال يا قوم أرأيتم} أَيْ: أعلمتم {إنْ كنت على بينة من ربي} يقينٍ وبرهانٍ {وآتاني رحمة من عنده} نُبوَّةً {فعميت عليكم} فخفيت عليكم لأنَّ الله تعالى سلبكم علمها ومنعكم معرفتها لعنادكم الحقَّ {أنلزمكموها} أَنُلزمكم قبولها ونضطركم إلى معرفتها إذا كرهتم؟(1/518)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الرِّسالة {مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وما أنا بطارد الذين آمنوا} سألوه طرد المؤمنين عنه ليؤمنوا به أنفةً من أن يكونوا معهم على سواء فقال: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ويأخذ لهم ممَّن ظلمهم وصغَّر شؤونهم وهو قوله: {إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون} أنَّ هؤلاء خيرٌ منكم لإِيمانهم وكفركم(1/518)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} مَنْ يمنعني من عذاب الله {إن طردتهم} ؟(1/519)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{ولا أقول لكم عندي خزائن الله} يعني: مفاتيح الغيب وهذا جوابٌ لقولهم: اتَّبعوك في ظاهرِ ما نرى منهم وهم في الباطن على خلافك فقال مجيباً لهم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله} غيوب الله {ولا أعلم الغيب} ما يغيب عني ممَّا يسترونه في نفوسهم فسبيلي قبول ما ظهر منهم {ولا أقول إني مَلَك} جوابٌ لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} {ولا أقول للذين تزدري} تستصغر وتستحقر {أعينكم} يعني: المؤمنين: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا في أنفسهم} أَيْ: بضمائرهم وليس عليَّ أن أطَّلع على ما في نفوسهم {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إن طردتهم تكذيباً لهم بعد ما ظهر لي منهم الإيمان وقوله:(1/519)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(1/519)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وما أنتم بمعجزين}(1/519)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
{إن كان الله يريد أن يغويكم} أَيْ: يُضِلَّكم ويوقع الغيَّ في قلوبكم لما سبق لكم من الشَّقاء {هو ربكم} خالقكم وسيِّدكم وله أن يتصرَّف فيكم كما يشاء(1/519)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{أم يقولون} بل يقولون {افتراه} اختلف ما أتى به من الوحي {قل إن افتريته فعليَّ إجرامي} عقوبة جرمي {وأنا بريء مما تجرمون} من الكفر والتكذيب وقوله:(1/519)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{فلا تبتئس} أَيْ: لا تحزن ولا تغتم(1/520)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{واصنع الفلك بأعيننا} بمرأى منا وتأويله: بحفظنا إيَّاك حفظ مَنْ يراك ويملك دفع السُّوء عنك {ووحينا} وذلك أنَّه لم يعلم صنعة الفلك حتى أوحى الله إليه كيف يصنعها {ولا تخاطبني} لا تراجعني ولا تحاورني {في الذين ظلموا} في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم وقوله:(1/520)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{إن تسخروا منا} أَيْ: لما يرون من صنعه الفلك {فإنا نسخر منكم} ونعجب من غفلتكم عمَّا قد أظلَّكم من العذاب(1/520)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{فسوف تعلمون مَنْ يأتيه عذابٌ يخزيه} أَيْ: فسوف تعلمون مَنْ أخسر عاقبةً(1/520)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{حتى إذا جاء أمرنا} بعذابهم وهلاكهم {وفار التنور} بالماء يعني: تنُّور الخابز وكان ذلك علامةً لنوح عليه السَّلام فركب السَّفينة {قلنا احمل فيها} في الفلك {من كلّ زوجين} من كلِّ شيءٍ له زوج {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} واحمل أهلك يعني: ولده وعياله {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القول} يعني: مَنْ كان في علم الله أنَّه يغرق بكفره وهو امرأته واغلة وابنه كنعان {وَمَنْ آمَنَ} واحمل مَنْ صدَّقك {وما آمن معه إلاَّ قليل} ثمانون إنساناً(1/520)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{وَقَالَ} نوحٌ لقومه الذين أُمر بحملهم: {ارْكَبُوا} يعني: الماء {فيها} في الفلك {بسم الله مجريها ومرساها} يريد: تجري باسم الله وترسي باسم الله فكان إذا أراد أن تجري السفينة قال: بسم الله فجرت وإذا أراد أن ترسي قال: بسم الله فَرَسَتْ أَيْ: ثبتت {إن ربي لغفور} لأصحاب السَّفينة {رحيم} بهم(1/521)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
{وهي تجري بهم في موج} جمع موجةٍ وهي ما يرتفع من الماء {كالجبال} في العِظَم {ونادى نوح ابنه} كنعان وكان كافراً {وكان في معزل} من السَّفينة أَيْ: في ناحيةٍ بعيدة عنها(1/521)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{قال سآوي إلى جبل} أنضمُّ إلى جبلٍ {يعصمني} يمنعني {من الماء} فلا أغرق {قال} نوح: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لا مانع اليوم من عذاب الله {إِلا من رحم} لكن من رحم الله فإنَّه معصوم {وحال بينهما} بين ابن نوحٍ وبين الجبل {الموج} ما ارتفع من الماء(1/521)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك} اشربي ماءك {ويا سماء أقلعي} أمسكي عن إنزال الماء {وغيض الماء} نقص {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أُهلك قوم نوحٍ وفُرِغ من ذلك {واستوت} السَّفينة {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة {وقيل بعداً} من رحمة الله {للقوم الظالمين} المتَّخذين من دون الله آلهاً(1/521)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي} كنعان {من أهلي وإنَّ وعدك الحق} وعدتني أن تنجيني وأهلي أَيْ: فأنجه من الغرق {وأنت أحكم الحاكمين} أعدل العادلين(1/522)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين وعدتك أن أُنجيهم {إنه عمل غير صالح} أيْ: سؤالك إيَّاي أن أنجي كافراً عملٌ غير صالح وقيل: معناه: إنَّ ابنك ذو عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لك به علم} وذلك أنَّ نوحاً لم يعلم أنَّ سؤاله ربَّه نجاةَ ولدِه محظورٌ عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله سبحانه ذلك والمعنى: فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ بجواز مسألته {إِنِّي أَعِظُكَ} أنهاك {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} من الآثمين فاعتذر نوحٌ عليه السَّلام لمَّا أعلمه الله سبحانه أنَّه لا يجوز له أن يسأل ذلك وقال:(1/522)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي} جهلي {وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1/522)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
{قيل يا نوح اهبط} من السَّفينة إلى الأرض {بسلامٍ} بسلامةٍ وقيل: بتحيَّةٍ {منا وبركات عليك} وذلك أنَّه صار أبا البشر لأنَّ جميع مَن بقي كانوا من نسله {وعلى أمم ممن معك} أَيْ: من أولادهم وذرايتهم وهم المؤمنون وأهل السَّعادة إلى يوم القيامة {وأمم سنمتعهم} في الدُّنيا يعني: الأمم الكافرة من ذريَّته إلى يوم القيامة(1/522)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{تلك} القصَّة التي أخبرتك بها {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أخبار ما غاب عنك وعن قومك {فاصبر} كما صبر نوح على أذى قومه {إِنَّ العاقبة للمتقين} آخر الأمر بالظَّفر لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوحٍ وقوله:(1/523)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
{إن أنتم إلاَّ مفترون} ما أنتم إلاَّ كاذبون في إشراككم الأوثان وقوله:(1/523)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الذي فطرني أفلا تعقلون}(1/523)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{يرسل السماء عليكم مدراراً} كثير الدَّرِّ يعني: المطر {ويزدكم قوة إلى قوتكم} يعني: المال والولد وكان الله سبحانه قد حبس عنهم المطر ثلاث سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله سبحانه بلادكم ورزقكم المال والولد(1/523)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
{قالوا} مُنكرين لنبوَّته: {يا هود ما جئتنا ببينة} بحجَّةٍ واضحةٍ وقوله:(1/523)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
{اعتراك} أصابك ومسَّك {بعض آلهتنا بسوء} بجنونٍ فأفسد عقلك فالذي يظهر مِنْ عيبها لما لحق عقلك من التَّغيير {قال} نبيُّ الله عليه السَّلام عند ذلك: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تشركون} أَيْ: إن كانت عندكم الأصنام أنَّها عاقبتني لطعني عليها فإني أزيد الآن في الطَّعن عليها وقوله:(1/523)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
{فكيدوني جميعاً} احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي {ثم لا تنظرون} لا تؤجلون وقوله:(1/523)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أَيْ: هي في قبضته وتنالها بما شاء قدرته {إنَّ ربي على صراط مستقيم} أَيْ: إنَّ الذي بعثني الله به دينٌ مستقيمٌ(1/524)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
{فإن تولوا} تتولَّوا بمعنى: تُعرضوا عمَّا دعوتكم إليه من الإِيمان {فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} فقد ثبتت الحُجَّة عليكم بإبلاغي {ويستخلف ربي قوماً غيركم} أَيْ: ويخلف بعدكم مَنْ هو أطوعُ له منكم {ولا تضرونه} بإعراضكم {شيئاً} إنَّما تضرُّون أنفسكم {إنَّ ربي على كل شيء} من أعمال العباد {حَفِيظٌ} حتى يجازيهم عليها(1/524)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
{ولما جاء أمرنا} بهلاك عادٍ {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ برحمةٍ منا} حيث هديناهم إلى الإِيمان وعصمناهم من الكفر {ونجيناهم من عذاب غليظ} يعني: ما عُذِّب به الذين كفروا(1/524)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
{وَتِلْكَ عَادٌ} يعني: القبيلة {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كذَّبوها فلم يُقِرّوا بها {وعصوا رسله} يعني: هوداً عليه السَّلام لأنَّ مَنْ كذَّب رسولاً واحداً فقد كفر بجميع الرُّسل {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} واتَّبع السَّفلةُ الرُّؤساءَ والعنيد: المعارضُ لك بالخلاف(1/524)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً} أُردفوا لعنةً تلحقهم وتنصرف معهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: وفي يوم القيامة كما قال: {لعنوا في الدنيا والآخرة} {ألاَ إنَّ عاداً كفروا ربهم} قيل: بربِّهم وقيل: كفروا نعمة ربِّهم {ألا بعداً لعاد} يريد: بعدوا من رحمة الله تعالى وقوله:(1/524)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{هو أنشأكم} أَيْ: خلقكم {من الأرض} من آدم وآدم خُلق من تراب الأرض {واستعمركم فيها} جعلكم عمَّاراً لها(1/525)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قبل هذا} وذلك أنَّ صالحاً عليه السَّلام كان يعدل عن دينه ويشنأ أصنامهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دين غشيرته فلمَّا أظهر دعاءهم إلى الله تعالى زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه وقوله {مريب} موقعٍ في الرِّيبة(1/525)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{قال يا قوم أرأيتم} الآية يقول: أعلمتم مَنْ ينصرني من الله أَيْ: مَنْ يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ بعد بيِّنةٍ من ربِّي ونعمةٍ {فما تزيدونني غير تخسير} أَيْ: ما تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم الأصنام وقلكم: {أتنهانا أن نعبدَ ما يعبدُ آباؤُنا} إلاَّ بنسبتي إيَّاكم إلى الخسارة أَيْ: كلَّما اعتذرتم بشيءٍ زادكم تخسيراً وقيل معنى الآية: ما تزيدونني غير تخسيرٍ لي إن كنتم أنصاري وعنى التَّخسير: التَّضليل والإِبعاد من الخير وقوله:(1/525)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عذاب قريب}(1/525)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
{تمتعوا في داركم} أَيْ: عيشوا في بلادكم {ثلاثة أيام ذلك وعدٌ} للعذاب {غير مكذوب} غير كذبٍ وقوله:(1/526)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
{ومن خزي يومئذٍ} أَيْ: نجَّيناهم من العذاب الذي أهلك قومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العارُ فيهم مأثوراً عنهم فالواوُ في {ومِنْ} نسقٌ على محذوف وهو العذاب(1/526)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
{وأخذ الذين ظلموا الصيحة} لمَّا أصبحوا اليوم الرَّابع أتتهم صيحةٌ من السَّماء فيها صوت كلِّ صاعقةٍ وصوت كلِّ شيء في الأرض فتقطَّعت قلوبهم في صدورهم(1/526)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كفروا ربهم ألا بعدا لثمود}(1/526)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
{ولقد جاءت رسلنا} يعني: الملائكة الذين أتوا {إبراهيم} عليه السَّلام على صورة من الأضياف {بالبشرى} بالبشارة بالولد {قَالُوا سَلامًا} أَيْ: سلِّموا سلاماً {قَالَ سَلامٌ} أَيْ: عليكم السلام {فما لبث أن جاء بعجل حنيذٍ} مشويٍّ(1/526)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{فلما رأى أيديهم لا تصل إليه} إلى العجل {نكرهم} أنكرهم {وأوجس منهم خيفة} أضمر منهم خوفاً ولم يأمن أن يكونوا جاؤوا لبلاءٍ لمَّا لم يتحرَّموا بطعامه فلمَّا رأوا علامة الخوف في وجهه {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لوط} بالعذاب(1/526)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{وامرأته} سارة {قائمة} وراء السِّتر تتسمَّع إلى الرُّسل {فضحكت} سرورا بالأمن قالوا: {إنا أرسلنا إلى قوم لوط} وذلك أنَّها خافت كما خاف إبراهيم عليه السَّلام فقيل لها: يا أيتها الضَّاحكة ستلدين غلاماً فذلك قوله: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق} أَيْ: بعده {يعقوب} عليهما السَّلام وذلك أنَّهم بشَّروها بأنَّها تعيش إلى أن ترى ولد ولدها(1/527)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز} وكانت بنت تسع وتسعين سنةً {وهذا بعلي شيخاً} وكان ابن مائة سنة واثنتي عشرة سنة {إنَّ هذا} الذي تذكرون من ولادتي على كبر سنِّي وسنِّ بعلي {لشيء عجيب} معجب(1/527)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{قالوا أتعجبين من أمر الله} قضاء الله وقدره {رحمة الله وبركاته عليكم أَهْلَ الْبَيْتِ} يعني: بيت إبراهيم عليه السَّلام فكان من تلك البركات أنَّ الأسباط وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة وكان هذا دعاءً من الملائكة لهم وقوله: {إنّه حميدٌ} أي: محمود {مجيد} كريمٌ(1/527)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{فلما ذهب عن إبراهيم الروع} الفزع {وجاءته البشرى} بالولد {يجادلنا} أَيْ: أقبل وأخذ يجادل رسلنا {في قوم لوط} وذلك أنَّهم لما قالوا لإِبراهيم عليه السلام: {إنا مهلكوا أهلِ هذه القرية} قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟ قالوا: لا فما زال ينقص حتى قال: فواحدٌ؟ قالوا: لا فاحتجَّ عليهم بلوط و {قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ} الآية فهذا معنى جداله وعند ذلك قالت الملائكة:(1/527)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}(1/528)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{يا إبراهيم أعرض عن هذا} الجدال وخرجوا من عنده فأتوا قرية قوم لوطٍ وذلك قوله:(1/528)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{ولما جاءت رسلنا لوطاً سِيءَ بهم} حزن بمجيئهم لأنَّه رآهم في أحسن صورةٍ فخاف عليهم قومه وعلم أنَّه يحتاج إلى المدافعة عنهم وكانوا قد أتوه في صورة الأضياف {وضاق بهم ذرعاً} أَيْ: صدراً {وقال هذا يوم عصيب} شديدٌ ولمَّا علم قومه بمجيء قومٍ حسانِ الوجوه أضيافاً للوط قصدوا داره وذلك قوله:(1/528)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{وجاءه قومه يهرعون إليه} أَيْ: يُسرعون إليه {وَمِنْ قَبْلُ} أَيْ: ومِنْ قبل مجيئهم إلى لوطٍ {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يعني: فعلهم المنكر {قال يا قومِ هؤلاء بناتي} أُزوِّجكموهنَّ فـ {هنَّ أَطْهَرُ لكم} من نكاح الرِّجال أراد أن يقي أضيافه ببناته {فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} لا تفضحوني فيهم لأنَّهم إذا هجموا إلى أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رشيد} يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر(1/528)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ من حق} لَسْنَ لنا بأزواجٍ فنستحقهنَّ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نريد} أَيْ: إنَّا نريد الرِّجال لا النِّساء(1/528)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{قال لو أنَّ لي بكم قوَّة} لو أنَّ معي جماعةً أقوى بها عليكم {أو آوي} أنضمُّ {إلى ركن شديد} عشيرةٍ تمنعني وتنصرني لَحُلْتُ بينكم وبين المعصية فلمَّا رأت الملائكة ذلك(1/529)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يصلوا إليك} بسوءٍ فإنَّا نحولُ بينهم وبين ذلك {فأسرِ بأهلك بقطع من الليل} في ظلمة اللَّيل {ولا يلتفت منكم أحد} لا ينظر أحدٌ إلى ورائه إذا خرج من قريته {إلاَّ امرأتك} فلا تسرِ بها وخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم و {إنَّه مصيبها ما أصابهم} من العذاب {إنَّ موعدهم الصبح} للعذاب فقال لوط: أريد أعجلَ من ذلك بل السَّاعةَ يا جبريل فقالوا له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(1/529)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{فلما جاء أمرنا} عذابنا {جعلنا عاليها سافلها} وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام أدخل جناحه تحتها حتى قلعها وصعد بها إلى السَّماء ثمَّ قلبها إلى الأرض {وأمطرنا عليها حجارة} قبل قلبهاإلى الأرض {من سجيل} من طينٍ مطبوخٍ طُبخ حتى صار كالآجر فهو سنك كل بالفارسية فَعُرِّب {منضود} يتلو بعضه بعضاً(1/529)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{مسومة} معلمة بعلامة بها أنَّها ليست من حجارة أهل الدُّنيا {عند ربك} في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيءٍ منها إلاَّ بإرادته {وما هي من الظالمين ببعيد} يعني: كفَّار قريش يُرهبهم بها(1/529)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{وإلى مدين} ذكرنا تفسير هذه الاية في سورة الأعراف وقوله: {إني أراكم بخير} يعني: النِّعمة والخصب يقول: أيُّ حاجةٍ بكم إلى التَّطفيف مع ما أنعم الله سبحانه به عليكم من المال ورخص السِّعر {وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط} يُوعدهم بعذابٍ يُحيط بهم فلا يفلت منهم أحدٌ(1/530)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} أَتِمّوهما بالعدل(1/530)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{بقية الله} أَيْ: ما أبقى الله لكم بعد إيفاء الكيل والوزن {خير لكم} من البخس يعني: من تعجيل النَّفع به {إن كنتم مؤمنين} مصدقين في نعمه شَرَطَ الإِيمانَ لأنَّهم إنَّما يعرفون صحَّة ما يقول إذا كانوا مؤمنين {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ: لم أُؤمر بقتالكم وإكراهكم على الإِيمان(1/530)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يعبد آباؤنا} يريدون: دينُك يأمرك أَيْ: أفي دينك الأمر بذا؟ {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من البخس والظُّلم ونقص المكيال والميزان {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أيْ: السَّفيه الجاهل وقالوا: الحليم الرَّشيد على طريق الاستهزاء(1/530)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{قال يا قوم أرأيتم} أعلمتم {إن كنت على بينة من ربي} بيانٍ وحجَّةٍ من ربي {ورزقني منه رزقاً حسناً} حلالاً وذلك أنَّه كان كثير المال وجواب إنْ محذوف على معنى: إنْ كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال أتَّبع الضَّلال فأبخس وأُطفف؟ يريد: إنَّ الله تعالى قد أغناه بالمال الحلال {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أَيْ: لست أنهاكم عن شيءٍ وأدخل فيه وإنَّما أختار لكم ما أختار لنفسي {إن أريد} ما أريد {إلاَّ الإصلاح} فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده وأَنْ تفعلوا ما يفعل مَنْ يخاف الله {ما استطعت} أَيْ: بقدر طاقتي وطاقة الإِبلاغ والإِنذار ثمَّ أخبر أنَّه لا يقدر هو ولا غيره على الطَّاعة إلاَّ بتوفيق الله سبحانه فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإليه أنيب} أرجع في الميعاد(1/530)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي} لا يكسبنَّكم خلافي وعداوتي {أَنْ يُصِيبَكُمْ} عذاب العاجلة {مِثْلُ مَا أَصَابَ قوم نوحٍ} من الغرق {أو قوم هود} من الرِّيح العقيم {أو قوم صالح} من الرَّجفة والصِّيحة {وما قوم لوط منكم ببعيد} في الزَّمان الذي بينكم وبينهم وكان إهلاكهم أقربَ الإِهلاكات التي عرفوها(1/531)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
{واستغفروا ربكم} اطلبوا منه المغفرة {ثمَّ توبوا إليه} توصَّلوا إليه بالتَّوبة {إنَّ ربي رحيم} بأوليائه {ودودٌ} محبٌّ لهم(1/531)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} ما نفهم {كثيراً مما تقول} أَيْ: صحَّته يعنون: ما يذكر من التَّوحيد والبعث والنُّشور {وإنا لنراك فينا ضعيفاً} لأنَّه كان أعمى {ولولا رهطك} عشيرتك {لرجمناك} قتلناك {وما أنت علينا بعزيز} بمنيعٍ(1/531)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الله} يريد: أمنع عليكم من الله كأنَّه يقول: حفظكم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي {واتَّخذتموه وراءكم ظهرياً} ألقيتموه خلف ظهوركم وامتنعتم من قتلي مخافة قومي والله أعزُّ وأكبر من جميع خلقه {إنَّ ربي بما تعملون محيط} خبيرٌ بأعمال العباد حتى يجازيهم بها ثمَّ هدَّدهم فقال:(1/532)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{ويا قوم اعملوا} الآية يقول: اعملوا على ما أنتم عليه {إني عاملٌ} على ما أنا عليه من طاعة الله وسترون منزلتكم من منزلتي وهو قوله: {سوف تعلمون مَنْ يأتيه عذاب يخزيه} يفضحه ويذله {ومَنْ هو كاذب} منَّا {وارتقبوا إني معكم رقيب} ارتقبوا العذاب من الله سبحانه إنِّي مرتقب من الله سبحانه الرَّحمة وقوله:(1/532)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
{أخذت الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل صيحةً فماتوا في أمكنتهم(1/532)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{ألا بعداً لمدين} أَيْ: قد بعدوا من رحمة الله سبحانه(1/532)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} يريد: التَّوراة وما أنزل الله فيها من الأحكام {وسلطان مبين} وحجَّةٍ بيِّنةٍ وهي العصا(1/533)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} بمرشدٍ إلى خيرٍ(1/533)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
{يقدم قومه} يتقدَّمهم إلى النَّار وهو قوله: {فأوردهم النار} أدخلهم النار {وبئس الورد المورود} المدخل المدخول(1/533)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{وأتبعوا في هذه} الدنيا {لعنة} يعني: الغرق {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: ولعنة يوم القيامة وهو عذاب جهنَّم {بئس الرفد المرفود} يعني: اللَّعنة بعد اللَّعنة وقوله:(1/533)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{منها قائمٌ وحصيد} أَيْ: من القرى التي أُهلكت قائمٌ بقيت حيطانه وحصيدٌ مخسوفٌ به قد مُحي أثره(1/533)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب والإِهلاك {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية {فما أغنت عنهم} ما نفعتهم وما دفعت عنهم {آلهتهم التي يدعون} يعبدون {من دون الله} سوى الله {وما زادوهم} وما زادتهم عبادتها {غير تتبيب} بلاءٍ وهلاكٍ وخسارةٍ(1/533)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
{وكذلك} وكما ذكرنا من أهلاك الأمم {أخذ ربك} بالعقوبة {إذا أخذ القرى وهي ظالمة} يعني: أهلها(1/533)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني: ما ذكر من عذاب الأمم الخالية {لآية} لعبرةً {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ له الناس} لأنَّ الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم {وذلك يوم مشهود} يشهد البرُّ والفاجر(1/533)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
{وما نؤخره} وما نؤخِّر ذلك اليوم فلا نُقيمه عليكم {إلاَّ لأجلٍ معدود} لوقتٍ معلومٍ ولا يعلمه أحدٌ غير الله سبحانه(1/534)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{يوم يأتِ} ذلك اليوم {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد} فمن الأنفس في ذلك اليوم شقيٌّ وسعيدٌ(1/534)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زفير وشهيق} وهما من أصوات المكروبين والمحزونين والزَّفير مثل أوَّل نهيق الحمار والشَّهيق آخره إذا ردَّده في الجوف(1/534)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أبداً وهذا من ألفاظ التأبيد {إلاَّ ما شاء ربك} أن يحرجهم ولكنَّه لا يشاء ذلك والمعنى: لو شاء أن لا يخلِّدهم لقدر وقيل: إلاَّ ما شاء ربك يعني: إلاَّ مقدار مكثهم في الدُّنيا والبرزخ والوقوف للحساب ثمَّ يصيرون إلى النَّار أبداً وقوله:(1/534)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{عطاء غير مجذوذ} أَيْ: مقطوعٍ(1/534)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{فلا تك} يا محمَّدُ {في مرية} شكٍّ {ممَّا يعبد هؤلاء} أيْ: مِن حال ما يعبدون في أنَّها لا تضرُّ ولا تنفع {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: كعبادة آبائهم يريد: إنَّهم على طريق التَّقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من العذاب {غير منقوص}(1/534)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} هذه الآية تعزية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وتسليةٌ له باختلاف قوم موسى في كتابه {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير العذاب عن قومك {لَقُضي بينهم} لَعُجِّل عقابهم وفُرِغَ من ذلك {وإنهم لفي شك منه} من القرآن {مريب} موقعٍ للرِّيبة(1/535)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{وإنَّ كلاًّ} من البرِّ والفاجر والمؤمن والكافر {لما} يعني: لمَنْ في قول الفرَّاء وفي قول البصريين ما زائدة والمعنى: وإنَّ كلاً {ليوفينهم ربك أعمالهم} أَيْ: ليتمنَّ لهم جزاء أعمالهم(1/535)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{فاستقم} على العمل بأمر ربك والدُّعاء إليه {كما أمرت} في القرآن {ومن تاب معك} يعني: أصحابه أَيْ: وليستقيموا هم أيضاً على ما أُمروا به {ولا تَطْغَوا} تواضعوا لله ولا تتجبَّروا على أحدٍ {إنه بما تعملون بصير} لا تخفى عليه أعمال بني آدم(1/535)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} لا تُداهنوهم ولا ترضوا بأعمالهم يعني: الكفَّار {فتمسكم النار} فيصيبكم لفحها {وَمَا لَكُمْ مِنْ دون الله من أولياء} من مانع يمنعكم من عذاب الله {ثُمَّ لا تنصرون} استئنافٌ(1/535)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{وأقم الصلاة طرفي النهار} بالصبح والمغرب {وزلفاً من الليل} صلاة العشاء قرب أوَّل الليل والزُّلف: أوَّل ساعات اللَّيل وقيل: صلاة طرفي النَّهار: الفجر والظُّهر والعصر وأمَّا المغرب والعشاء فإنَّهما من صلاة زلف اللَّيل {إن الحسنات يذهبن السيئات} إنَّ الصَّلوات الخمس تكفر ما بينهما من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر {ذلك ذكرى} أَيْ: هذه موعظةٌ {للذاكرين}(1/536)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
{واصبر} على الصَّلاة {فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين} يعني:
المُصلِّين(1/536)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{فلولا كان من القرون من قبلكم} أَيْ: ما كان منهم {أولو بقية} دينٍ وتميزٍ وفضلٍ {ينهون عن الفساد في الأرض} عن الشِّرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية {إلاَّ قليلاً} لكن قليلاً {ممن أنجينا منهم} وهم أتباع الأنبياء وأهل الحقِّ نهوا عن الفساد {واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} آثروا الَّلذات على أمر الآخرة وركنوا إلى الدُّنيا والأموال وما أُعطوا من نعيمها(1/536)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{وما كان ربك ليهلك القرى} أَيْ: أهلها {بظلمٍ} بشركٍ {وأهلها مصلحون} فيما بينهم أَيْ: ليس من سبيل الكفَّار إذا قصدوا الحقَّ في المعاملة أن يُنزِّل اللَّهُ بهم عذاب الاستئصال كقوم لوطٍ عُذِّبوا باللِّواط وقوم شعيب عُذِّبوا ببخس المكيال(1/536)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} مسلمين كلَّهم {ولا يزالون مختلفين} في الأديان(1/536)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني: أهل الحقِّ {ولذلك خلقهم} أَيْ: خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرَّحمة للرَّحمة(1/537)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{وكلاًّ نقصُّ عليك} أَيْ: كلَّ الذي تحتاج إليه {من أنباء الرسل} نقصُّ عليك {ما نثبت به فؤادك} ليزيدك يقيناً {وجاءك في هذه} أَيْ: في هذه السُّورة {الحق} يعني: ما ذُكر من أقاصيص الأنبياء ومواعظهم وذكر السَّعادة والشَّقاوة وهذا تشريفٌ لهذه السُّورة لأنَّ غيرها من السُّور قد جاء فيها الحقُّ {وموعظة وذكرى للمؤمنين} يتَّعظون إذا سمعوا هذه السُّورة وما نزل بالأمم لمَّا كذَّبوا أنبياءهم(1/537)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
{وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أمر تهديد أَيْ: اعملوا ما أنتم عاملون(1/537)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
{وَانْتَظِرُوا} ما يعدكم الشَّيطان {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} ما يعدنا ربُّنا من النَّصر(1/537)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{ولله غيب السماوات وَالأَرْضِ} أَيْ: علم ما غاب عن العباد فيهما {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} في المعاد حتى لا يكون لأحدٍ سواه أمرٌ {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ: إنَّه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءَته(1/537)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
{الر} أنا الله الرَّحمن {تلك} هذه {آيات الكتاب المبين} للحلال والحرام والأحكام يعني: القرآن(1/538)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
{إنا أنزلناه} يعني: الكتاب {قرآنا عربيا} بلغة العرب {لعلكم تعقلون} كي تفهموا(1/538)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{نحن نقصُّ عليك أحسن القصص} نبيِّن لك أحسن البيان {بما أوحينا} بإيماننا {إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} وما كنتَ من قبل أن يُوحى إليك إلاَّ من الغافلين(1/538)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{إذ قال} اذكر إِذْ قَالَ {يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} الآية رأى يوسف عليه السَّلام هذه الرُّؤيا فلمَّا قصَّها على أبيه أشفق عليه من حسد إخوته له فقال:(1/538)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فيكيدوا لك كيداً} يحتالوا في هلاكك لأنهم لا يعلمون تأويلها(1/539)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{وكذلك} ومثل ما رأيت {يجتبيك ربك} يصطفيك ويختارك {ويعلمك من تأويل الأحاديث} تعبير الأحلام {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبُّوَّة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} يعني: المُختَصِّين منهم بالنُّبوَّة {عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} حيث يضع النبوَّة {حَكِيمٌ} في خلقه(1/539)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أَيْ: في خبرهم وقصصهم {آيات} عبرٌ وعجائبُ {للسائلين} الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبرهم بها وهو غافلٌ عنها لم يقرأ كتاباً فكان في ذلك أوضح دلالةٍ على صدقه(1/539)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{إذ قالوا} يعني: إخوة يوسف: {ليوسفُ وأخوه} لأبيه وأُمِّه {أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة} جماعةٌ {إنَّ أبانا لفي ضلالٍ مبين} ضلَّ بإيثاره يوسف وأخاه علينا ضلالٍ: خطأ(1/539)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} في أرضٍ يبعد فيها عن أبيه {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبيكم} يُقبل بكليته عليكم {وتكونوا من بعده قوماً صالحين} تُحدثوا توبةً بعد ذلك يقبلها الله سبحانه منكم(1/539)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{قال قائل منهم} وهو يهوذا أكبر إخوته: {لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب} في موضعٍ مظلمٍ من البئر لا يلحقه نظر النَّاظرين {يلتقطه بعض السيارة} مارَّة الطَّريق {إن كنتم فاعلين} ما قصدتم من التًّفريق بينه وبين أبيه فلمَّا تآمروا بينهم ذلك وعزموا على طرحه في البئر(1/540)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
{قَالُوا} لأبيهم {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يوسف} لِمَ تخافنا عليه؟ {وإنا له لناصحون} في الرَّحمة والبرِّ والشَّفقة(1/540)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{أرسله معنا غداً} إلى الصحراء {يرتع ويلعب} نسعى وننشط {وإنا له لحافظون} من كلِّ ما تخافه عليه(1/540)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{قال إني ليحزنني أن تذهبوا به} ذهابكم به يحززني لأنَّه يفارقني فلا أراه {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب} وذلك أنَّ أرضهم كانت مذأبة {وأنتم عنه غافلون} مشتغلون برعيتكم(1/540)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
{قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة} جماعةٌ بحضرته {إنا إذاً لخاسرون} لعاجزون(1/540)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيابة الجب} وعزموا على ذلك أوحينا إلى يوسف في البئر تقويةً لقلبه: لتصدقنَّ رؤياك ولَتُخبِرِنَّ إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بأنَّك يوسف في وقت إخبارك إياهم(1/540)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
{وجاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}(1/541)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق} نشتدُّ ونعدو ليتبيَّن أيُّنا أسرع عَدْواً {وَتَرَكْنَا يوسف عند متاعنا} ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بمصدِّق لنا {ولو كنَّا صادقين} في كلِّ الأشياء لأنَّك اتَّهمتنا في هذه القصَّة(1/541)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{وجاؤوا على قميصه بدم كذب} لأنَّه لم يكن دمه إنَّما كان دم سخلةٍ {قال} يعقوب عليه السَّلام: {بل} أَيْ: ليس كما تقولون {سوَّلت لكم} زيَّنت لكم {أنفسكم} في شأنه {أمْراً} غير ما تصفون {فصبر} أَيْ: فشأني صبرٌ {جميل} وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى ما تصفون} أَيْ: به أستعين في مكابدة هذا الأمر(1/541)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{وجاءت سيارة} رفقةٌ تسير للسَّفر {فأرسلوا واردهم} وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم {فَأَدْلَى دلوه} أرسلها في البئر فتشبت يوسف عليه السَّلام بالرِّشاء فأخبره الوارد فلمَّا رآه {قال يا بشرى} أَيْ: يا فرحتا {هذا غلام وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أسرَّه الوارد ومَنْ كان معه من التُّجار من غيرهم وقالوا: هذه بضاعةٌ استبضعها بعض أهل الماء {والله عليم بما يعملون} بيوسف فلمَّا علم إخوته ذلك أتوهم وقالوا: هذا عبدٌ آبقٌ منَّا فقالوا لهم: فبيعوناه فباعوه منهم وذلك قوله: {وشروه بثمن بخسٍ} حرامٍ لأنَّ ثمن الحُرِّ حرامٌ {دراهم معدودة} باثنين وعشرين درهماً {وكانوا} يعني: إخوته {فيه} في يوسف {من الزاهدين} لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه(1/541)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ من الزاهدين}(1/542)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} وهو العزيز صاحب ملك مصر: {أكرمي مثواه} أحسني إليه طول مقامه عندنا {عسى أن ينفعنا} أَيْ: يكفينا - إذا بلغ وفهم الأمور - بعض شؤوننا {أو نتخذه ولداً} وكان حصوراً لا يولد له {وكذلك} وكما نجَّيناه من القتل والبئر {مكَّنا ليوسف في الأرض} يعني: أرض مصر حتى بلغ ما بلغ {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} فعلنا ذلك تصديقاً لقوله {ويُعلِّمك مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} على ما أراد من قضائه لا يغلب غالبٌ على أمره ولا يُبطل إرادته منازعٌ {ولكنَّ أكثر الناس} هم المشركون ومَنْ لا يؤمن بالقدر {لا يعلمون} أَنَّ قدرة الله غالبةٌ ومشيئته نافذةٌ(1/542)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{ولما بلغ أشده} ثلاثين سنةً {آتيناه حكماً وعلماً} عقلاً وفهماً {وَكَذَلِكَ} ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف {نجزي المحسنين} الصَّابرين على النوائب كما يوسف عليه السَّلام(1/542)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} يعني: امرأة العزيز طلبت منه أن يُواقعها {وغلقت الأبواب} أَيْ: أغلقتها {وقالت هيت لك} أَيْ: هلمَّ وتعال {قال مَعَاذَ الله} أعوذ بالله أن أفعل هذا {إِنَّهُ رَبِّي} إنَّ الذي اشتراني هو سيِّدي {أحسن مثواي} أنعم عليَّ بإكرامي فلا أخونه في حرمته {إنه لا يفلح الظالمون} لا يسعد الزُّناة(1/542)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{ولقد همت به وهمَّ بها} طمعت فيه وطمع فيها {لولا أن رأى برهان ربِّه} وهو أنَّه مُثِّل له يعقوب عليه السَّلام عاضَّاً على أصابعه يقول: أتعمل عمل الفجَّار وأنت مكتوبٌ في الأنبياء فاستحيا منه وجواب لولا محذوف على معنى: لولا أن لاأى برهان ربِّه لأمضى ما همَّ به {كذلك} أَيْ: أريناه البرهان {لنصرف عنه السوء} وهو حيانة صاحبه {والفحشاء} ركوب الفاحشة {إنَّه من عبادنا المخلصين} الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه(1/543)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{واستبقا الباب} وذلك أنَّ يوسف عليه السَّلام لمَّا رأى البرهان قام مُبادراً إلى الباب واتَّبعته المرأة تبغي التَّشبُّث به فلم تصل إلاَّ إلى دُبر قميصه فقدَّته ووجدا زوج المرأة عند الباب فحضرها في الوقت كيدٌ فأوهمت زوجها أنَّ الذي تسمع من العدو والمبادرة إلى الباب كان منها لا من يوسف فـ {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} تريد الزِّنا {إلاَّ أن يسجن} يحبس في الحبس {أو عذاب أليم} بالضَّرب فلمَّا قالت ذلك غضب يوسف و {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ} وحكم حاكمٌ وبيَّن مبيِّنٌ {من أهلها} وهو ابنُ عمِّ المرأة فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو من الكاذبين}(1/543)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}(1/544)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(1/544)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{فلما رأى قميصه قُدَّ من دبرٍ} من حكم الشَّاهد وبيانِه ما يُوجب الاستدلال على تمييز الكاذب من الصَّادق فلمَّا رأى زوج المرأة قميص يوسف قُدَّ مِنْ دُبُرٍ {قال إنَّه من كيدكنَّ} أَيْ: قولِك: {ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً} الآية(1/544)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{يوسف} يا يوسف {أعرض عن هذا} اترك هذا الأمر فلا تذكره {واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} الآثمين ثمَّ شاع ما جرى بينهما في مدينة مصر حتى تحدَّثت بذلك النِّساء وخضن فيه وهو قوله:(1/544)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} غلامها {عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} قد دخل حبُّه في شغاف قلبها وهو موضع الدَّم الذي يكون داخل القلب {إنا لنراها في ضلالٍ} عن طريق الرُّشد بحبِّها إيَّاه(1/544)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{فلما سمعت} امرأة العزيز {بمكرهن} مقالتهن وشميت مكراً لأنهنَّ قصدْنَ بهذه الماقلة أن تُريهنَّ يوسف ليقوم لها العذر في حبِّه إذا رأين جماله وكنَّ مشتهين ذلك لأنَّ يوسف وُصف لهنَّ بالجمال {أرسلت إليهن} تدعوهنَّ {وأعتدت} وأعدَّت {لهن متكئا} طعاماً يقطع بالسِّكين قيل: هو الأترج {وآتت} وناولت {كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت} ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن {وقطعن أيديهنَّ} حَززْنَها بالسَّكاكين ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف {وَقُلْنَ حاشَ لِلَّه} بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً {إنْ هذا} ما هذا {إلاَّ ملك كريم} فلمَّا رأت امرأة العزيز ذلك قالت:(1/544)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{فذلكنَّ الذي لُمْتُنَّنِي فيه} في حبِّه والشَّغف فيه ثم أقرَّّت عندهنَّ بما فعلت فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} فامتنع وأبى وتوعَّدته بالسِّجن فقالت: {ولئن لم يفعل} الآية فأمرنه بطاعتها وقلن له: إنَّك الظَّالم وهي المظلومة فقال يوسف:(1/545)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من معصيتك {وإلاَّ تصرف عني كيدهنَّ} كيد جميع النِّساء {أصبُ إليهنَّ} أمل إليهنَّ {وأكن من الجاهلين} المذنبين(1/545)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
{فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهنَّ} حتى لم يقع في شيءٍ ممَّا يطالبنه به {إنَّه هو السميع} لدعائه {العليم} بما يخاف من الإثم(1/546)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ثم بدا لهم} للعزيز وأصحابه {من بعد ما رأوا الآيات} آيات براءة يوسف {ليسجننه حتى حين} وذلك أنَّ المرأة قالت: إنَّ هذا العبد فضحني في النَّاس يُخبرهم أنِّي راودته عن نفسه فاحبسه حتى تنقطع هذه المقالة فذلك قوله: {حتى حين} أَيْ: إلى انقطاع اللائمة(1/546)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ودخل معه السجن فتيان} غلامان للملك الأكبر رُفع إليه أنَّ صاحب طعامه يريد أن يَسُمَّه وصاحب شرابه مَالأَهُ على ذلك فأدخلهما السِّجن ورأيا يوسف يُعبِّر الرُّؤيا فقالا: لنجرِّب هذا العبد العبرانيّ فتحالما من غير أن يكونا رأيا شيئاً وهو قوله {قال أحدهما} وهو السَّاقي: {إني أراني أعصر خمراً} أَيْ: عنباً وقال صاحب الطَّعام: {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً} رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي خبزاً {تأكل الطير منه} فإذا سباعُ الطير يَنْهَشْنَ منه {نبئنا بتأويله} أَيْ: خبرنا بتفسير الرُّؤيا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تُؤثر الإِحسان وتأتي جميل الأفعال فعدلَ يوسف عليه السَّلام عن جواب مسألتهما ودَلَّهما أولاً على أنَّه عالمٌ بتفسير الرُّؤيا فقال:(1/546)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{لا يأتيكما طعام ترزقانه} تأكلان منه في منامكما {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة {قبل أن يأتيكما} التَّأويل {ذلكما مما علمني ربّي} أَيْ: لست أخبركما على جهة التَّكهُّن والتَّنجُّم إنَّما ذلك بوحي من الله عز وجل وعلمٍ ثمَّ أخبر عن إيمانه واجتنابه الكفر بباقي الآية وقوله:(1/546)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شيء} يريد: إن الله سبحانه عصمنا من أن نشرك به {ذَلِكَ مِنْ فضل الله علينا} أَيْ: اتِّباعنا للإيمان يتوفيق الله تعالى وتفضُّله علينا {وعلى الناس} وعلى مَنْ عصمه الله من الشِّرك حتى اتَّبع دينه {ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون} نعمة الله بتوحيده والإِيمان برسله ثمَّ دعاهما إلى الإِيمان فقال:(1/547)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
{يا صاحبي السجن} يعني: يا ساكنيه: {أأرباب متفرِّقون} يعني: الأصنام {خَيْرٌ} أعظم في صفة المدح {أَمِ اللَّهُ الواحد القهار} الذي يقهر كلَّ شيءٍ(1/547)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{ما تعبدون من دونه} أنتما ومَنْ على مثل حالكما من دون الله {إلاَّ أسماءً} لا معانيَ وراءها {سميتموها أنتم} {إن الحكم إلاَّ لله} ما الفضل بالأمر والنَّهي إلاَّ لله {ذَلِكَ الدِّينُ القيم} المستقيم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} مل للمطيعين من الثَّواب وللعاصين من العقاب ثمَّ ذكر تأويل رؤياهما بقوله:(1/547)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رأسه} فقالا: ما رأينا شيئاً فقال: {قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان} يعني: سيقع بكما ما عبَّرت لكما صدقْتُما أم كذبتما(1/547)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{وقال} يوسف {للذي ظنَّ} علم {إنَّه ناج منهما} وهو السَّاقي: {اذكرني عند ربك} عند الملك صاحبك وقل له: إنَّ في السِّجن غلاماً محبوساً ظلماً {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ ربه} أنسى الشَّيطان يوسف الاستغاثة بربِّه وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك فعوقب بأن {لبث في السجن بضع سنين} سبع سنين فلمَّا دنا فرجه وأراد الله خلاصه رأى الملك رؤيا وهو قوله:(1/547)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
{وقال الملك إني أرى} الآية فلمَّا استفتاهم فيها(1/548)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{قالوا أضغاث أحلام} أحلامٌ مختلطةٌ لا تأويل لها عندنا {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمي} أقرُّوا بالعجز عن تأويلها(1/548)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{وقال الذي نجا منهما} وهو السَّاقي {وادَّكر بعد أمةٍ} وتذكَّر أمر يوسف بعد حين من الدَّهر: {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} فأُرسل فأتى يوسف فقال:(1/548)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
{يوسفُ} أَيْ: يا يوسف {أيها الصديق} الكثير الصِّدق وقوله {لعلي أرجع إلى الناس} يعني: أصحاب الملك {لعلهم يعلمون} تأويل رؤيا الملك من جهتك(1/548)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
{قال تزرعون} أَيْ: ازرعوا {سبع سنين دأباً} متتابعةً وهذه السَّبع تأويل البقرات السِّمان {فَمَا حَصَدْتُمْ} ممَّا زرعتم {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} لأنَّه أبقى له وأبعد من الفساد {إلا قليلاً ممًّا تأكلون} فإنَّكم تدوسونه(1/548)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} مُجدباتٌ صعابٌ وهذه تأويل البقرات العجاف {يأكلن} يُفنين ويُذهبن {مَا قدَّمتم لهن} من الحَبِّ {إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون} تحرزون وتدَّخرون(1/549)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يغاث الناس وفيه يعصرون} يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السِّمسم الدُّهن ومن العنب الخمر ومن الزَّيتون الزَّيت فرجع الرَّسول بتأويل الرُّؤيا إلى الملك فعرف الملك أنَّ ذلك تأويلٌ صحيحٌ فقال:(1/549)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{ائتوني} بالذي عبَّر رؤياي فجاء الرَّسول يوسف وقال: أجب الملك فقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني: الملك {فاسأله} أن يسأل {ما بال النسوة} ما حالهنَّ وشأنهنَّ ليعلم صحَّة براءتي ممَّا قُذفت به وذلك أنَّ النِّسوة كنَّ قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهنَّ وهو قولها: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} فأحبَّ يوسف عليه السَّلام أن يُعلم الملك أنَّه حبس ظلما وأنه برئ ممَّا قُذِف به فسأله أن يستعلم النِّسوة عن ذلك {إن ربي بكيدهنَّ} ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي {عليم} فدعا الملك النسوة فقال:(1/549)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{ما خطبكنَّ} ما قصتكنَّ وما شأنكنَّ {إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه} جمعهنَّ في المراودة لأنه يعلم مَنْ كانت المُراوِدة {قلن حاشَ لله} بَعُدَ يوسف عمَّا يُتَّهم به {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} من زنا فلمَّا برَّأْنَهُ أقرَّت امرأة العزيز فقالت: {الآن حصحص الحق} أَيْ: بان ووضح وذلك أنَّها خافت إنْ كذَّبت شهدت عليها النِّسوة فقالت: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله: {هي راودتني عن نفسي}(1/549)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ذلك} أَيْ: ما فعله يوسف من ردِّ الرَّسول إلى الملك {ليعلم} وزير الملك ـ وهو الذي اشتراه ـ {إني لم أخنه} في زوجته {بالغيب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا يرشد مَنْ خان أمانته أَيْ: إنَّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عز وجل فلمَّا قال يوسف عليه السَّلام: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال جبريل عليه السَّلام: ولا حين هممت بها يوسف فقال:(1/550)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{وما أبرئ نفسي} وما أُزكِّي نفسي {إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء} بالقبيح وما لا يحبُّ الله {إلاَّ ما} مَنْ {رحم ربي} فعصمه(1/550)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{وقال الملك ائتوني به} بيوسف {أستخلصه لنفسي} أجعله خالصاً لي لا يشركني فيه أحدٌ {فلمَّا كلَّمه} يوسف {قال إنك اليوم لدينا مكين} وجيهٌ ذو مكانةٍ {أمين} قد عرفنا أمانتك وبراءتك ثمَّ سأله الملك أن يُعبِّر رؤياه شفاهاً فأجابه يوسف بذلك فقال له: ما ترى أن تصنع؟ قال: تجمع الطَّعام في السِّنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك فقال: مَنْ لي بهذا ومَنْ يجمعه؟ فقال يوسف:(1/550)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{قال اجعلني على خزائن الأرض} على حفظها وأراد بالأرض أرض مصر {إني حفيظٌ عليمٌ} كاتبٌ حاسبٌ(1/551)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وكذلك} وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السِّجن {مكنَّا ليوسف} أقدرناه على ما يريد {في الأرض} أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} هذا تفسير التَّمكين في الأرض {نصيب برحمتنا مَنْ نشاء} أتفضَّل على مَنْ أشاء برحمتي {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ثواب المُوحِّدين(1/551)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{ولأجر الآخرة خير} الآية أَيْ: ما يعطي الله من ثواب الآخرة خيرٌ للمؤمنين والمعنى: إنَّ ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خيرٌ ممَّا أعطاه في الدُّنيا ثمَّ دخل أعوام القحط على النَّاس فأصاب إخوة يوسف المجاعة فأتوه مُمتارين فذلك قوله:(1/551)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ له منكرون} لأنهم رأوه على زيِّ الملوك وكان قد تقرَّر في أنفسهم هلاك يوسف وقيل: لأنَّهم رأوه من وراء سترٍ(1/551)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{ولما جهزهم بجهازهم} يعني: حمل لكلِّ رجلٍ منهم بعيراً {قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم} يعني: بنيامين وذلك أنَّه سألهم عن عددهم فأخبروه وقالوا: خلَّفنا أحدنا عند أبينا فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي مِنْ أَبِيكُمْ {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أُتمُّه من غير بخسٍ {وأنا خير المنزلين} وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ثمَّ أوعدهم على ترك الإِتيان بالأخ بقوله:(1/552)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}(1/522)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا {وإنا لفاعلون} ما وعدناك من المراودة(1/522)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{وقال} يوسف {لفتيانه} لغلمانه: {اجعلوا بضاعتهم} التي أتوا بها لثمن الميرة وكانت دراهم {في رحالهم} أو عيتهم {لعلَّهم يعرفونها} عساهم يعرفون أنَّها بضاعتهم بعينها {إذا انقلبوا إلى أهلهم} وفتحوا أوعيتهم {لعلهم يرجعون} عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك لأنَّّهم لا يستحلُّون إمساكها(1/522)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا منع منّا الكيل} حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا يعنون قوله: {فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} {فأرسل معنا أخانا نكتل} نأخذ كيلنا(1/522)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{قال هل آمنكم عليه} الآية يقول: لا آمنكم على بنيامين إلاَّ كأمني على يوسف يريد: إنَّه لم ينفعه ذلك الأمن فإنَّهم خانوه فهو - وإن أَمِنَهم في هذا - خاف خيانتهم أيضاً ثمَّ قال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا}(1/522)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{ولما فتحوا متاعهم} ما حملوه من مصر {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ما نبغي} منك شيئاً تردُّنا به وتصرفنا إلى مصر {هذه بضاعتنا ردت إلينا} فنتصرَّف بها {ونميرُ أهلنا} نجلب إليهم الطَّعام {ونزداد كيل بعير} نزيد حِمْل بعيرٍ من الطَّعام لأنَّه كان يُكال لكلِّ رجلٍ وِقْر بعير {ذلك كيلٌ يسير} متيسر على من يكبل لنا لسخائه(1/553)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا من الله} حتى تحلفوا بالله {لَتَأْتُنَّني به إلاَّ أن يحاط بكم} إلا أن تموتوا كلُّكم {فلما آتَوْهُ موثقهم} عهدهم ويمينهم {قال} يعقوب عليه السَّلام: {الله على ما نقول وكيل} شهيد فلمَّا أرادوا الخروج من عنده قال:(1/553)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{يا بني لا تدخلوا} مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ متفرقة} خاف عليهم العين فأمرهم بالتَّفرقة {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يعني: إنَّ الحذر لا يُغني ولا ينفع من القدر(1/553)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} وذلك أنَّهم دخلوا مصر متفرِّقين من أربعة أبواب {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شيء} ما كان ذلك ليردَّ قضاءً قضاه الله سبحانه {إلاَّ حاجةً} لكن حاجةً يعني: إنَّ ذلك الدّخول قضى حاجةً في نفس يعقوب عليه السَّلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبوابٍ متفرِّقةٍ شفقةً عليهم {وإنه لذو علم لما علمناه} لذو يقينٍ ومعرفةٍ بالله سبحانه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنَّ يعقوب عليه السَّلام بهذه الصِّفة(1/553)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضمَّه إليه وأنزله عند نفسه {قال إني أنا أخوك} اعترف له بالنِّسب وقال: لا تخبرهم بما ألقيت إليك {فلا تبتئس} فلا تحزن ولا تغتم {بما كانوا يعملون} من الحسد لنا وصرف وجه أبينا عنا(1/554)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية} وهو إناءٌ من ذهبٍ مرصَّعٌ بالجواهر {في رحل أخيه} بنيامين {ثمَّ أذَّنَ مؤذنٌ} نادى منادٍ {أيتها العير} الرُّفقة {إنكم لسارقون}(1/554)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} ؟(1/554)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{قالوا نفقد صواع الملك} يعني: السِّقاية {ولمن جاء به حمل بعير} أَيْ: من الطَّعام {وأنا به زعيم} كفيل(1/554)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{قالوا تالله لقد علمتم} حلفوا على أنَّهم يعلمون صلاحهم وتجنُّبهم الفساد وذلك أنَّهم كانوا معروفين بأنَّهم لا يظلمون أحداً ولا يرزأون شيئاً لأحد(1/554)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
{قالوا فما جزاؤه} أَيْ: ما جزاء السَّارق {إن كنتم كاذبين} في قولكم: ما كنا سارقين(1/554)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{قالوا جزاؤه مَنْ وجد في رحله} وكانوا يستعبدون كلَّ سارقٍ بسرقته فلذلك قَالُوا: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أَيْ: جزاء السَّرق مَنْ وجد في رحله المسروق {فهو جزاؤه} أَيْ: فالسَّرق جزاء السَّارق {كذلك نجزي الظالمين} أَيْ: إذا سرق سارقٌ اسْتُرِقَّ فلمَّا أقرُّوا بهذا الحكم صُرف بهم إلى يوسف عليه السَّلام ليفتِّش أمتعتهم(1/555)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{فبدأ} يوسف {بأوعيتهم} وهي كلُّ ما استودع شيئاً من جرابٍ وجوالق ومِخْلاةٍ {قبل وعاء أخيه} نفياً للتُّهمة {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا} يعني: السِّقاية {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كذلك كدنا} ألهمنا {ليوسف} أي: ألهمناه مثل ذلك الكيد حتى ضممنا أخاه إليه {ما كان ليأخذ أخاه} ويستوجب ضمَّه إليه {في دين الملك} في حكمه وسيرته وعادته {إلاَّ} بمشيئة الله تعالى وذلك أنَّ حكم الملك في السَّارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق فلم يكن يوسف يتمكَّن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطُّفاً حتى وجد السَّبيل إلى ذلك وهو ما أجري على ألسنة إخوته أنَّ جزاء السَّارق الاسترقاق {نرفع درجات مَنْ نشاء} بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كلِّ شيء {وفوق كلِّ ذي علم عليم} يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه فلمَّا خرج الصُّواع من رحل بنيامين(1/555)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{قالوا} ليوسف {إن يسرق} الصُّواع {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون: يوسف عليه السَّلام وذلك أنَّه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرَّاً منهم فيتصدَّق به في المجاعة حتى فطن به إخوته {فأسرَّها يوسف في نفسه} أَيْ: أسرَّ الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا {ولم يُبدها لهم} وهو أنَّه قال في نفسه: {أنتم شرٌّ مكاناً} عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم {والله أعلم بما تصفون} أَيْ: قد علم أنَّ الذي تذكرونه كذبٌ(1/555)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{قالوا يا أيها العزيز إنَّ له أباً شيخاً كبيراً} في السِّنِّ {فخذ أحدنا مكانه} واحداً منَّا تستعبده بدله {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا(1/556)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون}(1/556)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{فلما استيأسوا} يئسوا {منه خلصوا نجياً} انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم {قال كبيرهم} وهو روبيل وكان أكبرهم سنَّاً: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ موثقاً من الله} في خفظ الأخ وردِّه إليه {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يوسف} ما زائدة أَيْ: قصَّرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه {فلن أبرح الأرض} لن أخرج من أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لي أبي} يبعث إليَّ أنَْ آتيه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} يقضي في أمري شيئاً {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أعدلهم وقال لإخوته:(1/556)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابنك سرق} يعنون في ظاهر الأمر {وما شهدنا إلاَّ بما علمنا} لأنَّه وُجدت السَّرقة في رحله ونحن ننظر {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين} ما كنا نحفظه إذا غاب عنا(1/556)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{واسأل القرية التي كنَّا فيها} أَيْ: أهل مصر {والعير التي أقبلنا فيها} يريد: أهل الرُّفقة فلمَّا رجعوا إلى أبيهم يعقوب عليه السَّلام قالوا له هذا فقال:(1/557)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً} زيَّنته لكم حتى أخرجتم بنيامين من عندي رجاء منفعة فعاد من ذلك شرٌّ وضررٌ(1/557)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{وتولى عنهم} أعرض عن بنيه وتجدَّد وَجْدُه بيوسف {وقال يا أسفى على يوسف} يا طول حزني عليه {وابيضت عيناه} انقلبت إلى حال البياض فلم يبصر بهما {من الحزن} من البكاء {فهو كظيم} مغمومٌ مكروبٌ لا يُظهر حزنه بجزعٍ أو شكوى(1/557)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{قالوا تالله تفتأ} لا تزال {تذكر يوسف} لا تَفْتُر من ذكره {حتى تكون حرضاً} فاسداً دنفاً {أو تكون من الهالكين} الميِّتين والمعنى: لا تزال تذكره بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بغمِّه فلمَّا أغلظوا له في القول(1/557)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{قال إنما أشكو بثِّي} ما بي من البثِّ وهو الهمُّ الذي تفضي به إلى صاحبك {وحزني إلى الله} لا إليكم {وأعلم من الله ما لا تعلمون} وهو أنَّه علم أنَّ يوسف حيٌّ أخبره بذلك مَلَكُ الموت وقال له: اطلبه من هاهنا وأشار له إلى ناحية مصر ولذلك قال:(1/557)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف} تَبَحَّثوا عنه {ولا تَيْأَسُوا من روح الله} من الفرج الذي يأتي به {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا القوم الكافرون} يريد: إنَّ المؤمن يرجو الله تعالى في الشدائد والكافر ليس كذلك فخرجوا إلى مصر(1/558)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر} أصابنا ومَنْ يختصُّ بنا الجوع {وجئنا ببضاعة مزجاة} ندافع بها الأيام ونتفوت وليس ممَّا يتشبَّع به وكانت دراهم زيوفاً {فأوف لنا الكيل} سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطي بغيرها من الجياد {وتصدَّق علينا} بما بين القيمتين {إن الله يجزي} يتولَّى جزاء {المتصدقين} فلمَّا قالوا هذا أدركته الرِّقَّة ودمعت عيناه وقال توبيخاً لهم وتعظيما لما فعلوا:(1/558)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} بإدخال الغمِّ عليه بإفراده من يوسف {إذ أنتم جاهلون} آثمون بيعقوب أبيكم وقطع رحم أخيكم منكم ولمَّا قال لهم هذه المقالة رفع الحجاب فقالوا:(1/558)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف} الذي فعلتم به ما فعلتم {وهذا} المظلوم من جهتكم {قد منَّ الله علينا} بالجمع بيننا بعد ما فرَّقتم {إنه مَن يتق} الله {ويصبر} على المصائب {فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين} أجر مَنْ كان هذا حاله(1/559)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
{قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} فضَّلك الله علينا بالعقل والعلم والفضل الحسن {وإنْ كنا لخاطئين} آثمين في أمرك(1/559)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{قال لا تثريب عليكم اليوم} لا تأنيب ولا تعيير عليكم بعد هذا اليوم ثمَّ جعلهم في حلِّ وسأل لهم المغفرة فقال: {يغفر الله لكم} الآية ثمَّ سألهم عن أبيه فقالوا: ذهبت عيناه فقال:(1/559)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
{اذهبوا بقميصي هذا} وكان قد نزل به جبريل عليه السَّلام على إبراهيم عليه السَّلام لمَّا أُلقي في النَّار وكان فيه ريح الجنَّة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلاَّ صحَّ فذلك قوله: {فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} يرجعْ ويَعُدْ بصيراً(1/559)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{ولما فصلت العير} خرجت من مصر مُتوجِّهةً إلى كنعان {قَالَ أَبُوهُمْ} لمن حضره: {إني لأجد ريح يوسف} وذلك أنَّه هاجت الرِّيح فحملت ريح القميص واتَّصلت بيعقوب فوجد ريح الجنَّة فعلم أنَّه ليس في الدُّنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص {ولا أن تفندون} تُسفِّهوني وتُجهِّلوني(1/560)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} شقائك القديم ممَّا تكابد من الأحزان على يوسف وخطئك في النزاع إليه على عهده منك وكان عندهم أنَّه قد مات وقوله:(1/560)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{فارتدَّ بصيراً} أَيْ: عاد ورجع بصيرا وقوله:(1/560)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كنا خاطئين}(1/560)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{سوف أستغفر لكم ربي} أخَّر ذلك إلى السَّحَر ليكون أقرب إلى الإجابة وكان قد بعث يوسف عليه السًّلام مع البشير إلى يعقوب عليه السَّلام عُدَّة المسير إليه فتهيَّأ يعقوب وخرج مع أهله إليه فذلك قوله:(1/560)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه} أَيْ: ضمَّ إليه {أبويه} أباه وخالته وكانت أمُّه قد ماتت {وقال ادخلوا مصر} وذلك أنَّه كان قد استقبلهم فقال لهم قبل دخول مصر: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وكانوا قبل ذلك يخافون دخول مصر إلاَّ بجوازٍ من ملوكهم(1/560)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ورفع أبويه على العرش} أجلسهما على السَّرير {وخرُّوا له سجداً} سجدوا ليوسف سجدة التَّحيَّة وهو الانحناء {وقد أحسن بي} إليَّ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البدو} وهو البسيط من الأرض وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواشٍ وبريَّة {من بعد أن نزغ الشيطان} أفسد {بيني وبين إخوتي} بالحسد {إنَّ ربي لطيف لما يشاء} عالم بدقائق الأمور {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الحكيم} فيهم بما شاء ثمَّ دعا ربَّه وشكره فقال:(1/560)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{رب قد آتيتني من الملك} ملك مصر {وعلمتني من تأويل الأحاديث} يريد: تفسير الأحلام {فاطر السماوات والأرض} خالقهما ابتداءً {توفني مسلماً} اقبضني على الإِسلام {وألحقني بالصالحين} من آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السَّلام يريد: ارفعني إلى درجاتهم(1/561)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ذلك} الذي قصصنا عليك من أمر يوسف من الأخبار التي كانت غائبة عنك وهو قوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لديهم} لدى إخوة يوسف {إذ أجمعوا أمرهم} عزموا على أَمْرَهُمْ {وَهُمْ يَمْكُرُونَ}(1/561)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو أن تؤمن به قريش واليهود لمَّا سألوه عن قصَّة يوسف فشرحها لهم فخالفوا ظنَّه فقال الله: {وما أكثر الناس ولو حرصت} على إيمانهم {بمؤمنين} لأنَّك لا تهدي مَنْ أحببت لكنَّ الله يهدي مَنْ يشاء(1/561)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{وما تسألهم عليه} على القرآن {من أجرٍ} مالٍ يعطونك {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلا ذكر للعالمين} تذكرةٌ لهم بما هو صلاحهم يريد: إنَّا أزحنا العلَّة في التَّكذيب حيث بعثناك مُبلِّغاً بلا أجرٍ غير أنَّه لا يؤمن إلا من شاء الله سبحانه وإنْ حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك(1/561)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
{وكأين} وكم {من آية} دلالةٍ تدلُّ على التَّوحيد {في السماوات والأرض} من الشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال وغيرها {يمرُّون عليها} يتجاوزونها غير مُتفكِّرين ولا معتبرين فقال المشركون: فإنَّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء فقال: {وما يؤمن أكثرهم بالله} في إقراره بأنَّ الله خلقه وخلق السماوات والأرض إلاَّ وهو مشركٌ بعبادة الوثن(1/562)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{أَفَأَمِنُوا} يعني: المشركين {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عذاب الله} عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم(1/562)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{قل} لهم {هذه} الطَّريقة التي أنا عليها {سبيلي} سنتي ومنهاجي {أدعو إلى الله} وتمَّ الكلام ثمَّ قال: {على بصيرة أنا} أَيْ: على دينٍ ويقينٍ {ومن اتبعني} يعني: أصحابه وكانوا على أحسن طريقة {وسبحان الله} أَيْ: وقل: سبحان الله تنزيهاً لله تعالى عمَّا أشركوا {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين اتَّخذوا مع الله ندا(1/562)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(1/562)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إليهم من أهل القرى} يريد: لم نبعث قبلك نبيَّاً إلاَّ رجالاً غير امرأةٍ وكانوا من أهل الأمصار ولم نبعث من باديةٍ وهذا ردٌّ لإِنكارهم نبوَّته يريد: إنَّ الرُّسل من قبلك كانوا على مثل حالك ومَنْ قبلهم من الأمم كانوا على مثل حالهم فأهلكناهم فذلك قوله: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} إلى مصارع الأمم المُكذِّبة فيعتبروا بهم {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} يعني: الجنَّة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الشِّرك في الدُّنيا {أفلا تعقلون} هذا حتى تُؤمنوا؟ !(1/562)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{حتى إذا استيأس الرسل} يئسوا من قومهم أن يؤمنوا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كذبوا} أيقنوا أنَّ قومهم قد كذَّبوهم {جاءهم نصرنا فنجِّي مَنْ نشاء} وهم المؤمنون أتباع الأنبياء {ولا يردُّ بأسنا} عذابنا(1/563)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} يعني: إخوة يوسف {عبرة} فكرةٌ وتدبُّرٌ {لأولي الألباب} وذلك أنَّ مَنْ قدر على إعزاز يوسف وتمليكه مصر بعد ما كان عبداً لبعض أهلها قادرٌ على أن يعز محمد عليه السَّلام وينصره {ما كان} القرآن {حديثاً يفترى} يتقولَّه بشر {ولكن تصديق الذي بين يديه} ولكن كان تصديق ما قبله من الكتب {وتفصيل كل شيء} يحتاج إليه من أمور الدِّين {وهدىً} وبياناً {ورحمةً لقوم يؤمنون} يصدِّقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم(1/563)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{المر} أنا الله أعلم وأرى {تلك} يعني: ما ذُكر من الأحكام والأخبار قبل هذه الآية {آيات الكتاب} القرآن {والذي أُنزل إليك من ربك الحق} ليس كما يقوله المشركون أنك تأتي به من قبل نفسك باطلاً {ولكنَّ أكثر الناس} يعني: أهل مكة {لا يؤمنون}(1/564)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ} جمع عماد وهي الأساطين {ترونها} أنتم كذلك مرفوعة بغير عمادٍ {ثم استوى على العرش} بالاستيلاء والاقتدار وأصله: استواء التَّدبير كما أنَّ أصل القيام الانتصاب ثمَّ يقال: قام بالتدبير ثُمَّ يدلُّ على حدوث العرش المستولى عليه (لا على حدوث الاستيلاء بعد خلق العرش المستولى عليه) {وسخر الشمس والقمر} ذلَّلهما لما يراد منهم {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} إلى وقتٍ معلومٍ وهو فناء الدُّنيا {يُدبِّر الأمر} يُصرِّفه بحكمته {يُفصِّل الآيات} يبيِّن الدلائل التي تدلُّ على التَّوحيد والبعث {لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون} لكي تُوقنوا يا أهل مكَّة بالبعث(1/564)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{وهو الذي مدَّ الأرض} بسطها ووسًّعها {وجعل فيها رواسي} أوتدها بالجبال {وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} حلواً وحامضاً وباقي الآية مضى تفسيره(1/565)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{وفي الأرض قطعٌ متجاورات} قُرىً بعضُها قريبٌ من بعضٍ {وجنات} بساتين {من أعناب} وقوله: {صنوان} وهو أن يكون الأصل واحداً ثمَّ يتفرَّع فيصير نخيلاً يحملن وأصلهنَّ واحد {وغير صنوان} وهي المتفرِّقة واحدةً واحدةً {تسقى} هذه القطع والجنَّات والنَّخيل {بماء واحدٍ ونُفضِّل بعضها على بعض} يعني: اختلاف الطُّعوم {في الأكل} وهو الثَّمر فمن حلوٍ وحامضٍ وجيِّدٍ ورديءٍ {إن في ذلك لآيات} لدلالاتٍ {لقوم يعقلون} أهل الإِيمان الذين عقلوا عن الله تعالى(1/565)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{وإن تعجب} يا محمد من عبادتهم ما لا يضرُّ ولا ينفع وتكذيبك بعد البيان فتعجَّبْ أيضاً من إنكارهم البعث وهو معنى قوله: {فعجب قولهم أإذا كنا تراباً} الآية {وأولئك الأغلال} جمع غُلٍّ وهو طوقٌ تقيَّد به اليد إلى العنق(1/565)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} يعني: مشركي مكَّة حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاءً يقول: ويستعجلونك بالعذاب الذي لم أُعاجلهم به وهو قوله: {قبل الحسنة} يعني: إحسانه إليهم في تأخير العقوبة عنهم إلى يوم القيامة {وقد خلت من قبلهم المَثُلاتُ} وقد مضت من قبلهم العقوبات في الأمم المُكذِّبة فلم يعتبروا بها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} بالتَّوبة يعني: يتجاوز عن المشركين إذا آمنوا {وإنَّ ربك لشديد العقاب} يعني: لمَنْ أصرَّ على الكفر(1/566)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من ربِّه} هلاَّ أتانا بآيةٍ كما أتى به موسى من العصا واليد {إنما أنت منذر} بالنَّار لمَنْ عصى وليس إليك من الآيات شيءٌ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هاد} نبيٌّ وَدَاعٍ إلى الله عز وجل يدعوهم لما يُعطَى من الآيات لا بما يريدون ويتحكَّمون(1/566)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{الله يعلم ما تحملُ كلُّ أنثى} من علقةٍ ومضغةٍ وزائدٍ وناقصٍ وذَكَرٍ وأنثى {وما تَغِيضُ الأرحام} تنقصه من مدَّة الحمل التي هي تسعة أشهر {وما تزداد} على ذلك {وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار} علم كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً(1/566)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{عالم الغيب} ما غاب عن جميع خلقه {والشهادة} وما شهده الخلق {الكبير} العظيم القدر {المتعال} عمّا يقوله المشركون(1/566)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
{سواء منكم} الآية يقول: الجاهر بنطقه والمُضمر في نفسه والظَّاهر في الطُُّرقات والمستخفي في الظُّلمات علمُ الله سبحانه فيهم جميعاً سواءٌ والمستخفي معناه: المختفي والسَّارب: الظَّاهر المارُّ على وجهه(1/567)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{له} لله سبحانه {معقبات} مَلائِكَةٌ حَفَظَةٌ تَتَعَاقَبُ فِي النُّزُولِ إِلَى الأَرْضِ بعضهم باللَّيل وبعضهم بالنَّهار {من بين يديه} يدي الإِنسان {ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} أَيْ: بأمره سبحانه ممَّا لم يُقدَّر فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغيروا ما بأنفسهم} لا يسلب قوماً نعمةً حتى يعملوا بمعاصيه {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} عذاباً {فَلا مردَّ له} فلا ردَّ لَهُ {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم(1/567)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{هو الذي يريكم البرق خوفاً} للمسافر {وطمعاً} للحاضر في المطر {وينشئ} ويخلق {السحاب الثقال} بالماء(1/567)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ويسبح الرعد} وهو الملك المُوكَّل بالسَّحاب {بحمده} وهو ما يسمع من صوته وذلك تسبيحٌ لله تعالى {والملائكة من خيفته} أَيْ: وتُسبِّح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته {ويرسل الصواعق} وهي التي تَحْرِق من برق السَّحاب وينتشر على الأرض ضوؤُه {فيصيب بها من يشاء} كما أصاب أربد حين جادل النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {وهم يجادلون في الله} والواو للحال وكان أربد جادل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ربِّنا أمن نحاسٍ أم حديد؟ فأحرقته الصَّاعقة {وهو شديد المحال} العقوبة أَي: القوَّة(1/567)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{له دعوة الحق} لله من خلقه الدعوة الحقُّ وهي كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله {والذين يدعون} يعني: المشركون يدعون {من دونه} الأصنام {لا يستجيبون لهم بشيء إلاَّ كباسط} إلاَّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه يشير إلى الماء ويدعوه إلى فيه {إلاَّ في ضلال} هلاكٍ وبطلانٍ(1/568)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ولله يسجد مَنْ في السماوات والأرض طوعاً} يعني: الملائكة والمؤمنين {وكرهاً} وهم مَنْ أُكرهوا على السُّجود فسجدوا لله سبحانه من خوف السَّيف واللَّفظ عامٌّ والمراد به الخصوص {وظلالهم بالغدو والآصال} كلُّ شخصٍ مؤمنٍ أو كافرٍ فإنَّ ظلَّه يسجد لله ونحن لا نقف على كيفية ذلك(1/568)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{قل} يا محمد للمشركين: {من رب السماوات والأرض} ؟ ثمَّ أخبرهم فقل: {الله} لأنَّهم لا ينكرون ذلك ثمَّ ألزمْهم الحجَّة فقلْ: {أفاتخذتم من دونه أولياء} تولَّيتم غير ربِّ السَّماء والأرض أصناماً {لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً} ثمَّ ضرب مثلاً للذين يعبدها والذي يعبد الله سبحانه فقال: {قل هل يستوي الأعمى} المشرك {والبصير} المؤمن {أم هل تستوي الظلمات} الشِّرك {والنور} الإِيمان {أم جعلوا لله شركاء} الآية يعني: أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشُّركاء بخلق الله عندهم؟ وهذه استفهامُ إنكارٍ أَيْ: ليس الأمرُ على هذا حتى يشتبه الأمر بل الله سبحانه هو المتفرِّد بالخلق وهو قوله: {قل الله خالق كلِّ شيء}(1/568)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{أنزل من السماء ماء} يعني: المطر {فسالت أودية} جمع وادٍ {بقدرها} بقدر ما يملأها أراد بالماء القرآن وبالأودية القلوب والمعنى: أنزل قرآناً فقبلته القلوب بأقدارها منها ما رُزق الكثير ومنها ما رُزق القليل ومنها ما لم يُرزق شيئاً {فاحتمل السيل زبداً} وهو ما يعلو الماء {رابياً} عالياً فوقه والزَّبَد مَثلُ الكفر يريد: إنَّ الباطل ـ وإنْ ظهر الحقِّ في بعض الأحوال ـ فإنَّ الله سيمحقه ويُبطله ويجعل العاقبة للحقِّ وأهله وهو معنى قوله: {فأمَّا الزبد فيذهب جفاء} وهو ما رمى به الوادي {وأمَّا ما ينفع الناس} ممَّا ينبت المرعى {فيمكث} يبقى {في الأرض} ثمَّ ضرب مثلاً آخر وهو قوله: {وممَّا يوقدون عليه في النَّار} يعني: جواهر الأرض من الذَّهب والفضَّة والنُّحاس وغيرها ممَّا يدخل النَّار فتوقد عليها وتتخذ منها الحُلِيُّ وهو الذَّهب والفضَّة والأمتعة وهي للأواني يعني: النُّحاس والرَّصاص وغيرهما وهذا معنى قوله: {ابتغاء حلية أو متاعٍ زبدٌ مثله} أَيْ: مثل زبد الماء يريد: إنَّ من هذه الجواهر بعضها خبث ينفيه الكير {كَذَلِكَ} كما ذُكر من هذه الأشياء {يضرب الله} مثل الحقِّ والباطل وهذه الآية فيها تقديمٌ وتأخير في اللَّفظ والمعنى ما أخبرتك به(1/569)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{للذين استجابوا لربهم} أجابوه إلى ما دعاهم إليه {الحسنى} الجنَّة {والذين لم يستجيبوا له} وهم الكفَّار {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ومثله معه لافتدوا به} جعلوه فداء أنفسهم من العذاب {أولئك لهم سوء الحساب} وهو أن لا تُقبل منهم حسنة ولا يتجاوز عن سيئة(1/570)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كمن هو أعمى} نزلت في أبي جهل لعنه الله وحمزة رضي الله عنه {إنما يتذكر} يتَّعظ ويرتدع عن المعاصي {أولو الألباب} يعني: المهاجرين والأنصار(1/570)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} يعني: العهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم(1/570)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصل} وهو الإِيمان بجميع الرُّسل(1/570)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
{والذين صبروا} على دينهم وما أُمروا به {ابتغاء وجه ربِّهم} طلب تعظيم الله تعالى {ويدرؤون} يدفعون {بالحسنة} بالتَّوبة {السيئة} المعصية وهو أنَّهم كلَّما أذنبوا تابوا {أولئك لهم عقبى الدار} يريد: عقابهم الجنَّة(1/570)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} ومَنْ صدَّق بما صدَّقوا به ـ وإن لم يعملْ مثل أعمالهم ـ يلحق بهم كرامةً لهم {والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ باب} بالتَّحيَّة من الله سبحانه والهدايا(1/571)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{سلامٌ عليكم} يقولون: سلامٌ عليكم والمعنى: سلَّمكم الله من العذاب {بما صبرتم} بصبركم في دار الدُّنيا عمَّا لا يحلُّ {فنعم عقبى الدار} فنعم العقبى عقبى داركم التي عملتم فيها ما أعقبكم الذي أنتم فيه(1/571)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
{والذين ينقضون} الآية مُفسَّرة في سورة البقرة(1/571)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{الله يبسط الرزق} يُوسِّعه {لمن يشاء ويقدر} ويضيِّق {وفرحوا} يعني: مشركي مكة بما نالوا من الدُّنيا وبطروا {وما الحياة الدنيا في الآخرة} في حياة الآخرة أَيْ: بالقياس إليها {إلاَّ متاع} قليلٌ ذاهبٌ يُتمتَّع به ثمَّ يفنى(1/571)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
{ويقول الذين كفروا لولا} هلا {أنزل عليه آية من ربه} نزلت في مشركي مكَّة حين طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} عن دينه كما أضلَّكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها {ويهدي إليه} يرشد إلى دينه {مَنْ أناب} رجع إلى الحقِّ(1/571)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{الذين آمنوا} بدلٌ من قوله: {مَنْ أناب} {وتطمئن قلوبهم بذكر الله} إذا سمعوا ذكر الله سبحانه وتعالى أحبُّوه واستأنسوا به {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يريد: قلوب المؤمنين(1/572)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم} وهي شجرةٌ غرسها الله سبحانه بيده وقيل: فرحٌ لهم وقُرَّة أعينٍ(1/572)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{كذلك} كما أرسلنا الأنبياء قبلك {أرسلناك في أمة} في قرنٍ {قد خلت} قد مضت {من قبلها أمم} قرونٌ {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني: القرآن {وهم يكفرون بالرحمن} وذلك أنَّهم قالوا: ما نعرف الرحمان إلاَّ صاحب اليمامة {قل هو ربي} أَي: الرَّحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيِّدي {لا إله إلاَّ هو}(1/572)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ولو أنَّ قرآناً} الآية نزلت حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنْ كنت نبيَّاً كما تقول فسيِّر عنا جبال مكة فإنَّها ضيِّقةٌ واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نزرع ونغرس وابعث لنا آباءنا من الموتى يكلِّمونا أنَّك نبيٌّ فقال الله سبحانه: {ولو أنَّ قرآناً سيرت به الجبال} يريد: لو قضيت على أن لا يقرأ القرآن على الجبال إلاَّ سارت ولا على الأرض إلاَّ تخرَّقت بالعيون والأنهار وعلى الموتى أن لا يُكلَّموا ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي وهذا جواب لو وهو محذوف {بل} دع ذلك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره فالأمر لله جميعاً لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ لم ينفع ما اقترحوا من الآيات وكان المسلمون قد أرادوا أن يُظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم آيةً ليجتمعوا على الإِيمان فقال الله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} يعلم الذين آمنوا {أن لو يشاء الله} لهداهم من غير ظهور الآيات {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا} من كفرهم وأعمالهم الخبيثة {قارعة} داهيةٌ تقرعهم من القتل والأسر والحرب والجدب {أو تحلُّ} يا محمد أنت {قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله} يعني: القيامة وقيل: فتح مكة(1/572)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{ولقد استهزئ برسل من قبلك} أُوذي وكُذِّب {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أطلتُ لهم المدَّة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية {ثمَّ أخذتهم} بالعقوبة {فكيف كان عقاب} كيف رأيت ما صنعتُ بمن استهزأ برسلي كذلك أصنع بمشركي قومك(1/573)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أَيْ: بجرائه يعني: متولٍّ لذلك كما يقال: قام فلان بأمر كذا: إذا كفاه وتولاَّه والقائم على كلِّ نفس هو الله تعالى والمعنى: أفمن هو بهذه الصِّفة كمَنْ ليس بهذه الصِّفة من الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع؟ وجواب هذا الاستفهام في قوله: {وجعلوا لله شركاء قل سموهم} بإضافة أفعالهم إليهم إن كانوا شركاء لله تعالى كما يضاف إلى الله أفعاله بأسمائه الحسنى نحو: الخالق والرَّازق فإن سمَّوهم قل أتنبئونه {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} أَيْ: أتخبرون الله بشريكٍ له في الأرض وهو لا يعلمه بمعنى: أنَّه ليس له شريك {أم بظاهرٍ من القول} يعني: أم تقولون مجازاً من القول وباطلاً لا حقيقة له وهو كلامٌ في الظَّاهر ولا حقيقة له في الباطن ثمَّ قال: {بل} أَيْ: دع ذكر ما كنَّا فيه {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كفروا مكرهم} زيَّن الشَّيطان لهم الكفر {وصدوا عن السبيل} وصدَّهم الله سبحانه عن سبيل الهدى {لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أشدُّ وأغلظ {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {من واق} حاجز ومانع(1/573)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}(1/574)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{مثل الجنة} صفة الجنَّة {التي وعد المتقون} وقوله: {أكلها دائم} يريد: إنَّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدُّنيا {وظلها} لا يزول ولا تنسخه الشَّمس(1/574)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{والذين آتيناهم الكتاب} يعني: مؤمني أهل الكتاب {يفرحون بما أنزل إليك} وذلك أنَّهم ساءهم قلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التَّوراة فلما أنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرحمن} فرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب وكفر المشركون بالرَّحمن وقالوا: ما نعرف الرَّحمن إلاَّ رحمان اليمامة وذلك قوله: {ومن الأحزاب} يعني: الكفَّار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَنْ ينكر بعضه} يعني: ذكر الرَّحمن(1/574)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{وكذلك} وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلسانهم {أنزلناه حُكْماً عربياً} يعني: القرآن لأنَّه به يحكم ويفصل بين الحقِّ والباطل وهو بلغة العرب {ولئن اتبعت أهواءهم} وذلك أنَّ المشركين دعوه إلى ملَّة آبائه فتوعَّده الله سبحانه على ذلك بقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واق}(1/575)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أزواجاً} ينكحونهنَّ {وذرية} وأولاداً أنسلوهم وذلك أنَّ اليهود عيَّرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة النِّساء وقالوا: ما له همَّةٌ إلاَّ النِّساء والنِّكاح {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بإذن الله} أَيْ: بإطلاقه له الآية وهذا جوابٌ للذين سألوه أن يوسِّع لهم مكَّة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لكلِّ أجلٍ قدَّره الله ولكلِّ أمرٍ قضاه كتابٌ أثبت فيه فلا تكون آيةٌ إلاَّ بأجلٍ قد قضاه الله تعالى في كتابٍ(1/575)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب} اللَّوح المحفوظ يمحو منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وظاهر هذه الآية على العموم وقال قوم: إلاَّ السَّعادة والشَّقاوة والموت والرزق والخلق والخلق(1/575)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{وإنما نرينك بعض الذي نعدهم} من العذاب {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإنما عليك البلاغ} يريد: قد بلَّغت {وعلينا الحساب} إليَّ مصيرهم فأجازيهم أَيْ: ليس عليك إلاَّ البلاغ كيف ما صارت حالهم(1/576)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{أَوَلَمْ يروا} يعني: مشركي مكَّة {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} نقصد أرض مكَّة {ننقصها من أطرافها} بالفتوح على المسلمين يقول: أولم ير أهل مكَّة أنَّا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ما حولها من القرى أفلا يخافون أن تنالهم يا محمد {والله يحكم} بما يشاء {لا معقب لحكمه} لا أحدٌ يتتبع ما حكم به فيغيِّره والمعنى: لا ناقص لحكمه ولا رادَّ له {وهو سريع الحساب} أَي: المجازاة(1/576)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: كفَّار الأمم الخالية مكروا بأنبيائهم {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} يعني: إنَّ مكر الماكرين له أَيْ: هو من خلقه فالمكر جميعاً مخلوق له ليس يضرُّ منه شيءٌ إلاَّ بإذنه {يعلم ما تكسب كلُّ نفس} جميع الأكساب معلوم له {وسيعلم الكفار} وهو اسم الجنس {لمن} العاقبة بالحنة وقوله تعالى:(1/576)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ومن عنده علم الكتاب} هم مؤمنو أهل الكتابين وكانت شهادتهم قاطعةً لقول أهل الخصوم(1/576)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{الر} أنا الله أرى هذا {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} من الشِّرك إلى الإِيمان {بإذن ربهم} بقضاء ربِّهم لأنَّه لا يهتدي مهتدٍ إلاَّ بإذن الله سبحانه ثمَّ بيَّن ما ذلك النُّور فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1/577)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
{الله الذي له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شديد}(1/577)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{الذين يستحبون} يُؤثرون ويختارون {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله} ويمنعون النَّاس عن دين الله {ويبغونها عوجاً} مضى تفسيره {أولئك في ضلال} في خطأ {بعيد} عن الحقِّ(1/577)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بلغة قومه ليفهموا عنه وهو معنى قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} بعد التَّبيين بإيثاره الباطل {ويهدي مَنْ يشاء} باتباع الحقِّ(1/577)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} بالبراهين التي دلَّت على صحَّة نبوَّته {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الشِّرك إلى الإِيمان {وذكرهم} وَعِظهم {بأيام الله} بنعمه أَي: بالتَّرغيب والتَّرهيب والوعد والوعيد {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التَّذكير بأيَّام الله {لآيات} لدلالاتٍ {لكلِّ صبَّار} على طاعة الله {شكور} لأنعمه والآية الثانية مفسرة في سورة البقرة وقوله:(1/578)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}(1/578)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{وإذ تأذَّن} معطوفٌ على قوله: {إذ أنجاكم} والمعنى: وإذ أعلم ربُّكم {لئن شكرتم} وحَّدْتم وأطعتم {لأزيدنَّكم} ممَّا يجب الشُّكر عليه وهو النِّعمة {ولئن كفرتم} جحدتم حقِّي وحقَّ نعمتي {إِنَّ عذابي لشديد} تهديدٌ بالعذاب على كفران النِّعمة(1/578)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد}(1/578)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم} يعني: من بعد هؤلاء الذين أهلكم الله {لا يعلمهم إلاَّ الله} لكثرتهم ولا يعلم عدد تلك الأمم وتعيينها إلاَّ الله {جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم} أيدي أنفسهم {في أفواههم} أَيْ: ثقل عليهم مكانهم فعضُّوا على أصابعهم من شدَّة الغيظ(1/578)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{قالت رسلهم أفي الله شكٌّ} أفي توحيد الله سبحانه شكٌّ؟ وهذا استفهامٌ معناه الإنكار أي: لا شكَّ في ذلك ثمَّ وصف نفسه بما يدلُّ على وحدانيته وهو قوله: {فاطر السماوات والأرض يدعوكم} إلى طاعته بالرُّسل والكتب {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مسمَّى} لا يعاجلكم بالعقوبة والمعنى: إن لم تجيبوا عوجلتم وباقي الآية وما بعدها إلى قوله:(1/579)